الامامة الالهية

اشارة

سرشناسه : سند، محمد، - 1340

عنوان و نام پديدآور : الامامه الالهیه/ محاضرات محمد سند؛ جمع و اعداد محمدعلی بحرالعلوم

مشخصات نشر : تهران : فرصاد ، - 1385.

مشخصات ظاهری : ج 3

يادداشت : عربی

يادداشت : فهرست نویسی براساس اطلاعات فیپا

یادداشت : کتابنامه

موضوع : امامت

موضوع : ولایت

موضوع : اصول فقه شیعه

شناسه افزوده : بحرالعلوم، محمدعلی، 1345 - مقرر

رده بندی کنگره : BP223/س9الف8 1385

رده بندی دیویی : 297/45

شماره کتابشناسی ملی : م 81-28236

الجزء (1)

مقدمة بقلم الاستاذ الشيخ محمد سند … ص: 5

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للَّه رب العالمين وصلي اللَّه علي سيد الخلق محمد المبعوث للرسالة وعلي آله الأئمة الهداة. وبعد فإن البحوث العقائدية والمعرفة الدينية بمكان من الأهمية، حيث انها الراسمة لطريق الانسان والمجتمع في هذه النشأة في مختلف شؤونها وجهاتها والنشآت اللاحقة، فمن ثم احتلت موقعاً في الصدارة وأولوها عناية خاصة، فالإيمان والهداية قد شدّد علي صدارتهما القرآن والسنّة في قائمة أعمال الإنسان، فقد قال تعالي:

«إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» «1».

والواجب الاعتقادي المعرفي، هو فعل تقوم به النفس وجوانحها في الدرجة الأولي، فالادراك والإذعان أو المعرفة والايمان، أو التعقل والاخبات أو الاهنداء والتسليم فعلان تقوم بهما طوية القوي للنفس. ومن ثمّ يستعقبها أفعال أخري لواجبات اخري، وهذا يوازي التعبير المقرر في العلوم الانسانية الاكاديمية أن رؤية الانسان اتجاه الكون يتفرع ليها كل الامور الاخري من الحقوق والآداب والقوانين والاعمال.

ولا يخفي أن الاصول الاعتقادية الخمسة من التوحيد والعدل والنبوة والامامة والمعاد، مآلها هو التوحيد في المقامات الخمسة فالاول هو التوحيد في الذات الازلية

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 6

الإلهية، والثاني هو التوحيد في الصفات، مطلق الصفات والثالث هو التوحيد في التشريع والشريعة وانه التوحيد في الافعال من نمط والرابع هو التوحيد في الطاعة والولاية والخامس هو

التوحيد في الغاية وهو الاخلاص والخلوص، فاللَّه تعالي أحدي الذات واحد لا شريك له في الذات ولا في الصفات ولا شريك له في الحكم وله الولاية وحق الطاعة بالذات، وهو غاية الغايات فليس وراءه غاية. وهذا ما تكفلت الاشارة اليه مقدمات هذا الكتاب.

كما لا يخفي أن العلوم المتكفلة للبحث في المعرفة الدينية قد اختلفت مناهجها من الاعتماد عمدة علي العقل النظري أو العقل العملي أو الواردات والادراكات القلبية الذوقية، أو الكتاب العزيز والسنة المطهرة، أو المزيج بينها علي انحاء عديدة، وليست المعرفة بحسب الطاقة البشرية المجردة كالمعرفة الحاصلة من مناهل الوحي الإلهي، فالمعرفة الأولية الفطرية وان كانت رأس المال ولكن العقل والقلب لغتان يقرأ بهما كتاب الوحي، وهما المخاطبان للسانة، ومن ثم كان البحث عن المنهجية المنطقية أمراً لابد منه ومقدّماً علي البحث المعرفي الاعتقادي، لاسيّما وأن كلًا من هذه المصادر للمعرفة كلًا منها علي حدة قد تشعبت فيه المباني وكثرت في أطرافه التساؤلات الجادة او الملتبسة فكان اللازم- متابعة البحث في ذلك وبتسلسل وهذا ما اشتمل عليه الفصل الاول من هذا الكتاب.

وقد أخذ عنان الحديث في الأوساط المختلفة في الآونة الاخيرة، عقيدة الإمامة عند الشيعة الاثني عشرية، التساؤل عن الخلفية القانونية للحكومة وإقامتها في عصر غيبة الإمام المهدي المنتظر، وكون مشروعيتها ممتدة من امامته عجل اللَّه تعالي فرجه الشريف أو أن الصلاحية مستمدة من الأمة والانتخاب وما يطلق عليه بالشوري، وتسليط الضوء عن المذهب الرسمي لعلماء الإمامية في ذلك مع قراءة قانونية للإمامة في سيرة الأئمة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 7

الاثني عشر عليهم السلام وأدوارهم في التاريخ وبالتالي البحث عن الإمامة الإلهية عند الشيعة وبعدها القانوني والتشريعي في النظام السياسي والاجتماعي، وهذا ما عالجه الفصل

الثاني من هذا الكتاب.

كما أن معترك الكلام في الأندية المتنوعة حول الإمامة الإلهية للعترة المطهرة تركز حول المقام الغيبي في حقيقة الإمامة أو أنها مقام اعتباري قانوني صرف للعترة النبوية بلحاظ تفرقهم علي صفات كمالية كما ينسبق ذلك الي الذهن من تعريف المتكلمين، فهل هي حقيقة تكوينية وصفة خارجية وسفارة إلهية كما هو الحال في النبوة وإن اختلفت عنها سنخاً، ويكون المقام القانوني أحد شؤون تلك الحقيقة، ومن الواضح أجنبية هذه الجهة من البحث عن أدوات الاعتبار والعلوم الاعتبارية القانونية، وتطلبها أدوات البحث العقلي والعياني والنقلي المعارفي، كما يستدعي البحث ثلاثة أصعدة صعيد التصور اللغوي والعقلي والنقلي وهو ما يوازي ما الشارحة في الاسلوب المنطقي، وصعيد التصديق العقلي والفقه العقلي للإمامة وهو ما يوازي ما الحقيقية وهل البسيطة عند المناطقة وصعيد التصديق النقلي والفقه الشرعي للإمامة وهو ما يوازي هل المركبة في المنهج الاستدلالي المنطقي أي كان الناقصة. ولا محالة يستلزم كان التامة أيضاً بمقتضي الفقه النقلي يقع التدبر في النصوص القرآنية والنبوية المروية عند الفريقين بالدرجة الاولي ومن ثمّ عطف النصوص المأثور عن المعصومين عليهم السلام عليها. وفي خضم هذا البحث تقع قراءة عقلية تفسيرية لحالات وشؤون الأئمة (صلوات اللَّه عليهم) المأثورة في الحديث والتاريخ ومجموع كل ذلك هو البحث في الإمامة الإلهية وبعدها التكويني عقلًا ونقلًا وهذا ما اهتم به الفصل الثالث من الكتاب.

ويستتبع ذلك شرح عدّة من العناوين المتفرعة عن البحوث السابقة كالتولي والتبري ونحوهما والتي هي بمثابة وظائف للمأموم نحو الإمام، مع لمحة فهرسية لمناهج

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 8

الاستدلال في الإمامة، وهذا ما عنيت به الخاتمة للكتاب.

وقد جاء هذا الكتاب حصيلة بحث استغرق العامين الدراسيين 1417- 1418 ه ق للحوزة العلمية

في قم المقدسة الذي عقدناه مع ثلة من الأفاضل وقرّره بنضد منسق المعاني في عبارة جزلة الفاضل المجدّ السيد محمد علي بحر العلوم دام نشاطه العلمي والديني، عسي أن يقع محلّ فائدة لدي روّاد البحث والمعرفة.

قم/ عش آل محمّد عليهم السلام/ بجوار كريمة أهل البيت عليهم السلام

محمد سند

الخامس من شوّال 1421 ه. ق

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 9

المدخل … ص: 9

اشارة

ان البحث حول الإمامة ليس بالبحث الهيّن وذلك لغور معناها وتعدد جهاتها، كيف لا وأدني معرفتها أنها عِدل النبوة إلا أنها ليست بنبوة، ويصعب أكثر إذا أراد الباحث التعرض إلي كل الشبهات والاشكالات التي طرحت منذ عشرات السنين وما زالت تطرح وتتداول في الأوساط المختلفة شأن بقية الأصول الاعتقادية، وقد اتخذنا في هذا البحث طريقةً واسلوباً مختلفاً عما سبق وتناوله السلف الصالح جزاهم اللَّه خير الجزاء.

ونتعرض في هذا المدخل لعدد من النقاط المهمة التي لابد من العلم بها قبل الولوج في صلب البحث:

النقطة الاولي: … ص: 9

ان البحث حول الإمامة قد يكون اشق من البحث حول التوحيد وذلك لأن التوحيد يعني اثبات الالوهية ونفي الشرك في مقام الذات، وهذا يرتضيه كثير من الناس حتي غير المسلمين، اما الإمامة فإنها تمثل جانب آخر من الايمان باللَّه وهو جانب الانصياع والطاعة لمن أمر اللَّه بطاعتهم، ويعتبر ممارسة اعتقادية وعملية للإيمان، لذا كان من المهم الاهتمام به واعطاؤه الاولوية في البحث لإثبات ان الحق تعالي ابقي هذا الاتصال بين الأرض والسماء.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 10

النقطة الثانية: … ص: 10

من المسلّمات التي لا يختلف فيها اثنان، ان ابن آدم يتكون من بدن وروح، ومنذ بداية نشأة الإنسان علي هذه الأرض تتنازعه هاتان الجنبتان. فنري أفرادا يتغلب عندهم الجانب البدني فتسيطر عليهم المادة ويتخيل الفرد أن كمالاته تتحقق في اتباع كمالات وشهوات بدنه، وفي الجانب المقابل نري افرادا يتغلب الجانب الروحي لديهم فيوغلون في الرياضات الروحية ويُميتون حاجة أبدانهم ليرتقوا بأرواحهم في سُلّم السعادات وهم أصحاب النزعات الباطنية.

وباستعراض سريع لتاريخ البشرية يتضح لنا أن الأغلب والأكثر هم اتباع القسم الأول، الذي سيطر الجانب المادي والبدني عليهم، فعانت البشرية من مشاكل كثيرة وذلك لأن تغلب هذا الجانب سوف يواجه صعوبات في ايجاد واثبات الاتصال بين السماء والأرض، حيث يفقد المقاييس والضوابط التي في الجانب الروحي، ويحكم ضوابط ومقاييس الجانب البدني عليها مما يولد مشكلات عدة.

والإسلام والديانات بشكل عام تسعي إلي ايجاد التوازن بين هذين الجانبين في الإنسان وعدم طغيان احدهما علي الاخر. فالدهريون منذ زمن الرسالة المحمدية إلي المدارس العصرية في زماننا هذا يحملون نفس الهاجس وهو سيطرة الجانب البدني وعدم الاعتراف بالضوابط والمقاييس الروحية. ومن خلال الايات القرانية نستطيع ان نتلمس بعض المظاهر لسيطرة هذا الجانب.

* «قَالُوا مَا أَنتُمْ

إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمنُ مِن شَيْ ءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ» «1»

:الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 11

فيري المنكرون أنّ من ارسلوا اليهم ليسوا إلا بشراً، والبشر قدرته محدودة فلا يكون رسولا من عند اللَّه. وهذا مع ايمانهم باللَّه والتوحيد.

* «وَأَسَرُّوا النَّجْوَي الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ» «1»

.وهذا مثال آخر لقوم آخرين ينكرون الرسالة ولا يتصورون وجود قوة غير بشرية بل كلها داخل قدرة البشر وقواة المختلفة الادراكية والعمّالة.

* وتتدخل لانكار الرسالة دوافع الحسد والجاه «وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلَي رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» «2»

: ويري كل فرد منهم ان يكون له اتصال مع اللَّه بنفسه وان يكون هو رسول من عند اللَّه لا غيره. بل «يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَي صُحُفاً مُنَشَّرَةً» «3»

.* وعندما يطلب المنكرون اثبات اتصال الرسول باللَّه يطلبون الرؤية «قَالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً» «4»

فهم يؤمنون باللَّه وبالتوحيد لكن ميزان الارتباط هو امر مادي وهو رؤية اللَّه البصرية.

* والقرآن في قبال كل هذه الانكارات يركز علي أن الرسول بشر وهو رجل منهم ولا يمكن ان يرسل غير البشر ويتميز الرسول عن غيره بعدم سيطرة النزعة البدنية والمادية عليه بل هو في الجانب الروحي متصل باللَّه ومرتبط بالوحي ووزان

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 12

الروح ليس كوزان البدن وحدود الروح ليست حدود البدن، وهذا الجانب هو الذي يميز الرسول والامام والولي الصالح.

* وفي العصور المتأخرة يتغير بيان هذه الانكارات من بني الإنسان فليجأون إلي صياغات أخري.

منها: ان وجود اتصال دائم بين البشرية وبين الجانب

الربوبي يؤدي إلي الضمور وعدم الانطلاق في الحياة والكسل والاعتماد علي المنح الغيبية.

ومنها: ان قوة الفكر البشري كافية في ارشاد الإنسان نحو الكمال.

او القول بان الركون إلي وجود مثل هذا الاتصال ولو علي شكل امامة افراط في النزعة الباطنية.

أو القول ان معني النبوة الخاتمة هو اكتمال القوي العقلية لدي بني البشر، فلا تحتاج البشرية في مسيرتها إلي تسديد سماوي، أو دعوي تساوي أفراد البشر في الكمالات الروحية.

والجامع بين هذه الدعوات والاساليب السابقة هو سيطرة الجانب المادي علي نفوس أصحابها فحرموا من نعمة الاحساس واستطعام حلاوة الروح.

النقطة الثالثة: … ص: 12

من الأمور التي يعيبها أهل الفكر من المتأخرين علي أهل التدين هو انّ الاخيرين يضفون علي عقائدهم هالة من القدسية تكون سورا أمام التفكير فيها وعائقاً يمنع عن البحث حول مدي صحتها.

وفي الواقع هذا غير تام وان القدسية مع الاعتراف بها- لا تمنع من البحث والتشكيك الذي يهدف إلي الوصول إلي الحقيقة أو إلي مزيد من اليقين.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 13

بيان ذلك: ان القدسية تعني اضفاء احترام وخضوع خاص لحقيقة معينة او لقضية ما، وبتحليل أدق هي خضوع القوي العملية للإنسان للقوي النظرية، باعتبار أن هذا هو الأمر الطبيعي لقوي الإنسان، حيث ان القوي العملية ليس لها قوة الإدراك فلابد ان تجد طريقها في الهداية بتوسط القوي النظرية، فالقدسية فعل من أفعال القوي العملية، وهو احترام وخضوع لإدراك يتم بواسطة قوة العقل النظري، وهي الحالة الطبيعية لما يجب ان يكون عليه تفكير الإنسان.

ومن جهة أخري فإن التشكيك علي نحوين: احدهما: ممدوح والآخر مذموم اما الممدوح فهو التشكيك لاستكشاف المجهولات وبيان الحقائق، وهو الذي يدفع الإنسان للبحث والتنقيب، وهذا يزول بمجرد بروز الحقيقة وقيام الأدلة والبراهين الساطعة.

اما المذموم فهو التشكيك

الذي يؤدي إلي زعزعة الحقيقة الحاصلة في النفس، من دون أن يدفع نحو الفحص، بل تبقي حالة الشك والاضطراب والتحير وعدم القدرة علي الاذعان بالبرهان السليم. مستولية علي هذا الفرد. وهذه حالة مرضية مستعصية يفقد بها الإنسان قدرته علي التعايش حيث تكون الادراكات الصحيحة غير قادرة علي توليد الاذعان بها لديه.

فالشك ليس إلا جسر يُعبر عن طريقه إلي الحقيقة سواء جهة النفي أو الاثبات، اما بقاء حالة الشك فهذا مرفوض ومذموم.

النقطة الرابعة: … ص: 13

من الدعائم الفكرية التي يقوم عليها المذهب الوهابي، والتي بنوا عليها نتائج كثيرة لها أهمية اجتماعية وسياسية، هي ان القرآن الكريم في ايات كثيرة يركز علي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 14

عقيدة مهمة، وهي التوحيد ونفي الشرك ولا يتعرض لأصل وجود اللَّه، والسر في ذلك ان العرب في ذلك الوقت كانوا يؤمنون بأصل وجود اللَّه لكنهم كانوا يجعلون له شركاء في الوجود والعبادة من أصنامهم، لذا واجه القرآن ذلك وركز علي إنه واحد لا شريك له. وبنوا علي هذه العقيدة أن الإنسان يجب ان يرتبط باللَّه مباشرة من دون أية حاجة إلي وسيط، والخضوع غير جائز إلا له، وان اللَّه لا يجعل اية واسطة أو وسيلة بينه وبين العبد.

وقد سبقهم المفسرون بعض الشي ء في اصل دعواهم بمعني ان الدارس للقران الكريم يتضح له ذلك بنحو جلي وأن هناك آيات كثيرة تركز علي هذا الجانب لكننا نقول لهم: حفظت شيئا وغابت عنك اشياء.

وذلك لانّ هذا الاستقراء ناقص، إذ أن الآيات التي تركز علي ذلك الجانب واردة في العهد المكي. اما الآيات الواردة في العهد المدني وهو عصر تكوين الدولة الإسلامية فلا تركيز لها في هذا الجانب، بل ركزت علي جانب اخر مهم، وهو التوحيد ونفي الشرك في

الطاعة.

وبعبارة أخري بعد بناء المجتمع الإسلامي واصبح مَن في المدينة موحداً في العبادة ولا يشرك باللَّه أحدا في الوجود الإلهي وبطلت اصنام الجاهلية، وجّه القرآن المسلمين إلي مفهوم آخر يعتبر استكمالا للتوحيد في العبادة وذلك ان العبادة الرسمية وحدها لا تكفي بل يجب ان تقترن بالطاعة، وهذه الطاعة تكون لِمَن نصبه اللَّه فطاعته تكون طاعة للَّه ومعصيته تكون معصية للَّه، بل ان طاعة مَن لم ينصبه اللَّه هي شرك. فليس لأحدٍ حق الطاعة إلا من خلال أمر اللَّه جل وعلا.

فإذن الايات المكية ركزت علي التوحيد ونفي الشرك في الوجود الإلهي والعبادة، والايات المدنية ركزت علي التوحيد ونفي الشركة في الطاعة، والوهابية

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 15

رأوا القسم الأول وعميت أعينهم عن القسم الثاني.

ومن الشواهد علي ما ذكرته الايات المدنية:

* «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِدُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبَّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوْا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا» «1»

فان النّد هو المماثل ويكاد يجمع المفسرون علي ان المراد ليس اتخاذ إله آخر مع اللَّه فهم موحدون في العبادة الاصطلاحية الرسمية، بل يقصد بالانداد هنا الرؤساء الذين خضع لهم بعض الناس وأطاعوهم من غير أنْ يأذن اللَّه في اطاعتهم كما تشهد ذيل الاية «اذ تبرأ، واتبعوا».

وفي الكافي والعياشي عن الباقر عليه السلام: في قوله ومن يتخذ من دون اللَّه اندادا..

قال هم واللَّه يا جابر ائمة الظلم واشياعهم.

* «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَي كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللّهَ وَلَا

نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّهِ».

والاية بعد ان تقرر وحدانية الالوهية وعبادة اللَّه وحده لا شريك له تؤكد علي وحدانية الربوبية وهي ربوبية الطاعة اذ ان الرب هو السيد المربي الذي يطاع فيما يأمر وينهي اي المشرع والمطاع من دون ارشاد اللَّه اليه. فالطاعة لا يجوز ان تكون لاي فرد بل هي مختصة لمن يرشد اليه اللَّه سبحانه.

*- «قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ» «2»

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 16

فمحبة اللَّه والايمان به تعني وجوب اتباع الرسول الذي أرسله اللَّه اليكم فمن يحب اللَّه يجب ان يتبع الرسول، وبعكس النقيض من لا يتبع الرسول لا يحب اللَّه.

* ومما تكفلت الايات المدنية بيانه هو ارشاد المسلمين إلي خطأ اليهود والنصاري الذين وقعوا في خطأ جسيم وهو اتباع رؤساء دينهم فيما يغشونهم وجعلوه كأنه اية منزلة من عند اللَّه. قال تعالي «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِن دُونِ اللّهِ» «1»

. فمن الواضح انهم لم يكونوا يعبدونهم ولم يتخذوهم آلهة وكل الذي فعلوه انهم اطاعوهم طاعة عمياء.

* «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوْا لآِدَمَ.. إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَي وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ» «2»

فرتب الكفر الاصطلاحي علي عدم خضوع الطاعة.

* «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» «3»

فنفي الايمان مع عدم تسليم الطاعة قلباً وعملا. ونكتفي بهذا المقدار من الشواهد مع وجود شواهد أخري عديدة تؤكد علي ان الايات المدنية وردت في اكثر من موطن لتحذر المسلمين من مغبة الوقوع في انحرافات اليهود والنصاري باتباع من لم يأمر الحق باتباعه. فالتوحيد من الطاعة من الأمور المهمة التي ركز عليها القرآن وطاعة الأئمة

تدخل في هذا النطاق.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 17

النقطة الخامسة: … ص: 17

ان البعض يتصور ان البحث حول الإمامة يؤدي إلي تفكيك المجتمع الإسلامي، وبتعبير آخر ان هذا البحث هو في خط مقابل لبحوث الوحدة الاسلامية. وهذا الاعتقاد خاطئ وذلك لإننا عندما ننظر إلي الوحدة الاسلامية يجب ان نحلل هذا المصطلح طبقا للمعايير الفقهية التي أسسها الفقة الإمامي لا أن نعبر تعبيرا عصرياً فننظر إليه بمنظار ما يسمي بالثقافة الإسلامية ونحيطه بطائفة الشعارات التي لا تمس الشريعة بصلة.

فمن وجهة نظر فقهية وبقراءة سريعة لما حبرته يراع الفقهاء السابقون رضوان اللَّه عليهم نري انهم ينصّون علي ان من تشهد الشهادتين فقد دخل في الإسلام وتصبح له حرمة يجب الحفاظ عليها ومراعاتها ولا يجوز ان تهتك، وهذه الحرمة تشمل جميع جوانب الحياة اليومية من اجتماعية واقتصادية وسياسية وجنائية، فلا يجوز تحميله عبئاً اقتصاديا غير ما فرضه اللَّه علي كافة المسلمين ولا يجوز معاقبته علي جناية ارتكبها بعقوبة اكثر مما فرضه اللَّه علي الجميع، لمجرد عدم دخوله في المذهب الحق. وهكذا فإنا نري ان الفقهاء قد عملوا وأفتوا عملا بما تستلزمه وحدة المسلمين وبقاؤهم كالبنيان المرصوص.

اما الآية الكريمة «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً» «1»

.فإنها تخاطب المسلمين بشكل عام وهم من تشهد بالشهادتين وتوجه لهم خطابان: احدهما وجوب الاعتصام، والآخر: عدم التفرقه، وهذا قد يكون أمرا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 18

جديدا غير الاعتصام، وقد يكون تأكيدا له. فالآية تدل علي نكتة مهمة يجب علي المسلمين التنبه اليها وهي ان مجرد الشهادتين واشتراك الجميع في اداء العبادات الضرورية- التي يعترف بها الجميع- هذه كلها غير عاصمة للمجتمع الإسلامي، وان هذه الثوابت

غير كافية في احتفاظ المجتمع لبنائه الواحد وانها معرضة للفشل لذلك تعرض الآية إلي وجوب ان يتمسك المسلمون بأمر آخر يكون عاصماً للمسلمين من الضلال والغواية وهو التمسك بحبل اللَّه، وفي هذا من الاستعارة التمثيلية ما لا يخفي فإن الحبل الذي يستخدم للنجاة طرف منه يكون بيد المنجي والاخر يكون بيد المعرّض للهلاك، واضافة الحبل إلي اللَّه دليل علي وجوب دوام الاتصال بين السماء والأرض إلي يوم القيامة، وان الباري تعالي هو الذي يجعل هذا الحبل.

وهذا الحبل هو القرآن الكريم والسنة المتمثلة بآل البيت عليهم السلام كما ورد في كثير من الروايات كحديث الثقلين. فإما ان يقال انهما حبلان كما في بعض الروايات وإنه حبل واحد وهو القرآن الكريم والحافظ والمبيّن للقران هم أهل البيت عليهم السلام.

وأخيرا سوف نشير إلي كيفية دلالة الروايات الكثيرة المتفق عليها بين الفريقين علي عدم قبول الأعمال وبطلان العبادة بدون ولاية الائمة:. وان الولاية هي اساس لقبول الأعمال وهذا هو نفس مفاد الاية «1» انه من دون تمسك بالحبل فلا عصمة من الضلال وكذا هو مقتضي آية كفر إبليس بإبائه الطاعة لآدم، ومقتضي آية إكمال الدين وإتمام النعمة بما أنزل ذلك اليوم من فريضة الولاية.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 21

الفصل الاول: منهج المعرفة الدينية … ص: 21

اشارة

منهج المعرفة الدينية

ونتناول فيه منهج الحجج في بحث الإمامة فيقع البحث في الكتاب والسنة والعقل والمعرفة القلبية. والعلاقة والارتباط بين هذه الأدلة لكن قبل الولوج في هذا البحث لا بأس بذكر عدة مقدمات نتعرض فيها لتصوير الأحكام الشرعية في مجمل العقائد وبالتالي يمكن تطبيق قواعد اصول الفقه لاستنباط الاحكام الشرعية في العقائد.

المقدّمة الأولي … ص: 21

اشارة

ينقسم الحكم الشرعي إلي قسمين احدهما الفقهي والاخر الاصولي، ويقصد بالأول الحكم الشرعي الواقعي المجعول بالجعل الأولي كوجوب الصلاة ووجوب قراءة السورة، ووجوب الخمس ويكون ملاكه في نفسه … فهو ناظر إلي الواقع ويتعلق بالعناوين والموضوعات الواقعية وبتعبير آخر حكم أولي مرتب علي واقع الافعال.

اما الحكم الشرعي الأصولي فهو الذي يبحث عنه في علم الاصول ويكون حكما طريقيا الهدف منه احراز الحكم الواقعي فملاكه ليس في نفسه.

والبحث في إمكان تصوير كلا القسمين في العقائد أم لا؟

ولذا سوف يكون يكون البحث من الناحية الثبوتية والإثباتية.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 22

أولًا: البحث الثبوتي: … ص: 22

والبحث من جهتين الاولي امكان التعبد بالحكم الواقعي الأولي في العقائد سواء تفاصيلها أو امهات مسائلها. والثانية امكان ثبوت الحكم الشرعي الأصولي في العقائد بمعني هل يثبت بالظن النشآة السابقة، أو أحوال البرزخ … فعندما يُقال لا يمكن التعبد بالظن، لا يكون ذلك منعا للحكم الشرعي الواقعي بل منعا للحكم الأصولي.

امّا الجهة الأولي:

وهو امكان وجود حكم شرعي فقهي في باب العقائد، اي هل يمكن للشارع ان ينشأ حكماً شرعياً بوجوب الايمان بالرجعة- مثلا- أم لا؟

ان تصوير الحكم الشرعي في تفاصيل العقائد بل حتي في مسائل الإمامة والنبوة والمعاد ليس بالأمر المشكل وذلك لعدم تأتي اشكال وشبهة الدور اذ ان هذه المسائل تثبت بعد توحيد الحق تعالي والايمان به لذا سوف نركز الكلام حول التوحيد، واثبات امكانية الحكم الشرعي فيه.

والمدعي هو امكان ذلك وعدم وجود المانع منه. والدليل علي ذلك يتضح من خلال النقاط التالية:

ان الايمان الذي يحصل لدي الفرد هو من وظيفة القوة العملية أي العقل العملي وليس من وظيفة القوة النظرية وذلك لان الايمان هو عقد القلب علي شي ء أي الاذعان والتسليم بذلك الشي ء، وبهذا يكون فعلا

من أفعال النفس.

اما القوة النظرية فوظيفتها الادراك البحت، والإدراك بعد حصول مقدماته من الأدلة والبراهين لا يكون اختياريا بل يحصل تلقائياً، لكن ليس كل ادراك يستتبعه اذعان من القوة العملية فقد يحصل ادراك بحقيقة ما، ومع ذلك تأبي النفس

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 23

التسليم بها والإخبار الي وجودها والالتزام بها ويتصرف الإنسان علي خلاف ذلك.

ومن هنا فان الخطابات الشرعية والاحكام التي يجعلها الشارع لا يكون متعلقها الادراك ولا الفحص عن مقدماته، وإنما متعلقها هو الفعل القلبي الذي تقوم به القوي العملية، وهنا يكمن موضع الاشتباه حيث ان البعض تصور أن متعلق الحكم الشرعي هو الادراك بأن يخاطب الشارع الفرد: «أدْرِك ربك او اعْرِف ربك» فأشكل بالدور وما شابههه، وما دام الايمان وظيفة القوي العملية، فان الترغيب والترهيب سوف يكون مؤثرا للنفس حتي تنصاع القوي العملية للأدلة الصحيحة والبراهين الساطعة التي ادركتها القوي النظرية.

قد يشكل البعض ان المناطقة عرّفوا العلم بأنه التصديق والجزم فيعود الاشكال؟

والجواب عن ذلك: انه طبقا لاخر تحقيقات مدرسة الحكمة المتعالية فان الحكم في القضية هو غير العلم. بيان ذلك:

ان صدر المتألهين ذهب إلي ان العلم الحصولي هو حصول صورة الشي ء لدي العقل، وهذا التصور تارة يكون كاشفاً تاماً بحيث يتولد منه اذعان النفس، وتارة لا يولد الاذعان وهذا هو الحكم، فتارة يستتبع الحكم «وهُو فعل نفساني ليس من قبيل العلم الحصولي والصورة الذهنية» «1»

.واصحاب النفوس المريضة لا يتولد لديهم اذعان حتي لو كان التصور مبنياً علي ادلة حقيقية وذلك للحُجُب المانعة أو الأمراض النفسانية الادراكية أو العملية نظير

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 24

الجربزة والوسوسة والعناد واللجاج والعصبية وغيرها من حصول التصديق، لذا يجب علي الباحث والمستدل أن يعمل علي تهذيب النفس. وهذا التهذيب يكون

بأحكام الشريعة. والحاصل أن قوام الحكم الفقهي هو كون متعلقه فعلا اختيارياً ويجعل علي امتثاله الثواب وعلي تركه العقاب وكلا الركنين متوفرا في الايمان بالتوحيد وإليه الاشارة في قول الصادق عليه السلام: «الايمان عمل كله».

ومن هنا يمكن القول بأنه من اللطف الالهي الواجب أن يأمر الحق وأن يرغِّب في توحيده وأن ينهي ويرهب من الشرك به، وهذا الأمر يفسر لنا الاحاديث الواردة بأن علي اللَّه المعرفة والبيان وعلي العبد الايمان والتسليم «1».

ان الشبهة الحاصلة لدي البعض هي ان البراهين والادلة المتكونة من الصغري والكبري علة فاعلية للنتيجة والحكم، فقالوا باستحالة تخلفها عنهما، وهذا غير تام.

والصحيح أن هذه البراهين لها وظيفة اعدادية بمعني انها لاتولد اليقين والجزم بل هو فعل النفس نتيجة لاعداد وتهيئة تلك الادلة ومادام ذلك فعل النفس يكون لاعداد النفس وتهذيبها اثر فعال في تولد اليقين من الادلة الصحيحة.

والفلاسفة يعترفون ان تلك الادلة لا تورث اليقين بل الظن ولذلك يقولون إنه اذا حصل اذعان وتسليم من النفس فإن هذا كاف في المقام، وقد مدح الحق تعالي: «الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلَاقُوا رَبِّهِمْ» «2»

فمع انهم من جهة الادراك ظن لكن من جهة الاذعان والتسليم لا يوجد لديهم تردد.

فاتضح من خلال هذا الاستعراض ان الحكم الشرعي يعم كل المعارف الالهية حتي التوحيد، فثبوتا امكن تصوير الحكم الشرعي الفقهي.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 25

اما الجهة الثانية:

وهو امكان التعبد بالحكم الشرعي الأصولي.

ذكرنا سابقا ان الغاية من الحكم الأصولي هي الارائة، فهل تحصل الارائة من الظن؟ وهذه المسألة تداولها المتأخرون بشكل وافٍ بعد ان تعرض لها الشيخ الانصاري في رسائله في تنبيهات الانسداد وحكي «1» عن كل من المحقق الطوسي والاردبيلي وتلميذه صاحب المدارك والشيخ البهائي والعلامة المجلسي والمحدث الكاشاني

وغيرهم إمكان ذلك، وحكي «2» عن الشيخ الطوسي كفاية الجزم والظن في الاعتقاد إذا طابق الواقع وإنْ عصي المكلف بترك تحصيل الاعتقاد عن دليل قطعي لأنه واجب مستقل، وذهب إلي ذلك الميرزا القمي في قوانينه «3» والمحقق الاصفهاني في نهاية الدراية «4» والسيد الخوئي في مصباح الأصول. وقد ذهب الشيخ نفسه إلي إمكانه بحسب مقتضي الصناعة إلا أنه منعه بحسب الوظيفة الشرعية.

والسر في ذلك ان اليقين والجزم ليس علي درجة واحدة اذ أنه كما ذكرنا يتأثر بدرجة الادراك وبالعوامل النفسية المختلفة، فلدينا إذعان ينبع من اليقين العلمي واذعان ينبع من الظن الاطمئناني- المتاخم للعلم-، وهناك اذعان يتولد من تساوي الطرفين، وذلك فيما دأبت عليه النفس من أخذ الحيطة في المحتملات البالغة الأهمية فلا تراعي درجة الاحتمال، وانما تراعي أهمية المحتمَل فيحصل

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 26

الاذعان والجزم مع وجود الاحتمال فقط وذلك لاهمية المحتمل وخطورته.

والخلاصة: فان الاذعان وهو فعل القوي العملية يتبع- في الغالب- الادراك وهو فعل القوي النظرية وبما ان الادراك ذو درجات تبدأ من تساوي الطرفين وحتي اليقين والعلم، فان الاذعان كذلك تختلف درجته- مع بقائه اذعانا وتسليما.

تبقي الإشارة إلي ان البعض يعتبر ان الشك هو درجة ادراكية وهذا غير صحيح اذا ان الشك هو عدم الاذعان وحالة التردد العملي وبالتالي فهو صفة لحالة من حالات القوي العملية، فلا اذعان مع الشك، فما ذكر من كون تساوي الطرفين هو الشك الادراكي فهذا غير صحيح لذا لم نعبر عنه كذلك.

ثانياً: البحث الاثباتي: … ص: 26
اشارة

بعد أن تم تصوير امكان توجه الحكم الشرعي في العقائد سواء أصولها ام تفاصيلها تصل النوبة للبحث الاثباتي وهو مقدار ما قامت عليه الادلة في الاحكام الشرعية.

1- الحكم الشرعي الفقهي: - … ص: 26

اي الحكم الأولي فيمكن القول أن الآيات الواردة بصيغة «أمنوا باللَّه» كلها احكام شرعية لوجوب التوحيد لذا لم تخاطب الجانب الادراكي البحت، بل أتت بلفظ الايمان وهو ما اشرنا اليه سابقا في البحث الثبوتي، وعليه تكون هذه الاوامر مولوية لوجوب طاعة اللَّه والايمان به وتوحيده.

اما الايات الواردة بوجوب الفحص والتفكير والمعرفة نحو «انْظُرُوا مَاذَا فِي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 27

السَّماوَاتِ …» «1»

وغيرها فهي اوامر ارشادية ترشد إلي وجوب الفحص الذي ادركه العقل اذ ان الفحص مقدمة للادراك، والادراك متقدم علي الاذعان.

اما بالنسبة لتفاصيل الاعتقادات فأيضاً قامت ادلة كثيرة علي وجوب الاعتقاد بها اذا حصل العلم بذلك بمعني أي أن الحكم فيها بخلاف الاصول فهناك يجب تحصيل الايمان، اما هنا فالحكم معلق علي قيام العلم أو الحجة المعتبرة علي تلك التفاصيل فالاعتقاد والايمان بها واجب حينئذٍ.

بل في بعض الاخبار وجوب التسليم الإجمالي بما انزله اللَّه وما جاء به الرسول وبيّنه الائمة وان هذا هو مقتضي الايمان بهم.

ففي الرواية عن ابي عبد اللَّه عليه السلام قال: من سرّه ان يستكمل الايمان كله فليقل:

القولُ مني في جميع الاشياء قول آل محمد، فيما أسروا وما أعلنوا وفيما بلغني عنهم وفيما لم يبلغني «2».

2- اما بالنسبة للحكم الشرعي الأصولي: … ص: 27

فهل من الممكن التعبد بالظن في اصول الاعتقادات وتفاصيلها؟

والبحث هنا يختلف عن البحث في الحكم الأولي، لذا سوف نقسمه إلي ثلاثة اقسام: -

التعبد بالظن في التوحيد والنبوة.

ويوجد تسالم علي عدم التعبد بالادلة الظنية في هذين الأصلين وذلك للدور

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 28

الحاصل في المقام. توضيح ذلك:

ان الايمان بالتوحيد والنبوة يجب ان يستند إلي شي ء حجيته ذاتيه، اما اذا كانت حجيته عرضية فيجب ان ينتهي إلي ما هو بالذات اي إلي دليل عقلي اعتبره الشارع، و الفرض ان

البحث مازال في التوحيد فلم يثبت الشارع بعدُ حتي نثبت اعتبار الشارع له أو عدمه.

التعبد بالظن في الإمامة والمعاد والعدل.

فالأشكال السابق غير وارد هنا وذلك لأن البحث فيما بعد ثبوت التوحيد والنبوة واذعان النفس بهما. لكن مع ذلك يوجد تسالم بين الفقهاء علي عدم جواز الاستناد إلي الدليل الظني في اثبات الإمامة والمعاد بل يجب الاستناد إلي الدليل القطعي.

والسر في هذا التسالم هو ان الواجب في اصول الاعتقادات التحرز والتحفظ عن الوقوع في الضلال وهذا الوجوب عقلي والركون إلي الظن لا يؤمن هذا الجانب. لا أن الظن غير محصل للاذعان بل يمكن الاذعان والتسليم مع الادراك الظني لكن هذا لا يكون حصنا امام الشبهات والاشكالات.

التعبد بالظن في تفاصيل المعارف الالهية.

والبحث هنا حول المقدار الذي ثبت من جواز التعبد بالظن لنيل تفاصيل الاعتقادات، وبعد أن ثبت في علم الاصول حجية أخبار الآحاد والظواهر لتحصيل الأحكام الشرعية الفقهية الفرعية، يرد التساؤل هل يمكن تعميم الحجية لتشمل تفاصيل المعارف.

وقبل البدأ بأخبار الاحاد نشير إلي أن كثيراً من تفاصيل المعارف قامت عليها الاخبار المتواترة او المستيفضة والتي تورث القطع ويحصل بها العلم وهي خارجة عن بحثنا.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 29

اما اخبار الاحاد:

فأول اشكال يعترضنا هو ان العمل يكون بالخبر واجبا اذا كان مؤداه حكماً شرعياً او موضوعا لحكم شرعي، وتفاصيل الاعتقادات ليس من الواجب الاعتقاد بها، فلا معني لوجوب العمل بخبر الواحد.

والجواب عن هذه الشبهة- وان كان يظهر مما تقدم ذكره في البحث- لكننا نفصل ونقسم تفاصيل الاعتقادات إلي قسمين: -

أحدهما: المعارف التي تتعلق بعالم المادة وشئون الدنيا نحو: ان تحت الارض كذا أو فوق السماء كذا، والظن بأحوال القرون الماضية وكيف كانت حياتهم ولم يقل احد بوجوب الاعتقاد

بها حتي وان حصل العلم بها.

والثاني: - التفاصيل المتعلقة بأفعال الحق سبحانه، وكيفية خلقه ونحو أفعاله، وما هو مرتبط بعالم الغيب من مختلف المعارف، وهذه يجب الاعتقاد بها، لكن في حالة حصول العلم او قيام الحجة المعتبرة وقد جعلها المتقدمون كالصدوق والمفيد من قسم العقائد.

والدليل علي ذلك مضافاً إلي أنه مقتضي عموم أدلة الحجية التعبدية- لو ثبت شمولها- عدم تعليق وجوب الاعتقاد بها علي خصوص العلم، وإيجاب الاعتقاد بتوسطها، ولو بدرجة العقد الظني: -

إنه هناك الكثير من الايات التي توجب الايمان بالغيب مطلقاً بل تذكر ان الايمان بالغيب من الصفات الممدوحة في المؤمنين، وإذا كان الملتزم بالغيب علي نحو الاجمال ممدوح فتدل علي عموم موضوع الأدلة الاولي، لمن قامت لديه ادلة تفصيلية علي هذا الغيب فإن الإيمان بذلك يكون واجباً.

ان مقتضي الايمان بالنبي صلي الله عليه و آله ورسالته هو التسليم بكل ما صح عنه وبكل ما ثبت نسبته اليه.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 30

ان هذه الروايات تتناول صفات الحق وحكمته وأفعاله التي دلّت الأدلة العامة علي لزوم الاعتقاد بها مع أن الاعتقاد بهذه التفاصيل لا ريب في رجحانه ويزيد من قوة الايمان وهو مصحح للحجية.

ان بعض الروايات الواردة في بعض التفاصيل قد صرحت بوجوب الاعتقاد بها كالرجعة. وهذه لا خصوصية لها فيعم الحكم جميع التفاصيل كعذاب القبر والبرزخ ونحوهما، ولا يتوهم الدور كما لا يخفي خصوصا اذا ضممنا الي ذلك ان الكثير من التفاصيل ثبت بروايات مستفيضة.

إنه قد وردت روايات كثيرة في كفر- وإن لم يكن بالمعني الخاص الاصطلاحي- من جحد ما تقوم به الحجة في بعض الضروريات ولا يعتقد بها وخصت الحجة بنقل الثقات «1».

ثم إنه لو فرض الشك في وجوب الاعتقاد وعدم قيام

الدليل فانه لا يسوغ الرد عقلا ولا شرعاً إذ بينهما مغايرة.

اما عقلًا وذلك لعدم قيام الدليل علي النفي فاذا ردّ وجزم بالنفي فيكون كذباً لعدم قيام الدليل علي النفي حتي لو كان رده صحيحا.

اما شرعاً فلأن احتمال الصدور من الشارع وارد فمع احتمال الصدور كيف يجوز الرد وقد ورد في رواية زرارة عن ابي عبد اللَّه عليه السلام: لو ان العباد اذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا «2»

.ثم قد يورد اشكال ثان حاصله ان المطلوب هو الاعتقاد وهو جزم واذعان فكيف يمكن تحصيل ذلك من الظن؟

وجواب هذا الاشكال واضح وهو ان الاذعان والجزم ذو مراتب، فقد يحصل

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 31

من العلم والقطع وهو أعلي المراتب، وقد يحصل من الظن المعتبر فهو جزم إلا إنه ظني فالتفرقة في الفعل النفسي.

وقد يشكل اخيرا بالآيات الواردة في النهي عن اتباع الظن وخصوصا ان علماء الاصول حملوا هذه الروايات علي الظن في الاعتقادات وان المطلوب فيها اليقين.

وقد اجيب عن هذا باجوبة عدة:

منها: ان المراد من الظن المنهي عن اتباعه هو الظن الذي لا يرجع إلي اليقين اما اذا كان مدرك حجية هذا الظن قطعياً فلا مانع من متابعته.

ومنها: ان النهي من اتباع الظن وارد في اصول الاعتقادات اما في التفاصيل فلا يعلم ان الاية تنهي عنه.

ومنها: ان الايات واردة في ذم قسم من الناس الذين يرون المعاجز النبوية الثابتة ولا يؤمنون بها ويتبعون الظن وما جاءهم به اباؤهم. فالآيات واردة في ذم من يتبع الظن المقابل والمنافي لما دلّ عليه اليقين.

ومنها: ان الظن انما يذم اتباعه حيث يمكن تحصيل اليقين والعلم، اما مع عدم امكان تحصيل اليقين فان النوبة تصل إلي الظنون المعتبرة.

وبعبارة أخري أن المسائل في

المعارف كلما ترامت وابتعدت عن الاستدلال بالبديهيات وتوغلت في النظرية كلما قلّ وضوح يقينيتها كما هو مشاهد بالوجدان وكانت إلي الظن منها أقرب من اليقين، كيف لا وهذا ابن سينا يقرّ بالعجز عن إقامة الدليل العقلي علي المعاد الجسماني مع أنه من أصول الدين، ويتوسّل ببرهان اخبار الشريعة الحقة المحمدية بذلك.

ثم هناك نكتة مهمة يجب التنبه اليها وهي جواب ايضاً عما هو وارد في القرآن

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 32

وهي ان الظن واليقين في اصطلاح القرآن «1» ليس هو طبقا للمتعارف الشائع من كونهما درجتين من درجات الإذعان بل المراد منهما ان المقدمات اذا كانت لا يصح الركون اليها وإن ولّدت احتمالًا فانها تسمي ظنا، واما اذا كانت المقدمات مما يصح الركون اليها فانه يعبر عنها باليقين.

ومنها: ما ذكره صاحب القوانين «2» ان الاستناد إلي دلالة ظواهر تلك الايات هو استناد إلي الظن أيضا فكيف يمكن الاستناد اليها.

اما ادلة عموم التعبد بخبر الواحد:

بالنسبة للآيات الواردة علي حجية خبر الواحد فان أهم آية دالة علي ذلك هي آية النفر. وفيها أنّ التفقه متعلق بالدين وهو يشمل الاحكام برمتها فرعية واصولية فمن يريد التفقه يجب أن يسعي للتفقه في كلا المجالين، والانذار كذلك يكون في الفروع والاصول غاية الامر وجد مانع من شمول الاية لاصول الاعتقادات- دون تفاصيلها- وهو المانع الخارجي الذي اشرنا اليه سابقا.

ومن ادلة حجية خبر الواحد السيرة وهي قائمة علي تعاطي خبر الواحد في تفاصيل الاعتقادات، بل هو مرتكز في وجدانهم كما نري في كتبهم، فهذا العدد الكبير الهائل من الروايات التي يرويها الرواة في تفاصيل المعارف شاهد عليه

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 33

وهذه هي السيرة الفعلية، ويمكن التعبير عن السيرة بان لها اطلاق تقديري بمعني

إنه لو لم تكن لهم سيرة بالفعل قائمة علي العمل بخبر الواحد في التفاصيل، فان ارتكاز السيرة بنحو يكون مدعاة لتعميمه وعدم الردع من الشارع لهذا الارتكاز يعني امضاؤه له.

كما أن الأصوليين يستندون في حجية أخبار الآحاد إلي روايات مستفيضة مفادها مثل أن السائل يسأل الإمام عليه السلام فلان ثقة آخذ عنه معالم ديني؟ فيجيب الامام عليه السلام بالايجاب.

واخذ معالم الدين شامل للفروع والاصول.

اما بالنسبة لحجية الظواهر:

فقد اشار الكثير إلي ان حجية الظواهر ليس امرا متنازعاً فيه، وهذا يعني ان الدليل علي حجيتها هو القطع بتقريب ان الشارع لم ترد له طريقة أخري في التعامل مع المكلفين غير الطريقة القائمة فيما بينهم وهو الاعتماد علي الظواهر. وأن كثيراً من المعارف الالهية وتفاصيلها قد ورد في القرآن الكريم ولم تكن للشارع في تفهيم القرآن طريقة غير طريقة أهل المحاورة فهذا يثبت حجية الظواهر في المعارف أيضا.

وقبل ان نختم البحث في هذه المقدمة نشير إلي نكات مهمة: -

ان هذه المقدمة والتي تليها تبرز أهمية ان البصيرة في هذه المباحث توجب حصول بصيرة في كثير من المجالات والعديد من المخاصمات في تفاصيل الاعتقادات.

من المقرر في علم الاصول ان حجية خبر الواحد والظواهر منوطة بالفحص عن المعارض، والأمر هنا كذلك بل الفحص عن المعارض في تفاصيل الاعتقادات يكون أشد واخطر واهم لكثرة القرائن المنفصلة في هذا الباب ومنها

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 34

القرائن العقلية فلا بد من الخوض في البحوث العقلية بمقدار كافٍ حتي يمكن فهم كثير من الروايات.

ان الاحكام الشرعية الواردة في التفاصيل حكمها علي وزان الفروع فما كان منها ضروري فإن عدم الايمان به وردّه حكمه حكم الارتداد، وغيره قد يوجب الفسق في حالة التقصير.

المقدمة الثانية … ص: 34

ونتناول فيها البحث

حول الميزان واصول الادلة في علم العقائد.

ونستعرض فيها العلاقة القائمة بين العلوم وما يرتبط منها في بحث العقائد.

فما هي اصول العقائد؟

يطلق الاصل علي معان عدة فقد يطلق ويراد به الاساس للشي ء، وتارة يطلق ويراد به ما هو السبب للمسبب. وفي الاصطلاح عندما يطلق علي ما يعتبر اصلا لعلم اخر فانه يقصد به العلم الذي يتكفل ايضاح منهجية علم آخر وتهيئة قواعد لا تدخل نفسها كمواد في قياس ذلك العلم. ومن هنا تفترق القواعد الفقهية عن القواعد الاصولية بالنسبة لعلم الفقه فإن القاعدة الفقهية بنفسها تدخل في استنباط الحكم الشرعي فيستفاد منها في باب التطبيق، بينما القاعدة الاصولية لا تحضر بنفسها في الفقة بل هي تحدد المنهج الذي يجب اتباعه في الاستنباط.

وبالنسبة للعقائد يمكن القول ان القواعد العامة التي تذكر في علم الكلام أو الفلسفة يتم تطبيقها في الالهيات فتكون من قبيل القواعد الفقهية، ويمكن التعبير عن التطبيق بالقول «ان المحمول بنفسه يأتي في النتيجة».

وعلي كل ففي اصطلاح أهل الفن يطلق الاصل ويراد به احد هذين المعنيين.

والغرض هنا هو البحث حول اطلاق اصول ادلة العقائد

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 35

هل يراد بالاصل ما يبحث في منهجية الاستدلال ام يُراد به ما يرادف القواعد الفقهية؟

والجواب عن هذا التساؤل:

إنه اذا اطلق الاصل هنا واريد المعني الأول فالعلم الباحث عن منهجية الاستدلال في العقائد هو علم اصول الفقة.

والسر في ذلك اننا ذكرنا فيما سبق ان المقصود بالاحكام الشرعية لا يخص الفرعية (عبادات ومعاملات) بل يعم ويشمل العقائد اصولا وتفاصيلا طبقا للتصوير السابق ذكره. وعلم اصول الفقة هو الباحث عن معيار الحجة في استنباط الاحكام الشرعية وبالتالي يتدخل في العقائد. ويشهد لذلك ان المتكلمين «حتي ان القيصري في مقدمات شرح الفصوص

بحث مفصلًا بالملائمة بين الكتاب والسنة والكشف. وهو بحث اصولي محض» عندما يتطرقون في بعض مسائلهم إلي كيفية الاحتجاج لحجة معينة يستعينون بما تم تصويره وتحريره في علم الاصول. بل ان صدر المتألهين مبتكر الحكمة المتعالية كثيرا ما يتعرض لمنهجة الملائمة بين الوحي والعقل ومتي يقدم كل واحد منها وما هو مدي كل منها.

* أصول الفقه والمنطق: من الضروري جداً بيان الفارق بين العلمين وأن لا تعارض بينهما، ولا يكون علم الاصول بديلًا عنه بل يظل علم المنطق هو الباحث عن حجية الادلة العقلية فقط ويعتبر اصولا للفلسفة ويمكن التمييز بينهما.

أ- ان علم الاصول يبحث عن منهجة المعارف القلبية.

ب- إن في علم المنطق لا يبحث عن اساس حجية الدليل العقلي من حيث المواد وإنما يوصلها إلي البداهة أو اليقين، بينما يبحث عنه في علم الاصول.

ج- في المنطق لايبحث إلا عن الدليل العقلي بينما في الاصول يبحث عن الملائمة بين العقل والنقل والكشف.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 36

والحاصل أن كلا من العلمين يبحث عن الحجية حتي أن علم المنطق يشتمل علي صناعة كل من البرهان والجدل والثاني فيه حيثية الالزام فيقترب من علم الأصول وإن كانت حيثيته ليست للخصومة، إلا أن بينهما فوارق، ومن ثم أضحي علم الاصول منطقاً للعلوم الدينية وللمعرفة الدينية.

فعلم الأصول له دخالة في كل معرفة دينية وعملية استنباط يسعي اليها الإنسان لاستكشاف المجهول.

- ثم اننا عندما نذكر تقدم علم علي آخر لا نلتزم بذلك مطلقا، بل نقول أن من المتسالم عليه هو قاعدة التعاون بين العلوم فقد يكون علم مقدما علي آخر من حيثية، ويكون العلم الثاني مقدما علي الأول من حيثية اخري.

2- وان اريد بالاصول القواعد الفقهية وهو المعني الثاني فيعتبر علم

الفلسفة هو اصول العقائد- هكذا قيل-.

لكن الصحيح ان جميع القواعد العامة التي حررت في علم الكلام، وفي مقدمات التفسير، وروايات المعارف والبحث فيه كلها تكون اصلا لعلم العقائد.

ومن هنا نشأت مدارس مختلفة في ارساء وتحرير القواعد العامة التي يحتاج اليها الباحث في علم العقائد. وهي عديدة: -

منها مدرسة المشائين: والتي اعتمدت العقل كأساس لتفسير العقائد والايمان بها ولا يوجد منبعا آخر لا نقلا ولا كشفا، واساس هذه المدرسة الفلسفة اليونانية وتبناها منهم ارسطو.

ومنها مدرسة الاشراقيين: وهي أيضا متأثرة بالفلسفة اليونانية والتي تري ان نيل المعارف الربوبية يكون عن طريق الاشراق والكشف الذي يتنزل إلي العقل. وبهذا تتميز هذه المدرسة عن المدرسة العرفانية اذ لاتشترط ان تتنزل المعارف القلبية علي العقل، بينما تشترطه الأولي واشتهر قول شيخ الاشراق لولا العقل والقلب لما

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 37

أمكن الوصول إلي هذه المعارف.

ومنها المدرسة العرفانية: والتي تري عجز العقل عن الوصول إلي المعارف العالية تماماً بل يصل الإنسان إلي المعارف عن طريق المجاهدات وتصفية القلب، فينجلي امامه المجهول وتنكشف امامه الحقائق.

ومنها مدرسة المتكلمين: الذين حاولوا الربط بين العقل والنقل، لكنه يركز فيه علي ما ورد في الشريعة ويحاول بعدئذ اقامة الدليل العقلي عليه، ويحرص علي موافقة الحكم المستنتج من العقل لما عليه الشرع.

ومنها مدرسة الحكمة المتعالية: وهي قمة ما وصل اليه متأخرو الفلاسفة وقد ظهرت من تحقيقات صدر المتألهين الذي حاول الجمع بين المدارس المختلفة لتظهر خلاصة تحقيقات المتقدمين، فوافق بين العقل والعرفان وجعل محورهما هو الوحي وحاول الملائمة بينها.

ومنها مدرسة المفسرين: حيث انها ترجع إلي ظواهر القرآن لاستلهام مجموعة من القواعد في المعارف الالهية.

ومنها مدرسة التفكيك: والتي ظهرت علي يد الميرزا مهدي الأصفهاني حيث قامت بالتفكيك بين العقل

المحدود والعقل اللامحدود وهو الوحي والاعتماد اساساً علي القرآن.

ومنها مدرسة المحدثين: وهذه استقت معارفها الالهية من الاحاديث والروايات فحرروا مسائل كثيرة لم تذكرها المدارس السابقة وقد برز منها المجلسيان وصاحب الوسائل 0 وصاحب تفسير البرهان …

فهذه المدارس كلها وغيرها مما ظهر وانتشر كان هدفها ابتكار ارفع الأساليب وأسلم المناهج للوصول إلي المعارف الإلهية.

ولا يمكن القول بالاقتصار علي لغة مدرسة منها والاكتفاء بها بل كل مدرسة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 38

امتازت بقواعد حررتها لم تهتد اليها المدرسة الاخري، فاذا كان المراد من الاصل هو المعني الثاني فيجب ان تشمل الدراسة كل القواعد التي دونت دون الاقتصار علي بعض منها في سبيل الوصول إلي معارف الوحي.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 39

المبحث الأول: حجية الكتاب الكريم … ص: 39

اشارة

من بديهيات الفكر الإسلامي حجية الكتاب وأنّه المعجزة الخالدة وخاتم الرسالات الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وقد أسهب الاصوليون في هذا البحث ورد الشبهات ومناقشة الاخباريين وغيرهم ممن فصل في حجيته فلا نعيد الكلام فيه وانما نتعرض إلي نقطتين:

1- نظرية تفسير القرآن بالقران والتي نادي بها العامة وبعض الخاصة، وآخرهم العلامة الطباطبائي.

2- كيفية الملائمة بين حجية الكتاب والسنة والعقل.

اما النقطة الاولي: تفسير القرآن بالقران..

وتعتبر هذه النظرية في الطرف المقابل لنظرية المحدثين والتي تقضي بعدم امكان التفيسر إلا بالرجوع إلي الروايات والاحاديث.

اما العلامة الطباطبائي فانه يري ان القرآن فيه بيان كل شي ء، وفي تفسير كل آية يجب الرجوع إلي الآيات الأخري التي توضح المراد والمقصود، فمثلا قوله تعالي: «الرَّحْمنُ عَلَي الْعَرْشِ اسْتَوَي» «1»

يشتبه المراد من كيفية الاستواء لكن اذا رجع إلي قوله تعالي: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ» «2»

علم ان المراد من الاستواء هو

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 40

التسلط علي الملك والاحاطة علي الخلق دون التمكن والاعتماد

علي المكان الذي يستلزم التجسيم المستحيل.

ولم يكن العلامة في نظريته منفرداً بل متبعاً لطريقة أهل البيت: فإنهم قلما يفسرون آية من دون ذكر اية أخري توضح المراد منها. وكأنهم يرشدون أتباعهم إلي كيفية تفسير القرآن والتدبر في آياته بالاستفادة من الآيات الأخري في تفسير ما ابهم من المعاني.

ويضيف أن ما ورد في تقسيم آيات القرآن إلي المحكمات والمتشابهات لا يعني أن الاية في نفسها مبهمة ولا يتضح منها معني البتة، بل ان التشابه هو بلحاظ فهم السامع والقاري ء وتردده بين معني وآخر بحيث لايتعين المراد منها إلا بالرجوع إلي آية محكمة والتي هي بمنزلة الأصل الواجب الرجوع اليه عند تردد المعاني في المتشابهات.

وحصول التشابه لدي السامع او القارئ امر طبيعي، ومرجعه انس الإنسان بالامثلة المادية المحسوسة فيحمل الالفاظ لا علي معانيها بحدها الماهوي بل يخلط بها المصداق المألوف لديه فيختلط عليه المراد، اما اذا التفت إلي أن الألفاظ موضوعة لروح المعاني دون النظر إلي المصاديق التي هي عرضة للتبدل والتغير، ارتفع لديه الاختلاط، فمثلا السجود موضوع لمنتهي الخضوع والخشوع وليس موضوعا للهيئة الخاصة المتداولة وعندها يمكن فهم امر الحق تعالي ملائكته بالسجود لادم.

وقد يشكل عليه بأن هذه الطريقة من التفسير هي ضرب القرآن بعضه ببعض، وقد نُهي عنها صراحة في قول الصادق عليه السلام ما ضرب رجل من القرآن بعضه ببعض

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 41

إلا كفر «1»، وغيرها.

ويجيب عن ذلك بأن المقصود بالضرب هو التفسير بالرأي الذي يؤدي إلي اختلاط الآيات بعضها ببعض ببطلان ترتيبها ودفع مقاصد بعضها ببعض.

ويستدل العلامة علي نظريته بأدلة وشواهد عدة:

منها: ان القرآن وُصف بأوصاف متعددة منها إنه نور، وهدي، ومبين، وفرقان، وان فيه بيان لكل شي ء وهذه كلها تدل علي

عدم اغلاقه وإنه لا يحتاج إلي مفسر خارج عنه.

ومنها: أن القرآن هو المعجزة الخالدة التي تحدي به الرسول صلي الله عليه و آله كافة الناس ان يأتوا بسورة أو آية مثله، ومقتضي التحدي كونه واضحاً غير مبهم فهو يبين نفسه بنفسه.

ومنها: وردت روايات عديدة ترشد إلي كيفية تمييز الحجة عن اللاحجة من الروايات بالعرض علي كتاب اللَّه، فهذا يعني ان في كتاب اللَّه البرهان الواضح والمفاهيم الساطعة التي يمكن فهمها وعرض الروايات عليها.

ومنها: قوله تعالي: «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً» «2»

تدل علي امكانية نيل المعارف القرآنية وأنه لا معني لارجاع ذلك إلي بيان السنة لان ما بَيّنه إما أن يكون معني يوافق ظاهر الكلام أو ان يكون معني لا يوافق الظاهر، فإن كان الأول فهو مما يؤدي اليه اللفظ ويمكن التوصل اليه ولو بعد التدبر، وإن كان الثاني فهو مما لا يلائم التحدي.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 42

ومنها: ما ورد من الروايات التي كالنص في ذلك كرواية الباقر عليه السلام فمن زعم ان كتاب اللَّه مبهم فقد هلك وأهلك «1».

ومنها: ما ذكره في حاشيته علي الكفاية.

- ان حجية السنة منبثقة عن حجية الكتاب فبينهما طولية حيث قد ورد في القرآن حجية السنة «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ …» «2» «وَلَكُم في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» «3»

.- ويري ان قوله: «إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» «4»

: يعني أنه لا يبطله شي ء وبالتالي لا ينسخ القرآن إلا بالقران أما ما اتفق عليه العامة والخاصة من امكانية النسخ بالسنة القطعية فمدفوع بهذه الاية.

تقييم نظرية العلامة: - … ص: 42

إن أصل ما ذكره العلامة متين ونوافقه عليه،

لكن النتائج التي رتبها علي ذلك من استقلال الإنسان في تفسير القرآن بالقرآن بعد معرفة طريقة أهل البيت هذا غير صحيح، حتي أنه رضوان اللَّه عليه لم يتبع ذلك في تفسيره.

وما ندعيه هو أننا دائما في تفسيرنا للقرآن نحتاج إلي الرجوع إلي السنة الشريفة، لأن المعصوم هو القيّم والحافظ للقران بدليل حديث الثقلين «5»،

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 43

والرجوع اليهم لا يعني نقصاً أو تقليلا من حجية القرآن، فلقد قُرر في علم الاصول ان حجية الظواهر انما تكون بعد استفراغ الوسع في البحث عن القرائن المنفصلة سواء من القرآن او السنة القطعية او المعتبرة او من القرائن العقلية.

ولتقريب الفكرة نضرب مثالًا في علم الرياضيات؛ حيث أنه من العلوم المستقلة التي لا تعتمد علي علوم أخري، ويحتوي علي بديهات ونظريات ومعادلات، لكن هل الجميع علي حد سواء في هذا العلم؟ بالطبع لا، فالأفهام تتفاوت والعقول تختلف ودرجات الادراك ليست علي حد سواء، فيحتاج إلي قيّم وحافظ يدرك كل شي ء ولا تستعصي عليه مسألة ولا يكون هذا القيم إلا من اتصل بعالم الغيب ونهل معرفته من العقل المحيط، كما نري في أجوبة مسائل امير المؤمنين في باب الارث.

وعليه فإنا نقول إن الافهام بما انها متفاوتة في فهم القرآن واستظهار معانيه لذلك يحتاج إلي قيّم وحافظ، فهمُه محيط بكل معاني القرآن فيُسترشد بفهمه دائما

واما ما استدل به العلامة: -

من الدعوة إلي التدبر الواردة في القرآن فيجاب عليها: بأن التدبر المشروط لا ينافي التدبر، والشرط هو الاسترشاد بروايات أهل بيت العصمة، بل ان العلامة كما ينقل من سيرته لم يبدأ التفسير حتي قرأ بحار الأنوار قراءة دقيقة بتفحص ثم بدأ في تفسير القرآن وما ذاك إلا من أجل مراعاة خط

أهل البيت وفهمهم في تفسير القرآن.

نعم الدعوة إلي التدبر تقع في قبال السلب الكلي الذي ادعاه الاخباريون من عدم امكانية فهم القرآن إلا من خلال الروايات.

* واما الاعجاز والتحدي فهو ممكن لكنه غير مشروط بأن يصل فهم الكافرين إلي كل بطون وأسرار القرآن بل مع الفهم البسيط إلي بعض أسرار القرآن وعجزهم

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 44

عن الاتيان بمثله اكبر دليل علي إعجاز القرآن وأنه من عند اللَّه. بالاضافة إلي أن جهات الاعجاز في القرآن كثيرة لما يحتوي من اسرار الخلق وشؤون النظام والمعارف العقلية. وهذا كله دليل علي ضرورة وجود القيّم والحافظ للقران الذي يرشد إلي تلكم المعارف، ويأخذ بيد المتعلم والمتدبر إلي بطون القرآن التي لا تنالها الافهام العادية.

* وما ذكره من أن جميع الحجج منبثقة من الكتاب أمر لا ينكر لكنه لا يعني انحصار حجية السنة بالكتاب، وذلك لأن المعجزات الاخري للرسول صلي الله عليه و آله تثبت رسالته وحجيته كما هو الحال في بدء الدعوة، بل إن في بعض الآيات ما يشير إلي حجية الكتاب وصدق ما أنزل بتوسط صفات النبي صلي الله عليه و آله من الصدق والإمانة «.. أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنِكِرُونَ..» «1» «.. فَقَدْ لَبِثْتُ فُيكُمْ عُمُراً..» «2»

، وكذلك حجية كلام الائمة عليهم السلام يعلم بمعجزاتهم وبليغ خطابهم واخبارهم عما هو مجهول في ذلك العصر، وإلي قرون متمادية لاحقة.

* أما ما ذكره من روايات عرض السنة علي الكتاب، فقد تقرر في علم الأصول بان السنة بعضها قطعي ولا معني للعرض، اما الخبر الظني الصحيح فمعني عرضه هو عدم مباينته للكتاب وليس المراد الموافقة التفصيلية وكذلك يعرض علي السنة القطعية.

واما حديث النسخ وامتناعه فهو غريب منه لأن

القرآن قد صرح بصدق الرسول وحجية خبره فما المانع من النسخ.

ونورد عليه نقضا بأن القائلين بهذه النظرية متعددون من العامة والخاصة، ومع ذلك لا نراهم يتفقون في تفسير الايات، وهذا الاختلاف إما راجع إلي الخطأ في

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 45

المنهج أو خطأ في التطبيق، اما الأول فذكرنا إنه صحيح في نفسه فتبين ان الاختلاف راجع إلي الثاني حيث يجب الاسترشاد بالروايات لا الانعزال التام عن السنة، حيث ان المنهج وحده لا يوجب العصمة في التطبيق.

* وقد أرشد القرآن الكريم إلي حَفَظَته بقوله تعالي: «بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ» «1»

فهم الحافظون للكتاب المطلعون علي أسراره وبدونهم لا يمكن الاهتداء إلي بطونه ولا يمكن التدبر في آياته.

تنبيه: - يجب التفرقة بين طائفتين من الروايات احداهما هي الروايات المبينة لتفسير الآيات فمعها لا يمكن الاعتماد علي الظاهر القراني، والاخري هي الروايات المتعرضة للتأويل التي لا تمنع من حجية الظاهر بل يبقي الظهور علي حجيته.

النقطة الثانية: في الملائمة بين الحجج وقد ذكرت في ذلك نظريات متعددة، والذي نراه أن الكتاب والسنة والعقل حجج متكافلة متضامنة فيما بينها تشير جميعها إلي حقائق واحدة، ويجب الرجوع في كل منها إلي المحكم منها لا المتشابه، ويجب الابتداء بالعقل لأن اليه ترجع كل الحجج وليكون هو الاساس.

والاسترشاد بالادلة الواردة في القرآن الكريم في باب التوحيد. والسر في ذلك ان العقل مع كونه هو المبدأ في حركة الارادة إلا إنه ليس بالعقل المحيط ولا المرتبط بالوحي، فيجب حتي يأمن الخطأ ويسير في الجادة الصحيحة أن يرتبط بالوحي وهو علي نحوين احدهما القرآن الكريم والاخر هو السنة النبوية والمعصومة.

وسوف يأتي مزيد بيان لهذه النقطة.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 47

المبحث الثاني: حجية السنّة … ص: 47

اشارة

وكما تقدم في حجية

الكتاب ليس البحث في اصل حجية السنة فإنه موكول إلي مباحث أخري من علم الكلام وإلي علم الأصول بل البحث في نكات جانبية لم يثرها الاصوليون: -

أولًا- اقسام الحديث: … ص: 47

ذكروا للحديث اقساما متعددة منها المتواتر والمستفيض والاحاد وقسموا الاخير إلي اقسام منها الصحيح والحسن والموفق والضعيف والمعلل …

وليس الغرض التعرض إلي هذه الاقسام فهو موكول إلي علم الدراية بل الإشارة إلي عدد من المطالب يجب ملاحظتها في العمل الروائي: -

أ- ذكروا في تعريف المتواتر انه اخبار جماعة يمتنع تواطؤهم علي الكذب، وقد قسم المتواتر إلي لفظي ومعنوي واجمالي- كما نبه اليه المحقق الخراساني- وقد ذكروا ان تعدد الجماعة يجب أن يكون في كل الطبقات وان اختلفوا في تحديد العدد المطلوب «1»، لكن الصحيح هو عدم التعبد بعدد معين بل الضابطة هي امتناع التواطي ء علي الكذب.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 48

وهذا يعني ان انتاج المتواتر انما يكون لضابطة رياضية وقلة احتمال الكذب بل انعدامه في بعض الصور. وما دام انتاج الخبر المتواتر للعلم عبر تلك الضابطة الرياضية فاننا نخلص إلي عدم اشتراط تساوي دائرة التواتر في كل الطبقات، بل قد يكون في بعض الطبقات واسع الانتشار بينما ينحسر ذلك في دائرة أضيق في الطبقات الاخري فيقتصر علي فئة معينة او باصحاب مسلك معين وهذا لا يخدش في التواتر. والسر في ذلك ان احتمال الكذب كما يتأثر بالجانب الكمي كذلك يتأثر بالجانب الكيفي الذي يعرف بتمييز طبقات الرواة وكيفية اختلاطهم والوضع السياسي والاجتماعي لكل طبقة، ومن هنا نخلص إلي أن وجود تواتر بدائرة معينة في حديث ما في طبقة معينة وهي الأولي وانحسار تلك الدائرة من التواتر في الطبقات الاخري لا يمنع من اعتبار الخبر متواتراً، اذا اخذنا بعين الاعتبار

تلك الجهة الكيفية، فتحصل ان التواتر علي درجات فقد يكون واسع الانتشار بين الناس وقد يختص بطبقة دون أخري وبفئة معينة دون أخري، لكن ذلك كله لا يخدش بالتواتر وتحققه ضمن دوائر متعددة تختلف سعة وضيقاً.

ويمكن تمثيل ذلك بعلم اللغة من صرف ونحو وبلاغة … فان التواتر بدائرته الوسيعة التي كان عليها في عموم من ينطق بالضاد في طبقات عديدة متأخرة قد انقطع وانحصر وجود التواتر بالدائرة المزبورة بالطبقات الأولي، وأما وجود التواتر في الطبقات اللاحقة فهو بدائرة أهل الاختصاص بالأدب اللغوي، وهم الحاملون لتراث اللغة عن الاندراس بكامل خصوصياته جيلًا بعد جيل. وهذا لا يمنع من ثبوت اللغة وشواهدها بالتواتر ولو ضمن طبقات أهل الاختصاص الادبي. وكذا الحال في بقية الاختصاصات والفنون.

فمن ثم قسموا الضرورات في العلوم وعلم المنطق إلي ضرورات عامة عند عموم الناس وضرورات خاصة عند خصوص شرائح معينة. وهذا يدل علي عدم

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 49

اشتراط حصول التواتر بدائرة ثابتة في جميع الطبقات حتي الآن بل يكفي حصوله بأي دائرة في البعض مع مراعاة ضابطة التواتر.

وبتعبير اخر اذا حصلت ضابطة التواتر في طبقةٍ فإن عدم حصوله بتلك الدائرة بعينها في طبقات أخري لا يخدش في ذلك، ولا يمكن الاستدلال علي عدم قطعية الحديث وبطلانه بعدم التواتر بدائرة ثابتة في بعض الطبقات وجهل كثير من الناس له والأمثلة علي ذلك متعددة. فإن هناك دوائر من التواتر علي نطاق البشرية جمعاء، وتواتر علي نطاق المسلمين خاصة، وتواتر علي نطاق الطائفة الإمامية، وهلم جراً مادامت شرائط التواتر منحفظة في الدوائر المختلفة، وإن كانت بين درجات الضرورة والتواتر المتعددة اختلاف كبير، ولا يخفي أن جهة بحثنا هذا هو من زاوية النقل والصدور، لا من زاوية

مضمون المنقول وتمامية موازينه.

ونتيجة لما تقدم لا وقع للتعجب من تتواتر الخبر الواصل إلينا وإن اضيقت دائرة التواتر وهذا ما نراه في بعض الأحاديث التي هي مواد خلاف بين المسلمين كحديث الغدير والثقلين حيث نجد أن دائرة التواتر في الصدر الأول واسعة ثم تنحسر هذه الدائرة في العصور المتأخر حتي تكاد تقتصر في نطاق ضيق لدي المتخصصين في هذا الفن.

وأخيراً نشير إلي أن التواتر علي درجات كما أن اليقين والجزم علي درجات واختلاف الدرجات لا يعني عدم التواتر.

ب- ان النقطة المهمة في التواتر هو التكرار الذي يحصل في روايات مختلفة وهذا هو المحصل للتواتر اللفظي والمعنوي والاجمالي. ومن هنا تبرز اهمية الأخبارالضعيفة (غير الموضوعة او المدلسة) حيث انها تمثل المادة والمنبع الذي يحقق التواتر.

فما يدعيه البعض من وجوب غربلة الاحاديث وترك الضعيفة والاقتصار علي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 50

الأخبارالمعتبرة فقط حديث لا أساس له من الموازين العلمية والصحة ودعوي جهالة، ويمكن ابراز فوائد تلك الأخبار فيما يأتي: -

1- ان الاخبار الضعيفة تمثل مادة ومنبع المتواترات.

2- ان الأخبارالضعيفة اذا كانت محفوفة بقرائن توجب الوثوق بالصدور تجعلها معتبرة يعتمد عليها.

3- ان المطالع والمتتبع في تاريخ البشرية يلاحظ أن اعتماد الناس علي الخبر الضعيف بلحاظ التواتر او الاستفاضة، وهذا هو الذي يجعل الخبر موثوقاً بصدوره، وخير مثال علي ذلك الإخبار عن الأمم والقرون الماضية، حيث ان مادتها الأولي اخبار لا ترقي الي الصحاح مع قبول الناس لها بلحاظ ما تفيده من الوثوق بصدورها. وتحليل ذلك يعود الي ما يسمّي بعملية حساب الاحتمال وتصاعده البالغ لذلك الحد من الوثوق طبقاً للقواعد الرياضية البرهانية.

4- إن المباني في قبول الأخبار مختلفة ومتنوعة، فكم من خبر رفض الشهيد الثاني العمل به بينما صححه

المتأخرون خصوصا بعد بزوغ طريقة التحليل المشابه للتحليل التاريخي، والاستفادة من طبقات المحدثين التي ابتكرها السيد البروجردي والمحقق الاردبيلي صاحب جامع الرواة. وعليه لا يمكن اعتمادها ضابطة عامة لتضعيف الخبر فالضابطة اجتهادية.

5- ان الخبر الضعيف (الذي لا يُعلم وضعه او تدليسه) يحرم رده وإن لم يجب العمل به، إذ بين حرمة الرد والحجية فرق، كما حرّر في علم الحديث والاصول، ولم يخالف في هذا الحكم أحد، وتلك الغربلة تعني الرد.

6- ان الخبر الضعيف ان لم يجب العمل علي طبقه فإنه يفيد في مواطن عدة من باب توليد طرح الاحتمال، فهو ليس بأقل- بل يفوق- استدلالًا منقول عن احد الحكماء أو العلماء السابقين، فأي ضرر فيها ان اعتبرت اشارتها إلي احتمال من

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 51

الاحتمالات.

ج- ان الخبر الضعيف لا يساوي الخبر الموضوع او المدلس وهذه نكتة قل الالتفات اليها، وهي احدي الاسباب التي ادت إلي ترك الأخبارالضعيفة. فاننا نسلم ان الأخبار الموضوعة المدلسة يجب طرحها واهمالها وتركها إذا عُلم وضعها وتدليسها حيث اتفق علي أنه اذا ثبت كون حديث موضوعاً حرمت روايته لكونها اعانة علي الاثم واتيان للفرية في الدين، وأما ما كان ضعيف السند غير الموضوع فلا بأس بروايته مطلقاً، نعم العمل علي طبق مافيه يحتاج إلي جبر الضعف «1»، وقد وضع العلماء اعلي اللَّه مقامهم طرق وقرائن لكشف الحديث الضعيف الموضوع عن غيره فمثلًا مجرد اتصاف الراوي بالكذب لا يعني وضع الخبر، فإن الكذوب قد يصدق، كما في وهب بن ابي وهب. كما انا نلاحظ ان طائفة كبيرة قد وصفت بالكذب لمجرد روايتها لأخبار المعارف.

فما ثبت وضعه وتدليسه من الأخبارالضعيفة يجب ردها وتركها اما الأخبار الضعيفة كلها فلا يجوز ردها خصوصاً ان لدينا

ضوابط سهلة يمكن بواسطتها تمييز الوضع والتدليس كعرضها علي المحكمات في الكتاب والسنة والعقل. وبالتالي لا يكون نقل الاحاديث الضعيفة تغريراً علي المسلمين حيث ان الخبر الضعيف مهما بلغ شأنه لا يمكن ان يحرف المسلمين عن جادة المحكمات في الحجج الثلاث.

ومن هنا تساهل القوم في نقل الضعاف لما لها من فوائد جمّة في الحجية، ولا مجال لتوهم اتحادها مع اخبار الوضع والدس «2».

د- إن المسألة المهمة التي يجب الالتفات اليها هي مسألة تجميع القرائن حتي يوثق بصدور الرواية عن المعصوم، حيث من النادر ان تكون قرينة واحدة كافية

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 52

لاثبات الصدور بل تتجمع القرائن من هنا وهنالك. وهذا علي غرار ما ذكرناه في بحث الرجال أن المشيخة أو ورود الراوي في أحد الاصول المعتمدة كلها قرائن مع اجتماعها تفيد التوثيق لا أن كلا منهما بمفرده يفيد التوثيق.

وهذا ايضاً علي غرار ما ذكر في بحث الاجماع حيث ذكر الشيخ تبعا لصاحب المقابيس أن قيمة الاجماع بكونه جزء الحجة تنضم إلي الحجج الاخري لا أنه حجة مستقلة.

ومن القرائن التي تذكر في هذا الباب الشهرة العملية والروائية بل حتي الفتوائية وهي ممكنة الحصول في باب الاعتقادات من ملاحظة كتاب الاعتقادات للصدوق والامالي، والشهرة وإن نوقش في مدي جبرها للضعف، لكن علي ما ذكرناه في المقام تكون قرينة من القرائن لا انها قرينة مستقلة.

ومنها: ان يرد الخبر في بعض الكتب المعتبرة ككتب صفوان بن يحيي او محمد بن الحسين بن أبي الخطاب الزيات، والحسن بن محبوب المعروفين بضبطهم.

ومنها إنه يروي الخبر راوٍ هو علي مذهب مخالف لما يرويه من مضمون.

وغيرها من قرائن توثيق الصدور المحرّرة في تلك المسألة.

ه- نشير اخيراً إلي قسم من اقسام الحديث هو المستفيض،

وهو الخبر الذي يقرب من المتواتر ويرتفع عن الآحاد، حيث أن رواته لم يبلغوا حد التواتر لكنه يكون مؤيدا ومدعوماً من جهة القرائن الداخلة والخارجة فيصبح مستفيضاً والخبر المستفيض أو الموثوق الذي بدرجته يصح الاستناد اليه كما هو مقرر في علم الأصول، بل درجة حجيته تفوق الخبر الصحيح.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 53

ثانياً: احوال الكتب الاربعة والمصادر الروائية: … ص: 53

وفي بحث الكتب توجد مسألتان يجب معالجتهما قبل الاستناد إلي اي كتاب:

اولا: إثبات نسبة هذا الكتاب إلي المؤلف.

وثانياً: اثبات ان هذه النسخة الواصلة الينا هي النسخة التي ألفها المؤلف، ولم تصل لها يد التحريف.

وعلم الدراية هو العلم المختص بمعالجة هاتين المسألتين، لكنهم لم يذكروا سبيل العلاج علي نحو مفهرس، لكنّا نستطيع عملًا اقتناص بعض النقاط لتوضيح منهجهم في العمل: -

1- الالمام بكتب الفهارس حيث أنها تختص بذكر كتب الطائفة واسماء مؤلفيها.

2- التعرف علي سلسلة اسناد وطرق صاحب الفهرست للكتاب أو صاحب المجاميع الروائية المتأخرة أو المتقدمة، فيُعرف انه لم يذكره في فهرسته اعتمادا علي الشياع ونحوها بل بطريق مسلسل مسند.

3- التعرف علي مدي اشتهار الكتاب بين طبقات المحدثين والفقهاء وذلك بملاحظة: -

أ- سلسلة الاجازات المعروفة كإجازات العلامة المجلسي، واجازة العلامة الحلي لابن زهرة، وكذلك اجازات صاحب الوسائل.

ب- متابعة كتب الاستدلال في الاحكام الفرعية- بحسب القرون المتعاقبة- حيث يعلم منها مدي اشتهار الكتاب، وهذا يفيدنا فيما نحن فيه باعتبار ملاحظة روايات الاعتقاد المذكورة فيه.

4- من خلال ملاحظة المجاميع الروائية في القرن التاسع والعاشر والحادي عشر، فانه يعلم منها ان لكل منها طريق خاص إلي الكتب الروائية الأم مع افتراق

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 54

اصحاب ومؤلفي المجاميع بين الامصار، ومنه يُعلم مدي اشتهار تلك الكتب الروائية وتوفرها بين المحدثين.

5- مراجعة النسخ المختلفة الخطية وغيرها وعدم الاكتفاء

بما هو مطبوع منها.

6- ملاحظة الحواشي والتعاليق والتملكات الحاصلة علي النسخ الخطية حيث يتبين من خلالها مدي معروفية النسخة وموثقيتها.

7- يجب علي المتتبع والباحث ان يلفق ويقرن بين الطرق المختلفة ويستعين بكتب مختلفة من اجل ان يحرز صحة رواية او صحة نسبة كتاب لمؤلفه، فمثلًا في العصور المختلفة إلي اصحاب المجاميع يستعان بكتب الذريعة، ورياض العلماء، واعيان الشيعة، وطبقات الشيعة وغيرها، ومن اصحاب المجاميع كالوسائل والبحار والوافي وتفسير البرهان وغيرها، ويستعان بما يذكره المؤلف في مشيخته او فهرسته او كتبه الاخري، وقد ترد طبقات مجهولة تقريباً وهي ما بين اصحاب الكتب الاربعة وما بعدهم فهذه يجب ان يتم التتبع والمقارنة والتلفيق بين كتب مختلفة.

ومثال ذلك رواية القطب الراوندي في باب ترجيح الروايات رواها صاحب الوسائل في باب 9 من ابواب صفات القاضي، ومشكلة هذه الرواية مع اهميتها ان صاحب الوسائل يرويها عن رسالة للقطب الراوندي في رسالة ألفها في احوال احاديث اصحابنا، ولم يرد ذكر هذه الرسالة في كلام مَن عدد وذكر مصنفات الراوندي، لا سيما تلميذه ابن شهر اشوب ومنتجب الدين، وقد توسل السيد الشهيد الصدر بطرق عدة للتصحيح هذه الرواية والتلفيق بين اسناد وطرق مختلفة «1».

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 55

ثالثاً- العلم الاجمالي بوجود الدس: … ص: 55

من المسائل المثارة في علم الحديث هو دعوي وجود علم اجمالي بحصول دس ووضع في الاحاديث والروايات، وقد ذكرها الشيخ الانصاري في كتاب الرسائل في حجية خبر الواحد. ومن القرائن علي دعوي حصول هذا الدس: -

- ما ورد من روايات عن الائمة بوجود كذابين:

منها: ما رواه الكشي في ترجمة عبد اللَّه بن سبأ عن الصادق عليه السلام: انا أهل بيت صديقون لا نخلو من كذاب يكذب علينا ويسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس،

كان رسول اللَّه صلي الله عليه و آله اصدق الناس لهجة واصدق البرية كلها وكان مسيلمة يكذب عليه «1».

- ما رواه في ترجمة المغيرة بن سعيد «2».

عن الرضا عليه السلام: ان ابا الخطاب كذب علي ابي عبد اللَّه عليه السلام لعن اللَّه أباالخطاب.

وعن ابي عبد اللَّه عليه السلام: كان المغيرة بن سعيد يتعمد الكذب علي أبي، ويأخذ كتب أصحابه، وكان اصحابه المستترون بأصحاب ابي يأخذون الكتب من اصحاب أبي. فيدفعونها إلي المغيرة لعنه اللَّه، فكان يدس فيها الكفر والزندقة ويسندها إلي أبي ثم يدفعها إلي اصحابه ويأمرهم ان يبثوها في الشيعة، فكلما كان في كتب أصحاب أبي من الغلو فذاك ما دسه المغيرة ابن سعيد في كتبهم.

وقد وصف الرضا عليه السلام وهب بن أبي وهب البختري: لقد كذب علي اللَّه وملائكته ورسله.

وهذه القرائن وغيرها تكون محققة لعلم إجمالي بوجود الدس والوضع والتزوير في الأخبارالتي بين أيدينا، وهذا العلم الاجمالي هو الذي دعا البعض إلي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 56

ادعاء انسداد باب العلم بالاحكام عن طريق الاحاديث.

لكن في قبال هذا العلم الإجمالي بالدس يوجد لدينا علم ويقين بما سعي اليه العلماء والمحدثون في ازالة هذا الدس وهو يوجب زوال وانحلال العلم الاول وهذا العلم الثاني متولد من قرائن:

1- ما ورد من عرض الكتب علي الائمة.

منها: ما رواه الكشي عن داود بن القاسم ان ابا جعفر الجعفري قال: ادخلت كتاب يوم وليله الذي الفه يونس بن عبد الرحمن علي ابي الحسن العسكري عليه السلام فنظر فيه وتصفحه كله، ثم قال: هذا ديني ودين ابائي وهو الحق كله «1».

ومنها ما رواه الكشي «2» في ترجمة الفضل بن شاذان من ان ابا محمد عليه السلام دخل عليه حامد بن محمد- الملقب

بغورا- الذي بعثه الفضل بن شاذان فلما اراد ان يخرج سقط منه كتاب في حضنه ملفوف برداء له، فتناوله عليه السلام ونظر فيه وكان الكتاب من تصنيف الفضل، وترحم عليه.

ومنها: ما ورد في عرض كتاب سليم بن قيس علي السجاد عليه السلام.

ومنها: عرض كتاب ظريف بن ناجح في الديات علي ابي عبد اللَّه عليه السلام والرضا عليه السلام «3».

ومنها: ما ذكره الحر العاملي «4» حول عرض كتب يونس بن عبد الرحمن، وكتب بني فضال، والفضل بن شاذان، وعبيد اللَّه بن علي الحلبي علي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 57

الصادق عليه السلام.

مضافاً إلي روايات كثيرة تثبت ان الاصحاب كانوا يعرضون كتبهم علي الائمة او نوابهم كالعرض علي الحسين بن روح، ويصححة الائمة او ينكرونه او يقبلونه.

2- ان اصحاب الكتب كانوا يدققون في الكتب والروايات ولا يودعونها إلا بعد ان يتيقنوا عدم الدس. كتشدد القميين في قبول الرواية، واخراجهم الضعاف او من يروي عن الضعاف من قم. وكاستثنائهم لروايات كتب الحديث كالذي استثنوه من نوادر محمد بن أحمد بن يحيي الاشعري وما نقل من تشدد محمد بن الحسن بن الوليد معروف. ومن يتصفح تراجم القميين يراه حافلًا بعملية تصفية وغربلة الأحاديث.

3- ما ورد في ترجمة العديد من الرواة من أنه لا يروي ولا يرسل إلا عن ثقة كابن ابي عمير وغيره.

4- اهتمام الاصحاب بكتب الفهارس والتي غرضها تصحيح السند إلي صاحب الكتاب، وقد بدأ تصنيف الفهارس من الحسن بن محبوب.

5- ما ورد في طريقة رواتهم حيث لا يعتمدون علي التلقي فقط بل يروون عمن سمع من الثقات اما من وجد في الكتب فقط فيتحرزون في الرواية عنه حتي ان علي بن الحسن بن فضال لم يرو كتب ابيه الحسن

عنه مع مقابلتها عليه، وانما يرويها عن اخويه احمد ومحمد عن أبيه، واعتذر عن ذلك بأنه يوم مقابلة الحديث عن ابيه كان صغير السن ليس له كثير معرفة بالحديث.

وملاحظة ديدنهم في كتب الامالي، وما ذكره الميرزا النوري من ان التهذيب وصل اليه وعليه توقيع تلامذة الشهيد الثاني وأنهم قرأوه عليه وكذا ما ذكره الفخر في الايضاح عن التهذيب، يظهر مدي عناية المحدثين في النقل والرواية.

6- ما هو منقول في كيفية تصنيف كتب الحديث فالكليني قضي عشرين سنة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 58

في التصنيف، وهذه الفترة انما احتاج اليها لانه كان يدقق في الحديث وينتقي من بين الاحاديث.

7- ما ذكره اصحاب المصنفات كما في الفقيه وكامل الزيارات من انهم لا يكتبون من الاحاديث إلا ما يعتقدون حجيته بينهم وبين اللَّه. وانهم رووه عن المشايخ الثقات وقرائتهم عليهم من الكتب المعتبرة.

مضافاً إلي أن خصوص القرائن المولّدة للعلم الإجمالي الأول هي بنفسها مذيلة بما يوجب انحلالها، فإن الأئمة عليهم السلام كانوا علي ترصّد ومراقبة لما يدلّسه أولئك الكذبوان، وذكروا ضوابط لمعرفة الحديث المدلس والموضوع من أولئك بحيث تمت عملية الغربلة في ذلك الحين. مضافاً إلي ضوابط روايات العرض علي الكتاب والسنة القطعية.

فيتحصل ان القرائن الكاشفة عن اهتمام الاصحاب في تنقيح الأخبار كثيرة جدا، مما يدعو إلي انحلال العلم الإجمالي الأول. وهذه الاحاديث التي بين دفتي كتب المتأخرين صادرة عن المعصومين عليهم السلام. بالاضافة إلي قرائن الدس المزعومة ما هو حاصل في مسائل معروفة معينة، وهذا إن ادي إلي الانسداد فانه يسده في بابه لا في كل الأبواب كما ذهب اليه البعض، فدائرة العلم الإجمالي الأول ليست واسعة حتي تشمل كل الروايات. ويؤدي إلي القول بالانسداد في جميع ابواب الفقه.

الامامة

الالهية(5)، ج 1، ص: 59

المبحث الثالث: حجية العقل … ص: 59

وينقسم العقل إلي قسمين نظري وعملي.

1- اما النظري فهو القوة الموجودة في الإنسان المجردة عن المادة والتي بواسطتها يحصل الادراك وهي تنطلق من رأس مال البديهيات والفطرة وهو معصوم فيها ومنها ينطلق إلي النظريات والتي لا يكون معصوما فيها. وتجدر الإشارة إنه في بديهياته لا يكون خالقاً لها وانما تصل اليه عن طريق اتصاله بالعوالم العالية عن طريق الالهام الفطري او الايحاء.

- والحقائق التي يقوم علي اثباتها العقل النظري غير متناهية بل متطورة فبعض الحقائق عجز عن اثباتها بالبرهان الفلاسفة المتقدمون كابن سينا بينما اثبتها المتأخرون نحو المعاد الجسماني فقد عجز عن ذلك ابن سينا بينما اثبتها صدر المتألهين مسترشداً بالدليل النقلي، وكذلك مسألة الرجعة فقد اثبتها من المتأخرين بالبرهان ابو الحسن الرفيعي «1»، فعدم اقامة السابقين الدليل العقلي علي مسألة لا يعني عدم امكان المتأخرين علي ذلك، فليس من سبق كُمّلي العقول حتي يمتنع علي المتأخرين اقامة البرهان بل العقول في سير تكاملي إذ الفحص والاسترشاد بالوحي يفتح ابواباً واسعة من العلوم والمعارف العقلية.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 60

- ما ثبت بالقطع من الوحي المحمدي يعتبره فلاسفة العهد الاسلامي وسطاً برهانيا وذلك لأن الشريعة الحقة ثبتت بالبرهان وكذلك ثبتت القدرة الغيبية بالبرهان، ومع ذلك لا يختلط علم الكلام بالفلسفة لأن الأول يعتمد التعبد الظني أيضا.

- ان كثيرا من روايات المعارف ذكر فيها الاستدلال العقلي فالعمل بها لا يكون من باب التعبد بالنقل بل يكون عقليا وبرهانيا أيضاً.

2- اما العقل العملي فقد عرفوه بانه القوة المدركة للقضايا التي ينبغي ان يقع العمل عليها.

ومنذ القدم بزغ الخلاف في ان العقل العملي والنظري قوتان مختلفتان ام انهما قوة واحدة والاختلاف بينهما من حيث المدركات

والصحيح انهما قوتان مختلفتان، وقد ذكر لذلك ادلة متعددة نذكر منها دليلان: -

1- ويتكون من مقدمتين الأولي ماقرره الفلاسفة في علم النفس ان التعرف علي قوي النفس انما يتم باختلاف اثارها فكل أثر يكون ويتم عن درجة معينة من درجات النفس.

والثانية. ان الفلاسفة قرروا في الحكمة العملية ان كمال الإنسان يكون عندما تنصاع قواه السفلية إلي القوة العقلية. أي ان القوة العقليه تدير القوة الوهمية والحسية والشهوية والغضبية، بمعني ان القوة العقلية تقوم بالتأثير في هذه القوي والهيمنة عليها. وهذا يعني ان القوة العاقلة لها عملان ادراك وتأثير وهو عمل وهو غير سنخ الادراك.

فهذا يدل- بضميمة المقدمة الأولي- علي انه توجد قوتان عقليتان نظرية وظيفتها الادراك وعملية وظيفتها العمل والتأثير.

2- ان آخر التحقيقات لدي صدر المتألهين أدت إلي القول بان التصور

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 61

والتصديق هما قسما العلم وكلاهما يعرفان بحصول الصورة لدي العقل والفرق بينهما ان التصور لا يوجب الاذعان والحكم بينما التصديق يوجب حصول الاذعان والحكم، ولذا فالحكم خارج عن التصديق وليس هو جزء القضية، وانما هو فعل تقوم به النفس فبعد تصور الموضوع والمحمول والنسبة تصل إلي الحكم وهو الدمج بين الموضوع والمحمول وهذا وظيفة العقل العملي الذي يقوم بالحكم والاذعان بما أدركه وتصوره العقل النظري وهذا فعل غير الادراك. تقوم به قوة غير القوة التي وظيفتها الادراك.

ومن هنا نقول ان العقل له امر ونهي تكويني اي بعث وزجر للقوي الاخري الكلية.

* بناء علي هذا التفكيك بين القوتين تتضح لنا حقيقة العقل النظري فهو يدرك نمطين من القضايا احدهما لا يرتبط بالعمل كالقول بان الوجود المادي متناهي.

والاخري ترتبط بالعمل وهذا القسم من الادراكات يتناوله العقل العملي بعدئذ ويؤثر علي القوي المادون لتنصاع

اليها فهو الرابط بين العقل النظري والقوي السفلية، وكمال العقل العملي هو الانصياع إلي ادراكات العقل النظري الصادقه.

* بالبيان السابق اتضحت النقاط التي كنا اثرناها في مقدمة الفصل الأول من ان معني الايمان والتسليم هو الاذعان وهو وظيفة العقل العملي وإنه ليس ادراكاً صرفا. فهناك ثلاث مراحل فحص و ادراك واذعان وايمان.

* قال العرفاء ان الإنسان في حالة صعود وهبوط دائمين، ومقصودهم من ذلك ان الإنسان في حركاته اليومية وطريقة تفكيره ينتقل في درجات وجودية مختلفة ادناها هي المتصلة بعالم المادة واعلاها هي المجردة تجردا تاما، فيبدأ من الدرجات الحسية وهي المجردة عن المادة دون احكام المادة، إلي الخيال وهي مجردة عن المادة لا عن المقدار ولا ترتبط بالجزئي الحقيقي كالحسي، إلي الوهم

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 62

وهو ادراك المعاني الخالية عن المقدار كالحب والبغض وهي مع تجردها عن المادة وأحكامها إلا انها متعلقة ومضافة إلي جزئي معين. إلي العقل ذي التجرد التام عن المادة واحكامه، وهذه كلها درجات وجودية في الإنسان.

والإنسان المهذب والكامل في صلاته يتوجه بقلبه إلي ما فوق عالم العقل حيث الصقع الربوبي والرؤية القلبية وهذا نمط من الادراك لكنه ليس بالقوة العاقلة.

ويطلق عليه الادراك القلبي وهو ذو درجات أربع سر وخفي وأخفي وهي ليست من سنخ الادراكات الحصولية بل ادراكات حضورية، وهذا استدراك لتوضيح درجات الإنسان الوجودية ومعرفة النفس البشرية وسوف يأتي مزيد بيان للعلاقة والارتباط بين هذه المراتب.

* من النقاط السابقة يتضح لنا تعريفاً آخر للعقل العملي وذلك لاننا قلنا ان مهمته الاساسية هي الاذعان والحكم وهذا قد يكون بقضايا ترتبط بالعمل وحينئذ يترتب علي الحكم والاذعان بها تأثر القوي السفلية، وقد يكون بالحكم والاذعان بقضايا لا ترتبط بالعمل كحدوث العالم

وعدم تناهيه.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 63

التنبية الأول: الحسن والقبح العقليان: … ص: 63

اشارة

وهذه المسألة من امهات مسائل علم الفلسفة وعلم الكلام والتي جري البحث عنها منذ القدم في بداية عهد الفلسفة الاسلامية وقبلها الفلسفات الهندية الفهلوية واليونانية.

وقد ذهب الاشاعرة إلي كونهما اعتباريين بجعل العقلاء وأيدهم في ذلك بعض الإمامية وذهب كثير منهم إلي القول بعقليتهما وتكوينيتهما، ويبتني علي هذه المسألة ثمرات عدة اذ ان اغلب البراهين تعود إلي حسن العدول وقبح الظلم فاذا كان الحسن والقبح اعتباريين فان الاستدلالات سوف تكون خطابية لا برهانية.

وتظهر خطورة المسألة اكثر حيث يذهب كثير من المتأخرين إلي اعتبارها من المشهورات التي لا واقع لها وراء تطابق آراء العقلاء، وينتج عن ذلك اختلال البنية التحتية للشريعة وذلك لأن المتكلمين يقولون أن الاحكام الشرعية ألطاف في الاحكام العقلية، أي ان العقل لو علم بملاكات الاحكام الشرعية لحكم بها، فهي موضوعات لطف في الكمال يحكم بها العقل لو اطلع عليها. فاذا كانت البنية التحتية للشريعة هي الأحكام العقلية وهي مسألة الحسن والقبح وهي مسألة اعتبارية بيد المعتبر وتتبع نظره، فينتج من ذلك تغيير الاحكام تبعا لتغيير الافكار وهو ما يُعرف حديثا بنظرية تغير المعرفة الدينية أو بسط وقبض الشريعة فلا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 64

تتصف الشريعة حينئذ بالثبات.

ولكن بحمد للَّه ومنّه هذا الاشكال وغيره مدفوع حتي علي القول باعتبارية الحسن والقبح. كما سوف يأتي بيانه.

من الناحية التاريخية المسألة مرت بمراحل متعددة: -

1- ان الفلاسفة القدمي قبل الاسلام سواء في الهندية او البهلوية او الحرانية أو اليونانية كلهم قائلون بعقلية المسألة، ومن المسلمين مَن اشار إلي عقليتهما الفارابي في كتابه المنطقيات.

2- ان ابن سينا الذي قام بمهمة ترجمة كتب القدماء عدل عن هذا الرأي ولم يبين عدوله ولم يشر اليه، وهكذا

أثر في مَن أتي مِن بعده حيث تعاملوا مع كتبه علي انها ترجمة امينة لكتب القوم. وقد تأثر هو في ذلك بما ذكره ابو الحسن الاشعري في التفكيك بين معاني الحسن والقبح.

وابن سينا تتضارب كلماته فهو في منطق الشفاء والاشارات (يمثل للمشهورات بالحسن والقبح وهي الاراء المحمودة التي تطابقت عليها آراء العقلاء)، وفي مقام اخر في النمط الثالث من الاشارات يقول: «ان احكام العقل العملي يستعين بالنظري وقضاياه اما اوليات او مشهورات»، وكذلك عبارات أخري كما في الهيات الشفاء في مسألة استجابة الدعاء يذكر فيها ان قضايا الحسن والقبح قضايا حقة يمكن اقامة البرهان عليها.

3- بعض المتأخرين كالمحقق اللاهيجي في كتابة «گوهر مراد» والسبزواري في شرح الاسماء الحسني ذهب إلي انها تكوينية ولا ينافي كونها مشهورة من جهة أخري.

4- المحقق الاصفهاني ومن بعده ذهب إلي أنها اعتبارية مطلقا ولا يمكن اقامة البرهان عليها وهذا هو المذهب السائد إلي الان.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 65

فمن خلال هذا السبر التاريخي نلاحظ كيف تحولت هذه القضية من عقلية تكوينية إلي اعتبارية جعلية.

اما الاسباب التي دعت ابن سينا إلي القول بالاعتبارية: -

1- المغالطة التي ذكرها ابو الحسن الاشعري بالتفكيك بين معاني الحسن والقبح وجعل بعض المعاني تكوينية، اما معني المدح والذم فليس كذلك، وذلك لأنه لو كان بديهيا لأذعن به الجميع فمن ثَمّ أدرجه في المشهورات. ولم يكن هو اول من ذكر هذه المغالطة بل ان السوفسطائيين اليونانيين معاصرو سقراط قالوا بهذه المقالة وردهم سقراط في مؤلفاته

2- تعريفه للعقل العملي حيث إنه قد عرفه بتعريف هو عين العقل النظري، والاختلاف بينهما في المدرَك وأن العقل مطلقا شأنه الادراك وليس من شأنه التأثير والانفعال، فكيف يمكن تصور ان العقل له تدخل

في اعمال الافعال النفسانية! بل العمليات ليست إلا تأديبات وعادات، وهذا المبني علي خلاف مبني الفلاسفة المتقدمين كالفاربي وتقسيمهم الحكمة إلي نظرية وعملية.

3- غض ابن سينا النظر عن أحد قسمي البرهان الذين ذكرهما ارسطو وهو البرهان العياني او الشهودي ويمتاز هذا البرهان بأنه يقام علي اثبات الجزئيات الحقيقية، واكتفي بالقسم الأول المعروف في باب البرهان وهو مختص بالكليات لذا يشترط فيه الابدية وعدم التغيير.

ولابأس بذكر نبذة عن هذا البرهان: -

هناك قوة في الإنسان تسمي بقوة الفطنة وهذه قوة تُرَوي أعمال الإنسان وتُراعي صدور الارادة علي طبق الحكمة، فهي قوة تكون محيطة باحوال الأمور الواقعية الجزئية فتوجب انطباق الكليات علي الجزئيات والوصول إلي الكمال المنشود.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 66

توضيح ذلك:

ان ادراك القضايا حتي العملية لايكفي للوصول إلي الكمال، وانما هذا هو كمال لقوة خاصة وهي العقل النظري، وكمال العقل العملي والقوي السفلي يكون بالانصياع إلي القوة العملية، ولكن هذا وحده لا يكفي بل يجب ان تكون هناك آلة وأداة تميز حال الجزئيات الحقيقية، لا سيما في الأمور الاجتماعية، وعدم ادراك الواقع الجزئي علي ما هو عليه يؤثر في عدم الوصول للكمال المنشود. لأن تنزل القضايا الكلية إلي الجزئية لا يتم إلا بأداة قادرة علي استكشاف حال الجزئي علي ما هو عليه وتطبيق الكلي عليه فيكون تسلسل الادراكات بالنحو التالي:

*- مرحلة ادراك الكمال في الاعمال والبرهان عليها وهذا يقوم به.

العقل النظري- ثم مرحلة الاذعان في العقل العملي والتأثير علي القوي السفلي- ثم مرحلة تشخيص الأمور الجزئية بالدقة وتطبيق تلك الكليات عليها.

وشبيه هذا التسديد عند التنزل من الاعلي إلي الاسفل قوله تعالي: «بِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبالْحَقِّ نَزَلَ» فهو اشارة إلي السداد والعصمة في مراحل التنزيل، حيث كونه حقا لوحده لا

يكفي بل يجب ان يكون السداد في النزول، وفي النفس الانسانية الادراك والاذعان وحده غير كاف بل يجب ان يحصل التسديد في التنفيذ علي الأمور الخارجية الجزئية وهذا لا يكون إلا بقوة الفطنة. وهي قوة فوق القوي المادون (الغضبيية والعمّالة والشهوية) فهي تستخدم هذه القوي للوصول إلي الجزئي الحقيقي المندرج تحت الاجناس العالية، فتصدر بعد ذلك اوامرها في عالم النفس لتولد الشوق والارادة وصدور الفعل بعد ذلك.

وقوة الفطنة هي التي تقوم بالبرهان العياني الذي يحتاجه الإنسان في تطبيق الكليات علي الجزئيات، والكمال في الواقعة الجزئية مبتنٍ علي هذا البرهان

فتلخص الفارق بين البرهان العياني والبرهان النظري

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 67

1- ان البرهان النظري هو مختص بالكليات، والعياني للجزئيات

2- ان النظري يتوسط العقل النظري والعملي، اما العياني فالنظري والعملي والفطنة.

اما كيف أدي الغفلة عن هذا القسم من البرهان إلي انكار الحسن والقبح العقلي فبيانه:

انه لو اذعنا بلزوم كون الاعمال برهانية فلا بد من القول بارتكاز الجزئيات علي انها قضايا برهانية والذي يمكنه البرهنة علي ان الجزيئات حسنة وحكيمة اما الحسن والقبح او التشريع، اي ادراك حسن وكمال الافعال الجزئية يكون باحد هذين، والاحكام الشرعية ألطاف في الاحكام العقلية.

وبتعبير اخر: ان البرهان العياني يبرهن علي ان العمل الجزئي علي وفق الحكمة والكمال، ولا يمكن البرهنة علي كل واقعة جزئية إلا بتوسط استناد البرهان إلي قضايا يقينية لا قضايا مشهورة لا أساس لها إلا الاعتبار. فحينئذ يحصل الالتفات إلي أن قضايا العقل العملي والحسن والقبح تكوينية لا مشهورة.

- وحينئذ نقول ان التوحيد النظري وحده من دون تنزله إلي توحيد عملي هو توحيد أجوف، ولا يحصل هذا التنزل من التوحيد النظري إلي التوحيد في الطاعة إلا بالبرهان العياني وقوة الفطنة.

ومن

هنا أن التوحيد والاعتقاد بالنبوة من دون الولاية لا يقبل: «اليوم أكملت لكم دينكم ورضيت لكم الإسلام ديناً» وسيأتي بسط الكلام فيه.

فهذه الأمور الثلاثة هي التي سببت الخلط الحاصل لدي ابن سينا وعليه ابتني اشتباه المتأخرين.

بعد اتضاح هذا الخلط التاريخي في مسألة القبح والحسن نعرض للأدلة التي اقيمت علي اعتباريتهما ومناقشتها ثم تعرض الي الادلة التي ذكرها صدر

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 68

المتألهين.

أولًا: ادلة اعتبارية الحسن والقبح: -

1- اختلاف العقلاء في تحسين بعض الأمور وتقبيحها باختلاف الازمنة والأمكنة، فهذا يعني عدم وجود واقع تكويني ثابت بحيث يبقي الشي ء حسنا دائما أو قبيحا دائما.

2- نفس وقوع التشاجر بين العلماء حول اعتباريتهما او عقليتهما.

3- يذكرون في اثبات النفس أن الإنسان لو خلق من دون اعضاء أصلا فإنه سوف يدرك ذاته وهذا يدل علي مغايرة الذات للبدن، وهكذا فيما نحن فيه فلو خلق الإنسان وحيدا في هذا العالم ولم يؤدب علي العادات الحسنة ولم يلاقِ أي انسان آخر، فإنه سوف لن يحكم بحسن العدل وقبح الظلم فهذا يدل علي أنهما ليسا تكوينين بل هما امران جعليان.

4- ان العقلاء انما يحكمون بهذا الحكم من اجل مصلحة اجتماعهم ونظامهم، فلو انعدم الاجتماع والنظام لما حكم العقلاء بذلك. وبعبارة أخري أنّ هذه الأحكام للوصول لإغراض أخري بواسطة هذا الاعتبار.

5- ما ذكره المحقق الاصفهاني: - ان الفعل المقتضي للمدح والذم علي أحد نحوين إما بنحو اقتضاء السبب لمسببه والمقتضي لمقتضاه وإما بنحو اقتضاء الغاية لذي الغاية.

اما السببية والمسببية فهي تكوينية لكنها ليست ناشئة عن النزعة العقلية وقوي الإنسان العقلية، بل هي ناشئة بداوعي حيوانية كالانتقام والتشفي والغيظ. اما الغاية وذي الغاية فانها اذا ثبتت فهي تعني وتدل علي الاعتبارية، لأن الغاية لهيئة الاجتماع

الاعتبارية، والمدح والذم موجب لما فيه صلاح العامة فهو اعتباري محض.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 69

6- ما ذكره ابن سينا والاصفهاني: ان الحسن والقبح لو كانا عقليين تكوينيين لما خرج عن احدي البديهيات الست وهي ليست بواحدة منها. فيبطل كونها من البديهيات.

7- ان المدح والذم يعده العقلاء من الانشائيات، والانشاء من سنخ الاعتباريات.

8- ما ذكره الشهيد الصدر ان تعريف العدل هو اعطاء كل ذي حق حقه، والظلم هو منع الحق، والحق امر اعتباري قانوني فكذلك العدل والظلم، ومن هذا القبيل ما ذكره العلامة الطباطبائي من عروض الحسن والقبح علي الأمور الاعتبارية كالتوقير والاحترام.

و هذه الأدلة كلها مردودة و قبل ان نستعرضها نتعرض لما ذكره الاشعري بالتفكيك بين معاني الحسن والقبح و هو كما ذكرنا احد الاسباب التي ادت إلي مغالطة ابن سينا.

* اننا يجب ان نلاحظ الحد الماهوي للمدح و الذم، فالمدح هو القضية المتكفلة لحمل كمال معين علي موضوع معين والذم بخلافه، وعليه يعلم انه يجب ان يكون الممدوح آت بكمالٍ فيكون المدح هو التوصيف بالكمال، والذم هو التوصيف بالنقص، ولا يمكن ان يُمدح بغير كمال او يذم بغير نقص. فيجب ان يكون هناك واقع يطابقه المدح والذم.

وبتعبير أخر: فان وظيفة المدح هو الحكاية الحقيقية عن الكمال اي المحمول الذهني الحاكي عن الكمال الحقيقي الخارجي، والذم كذلك، فالا رتباط بينهما هو الارتباط بين الحاكي والمحكي عنهما، وهما متحدان هوية ومختلفان وجوداً، فالكمال الحقيقي وجود خارجي والمدح وجود ذهني.

وحكاية وجود عن وجود أمر متسالم عليه، وأكمل صورة هو حكاية

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 70

الموجودات عن وجود الخالق اذ انها آيات عظمته وقدرته وكلما كان الوجود أكمل فحكايته عن الوجود الالهي اعظم وأتم. وقد قال عليه السلام: «ما

للَّه آية أكبر منّي» باعتبار ان الكمالات التي وصل اليها عليه السلام (بغير وجوده البدني) حاكية عن وجود الحق اكثر من حكاية السماوات والأرضين. فالوجود الخارجي يكون حاكيا عن وجود خارجي آخر أكمل وأتم من الأول.

فالحكاية ليست مقتصرة علي الوجود الذهني. بل ان الافعال القبيحة الصادرة من الفاعل البشري المختار حاكية عن الهيئات الرديئة في النفس.

* ثم إنه لا مضايقة في ان يخلق الإنسان وجودات اعتبارية للامور الخارجية العينية وذلك لغرض الاحتياج إلي هذا الاعتبار من اجل الاجتماع والتفاهم، وهذا الوجود الاعتباري لا يلغي الوجود التكويني الخارجي العيني، ومثاله الواضح الوجود اللفظي والوجود الكتبي فهما وجوادن اعتباريان دعت اليهما الحاجة وهذان الوجودان الاعتباريان يكونان حاكيين عن الوجود العيني الخارجي. وقد تدعو الحاجة إلي اعتبار وجودات أخري حاكية عن الوجود الغيبي

وهكذا نستطيع ملاحظة الهجاء الوارد في القرآن فهو وان كان انشائيا لكنه حاك عن امور تكوينية وواقع خارجي وانما اظهره القرآن بانشاء الهجاء لاعلام الآخرين بما حصل في للأقوام الآخرين.

* ثم ان الشجار في الأمر البديهي لا يؤدي إلي عدم البداهة. نوضح ذلك في علم المنطق إنه قد تعتري الإنسان أسباب تؤدي إلي انكار البديهة كالمغالطة والشبهة في قبال البديهة، وهذا الانكار لا يؤدي إلي انكار بديهية القضية.

وقد يكون الانكار في بعض الاحيان نتيجة حالة مرضية تصيب القوة العاقلة حيث لاينصاع العقل العملي لمدركات العقل النظري، فيصاب بحالة التشكيك الدائم كما وقع للرازي. فهذا كله لا يؤدي إلي عدم بداهة القضية.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 71

هذا كله جواب إجمالي عن ادلة اعتبارية الحسن والقبح، أما الجواب التفصيلي.

1- ان اختلاف العقلاء في التحسين والتقبيح حسب اختلاف الازمنة والامكنة إما أن يكون ناشئا من اختلاف التشخيص أي عدم اصابة الكمال

الواقعي والنقص الواقعي وذلك لاختلاف الافهام والعقول. واما ان يكون ناشئا من اختلاف الظروف البيئية المختلفة كالاختلاف بين الاماكن الباردة والحارة فانه في الاولي يقبح لبس الملابس الخفيفة بخلاف الثانية.

2- اما وقوع التشاجر والخلاف بين العلماء فيُعلم جوابه مما مر.

3- اما ما ذكروه من ان الإنسان لو خلق وحيدا او لم يؤدب لما حكم بحسن أو قبح، فإن هذا كالمصادرة علي المطلوب، بل أن العقل يحكم بحسن العدل وقبح الظلم ولولم يكن هناك اجتماع، ولو لم يؤدب فان الظلم كما سوف نبين هو ممانعة شخص لكمال آخر، فلو عرف العقل بذلك التعريف وفكّر به فإنه سوف يحكم لا محالة بقبحه.

وابن سينا نفسه وقع في التناقض حيث قال في الهيات الشفاء في مسألة استحابة الدعاء والتضرع والتوسل أن اكثر ما في ايدي الناس من الحسن والقبح حق يقام علية البرهان.

4- اما ما ذكره المحقق الاصفهاني من ان سببية الفعل للمدح والذم تكون من مناشئ حيوانية، فهو غير تام وذلك لأن للعقل ملائمات ومنافرات، وبالتالي يمكن أن يكون المنشأ هو داع عقلي محض، ويكون العقل سبباً للمدح والذم وهذا واضح في الكُمّلين من البشر حيث نلاحظ ان انفعالاتهم ومدحهم وذمهم ليس ناشئاً من دواع حيوانية، وذلك لأن قواهم كلها منصاعة تماما للقوي العقلية فتكون كل تصرفاتهم منبعثة عن العقل، فعندما يذمون ظالما مثلا لا يكون الذم بداعي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 72

الغريزة الحيوانية. ويمكن ان يكون تعبير القرآن عن موسي: «وَلَمّا سَكَتَ عَنْ مُوسي الغَضَبُ» اشارةً إلي ذلك، اذ ان النطق والسكوت من خصائص الإنسان بخلاف الحركة والسكون العامة لمطلق الحيوان، فقد استخدم تعبير السكوت للدلالة علي أن غضبه لم يكن ناشئا من القوي الحيوانية بل من القوي

العاقلة وسره هو ما ذكرناه.

وهذا التحليل هو الذي يفسر لنا كيف أن الإنسان الكامل يكون رضاه رضا اللَّه وغضبه غضب اللَّه، لأن قواه كلها منصاعة لقواه العقلية التي هي معصومة في ما تتلقاه من مدركات عن العوالم العلوية من مشيئة اللَّه.

ومن الجهة الأخري أي عندما نُخبر بأن رضا اللَّه في رضا فاطمة «ان اللَّه يرضي لرضا فاطمة ويغضب لغضبها» فانّ هذا يعني عصمتها لأن هذا يعني سلامة النفس والانقياد إلي القوة العاقلة التي هي في اختيار مشيئة اللَّه، والتعبير المزبور إنما يطلق ويصدق عندما يكون العبد تمام مظهر الطاعة والتبعية لربه.

5- اما اشكال الشهيد الصدر فجوابه بمخالفته لتعريف الظلم والعدل، فان التعريف الصحيح للعدل هو وصول كل موجود إلي كماله المطلوب من دون اعاقة وممانعة موجود آخر، والظلم هو مما نعة موجود من وصول موجود آخر لكماله.

فالعدالة الاجتماعية مثلًا هي وصول كل افراد المجتمع في حسن نظام المجتمع إلي كمالاته الممكنة من دون اعاقة الافراد الاخرين. أما عندما تصل طبقة لكمالها علي حساب طبقة أخري فانه يكون من الظلم الاجتماعي، والتشريع انما يكون عادلا لأنه يكون كاشفا عن الكمالات المخبوءة في الأفعال والتي بها يصل الإنسان لكمالاته.

فالعدل كمال والظلم نقص، فيكون توصيف العدل والظلم بالحسن والقبح تكوينيا لا اعتباريا.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 73

اما الاحترام والتعظيم فنفس الاحترام والتعظيم ليس بشي ء، بل المهم هو الداعي للاحترام والداعي للتعظيم لما فيه من ترويض النفس وهو في الواقع تقديس واحترام للكمال المخبوء في ذلك الشخص. فالتقديس لا للبدن بل للصفات العالية، ومن هنا نقول ان التقديس اذا كان للحقائق والكمالات فهو دعوة نحوهما وسير حثيث اتجاههما.

وبهذا يختلف عن تقديس الاباطيل والخرافات فهذه قدسية باطلة، وبتعبير آخر يمكن القول

ان القدسية والتقديس هو خضوع قوي الإنسان السفلي إلي قواه العقلية العملية، فاذا كانت تلك القوي العملية مصابة بحالة مرضية وتنصاع للاباطيل فتكون قدسية مذمومة، أما لو كانت القوة العملية منصاعة للكمالات العالية والتي بها تكبح جماح القوي المادون فإنها قدسية محمودة.

6- أما ما ذكر من ان المدح والذم من الانشائيات. فقد ذكرنا ان الانشاء لا يصدر إلا من داعي، وهذا الداعي أمر تكويني، فالهجاء هو اظهار للنقص التكويني والمدح ابراز للكمال الخارجي الحقيقي. والبلاغيون قد اذعنوا بان اقسام الانشاء هي عناوين لماهيات الدواعي.

فتبين من كل ما سبق ان الحسن والقبح امران تكوينيان واقعيان وليسا اعتباريين كما ذهب اليه جلّ المتأخرين.

أدلة واقعية الحسن والقبح: … ص: 73
اشارة

ونلفت أخيرا إلي براهين أقامها صدر المتألهين تثبت تكوينية الحسن والقبح ذكرها بعد ان كان قد انكر واقعيتهما عندما تعرض لهما ابتداءً، وهذا يلفت إلي الخلط والتردد الحاصل لدي مَن أتي بعد ابن سينا، بسبب الاضطراب الحاصل في كلماته والبراهين التي ذكرها للدلالة علي واقعية الحسن والقبح فيه ثلاث: -

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 74

1- العناية الالهية: … ص: 74

اي أن للحق تعالي عناية بخلقه والقاعدة الفلسفية المثبتة هنا هي ان علمه بالنظام الاتم والاكمل ورضاه به لهذا النظام. توضيح ذلك:

ان الباري يكون علي اكمل واشرف واعلي ما يمكن ان يكون في مقام ذاته، فالصادر من الحق يكون كذلك حيث ان ايات ومخلوقات اللَّه تدل علي صفة الكمال في الباري. والنظام الذاتي يكون علة للنظام الخلقي

وافاضة الكمال علي ما دون هو من العناية وهكذا يستفيد الملا صدرا أنّ علم الباري هو منشأ افاضة الكمالات للمخلوقات، وصفة العناية هذه هي التي تفيض ما يعرف بالنظام الأحسن والأكمل حيث يكون كل عالم من العوالم بنحو يؤدي إلي تحقيق الكمالات الوجودية بنحو اكثر وأرفع فعناية الحق توصل تلك الموجودات الفاعلة بالارادة إلي أكمل ما يمكن أن تكون عليه، ومن هنا يستدل علي ضرورة التشريع والتقنين الالهي حيث إنه يرشد الفاعل الارادي إلي طريق هذا الكمال.

ومؤدّي هذه القاعدة (العناية) يمكن ان يستبدل بقاعدة اللطف المعروفه إلا ان الاولي الحاكم بها هو العقل النظري والثانية الحاكم بها هو العقل العملي.

ونعود فنقول ان الافعال يجب ان تؤدي إلي الكمال المطلوب، وهذا يقتضي ان يكون لهذه الافعال في الواقع كمال مُعين (العلم تابع للمعلوم الذاتي وهو النظام الكمالي الذاتي، فالعلم (فعله الصادر) يتحدد طبقاً للكمال الذي في المعلوم وهذا يعني ان في الأفعال الإرادية في حد نفسها

كمال ونقص وأن الخير والشر نابع من واقع الفعل الإرادي، وأن الحكم التشريعي الإلهي علي طبق ما في الأفعال من خير وشر، فهو كاشف عما هي عليه في الواقع، لا كما يقوله الاشعري ان واقع الفعل تابع لنمط التشريع ولا هوية له في نفسه، أو لك أن تقول ما قدمناه من أن حقيقة المدح الاخبار عن الكمال، والذم الاخبار عن النقص فللافعال الإرادية في نفسها مدح وذم أي حسن وقبح.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 75

2- تجسم الاعمال: … ص: 75

وهي قاعدة مهمة نقحها بوضوح فائق فلاسفة الامامية مسترشدين بالروايات الواردة في ذلك ومؤداها ان تكرار الفعل يولد ملكات اما حسنة نورانية او ملكات رديئة، وكلما ازدادت ترسخت في النفس اكثر حتي تصبح جوهرية، ومن هنا قالوا ان الإنسان ليس هو النوع الاخير بل يتلبس بعد الصورة الإنسانية بصورة وفعل اما ملكي أو شيطاني أو بهيمي أو سبعي. وهكذا وفي كل نوع هناك شعب أخري.

بيان ذلك:

ان الإنسان في سعيه نحو الكمال انما يبتغي ان يحصل علي ما له ثبات، الكمال العرضي يكون في معرض الزوال فتعود حاله إلي ما كانت عليه قبل تحصيله.

فهو يسعي لأن يحصل علي كمال ذاتي يكون بنحو جوهري لا يكون معرضا للزوال، وبهذا يتكامل ويصعد في سُلّم الكمالات ويثبت عند كل درجة، ويحصل هذا التغيير الجوهري عن طريق الافعال المؤدية للكمال حيث يحدث الفعل- عند تكراره والمواظبة عليه- حالات في النفس تنتقل إلي هيئات ثم تتنقل إلي ملكات فتشتد حتي تصل وتصبح فصولا جوهرية.

بالاضافة إلي ذلك فإن البدن يكون بشكل يتناسب مع القوة التي يتملكها الإنسان وغيره، فمثلًا في الذئب الهيئة الجسمانية لها تناسب مع القوة التي يمتلكها، ودلت الروايات علي ان الاجسام الاخروية هيئتها تابعة للفصول

الجوهرية التي يتكامل بها الإنسان أو يتناقص.

اما تطبيق القاعدة علي ما نحن فيه، فهو أن موارد الحكم بالحسن هي نفسها في موارد الفضائل والكمالات، حيث يتبين انها توجب تجسم تلك الأعمال بصورة نورانية، وموارد الحكم بالقبح هي نفسها موارد النقص التي تتجسم بصور رديئة ظلمانية، فيظهر من ذلك ان الحكم بالحسن والقبح ليس اعتبارياً بل امراً عقلي له من مناشي ء تكوينية.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 76

3- قاعدة الغاية: … ص: 76

وهذه قاعدة تبحث في ابحاث العلل، وهي تعني وجود ارتباط بين صدور الفعل وغايته، بمعني انّ تصور النتيجة المترتبة علي الفعل القصدي تكون دافعاً لرغبته للقيام بذلك الفعل، فهناك ارتباط بين الوجود العلمي للغاية وفاعلية الفاعل، وهناك ارتباط بين الوجود الخارجي للفعل والتوصل للغاية، فالوجود العلمي هو في سلسلة العلل المتقدمة علي الفعل والثاني متأخرة عن وجود الفعل.

وقد وردت هذه القاعدة في بيانات عدة «الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّي وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَي» فهناك تقدير مقدّم علي الخلق وهداية لهم بعد الخلق، فالمخلوقات في سير تكاملي وهو الغاية التي من اجلها خلقت، وهذا البرهان بهذا النحو يختلف عن برهان النظم وان اقتربا من بعضهما. وانكار العلة الغائية يساوق انكار العلة الفاعلية.

اما تطبيق ذلك علي الحسن والقبح فبيانه ان الفاعل الإرادي لا يفعل فعلًا إلا لأجل غاية وهذه الغاية هي تحقيق الكمال، فالكمال يتحقق بهذا الفعل وهذه هي الموارد التي يحكم بها العقل بالحسن، فالحسن راجع لكمالٍ يتحقق بواسطة هذا الفعل فهو أمر واقعي، والكمال المقصود هو كمال للقوة العاقلة وما فوقها من درجات النفس وتكون موجبة للقرب الالهي، اما في موارد القبح فان الكمال الذي تحققه بالافعال هي كمالات للقوي الشهوانية والغضبية.

فدعوي الاشعري ان لا حسن ولا قبح واقعي في الافعال يساوق انكار العلة

الغائية، وانكار العلة الغائية يؤدي إلي انكار العلة الفاعلية.

فتلخص من مجمل البحث ان الحسن والقبح العقليين امران تكوينيان واقعيان بالادلة المثبتة سواء علي مبني المتقدمين كابن سينا او علي مبني صدر المتألهين.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 77

التنبيه الثاني: الخطأ في الفكر البشري … ص: 77

ومن الأمور المهمة التي يجب الإشارة إليها هو في كيفية نشأة الخطأ في الفكر البشري وقد اثار هذا التساؤل كثير من الفلاسفة والمناطقة واجابوا باجابات متعددة.

منها: ان علوم المنطق تتكفل عصمة الفكر عن الخطأ، ويبقي علي عاتق الإنسان مراعاته عند التطبيق، فالخطأ الناشي ء هو من سوء التطبيق.

ومنها: - أن الخطأ ينشأ بسبب خطأ نفس مواد الأقيسة حيث ان بعضها نظري، وكلما ابتعدت القضايا عن البداهة زادت نسبة الخطأ.

ومنها: - ان الخطأ هو نتيجة عدم توازن في افعال النفس فقد ذكرنا سابقا ان الاذعان والجزم الحاصل لدي النفس هو غير النتيجة، وان وظيفة العقل النظري هو الادراك، فالخلل يحصل عندما يحصل تجزم واذعان غير متناسب مع درجة الادراك الحاصلة لدي العقل النظري.

وقد سعي الفلاسفة والمفكرون لازالة هذا الخطأ أو علي الأقل تقليل نسبة الخطأ. ومن تلك المحاولات ما دعي اليه السيد الشهيد الصدر رحمه الله باعتماد منهج الاستقراء وتراكم الاحتمالات في الفكر البشري بدلا من القياس الارسطي، والاستقراء طريقة رياضية عملية. حيث تتضاءل احتمالات الخلاف حتي تصل إلي نسبة قليلة جداً بحيث تقوم النفس بالغاء احتمال الخلاف، وتتعامل مع النتيجة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 78

معاملة اليقين الصحيح التام وتكون النتيجة حينئذ يقينية برهانية.

ولنا علي هذه النظرية تعليق لا يتصل في جوهرها فهي متينة وتامة لكن: -

1- ان ما توصل اليه السيد الشهيد بحساب الاحتمال وكيفية تضاءله ومن كون النتيجة الحاصلة من الاستقراء برهانية، وهذا خطأ اذ ان النتيجة ليست برهانية بل

العمل بهذه النتيجة برهاني، بمعني أنه اقام البرهان علي تعين العمل بهذه النتيجة، كما يقوم البرهان في علم الاصول عبر دليل الانسداد علي وجوب العمل بالظن، وبعبارة أخري النتيجة ليست يقينية وان كان العمل بها لابد منه بالدليل اليقيني.

2- لقد ذكر السيد ان بامكان استخدام هذه النظرية لاثبات الغيبيات وما وراء الطبيعة وهذا غير تام لأن هذه الطريقة تظل غير يقينية ونحن لا نحتاج اليها في اثبات الغيب اذ لدينا كثير من البراهين كبرهان الصديقين التي تورث اليقين.

3- ان احتمال الخلاف يظل قائماً وجزم النفس علي خلافه- لانه قليل جداً- لا ينفيه من اساسه بل يبقي قائما ولا يتحول إلي يقين.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 79

التنبيه الثالث: الثابت والمتغير … ص: 79

اشارة

من المسائل المهمة التي تبتني علي مسألة الحسن والقبح هي ثبات التشريع وتغيره. فبناء علي اعتبارية الحسن والقبح وإنه لا واقع حقيقي وراء تطابق آراء العقلاء فإن الحسن والقبح يتغير بتغير الزمان والمكان وبالتالي لا يوجد ما هو ثابت في التشريع بل هو متغير. وبناء علي انهما امران واقعيان فالنتيجة خلافها.

- وقد يصاغ هذا البحث بصياغة أخري وهي ان ختم النبوة يعني أن لا حاجة إلي النبوة حتي يوم القيامة، وذلك لأن العقول تكون قد تكاملت بواسطة تلك النبوة الخاتمة ولا تحتاج إلي رعاية نبي ولا وصي ولاهدايتهما.

- وقد تصاغ بنحو ثالث، كما ذكره العلامة الطباطبائي وخلاصته ان الارادة تنبعث من جهات اعتبارية لا حقيقية، وحسب تغير هذا الاعتبار تتغير وجهة سير هذا الإنسان.

أما جواب هذه الصياغات:

أولًا: بما مر بالبراهين التي اثبتت تكوينية الحسن والقبح.

ثانياً: ان دعوي تكامل العقول يعني وقوف السير والبحث والفحص العلمي لدي البشرية لاطلاعهم علي الحقائق واصابتهم لها، والحال انا نجد من أنفسنا الاذعان بعدم توقف

هذا السير ولن يتوقف هذا السعي الحثيث لدي الفطرة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 80

البشرية، وهذا يدل علي أمرين:

الاول: وجود واقعية وحقيقة ثابتة تسعي البشرية للوصول إليها.

الثاني: عدم إمكان وصول البشرية إلي الاحاطة بتمام تلك الحقيقة الواقعية وان كانت الاصابة النسبية مستمرة وهذا وان لم يزلزل الحقائق المتوصل إليها إلا انها لا تعني تمام الواقع.

وهذان الامران يستلزمان دوام حاجة البشرية إلي التشريع السماوي والنبوة المحمدية لأن رب الواقعية هو المحيط تماماً بها كما يثبت بذلك عدم احاطة البشرية بكنه غايات التشريع السماوي والمصالح المخبوّة فيه.

ثالثاً: اما جواب ما يدعي من انبعاث الإرادة دوماً من الاعتبار والذي ذهب إليه العلامة الطباطبائي فهو يستدعي ان نلقي نظرة علي ما سطره يراعه الشريف في رسالة الاعتبار والتي تعتبر حصيلة البحث الأصولي في ذلك الوقت.

تحليل مختصر لنظرية الاعتبار: … ص: 80

وملخص ما ذكره العلامة:

أ- ان الاعتبار يمثل جانبا من نشاطات العقل العملي ومدركاته وشأناً من شؤونه.

ب- ان كل موجود يسعي نحو كماله، فالفاعل غير الارادي يوجد له صراط معين يسير فيه، اما الموجود الارادي فانه يسعي نحو كماله من خلال ارادته.

ج- ان الفاعل الارادي في تحريك ارادته يسعي نحو تحقيق ما هو غير موجود، اما ما هو موجود فلا يسعي لتحصيله كما هو واضح.

د- ان الارادة تنطلق من قضايا غير حقيقية أي لا واقع خارجي فعلي لها، فلا محالة تكون القضايا اعتبارية وهي التي تولد الارادة ومن دونها لا يمكن للإرادة ان تنطلق.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 81

ه- اول اعتبار قام الذهن بتصويره حتي يحرك الارادة هو ايجاد نسبة الضرورة بين موضوع ومحمول لم تكن بينهما تلك النسبة من قبل، بيان ذلك:

ان الإنسان يري وجود نسبة حقيقية بين ذاته وبين اعضائه، فيقوم بجعل نفس هذه النسبة بين

نفسه وبين الأكل فيسعي نحو تحقيقه فيتحرك نحو الغذاء. وعبّر عن هذا بانه أول خديعة.

بعض تلامذة العلامة يصور الخديعة بنحو اخر وذلك بان الخديعة التي تقوم بها هي تصوير ان حاجات البدن هي حاجات الروح، ويجعلها ضرورية لها، وتفسير هبوط آدم إنه هبوط ادراكي حيث جعلت الروح البدن جزء حقيقة نفسها، فجعلت كمالات البدن وحاجاته هي حاجات لها فأول خديعة هي من جعل البدن جزء من الروح. خدعت بها الفطرة الانسانية اياه لتتوصل بها إلي الخير بالذات والكمال المطلق الحقيقي.

و- ان نسبة الضرورة تعني الوجوب وهو متقدم علي الحرمة كما ان الاستحباب متقدم علي الكراهة وذلك لأن الشعور بالحاجات والضرورات متقدم علي الشعور بالمضرات والمؤذيات التي نسبة الامتناع.

ز- مثال آخر علي نشأة اعتبار آخر هو اعتبار الملكية وكيفية حصوله: هو أنه رأي وجود نسبة حقيقية بين الإنسان وسلطته علي اعضائه وتصرفه بها كما يشاء، فجعل هذه السلطة بين الأمر الخارجي وبين نفسه حتي يستطيع التصرف والاستفادة منه وحده ولا ينازعه فيه أحد.

ح- وأول اعتبار اجتماعي نشأ هو اعتبار الالفاظ ودلالتها علي المعاني، ثم بعد ذلك تولد اعتبار العقد والمعاملات، واعتبار الرئاسة وذلك لأن في الإنسان توجد قوة العقل التي تكون مهيمنة علي بقيه القوي، فانتزع العقل هذه النسبة وجعلها في مملكة صغيرة هي مملكه الأسرة ورئاسة وهيمنة ربها ثم للمجتمع.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 82

ط- ان الاعتبارات غير ثابتة و متزلزلة فلا يمتنع ان لا يأتمر و لا يتبع الإنسان ذلك الاعتبار، لذا مست الحاجة إلي ان تعتبر ما يدعم هذا الاعتبار ويجعله مؤثرا في ارادة الإنسان، فاعتبر الثواب والعقاب واعتبر المدح والذم، فاعتبار المدح والذم انما هو لاجل أن يكون دافعا لأن يتبع الإنسان الاعتبار

الأصلي حيث يضعف تأثيره وكلما قوي تأثيره ضعفت الحاجة إلي الثواب والعقاب او إلي مدح وذم العقلاء.

والعلامة الطباطبائي في المقالة الثانية من رسالة الاعتباريات يركز علي أمر مهم، وهو كيفية نشأة التكوين من الاعتبار حيث أوضح في مقالته الأولي كيفية نشأة الاعتبار من التكوين والحقيقة، وكيف ان الاعتبار هو اعطاء حد الشي ء أو حكمه لشي ء آخر بتصرف الوهم، وانه ينشأ بسبب النقص وهو امر حقيقي، اما في المقالة الثالثة فبيّن ان الاعتبار يولد الارادة والارادة تحقق الفعل التكويني الخارجي، وهو إما كمال للانسان أو نقص، فينشأ حينئذ التكوين من الاعتبار، فولّد العقل التكوين من خلال عنوان اعتباري.

وجوه التأمل في نظرية العلامة: … ص: 82

لا يخفي ما في النظرية من ظرافة ودقة نظر ويظهر كذلك مدي أهميتها في صياغة الفكر البشري، وهذا لا يمنع من وجود بعض التأملات لنا عليها:

1- اننا نتفق مع العلامة في:

* ان العقل النظري لا يحرك الارادة، لذا سوف يأتي في الفصل الثاني ان التوحيد النظري من دون التوحيد العملي، وهو تولي وليّ اللَّه الذي يهدي لإرادات اللَّه ومشيئاته، لا يوجب تحرك الإنسان بل توجد مراتب أخري متوسطة حتي تصل إلي مدركات العقل العملي.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 83

* ان الفاعل الارادي لايتكامل إلا بتوسط ارادته.

* ان الارادة لا تسعي إلي تحصيل ما هو متحقق بالفعل لانه تحصيل للحاصل.

لكن نختلف مع العلامة في تحديد القضايا الحقيقية، فقد ذكر ان كل ما ليس له تحقق خارجي فعلي فهو قضية اعتبارية، وهذا غير صحيح وغفلة منه قدس سره، وذلك لأن القضية الحقيقة لا تساوي القضية الخارجية بل هي تشمل ما يكون الموضوع فيها حاك عن وجودات في ظرف الاستقبال، وما تكون حاكية عن وجود تقديري، وما تكون حاكية عن موضوعات ممتنعة

وهي القضايا غير البتية التي ليس فيها سوي فرض الوجود وهذا أمر متسالم عليه، وبناء عليه فإن القضية التي يتصورها العقل ويحكم بها العقل العملي هي غير حاصلة في الخارج فعلًا لكنها ليست اعتباراً محضا بل تكون قضية حقيقية.

2- لقد حصر العلامة رحمه الله الحاجة إلي الاعتبار لانه مولد للأرادة وهذا غير صحيح بل ان الحاجة للاعتبار هو امر آخر ذكره المتكلمون والأصوليون حاصله:

ان الارادة تنبعث من مدركات العقل العملي ومدركات العقل العملي هي من الكليات الفوقانية كحسن العدل وقبح الظلم، ومن هذه المدركات التي تمثل رأس مال العقل العملي ينطلق في سلسلة ادراكاته، وكذلك يستطيع ادراك الكليات القريبة وفوق المتوسطة كحسن الصدق وقبح الكذب، اما الكليات النازلة والجزئيات الحقيقية فإن العقل العملي لا يصل اليها كما في قبح القمار، ونكاح الشغار، ناهيك عن الجزئيات الحقيقية المتكثرة وغير المتناهية، من هنا يحتاج إلي ضابطة تكون كاشفة عن حسن هذه الأمور وقبحها وهذه الضابطة تكون بالاعتبار، فالاعتبار وظيفته الكشف عن الحقائق وما تخبأه من حسن وقبح، وحينئذ الارادة تنطلق من هذا الاعتبار الكاشف لا من كونه اعتباراً محضاً.

والاعتبار انما يكون كاشفا صائباً للواقع في حال صدوره من العقل اللامحدود

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 84

الذي يعلم بحسن وقبح جميع الافعال.

3- ما ذكره من توسط الاعتباريين بين حقيقتين وتكوينين صحيح لكنه الاعتبار بما هو الكاشف لا بما هو هو اعتبار.

ونضيف علي ما ذكره العلامة وتكملة لما ذكرناه من الحاجة للاعتبار.

- إنه قد يتساءل لماذا لجأ إلي الاعتبار- الذي هو انشاء- في الكشف عن الحقائق ولم يلتجأ إلي الأخبارعن حقيقة الافعال الخارجية؟.

والجواب عنه:

أ- ان الجزئيات غير متناهية فاذا اعتمد اسلوب الأخبارالتفصيلي فهذا يعني اخبارات غير متناهية لعدم تناهي الافعال وعدم

تناهي الاشخاص فيجب ان يكون اخبارا لكل أحد. ويترتب عليه ان يجعل كل الناس انبياء، وأنّ لا يخطئ الكل في فعل وهذا يبطل عالم الامتحان والابتلاء.

ب- ان برهان النظام الأصلح يقتضي وجود مراتب في العلم والوجود.

والأخبار التفصيلي لكل أحد يقتضي عدم وجود مراتب ويبطل النظام الأصلح.

ج- ان الأخبارقد يؤدي إلي اختلاط الجزئيات حيث ان الجزئي قد تكون له جهة حسن، وله قبح من جهة أخري هي العامة، وقد يختلف الجزئي الواحد في تقديم جهة علي جهة عن جزئي آخر فلا تنضبط القضايا بضابط معين، بخلاف ما لو جعل ضابط يكون غالب المطابقة للواقع فانه ينظم حالة الإنسان بنحو افضل.

فالاعتبار أحد أمثلته القانون الوضعي حيث يراد من وضعه أن يكون كشفه غالبيا.

د- ان وساطة الاعتبارين الحقيقين هي وساطة اثباتية باعتبار كشفه عن الواقع، ولا يتبعه الإنسان لأنه اعتبار بل لأنه كاشف من الواقع، وما ذلك إلا لأن الإنسان لا ينطلق الا من الحقائق، وما ذكره من أن أول اعتبار هو الأكل ونحوه فمحل إشكال إذ لا داعي فيه إلي الاعتبار حيث ان الاكل يعتبر مكملا للبدن، ويشعر الإنسان

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 85

بحاجته ويقصد اليه وهذه حقيقة يتولد منها الشوق والارادة، وهذه الواقعية يدركها العقل سواء العملي او النظري بسهولة فلا حاجة إلي الاعتبار.

وهنا قد يرد تساؤل حول ما يظهر من التناقض بين قولنا فيما سبق ان الارادة دوما تنطلق من الحقائق- القضايا الحقيقية- وبين ما ذكرناه في الاسطر السابقة من انطلاق الفاعل الارادي من القضايا الاعتبارية.

وحل هذا الاشكال يتم بالتدقيق فيما بيناه من الحاجة إلي الاعتبار إذ انما يلجأ اليه العقل لجهة كشفه عن جهات الحسن والقبح في الفعل فهذا الاعتبار يساوق الحقيقة، لأنه يكون كاشفا

عن أمر واقعي، وليس بما هو اعتبار محض، ومن هنا لا يتبع الفاعل الارادي أي معتبر كان بل يتحري المعتبر المطّلع علي جهات الحسن والقبح. وخير مثال علي ذلك الاعتبار التشريعي الإلهي فيتبعه الإنسان لأنه صادر من عقل لا محدود ومن المحيط بكل شي ء، فهو كاشف عن الواقع والتكوين، وهكذا الاعتبار في القانوني الوضعي لأنه يقتضي صدوره من الكُمّلين في مجتمع بشري ما فيتبعه لهذا الكشف ايضاً، ومن ثَمّ ذكر ارسطو أنه لا يمكن ان يصدر التقنين الا ممن يكون انسانا إلهيا.

اما ما ذكر من الاثارة وهي التغير في التشريع وعدم الثبات فيمكن الجواب عنه بما يلي:

1- ان الحسن والقبح واقعيان فأحكام العقل العملي ليست متغيرة وقد برهنا علي ذلك.

2- ان الاعتبار ليس امرا اعتباطيا يقوم به كل أحد بل لاجل الكشف عن الواقع فيجب ان يتولاه من تكون له تلك القدرة، وآية ذلك ان المقنن الوضعي لا يوكل كل من هب ودبّ بل يتخير من افراد المجتمع فئة خاصة تمتلك الخبرة والتجربة.

3- هناك نظريتان مشهورتان احدهما المسماة بنظرية التضاد او الديالكتيكية،

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 86

والاخري نظرية العقل التجريدي.

والأولي تفترض عدم الثبات والتغير الدائم، واما الثانية فتفترض الثبات ولو بنحو الموجبة الجزئية. وقد اثري البحث فيهما بنحو تام وكامل، وثبت خطأ الأولي لأنهم لابد ان يفترضوا ثوابت حتي في نفس نظريتهم فيكون نقضا عليهم، اذن لابد من الاستناد إلي ثوابت، واذا افترض ان كل شي ء في تغير ولا ثابت، فما هو الهدف من البحث والاكتشافات فما دام لاثبات فالسعي من اجل اكتشاف المجهول لن يصل إلي حد وغاية حيث لا واقع ثابت.

4- انا نسلم بوجود ثابت وبوجود متغير، لكن المشكلة في تحديد ضابط كل منهما.

فمنطقة الثبات كما اشرنا اليها سابقا هي منطقة الكليات العالية كحسن العدل وقبح الظلم والكليات المتوسطة القريبة من العالية كالأخلاق الفاضلة المنبعثة عن الملكات الفاضلة. أما ما دونها وهي منطقة الاعتبار فهي تحتاج إلي ضوابط لمعرفة المتغير والثابت.

ونستطيع ان نستفيد من القانون الوضعي وتقسيمه لتقريب فكرة الثابت والمتغير في الاعتبار بعد ثبوت أن لغة القانون والاعتبار واحدة. فإن القانون الوضعي علي ثلاثة اقسام الدستور- التشريعات البرلمانية- التشريعات الوزارية، فالقسم الأول غير قابل للتغير عادة «1»، والقسم الثاني اقل ثباتا اما الثالث فهو دائم التغير وهكذا في الاعتبار فنجد بعض الاعتبارات غير قابلة للتغيير والبعض الاخر يحصل فيه التغيير والتبديل.

لكن ما هي ضابطة الأمور والاعتبارات المتغيرة. لقد ذكر هناك ضوابط متعددة نذكر منها:

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 87

1- ذكر الميرزا النائيني ان ما هو قابل للتغير هو الاحكام السياسية، أما بقية التشريعات فثابتة، وتوضيح المقصود من الاحكام السياسية.

ان التسيس هو التدبير، وكيفية جعل الجزئيات متطابقة مع الكليات الفوقانية، حيث ان الامر الكلي الذي يكتشف بقوة العقل يتنزل حتي يصل إلي هذا الجزئي الحقيقي، فابتداءً هذا الجزئي لا يكون مندرجاً تحت قانون معين ولا محدود بميزان مخصوص، وانما يختلف باختلاف الاعصار والامصار ويتغير بتغير المصالح والمقتضيات، وبالتالي يجب ان تكون هناك قوة خاصة لدي الإنسان تُرجع هذه الجزئيات إلي كلياتها حسب جهات الحسن والقبح وهذا يكون بقوة الفطنة، وهذه الجزئيات هي منطقة البرهان العياني. فالفطنة لا تتدخل في الجزئي الخارجي بقدر ما تشخصه إنه تحت اي كلي وكيف يتنزل هذا الكلي في مدارج النفس إلي العمل الجزئي.

2- من الأمور التي تؤدي إلي تغير الاحكام هو تبدل الموضوع الجزئي.

3- وجود التزاحم والورود بالعناوين الثانوية كالعسر والحرج والضرر علي صعيد

الاحكام الاجتماعية والأمور العامة، لكن ليلتفت ان الحكم الثانوي لا يكون إلا مؤقتا دائماً ولا ينقلب إلي الدوام لانه خروج عن مقتضاه.

4- الاختلاف في الاحراز ومدي رعاية الضوابط الموضوعة سواء في فهم القانون الالهي او القانون الوضعي فكم نجد من فقهاء القانون يختلفون في تفسير القواعد القانونية، وهكذا في فقهاء الشريعة حيث يختلفون في تفسير وفهم بعض النصوص الالهية.

وهذا الاختلاف لا يتناول الكليات الفوقانية وذلك لانها ثابتة وغير متغيرة، والأمور الثابتة اكثر وضوحا والخفاء فيها يقل بل يندر والخفاء يظهر في الجزئيات والمتوسطات- التي هي ذات درجات كثيرة وعرض عريض- حيث تتداخل

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 88

الجزئيات مع بعضها البعض فيكون عنصر الغموض.

وتتفق هذه الاسباب الثلاث علي ان مورد الاختلاف والتغير هو في الجزئيات، ومن هنا تنشأ الحاجة إلي فهم الضوابط التي تمنع الإنسان من الوقوع في الاشتباه عند تمييز الجزئيات وهذه الضوابط تقع في مباحث اصول الفقة.

و يتلخص من كل ما مر: -

1- ان الاساس للأحكام الشرعية هو الحسن والقبح العقليين وهما برهانيان وهذا يعني أن لا تبدل فيهما ولا تغير.

2- ان منشأ الحاجة للاعتبار هو محدودية العقل البشري، فتظهر عناية ولطف واجب الوجود بأن يبين لهم تشريعات ثابتة في تلك المنطقة التي لايدركها العقل المحدود.

3- ان جهات التغير والتبدل في الاعتبار هي غالباً في منطقة الجزئيات.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 89

التنبيه الرابع: في تبعية الولاية التشريعية للولاية التكوينية … ص: 89

اشارة

والمقصود من هذا البحث بيان انّ من له صلاحية التشريع وسن القوانين

يجب ان يكون له مقام تكويني خاص. فبعد اتفاق جميع الموحدين أن المشرّع الأول والمحيط بالواقع وحقائق الوجود هو اللَّه عز وجل. يرد التساؤل والبحث ان هل اعطيت صلاحية مقدار من التشريع للبشر؟ واذا كان بالايجاب فأي بشر هو الذي يمكنه سن القوانين؟

للاجابة

عن هذا التساؤل يوجد مسلكان:

احدهما: النقل والاستدلال بالايات القرآنية والروايات الشريفة الدالة علي هذه التبعية من نحو قوله تعالي: «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا»، «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً «1»» «2»

، «لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» «3»

.ومن امثلة الروايات ما ورد أن الصلاة الرباعية كانت ثنائية فأوكل التشريع للرسول فجعلها رباعية وغيرها من الروايات.

المسلك الثاني: - العقل وهذا هو المقصود بالبحث هنا فيمكن اقامة وجوه ثلاث لاثبات تلك التبعية.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 90

الوجه الأول: … ص: 89

وهو ما ذكرناه سابقا في التنبيه الثاني من وجه الحاجة إلي الاعتبار حيث بينا.

أ- الحاجة إلي التشريع والقانون لتنظيم الاجتماع ولمسيرة الإنسان في هذه الحياة.

ب- ان العقل البشري لمحدوديته لا يستطيع التوصل إلي الواقع ولا يحيط بجهات الحسن والقبح والموازنة بينها.

ح- يحتاج العقل المحدود إلي من يسن له تلك القوانين، فتتم صياغة الحقائق عن طريق قضايا اعتبارية قانونية.

وحتي لا تكون هذه الصياغات جهلا يجب ان تكون مطابقة للواقع فيجب ان يتصف من يسن تلك التشريعات ان يكون له علم متصل ومرتبط بالذات المقدسة وإلا لأصاب التشريع والتقنين التغيير والتبديل كما نراه في التشريعات الوضعية الحديثة علي مرّ الزمان.

د- ان من رحمة اللَّه بعباده ورأفته بهم ان يوصل العباد إلي كمالاتهم ويُبعدهم عن نقائصهم، فطبقا لذلك ولما ذكره المتكلمون بقاعدة اللطف او ما ذكره الفلاسفة بقاعدة العناية الالهية، يجعل الباري تعالي في بني الإنسان من له ذلك الاتصال الغيبي وتلك المنزلة الرفيعة.

وبذلك يثبت ان من تكون له الولاية التشريعية وصلاحية سن القوانين فان له ولاية تكوينية واتصال غيبي بالذات المقدسة.

الوجه الثاني: … ص: 90

ويعتمد علي:

1- ملاحظة الجهاز الادراكي للانسان وتفصيل قواه العقلية وكيفية توصله للنتائج، وقد ذكر الفلاسفة ان هناك جهازين يحكمان اداركات الإنسان احدهما الجهاز القلبي وهو يعني بالعلم الحضوري ومراتبه اربعة قلب، وسر، وخفي وأخفي.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 91

والجهاز العقلي الذي يحكم ادراكاته الحصولية ومراتبه: - العقل النظري- والعقل العملي- وقوة الفطنة والروية- والقوة النازلة الادراكية كقوة الوهم والخيال والحس.

والقوي العملية النازلة كقوي الغضبية والشهوية.

وهذه القوي النازلة تكون منصاعة إلي قوة العقل العملي بحسب الفطرة الإلهية الأصلية وهو يمارس هيمنته وتوجيهه لها.

2- ذكرنا في التنبيه الأول ما يميز العقل العملي عن النظري، فالادراك لأي قضية يمر عبر افعال

ثلاث احدها الفحص والبحث في الفكر، الثاني ادراك النتيجة المتولدة من المقدمات، الثالث الاذعان بتلك النتيجة والتسليم بها

وقد اشار صدر المتألهين في رسالته في التصوير والتصديق وتبعه جل المتأخرين ان النتيجة والحكم في القضية لا يعتبر جزءاً للقضية. فالتصور وهو الصورة الحاصلة لدي الذهن تارة تكون مؤدية ومؤثرة في حصول الحكم فتكون تصديقا وتارة لا تكون مؤثرة فتسمي تصورا. وهاتان المقدمتان هي من ادراك العقل النظري فهو يدرك النتيجة المتولدة من المقدمات، لكن هذا غير الاذعان والحكم الذي هو من افعال العقل العملي ويفسر العلامة الطباطبائي الحكم بأنه «1» قيام النفس بدمج صورة الموضوع مع صورة المحمول في صورة واحدة

وقد تقدم منا الإشارة إلي ان المراد من وجوب المعرفة هو الفعل الثالث ومن هنا قلنا بامكانية كونه واجباً شرعياً.

3- كثير من المفكرين يتوهمون بان العلاقة والارتباط بين المقدمات (الصغري والكبري) والنتيجة والعلاقة بين النتيجة والحكم والاذعان، هي علاقة العلية والمعلولية بمعني استحالة تخلف النتيجة عن مقدماتها واستحالة تخلف الاذعان عن النتيجة. لكن الحق ان الفلاسفة اثبتوا خلاف ذلك. فقد ذكر السبزواري في منظومته في بحث القياس ان الرابطة ليست هي رابطة العلة والمعلول بل المقدمات

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 92

اعدادية فقط، والمتكلمون ذكروا بأن سنة اللَّه جل وعلي قد جرت علي أنه اذا أدركت تلك المقدمات فإنها تكون معدة لافاضة النتيجة علي الإنسان. وهذه الافاضة من العقول العالية علي العقل البشري النازل.

والذي اوقع البعض في هذا الوهم هو عدم التخلف وغفلوا عن أن هذا لا ينحصر بالعلية، وقد ذكر الحق سبحانه في امثال الفلاح الذي يقوم بعملية الزرع حيث نص سبحانه علي ان وظيفته ليست افاضة وجود الشجرة علي البذرة بل يقوم الفلاح بالاعداد عن طريق

تهيئة التربة ووضع البذرة وريّها اما المفيض لوجود هذا النبات هو الحق سبحانه «ءَأَنتُمْ تَزرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ» وقد اثبت الفلاسفة ان الجسم لا يمكن ان يُفيض صورة جسمية أخري. وهكذا الارتباط بين النتيجه والحكم والاذعان فالوظيفة التي يقوم بها العقل العملي هو الاذعان بالنتيجة فهذا هو الحالة الطبيعية وهي بذلك تكون معدة لحصول ذلك الاذعان وليست علة.

4- ان ما ذكرناه سابقا في تسلسل عملية الادراك في الجهاز الوجودي للانسان هي الحالة الطبيعية والتي بمقتضاها ينصاع الاسفل إلي الاعلي، وتمارس القوي العليا هيمنتها علي القوي النازلة، وتنساب عملية الفكر والادراك في هذه المراحل المتسلسلة.

لكن هذا التسلسل لعملية الادراك يواجه عوائق وموانع تمنع عن حصول الادراك الصحيح وتمنع من خروج التصرف الصحيح طبقا للادراك الصحيح، وتؤدي هذه العوائق إلي قلب عملية التفكير حيث تسيطر القوي النازلة علي القوي العالية وتتحكم بادراكاتها بمعني ان ما ندركه هو ما يحقق كمالات تلك القوي، فيندفع الإنسان حينئذ إلي تحقيق شهواته واشباع رغباته الفتاكة.

ومن هذه الأمراض «1»:

مرض الجُربزة وهي مقابل للبلادة وهي البطء الشديد في ادراك النتائج بعد

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 93

ادراك- المقدمات العناد- وهي عدم انسياق العقل العملي لمدركات العقل النظري مع العلم بصحتها- الوسوسة- الاضطراب.

فهذه الامراض التي تمنع من حصول اذعان النفس بمدركات العقل النظري.

وهذه الامراض هي التي تصيب قوي الإنسان في ادراكاته الحصولية، وهناك امراض تصيب درجات اداركه الحضورية، حيث تمنعه من الترقي الوجودي وتمنعه من الوصول بل ومن الاتصال بالصقع الربوبي، فيبتعد اكثر عن ساحة الحق ويصير بينه وبين الحقائق حاجبا وساترا لا يزول إلا بالتقوي والعمل الصالح ولقد قال عز من قائل «اتَّقُوا اللَّهَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ» «1»

.ومن هذه المقدمات الاربعة تنتقل إلي ما نريد التوصل

اليه وهو إنه مع وجود هذه المراحل في ادراك الإنسان، ووجود مثل تلك الموانع والعوائق التي تؤثر في صدور القرار الصحيح والفعل النافع، كيف يمكن تقليده صلاحية التقنين والتشريع، فيجب ان يمتلك زمام التشريع والتقنين من يكون جهازه الادراكي في مأمن من تلك العوائق والموانع ويكون محلا لافاضة العلوم عليها من العوالم العلوية وتنزلها في مأمن من تشويش ومشاغبة قوي النفس الدنيا.

هذا أذ أرادنا تشريعا يكون مظهرا للحقائق الواقعية ومطابقا وصحيحا.

وهذا الإنسان الذي يمتلك تلك القابلية هو الذي يكون مظهرا للرضا الالهي وللغضب الالهي وللعزائم الالهية وذلك لا يكون الا بأن تتساوي كل حركاته وسكناته بلحاظ التأثر بالعوالم العلوية.

ومن لا يمتلك تلك المكانة والقابلية فلن يكون تشريعه سالما وصحيحا ومن هنا قلنا بأن الولاية التشريعية تابعة للمقام التكويني الخاص.

والمقام الأكمل الذي يصل اليه المشرع والمسن للقوانين هو مقام العصمة، وهي كما لا يخفي علي درجات فبعضهم أصحاب شرائع، وبعضهم اولوا عزم،

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 94

وبعضهم شرائعهم دائمة وأبدية وهكذا تختلف درجاتهم العصموية بالاختلاف درجات قربهم من الصقع الربوبي. وتتنزل درجات العصمة حتي تصل إلي العصمة في الإنسان العادي وتتمثل في حدود البديهيات الموجودة في العقل البشري حيث ان عدم وجودها يؤدي إلي نوع من الاضطراب والخلل حيث لا يوجد حينئذ ما يتكأ عليها الفكر البشري.

الوجه الثالث: … ص: 94

السنن التكويني والسنن التشريعي.

ذكرنا فيما سبق ان الإنسان يركز ويستند في علومه إلي نوع محدود من العصمة وذلك من خلال البديهيات الموجودة في العقل البشري والتي ينتهي اليها في كل قضية، وبدونها يحل الاضطراب في الفكر البشري، كما اشرنا فيما سبق إلي ان مدركات العقل العملي والنظري هي الكليات الفوقانية، ولمحدودية العقل البشري احتاج إلي التقنين والاعتبار لضبط الجزئيات الخارجية

وان التفكير البشري في تنزل العلوم الكلية إلي الجزئيات يمر بمراحل متعددة وبجملة من البراهين التي يستعين بها لاحراز التفكير الصحيح. وهما البرهان النظري ورأس ماله العلوم البديهية او البرهان العياني الذي يتصل بالجزئيات، ويضمن اختيار الفعل الاصلح عن طريق قوة الفطنة والتروي التي تستلم من العقل العملي والبرهان النظري النتائج الصادقة الحقيقية. وتستخدم قوة الفطنة القوي الادراكية الجزئية والقوي العمالة السفلية حيث الغضب الرافع للموانع والشهوة المولدة للشوق وبهذا الشكل يصدر الفعل الجزئي صحيحاً غير خاطئ.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 95

التنبيه الخامس: العلاقة بين العقل العملي والعقل النظري … ص: 95

نلاحظ بعض الظواهر التي يتحد فيها حكم العقلين وان اختلف طريقهما من امثلة ذلك قاعدة اللطف الكلامية المعروفة ومدركها العقل العملي، وقاعدة العناية الفلسفية ومدركها العقل النظري وهما قاعدتان ينتجان نتائج متشابهة بنحو كبير.

وهكذا في بحث العقوبة الاخروية بمقتضي المعاد الجسماني وكون القبح والحسن عقليين، فان العقل العملي يحكم بالعقوبة الاخروية حيث ان مدح اللَّه ثوابه وذمه عقابه أو أن مدح الفعل بالكمال المنتهي إليه وذم الفعل بالنقص، والعقل النظري يحكم به بالعقوبة الاخروية بتوسط نظرية تجسم الأعمال وهكذا سوف نجد موازاة بين قواعد أخري يحكم بها العقلان. فهذا الارتباط بينهما ليس ارتباطاً عفويا وصدفة وانما له منشأ تكويني.

بيان ذلك: أن ضابطة مدركات العقل العملي هو ما ينبغي فعله وما لا ينبغي فعله، وما ينبغي فعله هو الحب التكويني الفطري والانجذاب نحو الكمال فلذا هو يطلبه طلبا تكوينيا ويبتغيه كغاية، وما لا ينبغي فعله هو خلافه أي ما تنفر منه تكوينا.

والكمال هو الخير والوجود والنقص هو الشر والعدم، وضابطة مدركات العقل النظري هي الوجود ونفي الوجود، فمباحث الحكمة النظرية مرتبطة بالكمال والوجود، ومباحثه تؤثر في العقل العملي الذي ينجذب تكويناً نحو الكمال الذي

الامامة الالهية(5)،

ج 1، ص: 96

يحكم به العقل النظري وقد ذكرنا فيما سبق ان محمولات العقل العملي هي الحسن والقبح بمعني المدح والذم، والمدح هو الحكاية عما يختزنه الفعل من الكمال والذم هو الحكاية عما يكنزه من النقص.

وهكذا نلاحظ الارتباط الحاصل بين العقلين والاندماج بين مدركاتهما بحيث يفتح بابا جديداً في الاستدلال الحكمي البرهاني والمعرفة العقلية ويمكن استخدام الادلة الكلامية في المباحث الفلسفية حيث تكون كاشفا كشفا إنيا وكذلك العكس واستخدام الادلة الفلسفية في المباحث الكلامية.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 97

المبحث الرابع حجية المعارف القلبية … ص: 97

اشارة

والبحث فيها من جهات: -

الجهة الأولي: في بيان المراد من المعارف القلبية … ص: 97

ان الحديث عن المعارف القلبية متشعب وطويل وسوف نتناول منه ما يهمنا في بحثنا وعن المقدار الذي يكون فيه حجة متميزة عن غير الحجة.

يتفق الفلاسفة علي أن هناك نحوين من الادراكات التي يتوصل بها الإنسان لمعرفة الحقائق الأول هي الادراكات العقلية والثاني هو الادراكات القلبية، وضابطة التفصيل بينهما يعتمد علي كيفية الادراك فالأول يتم عن طريق الصور الحصولية للأشياء والثاني يتم عن طريق الادراكات الحضورية وهو الارتباط بالشي ء ارتباطاً ما.

توضيح ذلك: ان الادراكات العقلية تعتمد علي الصور ويختلف مدي ارتباط هذه الصور بالمادة حسب المراتب.

ففي الصورة الحسية فان نفس الصورة وان كانت مجردة عن الخارج إلا ان لها ثلاثة تعلقات:

1- من جهة الابعاد الطول والعرض والعمق.

2- من جهة المشخصات والالوان.

3- لابد من محاذات وجود خارجي محسوس، ففيها تجرد عن نفس المادة ولها ثلاث تعلقات من لوازم المادة.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 98

اما الصورة الخيالية ففيها شي ء من اللطافة اذ يضاف اليها تجرد عن المحاذات لشي ء محسوس لكن مع تعلق من جهة الابعاد ومن جهة العوارض المشخصة.

اما الصورة الوهمية فيضاف اليها تجرد عن الابعاد الثلاثة وعن العوارض لكن تبقي لها تعلق باعتبار وجوب اضافتها إلي الجزئي الحقيقي كحب زيد وبغض عمر وهكذا.

واما في العقل العملي والنظري ففيه تجردات تامة لكن يبقي له تعلق بالصور.

والنفس في ادراكها لهذه الصور المختلفة لها إياب وذهاب وخلط وترتيب وربط بين هذه الصور المختلفة، فقد تغرب عن الصور الحسية اي الوهمية أو الخيالية وتحمل المعني الوهمي علي المعني الحسي وهكذا.

وهذا ما يسمي في الاصطلاح ان النفس لها حركة تجرد وتعلق.

اما المعارف القلبية فهي أشد تجردا حيث لا تتعلق بالصور كما في الادراكات العقلية بل هو الارتباط بالشي ء

بنحو ما.

وللنفس أيضا اياب وذهاب في مراتب المعارف القلبية الاربعة وهي: -

1- القلب وهو الارتباط بحقائق الاشياء من دون توسط الصور المادية، نعم يدرك في هذه المرحلة الصور العينية البرزخية كما في سماع انين الموتي من الصالحين وكذلك تشمل ادراكات عالم المثال، و يقال حينئذ انها تدرك صور الجوهر المثالي.

2- السر وهي الادراكات التي فوق عالم البرزخ والمثال فهي اكثر سعة من مرتبة القلب واكثر احاطة وجودية.

الخفي والاخفي وهي المرتبة المتعلقة بالانوار الربوبية وادراك الاسماء الالهية.

اذا اتضح ذلك نقول:

1- إنه كما ان الادراكات العقلية موجودة في كل انسان لكن قد لا يستطيع

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 99

البعض استخدامها ويعجز عن الوصول حتي إلي القوة الوهمية بل تظل نفسه محبوسة بين الحس والخيال، فهكذا المراتب القلبية فهي مراتب شأنية يستطيع كل انسان ان ينالها لكن تحتاج إلي قوة ايمانية وكمالات عالية حتي يكون للنفس سبح في هذه المراتب ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، والإنسان بعمله ومناعة نفسة يرتقي إلي هذه المراتب.

2- ان التمييز بين المراتب القلبية الأربعة هو التمييز في الحدود الوجودية.

3- ان مدرسة أهل البيت عليهم السلام تبنت الرؤية القلبية للذات المقدسة لا الرؤية الحصولية الوهمية ولا الخيالية ولا الحسية وأما الرؤية العقلية بتوسط المعاني المجردة فقد أثبتتها العديد من الروايات الواردة عنهم المتضمنة للتنبيه علي لزوم الوحدة والبساطة في المعاني والصفات وعدم تطرق التركيب العقلي التحليلي فيها، وأنه الفارق في التوصيف العقلي للذات الواجبة عن الممكنات وهو متطابق مع ما قام عليه البرهان الحكمي.

وفي بعض الروايات «1» انه لو احيل الادراك بالمعاني العقلية لكانت المعرفة أمر لا يطاق عند عامة البشر، كما أن الروايات نبهت علي أن المعبود هو المحكي بالمعاني العقلية وهو المسمي لا

نفس المعاني العقلية وهي الاسم. فالذات المقدسة لا تقتنص بحس ولا بوهم ولا بخيال لعدم الحدود والمقدار فيه. فكيف يمكن اقتناصها بتلك القوي واثبات الرؤية الحسية لها، نعم الادراكات العقلية هي الحالة الوسط بين الادراكات الصورية النازلة وبين الادراكات القلبية، ولذا فهي بوابة علي الغيب لكنها تبقي معان حاكية وليست هي نفس المحكي أي ليست هي نفس الواقع، وهذه الادراكات العقلية بهذا المقدار، والحاكية عن أقصي غيب

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 100

الغيوب وهو الباري جل وعلا هو المقدار المكلف به الناس. اي العبادة عبر ادراكاتهم العقلية.

4- فوائد المعارف القلبية:

أ- ان الإنسان لم يخلق للخلود في هذا العالم بل هو مخلوق لعوالم أخري، فهو يعيش منذ ولادته عالمه البرزخي بمعني إنه يصنع بأعماله وعقائده عالمه البرزخي، وعندما يتكامل ويبلغ ويرشد يصنع حياته الاخروية التي هي بعد الحياة البرزخية في عين عيشه حالياً للحياة الدنيوية، والمراتب القلبية تجعله مشرفاً علي تلكم العوالم.

وقد يظن البعض أن هذا نوع من الخيال وتسطير الكلمات فما الحاجة إلي الاشراف علي هذه العوالم وهو لم يعشها بمعني لم يحن ظرفها الزماني فنقول: - خير مثال علي ذلك الطفل الذي يعيش في بطن امه يكون له اذن وانف وفم ولسان وشفتين وكل شي ء فَلِمَ كل هذه الاجهزة هل هي حتي يستعين بها في حياته داخل رحم أمه؟ بالطبع لا، من الواضح ان هذه الاجهزة لأجل ان يعيش بها في عالم آخر غير عالم الرحم. وهو عالم الدنيا. وهكذا الإنسان في مراحله القلبية فالانسان لا يحتاج اليها في ادارة شئون عالم الدنيا إلا إنه محتاج لها في عالم الاخرة.

ب- ان المراتب القلبية هي السبيل لمعرفة الغيب فكلّ يستطيع ادراك الغيب وكلا يعيش الغيب ولو مرتبة

ضامرة.

ج- الفائدة الجليلة والعظيمة في الادراكات القلبية هي رؤية أشرف مرئي وهو نور واجب الوجود.

5- ان الإنسان اذا أدرك بلحاظ المراتب القلبية حقيقة من الحقائق وأراد لها ان تنزل إلي الادراك العقلي النظري فلابد ان تتنزل بمعناها لا بوجودها وحقيقتها، فالارتباط بين المراتب القلبية والعقل النظري هي بوحدة المعني وبوحدة المفهوم،

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 101

فالمراتب القلبية تدرك الشي ء بوجوده العيني وهويته العينية اما القوة العقلية فهي اكثر لاصطياد المدرك بمعناه ومفهومه ويمكن التمثيل للفرق بين الادراكين بمن يدرك الشي ء المقابل للمرآة تارة ويدرك تارة أخري صورته في المرآة.

والمرآة هي القوي الادراكية الحصولية العقلية.

6- ان الادراكات العقلية يتصور فيها التصور والشك والترديد والجزم، اما في المدركات القلبية فهي صحيحة دوماً علي صواب أبدً لا مكان للشك فيها حال المعاينة القلبية. والسر في ذلك إنه في الادراكات العقلية يكون المدرك هو صورة الشي ء، والحاكي عن الشي ء، فيرد التساؤل عن مدي مطابقته للواقع أو عدم مطابقته، (وقد ذكرنا في نهاية التنبيه الأول مشكلة الخطأ في الفكر البشري وكيفية معالجته وان تحصيل اليقين في الامور النظرية من الأمور الصعبة) بخلاف ما اذا كان نفس الشي ء وعينه حاضرا فإنه يكون يقينا لا لبس فيه ولا ترديد، ومن هنا نجد ان الكثير من روّاد علم المعارف الإلهية اشار إلي ندرة الحصول علي اليقين بل كلها ظنون متاخمة لليقين، وتطرق إلي ذلك السيد الصدر في بحثه عن الاستقراء «كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ».

ومن هنا نعرف السر في حث كثير من العلماء علي تنزيه النفس وتربيتها لنيل تلك العلوم اليقينية، وألّا يقتصر علي تحصيل العلوم التي لا تتجاوز الصور. إذ الادراكات القلبية أشرف من العلوم الحصولية وإن كانت هي البوابة المأمونة

لها.

7- ان مراتب الادراكات القلبية تتفاوت شدة وضعفا حيث أن الوصول إلي الحقائق تتبع سعة ظرفية الواصل (المدرِك)، فقد يصل الانسان إلي هذه المراتب بنحو العرض، وقد يصل إلي تلك المراتب وتكون بالنسبة اليه كفصل جوهري حيث يكون قد حصل لذاته تكامل ورقي وجودي أوصله إلي تلك المرحلة فيتصفح حيث ما شاء في العالم الغيبي.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 102

فالذي يدرك الغيب لا يعني إنه ادرك كل الغيب، فاللَّه عز وجل لا تحيطه الابصار والقلوب بل عرفته القلوب بحقائق الايمان.

8- مما ذكرنا يتضح السر في أن المسلمين قد صرفوا النظر عن العلوم الحصولية والعلوم المادية، واوغلوا في بحوث الاعتقادات وفقه الأحكام من اجل تحصيل ذلك اليقين ونيل المراتب القلبية وذلك مع تهذيب النفس وانشغالها بالعبادة، حتي تتهيأ النفس لتصفح انوار الملكوت وتقوي الادراكات القلبية، فمنهم من وصل إلي المراد وهو المتبع لطريقة أهل البيت عليهم السلام ومنهم من ضل الطريق وأضل غيره.

9- ان معرفة الإنسان لنفسه هي بوابة المعرفة الربوبية، وذلك لأن كل مخلوق هو آية لخالقه، وكل كامل نازل هو آية للكمال الصاعد فيقال ان كل غيب نازل له حكاية تكوينية لغيب صاعد، وهذه الحكاية ليست علي نسق حكاية الصور الحصولية، بل هي حكاية الرقيقة عن الحقيقة، كما عبر بذلك الفلاسفة، او حكاية المظهر عن الظاهر كما عبر العرفانيون. لكن هذه الحكاية وان كانت غير قابلة للخطأ والصواب بل هي صواب دائم إلا انها ليست حكاية احاطة لأن الرقيقة لا تمثل كل كمالات الحقيقة.

10- من الأمور التي تدلل علي أهمية الادراكات القلبية هو رجوع جميع الادراكات العقلية اليها بيان ذلك: -

إنه قد ثبت في محله رجوع جميع التصورات والتصديقات النظرية إلي البديهيات التصورية والتصديقية وهي

رأس مال الإنسان في تحصيل علومه، وحينما نقوم بتحليل هذه البديهيات نري انها في تكونها محتاجة إلي الادراكات القلبية فعندما نقول إنه صادق فيعني عدم احتمال اللامطابقة والسر في ذلك ان النفس تدرك ذاتها ووجودها والصورة نفسها مدركة لديها بالعلم الحضوري فالمحكي والحاكي كلاهما موجود لدي النفس فلا يحتمل اللانطباق، وهذا ببركة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 103

العلم الحضوري.

ونفس الشي ء يقال في أول البديهيات التصديقية وهو استحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما فموضوع القضية اجتماع النقضين ومحمولها هو الامتناع.

حيث تقيس النفس بين مفهوم الوجود ونفي الوجود وحيث إن للوجود محكياً، فتري ان هذا المحكي مع نفي هذا المفهوم لا يجتمعان.

من خلال هذا العرض نصل إلي حقيقة في وجود الإنسان هي إنه في اتصاله بعالم المادة يكون عبر قنطرة الصور الحصولية اما اتصاله بالغيب فهو اتصال حضوري مباشر.

الجهة الثانية: حول ضابطة حجية المعارف القلبية … ص: 103

قد يتراءي لغوية هذا البحث وذلك لما ذكرناه سابقا من ان المدرَك بالقلب هو عين ومتن الواقع فلا يحتمل الخطأ، وبالتالي فهو حجة كله، بل كل ادراكه صدق، ولكن في الواقع نحن بحاجة إلي هذا البحث وذلك لأن العرفاء انفسهم في بحث المكاشفات يشيرون إلي ان المكاشفات علي اقسام وان الادراكات الحضورية علي درجات، وأن بعض الاشياء العينية قد تكون من تسويل وتمثلات العيانية من الشياطين أو كون قوي النفس قد اختلقتها. فلا يمكن القول بحجية كل الادراكات القلبية، فكما ذكرنا في العلوم الحصولية قد تحصل الحجب والامراض التي تمنع عن ادراك الحقائق فهنا كذلك تحصل حجب النفس التي تحجب الواقع عن ادراكه- وقد تعرضنا تفصيلا في بحث الرؤية القلبية «1» إلي تصرف الشياطين والجن في

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 104

قلب الكائن البشري هو تصرف تكويني وفعل حضوري ولكن ليس حضور الحقائق العالية.

-

وقد ذكر القيصري نفسه في مقدمات شرح الفصوص والسيد حيدر الآملي في نص النصوص، علي ان من الكشف ما هو رحماني ومنه الشيطاني ومنه النفساني …

فقالوا: إن الميزان في تمحيص المكاشفة الصحيحة عن الخاطئة هو الكتاب والسنة باعتبار ان الكتاب ارتباط بعالم الغيب وان القرآن تنزل من الصقع الربوبي.

نلاحظ مما تقدم ان العرفاء ركزوا علي نكتة ان المدركات قد لا تكون من الحقائق فلذا يجب الاعتماد علي الميزان المعصوم وادراك معصوم.

ويتبقي جانب آخر نشير اليه وهو تنزل المدركات القلبيه الي المدركات العقلية، حيث ان العلوم الحضورية يجب ان تنزل إلي القوة العقلية حتي يستطيع ان يستفيد منها الإنسان وتكون مؤثرة في واقعه الحياتي، وهذا التنزل يجب ان يكون مأموناً والمقصود بالأمن ان الصور الحصولية التي يلتقطها العقل يجب ان تكون متطابقة مع حقائق الاشياء التي توصل اليها بالعلم الحضوري.

فكما ذكرنا سابقا توجد امراض تمنع من تنزل ادراكات العقل النظري وتمنع من سيطرة العقل العملي علي القوة السفلي، فهنا ايضاً توجد امراض واخطار تمنع من حصول الادراكات العقلية الصحيحة. فالعقل هو كالمرآة التي تنطبع عليه مدركات القلب فقد يكون المنطبِع شبح الحقيقة لا عين الحقيقة وقد تكون الصورة مشوشة.

وبتعبير أخر: ان مرآة العقل قد تصاب بسبب الاخلاق الرديئة او الأعمال السيئة تشوبها حجب فلا تنطبع فيها صور الحقائق بنحو صاف وسليم

ومن هنا نحتاج إلي ضابط وميزان لتمييز الحجة من اللاحجة. حيث ليس لنا أمان من الزلل والخطأ لا في نفس المدرَك، ولا في تنزله، ويظهر من هنا الميزة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 105

للفرد المعصوم حيث إنه لا يدرك الا ما هو حق ولا يتنزل إلا بتنزل من الحق. ومن هنا نري ان القران يوصف بأوصاف متعددة «لَا

يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ» فهو مدرك حق «فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» اي المعصومون من الذنوب والخطأ «بالحَقِّ أنْزَلناهُ وَبالحَقِّ نَزَلَ» فالعصمة في صدوره لا تكفي بل عصمة في التنزل من العوالم العلوية.

فالقران الكريم سار مسيرة طولية من العوالم العلوية إلي نفس النبي الاطهر صلي الله عليه و آله إلي ان يصل إلي رسم الخط فيجب ان يحرز ان هذا الرسم والصوت مطابق لقوة الادراك الحسي وهي مطابقة لقوة المخيلة المطابقة لقوة العاقلة العملية المطابقة للعقل النظري المطابق للقلب ومراتبه القلبيه المطابق لما اوحي له من اللَّه عزوجل.

لذلك نفي عن النبي صلي الله عليه و آله الجنون ونفي عنه الشعر ونفي عنه الكهانة فقواه العقلية تسير بالسير الفطري مطابقة المادون للاعلي وعدم تصرف الشيطان في قلبه، فكل ذلك الوارد في وصف القرآن والوارد في وصف الرسول صلي الله عليه و آله من اجل بيان ان هذه القناة معصومة مأمونة من الخطأ والزلل. وهذا دليل علي أنه ليست كل مدركات القلب حجة و الا لما احتيج إلي كل ذلك التأكيد ودفع الشبهات.

فالضابطة الميزان في كل ذلك هو الكتاب والسنة حيث يعبران عن الوحي المعصوم وكذلك العقل البديهي والنظري فيمكن عرض التنزل علي تلك البديهيات ليعلم الصحيح منها من السقيم.

وهذه النتيجة لا تعني انكار الغيب او انكار للمدركات القلبية بل هي الضابطة التي تحتاج اليها النفوس البشرية غير المعصومة. ونحن لا ننفيها بنحو مطلق بل ننفي الحجية المطلقة لها.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 106

خاتمة: حول العلاقة بين الحجج الاربعة … ص: 106

لقد مضي الكلام في هذا الفصل حول الطرق والحجج الاربعة اثنان نقليان هما الكتاب والسنة واثنان تكوينيان هما العقل والقلب والغرض من هذه الخاتمة هو الإشارة إلي الارتباط والعلاقة

بين هذه الطرق.

وقد ذكر للعلاقة بينها امور: -

- ان الفلسفة وهي الباحثة عن مدركات العقل والعرفان وهو الباحث عن لغة الادراكات الحضورية، وهما تلميذان يؤهلان لفهم نكات الوحي.

- ان العقل والقلب يرجع اليهما في رفع متشابهات النص، وإنه يرجع إلي محكمات النص ليرفع متشابهات العقل والقلب فيرفع متشابة كل منهما بمحكم الآخر.

- ان العقل والقلب شأنهماالادراك، اما الوحي فهو نفس المدرَك.

- وقال البعض: - ان وظيفة العقل والقلب هو التصور، وأما الحكم فهو من وظيفة الوحي بمعني ان المخاطَب هو العقل والقلب اما نفس الخطاب هو الكتاب والسنة حيث انهما مواد الوحي. فالمخاطَب ليس هو القوي النازلة بل المخاطب هو العقل والقلب، واللغة اللسانية وظيفتها احداث التصور، واللغة العقلية وظيفتها احداث أصل الادراك، والحكم والتصديق يكون من الشارع فالمدرك لهذا الحكم والتصديق والتصوير هو العقل، والمدرك لهذه الاشعاعات النورية هو القلب.

فكما أن الالفاظ موصلة للمعني وبها يحتج فكذلك في لغة العقل بهما يحتج علي الإنسان فالعقل والقلب هما المخاطبان ولغة الخطاب هو الوحي.

بتعبير آخر: ان العقل ايضاً يحكم ويصدق ويدرك التصورات ولكن يتبع حكم الوحي والشارع. فليس فيه الغاء لدورهما.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 107

- ان هناك سنناً تكوينية جعلها اللَّه عز وجل في طريقة التفكير البشري، فالعلم وان كان نورا يقذفه اللَّه في قلب الإنسان الا ان طريقه القذف تعتمد علي أحد نحوين:

الاول: هي الوصول إلي الاستنتاج عن طريق تهيئة المقدمات والمواد وعبر مراعاة موازين ما يسمي بالمنطق، وذكرنا انها معدات تعد الإنسان لكي يفاض عليه النتائج.

والآخر: هو التصفية والتخلية عن الرذائل والتحلية بالفضائل والايمان والمعارف، فيصل الإنسان إلي العلوم الحضورية وهذا مسلك الاشراق والعرفاء …

فهاتان سنتان تكوينيتان في نيل الفكر والمعرفة الانسانية، ويضاف إلي

هاتين السنتين سنة وطريقة ثالثة وهي الوحي (الكتاب والسنة).

وهذه الطرق ليست متقابلة بل يجب الاستعانة بكل منها مع الاخر فاذا استمد الإنسان بالسنتين التكوينيتين دون الوحي فيعني خسران المعارف الهائلة، وكذلك لا يستفيد تمام وكمال الفائدة من الرافد الاخير إلا بالرافدين الاوليين لانهما قناتي وطريقي المعارف.

- ووجه آخر لبيان العلاقة وهو ان الرياضة العقلية في العلوم العقلية، والرياضة القلبية في العلوم القلبية العرفانية بالغة الأهمية من حيث كونها معدة للتأهل وخوض الوحي لفهم اسراره.

والعمدة التي تدور حولها جميع هذه الاجوبة لبيان العلاقة هو بيان التلازم بين هذه الطرق المختلفة بوضع كلٍ في دوره الموظف له بحيث لا يلغي أحدهما الاخر بل الوصول إلي الحالة الوسطية، وهذه الوجوه هي لبيان تلك الحالة الوسطية، ومنها جعل العقل والقلب الحجة الباطنة وجعل الوحي الحجة الظاهرة.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 108

وفي حديث طويل عن الصادق عليه السلام أن أول الأمور ومبدأها وقوتها وعمارتها التي لا تنفع شي ء إلا به، العقل الذي جعله اللَّه زينة لخلقه ونورا لهم، فبالعقل عرف العباد خالقهم وانهم مخلوقون … وعرفوا به الحسن من القبيح وأن الظلمة في الجهل وان النور في العلم فهذا ما دلهم عليه العقل. قيل له: فهل يكتفي العباد بالعقل دون غيره؟ قال: ان العاقل لدلالة عقله الذي جعله اللَّه قوامه وزينته وهدايته علم، أن اللَّه هو الحق وانه هو ربه، وعلم ان لخالقه محبة وان له كراهية وأن له طاعة وان له معصية فلم يجد عقله يدله علي ذلك وعلم أنه لا يوصل إليه إلا بالعلم وطلبه وأنه لا ينتفع بعقله إن لم يصب ذلك بعلمه …» الحديث «1».

فيبين الإمام عليه السلام أن مصدر الأمور وأسسها هو العقل، ثم سأل سائل

هل يكتفي بالعقل فقال: إنه علّم العقل بانه لا يصل الي الحقائق من رضي اللَّه وغيرهما … بل يصل اليها بعلم الوحي.

فلابد منهما كليهما ولا يتوهم ان الشريعة والمعارف تجريد وغيب محض بل هو غيب وشهادة وذلك اننا اذا حافظنا علي موازين تلقي معارف الغيب حينئذ يكون التنزل سليما حتي الي عالم الحس والشهادة، فبيوت الغيب يجب ان تؤتي من ابوابها فلابد من التدرج عبر بوابة العقل ثم بوابة القلب، فكما ان سنة اللَّه مع عالم المخلوقات جرت بالتدرج فكذلك تنزل هذه المعارف.

فالنتيجة ان التمسك بالوحي ورفض العقل والقلب هو رفض للوحي ايضاً وذلك لأن المخاطب بالكتاب والسنة هو العقل وجعل المخاطب غير العقل والغاء شرط العقل هو في الواقع الغاء للكتاب والسنة.

وكذلك من تمسك بالعقل من دون الكتاب والسنة فقد ضيع العقل ايضاً،

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 109

وذلك لأن التمسك بالعقل والقلب هو ابقاء الإنسان في الحدود النازلة وعدم ارتقائه إلي المعاني العالية وهو حرمان للعقل من المعارف الالهية، وكذلك من ادعي انه يفهم الكتاب والسنة من دون الالتفات إلي النكات العقلية فقد أنزل المعارف من مستواها العالي، فلابد من الوسطية والتوازن.

وقد حاول العلامة الطباطبائي أن يذكر في كل مسألة الفحص في هذه الطرق الاربعة ولا يقتصر علي جانب دون آخر، وممن حاول أيضاً الجمع بين هذه الطرق هو الملا صدرا في الحكمة المتعالية، وبغض النظر عن مدي موفقية كل منهما في النتائج التي توصلا اليها إلا أنها محاولة جريئة وجديدة في بابه فلم يقصر فكره علي طريقة واحدة ومنهجية واحدة، حيث إنه استفاد من نكات مذكوره في السنة في ايجاد براهين عقلية لأمور عجز العقل في السابق عن اثباتها كالمعاد الجسماني.

- اما الشيخ الانصاري

فيذكر في الرسائل:

ان التنافي بين الادلة النقلية والادلة العقلية لو قدر وجوده لا يخرج عن صور ثلاث:

اما صورة التعارض لدليلين قطعيين.

واما صورة تعارض نقلي قطعي وعقلي نظري.

واما صورة تعارض نقلي ظني وعقلي قطعي (نظري وبديهي).

اما الصورة الاولي: فلا وجود لها ولم يشر أحد من الباحثين اليها قط.

اما الصورة الثانية: فهي وان كانت بدوا تعارض إلا أن الإنسان اذا دقق ولاحظ في مواد الدليل العقلي لوجد أنها ظنية وليست قطعية، والمشكلة تكمن اننا للوهلة الاولي لا نلتفت الي ذلك بل بعد فتره من الزمن حيث نتصور استحكام التعارض والسر في عدم التعارض هو ان الوحي برهان وقطعي حيث ثبت واقعيته. وإنه من واجب الوجود فلا يمكن ان يتصادم مع العقل القطعي. وقد نبّه الملا صدرا إلي ان

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 110

قول المعصوم يمكن ان يستخدم كوسط في البرهان لعصمته عن الخطأ.

اما الصورة الثالثة: إنه لو اعيد النظر في العقل القطعي وتأكدت من قطعيته فانه يكون قرينة علي التصرف في الظاهر الظني والتأويل.

وتوجد صورة رابعة في التعارض بين الظني النقلي والظني العقلي وفي هذه الصورة نلاحظ ان العقل الظني ليس بحجة اما النقلي الظني فقد ذكرنا في بداية بحثنا امكان اعتباره ووقوعه- كما يظهر من عبارة الشيخ في بحث الانسداد، ومال إلي ذلك كثير من علمائنا كالبهائي والشيخ الطوسي والميرزا القمي وغيرهم.

ويشير الشيخ إلي توصية هامة وهي: -

انه في بحوث المقام يجب التتبع وبذل الجهد للحصول علي المعارف النقلية القطعية منها والظنية المعتبرة بناءً علي اعتباره في التفاصيل النظرية في شعب المعرف»، فكما نجهد انفسنا في البحوث العقلية البحتة أو القلبية فانه يجب بذل الجهد بعناية فائقة في تحصيل القطعيات النقلية، ومما يؤسف له قلة الجهود المبذولة

في هذا المضمار بالقياس إلي حجم النقل الواصل بإيدينا وبالقياس إلي ما يبذل من جهود في المجال الآخر، فإنه لو اثريت البحوث العقلية الاستدلالية في المعارف النقلية لتوفّر تبويب كثير من الطوائف للأدلة النقلية ولأمكن العثور علي جم كبير من القرائن والاستفاضات المعنوية في كثير من المسائل.

****

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 111

الفصل الثاني: نظرية الحكم علي ضوء الإمامة الإلهية … ص: 111

اشارة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 113

نظرية الحكم علي ضوء الإمامة الإلهية

المبحث الأول لمحة تاريخية … ص: 113

ان الناظر للتاريخ الاسلامي وللمذاهب التي نشأت في هذا الدين وما ذكرته ل منها في مسألة الخلافة والحاكمية، يري كم هو البون الشاسع بين المبدأ والمنتهي وبين التنظير والتطبيق لدي اكثر المذاهب الاسلامية، فكثير ممن رفعوا راية الشوري لم يثبتوا علي مبدأ واحد وقول متحد منذ بداية الخلافة الاسلامية وحتي يومنا هذا، لا يوجد تطابق بين ما ادعوه من شوروية الحكم وما طُبق. كما ان بعض القائلين بالنص في عصرنا لم يثبتوا علي مقولتهم بل نري ذلك البعض يحاول ان يخفف من وطأتها ويدمجها مع الشوري ويحاول ان يجعلها شوري عند التطبيق وهكذا.

بعض الباحثين في شؤون الملل والنحل ذكروا لنا اتجاهاً ثالثاً بين الشوري والنص وهو التلفيق بين هاتين النظريتين، ولم يعدوها من القول بالنص بل يجعلونها من القول بالشوري، وأوضح مثال علي ذلك هو ما سارت عليه الزيدية والاسماعيلية. حيث حسبوا ان هناك تصادماً بين القول بالنص وبين لزوم اقامة الحكم الاسلامي، وهذا التصادم هو الذي ألجأهم الي التلفيق. وهذا المنزلق استطاعت الامامية ان تخرج منه وحافطت علي وتيرة القول بالنص من دون تلفيق مع الشوري. وقد يكون من الامور التي دفعت الي التلفيق هو احجام مَن نُص عليه

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 114

عن اقامة الحكم السياسي، مع عدم الالتفات الي أن الأئمة عليهم السلام كانت لهم حكومة حقيقية مبسوطة علي كل مَن شاء الرجوع اليهم. وان المتتبع للروايات المتناثرة هنا وهناك يري ان الأئمة كانوا يمارسون كل انواع السلطة وكافة شؤونها وأنهم لم يحجموا في واقع الأمر وانما قد أدبر الناس عنهم.

واكثر مؤلفي الشيعة ممن تعرضوا للملل والنحل ردوا شبه الزيدية فراجع اكمال الدين

والغيبة للطوسي وأصول الكافي للكليني والكشي في رجاله.

فنري الشهرستاني في الملل والنحل يقول: والاختلاف في الإمامة علي وجهين: أحدهما: القول بأن الإمامة تثبت بالاتفاق والاختيار. والثاني: القول بأن الإمامة تثبت بالنص والتعيين. فمن قال: إن الإمامة تثبت بالاتفاق والاختيار قال بإمامة كل من اتفقت عليه الأمة أو جماعة معتبرة من الأمة: إما مطلقاً وإما بشرط أن يكون قرشياً علي مذهب قوم، وبشرط أن يكون هاشمياً علي مذهب قوم «1».

وقال: الخلاف الخامس: في الإمامة، وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الامامة، إذ ما سُلّ سيف في الإسلام علي قاعدة دينية مثل ما سل علي الإمامة في كل زمان..

- ثم نقل كلام عمر حين حضر مع أبي بكر سقيفة بني ساعدة- فقبل أن يشتغل الأنصار بالكلام مددت يدي إليه فبايعته وبايعه الناس، وسكنت الفتنة، إلا أن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقي اللَّه المسلمين شرها فمن عاد الي مثلها فاقتلوه، فأيما رجل بايع رجلًا من غير مشورة من المسلمين فإنها تغرّة يجب أن يقتلا … وهذه البيعة هي التي جرت في السقيفة «2».

وقال: الخلاف الثامن: في تنصيص أبي بكر علي عمر بالخلافة وقت الوفاة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 115

فمن الناس من قال: قد وليت علينا فظاً غليظاً. وارتفع الخلاف.. «1».

وقال في الباب السادس: الشيعة: هم الذين شايعوا علياً رضي الله عنه علي الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته: نصاً ووصيةً إما جلياً وإما خفياً واعتقدوا أو الامامة لا تخرج من أولاده وقالوا: ليست الإمامة قضية مصلحة تناط باختيار العامة وينتصب الإمام بنصبهم، بل هي قضية أصولية، وهي ركن الدين لا يجوز للرسل عليهم السلام اغفاله وإهماله، ولا تفويضه الي العامة وارساله. ويجمعهم القول بوجوب التعيين والتنصيص وثبوت عصمة الأنبياء والأئمة وجوباً

عن الكبائر والصغائر والقول بالتولي والتبري: قولا وفعلا، وعقداً، الا في حال التقية ويخالفهم بعض الزيدية في ذلك» «2».

وقال في الزيدية: اتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة (رضي اللَّه عنها)، ولم يجوزوا ثبوت الإمامة في غيرهم، إلا أنهم جوزوا أن يكون كل فاطمي، عالم، زاهد شجاع، سخي، خرج بالإمامة أن يكون إماماً واجب الطاعة.. وجوزوا خروج إمامين في قطرين يستجمعان هذه الخصال ويكون كل واحد منهما واجب الطاعة.. ثم ذكر السليمانية من فرق الزيدية- أصحاب سليمان بن جرير وكان يقول إن الامامة شوري بين الخلق ويصح أن تنعقد بعقد رجلين من خيار المسلمين وأنها تصح في المفضول مع وجود الأفضل وأثبت إمامة أبي بكر وعمر حقا باختيار الأمة حقاً اجتهادياً وربما كان يقول: إن الأمة أخطأت في البيعة لهما مع وجود علي رضي الله عنه خطأ لا يبلغ درجة الفسق.. قالوا: الإمامة من مصالح الدين، ليس يحتاج اليها لمعرفة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 116

اللَّه تعالي وتوحيده، فإن ذلك حاصل بالعقل لكنها يحتاج اليها لإقامة الحدود والقضاء …» «1».

وقال عن الصالحية والبترية من الزيدية وقوله في الإمامة كقول السليمانية..

وأكثرهم- في زماننا- مقلدون لا يرجعون الي رأي واجتهاد أما في الأصول فيرون رأي المعتزلة حذو القذة بالقذة ويعظمون الاعتزال أكثر من تعظيمهم أئمة اهل البيت وأما في الفروع فهم علي مذهب أبي حنيفة..» «2».

ويقول سعد بن عبداللَّه الاشعري القمي، وهو من الفقهاء اخذ اصل كتابه في الفرق عن النوبختي وهو من المتكلمين له كتاب الفرق والمقالات، الا ان سعد اضاف علي ما أخذه: واختلف أهل الاهمال في إمامة الفاضل والمفضول فقال أكثرهم: هي جائزة في الفاضل والمفضول

اذا كانت في الفاضل علّة تمنع عن إمامته ووافق سائرهم أصحاب النص علي أن الإمامة لا تكون إلا الفاضل المتقدم، واختلف الكل في الوصية فقال أكثر أهل الاهمال: توفي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ولم يوص الي أحد من الخلق … ثم عدّ البترية والسليمانية من فرق الزيدية من أهل الاهمال» «3»، وقال عن الجارودية من الزيدية.. فقالوا بتفضيل علي ولم يروا مقامه لأحد سواه، وزعموا أن من رفع علياً عن هذا المقام فهو كافر، وأن الامة كفرت وضلت في تركها بيعته ثم جعلوا الإمامة بعده في الحسن بن علي ثم في الحسين بن علي ثم هي شوري بين أولادهما فمن خرج منهم وشهر سيفه ودعا الي نفسه فهو مستحق للإمامة» «4».. وزعموا أن الإمامة صارت بالنص من رسول اللَّه لعلي بن أبي طالب ثم الحسن بن علي وبعد أن مضي الحسين بن علي لا يثبت الا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 117

باختيار ولد الحسن والحسين وإجماعهم» «1».

وفي المقالات لابن الحسن الاشعري المتوفي 324 ه في ص 451- 467 قال:

وأجمعت الروافض علي ابطال الخروج وانكار السيف ولو قتلت، حتي يظهر لها الإمام، وحتي يأمرها بذلك..».

فهو يشير الي نفس النكتة التي ألمح اليها الشهرستاني من حصر الحاكمية لدي الإمامية في النص وفي قبالهم المعتزلة والزيدية والخوارج والمرجئة حيث يرون خلاف ذلك.

ومن خلال هذه اللمحة التارخية يتضح لنا امران:

1- هي ان الصياغات المختلفة للشوري والتلفيق بينها وبين النص معدود عند اصحاب التراجم والمؤرخين في منهج يقابل النص.

2- ان بعض الفرق الشيعية- في الأصل- انتقلت من النص الي الشوري او الي التلفيق بسبب ما رأوه من تصادم بين النص وبين مسلمة لزوم اقامة الحكومة الاسلامية، حيث عجزت افكارهم عن

ايجاد حل ضمن اطار النص بخلاف فقهاء الامامية الاثني عشرية الذين مع بقائهم وتمسكهم بالنص استطاعوا ايجاد صيغ بديلة عن الشوري او التلفيق.

ومن أمثلة هذه الفرق: الزيدية الذين نتيجة هذا التصادم ذهبوا الي ما ذهبوا اليه، وقد عقد الشيخ الصدوق في كتابه اكمال الدين واتمام النعمة ص 77 فصلًا في الجواب عنه.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 119

«1»

المبحث الثاني النظريات المختلفة في ادارة شؤون الحكم ودور الشوري فيها … ص: 119

1- النظرية الاولي المشهورة: … ص: 119

من أن للأمة صلاحية البت في ولاية الحكم والقيادة من رأس الهرم الي كافة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 120

الاجنحة، وهذه النظرية مع شهرتها إلا انها لا تجد أساساً تطبيقياً في التاريخ الاسلامي من انتخاب الخلفاء الثلاثة الي دولة بني امية وبني العباس، لذا نجد أن معالمها قد تكاملت مع العصور المتأخرة ويمكن التعبير عنها بالمصطلح الحديث:

ان السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية بيد الأمة.

ولكن بقي في هذه النظرية نقاط لم تحسم:

منها: أن المدار في الانتخاب هل هو علي الأكثرية الكمية او علي الكيفية مما قد يصطلح عليه أهل الحل والعقد، وعلي الفرضية الاولي هل هي مطلق الكثرة النسبية ولا يلتفت الي الطرف المقابل ولو كان بنسبة 40% فما فوق، حتي وإن كان الطرف الأقل أكثر وعيا وأبصر بالأمر.

ثم هل المدار علي ما يهوي المنتخبون من دون ملاحظة شرائط ومواصفات في المنتخَب أو أنهم مقيدون في انتخابهم بشرائط خاصة.

وهل عليهم مراعاة توفرها بالنحو الاكمل في المنتخب أم بأي درجة كانت.

ومنها: أن الاساس القانوني او بتعبير آخر شرعية الحاكم في تولي السلطة لم يتم تشخيصه وتحديده.

فهل الحاكم المختار هو وكيل عن الجماعة في ادارة شؤونها العامة، وهذا يعني وجود عقد وكالة بينهم، مع ما يستلزمه هذا من القول بأنه وكالة من نوع خاص اذ لا تسري عليه كل احكام الوكالة.

أو أن سلطة الحاكم المختار هي

ولاية علي الأمة وهذه يتصور علي نحوين:

احدهما: ان تنقل الأمة الولاية التي لديها علي نفسها إلي هذا الحاكم.

والاخر: أن يكون له الولاية من قبل اهل الحل والعقد الذين يجعلون الحاكم المنتخب له الولاية، فتكون ولايته طولية كما في ولاية حاكم المدينة المعيّن من قبل الإمام المعصوم.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 121

ففقهاء المذاهب مختلفون في تحديد شرعية سلطة الحاكم.

وقد ظهر متأخراً طرح ثالث للشوري وهو أن الشوري تكون كاشفة ومبينة عمن له حق الولاية في علم اللَّه عزوجل، والشوري تكون كاشفاً اثباتياً عن الاجدر والاكثر تأهلًا لنيل منصب الولاية، وان الولاية ثابتة له من اللَّه عزوجل. ويظهر هذا الطرح في كتابات بعض المتأخرين من اتباع المذاهب غير الإمامية.

النطرية الثانية: … ص: 121

ان الولاية تثبت بالنص لشخص الولي إلا أن فعلية ولايته منوطة بالبيعة والشوري، وعند فقد النص يكون الأمر شوري، وبالتعبير الحديث يقال ان السلطة التنفيذية بيد الأمة غايتها يكونون مقيدين بالمنصوص عليه وفي حالة عدمه يختارون من تنطبق عليه المواصفات والشرائط، أما السلطة التشريعية فهي بيد الأمة. فالولاية للمختار بالاصالة لا بالنيابة عمن اختار المنصوص عليه.

النظرية الثالثة: … ص: 121

في حالة وجود النص فهو المتبع ولا دور للشوري، وفي حالة عدمه او غيبة المنصوص عليه، فالأمر يعود للأمة لاختبار الحاكم لكن ذلك مشروط بنظارة أهل الخبرة الشرعية وهم الفقهاء.

وفي عصر الغيبة يكون الأمر للأمة شوري تمارس السلطة التنفيذية والتشريعية غايته يكون ذلك تحت نظارة واشراف الفقيه.

ولهذه النظرية صياغات:

1- ان دور الفقيه يكون كدور المحكمة الدستورية في التعبير الحديث، وهو فصل النزاعات والاختلافات الحاصلة بين السلطات. وامضاء التشريعات التي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 122

تصدرها الهيئة التمثيلية للأمة، وهذا هو ما ذكره الميرزا النائيني في تنبيه الأمة وتنزية الملة.

2- أن الفقيه يكون له دور المشاهدوالرقيب علي سير عمل السلطات الثلاث، فاذا ما انحرفت عن مسارها الصحيح تدخل لتقييم اعوجاجها وهذا ما يذكره الشهيد الصدر في عهد الغيبة.

3- ان الفقيه هو المحور في الحكم غايته قد تعوزه الخبرة العملية في تحصيل الموضوعات فيستعين بأهل الخبرة في كافة المجالات التي يحتاجها في تسيير شؤون الدولة من سياسة واقتصاد وقانون وثقافة … وهذا نظير ما طرحه السيد الخوئي في الجهاد من كونه بيد الفقيه غايته يجب ان يستعين بأهل الخبرة من السياسين والعسكريين في اعلان الجهاد.

وهذا التفسير الاخير يباين النظرية المزبورة وقد يتطابق مع النظرية الخامسة الآتية.

النظرية الرابعة: … ص: 122

النظرية الرابعة:

أن ولاية الأمر هي بيد المنصوص عليه أو مَن ينيبه المنصوص عليه ولا يعود الاختيار للأمة.

غايتها ان كليهما ملزمان في تسيير أمور الأمة بالشوري، ويكون رأي الشوري ملزما لهما ولا يجوز لهما مخالفته.

وطبقاً للتعبير الحديث السلطة التنفيذية بيد المنصوص عليه أو مَن ينيبه والسلطة التشريعية في كلا الفرضين بيد الأمة.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 123

النظرية الخامسة: … ص: 123

أن ولاية الأمر تكون بالنص ولا مناص منه حيث ان الولاية للَّه عزوجل يجعلها لمن يشاء من خلقه، فهي تابعة للمنصوص عليه أو مَن ينيبه، غايته يكون ملزماً في طريقة تسيير شؤون دولته وأمته بالاستشارة لكنه غير ملزم بنتيجة المشورة فيستطيع مخالفتها.

وتكون فائدة الاستشارة بالنسبة للمعصوم ما سوف نبينه فيما بعد اما بالنسبة لغير المعصوم فهي نوع من الاستعانة الفكرية.

وهذه النظرية هي التي يتبناها فقهاء الإمامية وهي مؤدي نظرية النص، غايته فيها نوع من الاستعانة بالشوري في ادارة شؤون الأمة.

وهناك طرح اخير يتداول بين علماء الامامية وليكن نظرية سادسة حاصله أن الولاية هي بالنص دائماً، غايته في عصر الغيبة جعل المعصوم نيابة عامة ضمن من تتوفر فيهم شرائط خاصة. ويعود للأمة تعيين ذلك المصداق فيمن تتوفر فيهم الشرائط.

وشرعية سلطة ذلك الولي المختار من قبل الامة هي بكون الولاية له من المعصوم لا من الامة، غاية الأمر الاستنابة من المعصوم هي لمن تتوفر فيه شرائط أحدها رجوع الأمة اليه المستفاد من: «فارجعوا فيها الي رواة حديثنا» «اجعلوا بينكم ممن قد عرف حلالنا وحرامنا، فإني قد جعلته قاضيا» «فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً».

وهذا الطرح الاخير يكاد يتطابق مع النظرية الخامسة، مع اناطة دور للامة في الاختيار والرجوع الي الفقيه.

وقد خالف الإنصاف من نسب النظريات الاخري الي الامامية بل هي رأي

عدةٍ من المتأخرين، لا المتسالم بينهم المنسوب الي الضرورة عندهم، ومن ثم لم يكن

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 124

من الانصاف ايضاً التعبير والاقتصار علي تلك النظريات مع كونها خلاف ظاهر المشهور بين الإمامية، فإن تصريحاتهم تنادي بالخلاف مع إطباقهم في كل الطبقات علي حصر مشروعية الحكم بكل شعبه وفي كل الأدوار الزمانية بالنص.

وقد بحث الفقهاء جانباً من هذا الموضوع في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واقامة الحدود وكتاب القضاء، وكتاب الجهاد ومسألة التولي عن السلطان الجائر في المكاسب المحرمة.

ولابد أن نشير إلي أن النظريات الاربعة عندما تسند دور الشوري في تشريع القوانين فان ذلك يكون في الموارد التي سكت عنها الشارع ولم يكن له فيها حكم خاص، وبتعبير اخر أن الشوري تكون لسد منطقة الفراغ في التشريع.

بخلاف النظريتين الخامسة والسادسة حيث لا يكون لمجلس الشوري- مثلًا- اي دور تشريعي بل هو اشبه بالمجلس الاستشاري فتحتاج قوانينه الي امضاء الفقيه.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 125

المبحث الثالث: الادلة النقلية التي اقيمت علي النظريات المختلفة … ص: 125

اشارة

وتشترك النظريات الأربعة في اناطة جانب من الحكم- التنفيذي والتشريعي.

- بالأصالة للأمة، ومن هنا سوف نجعل ذلك هو المحور في البحث، فهل يوجد للأمة مثل هذا الدور أم لا؟

والمستدل بهذه الادلة تارة يستدل علي أن الولاية لمجموع الامة وتارة للنخبة وهم أهل الحل والعقد، وقد يستدل بها علي أن الولاية ثابتة للامة في عصر الغيبة فقط دون عصر النص.

أولًا: الادلة المتضمنة للفظ الشوري: … ص: 125
1 الآيات: … ص: 125

وقد ورد لفظ الشوري في موضعين من القرآن الكريم:

أ- قوله تعالي: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَي اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» «1»

.ب- «وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَي بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ» «2»

.فالآية الاولي وردت بصيغة الأمر، والآية الثانية وردت في سياق بيان صفات

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 126

المؤمنين وبعض هذه الصفات الزامي وبعضها ندبي.

وصيغة الامر في الآية الاولي تجلي الخطاب اذ هو أمر في وجوب المشاورة في كافة الشؤون حتي بالنسبة للرسول، ويكون الهدف من ذلك تعليم الأمة وتثقيفها علي هذا النوع من الاسلوب وهو المشورة.

اما الآية الثانية فورد فيه لفظان الأول: امرهم والمراد به الشأن او الشي ء المهم، وعند اضافته الي المسلمين يكون المجموع دالًا علي أن الأمر والشي ء المهم هو الذي يرتبط بالمجموع، وهل يوجد ما هو أهم من تعيين الولي الذي يقوم بادارة شؤون المجتمع؟!

اما الشوري فتعني تداول الاراء بين المجموع، وكلمة بينهم تؤكد دخالة المجموع في ابداء الرأي واستقلالية هذا الرأي عن العناصر الخارجة عنهم.

والآية الكريمة تعدد مجموعة من صفات المؤمنين أكثرها الزامي كاقامة الصلاة والانفاق الواجب والاجتناب عن الكبائر، وهذا الوصف طبيعي من حيث تعلقه بالوظائف العامة والامور التي تعني

المجتمع لا تقبل الندبية، حيث أن بعض الامور ان شرعت وجبت ولا يمكن أن تكون مشروعة وغير واجبة، وبهذا يستدل علي الزامية الشوري الواردة في هذه الآية.

ويلاحظ أن هذه الآية مكية وقد نزلت في وقت لم يكن للمسلمين دولة وكيان بالمعني المتعارف.

2 الاستدلال بسيرة الرسول … ص: 126

الأكرم صلي الله عليه و آله حيث التزم بالشوري في عدة مواضع:

1- واقعة بدر: حينما نزل الرسول في موقع، قال له الحباب بن المنذر بن الجموح: يارسول اللَّه أرأيت هذا المنزل، أمنزلًا انزلكه اللَّه ليس لنا ان تقدمه ولا تتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: يارسول اللَّه فان هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتي نأتي اول

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 127

ماء من القوم فتنزله ثم تغور ما وراءه من القُلُب، ثم تبني عليه حوضاً فتملؤه ماءً ثم تقاتل القوم فتشرب ولا يشربون، فقال له الرسول صلي الله عليه و آله: لقد اشرت بالرأي «1».

2- غزوة أحد: حيث تشير كثير من كتب السير علي أنه صلي الله عليه و آله كان رأيه البقاء في المدينة، ورأي عامة المسلمين هو الخروج، وقد اختار ما رآه عامة المسلمين في الخروج من المدينة، حيث دخل صلي الله عليه و آله بيته وخرج لابساً لامته وصلي بهم الجمعة، ثم خرج فندم الناس وقالوا: يارسول اللَّه استكرهنا ولم يكن لنا ذلك فان شئت فاقعد صلي اللَّه عليك. فقال صلي الله عليه و آله: ما ينبغي لنبي اذا لبس لامته أن يضعها حتي يقاتل «2».

3- غزوة الاحزاب- الخندق: … ص: 127

فقد أخذ برأي سلمان الفارسي في حفر الخندق. وقصته معروفة مشهورة.

وموقف آخر حينما أراد الرسول صلي الله عليه و آله عقد الصلح مع غطفان، فأرسل الي عيينة بن حصين والحارث بن عوف وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة علي أن يرجعا بمن معهما عنه وعن اصحابه، فلما اراد أن يوقع معهما الشهادة والصلح بعث الي سعد بن مُعاذ وسعد بن عُبادة، فذكر لهما ذلك واستشارهما فقالا:

يارسول اللَّه، أمراً تحبه

فنصنعه أم شيئاً أمرك به اللَّه لابد لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا؟ قال: بل شي ء أصنعه لكم، واللَّه ما أصنع ذلك الا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوسٍ واحدة، وكالبوكم من كل جانب فأردت أن اكسر عنكم من شوكتهم الي امرٍ ما. فقال له سعد بن معاذ: يارسول اللَّه قد كنّا نحن وهؤلاء القوم علي الشرك باللَّه وعبادة الاوثان لا نعبد اللَّه ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قِريً أو بيعاً. أفحين أكرمنا اللَّه بالاسلام وهدانا له واعزنا بك

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 128

وبه نعطيهم اموالنا. واللَّه مالنا بهذا من حاجة، واللَّه لا نعطيهم إلا السيف حتي يحكم اللَّه بيننا وبينهم، قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: فأنت وذلك فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب ثم قال: يجهزوا علينا «1».

فهذه المواقف هي نبذ يسيرة من سيرة الرسول صلي الله عليه و آله في تعامله مع قومه وانه كان ينزل عند رأي من يستشارهم، ولو لم يكن ينزل عند رأيهم لكان الامر بالمشورة لغواً وعبثاً.

وعليه نعود الي الآيتين الكريمتين فان الامر الواردالاستشارة فيه اما ان نعممه الي رأس الهرم السياسي وهو الخليفة والزعيم او لا أقل يستفاد منها الالزام في الوظائف التي تهم المجتمع كالقوة التنفيذية والتشريعية.

3- الاستدلال بالعديد من الروايات الدالة علي وجوب الشوري، ونحن نقسمها الي أصناف:

الصنف الأول: … ص: 128

روايات الشوري: قول علي عليه السلام في النهج/ قسم الكتب/ 6: «انه بايعني القوم الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان، علي ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يردّ، وانما الشوري للمهاجرين والانصار فإن اجتمعوا علي رجل وسمّوه إماماً كان ذلك للَّه رضي،

فان خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه الي ما خرج منه.

فإن أبي قاتلوه علي اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولّاه اللَّه ما تولي، وان طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي وكان نقضهما كردهما فجاهدتهما علي ذلك حتي جاء الحق وظهر أمر اللَّه وهم كارهون فادخل فيما دخل فيه المسلمون» وقد ذكر صدرها ابن

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 129

مزاحم في وقعة صفين: «أما بعد فإن بيعتي لزمتك وأنت بالشام لأنه بايعني..».

- النبوي: «إذا كان امراؤكم خياركم واغنياؤكم سمحاءكم وأموركم شوري بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها» «1»

.- النبوي: «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة» البخاري كتاب المغازي باب كتابه صلي الله عليه و آله الي كسري.

- قوله عليه السلام عندما اريد البيعة له: «دعوني والتمسوا غيري.. واعلموا ان اجبتكم ركبت بكم ما اعلم، ولم اصغ الي قول القائل وعتب العاتب، وان تركتموني فأنا كأحدكم ولعلي اسمعكم واطوعكم لمن ولّيتموه أمركم وانا لكن زوير خير لكم من امير» «2»

.- تاريخ اليعقوبي 2: 9 في احداث غزوة مؤتة قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: أن أمير الجيوش زيد بن حارثة فإن قتل فجعفر بن أبي طالب فإن قتل فعبداللَّه بن رواحة فإن قتل (فليرتضي المسلمون من أحبوا).

- وفي الطبري 6/ 3066 عن ابن الحنفية «كنت مع أبي حين قتل عثمان فقام فدخل منزله، فأتاه أصحاب رسول اللَّه صلي الله عليه و آله فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل ولا بد للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحدا أحق بهذا الامر منك، لا اقدم سابقة ولا اقرب من رسول اللَّه صلي الله عليه و آله فقال: لا تفعلوا فاني اكون وزيراً خير من أن أكون أميرا،

فقالوا: لا واللَّه، ما نحن بفاعلين حتي نبايعك.

قال: ففي المسجد، فان بيعتي لا تكون خفية ولا تكون الا عن رضي المسلمين».

- وفي الكامل 3/ 193: «أيها الناس عن ملأ وأذن إنّ هذا امركم ليس لأحد فيه حق الا من أمّرتم، وقد افترقنا بالأمس علي أمر وكنت كارهاً لأمركم فأبيتم الا أن اكون عليكم، ألا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 130

وانه ليس لي دونكم الا مفاتيح ما لكم وليس لي أن أخذ درهماً دونكم».

- كشف المحجة لابن طاووس/ 180 قوله عليه السلام: «وقد كان رسول اللَّه صلي الله عليه و آله عهد اليّ عهداً فقال: ياابن أبي طالب لك ولاء امتي، فان ولوك في عافية واجمعوا عليك بالرضا فقم بأمرهم، وان اختلفوا عليك فدعهم وما هم فيه».

- النبوي في شرح ابن أبي الحديد 11/ 11: «ان تولوها عليا تجدوه هاديا مهديا».

- كتاب سليم بن قيس/ 118 عن النبي صلي الله عليه و آله قال: «ما ولت امة قط أمرها رجلًا وفيهم أعلم منه الا لم يزل امرهم يذهب سفالًا حتي يرجعوا الي ما تركوا».

- كتاب سليم بن قيس/ 182 عنه عليه السلام، والواجب في حكم اللَّه وحكم الإسلام علي المسلمين بعدما يموت امامهم أو يقتل … أن لا يعملوا عملًا ولا يحدثوا حدثاً ولا يقدموا يدا ولا رجلًا ولا يبدؤوا بشي ء بل أن يختاروا لأنفسهم اماما عفيفاً عالما عارفا بالقضاء والسنة يجمع أمرهم».

- مقاتل الطالبيين/ 36 عن الحسن المجتبي عليه السلام في خطاب لمعاوية «ان علياً لما مضي لسبيله.. ولّاني المسلمون الأمر بعده، فدع التمادي بالباطل وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي فإنك تعلم اني أحق بهذا الأمر منك».

- بحار الأنوار 44/ 65 ب 19 كيفية المصالحة من

تاريخ الإمام الحسن عليه السلام:

«صالحه علي أن يسلم له ولاية أمر المسلمين، علي أن يعمل فيهم بكتاب اللَّه وسنة رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وسيرة الخلفاء الصالحين وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد الي أحد من بعده عهدا، بل يكون الأمر من بعده شوري بين المسلمين».

- إرشاد المفيد/ 185- الكامل في التأريخ ابن الأثير 4/ 20- كتاب وجهاء الكوفة لسيد الشهداء عليه السلام: «أما بعد فالحمد للَّه الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزي علي هذه الامة فابتزها أمرها وغصبها فيئها وتأمّر عليها بغير رضي منها»

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 131

فأجابهم عليه السلام: «اني باعث اليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل فان كتب إلي انه قد اجتمع رأي ملائكم وذوي الحجي والفضل منكم علي مثل ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم فإني اقدم اليكم وشيكاً».

- الدعائم 2/ 572 كتاب آداب القضاء عن الصادق عليه السلام: «ولاية أهل العدل الذين أمر اللَّه بولايتهم، وتوليتهم وقبولها والعمل لهم فرض من اللَّه».

- قوله عليه السلام لطلحة والزبير: «ولو وقع حكم ليس في كتاب اللَّه بيانه ولا في السنة برهانه لشاورتكما» «1»

.- سنن أبي داود ج 2. كتاب الجهاد باب القوم يسافرون يؤمرون أحدهم.

عن النبي صلي الله عليه و آله اذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمر أحدهم. وفي مسند أحمد بن جنبل ج 2/ 177 لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة، إلا أمروا عليهم أحدهم.

- في كتاب الوثائق السياسية ص 120 الوثيقة 33 معاهدته مع أهل ومضمون المعاهدة هو أنه ليس عليكم أمير إلا من انفسكم او عن أهل رسول اللَّه والسلام.

- في خطبة الإمام علي عليه السلام رقم 73.

«ولعمري لأن

كانت الإمامة لا تنعقد حتي تحضرها عامة الناس فما الي ذلك بسبيل، ولكن أهلها يحكمون علي مَن غاب عنها ثم ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار».

وفي الخطبة 127: «والزموا السواد الاعظم فإنّ يد اللَّه مع الجماعة واياكم والفرقة».

- وفي وقعة صفين عندما كان القرّاء يتوسطون بين الامام ومعاوية قال معاوية:

إن كان الأمر كما يزعمون فما له ابتز الأمر دوننا علي غير مشورة منا ولا ممن هاهنا معنا، فقال علي عليه السلام: «انما الناس تتبع المهاجرين والانصار، وهم شهود المسلمين

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 132

علي ولايتهم وأمر دينهم، فرضوا بي وبايعوني، ولستُ استحل أن أدع حزب معاوية يحكم علي الامة ويركبهم ويشق عصاهم».

فرجعوا الي معاوية فأخبروه بذلك فقال: ليس كما يقول، فما بال مَن هاهنا من المهاجرين والانصار لم يدخلوا في الأمر فيؤامِروه، فانصرفوا الي علي عليه السلام فقالوا له ذلك واخبروه فقال عليه السلام: «ويحكم هذا للبدريين دون الصحابة وليس في الارض بدري الا وقد بايعني وهو معي، أو قد أقام ورضي فلا يغرنّكم معاوية من انفسكم ودينكم» «1»

.فهذا الجواب للامام يدلل علي مدي قيمة رأي النخبة في المجتمع أو أهل الحل والعقد.

وأمر الإمام معروف عندما أقبل عليه الثائرون من الامصار بعد مقتل عثمان وارادوا مبايعته فقال: انما ذلك لاهل الشوري وأهل بدر.

ولا يتصور أن اجوبة الامام هي في مقام المحاجة فقد ورد عن الإمام الرضا عليه السلام عن ابائه عليهم السلام عن النبي صلي الله عليه و آله: «من جاءكم برأيه يفرّق الجماعة ويغصب الامة امرها ويتولي من غير مشورة فاقتلوه» «2»

.فهي ليست في مقام المحاجة بل ذكرها ابتداءً وتأسيساً لقانون وجوب اتباع رأي الامة وهو الشوري وعدم جواز الخروج عن رأيهم.

الصنف الثاني: … ص: 132

روايات

الاستشارة: وهي روايات كثيرة متظافرة من جهة المعني تؤكد علي ضرورة المشاورة والاستشارة في كافة الامور نحو قوله عليه السلام: «لن يهلك امرؤ عن

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 133

مشورة»، «خاطر بنفسه من استغني برأيه»، وذكرت الروايات فضيلة المشاورة والشروط الواجب توفرها في المستشار من الايمان والعقل وهي مفصلة يمكن ملاحظتها في وسائل الشيعة كتاب الحج. ابواب احكام العشرة باب 21- 26 وفي بحار الانوار الجزء 72 باب 43- 48.

وتقريب الاستدلال بهذه الطائفة:

أ- ان التأكيد الوارد في هذه الروايات يدلل علي محبوبية الاستشارة ولزوم اتباع نتيجتها، ولو كانت نتيجتها غير واجبة الاتباع لكان الامر بها والحث عليها بهذا النحو لغوا وعبثاً.

ب- انه قد ورد في بعض الروايات علي نحو القضية الشرطية من لم يستشر هلك. فقد يقول قائل ان الوقوع في الهلكة في بعض الحالات قد يكون له وجه لكن اذا عممنا الامر بالاستشارة للوظائف العامة التي تهم صالح المجتمع فان الوقوع في التهلكة لا يكون جائزاً بأي نحو كان. فهي تدلّ علي وجوب الاستشارة ولزوم نتيجتها.

ج- بعض الروايات توجب اتباع اراء المستشارين وفي بعضها التحذير «اياك والخلاف، فإن مخالفة الوَرِع العاقل مفسدة في الدين والدنيا» «1»

. فهذه تدل علي لزوم الاخذ بالاستشارة.

د- ورد في روايةٍ انه قيل: «يارسول اللَّه ما الحزم؟ قال: مشاورة ذوي الرأي واتباعهم» «2»

.فالاستشارة لها ارتباط بالحزم وهو استجماع العزم والارادة فالارادة في مثل هذه الامور التي تهم المجتمع والتي يجب أن يؤخذ بها بالحزم يجب أن تكون صادرة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 134

ومنبعثة عن الاستشارة.

ه- ان العقل العملي يحكم بلزوم الاستشارة وذلك لأن عقل الانسان وحده غير محيط بجهات الحسن والقبح في الافعال فإذا أراد أن يقدم علي أمرٍ ما يجب عليه مشاورة

الاخرين والاخذ بارآئهم حتي يظهر له وجوه الحسن والقبح، وتزداد أهمية الاستشارة كلما ازدادت أهمية المورد الذي يريد الانسان أخذ قرار فيه، فكيف اذا كان شأناً من شؤون المجتمع العامة والمصالح العامة. والحكم والعلل المذكورة في الروايات انما هي ارشاد لهذا الحكم العقلي.

وقد يقال: ان الآيات والروايات الواردة في الشوري لا تدل علي المطلوب وذلك لانها اكتفت بذكر العنوان فقط مع الاغفال عن ذكر تفصيلات الاستشارة وكيف تكون؟ وما هو دور أهل الحل والعقد؟ وماذا يحصل عند الخلاف؟ وهذا مع عظم أهمية الشوري حسب مدعي القائل ودخالتها في تلك الامور الهامة فلماذا سكت الشارع عن تحديد كل هذه التفصيلات؟

والجواب: انه مما لاشك فيه أن هذه القاعدة تدخل في تنظيم شؤون المجتمع فهي تتأثر بظروف المجتمع الخاصة، فلو كان الرسول صلي الله عليه و آله قد اتخذ عدداً معيناً للمشورة فهو عدد يتلائم مع تعداد المسلمين في ذلك الزمان ومع ذلك فانه سوف يتمسك بهذا العدد حتي مع بلوغ عدد أفراد المجتمع الآف الاضعاف، فلذلك لم يشأ الرسول صلي الله عليه و آله أن يجعل هناك ضوابط جزئية لهذه المسألة الهامة حتي يكون لكل مجتمع في كل زمان ما يرتأيه طبقاً لظروفه الخاصة وحتي يكون الاسلام متلائماً مع التطورات الحاصلة في كل مجتمع.

هذا تمام ما يمكن الاستدلال به من الطائفة الاولي وهي أهم الطوائف، يبقي كيفية الاستفادة من الشوري في اتخاذ الاراء والقرارات هل يتبع الكم ام الكيف؟

فمن جهة يقال انه من اجل حفظ النظام واستقامة الامر لا يمكن طرح رأي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 135

الاكثرية فيجب أن يؤخذ به علي حساب الاقلية.

والمشكلة تنشأ من أن الأقلية لو كانت متضمنة لرأي نخبة المجتمع من المفكرين والعلماء، فكيف يمكن

غمض النظر عن هذا الأمر وترجيح رأي الاكثرية.

فذهب كثير الي محاولة التلفيق بين هذين الرأين:

- فقال البعض إن الامة يجب أن تقوم بانتخاب النخبة وهؤلاء ينتخبون الولي.

- أن توضع حدود لانتخاب واختيار الامة اي لا تكون الامور مطلقة علي عنانها بالنسبة للامة بل يجب أن يتقيدوا بقوانين وأحكام اسلامية.

التقييم: … ص: 135
أولا: رأي آخر في فهم الأدلة: … ص: 135

في مقام تقييم هذه الادلة من آيات وروايات وقبل أن نبدأ بالاجابة علي كل نقطة من النقاط السابقة فانا نذكر ان نفس الآيتين اللتين استدل بهما علي الشوري يوجد لهما تفسير آخر وهو مشهور وشائع بين المفسرين والمفكرين وحاصل ذلك:

ان المستفاد من الآيات والروايات هو حث المكلف- الذي هو في موضع المسؤولية عن الامة وادارة شؤونها بل حتي في اموره الخاصة- علي الاستشارة وتوسعة افق التفكير ومنابعه، وعدم التعنت برأيه والتوحد به بل يلزم الانسان بفحص اراء الآخرين مع تمسكه بأن يكون الرأي النهائي له والا يكون متحركاً تبعاً لارادة المجموع.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 136

بيان ذلك:

ذكرنا سابقاً في الفصل الاول عن وجود قوتين مفكرتين في النفس البشرية أحدهما النظرية والاخري العملية فالاولي تقوم بدور البحث بين المعلومات المتوفرة لأجل تهيئة مقدمات استكشاف المجهول وادراك النتيجة.

والاخري عملية تقوم بدور الاذعان والتسليم والجزم بتلك النتيجة وتسيير القوي السفلي وممارسة دور الامير والتوجيه لها.

وبتعبير آخر ان الانسان في منهجية تفكيره يتبع ما هو متداول في العصر الحديث من سلطات الشوري والتشريع حيث دور البحث والتنقيب، ثم دور القضاء القانوني الذي يقوم بالاذعان والجزم بهذه النتيجة وعدمها ثم دور التنفيذ وتوجيه القوي العمالة.

فالانسان في تفكيره ينطوي علي تلك السلطات التي تدير شؤون المجتمع المدني. لذلك عبر عن المجتمع بالانسان المجموعي، وكلما دققنا النظر وتأملنا في سير عملية التفكير في الانسان الصغير

سوف يتضح لنا حلًا لملابسات كثيرة في الانسان المجموعي.

فالمدعي هو أن الشور والتشاور فعل ومادة وعنوان لفعل القوي الفكرية النظرية، وليس عنواناً لفعل القوي العملية وسلطتها العمالة علي القوي النازلة وهي الارادة، ثم ترد مرحلة الجزم والتسليم والاذعان وهي مرحلة قضائية اذ تكون فيصلًا بين التسليم بتلك النتيجة وعدمها وهو فعل مزدوج بين القوة الفكرية والعملية فالقضاء يقوم بتحديد الكبري وهو عمل فكري وليس بعملي ثم تطبيق الكبري علي النزاعات والموارد الموجودة والمعروضة امامه.

وعلي كل حال فالمشورة والتساؤل يقابله الفعل الاول من افعال العقل وهو البحث والتنقيب، والفعل الثاني هو ادراك النتيجة فهو أمر غير مسألة البحث وان

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 137

اختص بها العقل النظري أيضاً إلا انه ليس عين الفعل الأول، ويبقي الفعل الثالث وهو الجزم والتسليم والاذعان وهو ما اطلقنا عليه بالقضائية.

إذن فالمشورة والتشاور ماهية لفعل ادراك المعلومات لا ماهية لفعل عملي فكيف يناسب عنوان السلطة والولاية والقدرة التي هي عناوين لأفعال القوي العملية، فهناك جمع للآراء تارة واخري جمع للارادات فالشوري عنوان للأول لا للثاني، بل ليست هي في حقيقتها ايضاً جمع للآراء ولي للجمع والاجتماع مدخلية فيها بل هي كما سيأتي في معناه المقرر في اللغة تقليب الآراء لاستخراج الصواب سواء كان هو رأي الواحد أو الأقل او الاكثر فصبغة الرأي المنتخب هو لصوابيته لا لكثرته فهي لا تعني حسم الامر في اتخاذ قرار في مسألة ما بل هو مقدمة لفعل آخر يقوم به المستشير.

واذا عدنا الي مفسري العامة في القرون الاربعة الاولي لا نلاحظ وجود نظرية معينة حول الشوري أو تفسير كلا الآيتين بمعني ولاية الشوري، بل علي العكس تراهم يذهبون في تفسيرها الي معني المشورة اللغوية ويشكك الطبري انه

كيف يؤمر النبيّ باتباع الشوري مع انه صلي الله عليه و آله غني عن المسلمين بالوحي «1». ويذكر فوائد الشوري من اقتداء الامة به، وتأليف قلوبهم وينقل ذلك عن قتادة وابن اسحاق والربيع والضحاك والحسن البصري، والسيوطي في الدر المنثور يورد روايات كثيرة في ذيل الآية الكريمة علي حسن الاستشارة واستحبابها، وان المشاورة من الامور الموصلة للحق ومنها ما عن الامام علي عليه السلام: يارسول اللَّه اذا نزل بنا الأمر من بعدك وليس فيه قران وليس فيه من قولك ومن سنتك فماذا نصنع؟ قال: اجتمعوا وليكن فيكم العابد فترشدون الي أصوب الآراء.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 138

فقد يستفاد منها أنه في مورد منطقة الفراغ يكون التشريع بيد الشوري. إلا ان الامر ليس كذلك بل المشاورة من أجل معالجة الأمر من كافة جوانبه وتبادل الرأي للوصول الي ما هو الصواب في نفسه لا من جهة نسبته للاكثرية أو شبهها.

والزمخشري في ذيل «وَأَمْرُهُمْ شُورَي بَيْنَهُمْ» ان الشوري كالفُتيا بمعني التشاور، وفي ذيل «وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ» يعني في أمر الحرب ونحوه مما لم ينزل عليك فيه وهي لتستظهر برأيهم … ويذكر من فوائده لئلا يثقل علي العرب استبداده صلي الله عليه و آله بالرأي دونهم، «فَإِذَا عَزَمْتَ» يعني قطعت الرأي علي شي ء بعد الشوري «1».

فالجزم والرأي النهائي يكون للرسول صلي الله عليه و آله وهو قد يخالف اكثرية الاراء.

وما نلاحظه من استدلال العامة بالآيتين علي ولاية الشوري بدأ في العصور المتأخرة بكتابات الآلوسي ورشيد رضا وابن الخازن.

اذن خلاصة ما يذهب اليه هذا الرأي انه يوجد منحي في فهم هاتين الآيتين غير ما استدل به اصحاب ولاية الشوري، وأن أوائل المفسرين لم يجعلوا هذه الآية دليلًا علي ولاية الشوري.

مضافاً الي

أن مبدأ ولاية الشوري يقترب من مبدأ سيادة الامة، وهو المصطلح الحديث في النظم السياسية المعبر عن حكم الامة، وتدخل الامة في ادارة شؤونها بنفسها، وهذا المبدأ من المبادئ الحديثة التي ظهرت في القرنين الاخيرين وما زالت تتدخل فيه يد القانونيين حتي يسدوا الثغرات التي تظهر بين آونة واخري، فلا نجد مظهراً واحداً معبراً عن هذا المبدأ مع أن اغلب دول العالم تتمسك به وان الديمقراطية هي الاساس الذي تستند عليه الدولة الحديثة إلا ان الثغرات والعيوب

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 139

الكثيرة التي ظهرت في هذه الممارسة للسلطة دعتهم الي أن يعيدوا النظر مرة وثانية وثالثة ليغيروا في طريقة الانتخاب وأهلية المنتخب وما ذلك إلا لأنهم يرون أن هذه الديمقراطية تؤدي الي مظهر من مظاهر الدكتاتورية الحديثة بسيطرة اصحاب رؤوس الاموال وظهور طبقة معينة تتداول الحكم فيما بينها.

ثانياً: الجواب عن تلك الأدلة: … ص: 139
اشارة

بعد استعراض السير التأريخي لنظرية الشوري والرأي الآخر في فهم الآيتين الشريفتين وهو الحق فإنا نذكر الجواب عن الأدلة السابقة وهي في نفسها تكون دليلًا علي الفهم الآخر الذي ذكرناه وقويناه.

الوجه الاول: … ص: 139

وهو العمدة حيث أن المعني اللغوي لمادة الشور والمشاورة معاً هو الموضوع لهذا المصطلح.

- الراغب الاصفهاني فسر الشوري بأنها من التشاور والمشاورة والمشورة وهي استخراج الرأي بمراجعة البعض الي البعض الآخر. وقولهم: شرت العسل اذا أخذته من موضعه واستخرجته منه «1».

- وابن منظور في لسان العرب يذكر ان الاصل اللغوي هو من شار العسل اي استخرجه من الوقية واجتناه. ويقال: شرت الدابة اذا أجريتها لتعرف قوتها.

وحمله البعض علي قوله تعالي: «وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ» بمعني لتعلم الامين والمخلص من غيره واستشاره اي طلب منه المشورة.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 140

فالمدار في الاشتقاقات تشير الي عملية الفحص والبحث الفكرية عن حقيقة الأمر والوصول الي نتيجة صحيحة «1».

- تاج العروس: فلان شيّرُك وزيرك، يقال: فلان وزير فلان وشيّره اي مشاوره. وجمعه شوراء كما في شُعراء، وأشرني عسلًا واشرني علي عسل أعني علي جنيه وأخذه من مواضعه «2».

وهذه تؤكد أن المشاورة هي أحد اساليب الفحص والبحث قبل اتخاذ الرأي النهائي والعزم الارادي في المسألة، وهو ما اشرنا اليه وأنه الفعل الأول للفكر.

- وأوضح من كل من مضي ما يذكره ابن فارس ان شور وضعت لأصلين مفردين الأول: ابداء شي ء وأظهاره وعرضه. والآخر أخذ شي ء «3».

وكلا المعنين شاهدان علي ما ذكرناه فالاول عملية استكشاف واختبار وفحص، والثانية أخذ الرأي الصائب من تصفح الاراء.

فتكاد كلمات اللغويين تشير الي هذه الحقيقة في الشوري ولم يرد منها ذكر واشارة الي جهة سلطة أو ارادة أو ولاية أو قدرة تتحلي بها الشوري.

- ومن كتب

اللغة المتأخرة نري ما ذكر في المعجم الوسيط شار الشي ء عرضه ليُبدي ما فيه من محاسن، وأشار اليه بيده، أومأ إليه معبراً عن معني من المعاني كالدعوة للدخول والخروج. اشتور القوم: شاور بعضهم البعض، والمستشار:

العليم الذي يؤخذ رأيه في أمر هام علمي أو فني أو سياسي او قضائي ونحوه، هو اصطلاح محدث (إلا انها ليست مرتجلة بل منقولة عن الاصل اللغوي لمناسبة بين المنقول منه والمنقول اليه بل قد يقال انه نفس المعني القديم وليس معني جديداً

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 141

منقولًا «1».

وانما اسهبنا في استعراض كلمات اللغويين لأن عمدة ما يستدل به علي عدم وجود ولاية او سلطة في مادة الشوري هو أصل وضعها اللغوي فاذا ادُعي مثل ذلك في ظهور اللفظة فيجب أن يكون بمؤنة زائدة علي مجرد ورود اللفظ في الكلام.

وكل ما تفيده الكلمة انها شبيه ما يسمي ب (بنك المعلومات او بنك الخبرات).

ويمكن أن نضيف بعض الشواهد المؤيدة لما ذكره اللغويون:

1- ان البشرية تعتمد علي نظام المستشارين في ادارة اي عمل وقلما يوجد مدير أو مسؤول خال عن المستشارين وفي نفس الوقت لا يكون لهم أية سلطة علي المستشير بل وظيفتهم مجرد ابداء الرأي والنصح.

2- ان الفقهاء من الفريقين يذكرون أن أحد أنواع الاستخارة هي الاستشارة وهذا يدل علي أن فهمهم لمادة الشوري هو بمعني انتقاء الرأي الصائب لا وجود سلطة للمستشار علي المستشير.

3- سوف نشير فيما بعد الي التحليل الماهوي لمادة الشوري حيث نذكر انه لا ملازمة بين ابداء الرأي ووجوب الأخذ به. وانما الملزم هو حقانية الرأي واستصوابه.

4- أن الآية الشريفة في مقام بيان صفات خاصة يتحلي بها المؤمنون ومن هذه الصفات عدم استبدادهم بالرأي وعدم نبذهم لاراء الاخرين، فهي

تشير الي ما يجب أن يتحلي به المسلم في شؤونه الخاصة من تحريه للصواب والحكمة وهي ضالته أينما وجدها أخذها، وليس الامر محصوراً بالشؤون العامة التي تهم جميع المسلمين.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 142

5- أن القران اعتني بمسألة الولاية ومن تكون لهم الولاية علي الاخرين ولذا في أي موضع ارادها أشار اليها صراحة «وأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَي بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ».. فالولاية من الامور المهمة سواء كانت فردية أو جماعية فلو كان الشارع قد ارادها في الشوري لصرح بها بمادتها بنحو لا يعتريه شك.

6- قد ورد في القران الكريم في قوله تعالي: «فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا..» …

فالحديث في الآية حول خصام الزوج والزوجة حول الطفل، والفقهاء متفقون علي أن الولاية للأب وأن الحضانة هي للام ومع ذلك ورد التعبير بالتشاور فمع اختصاص الولاية ندب الي التشاور بين الزوجين في أمر الرضاع، وهذا لا يعني كون المشورة ملزمة للولي وهو الأب بل هي معرفة اراء الاخير من أجل اتخاذ الرأي النافع لمصلحة الطفل.

7- ما ورد في قصة بلقيس ملكة سبأ عندما جاءتها رسالة النبي سليمان عليه السلام فانها استشارت قومها مع أن الحكم بيدها فاشاروا اليها: «نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ».

فواضح انهم عرفوا موقعهم في الدولة وان الأمر بيد الملكة ووظيفتهم بيان ما يرونه من الرأي، والتصميم علي الحرب او السلم بيد الملكة. وهي لم تأخذ برأيهم في المواجهة بل اختارت طريق السلم والدبلوماسية.

والغرض ليس الاستدلال بفعل بلقيس بل الاشارة الي أن مسألة الشوري والاستشارة أمر عقلائي منذ القديم، وأسلوب في الادارة متبع منذ الازمنة الغابرة.

والشارع قد أكد علي ذلك الامر المهم وحثّ عليه.

8- في

سورة الحجرات (49: 6): «وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ..».

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 143

حيث انها واضحة الدلالة في أن الرسول لو الزم بالاخذ بنتيجة ارائهم دائماً لوقع المسلمون في العنت والشقة.

والآية واقعة في سلسلة من الآيات التي ترشد الامة الاسلامية الي كيفية التعامل مع الرسول صلي الله عليه و آله وكيفية الخضوع والمتابعة والتوقير وعدم رفع الصوت فوق صوته صلي الله عليه و آله، ويظهر من الآية أن الرسول كان يداري قومه في بعض الشي ء لأجل تطييب خاطرهم وتحبيب قلوبهم لاجل تمهيد الطاعة له صلي الله عليه و آله.

9- ما ورد في اول سورة الحجرات: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».

اي لا تتقدموا علي رسول اللَّه في البت في الامور فضلًا عن تنفيذها فانها ليست من وظيفتهم بل هي وظيفة القيادة في حسم الامر واتخاذ القرار النهائي. فهم تابعون حتي مع طلب المشورة منهم.

بل إن ملاحظة ما تقدم هذه الآية من قضية اخبار وليد بن عقبة حول بني المصطلق وتريث الرسول الاكرم في الاخذ بقوله، وعدم تريث المسلمين بل تصميهم علي العمل بقوله، فالآية تنهاهم عن مثل هذا العزم المتقدم علي عزم الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله.

10- ان الحكمة من المشاورة بناء علي هذا هو ربط القيادة بالقاعدة وتحفيز المواطنين علي المشاركة في الشأن العام.

تلك عشرة كاملة تدعم وتثبت الاصل اللغوي لاصطلاح الشوري وهو مداولة الاراء وتكون جسراً للتفاهم والتحاور وايصال المرادات حتي يصل القائد والمستشير الي نتيجة أقرب الي الصواب ويقل احتمال الخطأ فيها.

وبناء علي هذا التحقيق في المعني اللغوي نصل

الي ان التعبير السائد بولاية الشوري غير صحيح وذلك لأن الولاية تدل علي القوة العملية والتنفيذية وجهة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 144

الحسم واتخاذ القرار. والشوري تدل علي أصل بداية المداولة الفكرية فيوجد تدافع وتنافي بين اللفظين فهذا تعبير ركيك وأعجمي والأعجب صدوره من ادباء عرب يدعون العلم بموازين البلاغة واللغة.

الوجه الثاني: … ص: 144

ما استدل به في «وأمْرَهُم» من ان الاضافة دالة علي أن الشأن المستشار فيه هو ما يهم مجموع المسلمين.

فجوابه بعد بيان مقدمة ان علماء اصول الفقه واصول القانون يتفقون علي أن القضية لا تتكفل اثبات موضوعها بمعني أن القضية تدل علي ثبوت المحمول والحكم للموضوع ويكون الموضوع مفروض الوجود والتحقق، اما تحديد الموضوع وتعيين موارده ومصاديقه فهو قضية اخري لا تتصدي لها نفس القضية.

وبناء عليه فاذا نظرنا الي الآية الكريمة التي تشير الي «وأمْرَهُم» فغاية ما تدل عليه ان الامر والشأن مضاف الي المسلمين ولكي يترتب عليه المحمول كما يدعيه المدعي يجب توفر امران:

احدهما: أن يكون الامر مما يهم جماعة المسلمين.

والثاني: أن يكون صلاحية النظر في هذا الأمر اليهم أي مضاف اليهم مختص بهم. وهذا شرط مهم حتي يمكن تطبيق الآية والحكم بشورائية الأمر. فيجب ان نحرز أن هذا الأمر المجموعي مفوض وموكل الي الجماعة ومما لا شك فيه ان تعيين الامام وثبوت النص وعدم اقحام الامة في اختيار قيادتها سيما في عصر النبي صلي الله عليه و آله والأئمة عليهم السلام أمر مسلم لا يختلف في الأول أحد من المسلمين ولا في الثاني أحد من الشيعة، فانه يدل علي أن هذا الشأن وهو اتخاذ القائد والزعيم ليس من الامور التي تعود صلاحيتها بيد الشوري وعلي كل حال فنفس الآية ومجرد

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 145

تعبير «أمْرَهُم»

لا يثبت المراد.

الوجه الثالث: … ص: 145

ملاحظة ذيل الآية «فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَي اللّهِ».

فان العزم يغاير الشور وهما ليسا بمعني واحد، فالأول متأخر عن الثاني زماناً اذ أنه حاصل بعد الاستشارة في سياق الآية الكريمة، وهو بحسب بياننا لمراحل التفكير يمثل الفعل الثالث في افعال النفس للانسان الصغير أو الكبير، وهو عنوان للقوة الاجرائية والتنفيذية وهي تسند العزم له وحده صلي الله عليه و آله دون بقية المسلمين.

فاتخاذ القرار بيده.

مضافاً الي أن الشوري جعلت فيها للمجموع أما هنا فانه مسند اليه وحده. فهذه مقابلة بين الفعلين مادة واسناداً.

وثالثاً: ان الأمر بالتوكل هو للنبيّ صلي الله عليه و آله والخطاب له وحده.

ورابعاً: ان مادة التوكل يؤتي بها لأجل استمداد القوة ورباطة الجأش، فهو يدل علي انه صلي الله عليه و آله لو خالف رأيهم فعليه ان يعزم عليه ويتوكل علي اللَّه.

وخصوصاً اذا ما قارنا هذه الآية مع ما ورد في سورة الشعراء: «وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِي ءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوَكَّلْ عَلَي الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ».

ففيها ندب للرسول الاكرم ان يربي المسلمين ويجذبهم بلطيف المعاملة وحسن السيرة وخفض الجناح. وليس هذا معناه أن يكون لهم سلطة عليه بل يبقي الامر بيده وعليهم المتابعة والانقياد. فادراة شؤون الامة والحاكمية ليست أمراً فردياً يقوم به شخص واحد ولو كان رسول اللَّه صلي الله عليه و آله بل هو واجب مجموعي يتقاسمه الحاكم والمحكوم كل حسب دوره، ولذا حرص الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله علي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 146

تربية المؤمنين وحثهم علي القيام بهذه المهمة وتكون الشوري وقيامه صلي الله عليه و آله باستشارتهم لاشعارهم أن الأمر يهمهم وان كان عليهم الطاعة المطلقة لقيادته ويكون له الرأي

النهائي والعزم طبقاً للرأي الصائب في نفسه وان كان مخالفاً لهواهم واكثريتهم.

فاذا كانت سيرة المعصوم عليه السلام مع أمته هي سيرة اللين والمداراة والاستشارة فكيف بغير المعصوم الفاقد للعلم اللدني فهو الزم باتباع طريقته وعدم الاستبداد بالرأي وان كان اختيار الرأي النهائي راجعاً اليه وبيده زمام الامور.

الوجه الرابع: … ص: 146

وهو جواب عما قيل انه لو لم تكن نتيجة الشوري ملزمة لكان الأمر بها مع الآية الكريمة عبثاً. وهذا يقودنا الي البحث عن الحِكَم والمصالح المترتبة علي الشوري وهي كثيرة:

منها: تطييب القلوب وتآليفها.

ومنها: اختبار القيادة للقاعدة وتمحيصهم لمعرفة المؤمن الذي يشير من واقع الاحساس بالمسؤولية من غيره الذي يتبع هواه.

ومنها: اشراكهم في الأمر وأن للأمة دور في ادارة دفة الحكم وأنّ القرار الصادر وإنْ كان بيد القائد إلا أنّ لهم دور في صنعه مما يجعلهم يتعاملون معه في تنفيذه ونشره والدفاع عنه بين الناس بشكل أكبر وحماس أكثر حيث يكون عملهم علي بصيرة وقناعة.

ومنها: أن الاستشارة تكون نوعاً من تربية القائد للامة علي كيفية التعامل مع الحوادث المختلفة وأن المحور في كل الاستشارات هو الرأي الصائب والحقاني.

ومنها: أن في الاستشارة حداً من الاستبداد البشري والدكتاتورية المطلقة التي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 147

تجعل الانسان يستبد برأيه مع أنه حقيقة الفقر والاحتياج وان الاستبداد المطلق هو من الصفات الإلهية. أما بني البشر فهم الفقر المطلق والحاجة المطلقة، ولا يكون معصوماً عن الخطأ إلا من عصمه اللَّه عزوجل، فالنبي والإمام مع أن لهم هذه الخصوصية إلا انهم أرادوا تعليم وتربية أمتهم علي عدم الاستبداد بالرأي وأنّ بالمشاورة يمكن الوصول الي أرجح الاراء ومعالجة المشكل من كافة جوانبه، فيقلّ فيه احتمال الخطأ.

ومنها: ان الاستشارة تؤدي الي افشال ما يقوم به المعارضون والمنافقون حيث

انهم يستغلون الغموض الذي يكون في القرارات والاحكام للتلبيس علي الامة، فالاستشارة تؤدي الي رفع ذلك الغموض بحيث يكون ملابسات الحكم وخلفياته واضحة معروفة.

فهذه الحِكَم وغيرها التي تظهر بالتأمل يتضح ان لا لغوية في البَين وهي حكم ومصالح مهمة في نفسها يهتم بها الشارع ومن أجلها يكون تشريع الاستشارة والحث عليها. وسوف يأتي مزيد بيان لهذه النقطة في البحث العقلي.

فاتضح من خلال هذه الوجوه الاربعة أن المستدل اذا استدل بالآية الكريمة علي لزوم رأي الاكثرية من اصطلاح (الشوري وشاورهم) فهو غير دال علي ما ذكر.

اما اذا استدل علي مراده من خلال بيان ان الولاية هي للمجموع فإنه لم يقم الدليل عليه ونفس الآيتين لا تثبتان موضوع نفسهما. كما تقدم بيانه بل يجب أن يقيم دليلًا آخر علي أن هذا الامر والشأن هو لمجموع الأمة وحينئذ يكون لهم الولاية. والمستدل يستفيد من هذه المغالطة في الاستدلال بالآية الكريمة.

الوجه الخامس: … ص: 147

لو أغمضنا العين عن حقيقة معني الشوري، وسلمنا أنها بمعني الارادة والولاية

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 148

للشوري فإن مقتضي استعراض الآراء ومداولتها هو تمحيص الصواب من الخطأ والحق من الوهم والسداد من الخطل، وحينئذ فاللازم أن تكون الولاية للصواب والصائب وإن كان مخالفاً لرأي اكثر وهواهم وميولهم الشخصية فانه كثير ما يصحح الصواب ويتبين السداد ويلتفت الاكثر الي صواب القلة لكن تمنعهم ذواتهم من الاستجابة الي ذلك، فلازم ولاية لاشوري ليس هو نافذية رأي الكثرة وكون المدار علي الاكثرية بل هو نافذية الرأي الصائب والسديد ومحوريته، والا لكان استخدام عنوان ومادة الشوري في الأدلة خاطئاً وكان الصحيح التعبير بأن الأمة أو المؤمنون املك بأمرهم او أولي به ونحو ذلك مما يعطي محض معني السلطة والقدرة والصلاحية الذي لا ربط

له بالفحص والتنقيب الفكري.

الوجه السادس: … ص: 148

فقد استشهد بالعديد من الوقائع والحوادث التي تمسك بها الرسول الكريم صلي الله عليه و آله برأي الاكثرية المشاورة ولم يخرج عنها. وفي مقام الجواب نشير من باب المقدمة الي حقيقة تأريخية يجب أن يلتفت اليها عند تحقيق الحال في الحوادث التأريخية. بيان ذلك:

أن المدقق في سيرة النبي الأكرم وما جري بعد انتقاله الي الرفيق الاعلي يلاحظ ان الملتفين حول الرسول الاكرم لم يكونوا علي نسقٍ واحد من الجهة الايمانية بل كانوا علي درجات مختلفة وأهواء متعددة، وان كان وجود النبي صلي الله عليه و آله قد منع البعض من اظهار ما يكنّه لكنه بعد وفاته صلي الله عليه و آله رأي متسعاً لاظهار حقيقة أمره واتباعه لاهوائه فظهر خطان مختلفان تمام الاختلاف، وكان من تقدير اللَّه عزوجل أن يتولي قيادة الامة طيلة سنوات متمادية بل قرون طويلة الخط المناوئ لعلي عليه السلام وأهل بيت النبي صلي الله عليه و آله.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 149

ومن الساعة الاولي عمل هذا الخط الحاكم علي توطيد سلطانه وملكه علي حساب خط آل محمد صلي الله عليه و آله المتمثل بعلي عليه السلام وشيعته والمُعَنْوَن ب خط الامامة، وكان من الركائز التي استند عليها الخط الحاكم هو أن زعامة الامة ليست نصية بل هي شوروية. ولذا حَشّد الكُتّاب والُمحدّثين والمؤرخين وكل الاجهزة الاخري لبيان هذه النظرية وتجذيرها في المجتمع الاسلامي، ومن هنا فانا نقول ان التاريخ المكتوب ما هو إلا صورة لما اراده الحُكّام. وعليه لايمكننا في مقام التحقيق والتمحيص القبول بكل ما هو مكتوب بل يجب الرجوع الي المصادر الخاصة واستنطاق الآيات الكريمة لمعرفة الحق من الباطل في تلك الحوادث التاريخية.

ويري أحد الباحثين طرح منهجية

جديدة في دراسة التاريخ، وهي مراجعة القرآن الكريم الذي يعتبر كتاب تاريخ وسيرة لحياة الرسول صلي الله عليه و آله والتأمّل في الترتيب التاريخي لنزول الآيات الكريمة وملاحظة سياقها يعطينا صورة كاملة للسيرة النبوية، كما يجب مقارنة الروايات المختلفة ودفع ما بينها من تعارض حتي نستنتج رواية تاريخية مقبولة عقلًا ونقلًا. بعد ذلك نقول:

أولا: كان أهم ما استند عليه المستدل هو غزوة أحد وما قام به الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله في الاستشارة والنزول عند رغبة القوم وإنْ كان مخالفاً لما يراه.

وخصوصاً أن آية «وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ» قد نزلت في هذه الواقعة. فلذا يجب التفصيل في بيان هذه الواقعة.

أنّه لمّا سمع الرسول صلي الله عليه و آله بخروج قريش قال للمسلمين: اني قد رأيت واللَّه خيراً. رأيت بقرا ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، ورأيت أني ادخلت يدي في درع حصينة، فأولتها المدينة.

ثم انه استشار قومه في قتال المشركين وكان رأي عبداللَّه بن أبي بن سلول مع رأي النبي صلي الله عليه و آله وهوالبقاء في المدينة. وقال له: يارسول اللَّه، أقم بالمدينة لا تخرج

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 150

اليهم فواللَّه ما خرجنا منها الي عدوٍ لنا قط إلا اصاب منا ولا دخلها علينا أحد الا أصبنا منه، فدعهم يارسول اللَّه فإن أقاموا بشر فحبس وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم وان رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا. وقال رجال ممن أكرمه اللَّه بالشهادة يوم أحد وغيره ممن كان قد فاته يوم بدر: يارسول اللَّه اخرج بنا الي اعدائنا لا يرون أنا جَبُنّا وضعفنا.

فلم يزل الناس برسول اللَّه صلي الله عليه و آله الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم

حتي دخل بيته ولبس لامته ثم خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا: استكرهنا رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ولم يكن لنا ذلك. فلمّا خرج الرسول صلي الله عليه و آله عليهم قالوا: يارسول اللَّه استكرهناك ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد صلي اللَّه عليك، فقال الرسول صلي الله عليه و آله: ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتي يقاتل. فخرج النبي في ألفٍ من اصحابه حتي اذا مشوا مسافة رجع عنه عبداللَّه بن أبي بن سلول بثلث الناس وقال: أطاعهم وعصاني «1».

هذا هو التقرير الرسمي لما جري في حادثة الاستشارة في غزوة أحد. ونشير مصادر اخري كما في الكامل في التاريخ ابن كثير في (3: 23) وأبي كثير من الناس إلا الخروج الي العدو ولم يتناهوا الي قول رسول اللَّه ورأيه ولو رضوا بالذي أمرهم كان ذلك، ولكن غلب القضاء والقدر وعامة من أشار اليه بالخروج رجال لم يشهدوا بدراً قد علموا الذي سبق لاصحاب بدر من الفضيلة.

ويدل ما ذكره ابن كثير أنّ كبار الصحابة كانوا يرون رأيه والشباب المتحمس هو الذي أصر علي الخروج.

اذن فالآية وردت في هذه الغزوة وقد طبقها الرسول صلي الله عليه و آله حيث استشار قومه

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 151

ونزل عند رغبتهم بالخروج مع كراهته لذلك.

وهذا هو ما ادعي في المقام. وفي مقام التحقيق في هذه الحادثة التاريخية المهمة التي نزلت فيها ايات عديدة فيجب الرجوع إلي عرض هذه الحادثة علي ما ورد من نصوص قرآنية ومقارنتها ليحصل الغرض النهائي وهو الوصول للحقائق الناصعة.

وعدم الاخذ بالأمر علي عواهنه من دون غربلة وتحقيق ومن خلال تشعبنا واستخدامنا لهذا المنهج اعني العرض علي القرآن الكريم ومقارنة الروايات

المختلفة نستنتج:

1- ان رأي الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله لم يكن البقاء في المدينة بل الخروج منها.

2- ان الصواب من الناحية الحربية والقتالية هو الخروج لحرب المشركين خارج المدينة.

3- ان سبب هزيمة المسلمين في أحد لم يكن الخروج من المدينة- كما يظهر من بعض الكتّاب- بل هو تخلف المسلمين عن التوصيات العسكرية لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله.

4- أن البقاء في المدينة كان رأي عبداللَّه بن ابي بن سلول وهو رأس المنافقين والذي اثني ثلث جيش المسلمين عن القتال مع الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله. وقد وافقه علي ذلك أكابر الصحابة وهم الذين كانوا علي رأس عقد البيعة لأبي بكر وهم اصحاب الصحيفة السبعة، اثنين من الانصار وخمسة من المهاجرين.

5- ان القرآن امتدح القتال خارج المدينة وذم البقاء داخلها.

6- أن اللَّه عزوجل قد وعد المسلمين بالنصر المؤزر قبل غزوة أحد اذا هم خرجوا للحرب.

أما القرائن التي يستفاد منها هذه المدعيات:

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 152

القرينة الاولي: ما ورد في تفسير علي بن ابراهيم في ذيل قوله تعالي: «إِذْ هَمَّت طَائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا» «1»

.حيث يذكر انها نزلت في عبداللَّه بن أُبي بن سلول واصحابه اتبعوا رأيه في ترك الخروج والقعود عن نصرة رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، عن الصادق عليه السلام قال: وكان سبب غزوة أحد أن قريشاً لما رجعت من بدر الي مكة وقد أصابهم ما اصابهم من القتل والاسر. قال أبوسفيان: يامعشر قريش لا تدعوا النساء تبكي قتلاكم فان البكاء والدمعة اذا خرجت أذهبت الحزن والحرقة والعداوة لمحمد ويشمت بنامحمد واصحابه. فلمّا غزا رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يوم أحد أذِن لنسائهم بعد ذلك بالبكاء، ولمّا ارادوا

أن يغزوا رسول اللَّه في أحد ساروا في حلفائهم من كنانة وغيرها وجمعوا الجموع والسلاح، وخرجوا من مكة في 3000 فارس وألفي راجل، وأخرجوا معهم النساء يذكرنّهم ويحثنّهم علي حرب الرسول صلي الله عليه و آله، وأخرج أبوسفيان هند بن عتبة وخرجت معهم عمرة بنت علقمة فلمّا بلغ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ذلك جمع أصحابه وأخبرهم أن اللَّه عزوجل قد أخبره أن قريشاً قد تجمعت تريد المدينة، وحث اصحابه علي الجهاد والخروج، فقال عبداللَّه بن ابي بن سلول: يارسول اللَّه لا نخرج من المدينة حتي نقاتل في أزقتها فيقاتل الرجل الضعيف والمرأة والعبد والأمة علي أفواه السكك وعلي السطوح، فما أرادنا قوم قط فظفروا بنا ونحن في حصوننا ودورنا وما خرجنا علي عدوٍ لنا قط إلا كان لهم الظفر علينا. وقال سعد بن معاذ وغيره من الأُوس: يارسول اللَّه ما طمع فينا أحد من العرب ونحن مشركون نعبد الأصنام فكيف يطمعون بنا وانت فينا، لا حتي نخرج اليهم فنقاتلهم. فمن قتل منا كان شهيداً ومن نجا كان في هدي. وقبل رسول اللَّه قوله.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 153

فيلاحظ من هذا النص:

- أن رأي بعض الاكابر كان هو الخروج كما يظهر من سعد بن معاذ وهو من الانصار.

- ان دعوي الانصار كانت مستندة الي دلائل علي أن الخروج افضل منها:

أ- أن بقاءنا يطمع فينا أعدائنا ويضعف شوكة المسلمين من الجهة السياسية والعسكرية.

ب- أن ذلك سوف يحرمنا من الاراضي التي حول المدينة حيث سوف يمنعونا من الاستفادة منها مضافاً الي طمع كثير من القبائل في هذه الأراضي.

ج- ان عدتنا في بدر كانت أقل من ذلك وكان النصر حليفنا، فكيف في هذه المعركة التي تضاعف فيها عدد

المسلمين وقويت شوكتهم.

هذا مضافاً الي أن بعض كتب السير قد عبرت عن أصحاب الرأي بالخروج أنهم من ذوي البصائر والرأي وعن اصحاب الرأي في المكث والبقاء في المدينة بالمتخاذلين فكيف يكون الصواب هو المكث وكيف يكون ذلك هو رأي الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله.

القرينة الثانية: وهي العمدة في الباب حيث نستنطق الآيات الواردة في هذا الباب وهي في سورة آل عمران (121- 160).

وهذه الآيات الكريمة تتحدث عن الواقعة بنحو مفصل وسوف نورد أهم النقاط الواردة حسب ترتيبها:

1- «وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» حيث أن اللَّه عزوجل يذكّر النبي صلي الله عليه و آله عندما خرج يهيئ أماكن القتال، ومواضع الرماة والفرسان في غزوة أحد، فهذا مدح لما فعله النبي صلي الله عليه و آله من الخروج للقتال وتحريضه للمؤمنين علي ذلك، وفي ذيلها يشير الباري عزوجل الي أنه سميع

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 154

لأقوالكم وما ذكره المسلمون في المدينة من البقاء والخروج عليهم عليم بنياتهم، ويعلم المخلص من المتخاذل.

2- «إِذْ هَمَّت طَائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَاوَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَي اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» وقد ورد في تفسيرها أن المقصود بهذه الطائفة اما عبداللَّه بن أُبي بن سلول وأصحابه وقومه. أو بنو سلمة من الخزرج وبنو الحارث من الأوس أرادا الرجوع الي المدينة مع ابن سلول إلا أن اللَّه عزوجل اثني ذلك عن قلوبهما. وعلي كل حال فالآية تذم المتخاذل والمتراجع الي المدينة، فكيف يُدّعي أن البقاء في المدينة هو الصائب.

3- «وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ء 123 إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةٍ مُنزَلِينَ.. لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْ ءٌ أَوْ يَتُوبَ

عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ»، ففي هذه الآيات تذكير للرسول بما جري يوم بدر حينما خرج لمحاربة الكفار وكانوا قلة ومع ذلك انتصروا ودحروا الكفار وذلك بالامداد الغيبي وبالملائكة الذين كانوا يقاتلون ويدخلون في قلوب الكفار الرعب.

فهذه الآيات وان كانت نازلة بعد غزوة أحد إلا أنها تعكس الموقف الذي جري قبل الغزوة وتخاذل بعض المسلمين وتذكير الرسول لهؤلاء ان الخروج للقتال هو الافضل حيث ان الامداد الإلهي حاصل بلا شك كما حصل في غزوة بدر، فما كان البعض يصر عليه من ضرورة البقاء في المدينة لأنه أحفظ للأنفس وأمنع لا داعي له إذ أن المدد الإلهي متيقن واللَّه يعد رسوله بالنصر في حال الخروج لمقاتلة الكفار.

ثم تتعرض الآيات (129- 138) الي مواضيع اجنبية عن البحث ويعود الي محل الكلام في الآية 139.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 155

4- «وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ».

وفي هذه الآية بيان لمّا تراجع المسلمون عن مواقعهم العسكرية التي ابانها الرسول صلي الله عليه و آله لهم فسيطر الكفار علي ساحة المعركة فحثهم علي الصبر وعدم الضعف عن الجهاد اذ مع هذه الخسارة المؤقتة فانتم الاعلون، وان كنتم قد أصبتم فقد اصاب الكفار في بدر أكثر مما أصبتم الان، ويذكر سنة من سنن اللَّه في الكون وهي أنّ الايام يصرّفها بين الناس فتارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء.

5- ثم يبين الحِكَم والمصالح التي تظهر من تلك المداولة والفوز والخسارة فانها امتحان للمسلمين «وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ء 141 أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» فالحكمة واضحة والابتلاء ظاهر، فليس

جميع المسلمين في مرتبة واحدة من الايمان والاعتقاد فيجب تمحيصهم وابتلاءهم بشتي صنوف الاختبار واذا ما انتصر الظالمون يوماً فهذا مؤقت ولا يدل علي حب اللَّه لهم، بل هو امتحان وابتلاء للمؤمنين، ودخول الجنة ليس بالايمان اللفظي بل بالعمل والجهاد والصبر.

فما حصل من تضعضع في صفوف المسلمين يجابهه القرآن ويرفعه ويذكرهم «وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» وقد ورد ان المؤمنين عندما اخبرهم اللَّه تعالي بمنزلة شهداء بدر قالوا: اللهم ارنا قتالًا نستشهد فيه. وقد نقلت كتب السير بعض مواقف هؤلاء الثابتين والمشتاقين الي لقاء اللَّه.

5- «وَمَا مُحمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَي أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَي عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ».

وهذا هو الامتحان الأهم فبعد أن سيطر الكفار علي ساحة المعركة لأسباب سوف تشير اليها الآيات القادمة. ولم يبق مع الرسول الاكرم إلا الخلّص مثل أمير

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 156

المؤمنين وأبو دجانة سماك بن خرشة، وأُشيع بأن الرسول قد قتل وهنا انقلب عدد من المسلمين ورجعوا.

وكان من المنقلبين بعض الصحابة كما تشير اليه رواية الطبري «1» قال: انتهي انس بن النضر عم انس بن مالك الي عمربن الخطاب وطلحة بن عبيد اللَّه في رجال من المهاجرين والانصار وقد القوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قتل محمد رسول اللَّه، قال: فما تصنعون بالحياة بعده فموتوا علي ما مات عليه رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، ثم استقبل القوم فقاتل حتي قُتل.

وفشا في الناس أن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قد قتل فقال بعض أصحاب الصخرة: ليت لنا رسولًا الي عبداللَّه بن أبي فيأخذ لنا أمنة

من أبي سفيان، يا قوم ان محمداًقد قتل فارجعوا الي قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم» «2».

ومنهم عثمان بن عفان وعقبة بن عثمان وسعد بن عثمان وهما رجلان من الانصار فقد فروا حتي بلغوا الجلَعب جبلًا بناحية المدينة، فأقاموا به ثلاثاً «3» ومن اراد المزيد (الصحيح من سيرة الرسول الاعظم 2/ 240- 250).

فالاية الكريمة تصف فرقتان من المسلمين.

احدهما المنقلبة والاخري الثابتة مع رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وقد وصف اللَّه عزوجل الاولي انها لا تضر اللَّه شيئاً بل الضرر لأنفسهم أما الثانية فمنهم الشاكرون الذين سيجزيهم اللَّه.

وفي الآيات التالية يؤكد علي ذلك ويكرر الباري تعالي «وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ» ويستمر القرآن في وصف الفئة التي ثبتت مع النبي صلي الله عليه و آله علي قول الحق ولا يصيبهم

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 157

الضعف والحزن والوهن ولا يقعدوا عن الجهاد.

6- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَي أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ بَلِ اللّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً».

فهو نهي للمسلمين عن اتباع الكفار الذين استغلوا ما أُشيع عن موت النبي صلي الله عليه و آله فقالوا للمسلمين: ارجعوا الي اخوانكم وارجعوا الي دينهم، فاللَّه هو الناصر وهو المؤيد والمعز.

ومع سيطرة المشركين علي المعركة إلا أن اللَّه قد ألقي في قلوبهم الذعر والخوف وعادوا الي مكة.

7- «وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم» فهذا يدل علي وعد سابق من اللَّه لرسوله بالنصر، وبالفعل تحقق هذا النصر في بداية المعركة وقُتل عدد كبير من المشركين «حَتَّي إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ» اي ملتم الي الغنيمة وتركتم مواقعكم وخالفتم أوامر الرسول وكان الرسول الاكرم قد نبههم وأمرهم

عند بداية المعركة فقال للرماة: لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا ظهرنا عليهم وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تغيثونا يجب عليكم الثبات في مواقعكم»

لكنهم شغلوا أنفسهم بجمع الغنائم «وَمِنكُم مَن يُرِيدُ الآخِرَةَ» وهم الثابتون عبداللَّه بن جبير ومَن ثبت معه من الرماة الذين بقوا في مواقعهم حتي قتلوا. «ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ» تفضلًا «وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ».

فالآيات واضحة في بيان سبب الهزيمة ولا مجال حينئذ للاجتهاد بأنّ سبب الهزيمة هو الخروج من المدينة.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 158

8- «إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَي أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمَّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلي مَا فَاتَكُمْ».

والآية تستمر في بيان حال المسلمين بعد سماعهم لشايعة موت الرسول صلي الله عليه و آله فاذا هم قد همّوا بالفرار والرسول يناديهم يقول: إليّ عباد اللَّه ارجعوا أنا رسول اللَّه الي اين تفرون عن اللَّه وعن رسوله، مَن يكر فله الجنة. ثم تبين صفة هؤلاء الذين «يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ»، وهو الاعتقاد بأن اللَّه لا قدرة له وأن يد اللَّه مغلولة ولابد من الاستعانة باللات والعزي وهبل فهذا هو اعتقاد الجاهلية.

«قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ» وهو مالك كل شي ء.

فيتضح أن اللَّه قد وبّخ المسلمين في ثلاثة مواضع:

1- عصيان الرماة لأوامر الرسول صلي الله عليه و آله وتركهم لمواقعهم.

2- الفرار عندما أُشيع موت الرسول صلي الله عليه و آله.

3- ظن البعض باللَّه ظن الجاهلية ونسبة العجز إليه جلّ عن ذلك وعلي علواً كبيراً.

9- ثم يتعرض الحق تعالي لما يقولون «يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَي ءٌ مَا قُتِلْنَا هاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَي مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ

وَلُيمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ».

وهذا التصريح بأنهم في ساعة الهزيمة كرروا قولهم أن لو كنا في المدينة لكنّا أمنع وأحصن متناسين تقدير اللَّه وقضاءه الذي لا راد له حتي لو كان في أمنع الحصون فهذا ذم لهم علي تفكيرهم، وسوف يرد ذم آخر لهم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الارْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّي لَوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 159

وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».

فتبين خطأ هذا التفكير وأن سبب الهزيمة ليس هو الخروج من المدينة بل العصيان، والموت والأجل أمر محتوم وقضاء اللَّه.

وبعد هذا التوبيخ تبين الآيات مصير المجاهدين والمستشهدين هو الجنة والقرب الالهي، ثم في هذا السياق تردآية وشاورهم في الامر في سياق بيان صفات النبي التي تحلي بها من حسن الخلق ولين الجانب.

10- تعود الآيات للتذكير بين واقعة أحد وواقعة بدر.

«إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِن بَعْدِهِ وَعَلي اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ» حيث نسب البعض الي النبي هذه الخيانة في المغنم «وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّي كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ».

«أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا» وذلك في غزوة بدر حيث انكم قد اصبتم الكفار بعض ما اصابوكم الان «قُلْتُمْ أَنَّي هذَا» اي من أين هذا اصابنا وظننتم باللَّه ظن الجاهلية «قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ» اي بسبب فعلكم وعصيانكم «إِنَّ اللّهَ عَلَي كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ».

«وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَي

الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ء 166 وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْايمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ …»

ثم تبين الآيات صفات المؤمنين من الثبات ورباطة الجأش وعدم الخوف ثم

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 160

يذكر صفة اخري لها صلة بما تقدم «الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِمَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ».

فالفئة المؤمنة هي التي رجعت مع الرسول الأكرم، وعندما جاء النداء مرة اخري بأمر اللَّه لرسوله بالخروج في أثر القوم وأن لا يخرج معه إلا من به جراحة، فنادي منادٍ: يامعشر المهاجرين والانصار مَن كانت به جراحة فليخرج به ومن لم يكن به جراحة فليقم فأقبلوا يضمدون جراحاتهم ويداونها، فخرجوا علي ما بهم من الألم والجراح. فلمّا بلغ الرسول صلي الله عليه و آله حمراء الاسد، وقريش قد نزلت الروحاء قال عكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد: نرجع ونغير علي المدينة قد قتلنا سراتهم وكبشهم يعني حمزة، فوافاهم رجل خرج من المدينة فسألوه الخبر فقال: نزل محمد وأصحابه في حمراء الاسد يطلبونكم جد الطلب. فرجعوا الي مكة وسميت بغزوة بدر الصغري.

وهذا الاستعراض الطويل للآيات الكريمة 121- 174 خير شاهد علي ما جري ودار في هذه الغزوةالتي تدل علي حنكة الرسول الاكرم في استخبار نيات القوم ومعرفة المنافقين وما يسعون اليه من تثبيط عزيمة المسلمين، كما اتضح من ذلك أن الخروج كان هو الحل الأمثل وان المنافقين ارادوا الايقاع بالمسلمين

من خلال البقاء في المدينة والتكاسل عن الخروج والجهاد في سبيل اللَّه.

وأخيراً نشير إلي رواية أن الرسول قال بعد نزول الآية: أما أن اللَّه ورسوله لغنيان عنها، ولكن جعلها اللَّه رحمة لأمتي، من استشارهم لم يعدم رشداً، ومن تركها لم يُعدم غياً» «1».

ثانياً: غزوة الخندق فقد استدل بها علي الشوري والزاميتها في موطنين، الاول:

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 161

في حفر الخندق حيث نزل الرسول عند رأي سلمان الفارسي، والعجيب اعتبار ذلك من الشوري بالمعني الذي اصطلحوا عليه حيث أنه رأي فرد واحد وليس اكثرية مضافاً الي أنه دليل علي أن الرسول صلي الله عليه و آله يختار دائماً الرأي الصائب وإن قلّ قائله. ومنه يتضح الجواب عن سائر الموارد التي استشهد بها لمتابعة الرسول لرأي الأكثرية.

الثاني: في مداولاته مع عيينة بن حصين والحارث بن عوف لاستجلابهما ومساومتهما علي تمر المدينة ورفض سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ذلك. ونزوله عند رأيهما.

والجواب: أنه بعيد عما يدعونه من ولاية الشوري بل أن الرسول الاكرم انما اراد مساومة بني غطفان من أجل التخفيف عن أهل المدينة وازالة الحصار شأنه شأن أي قائد يريد فك الحصار عن قومه، ولكنه عندما رأي عزيمة وثبات الاوس والخزرج لم يجد أي داعي الي مثل هذه المساومة فالموضوع قد تبدل والامر بعيد عن ولاية الشوري.

الوجه السابع: … ص: 161

انه توجد حوادث تاريخية تثبت ان الرسول صلي الله عليه و آله استشار اصحابه ولم يتبع رأي الاكثرية كما في:

- صلح الحديبية

حيث تنقل كتب السير ان كثيراً من المسلمين كانوا علي خلاف الصلح بينما أصر رسول اللَّه صلي الله عليه و آله علي الصلح مع تعنت الكفار ورفضهم ذكر اسم اللَّه تعالي في بداية الصلح واصرارهم علي كتابة اسم

النبي مع ابيه دون عبارة (رسول اللَّه) ومع ذلك كان يري ان في الصلح خير المسلمين، مع ان الصلح لم يكن أمراً سماوياً

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 162

بمصطلح الوحي حتي تمنع المعارضة، وان كان اصل التوجه للعمرة أمراً إلهياً اما الصلح وما تضمنه من بنود فإنها من تدبير النبي الاكرم صلي الله عليه و آله.

- تأمير زيد بن حارثة في وقعة مؤتة ويدل عليها ما ذكره الرسول الاكرم عند تأمير اسامة حيث خالفه عدد من المسلمين فقال صلي الله عليه و آله" ما تلوموني في تأمير اسامة إلا كما لمتموني في تأمير أبيه زيد.

ففيه اشارة الي مخالفة عدد منهم لتأمير زيد وابنه اسامة فهذا يُظهر أنه صلي الله عليه و آله لا يري نفسه ملزماً بالشوري.

الوجه الثامن: … ص: 162

ان آية: «وَأَمْرُهُمْ شُورَي بَيْنَهُمْ» مكية كما ينص عليه المفسرون ومن المعلوم انه لم تكن للمسلمين في مكة دولة أو شأناً عاماً بالمعني الذي يحتاج فيه الي اعتماد الشوري كتنظيم يستند عليه المسلمون، فاستفادة كون الولاية للشوري مع عدم وجود مورد لها في ذلك الوقت أمر بعيد عن الصواب، خصوصاً اذا لاحظناأن الآية تعدد الصفات الفعلية للمسلمين فهذا يدل علي أن هذه الصفة فعليه أيضاً، مضافاً الي أن حاكمية الرسول صلي الله عليه و آله في ذلك الوقت بجعل الهي وليست نابعة من تولية المسلمين له وهذا أمر لم يختلف فيه أحد فهذه الامور تدلل علي أن المراد من الشوري هو نفس المفاد اللغوي، وهو المداولة الفكرية وأن من صفات المؤمن الاستفادة من خبرات الاخرين وعدم الاستبداد برأيه ولو كان في مسألة خاصة.

وما يذهب اليه البعض في الاستدلال بهذه الآية علي أحد صياغات نظرية الشوري مجانبة عن الحق.

الامامة الالهية(5)، ج 1،

ص: 163

الوجه التاسع: … ص: 163

مضمون ما ذكره الشهيد الصدر وحاصله:

ان نظرية الشوري بالمصطلح المزعوم تعبر عن نظامٍ حديث في تولي السلطة السياسية في المجتمع وهو سلطة الجماعة، وهو نظام نشأ في القرنين 19 و 20 الميلادي وكان المجتمع الغربي مهد هذا النظام ومازال حتي الان يتطور بين آونة واخري وتتعدد صياغاته. ويبقي منه الاطار العام فقط وهو أن الجماعة تحكم نفسها بنفسها أما كيفية هذا الحكم وكيف يتم تداول السلطة وكيف يتم التشريع؟

واسئلة كثيرة اختلف الجواب فيها.

وقد تصل أشكال النظم التي تطبق هذا المبدأ الي ما يزيد علي سبعة اشكال تتمركز في دول العالم الجديد أوروبا وامريكا. وما تعدد هذه الاشكال الا دليل علي ما يعثر عليه العقل البشري من سلبيات وثغرات اثناء التطبيق.

وبناء عليه فانه عند نزول القرآن لم يأنس المجتمع المكي بل لم يعرف مثل هذا النظام علي العكس كان النظام السائد هو النظام الفردي حيث نجد أن القبيلة هي المجتمع الخاص، وسلطة رئيس القبيلة هي المطلقة ومن غير المعقول أن يقوم الاسلام بتشريع نظام يخالف فيه تماماً النظام السائد آنذاك ولا يبين فيه سوي آية أو آيتين تثبتان الإطار العام بل تثبت العنوان فقط، اما المعنون والطريقة والكيفية فلا نري لها اثر لا في القرآن ولا في السنة، فيُعلم من ذلك بل يجزم بأن ما ورد في الآيتين الكريمتين لم يكن طرحاً لنظام جديد، وانما أرادت الآيتين أن ترشد الانسان المؤمن الي طريق جديدة في التوطئة ومقدمات التصميم والحزم ويقع في حيز المداولة الفكرية واستجماع المعلومات.

وقد حاول البعض الاجابة من هذا الامر:

ان الدين الاسلامي حينما يصوغ قاعدة فانه يؤطرها بعنوانها العام تاركاً

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 164

التفاصيل والجزئيات لكي يتم استنباطها بِما يتوافق مع زمان

مسار التطبيق، والسر في هذه الطريقة ان الاسلام لو جعل التفاصيل الجزئية فان القاعدة سوف تكون موافقة لتلك التفاصيل ولشرائط ذلك الزمان ولا تستطيع مواكبة كل الاعصار.

ولكن هذه الاجابة مدفوعة من جهة أن هذه القاعدة التي ذكرها وان كانت مقبولة في بعض القواعد إلا ان الشارع لم يكتف فيها أيضاً بذكر العنوان فقط، بل كان يجعل أسساً وضوابط خاصة تمثل الإطار العام للقاعدة التي يريد تطبيقها، أما ان يكتفي بذكر العنوان فقط فهذا مما لا نظير له في الفقه الاسلامي بل لا نظير له في القانون الوضعي. لا سيما في مثل هذه المسألة الخطيرة التي هي دعامة كل المجتمع والأفراد.

وما نحن بازائه في مسألة الشوري بالمعني المصطلح المزعوم من هذا القبيل بل ان القول بأن الشارع قد جعل نظرية الشوري يعني ان الشارع مع حكمته قد جعل المجتمع يتخبط في عالم من العشوائية لا تتناسب مع بدء نشأته للدولة الاسلامية التي يريد لها البقاء حتي قيام الساعة.

فمن البعيد عن الانصاف القول ان الشارع يترك تابعيه من دون تأهيل ومن دون أن يعبّد لهم طريق آخر للسلطة والقيادة وذلك من خلال نظرية النص لكن لا بالمعني المألوف من رئاسة المجتمع القبلي الاستبدادي بل من خلال التنصيص علي الفرد الاكمل علي الاطلاق والاشبه بالنبي صلي الله عليه و آله وهو حكم فردي يقوم علي اساس اشراك الناس في مهمات الامور من دون ان يكون لهم السلطة والولاية بل الرقابة والمتابعة.

الوجه العاشر: … ص: 164

من الادلة التاريخية الثابتة والتي تدلل علي عدم دلالة الايتين علي ولاية

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 165

الشوري هي طريقة اختيار الخليفة الاول والثاني والثالث.

فما جري في سقيفة بني ساعدة واحتجاج ابي بكر بالقرابة من النبي الاكرم، فإن هذه

الجهة تعتمد علي أُسس قبلية جاهلية أزالها الإسلام وحاربها إلا أنّهم أعادوا استخدامها خصوصاً اذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما كان قد استعد له تكتّل السقيفة من حشد القبائل المحيطة بالمدينة وايجاد جو من الارهاب بحيث لا يمكن أنْ يجابههم احد.

وهكذا طريقة انتخاب الثاني فإنها كانت بتعيين الاول، أما الآن بعد ما وقع ما جري فترتفع اصوات لتأول فعله بأنه قد استشار الامة وأنها أوكلته في الاختيار بدليل البيعة التي لا تدل علي الشوري المصطلحة بأي نحو كما سوف نشير فيما بعد الي مدي دلالة البيعة فضلًا عن البيعة التي كانت تؤخذ فرضاً ورهبةً ولا يحق لأحد الاعتراض فأين هي الأكثرية وأين هي سلطة وولاية الشوري.

فمن الجهل ان نعتبر المنحي القبلي البدائي الذي ساد هذه الخلافات هو تنظير لنظام عصري وهو نظام سلطة الجماعة.

الوجه الحادي عشر: … ص: 165

مع التنزل عن جميع الاشكالات والوجوه السابقة المقتضية لأجنبية دلالة الآيتين عن ولاية الشوري، فإنها سوف تقع في طرف المعارضة مع ايات كثيرة تبين أن الولاية في الأصل للَّه عزوجل ثم للرسول الاكرم صلي الله عليه و آله ومن بعده لطائفة خاصة من الأمة وهم أولوا الأمر الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون وهي آيات كثيرة تامة الدلالة. فهذا إما أن نعتبره تخصيص (لأمرهم) اي ان الولاية والقضاء والتشريع ليس من شؤون المسلمين التي تخضع للشوري بالمعني المزعوم. أو نقول بتقديم الطائفة الاخري علي آيتي الشوري.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 166

أما طوائف الروايات التي استدل بها علي نظرية الشوري وعمدتها ما ورد عن امير المؤمنين في بعض احتجاجاته حيث يستند الي الشوري واختيار الأمة. وقبل الدخول في تفصيل هذه الخطب واجوبتها نذكر ثلاث نقاط مهمة:

1- أن ما يظهر من كلام الامام مؤيداً

به للشوري ومعتبراً أن سلطة الجماعة هو ما أسسه الاسلام في الفقه السياسي هو من باب التنزل والجدل مع الخصم والزامه بما التزم به من نظرية الشوري، حيث إن الامام في كل هذه الموارد كان يواجه من يتشبث بالشوري فهو عليه السلام يبين أحقيته حتي علي مذهب الشوري.

2- أن المستدل يأخذ بقسم خاص وقليل من كلام الامام عليه السلام بينما نجده يترك القسم الاوفر من كلامه عليه السلام الذي يبين أحقيته بموجب النص القاطع. ففي كثير من خطبه يبدأ عليه السلام ببيان أحقيته ووجود النص علي امامته ثم يتعرض بعد ذلك لاثبات أحقيته علي فرض التنزل وغض النظر عن النص، فنلاحظ المستدل يقتطع جزءاً من كلامه ويأخذ بالذيل تاركاً الصدر.

فمع قطع النظر عن هذا التقطيع الذي يؤدي بدلالة السياق نلاحظ انه يجب اعمال المعارضة بين كلا الطائفتين التي تنسب اليه الاستدلال بالشوري والتي يتمسك بها بدلالة النص. لكن المستدل حتي هذه المعارضة نجده يغفل عنها مع كثرتها وان الامام ما كان يترك أي فرصة الا ويبين فيها ذلك.

3- من الثابت تاريخياً والذي لا مجال لإنكاره أن الإمام عليه السلام امتنع عن البيعة لأبي بكر حتي وفاة الصديقة الزهراء، وانه لم يبايع إلا مكرهاً، وهذا يدل علي أنه ل يقبل شوري بني ساعدة كأساس لانتخاب الخليفة، فكيف يُسند إليه القول بظرية الشوري مع هذه المخالفة الشديدة.

ومن المصادر التي ذكرت عدم بيعة الإمام للأول:

- مسلم في صحيحه كتاب الجهاد باب: 1: 72/ 5: 153، الاستيعاب وأسد

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 167

الغابة في ترجمة أبي بكر- كنز العمال 3: 140، أنساب الأشراف 1: 586. تاريخ ابن عسكر 3: 174 مسند بن حنبل 1: 55، فتح الباري في شرح صحيحة

البخاري 5: 143. سيرة ابن هشام 4: 338، الإمامة والسياسة 1: 12، مضافاً الي المصادر الخاصة التي تطبق علي هذا الأمر.

- في الخطبة (2): «هم موضع سره ولجأ أمره وعيبة علمه وموئل حكمه وكهوف كتبه وجبال دينه بهم اقام انحناء ظهره وأذهب ارتعاد فرائص دينه..» ثم يصف آخرين اعداء آل محمد.. «رزعوا الفجور وسقوه الغرور وحصدوا الثبور لا يقاس بآل محمد من هذه الامة أحد، ولا يُسوّي بهم من جرت نعمتهم عليه ابداً، هم اساس الدين وعماد اليقين إليهم يفي ء الغالي وبهم يلحق التالي ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية والوراثة الآن اذا رجع الحق الي أهله ونقل الي متنقله».

وهذه الخطبة كانت اثناء انصرافه من صفين ففيها تصريح أن الحق كان مغتصباً والان قد عاد الي أهله، فهو تنديد بما كان قد جري سابقاً مما يسمي بالشوري.

- وفي الشقشقية: «فياللَّه وللشوري» فاذا كان هذا تعبيره عن الشوري بالمعني المصطلح المزعوم وتقريعه لها فكيف يكون قد أقر بالشوري. فالشوري في نظر الامام عليه السلام استصواب الرأي في الامر المجهول الحال. «ومتي اعترض الريب فيّ مع الاول منهم حتي صرت أُقرن الي هذه النظائر». اما اذا كان الامر بيّن ومعالمه واضحة لا غبار عليها فلا حاجة الي استصواب الرأي وما بعد الحق الا الضلال.

- وفي خطبته عليه السلام: «بنا اهتديتم في الظلماء وتسنمتم ذروة العلياء، وبنا أفجرتم عن السرار..» (خطبة 4).

فبأي مناسبة يتعرض عليه السلام لحقه وحقوقه آله المغصوبة.

- خطبة 87: «فأين تذهبون وأني تؤفكون والاعلام قائمة والايات واضحة والمنار منصوبة فأين يتاه بكم وكيف تعمهون وبينكم عترة نبيكم وهم أزمّة الحق. وهم أعلام

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 168

الدين وألسنة الصدق فأنزلوهم بأحسن منازل القرأن. وردوهم ورود الهيم

العطاش..

ألم أعمل فيكم بالثقل الاكبر وأنزل فيكم الثقل الاصغر (اشارة الي حديث الثقلين) قد ركزت فيكم راية الايمان ووقفتكم علي حدود الحلال والحرام.

انظروا اهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم واتبعوا اثرهم فلن يخرجوكم عن هدي ولن يعيدوكم في ردي فإن بعدوا فابعدوا وان نهضوا فانهضوا ولا تسبقوهم فتضلوا ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا لقد رأيت أصحاب محمد صلي الله عليه و آله فما أري أحد يشبهه منكم».

- خطبة 100: «ألا ان مثل أل محمد صلي الله عليه و آله كمثل نجوم السماء اذا هوي نجم طلع نجم فكأنكم قد تكاملت من اللَّه فيكم الصناع واراكم ما كنتم تأملون».

- خطبة 74 حينما عزموا البيعة لعثمان: «لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري وواللَّه لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليّ خاصة».

- خطبة 109: «نحن شجرة النبوة ومحط الرسالة ومختلف الملائكة ومعادن العلم وينابيع الحكمة، ناصرنا ومحبنا ينتظر الرحمة وعدونا ومبغضنا ينتظر السطوة».

فهنا يظهر الامام وجود صنفان في المجتمع الاسلامي وهذان تياران ليسا من جهة الدين فقط، بل تياران سياسياً ودينياً.

- خطبة 152: في بيان صفات اللَّه جل جلاله وصفات أئمة الدين:

«قد طلع طالع ولمع لامع وراح رائح واعتدل مائل واستبدل اللَّه بقوم قوماً وانتظرنا الغير انتظار المجدب، وأن الائمة قوام اللَّه علي خلقه وعرفائه علي عباده ولا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه. وهذا معني: من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية».

- الخطبة 154: في فضائل أهل البيت عليهم السلام:

«فيهم كرائم القرأن وهم كنوز الرحمن ان نطقوا صدقوا وإن سكتوا لم يسبقوا، فليصدق رائد أهله وليحضر عقله وليكن من ابناء الآخرة فإن منها قِدم واليها ينقلب».

ففيها دلالة علي العصمة وهي محصورة

بهم.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 169

- الخطبة 172: «الحمد للَّه الذي لا تواري عنه سماء سماء ولا أرض أرضاً، وقد قال قائل: انك علي هذا الأمر يابن أبي طالب لحريص، فقلت: بل انتم واللَّه لأحرص وأبعد وأنا أخص وأقرب، وانما طلبت حقاً لي وانتم تحولون بيني وبينه وتضربون وجهي دونه، فلمّا قرعته بالحجة في الملأ الحاضرين هبّ كأنه بُهت لا يدري ما يجيبني. اللهم اني استعديك علي قريش ومَن اعانهم فانهم قطعوا رحمي وصغروا عظيم منزلتي واجمعوا علي منازعتي علي أمرٍ هو لي ثم قالوا: الا أنّ في الحقّ أن تأخذه، وفي الحق أن تتركه»..

فهل يوجد اصرح من هذا البيان علي أحقيته ورفضه للشوري وما يسمي بسلطة الجماعة.

خطبة 178: «أيها الناس ان الدنيا تغر المؤمّل لها والمخلد لها ولا تَنْفَسُ من نافس فيها، وتغلب من غلب عليها وأيم اللَّه ما كان قوم قط في غضّ نعمة من عيش فزال عنهم الا بذنوب اجترحوها وإني لاخشي عليكم ان تكون في فترةٍ (والفترة في الاصطلاح المدة الفاصلة بين رسول ورسول بعده) وقد كانت أمور مضت مِلتم فيها ميلة كنتم فيها عندي غير محمودين ولان رُدّ عليكم أمركم انكم سعداء وما علي إلا الجهد ولو أشاء أن اقول لقُلت عفي اللَّه عما سلف».

وانظر ايضاً الي كتاب (62) لأهل مصر مع مالك الاشتر وكتاب (28) الي معاوية. وفيه يقول: «فاسلامنا قد سمع وجاهليتنا لا ترفع وكتاب اللَّه يجمع لنا وما شذ عنا وهو قوله تعالي: «وأُولُوا الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَي بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ»».

وما ورد في كتاب سليم بن قيس ص 182 في جواب كتاب معاوية حيث طلب منه قتلة عثمان ليقتلهم قال لمن حمل كتاب معاوية: «ان عثمان بن عفان لا

يعدوا أن يكون أحد رجلين اما هو امام هدي حرام الدم. وواجب النصرة لا تحل معصيته ولا يسع الأمة خذلانه أو امام ضلالة حلال الدم لا تحل ولايته ولا نصرته فلا يخلو من احدي خصلتين والواجب في حكم اللَّه وحكم الاسلام علي المسلمين بعدما يموت امامهم أو

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 170

يقتل ضالًا او مهتدياً مظلوماً كان او ظالماً، حلال الدم او حرام الدم، ان لا يعملوا عملا ولا يحدثوا حدثاً ولا يقدموا يداً ولا رجلا ولا يبدؤا بشي ء قبل ان يختاروا لأنفسهم اماماً عفيفاً عالما ورعاً عارفاً بالقضاء والسنة.. ان كانت الخيرة لهم ويتابعوه ويطيعوه وان كانت الخيرة الي اللَّه عزوجل والي رسوله فإن اللَّه قد كفاهم النظر في ذلك والاختيار ورسول اللَّه قد رضي لهم إماما وأمرهم بطاعته واتباعه وقد بايعني الناس بعد قتل عثمان وبايعني المهاجرون والانصار بعدما تشاوروا بي ثلاثة أيام وهم الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان وعقد إمامتهم، ولي ذلك أهل بدر والسابقة من المهاجرين والانصار غير أنهم بايعوهم قبلي علي غير مشورة من العامة وان بيعتي كانت بمشورة من العامة فان كان اللَّه جل اسمه جعل الاختيار الي الامة وهم الذين يختارون وينظرون لأنفسهم واختيارهم لأنفسهم ونظرهم لها خير لهم من اختيار اللَّه ورسوله لهم وكان من اختاروه وبايعوه بيعة وبيعة هدي وكان إماماً واجباً علي الناس طاعته ونصرته فقد تشاوروا فيّ واختاروني باجماع منهم وان كان اللَّه عزوجل الذي يختار له الخيرة فقد اختارني للامة واستخلفني عليهم وأمرهم بطاعتي ونصرتي في كتابه المنزل وسنة نبيه صلي الله عليه و آله فذلك أقوي لحجتي وأوجب لحقي».

فهذه تدل علي أن حجاجه بالشوري حجاج تنزيلي وان الشوري يجب أن تكون علي ميزانٍ،

والميزان هو الضوابط العقلية والشرعية وليست سلطة الجماعة وأهواء الكثرة وانما تكون وظيفة الامة في اكتشاف وجود هذه الصفات والضوابط في المختار فليست الولاية والسلطة للشوري بل هي استكشاف.

ففي هذه الرواية يبين الامام أن البيعة علي نحوين بيعة هدي وبيعة ضلال، فالبيعة اذا كانت علي الموازين وكان الامام واجداً للشرائط فتكون بيعة هدي أما اذا كانت علي خلاف الضوابط فانما تكون بيعة ضلال. ونلاحظ أن البعض اقتطع من هذه الرواية جزءاً استدل به علي الشوري تاركاً بقية الرواية التي توضح تمام موقف

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 171

الامام عليه السلام.

ومما استدل به في المقام ما ورد في شرح النهج للمعتزلي ج 7/ 41 ان طلحة والزبير قالا للامام عليه السلام: اعطيناك بيعتنا علي ألا تقضي الامور ولا تقطعها دوننا وان تستشيرنا في كل أمر ولا تستبد بذلك علينا. فقال عليه السلام: «ولو وقع حكم ليس في كتاب اللَّه بيانه ولا في السنة برهانه لشاورتكما».

وقد استدل بها أيضاً علي أن الشوري مشروعة في منطقة الفراغ التشريعي حسبما يزعم من وجود ذلك الفراغ-.

وهذا الاستدلال ممنوع- بيان ذلك:

1- أن لو تقيد الامتناع للامتناع اي امتناع الجواب لامتناع الشرط فالعبارة تقيد أن مشاورتكما قد انتفت لامتناع خلو الواقعة من حكم في كتاب اللَّه والسنة والذي اوقع هذين الشخصين في هذه الملابسة هو ان الخلفاء السابقين علي الامام كانوا يستشيرون بعض الصحابة في بعض الأحكام وفي كيفية اعمال المرجحات، أما الإمام فلم يقم بهذا العمل، والسر في ذلك ان الاعتقاد الحق هو انه ما من شي ء يقربكم الي اللَّه إلا وقد امرتكم به، وما من شي ء يبعدكم عند اللَّه إلا وقد نهيتكم عنه، فالقاعدة ان لا تخلو واقعة من حكم للَّه إلا أن

هذا الحكم قد يخفي علي العقول القاصرة غير المطلعة، أما من له احاطة بأحكام اللَّه وسنة نبيه ومن عايش النبي في حلّه وترحاله لا يخفي عليه حكم حتي يحتاج فيه الي مشاورة البعض، نعم قد يكون للمشورة مجال في باب تطبيق الاحكام الكلية علي مصاديقها واختيار أفضل الأساليب في كيفية تطبيق الحكم الموجود إلا ان هذا بعيد عن مرام القائل اذ لا تكون الشوري منشئة للحكم حينئذ.

ومما ذكره عليه السلام فيه تعريض لمن كان قبله حيث كثر جهلهم بالاحكام الشرعية وليست المسألة بالنسبة اليه عليه السلام من باب الاستبداد في شي ء.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 172

- ومما استدل به ايضاً ما أشرنا اليه من محاولة توسط بعض القرّاء بين الإمام ومعاوية والكتاب السادس في نهج البلاغة والجواب عنه مضافاً الي ما مضي وإلي الاجوبة العامة وانه لم يرض بمن بايعه الانصار في سقيفة بني ساعدة انه اشترط لتحقق البيعة «فان اجتمعوا وسموه اماماً» فان الشرط المهم هو حصول الاجتماع المطلق ولا أقل عدم الاعتراض وهذا لم يحصل فيمن سبقه، أما معه عليه السلام فقد حصل ذلك الاجتماع ومن سكت فانه لم يعترض كعبداللَّه بن عمر وابوموسي وسعد بن أبي وقاص. ففي هذا التعبير تعريض بمن يشترط الاكثرية.

- ومما استدل به قوله عليه السلام: «اذا كان امراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحائكم وأموركم شوري بينكم فظهر الارض خير لكم من بطنها».

الظاهر ان هذا النص مقتطع من جواب الامام عليه السلام المتقدم لكتاب معاوية، وقد قام الشريف الرضي بتقطيع بعض النصوص لمناسبتها لأبواب مختلفة.

مضافاً الي أنه ذكر عنوانين امراؤكم خياركم وأموركم شوري بينكم فمورد الأمراء غير مورد الشوري وهما من واديان يختلف احدهما عن الاخر، وفي هذه العبارة ايضاً يرد

البحث الذي ذكرناه في «وَأَمْرُهُمْ شُورَي بَيْنَهُمْ» وان الاضافة لا تعني أن لهم الولاية والسلطة في كل شي ء بل ما يضاف اليهم فقد يكون في بعض الصور لا تكون لهم القابلية في البحث في هذا الأمر وهو خارج عن اختصاص الامة، كما يرد فيها نفس البحث في لفظ الشوري وقد ذكرنا انها ندب وارشاد الي صياغة فكرية في كيفية الاسترشاد في الامور المختلفة واستصوابها.

- ومما استدل به ما ورد في عيون أخبار الرضا عن الرضا عليه السلام عن النبي صلي الله عليه و آله: من جاء يريد أن يفرق الجماعة ويغصب الامة أمرها ويتولي من غير مشورة فاقتلوه فان اللَّه قد أذن بذلك:

وهذا الحديث لا يدل علي مرادهم أيضاً، وذلك لأنه مهما كانت النظرية

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 173

المدعاة فيجب علي الأمة أن تقاوم امام الضلال الذي يتولي امورها غصباً بقوة السلاح، وفي هذا جواب علي أحد نظريات العامة التي اجازت تولي السلطة بالسيف، فالغاصب مهدور الدم حيث أنه قد غصب أعظم وأخطر الامور في المجتمع الاسلامي وهو ولاية الامر، وقد عني عليه السلام (من غير مشورة) الغصب وعدم رضا الناس به، لا أنّ للشوري سلطة وولاية في هذا الأمر، و لا دلالة فيه علي ارادة اعطاء الشوري سلطة وولاية، وذلك لان نفي الشي ء لا يعني إثبات ما عداه، لاسيما إذا كان محتملا لوجوه لكنه ذكرها من باب الحجاج مع القوم، والتعريض بسلطة بني العباس وغيرهم الذين تولوا الامور بالسيف والقوة والقهر.

- ومما استدل به علي الشوري ما ورد عن الصادق عليه السلام: «من فارق جماعة المسلمين قيد شبر فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه» «من فارق جماعة المسلمين ونكث صفقة الامام جاء الي اللَّه تعالي

اجذم» اصول الكافي 1/ 405.

وما ورد في النهج خطبة 127 «والزموا السواد الاعظم فإن يد اللَّه علي الجماعة واياكم والفرقة فان الشاذ من الناس للشيطان كما أن الشاذ من الغنم للذئب».

وهذه الروايات يتضح المقصود منها اذا عرفنا المقصود من الجماعة.

ففي رواية عن ابي عبداللَّه عليه السلام: سئل رسول اللَّه صلي الله عليه و آله عن جماعة امته؟ فقال:

جماعة امتي أصل الحق وإن قلّوا.

وفي اخري قيل: يارسول اللَّه صلي الله عليه و آله ما جماعة امتك؟ قال: من كان علي الحق وإن كانوا عشرة.

وفي رواية عن الامام علي عليه السلام: الجماعة أهل الحق وان كانوا قليلًا والفرقة أهل الباطل وان كانوا كثيرا.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 174

وعن الرسول صلي الله عليه و آله: ان القليل من المؤمنين كثير «1». وهذه الروايات واضحة الدلالة في كون المدار هو علي الصواب والسداد للأمر بحسب الواقع وعدم القيمة الموضوعية للكثرة بذاتها.

- ومما استدل به أيضاً الروايات الكثيرة الواردة في فضائل الاستشارة والحث عليها في كتاب الوسائل في كتاب الحج في أبواب أحكام العشرة باب 21- 26 ويُلاحظ علي الاستدلال:

أ- انها واردة بعموم يشمل الامور الفردية الشخصية التي ليس لها بُعد اجتماعي حيث لا توجد سلطة للجماعة علي الفرد، فيجب ان يكون معناها الوحداني العام هو الاراءة نحو: «من لا يستشر ندم» «من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها» «ولا ظهير كالمشاورة» «خاطر بنفسه من استغني برأيه» فحينئذ الاستشارة هي اصابة الواقع والوصول الي نتيجة صائبة، وليس فيها جهة تحكيم سلطة الجماعة أو إرادة خارج إرادة الفرد، بل هي تمد جهة التفكير الانساني بالاراء الاخري فتمكنه من استكشاف اصوب الاراء.

ب- ان الروايات المذكورة تورد صفاتٍ في المستشار من الورع

والعقل و «ان مخالفة الورع العاقل مفسدة في الدين والدنيا» وانها تارة تكون نافعة وتارة ضارة، واذا كانت بمعني سلطة الجماعة فأي معني للضرر والنفع، فالحق أنها نمط من التفكير، وفي بعض الروايات يشترط ان يكون المستشار حراً متديناً.

فلا ارتباط بين هذه الشرائط مع الحقوق العامة وانما تريد الروايات بيان مَن له اهلية الاستضاءة بخبراته وتجاربه، وان يكون رأيه الذي يدلي به خالصاً ومحضاً عن النزعات الاخري. ولذا ورد «من استشار اخاه فلم ينعمه محض الرأي سلب اللَّه

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 175

عزوجل رأيه».

- ومما استدل به ايضاً: «اذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا احدهم».. ونحوها مما ورد في مصادر غير الإمامية كسنن أبي داود 2: 34.

وهذه الروايات لم يقل فقهاؤكم فيها بالوجوب، بل قالوا: انها من باب الندب فينظر الي ارجح القوم عقلًا فيؤمره ويستهدي برأيه، وفي كتاب الوثائق السياسية ص 120 في معاهدته مع أهل مصر «وان ليس عليكم امير إلا من انفسكم او من اهل رسول اللَّه صلي الله عليه و آله».

وواضح منها ان الرسول قد خوّلهم في ذلك الظرف الزماني والجغرافي المكاني علي أن يكون الأمر بيدهم في اتخاذ امير عليهم، ومفاده يدلل علي أن الامر لا يكون بيدهم ابتداءً بل بتخويل من الرسول.

ويلاحظ في هذه الطوائف أنها وردت بصيغ الاستشارة الاستفعال والمشورة مفعلة والشوري فعلي وهي كلها بمعني واحد لاتحاد المادة. وفي نهاية هذه الروايات نذكر روايات صحيحة تؤكد ما ذكرناه من معني الاستشارة:

1- صحيحة معمر بن خلّاد قال: هلك مولي لأبي الحسن الرضا عليه السلام يقال له سعد، فقال: أشر عليّ برجل له فضل وأمانة، فقلت: انا أشير عليك؟ فقال- شبه المغضب-: ان رسول اللَّه صلي الله عليه و آله كان

يستشير أصحابه ثم يعزم علي ما يريد.

2- صحيحة الفضيل بن يسار قال: استشارني ابوعبداللَّه عليه السلام في أمر فقلت:

اصلحك اللَّه مثلي يشير علي مثلك؟ قال: نعم اذا استشرتك.

3- في موثقة الحسن بن جهم قال: كنا عند ابي الحسن الرضا عليه السلام فذكر أباه عليه السلام فقال: ان عقله لا توازن به العقول وربما شاور الاسود من سودانه فقيل له تشاور مثل هذا؟ فقال: إن اللَّه تبارك وتعالي ربما فتح علي لسانه. قال: فكانوا ربما أشاروا عليه بالشي ء فيعمل به من الضيعة والبستان.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 176

4- وفي النهج ان الامام عليه السلام قال لابن عباس وقد اشار عليه في شي ء لم يوافق رأيه: عليك ان تشير عليّ فإذا خالفتك فاطعني «1».

فالخلاصة التي نخرج بها من هذه الروايات الكثيرة هي أن المراد من الاستشارة والشوري والمشورة، هو المداولة الفكرية للوصول الي نتيجة أكثر دقة واقرب الي الصواب لا ان للمستشار سلطة وولاية علي المستشير.

ونختم الكلام حول هذه الطائفة بالحديث حول قوله تعالي:

«فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ» فالآية تتناول قضية مهمة وتعالج وظيفة من الوظائف التي تهم المجتمع وهي وظيفة القضاء، وهي من الوظائف المشتركة بين افراد المجتمع حاكماً ومحكوماً فيجب أن يشترك الجميع في تطبيقها والعمل بها ولا ينفع الالتزام من طرف واحد.

وببيان آخر نشير إلي ان الوظائف والتكاليف سواء الاجتماعية او العبادية علي نحوين: أحدهما ما يقوم به فرد واحد كما في الصلوات والعبادات المختلفة.

والنحو الثاني: الوظائف المشتركة كما في صلاة الجمعة حيث لا يكفي وجود الامام العادل لاقامتها بل يجب أن يتواجد افراد المجتمع لاقامتها، ويقع علي عاتق كل طرف منهم قسم من

اداء هذه الوظيفة المهمة السياسية العبادية، وهكذا الجهاد فهو وظيفة مشتركة بين الافراد والقائد، وهكذا في كثير من الوظائف التي تهم الاجتماع فلابد من اجتماع واتحاد ارادات في الأطراف المختلفة لأداء هذه الوظيفة والقيام بالتكليف المراد. والقضاء الوارد في الآية الكريمة من هذا القبيل فإن الرسول الاكرم هو المنصوب من قبل اللَّه قاضياً وحاكماً فيما شجر بين المسلمين،

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 177

لكن التحقق الخارجي لهذه القضية لا يكون إلا اذا التزم المسلمون بذلك وهي وظيفتهم إذ عليهم واجب الرجوع الي الرسول فيما شجر بينهم وعليهم الالتزام بما يحكم به، وهذا لا يعني أن رجوعهم اليه تنصيب منهم له صلي الله عليه و آله ولا انه الذي اعطاه صلاحية القضاء، بل التنصيب وصلاحية القضاء هي من عند اللَّه عزوجل وهذا مما اتفق عليه كل المسلمين فليس المراد من (يحكموك) هو انشاء منصب الحكومة لك، بل يعني اقدارك خارجاً تكويناً ومعاونتك علي تنفيذ قضاءك وفصلك للخصومات بينهم.

ونفس المعني الوارد في الآية الكريمة يذكر في مسألة الشوري وألسنة بعض الروايات التي وردت بها صيغة: «ولّاني المسلمون الامر بعده» «فانّ ولّوك في عافية …» «ان تولوها علياً». فهو لا يعني انشاء الامة للولاية وتنصيبهم للوالي بل هي في صدد وجود واجب وتكليف استغراقي علي كل أفراد المجتمع بالرجوع لمن نصبه اللَّه عليهم والياً وحاكماً، فالانصياع لاحكامه والانقياد لأوامره وظيفة افراد المجتمع، فكل من الطرفين يتحمل عبئاً من المسؤولية وشطراً منها.

ومن هنا يمكننا ان نعود لاية: «وَأَمْرُهُمْ شُورَي بَيْنَهُمْ» فنضيف اشكالًا مهماً الي الاشكالات السابقة وهو أن الامر المهم المسند الي المجموع يختلف تحديده ونمطه حسب نوعه وماهيته، فاذا كان الأمر يشمل مسألة الولاية والحاكمية فذلك بمفرده لا يدل علي

سلطة الأمة في امر الولاية بل يبقي السؤال والاجمال أنه ما هو طبيعة الامر المهم المسند اليهم وما هي وظيفتهم اتجاهه هل بنحو الفاعلية والاصدار والتنصيب أم بنحو القابلية والمتابعة والإعانة كأيدي وسواعد للوالي المنصوب من الشريعة المقدسة، أو ان الاية مهملة من هذه الجهة؟!

والمعهود في الشرايع السماوية كون دور المجتمع هو القبول والانصياع وقد جاءهم التأنيب علي التقصير في ذلك «أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَي أَنْفُسُكُمُ

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 178

اسْتَكْبَرْتُمْ».

فتقاعسهم عن اقامة صرح الهداية واستكبارهم عن متابعة الرسول سبب توجيه هذا الذم والتوبيخ للمجتمع.

وهذا هو طبيعة كل فعل مشترك بحيث يكون صدوره من طرف علي نحو الفاعلية ومن طرف آخر علي نحو القبول والانصياع. ومن هنا عندما يخاطب بعض الأئمة عليهم السلام الناس بأنكم وليتمونا فهو صحيح من الجهة والحيثية التي ذكرناها وهي انكم عملتم بوظيفتكم التي أوجبها اللَّه عليكم وهي الرجوع الينا، والامام علي عليه السلام في رواية سليم بن قيس يذكر كلا الطريقين ان كانت الخيرة للامة وان كانت الخيرة للَّه. وأنه الحق فالامة قد عملت بوظيفتها من الايتمام وإعانة وتمكين وليّ وخليفة اللَّه.

فهذان خطان متقابلان أحدهما يسند الامر للأمة علي نحو يكون لها الولاية وهو ما رفضناه منذ بداية البحث والاخر أن الامر بيد اللَّه يجعله حيث يشاء وعلي الامة تطبيق ذلك خارجاً بنحو القبول والانصياع لأوامر من نصبه اللَّه. وتمكينه من نفوذ قدرته التشريعية والتنفيذية والقضائية.

وعلي ضوء ذلك اذا فسرنا (امرهم) بهذا النحو يكون كيفية تقبل هذا الامر وكيفية القيام بهذه الوظيفة المهمة تكون بالتداول والتشاور، والانصياع والمتابعة للقائد المنصوب ويجب أن يكون برضاهم.

وقد ورد عن الصادق عليه السلام: ان الأئمة أهل العدل الذين امر اللَّه بولايتهم وتوليتهم وقبولها

والعمل لهم فرض من اللَّه «1».

وبهذا يتضح تمام المراد من آيات وروايات الشوري.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 179

وقد ذكرت بعض الاشكالات:

1- انه لو كان المراد من الشوري هو المداولة الفكرية فقط من دون لزوم اتباعهم فان عقد الاستشارة في الامور المهمة سوف يؤدي أوّلًا الي عدم تفاعل المستشارين في ابداء الرأي. وثانياً سوف يخلق مشكلة اجتماعية حيث تتعدد الاراء ولن يكون هناك حسم لهذا الامر المهم، بخلاف ما اذا قلنا بولاية الشوري والاكثرية فسوف تكون ضابطة وميزان الاكثرية هي لحسم مثل هذه المشاكل الاجتماعية الهامة.

والجواب عن هذا الاشكال يكون بملاحظة التطور الحاصل في حضارات المجتمع البشري منذ بداية تَكوّن أول اجتماع من الاسرة الي القبيلة الي القرية الي البداوة الي التحضر والتمدن، وقد تعددت وسائل الاتصال بين أفراد الانسان خلال فترات التطور هذه، حتي أصبح مجتمع القرن العشرين والواحد والعشرين الميلادي قد طوي حضارة التكنولوجيا والتصنيع وحضارة الذرة، فانتهي به المطاف حالياً الي حضارة المعلومات من الارتباط والاتصالات، والهدف من جعل الارتباط والاتصال هو محور حضارة هذا العصر هو سرعة انتقال المعلومات والأفكار بين أفراد الإنسان، وهذا يدلل أن أحد ابرز وسائل السيطرة هي الهيمنة علي المعلومات واستقصاء البحث. والقرآن الكريم قبل ما يزيد علي الالف عام ندب الي هذا الأمر المهم، وأن يكون القائد مهيمناً علي افكار الناس جامعاً لمعلوماتهم ومستمعاً لارائهم فهذا منهج مهم في حد ذاته لا يمكن الاستهانة به.

أما بالنسبة للنقطة الثانية فقد عولجت من جهتين، الاولي: ان أحد ثمار الشوري هو كون الجميع علي مستوي من الوعي الثقافي والمعلوماتي بحيث يستطيع المشاركة فيما يهم المجتمع، وهذا أمر يقفز بالمجتمع علي طريق الرقي، وبعد استقصاء الاراء المختلفة سوف يتضح لدي المستشير ولدي الاطراف

الرأي المتين

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 180

من الهزيل.

ومن جهة أخري تعمل الاستشارة علي توحد الارادة في مجتمع المستشارين فقد عالجته نظرية الولاية بحصر الارادة والعزم بالشخص المنصوب خليفة للَّه تعالي «فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَي اللّهِ» فإرادته هي التي تكون لها السيطرة علي جميع الارادات وتخضع لها كل الارادات، وكذلك الحال في نائبه العام وهو الفقيه، وإن كانت ولايته علي نطاق محدود بدائرة التطبيق للأحكام الشرعية في مجال القوي الثلاث.

2- وقد يشكل انه اذا كان المراد «وَأَمْرُهُمْ شُورَي بَيْنَهُمْ» هو الامر المهم الذي يمس المجموع فهذا يعني انه من الامور الخطرة، فكيف ينسجم هذا مع كون الاستشارة في نفسها مستحبة.

والجواب عنه ان الشوري تكون في كل موردٍ بحسبه فان كانت في الامور التي طبيعتها خطيرة وطبيعة الغرض الشرعي فيها بالغ الأهمية عند الشرع، فان الشوري والفحص عن الصواب وواقع الحال تكون واجبة، ولا يمكن للقائد غير المعصوم النائب من قبله أن يستبد برأيه، كما لاحظنا في فتوي الفقهاء في باب الجهاد فمع ان الافتاء بالجهاد هو بيد الفقيه الا أنه ملزم بالرجوع الي اهل الخبرة العسكرية في ذلك، وإذا لم يكن الامر المجموعي بهذا الوقع والخطورة فتكون الاستشارة ندبية وتكون فوائدها هو ما ذكرناه سابقاً.

3- وقد استدل محمد رشيد رضا بذيل آية الشوري علي سلطة الجماعة وولاية الشوري وذلك بقوله تعالي: «فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَي اللّهِ» حيث ان متعلق العزم غير مذكور فهو مطلق، لكن لما كانت الآية في صدد بيان ما يميز رأي الجماعة فيكون المراد منه هو رأي الجماعة اي فاذا عزمت علي ما يرون وما يريدون فتوكل علي اللَّه.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 181

وهذا مردود حيث انه من الواضح ان العزم فاعله هو الرسول الاكرم صلي

الله عليه و آله والظهور العرفي «1» شاهد علي ان المراد هو تصميم نفس فاعل العزم اي بعد ان نظرت أنت الي هذه الاقوال المختلفة والاراء المتضادة فاختر منها ما شئت واستصوب منها ما تراه مناسباً واعزم.

ويؤيد ذلك ما ورد في الامر بالتوكل علي اللَّه وعدم خشية الآخرين، أي أن مورد العزم قد يكون علي خلاف ما عليه اراء الاكثرية فتوكل علي اللَّه فيما عزمت مهما كان ذلك وان كان علي خلاف ما يرونه، وواضح ان الآيات الكريمة وردت في غزوة احد حيث ظهر فرار بعض المسلمين وتخلف البعض الاخر عن ميدان الحرب، وطمعهم في الغنائم، وسوء ظنهم باللَّه بعد ذلك، وتصديقهم موت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، وهذا كله يدل علي أن الرأي هو ما اختاره الرسول الاكرم وما عزم عليه بغض النظر انه وافق الاكثرية ام لا.

مضافاً الي أن الرسول الاكرم هو القسطاس المستقيم «مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَي» والجادة الواضحة والذي يجب أن يتبعه الاخرون وقد امره اللَّه عزوجل «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ» عندما يحيدون عن جادة الصواب، فكيف يتصور بمن يكون بهذه المرتبة وبهذا المقام يلزم بأن يتبع رأي الاكثرية والاغلبية وإن كان علي خطأ.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 182

الخلاصة: … ص: 182

ان التعبير بلفظ الشوري المشتق من تشاور واشتور، والاشارة والمشورة هي اراءة المصلحة، وشاورته في كذا راجعته لأري رأيه، وشرت العسل اشوره جنيته، واشار بيده اشارة أي لوح بشي ء يفهم من النطق.

فمادة الشوري تعطي معني الاستفادة من الخبرات والعقول الاخري لكي يكون العزم علي بصيرة تامة، فهي نظير ما جاء من أن اعقل الناس من جمع عقول الناس الي عقله، واعلم الناس من جمع علوم الناس علي علمه، فهي توصية

بجمع الخبرات وتنضيج وتسديد الرأي وتصويبه بكشف كل زواياه الواقعية عبر الاذهان المختلفة، وقريب من ذلك ما قاله اللغويين انها استخراج الرأي بالمفواضة في الكلام ليظهر الحق.

سواء كان الأمر بيد الفرد الواحد أم لا، كما هوالحال في سلطة الانسان علي أمواله اذا اراد ان يقدم علي بيع او عقد معاملي، فان استبداده برأيه يؤدي به الي الجهالة بخلاف ما اذا اعتمد المشورة والاستشارة، ولكن ذلك لا يعني في وجه من الوجوه قط سلطة المشير علي المستشير، أو سلطة المشير مع المستشير وانما يعني اعتماد الوالي علي منهج العقل الجماعي في استكشاف الموضوعات والواقعيات العارضة.

وهذا هو مفاد الروايات المستفيضة في باب الاشارة والمشورة والاستشارة والشوري، أي التوصية باعتماد تجميع الخبرات والعقول، لا جعل السلطة بيد المجموع بل الفيصل والنقض والابرام والترجيح بين وجهاة النظر يكون للولي علي الشي ء بعد استطلاعه علي الاراء المختلفة، كما هو دارج قديما وحديثا في

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 183

الزعامات الوضعية البشرية حيث تعتمد علي لجان وخبرات- مستشارين- «1» في كل حقل ومجال مع عدم افادة ذلك لدي المدرسة العقلية البشرية ولاية لأفراد تلك اللجان يشاروكون فيها ذلك الزعيم.

ولذلك عد الفقهاء تلك الروايات المستفيضة أحد أنواع الاستخارة بل افضلها، والاستخارة هي طلب الخير لا تولية ا لمشيرين مع المستشير، فلا يتوهم ان فتح باب الاستشارة والشوري في الرأي لغو اذا لم يكن بمعني التشريك في الولاية وتحكيم سلطة المستشارين، إذ أي فائدة أبلغ واتم من استكشاف الوالي واقع الاشياء وحقائق الامور عبر مجموع الخبرات والعقول، واعتماده منهج جمع العلوم الي علمه، فان ذلك يصيّره نافذ البصيرة، سواء كان ذلك علي الصعيد الفردي كولاية الفرد علي أمواله أو علي الصعيد الاجتماعي كولاية الشخص علي

المجتمع.

فمجي ء مادة المشورة في قوله تعالي يعطي هذه التوصية للمؤمنين في التدبير، بأن يكون البت فيه بعد استخراج الرأي الصائب من العقول المختلفة بالمداولة والمفاوضة مع العقول الاخري، اما مَن يكون له الرأي النهائي فليست الاية في صدده، لاختلاف ذلك التعبير مع «وَأَمْرُهُمْ شُورَي» حيث ان اليد هي من أقرب الكنايات عن السلطة، وكذلك يختلف مع التعبير في قوله تعالي: «وأُولُوا الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَي بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ»، وغيرها من التعبيرات القرآنية والمتعرضة للولاية في الاصعدة المختلفة.

ومما يعزز ما تقدم قوله تعالي: «فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 184

جُنَاحَ عَلَيْهِمَا» فانه تعالي ندب الي التشاور بين الزوجين في رضاعة الطفل مع ان ولاية الرضاعة ذات الاجرة بيد الزوج فقط، وان كانت الحضانه في غير ذلك من حق الزوجة.

وكذا قوله تعالي: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الامْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَي اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» ففيه ندبة من اللَّه للرسول صلي الله عليه و آله الي مشورة المسلمين في سياق الرأفة والرحمة بهم واللين معهم والعفو عنهم والاستغفار لهم، لا لتحكيم ولايتهم عليه صلي الله عليه و آله (والعياذ باللَّه) إذ ذيل الآية صرّح بان العزم علي الفعل مخصوص به صلي الله عليه و آله.

بل ان الامر بالتوكل فه اشعار بنفوذ عزمه وحكمه صلي الله عليه و آله وان خالف آراءهم، ولذلك ذكر أكثر المفسرين وجوهاً في امره بالمشاورة.

احدها: ان ذلك لتطييب انفسهم والتألف لهم والرفع من قدرهم.

الثاني: ان يقتدي به في المشاورة، كي لا تعد نقيصة ليتميز الناصح من الغاش، وكتشاوره صلي الله عليه و آله

قبل واقعة بدر- الكبري والصغري- وغيرها من الوقائع.

الرابع: لتشجيعهم وتحفيزهم علي الادوار المختلفة والتسابق الي الخيرات والاعمال الخطيرة المهمة، وتنضيج عقول المسلمين وتنميتها، ولكي يتعرفوا علي حمة قرارات الرسول وافعاله صلي الله عليه و آله.

ومن الغفلة الاستدلال بمورد نزول الآية في غزوة أحد علي كون الشوري ملزمة له صلي الله عليه و آله، بدعوي أن رأيه صلي الله عليه و آله كان هو اللبث في المدينة وعدم الخروج، ورأي بقية أصحابه علي الخروج ومع ذلك تابع رأي الأكثرية وخرج الي جبل أحد. وقدمنا مفصلًا خطأ هذا الاعتقاد.

ومما يستأنس لكون معني الشوري بمعني المشورة والاستشارة لا تحكيم السلطة الجماعية أن الآية مكية ولم يكن ثمة كيان سياسي للمسلمين، بل ان ظاهر

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 185

الآية ترغيب المؤمنين حين نزولها في الاتصاف بتلك الصفات، فيكف يلتئم مفاد السلطة الجماعية مع ولاية الرسول صلي الله عليه و آله المطلقة، ولذلك تري أن كثيرا من مفسري العامة فسروا الاية بمعني الاستشارة واستخراج الرأي لا تحكيم السلطة الجماعية.

مناقشة الاستدلال علي نظرية التلفيق بين النص والشوري … ص: 185
اشارة

قام بعض المفكرين بمحاولة الجمع بين ادلة التعيين والنصب- ككثير من الايات القرآنية الدلة علي ان الامامة عهد وجعل الهي، وان المنصوب هو علي عليه السلام وذريته- وبين ما يزعم من مفاد آية الشوري ودلالتها علي أن السلطة للامة، بأنّ مورد الادلة الاولي هو مع وجود المعصوم عليه السلام وتقلده للزعامة الاجتماعية السياسية، ومورد الثانية هو مع عدم وجوده عليه السلام كما في زمن الغيبة.

وهذا الرأي مردود لأنه ان جعل المدار لسلطة الامة والشوري عدم تقلد المعصوم الزعامة بالفعل فذلك يعني شرعية سلطة الامة في الفترة التي كان فيها علي عليه السلام مبعدا عن السلطة، وكذلك في فترة ما بعد صلح الحسن عليه السلام

الي عصر الغيبة، حيث انهم عليهم السلام لم يكونوا متقلدين بالفعل زمام الحكم، وهذا مناقض لمبدأ النص.

وان جعل المدار علي وجودهم عليهم السلام وان لم يتقلدوا زمام الامور والحكم بالفعل، فوجودهم لا تخلو منه الارض «اللهم بلي لا تخلو الارض من قائم للَّه بحججه اما ظاهر مشهور او خائفاً مغمور لكي لا تبطل حجج اللَّه وبيّناته» «1»

.الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 186

ولا فرق بين حضور الامام وغيبته بعد كون عدم تقلده زمام الامور بالفعل غير مؤثر في كونه اماما بالفعل- بما للامامة من عهد معهود إلهي ذات شؤون عظيمة بالغة- كما في الحديث النبوي المروي عن الفريقين «الحسن والحسين امامان ان قاما او قعدا» فقعودهما عليهما السلام بسبب جور الامة لا يفقدهما الجعل الالهي والخلافة الالهية علي الامة.

وهل من الامكان ابداء الاحتمال انه (عج) في غيبته يفقد هذا المنصب والجعل الالهي، اذ هذا لا ينسجم مع مبدأ النص والتعيين، ومن هنا كان تمسك الفقهاء في نيابتهم في عصر الغيبة الكبري بنصبه لهم نوابا في قوله المروي مسنداً في غيبةالشيخ الطوسي «واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الي رواة حديثنا فانهم حجتي عليكم وانا حجة اللَّه» فقوله عليه السلام «فانهم حجتي عليكم» استنابة منه عليه السلام للفقهاء.

وهل يتعقل ان يكون للَّه حجتان بالاصل في عرض واحد بالفعل، بان يكون الحجة في غيبته حجة بالاصل، ومنتخب الامة حجة اخري بالاصل ولكن بالانتخاب لا بالنيابة عنه، ومن هنا كان دأب فقهاء الإمامية علي ضوء مبدأ النص والتعيين ان ولاية الفقيه مستمدة منه عليه السلام وعجل اللَّه فرجه الشريف في الغيبة لا انها للفقيه بالاصالة مع خلعه عليه السلام عن ذلك المنصب.

هذا ولا يغفل عن ان سبب عدم تقلده (عج) زمام الامور والحكم

وعدم الظهور هو المذكور في قوله عليه السلام «لو كنتم علي اجتماع من امركم لعجل لكم الفرج» ولذلك قال السيد المرتضي والخواجة وغيرهما ان سبب غيبته منا.

نعم اذا أمكن ان تخلو الارض من الحجة المعصوم، وان يترك اللَّه البشر وحالهم مع قوانين دينه علي اوراق وتكون يد اللَّه مغلولة- والعياذ باللَّه تعالي- امكن حينئذ ذلك الاحتمال والجمع المزعوم بين الادلة.

ومن الطريف ان الدعوي المزبورة تذعن في طياتها بشروط المرشح بالانتخاب

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 187

من الفقاهة والكفاءة والامانة والعدالة والضبط وسلامة الحواس الي غير ذلك من الشروط التي لا تتوفر بنحو الاطلاق والسعة وبنحو الثبات الذي لا تزلزل فيه الا في المعصوم عليه السلام، وكأن ذلك أوْبٌ الي النص مرة أخري، اذ الاشتراط في جذوره تعيين.

نعم نصبه (عج) للفقهاء كنوّاب بالنيابة العامة قد استفيد من قوله «فارجعوا» الايكال للامة في اختيار احد مصاديق النائب العام الجامع للشرائطولا يعني ذلك أن النصب بالاصالة من الامة بالذات، بل منه (عج) بالاصالة ومن الامة بتبع ايكال وتولية المعصوم لها، كما هو الحال في القضاء والافتاء عند التساوي في الاوصاف.

ولا يتوهم ان تولية الامة ذلك يلزمه امكان توليتها السلطة علي نفسها بالاصالة من اللَّه تعالي في اختيار خليفة اللَّه في ارضه، إذ بين المقامين فيصل فاصل وفاروق فارق، حيث انه لابد من العصمة في قمة الهرم الاداري للمجتمع دون بقية درجات ذلك الهرم، اذ بصلاح القمة يصلح مجموع الهيكل.

كما لا يتوهم انه حيث لابد للناس من امير برّ او فاجر تدار به رحي ادارة النظام الاجتماعي البشري وهذه اللابدية والضرورة العقلية التي نبه عليها علي عليه السلام في النهج تقتضي تنصيب الامير علي الناس بالذات بالاصالة من دون حديث النيابة عن المعصوم.

ووجه

اندفاع التوهم: أن الضرورة العقلية تقتصي الزعيم، أما شرائط كونه امير برّ لا فاجر هو كون امارته من تشريع اللَّه تعالي واذنه اذ الولاية للَّه تعالي الحق، والامارة تجري علي يد الفرد البشري المخول منه تعالي في ذلك.

ولذلك تري أن عدة من الفقهاء قدس سرهم استدلوا بتلك الضرورة في الكشف عن اذنه وتنصيبه للفقهاء باعتبار انهم القدر المتيقن، أو غير ذلك من التقريبات المذكورة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 188

في كلماتهم.

وبذلك ننتهي الي أن الاية هي في صدد الاشادة بصفة ممدوحة مهمة في المؤمنين وهي عدم الاستبداد بالرأي، واعتماد العقل المجموعي في استخراج الرأي الصائب وفتح الافق، وأما أين هي منطقة السلطة الجماعية وأين هي منطقة السلطة الفردية ومن هو من هم فذلك يتم استكشافه من مبدأ السلطات وهو اللَّه تعالي ومن ثم رسوله صلي الله عليه و آله وخلفائه المعصومين، بالوقوف علي حدود نصوص الجعل والتنصيب كما ذكرنا لذلك مثالا في النائب العام والقاضي والمفتي.

والمهم التركيز علي هذه الجهة في الاية ان مادة الشوري هي لاستطلاع الرأي الصائب والمداولة مع بقية العقول، وفرق بين استطلاع رأي الاخرين وبين جمع ارادة الاخرين، فالاول هو موازنة بين الافكار والاراء من المستطلع والمستشير، والثاني سلطة جماعية، فلا يمكن اغفال التباين الماهوي بين الفكر والارادة، وان الشركة في الاول لا تعني الشركة في الثاني بتاتاً.

فالتوصية في الاية هي في اعتماد التلاقح الفكري في اعداد الفكرة، أما مرحلة البتّ والعزم والارادة فلا نظر إليها من قريب ولا من بعيد، ومجرد اضافة الامر الي ضمير الجماعة لا يعني كونها في المقام الثاني، بعدكون مادة المشورة صريحة في المقام الاول.

بل غاية ذلك هي أهمية اعتماد المفاوضة في استصواب الرأي في الموضوعات التي تخص وتتعلق بمجموعهم،

هذا لو جمدنا علي استظهار الموضوع المتعلق بالمجموع من لفظة (امرهم)، ولم نستظهر معني الشأن من الامر- كما استظهره كثير من المفسرين- أي بمعني شأنهم وعادتهم ودأبهم علي عدم الاستبداد بالرأي واعتماد طريقة الاستعانة بالمستشارين.

ونكتة الاضافة الي ضمير الجماعة هي وحدة سوق الافعال في الايات كما في

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 189

«وَأَقِيمُوا الْصَّلَاةَ» «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» «وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الاثْمِ»، وأما لفظة (بينهم) فهي ظرف لغو متعلق بمادة الشوري لكونها مداولة بينالآراء ومفاوضة لا تقل عن كونها بين اثنين، فهي فعل بينيُّ وفيما بينهم.

بعد هذا الاستعراض المطول للطائفة الاولي من ادلة نظرية الشوري بالمعني المصطلح وهي ما ورد من الآيات والروايات من مادة الشوري والاستشارة توصلنا الي نتيجة ان مفاد الشوري هو بيان منهج عقلائي وهو جمع الخبرات والتجارب والاستضاءة بمعلومات الاخرين. وان لا يكون اقدام علي مهام الامور الا بعد المداولة الفكرية وهي بعيدة عن تشريع سلطة للجماعة بل تبقي السلطة لذلك الفرد الذي يقوم بغربلة هذه الاراء واختيار الأصح منها والأوفق مع ما عليه قواعد الدين. وهذا المنهج أصبح الان منهجاً حضارياً متبعاً بعيداً عن الدكتاتورية المطلقة والاستبداد بالرأي الواحد.

ثانياً: عنوان الولاية والأمر بالمعروف … ص: 189

وقد ورد ذلك في آيتين:

أ- قوله تعالي: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضَهُمْ أَولِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» «1»

.أن الظاهر من الآية الكريمة اسناد الولاية الي الكل فالمولي هو الكل والمولي عليه كذلك فهي ولاية الكل علي الكل وهذا يعني أن أمر الامة بيدهم، وهذه الولاية تعم ولاية النصرة «2» وولاية الاخوة والمودة. والامر بالمعروف معني عام شامل

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 190

(ويذهب محمد رشيد رضا الي ان الولاية معني عام يشمل كل

معني يحتمله ولا يختص بأمر دون آخر) ويدخل في هذا السياق جميع الآيات الواردة فيها معني الولاية كما في الانفال 8/ 73.

ب- «وَلِتَكُن مِنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلي الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «1»

.فهو امر لكل المسلمين بأن تكون منهم جماعة خاصة وقوة معينة تأمر بالمعروف وتدير فيهم دفة الامور حيث ان الامر بالمعروف عام يشمل كل ما فيه صلاح الأمة الاسلامية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في درجاته الأولي مثبت لنحو من الولاية من للآمر وللناهي علي الطرف الآخر، فكيف في درجاته القصوي المستلزمة للضرب او المنع الخارجي بالقوة.

وبتقريب آخر أن الأمر بالمعروف له صورتان، أحدهما: صرف الامر والنهي الانشائي والقولي والاخر: ان يراد منه الأمر التنفيذي وتطبيق ذلك المعروف والردع عن المنكر. فإن كان الأمر الأول فلا خصوصية فيه حتي تختص به طائفة معينة بل هو عام شامل لجميع المسلمين. فلابد أن يكون المراد منه هو الصورة الثانية وحينئذ يتعقل تخصيصه بجماعة خاصة تقوم بهذا الامر.

بل ان محمد رشيد رضا «2» يري أن هذه الآية في دلالتها علي كون الشوري اصل الحكم في الاسلام اقوي من دلالة آيتي الشوري.

وفي كل ما ذكر نظر بيان ذلك:

1- مادة (اولياء) و (ولي) ورد استعمالها في القران في موارد كثيرة جداً «3»

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 191

عديدة واختلفت معانيها تبعاً لموارد استخدامها، ويمكن من خلال نظرة عامة الي تلك الموارد القول ان اكثر مواردها التي بصيغة الجمع كان معناها النصرة والمحبة.

والمراد من هذه الآية هو ذلك بقرينة نفس الآيات المحيطة بهذه الآية فإنها قد وردت ضمن آيات يقارن فيها الحق تعالي بين فئتين من الناس هم المنافقون والمؤمنون ومورد هذه المقارنة في غزوة تبوك «1»

حيث تخلفوا عنه صلي الله عليه و آله واستهزؤوا به فذكر ابتداءً وصف المنافقين بأنّ بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويستمر في ذكر صفاتهم وبُعدهم عن الحق تعالي والعذاب في الاخرة. وفي قبال هذه الفئة يقف المؤمنون وهم كالبنيان المرصوص في توادهم وتناصرهم وتحابهم. ويذكر صفاتهم التي هي علي طرف النقيض من المنافقين فهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وعندما يقال المؤمن ولي المؤمن معناه أنه ينصر اولياء اللَّه وينصر دينه واللَّه وليه بمعني أولي بتدبيره وتصريفه وفرض طاعته عليه.

وبقية الصفات المذكورة من عباداتهم اقامة الصلاة وايتاء الزكاة واطاعة اللَّه ورسوله. والنتيجة الاخروية وهي رحمة اللَّه تعالي والوعد بالجنة وهذه كلها في قبال صفات المنافقين.

فالمنافقون يأمرون بالمنكر والمؤمنون يأمرون بالمعروف.

والمنافقون ينهون عن المعروف والمؤمنون ينهون عن المنكر.

والمنافقون يقبضون ايديهم والمؤمنون يؤتون الزكاة.

والمنافقون نسوا اللَّه فنسيهم والمؤمنون يطيعون اللَّه ورسوله وسيرحمهم اللَّه.

والمنافقون وعدهم نار جهنم والمؤمنون وعدهم جنات تجري من تحتها

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 192

الانهار.

فالمنافقون كتلة واحدة لهم نفس الوصف والجزاء والمؤمنون بنصر بعضهم بعصاً ولهم نفس الوصف والجزاء.

فالآية الكريمة غير ناظرة الي الولاية بمعني الحكم وادارة الشؤون كما هو مورد الاستشهاد بها.

ومما يدل علي ما ذكرناه أيضاً أن اقامة الصلاة وايتاء الزكاة واعمال فردية وليست متفرعة عن ولاية البعض علي البعض، مضافاً الي أن ذيل الآية ويطيعون اللَّه ورسوله فإذا كانت بصدد بيان سلطة الجماعة علي مجموع الأمة فكيف يلتئم مع الحث علي طاعة الرسول صلي الله عليه و آله وانصياعهم ومتابعتهم.

2- اما الاية الثانية فإن غاية ما تدل عليه أن الامة يجب عليها تشكيل مثل هذه الجماعة لتدير دفة الدولة، ولكن هذا لا يفيد أن السلطة من الامة بل السلطة تكون

من قبل اللَّه تعالي وأن التولية الفعلية العملية هي بيد الامة وهذه وظيفتهم من حيث أن الحكم وظيفة يقوم بها الحاكم والمحكوم، فالحاكم تكون سلطته من قبل اللَّه تعالي وعلي المحكوم الرجوع وتمكين الحاكم من ذلك.

وبتعبير آخر أن الآية تبين الدور الذي يجب أن تقوم به الامة في مجال الحكومة وهو تمكين صاحب الصلاحية والسلطة لا ان التشريع والقدرة هو بيد الامة. فالآية لا تتعرض لهذا المقام بل تذكر ما هو تكليف الامة وكيف تتعامل مع مسألة الحكم وتمكين الحاكم.

3- أن هذا الدور لا يعني أنّ لها تخويل من تشاء وتسلطه علي نفسها، كيف والآية تصف الجماعة الآخذةبزمام الأمور انها داعيةالي الخير كل الخير لمكان اللام الجنسية أو الاستغراقية، آمرة بالمعروف كل المعروف لمكان اللام أيضاً، ناهين عن المنكر كل المنكر لذلك أيضاً عن المنكر الاعتقادي او الاقتصادي او المالي او

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 193

الاجتماعي في كل المجالات والشؤون، ومن الظاهر ان الداعي الي كل سبل الخير والآمر بكل معروف دق او جل وعظم وتوقفه خبر بماهية المنكر، وحائزاً علي العصمة العملية كي لا يتواني عن الأمر بكل معروف والنهي عن كل منكر لا تأخذ في اللَّه لومة لائم، ولا يعدل به هوي عن ذلك. فتنحصر وظيفتهم أي الامة في التكوين والرجوع الخارجي الي تلك الجماعة غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

4- ان الآيات الحاصرة للولاية في فئة خاصة تكون مفسرة وحاكمة في الدلالة ومبينة للفئة الخاصة التي يجب علي الأمة الرجوع اليها وتمكينها خارجاً.

5- ان في الآية احتمالًا آخر وهو كونها في صدد بيان الوجوب الكفائي للآمر بالمعروف غير المشروط بالعلم بالمعروف بل العلم قيد واجب فيه وهو مغاير للوجوب الاستغراقي المشروط بالعلم بالمعروف نظير وجوب

الحج الكفائي غير المشروط علي كل المسلمين في كل سنة أن يقيموا هذه الشعيرة لئلا يخلو البيت هو مغاير للوجوب الاستغراقي العيني المشورط بالاستطاعة.

ويمكن تقريبه بأن الشرط العام الذي يذكره الفقهاء في وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر هو العلم بأحكام الشريعة فالجاهل لا يتأتي منه ذلك. فاشتراط العلم هو شرط وجوب وبضميمة أن التعلم لجميع الاحكام أو غالباً غير ما يبتلي به نفس المكلف واجب كفائي فهذا يعني ان الواجب هو قيام فئة من المجتمع بالتعلم المزبور فيتحقق موضوع الوجوب الآخر المشروط به وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فالآية الكريمة محتملة أن تكون بصدد الاشارة الي ضرورة حصول ذلك التوجه لدي فئة من المجتمع للقيام بهذه الوظيفة نظير الوجوب الكفائي لإقامة الحجج غير المشروط بالاستطاعة لئلا يخلو بيت اللَّه الحرام عن إقامة هذه الشعيرة ولئلا يعطّل.

وبتعبير آخر اننا تارة ننظر الي الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعني اقامة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 194

العدل والحدود وحفظ النظام الذي هو وظيفة الدولة وتارة ننظر اليه بنحو شامل وعام لجميع الافراد والآية ناظرة الي الثاني والدليل علي ذلك هو ما سبق الآية من قوله تعالي: «يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ … وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُم مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا..» وهذه كلها ناظرة الي تكاليف اجتماعية يقوم بها افراد المجتمع ويتوجب علي المجتمع اقامتها والعمل علي ايجادها خارجاً، وان الآية ليست في صدد بيان واجبات الدولة اتجاه المجتمع.

وقد ورد في تفسير هذه الآية قوله عليه السلام: «انما الامر بالمعروف والنهي عن المنكر علي العالم». فوجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر علي هذا الاحتمال وجوباً كفائياً وهو واجب علي الأمة بنحو الكفاية.

ثالثاً: البيعة: … ص: 194
اشارة

1- «إِنَّ

الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَي نَفْسِهِ وَمَن أَوْفَي بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» «1»

.2- «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَي أَن لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» «2».

تقريب الاستدلال: … ص: 194

ينطلق المستدل من المعني اللغوي للبيعة. فالبيعة الصفقة علي ايجاب البيع وبايعته من البيع، والمبايعة عبارة عن المعاقدة والمعاهدة كأن كل واحد منهما باع

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 195

ما عنده من صاحبه واعطاه خالصة نفسه «1».

فالبيع تمليك من جهة البايع للمشتري ونقل الولاية علي هذه العين للمشتري ولا يصح البيع إلا ممن له الولاية والصلاحية للتصرف في المبيع. والبيعة هي انشاء ولاية من المبايِع للمبايَع علي نفسه، واسناد هذه المبايعة للامة يدل علي أن الولاية هي للأمة وهي تنقلها الي الرسول صلي الله عليه و آله او للمعصوم في نظرية النص.

وقد استدل من الروايات:

- عن موسي بن جعفر عليه السلام قال: ثلاث موبقات نكث الصفقة وترك السنة وفراق الجماعة «2».

وقال العلامة المجلسي نكث الصفقة نقض البيعة وانما سميت البيعة صفقة لأن المتبايعين يضع احدهما يده في يد الاخر عندها. ويؤيد ما مضي السبر التأريخي حيث نري الالتزام بالبيعة، فبيعة العقبة الاولي والثانية، وبيعة الامام علي وابنه الحسن والحسين عليهم السلام. ومبايعة الامام الرضا عليه السلام وما ورد في مبايعة الامام المهدي (عجل اللَّه تعالي فرجه) «3».

وتقريب الاستدلال بالروايات:

1- نفس المعني اللغوي المتقدم والذي يجعل البيعة نوع تولية وانشاء ولاية فالطاعة وانشاء الولاية للحاكم في مقابل تقسيم بيت المال والغنائم كما يظهر من

مفردات الراغب، وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته الفصل الثالث- فصل 29 ان

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 196

البيعة هي العهد علي الطاعة كأنما المبايع يعاهد أميره علي أن يسلم له النظر في أمر نفسه وامور المسلمين وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهداً جعلوا أيديهم في يده تأكيد للعهد فأشبه فعل البايع والمشتري فسمي بيعة مصدر باع وصارت البيعة مصافحة بالايدي.

2- ما ورد من التعبير انه عهد اللَّه وهذا ينسجم مع قوله تعالي: «لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ». ومنه يعلم ان الامامة والحاكمية تنوجد وتتولد من البيعة.

3- ان السيرة العقلائية الجارية في فترة ما قبل الاسلام مقتضاها أن البيعة وسيلة لعقد التولية وتأمير الحاكم. وهذه الحقيقة والماهية أمضاها الاسلام.

4- من تكرر السيرة علي أخذ البيعة عند الاستخلاف يدل علي ضرورة وجود نوع من المناسبة بين البيعة وبين تسليط وتأمير الآخرين، وهذا يدل علي أنه كما ننشئ بالتأمير والولاية بالنص فإنها تنشأ بالبيعة فكأنه يوجد طريقان لحصول التأمير والاستخلاف أحدهما النص والاخر البيعة، فإذا ما وجدا معاً فإن يكون من باب التأكيد والثبوت. كما في تولية الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله حيث لم يقل أحد أن توليه كان بالبيعة بل بنص اللَّه عزوجل الذي أوجب حاكمية الرسول صلي الله عليه و آله وأنه أولي بالمؤمنين من أنفسهم، كما أوجب رسالته ونبوته، أما كون البعية له هي المنشئة لتوليه وإمرته فهي بعيدة عن أقوال العامة والخاصة، ومن ادعي ذلك من المتأخرين فهو غن غفلة عن تلك النصوص ومخالفة لضرورة الذين عند الفريقين.

وفي هذا الاستدلال نأمل من جهات:

1- اننا ننطلق من نفس مدلول البيع. فان المحققين والفقهاء «1» نصوا علي ان البيع ليس من الاسباب الاولية لحصول الملكية فهو

ليس كالحيازة والابتكار

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 197

والارث. بل هو يكون فرعاً عن ملكية سابقة، ففي الرتبة السابقة يجب ان يكون للبايع (المبايع) صلاحية وسلطان معين علي مورد المبايعة ثم ينقله الي آخر.

فنفس دليل البيعة لا يدل علي وجود تلك الملكية السابقة والسيادة السابقة للأمة.

اي اذا فرض كون سيادة موجودة فحينئذ تكون المبايعة نقل لتلك السيادة من الامة الي الحاكم «1»، ويؤيد ذلك ان نفس المعاني التي ذكرها اللغويون بعيدة عن انشاءالامرة والحاكمية بل غاية ما تدل عليه هو الالتزام ببذل الطاعة، وفي مسند أحمد بن حنبل قلت لسلمة بن الاكوع: علي أي شي ء بايعتم رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يوم الحديبية؟ قال: بايعته علي الموت. فلم تكن المبايعة علي الترشيح او التولية.

2- لو لاحظنا ما ذكر في الآيتين الكريمتين من مورد البيعة، وان المسلمين عندما بايعوا علي ماذا بايعوا وان المؤمنات عندما بايعن علي ماذا بايعن، هل بايعوا علي امور لهم صلاحية تركها والالتزام بها فاختاروا الثاني. ام ان المبايعة كانت علي الحاكمية.

اننا نلاحظ انه في الآيتين وفي غيرها لم يرد ذكر للحاكمية علي الاطلاق، بل وردت المبايعة علي المناصرة والالتزام بأمور أوجبها الاسلام كعدم الشرك وترك الزنا وعدم العصيان، وهي أمور يجب الالتزام بها ويحرم عليهم تركها فما الذي أفادته البيعة؟ اذن البيعة تعبير ظاهري وخارجي عن ذلك الالتزام. فهي أولًا: لم يكن موردها الحاكمية فإن حاكمية الرسول هي من اللَّه، وثانياً: لم تكن فيه عملية نقل او انشاء ولاية علي الاطلاق، وهذا يعني ان للبيعة معني آخر ليس هو نفس المعني المأخوذ في البيع.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 198

3- النقض بالنذر والعهد واليمين فإن مورد هذه الأمور قد يكون المباحات وقد يكون

الواجبات أيضاً، فالصلاة الواجبة والثابت وجوبها قبل النذر يجعلها المكلف مورداً للنذر وحينئذ يكون الوجوب آكد ويكون وجوبان، أحدهما: سابق علي النذر، والآخر: لاحق عليه. ويفسر الفقهاء ذلك بانه انشاء عهد للَّه عزوجل ومورد البيعة قد لا يكون امراً اختياره بيد المكلف بل يكون من الواجبات ويكون النذر بها تعهداً زائداً. والبيعة كذلك فالمبايع يُنشأ التعهد بالتزام حاكمية ذلك المبايَع مع أن اصل الحاكمية ثابت في رتبة سابقة وليس سبب الحاكمية هو المبايعة بل قد تكون في بعض صورها أداء لامر واجب عليهم كما في مبايعة الرسول صلي الله عليه و آله والامام عليه السلام.

فالبيعة تكون نوع توثيق وزيادة تعهد وتغليظ التكليف والثبات علي مَن نُص علي ولايته. وغاية ما يفرق بينها وبين النذر واخويه، أن الاخير في الامور العبادية، والاول في الامور الاجتماعية والسياسية. ويشير لذلك عدة من الروايات منها موثقة مسعدة بن صدقة عن جعفر عن أبيه عليهما السلام: انه قال له: ان الايمان قد يجوز بالقلب دون اللسان؟ فقال له: ان كان ذلك كما تقول فقد حرم علينا قتال المشركين، وذلك أنا لا ندري بزعمك لعل ضميره الايمان فهذا القول نقض لامتحان النبي صلي الله عليه و آله من كان يجيئه يريد الإسلام، واخذه إياه بالبيعة عليه وشروطه وشدة التأكيد، قال مسعدة: ومن قال بهذا فقد كفر البتة من حيث لا يعلم. (البحار ج 68/ 241 نقلا عن قرب الاسناد للحميري) ومفاده: ان الايمان لو كان في القلب دون اللسان لتوجه النقض علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله- والعياذ باللَّه- في قتاله للمشركين اذ قد يكون آمن وتحقق الايمان في قلبه دون لسانه، ونقض آخر أنه لم يطالب صلي الله عليه و

آله من أتاه يريد الاسلام بالتشهد بالشهادتين وأخذ البيعة بعد تشهده التي هي زيادة استيثاق وتأكيد للالتزام بالتشهد.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 199

4- ان ما ذكر من موارد المبايعة في الآيتين أمور يجب علي المبايع الالتزام بها عند انشائه للشهادتين ودخوله في الإسلام ولا تحتاج الي البيعة لأجل ايجابها عليه، ففي بيعة الشجرة كان الجهاد مفروضاً علي المسلمين قبلها وكان واجباً عليهم الاطاعة مما يدل علي أن البيعة لم تنشأ اصل الالتزام بل هو تغليظ وتعهد ظاهري.

5- من المسلمات والبديهيات الدينية ان منشأ السلطة هو اللَّه عزوجل (ان الحكم إلا للَّه)، وهذا لا يتلائم مع ما استدل به المدعي من أنّ ماهية البيعة هي نقل سلطة الفرد للمبايع وهذا يعني وجود سلطنة للفرد علي مورد البيعة في رتبة سابقة وهذا ينافي تلك المسلمة البديهية وان السلطنة للَّه عزوجل وقد استخلف الرسول صلي الله عليه و آله في أيام حياته.

6- ان القائل بالبيعة لا يقول بها بنحو مطلق بل يجعلها مقيدة بقيود أوجبها الشارع والعقل فلا تجوز بيعة الظالمين، وكذلك يجب توافر الشروط التي أوجبها الشارع في الوالي وتدور حول محورين هما الكفاءة والأمانة، وهاتان الصفاتان لا تكونان بنحوٍ واحد عند كل الأفراد بل تختلف بنحوٍ متفاوت، فإذا انطبقت علي أحدهما دون الآخر فإن العقل سوف يعين من هو أكفأ وأكثر أمانة. وإذا ثبت توفر الصفتين بنحو تام الكمال الي حد العصمة بأدلة أخري ونصوص تامة السند والدلالة- طبقاً لنظرية النص- فإنها سوف تكون هي المعينة. وعلي كل حال فإنّ التعيين إما أن يكون للعقل أو الشرع.

فيعود الامر الي ان الشارع هو الذي يعطي الصلاحية لا الفرد ويكون دور الفرد هو الكاشفية فقط.

7- ان الروايات طافحة بعبائر امثال

«الأمر للَّه يضعه حيث يشاء»، وهذا يعني ان البيعة ليست تولية وخصوصاً إذا لاحظنا ما دار بين الرسول صلي الله عليه و آله وبين عامر بن

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 200

صعصعة حيث دعاهم الي اللَّه وعرض عليهم نفسه فقال له رجل منهم: إن نحن بايعناك علي أمرك ثم أظهرك اللَّه علي مَن خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك.

قال صلي الله عليه و آله: الأمر للَّه يضعه حيث يشاء.

8- ان البيعة نوع من العقود والعهود وهذا يعني انها تصنف في باب المعاملات فيجب ان نعود قليلًا الي الادلة الواردة في باب المعاملات، فإن الفقهاء يصنفون الادلة هناك الي قسمين أدلة صحة وأدلة لزوم. ويعنون بأدلة الصحة هي الأدلة التي تتعرض الي ماهية المعاملة وحقيقتها وأنها صحيحة أم لا، والثانية تتعرض الي المعاملة الصحيحة وانها لازمة ولا يجوز فسخها. وبتعبير آخر الفرق بينهما موضوعاً ومحمولًا.

أما موضوعاً فموضوع ادلة الصحة هي الماهية المعاملية، بفرض وجودها عند متعارف العقلاء، وموضوع ادلة اللزوم هو المعاملة الصحيحة عند الشرع. أما محمولًا ففي ادلة الصحة المحمول هو صحة المعاملة واثبات وجودها الاعتباري في اعتبار الشارع أما ادلة اللزوم فمحمولها هو لزوم المعاملة وعدم جواز فسخها، والتفريق بين هذين الصنفين من الادلة مهم جداً حيث لا يمكن التمسك ب «المؤمنون عند شروطهم»، اذا شك في صحة ماهية معاملية، فهي ليست من أدلة الصحة. بل من ادلة اللزوم التي يؤخذ في موضوعها ماهية معاملية أولية صحيحة ويتعرض لوصف يطرأ عليها وهو وصف اللزوم.

وبناء عليه يطرح التساؤل بأن ادلة البيعة اين يمكن تصنيفها في أدلة الصحة أم في أدلة اللزوم؟ بمقتضي التعاريف اللغوية وانها بمعني العهد فانها تصنف في الثانية وهذا يعني أن هذه الادلة لا تتعرض لمورد

البيعة وان المبايعة لهذا الوالي صحيحة أم لا؟ بل يجب أن يثبت في مرتبة سابقة ومن أدلة اخري أنّ التولية لهذا الشخص ممكنة وواجبة، ثم تكون البيعة نوع توثيق وتوكيد لذلك الأمر الثابت

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 201

سابقاً، فعنوان البيعة كعنوان العقد والشروط تعرض علي ماهيات اولية مفروغ عن صحتها.

والخلاصة ان البيعة انشاء الالتزام بمفادٍ ثابت صحته في رتبة سابقة.

نقض ودفع: … ص: 201

وهنا قد يورد نقض او تساؤل ان الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله لم يهاجر إلا بعد أن أخذ البيعة من اهل المدينة، وأن امير المؤمنين عليه السلام لم يرض أن يستلم السلطة إلا بعد البيعة، وهذان التصرفان يدلان علي وجود خصوصية في البيعة.

والجواب عن ذلك: أن الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله قبل اخذ البيعة قام بالدعوة الي نفسه وبيان حقيقة رسالته فحصل انجذاب افراد المجتمع اليه ومن ثَمّ أخذ منهم البيعة، وهكذا يقال في امير المؤمنين عليه السلام فبعد ايمان العامة بالامام علي وأنه الشخصية التي تنقذهم من التفكك والانهيار الذي صادف الدولة الاسلامية حصلت المبايعة.

فالغرض من المبايعة هو التغليظ والتوكيد وحصول الاطمئنان للرسول الاكرم حيث أنه ينتقل الي مرحلة المواجهة مع المجتمع المكي، فيجب ان يطمئن الي التزام جماعته وتعهدهم بذلك الالتزام.

وهكذا يقال في ولاية امير المؤمنين عليه السلام وولاية الحسن عليه السلام وبيعة أهل الكوفة وحواليها للحسين عليه السلام بتوسط نائبه مسلم بن عقيل، وهكذا يمكن تصوير اخذ البيعة للحجة المنتظر (عجل اللَّه تعالي فرجه) فالبيعة في كل هذا ضرب من التوثيق والتغليظ في المتابعة.

- واما ما ورد في مبايعة المسلمين للرسول الاكرم في الحديبية فسببه ان المسلمين لم يريدوا ايقاع الصلح مع المشركين خلافاً لرأي الرسول الاكرم صلي الله

عليه و آله الذي كان يري فيه انتصاراً للمسلمين واذلالًا للكافرين حيث اعترفوا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 202

للمسلمين بكيان ودولة، فيكون أكبر انتصار سياسي للمسليمن لكن غالبية مَن كان مع الرسول لم يتفطن لذلك، وازدادت الشقة بينهم، وبعد تمامية الصلح وقبل رجوعه للمدينة أراد الرسول أن يجدد المسلمون التزامهم وتعهدهم بمناصرته التي هي في الأساس واجبة عليهم بحكم وجوب الطاعة.

وما ذكر من الروايات الاخري تؤكد كلها هذا المطلب.

- واما خطب الامام عليه السلام ففي بعضها يقيم الامام الحجة علي مبني الخصم وهو اعتبار البيعة شرط في تولي الحاكم وان كانت علي خلاف ماهية البيعة وخلاف ما يعتقد به عليه السلام.

- واما قوله للذين تخلفوا عن بيعته: ايها الناس انكم بايعتموني علي ما بويع عليه من كان قبلي وأن الخيار للناس قبل ان يبايعوا فاذا بايعوا فلا خيار لهم، وهذه بيعة عامة مَن رغب عنها رغب عن دين الاسلام واتبع غير سبيل اهله.

فبالاضافة الي ذلك الجواب فإن هذا المقطع من خطبته مقتطع من صدره المذكور في كتاب سليم حيث يبتدأها: ان كانت الإمامة خيرة من اللَّه ورسوله فليس لهم ان يختاروا وان كانت الخيرة للناس فقد بايعني الناس بالشوري..

رابعاً: … ص: 202

الاستدلال بآيات كثيرة وردت في الكتاب العزيز يخاطب الحق تعالي الناس عموماً بوجوب الجهاد واقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقضاء واقامة الحدود «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» «1»

. وقوله تعالي: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 203

نَكَالًا مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» «1»

، «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ» «2»

فاجلدوا ولا تأخذكم اقطعوا الخطاب فيها للمجموع.

«لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ

الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» «3»

. وغيرها من الآيات التي تخاطب الناس بما هو من وظائف الدولة.

وتقريب الاستدلال بها ان هذه الآيات تحدد وظيفة الانبياء والرسل بالتبليغ أما نفس الحكومة وادارة أمور المجتمع والوظائف العامة فهي للناس يجب عليهم القيام بها.

والجواب عنها:

1- قد ذكرنا سابقاً وظائف الدولة كجهاز لا يمكن أن يقوم به فرد واحد بل لابد أن يقوم به الجماعة والناس كافة، وبتعبير آخر إن الدولة والحكم جهدمشترك بين الناس والحاكم ولا يستطيع الحاكم أن يقوم به بمفرده، ومن دون تفاعل الناس مع جهاز الدولة وطاعتهم له لا يمكن لهذا الجهاز أن يقوم بمهمته.

2- لو سلمنا بدلالة الايات علي المدعي فنتساءل كيف يمكن للناس ان يقوموا بتلك المهام فهل يؤدونها بنحو المجموع وهذا غير ممكن بل لابد أن يكون هناك جهاز يتولي هذه المهمة، فمع قيام هذا الجهاز نتساءل ان الواجب هل يسقط عن الامة وبقية الناس؟ الجواب بالطبع لا، فالواجب يبقي مع وجودهذا الجهاز.

وبتعبير آخر ان وجوب هذه الأمور علي الناس لا يعني عدم وجود جهاز خاص يقوم بتنفيذ هذه المهام فانه يبقي علي الناس الطاعة والالتزام بما يقرره هذا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 204

الجهاز. فهذه الايات علي فرض تمامية دلالتها لا تنافي وجود جهاز خاص يقوم بتنفيذ هذه الأمور.

3- إن أي فعل له جهات ثلاثة أحدها ماهية الفعل وكيفية ادائه وشرائطه. والثانية الذي يقوم بالفعل، والثالث الذي يقع عليه الفعل (القابل).

والأدلة التي تذكر في بيان أداء وظيفة أو فعل ما، تكون في صدد بيان احدي هذه الجهات ولا يمكن الاستفادة منها في بيان الجهة الاخري فقوله عليه السلام: نهي النبي صلي الله عليه و آله عن بيع الغرر، لبيان الجهة الاولي ولا يمكن

الاستفادةمنها لمعرفة شرائط المتعاقدين، وما ذكر من الايات في صدد بيان الجهة الاولي وهي ما هي الأمور التي يجب تنفيذها في المجتمع الاسلامي. أما مَن هو الذي يقوم بهذا العمل فإن الآيات غير متعرضة له. فهذه وظائف خاصة واجبة علي عامة المجتمع بنحو الوجوب الكفائي وهو لا ينافي كونه واجباً عينياً علي الزعيم والمدير والرئيس وهو نظير تجهيز الميت إذ أنه واجب كفائي علي عامة المسلمين ولاينافيه كونه واجباً عينياً علي الولي او الوصي، وهذا النحو من الوجوب مشترك بين نظرية النص والشوري.

4- ورد في ذيل آية سورة الحديد: «وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ»، فالآية الكريمة فيها دلالة واضحة أن الأمر في الواقع بيد الرسل والمبلغين عن اللَّه وأن وظيفة الناس هي المناصرة والطاعة وليميز اللَّه الخبيث من الطيب. 5- إن المستدل استدل بظاهر هذه الايات وأن هذه الاوامر عامة للناس لكن غفل عن آيات اخري كان المخاطب فيها الرسول صلي الله عليه و آله وحده «جَاهِدِ الْكُفَّارَ- فَاحْكُم بَيْنَهُم بالعَدْلِ».

وهذا يعني انه لا يمكن الاغفال عن هذه الايات، ووضعها بجانب تلك الايات

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 205

حتي يظهر لنا ما هو الواجب علي الامة، وما هو الواجب علي المرسلين، ولا يمكن النظر اليها بنحو منفصلٍ عن بقية الآيات التي تثبت الولاية ووظائف الولاة، وادلة الولاية لا تكون معارضة لهذه الآيات بل تكون قرينة علي تعيين مفادها.

خامساً: آيات الاستخلاف … ص: 205

«وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَايَشَاءُ..» «1»

«وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الارْضِ..» «2» «أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ» «3»

. «إِنَّا عَرَضْنَا الامَانَةَ عَلَي السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ» «4»

. «وَهُوَ الَّذِي

جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الأَرْضِ..» «5»

.وتقريب الاستدلال بها بأن بني البشر قد وُلوا عمارة الارض من قبل اللَّه جل وعلا ومن بين الأمور التي تقتضيها الخلافة هو تولي احدهم وتأميره واعطاء الولاية له.

وهذا الفهم للآية يقابله فهم آخر طبقاً لنظرية النص أن هذه الآيات هي اذن عام بالاستفادة من خيرات الارض وإعمارها في قبال بقية الكائنات التي ليست لها هذه القابلية ولم يفوض لهم تكويناً ذلك. اما الولاية الخاصة والتأمير فهو أمر آخر لا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 206

يستفاد من هذه الخلافة العامة.

وههنا ملاحظات حول هذه الطائفة:

1- ان غاية تقريب هذه الطائفة لا يفوق ما ذكر من الآيات والوجوه السابقة من تكليف الامة بالوظائف العامة فيرد عليها ما أوردناه هناك والوظيفة التي تظهرها هذه الآيات هي أن وظيفتهم اعمار الارض والاستفادة من مواردها الطبيعية في قبال الافساد والاهمال.

2- يصرح كثير من المفسرين ان هناك نوعين من الاستخلاف احدهما عام يشمل جميع البشر والاخر خاص وهو الذي يتعرض فيه للولاية وهو خاص بمن يصطفيه اللَّه تعالي (البقرة: 30- 35)، وخص من اصطفاه بخصوصيات منع منها الاخرين كالعلم اللدني واسجاد الملائكة له. وكذلك راجع سورة ص اية 26 والنور آية 25.

والآيات المذكورة في هذا الوجه هو في الاستخلاف العام وهو غير ناظر للولاية.

3- ان آيات الخلافة العامة مدلولها هو تفويض اعمار الارض للبشر تكويناً، اما تشريعاً فانه لم يفرضها لمطلق البشر بل لمن توفرت فيه شرائط من قبيل التوحيد والعمل بأحكام اللَّه وطاعته، وأن اللَّه لا يريد صرف ومجرد الاعمار البشري المادي «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَي الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا

قَلِيلٌ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ» «1»

. وهذا وجه التعبير بالفيئ علي ما استولي عليه الرسول صلي الله عليه و آله من أموال يهود خيبر ونواحيها، وكل مال للكفار لم

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 207

يوجف عليه بخيل ولا ركاب بمعني المال الراجع فلم يعتبر للكفار صلاحية التملك، واعتبر لخليفة اللَّه نبيه صلي الله عليه و آله ولاية الاموال العامة في الارض.

سادساً: آية الامانة … ص: 207

قوله تعالي: «إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَي أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» «1»

.يوجد للآية تقريبان:

الاول: ان يكون المراد من الامانة هنا هو خصوص الحكم بين الناس بقرينة التفريع «وَإِذَا حَكَمْتُم» بمعني ان الحكم بين الناس امانة، وأن من يملك تدبير هذا الحكم هو الناس حيث أنهم المخاطبون بذلك، فاذا وُلي بعضهم علي بعض يجب أن يحكموا بين الناس بالعدل.

الثاني: ان الامانة وهي الحكم بين الناس بالاصالة، وعند وجود المعصوم فان الولاية تكون له بموجب النص، وعند عدمه فإنها تعود للامة.

وقوله تعالي: «إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَي السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولًا»»

.وقد فسرت الامانة تارة بالتكاليف وأخري بالأحكام وعلي كليهما ينفع في المقام، اذ تفيد شمولها للتكاليف الولائية وأنشطة الدولة التي هي نوع من التكاليف الكفائية في المجتمع المدني، فالامانة بيد الأمة اما بالاصالة مطلقة أي في عرض النص أو انها في طول النص.

والجواب عن هذا كله:

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 208

لو لاحظنا آية سورة النساء لوجدنا انها ابتدأت بضمير المخاطب «إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ» وفي ذيلها: «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ» وقد تغير الاسلوب إلي الخطاب بالصفة، وهذا يقرّب ما ورد من الروايات أن المخاطب في

الأولي هم ولاة الأمر، فالإمامة هي أمانة الحكم إلا أن المخاطب بها هم ولاة الأمر.

وفي الثانية خطاب الي عامة الناس لطاعة أولي الأمر. وقد ورد في ذيلها رواية عن الباقر عليه السلام: «إن احدي الآيتين لنا والاخري لكم» وقد ذهب بعض الكتّاب إلي تفسير الرواية ان الآية الاولي هي للناس والثانية للأئمة. وهذا عجيب إذ أن الخطاب في الثانية ب «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» وهو خطاب عام، والآية الاولي وان كان الخطاب فيها عاماً إلا انه لا يعقل توجيهه لكل الناس لأنه ليس وظيفتهم حكم كل الناس، وواضح أن المخاطب فيها هم الحكّام.

وعلي فرض التنزل وان المخاطب في الآية الاولي هم عامة الناس فهي أصرح علي نظرية النص حيث يكونون مطالبين بأن يولّوا عمليا ويمكنوا من هو أهل لذلك وهم الواجب طاعتهم.

أما بقية الآيات فهي بصدد بيان الأمانة العامة ومطلق التكاليف الفردية منها والاجتماعية، وليست في صدد التعرض الي ولاية الامر بالخصوص.

وبعبارة أخري أن ذيل الآية من لزوم طاعة أولي الأمر المقرونة طاعتهم بطاعة اللَّه وطاعة رسوله- مما يدلل علي أنها متفرعة منهما لا من تنصيب الناس- شاهد علي أن الأمانة والحكم بين الناس ليس من صلاحية الناس وتنصيبهم لان اللازم علي الناس المتابعة والانقياد، ومن بيده النصب لا يكون تابعاً منقاداً، فالأمانة عهد اللَّه الذي لا يناله الظالمين كما في سورة البقرة لا العهد من الناس.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 209

سابعاً: آيات تدل علي نفي مسؤولية الرسول عن الامة … ص: 209

«مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّي فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً» «1»

، «وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ» «2»

. «وَلَوْ شَاءَ اللّهُ مَاأَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ» «3»

، «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ» «4»

، «فَإِن أَعْرَضُوا

فَمَا أَرْسَلَنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ» «5»

، وغيرها من الآيات ق 45، النحل 125، الغاشية 21، يونس 99.

وتقريب الاستدلال أن هذه الايات تحصر مهمة الرسول في التبليغ وهداية الناس ونفي مسؤوليته عن تولي زمام الامة وانه ليس مسؤولًا عنهم اذا اختاروا طريقاً آخر، فهي تدل علي انه ليس من مهام الرسول الولاية في الاصل.

والجواب عن هذا الاستدلال انه يجب ملاحظة شأن نزول هذه الآيات وملاحظة ما يحيط بها من آيات تكون قرينة علي بيان معناها، حيث ان الايات بصدد الإشارة الي مطلب مهم بعيد عما يشهدون بها عليه، وهو أن الايمان الذي هو مدار النجاة في الآخرة لا يمكن للرسول أن يُلجأ أو يُقسِر عليه «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ»، وكان الرسول صلي الله عليه و آله يتألم لما يري من صدود المنافقين وهو الذي أرسل رحمة للعالمين، وما يتحلي به من رأفة وشفقة عليهم «لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» «إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ».

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 210

مضافاً الي ان الرسول كان رحمة للناس وكان يظهر شفقته وحزنه حتي علي المنافقين، وان الحفاظة والوكالة المنفية هي في مورد الايمان والدين لا في مورد ادارة المجتمع ونحوه، كما ان هذا التفسير لا ينسجم مع الايات الصريحة بأن علي الرسول اقامة العدل سواء في مجال الاقتصاد والاموال أو في الحقوق والمنازعات السياسية أو الفردية، والحكم بين الناس والقضاء شعبة ركنية من شعب الدولة.

والآيات التي تأمر النبي بالجهاد «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ» فإنها صريحة في وجوب اقامة الحكم الاسلامي وحمل الناس علي العيش في ضمن قوانين الدولة الاسلامية والتسليم الخارجي لهم، أما من جهة القلب والايمان الباطني فإن

هذا أمر غير قابل للإكراه فيه، وفي هذا المجال نري تلك الآيات التي تنفي مسؤولية الرسول صلي الله عليه و آله عنهم، أما الجانب الاول فإن الآيات صريحة في وجوب اقامة الحكم علي الرسول صلي الله عليه و آله وجعل كلمة اللَّه هي العليا.

ثامناً: … ص: 210

«إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُديً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ» استدل البعض بهذه الآية الشريفة علي ان الحكم عن طريق الشوري، وأنه يكون في طول النص حيث أن الآية ذكرت انه أنزل التوراة ليحصل بها الحكم وهو غير الهداية بل يشمل التشريع والقضاء، وهو للنبي أولًا ثم يأتي دور الربانيين وهي صيغة مبالغة، ورباني المنسوب الي الرب وهم المطيعون للَّه عزوجل طاعة خالصة غير مشوبة بمعصية غير المغضوب عليهم ولا الضالين وهم أوصياء كل نبي، ثم يأتي ثالثاً دور الاحبار وهم العلماء الذين عليهم مسؤولية استلام سدة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 211

الحكم وان هذه السنة الالهية في تولي الحكم جارية في جميع الاديان.

وهذا الحكم العام يستفاد من مجموعة من القرائن:

أ- قوله تعالي: «فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ» فالمخاطب بها المسلمون وهذا يدل علي جريان هذه السنة الإلهية فيهم أيضاً.

ب- ان القرآن ليس كتاب تاريخ أو قصص بل هو كتاب اعتبار وتشريع، فكل ما يذكره إنما يأتي به اللَّه عزوجل من أجل العبرة، والتشريعات تكون ثابتة ما لم ينص علي خلاف ذلك. فهذه السنة العامة التي ذكرها القران في بني اسرائيل غير مختصة بهم بدليل عدم ذكر القران لهذا الاختصاص، بل ان ذكرها للدلالة

علي ارادتها من المخاطبين.

ج- الايات الواردة بعد ذلك في بيان حكم أهل الانجيل إذ يعيد الحق سبحانه نفس المفاد حيث تنص علي وجوب الحكم بما جاء في الانجيل «وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فَأُوْلئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» ومن ثم تستمر الآيات في بيان وجوب أن يحكم الرسول صلي الله عليه و آله بما أنزل اللَّه.

والخلاصة: ان الآيات تبين سنة إلهية جارية في جميع العهود والأزمان وأنه اذا انزل كتاباً سماوياً فمراده من ذلك هو أن يكون دستوراً إلهياً علي الأمة أن يتخذوه في تصرفاتهم علي كافة الأصعدة الفردية والاجتماعية والقضائية والتشريعية والولائية. وتظهر الآية تسلسل ترتب الحاكمية فهي للنبي ثم لوصيه ثم للأمة والاحبار اي العلماء الذين هم جزء من الأمة، مع اشتراط توفر العلم والكفاءة والأمانة وهي امور لا ريب فيها.

وفي هذا الاستدلال تأمل ب:

1- إن الآية لا تنافي نظرية النص بل تدل عليها، وذلك: لأن ايكال سدة الحكم للأحبار هل هو بالاصالة عرضا مع الربانيين ام بالنيابة عنهم؟ والآية تصلح

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 212

للانطباق علي كلا المعنين.

2- أن الترتيب في الذكر الوارد في الآية ليس اعتباطياً بل هو للدلالة علي نيابة المتأخر عن المتقدم بمقتضي ولاية المتقدم ذكراً علي المتأخر لأن المتأخر من رعية المتقدم، فتكون ولاية المتأخر متفرعة عن المتقدم، وحيث ان العلماء مستقي علمهم من المعصومين فتوليهم للحكم يكون بالنيابة عن المعصوم، والدليل علي تسنمهم سدة الفتيا هو آية النفر «1» فاسناد سدة الفتيا للفقهاء هو من عصر الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله غايته أنه في طول المعصوم عن الرسول، حيث أن أصل العلوم كلها هي للرسول صلي الله عليه و آله وهو الذي يُطْلِع المعصوم عليها، وإن كان

تشريع فتياهم أي الفقهاء هو من قبل اللَّه عزوجل لكنها عن المعصوم عليه السلام عن الرسول صلي الله عليه و آله.

ان قلت: ظاهر الاية ان ولاية الاحبار ليست نيابة وذلك لأن اللَّه عزوجل اسند الحكم اليهم فالتخويل هو من قبل اللَّه.

قلت: إن لهذا نظائر كما في طاعة اللَّه وطاعة الرسول، وولاية اللَّه ولاية الرسول، فان المزاوجة بين الولايتين لا يدل علي انهما في عرض واحد بل انها جعلت للمعصوم بتخويل من اللَّه عزوجل استخلافا. ومن نظائرها ما ذكر في موارد الخمس والزكاة وأصنافها فان الولاية علي الأموال هي للرسول والمعصوم لا للاصناف، فالفقراء ليست لهم الولاية علي اموال الزكاة.

ان قلت: هل تتصور- بناء علي نظرية النص- ولاية الرسول صلي الله عليه و آله علي المعصومين بعد وفاته صلي الله عليه و آله.

قلت: إن ولاية الرسول صلي الله عليه و آله باقية علي مَن بعده حتي بعد وفاته وذلك لان الرسول الاكرم هو الطريق لوصول العلوم اليهم عليهم السلام ويذكر مضافاً الي نفوذ

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 213

أحكامه صلي الله عليه و آله في كل المجالات علي من بعده الي يوم القيامة كمثال علي ذلك ما جري بين الحسين عليه السلام وابن عباس عندما سأله الاخير عن خروجه مع علمه بما فعلوه بأبيه وأخيه، فأجابه عليه السلام: إنه قد رأي النبي صلي الله عليه و آله في المنام وأخبره بالخروج الي العراق، حيث أن رؤيا المعصومين صادقة فهذه تمثل استمرار ولايته عليهم وبقاء تلك الطولية بينهم.

3- قوله تعالي: «بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ» فإن هذه العبارة في الآية ليست متعلقة بالأحبار بل متعلقة بالنبيين والربانيين وذلك:

- ان مادة الحفظ واردة في القرآن غالبا بمعني

الايكال العهدي الخاص الشبيه بالتكويني من اللَّه عزوجل الي الملائكة المسمون (بالحفظة)، ولفظة (استحفظوا) لم ترد الا في هذا المورد وهذا يدل علي أن المراد منه هو العهد الخاص، ويقابل الاستحفاظ لفظ (التحميل) حيث ورد وصفاً لعلماء بني إسرائيل في سورة الجمعة «مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا» فالتعبير بالحمل هو بمعني ا لتكليف وهو غير الاستحفاظ والثاني ورد في علمائهم لا الأول.

- ورد عن الصادق عليه السلام في ذيل الآية: «الربانيون هم الأئمة دون الأنبياء الذي يربّون الناس بعلمهم، والأحبار هم العلماء دون الربانيين». قال: «ثم أخبر عنهم فقال: بما استحفظوا من كتاب اللَّه وكانوا عليه شهداء ولم يقل بما حملوا منه- تفسير الصافي 2: 38.

وهذا أيضاً يدل علي أن المراد من الاستحفاظ هو عهد خاص من اللَّه عزوجل.

- وقد يتساءل عن السر في تأخير (بما استحفظوا) وايرادها بعد الاحبار وكان الانسب ذكرها بعد الربانيين.

والجواب عن ذلك:

أ- مثل هذا التعبير وارد في مواضع اخري في القران مثلا في سورة النساء (72-

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 214

73): «وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَعَهُمْ شَهِيداً وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَم تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً». فجملة (كأن لم تكن بينكم وبينه مودة) متعلقة بالآية السابقة عندما يقول المنافقون إذا هُزم المسلمون الحمد للَّه الذي لم نكن معهم فوجود الفاصل لا ينفي الارتباط بين الجملتين.

ب- ان هذا التعليل بين ان المحورية والمركزية في الحكم للنبي والربانيين وذلك لأن لهم العهد الخاص من قبل اللَّه عزوجل، ويكون موضع الاحبار هو النيابة عنهم، وبمنزلة الايدي والاعوان ولا يكونون مستقلين بالحكم والأمر

بل يصدر الأمر عنهم، نعم يكون لهم نوع من الاستقلالية في ما لم يُنط بهم كما في ولاية الإمام عليه السلام لمالك الاشتر فقد زوده بالخطوط العامة للحكم وعليه التصرف ضمن تلك الحدود ولا يرجع في كل صغيرة للإمام، وهذا مقام لا يعطي لكل أحد بل لمن يمتلك الكفاءة العلمية والأمانة ولذا عبر عنهم بالأحبار، فعدم الاستقلال بالولاية يرجع الي عدم توفر التعليل فيهم حيث ان منحصر في النبيين والربانيين.

4- واخيراً يرد علي المستدل بهذه الآية الكريمة للجمع بين الشوري والنص وانه مع انتفاء النص تصل النوبة للشوري، ان ذلك يتنافي مع ما هو مقرر في العقيدة الشيعية من أن الارض لا تخلو من حجة ظاهرة أو باطنة وان الولاية مع وجود المنصوص عليه تكون فعلية وليست اقتضائية ولا تقديرية، وهذا يعني ان موضوع النص لا ينتفي اصلًا حتي يمكن أن نفرض الشوري عند انتفاء النص، ولا يمكن اعتبار عدم تسلم الامام لسدة الحكم لجور الامة وضلالها لا يعني انتفاء النص فهو كما في تصريح الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله: الحسن والحسين امامان إن قاما وان قعدا.

وكذلك غيبة المعصوم لا تعني انتفاء النص لأنه موجود ومؤثر بتسديده للامة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 215

وهدايته لها من ستار الغيب كما يظهر من الروايات الكثيرة في هذا المجال.

منها: قوله عليه السلام: اني لازلت راعٍ لكم ولست بغافل عما يدور حولكم. فضرورة المذهب السائدة ان الفقهاء هم نواب الامام وشرعيتهم من شرعية الامام، لا أن لهم ذلك بالاصالة مع اختلافهم في مساحة تلك النيابة سعة وضيقاً، وهذه النيابة للفقهاء بالنصب العام لا الخاص لجماعة واشخاص بخصوصهم، نعم أوكل أمر تعيين هذا المصداق النائب للأمة، فهو نوع من التخويل سواء كان

هذا الانتخاب بنحو مفرد أو لمجموعة واجدة لشرائط النيابة، وهذا نظير صلاحية القاضي فإنها استنابة عنه عليه السلام إلا أنه جعل تعين المصداق بيد المتخاصمين.

وهذا المعني ليس ايكالًا للأمة باختيار القائد بمعني ان الامة تختار من ينوب عنها، بل هو تفويض للامة في تعيين المصداق من بين هؤلاء العلماء. فما يذكره بعض المتأخرين من ان للفقهاء الولاية بالاصالة في عصر الغيبة مخالف لضرورة من ضروريات المذهب.

تاسعاً: سيرة الأئمة عليهم السلام … ص: 215

وقد ذكرت وجوه اخري للدلالة علي الشوري بعضها قد مضي في تضاعيف الاستدلال بالآيات السابقة.

1- الاستدلال بالسيرة: ان الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله والامام عليه السلام جرت سيرتم وعملهم علي عدم استلام سدة الحكم إلا بعد حصول البيعة ورجوع الناس اليهم وإن الامام نقل عنه انه يكون وزيراً ومرشداً أفضل من أن يكون اميراً. وأن حكومة الرسول صلي الله عليه و آله هي حكومة معنوية أقرب منها أن تكون حكومة سياسية. ولذا قيل ان الموروث من الرسول صلي الله عليه و آله ليس بذاك الحجم الذي يمكن أن يؤسس به دستور لدولة سواء في الجانب القضائي او التشريعي او التنفيذي.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 216

- ان الائمة عليهم السلام كانوا يبتعدون عن السلطة ولا يسعون لاقامة الحكم بل علي العكس كانوا يدفعون من يأتي ليبايعهم. فالامام علي عليه السلام عندما اتاه الناس لمبايعته صدهم وامتنع اول الأمر وهذا يعني ان الامر بيد الامة فان انتخبتهم فقد اصابت طريق الرشاد والصلاح. كما ان أبامسلم الخراساني قد عرض الحكم علي الامام الصادق عليه السلام وقد رفض ذلك، والامام الرضا قد عرض عليه المأمون الحكم وقد رفض فهذا يعني انهم لم يكن يرون أنفسهم منصوبين من قبل اللَّه.

2- ان السياسة وتدبير

الامور ليست جزءاً من الدين والشريعة، بل هي امور عامة ترجع الي تقدير الناس وحسن رويتهم فالحكومة تستمد مشروعيتها من الامة والمجمتع.

3- ان المعصومين مبشرون ومبلغون وهداة، والنص علي امامتهم يعني وجوب الرجوع اليهم في معرفة أحكام الدين أصولًا وفروعاً، وان الحكومة ليست تكليفاً الهياً وليس من مراتبه ومقاماته الحكومة واوضح مثال علي ذلك انبياء بني اسرائيل اذ لم يكونوا يديرون شؤون الناس.

4- ان الكتاب الكريم لم يحتوي الا علي جزء قليل من أحكام الدولة.

5- ان مفهوم النبوة والامامة يعتمد علي العلم الخاص وليس فيه دلالة او ايماء الي الحكم والولاية.

والجواب عن هذه الوجوه: … ص: 216

أولًا: قد ذكرنا سابقاً الجواب عن السيرة ونكرره هنا:

- ان الآيات التي تأمر النبي بإقامة القسط والعدل والقضاء والجهاد والنشاط العسكري والدفاع عن المجتمع الاسلامي كثيرة وهذه خطابات لا تصلح إلا للحاكم والوالي، واما البيعة فقد ذكرنا نكتها وأنه لا يكفي مجرد التكليف من دون حصول

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 217

الوثوق والاطمئنان وقد ذكرنا ان البيعة ليست تفويضاً او توكيلًا بل هي اظهار الالتزام وأخذ العهد والتغليظ.

- وهكذا في سيرة الامام علي عليه السلام فإنه في كثير من كلماته يشير الي احقيته بالخلافة والحكومة، وأن مماطلته في استلام الخلافة بعد مقتل عثمان لحكمة تتضح لمن له أقل تتبع في التاريخ، حيث أنه أراد قطع العذر لمن يشق عصا المسلمين والطاعة عليه وحتي لا يكون هناك مجالًا لمن أراد أن ينكث البيعة.

- وقد يشكل بما روي عن الامام الحسين عليه السلام من أنه في ليلة العاشر من المحرم قال لأصحابه: وإني قد اذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلٍ ليس عليكم مني ذمام وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملًا.

وجوابه: أن الامام الحسين واجب النصرة لأنه مظلوم فضلًا عن كونه

إماماً مفترض الطاعة، فنصرته لم تجب بالبيعة فقط بل بدونها نصرته واجبة. وقد ذكروا وجوها لهذه المقالة منها انه أراد امتحان أصحابه ليعلم الثابت منهم عن غيره.

ومنها: أنه يكون إذن خاص منه عليه السلام حيث علم أن سوف يستشهد.

ومنها: ان اصحابه ليسوا كلهم علي درجة واحدة من الثبات، فلذا تنقل بعض الروايات انه قد ذهب بعض منهم- ولكن يسير جداً- فهؤلاء لم يلزمهم بالبقاء.

ومنها: ان الاستشهاد معه عليه السلام مرتبة لا ينالها إلا من اتي نصيباً وافراً من المعرفة الحقيقية بمقامهم عليهم السلام ولذا كان هذا التحليل هو لذوي النفوس الضعيفة التي ليس من مقامها الاستشهاد معه عليه السلام. وهؤلاء كانوا يظنون ان بقاءهم معه عليه السلام مرتبط ببيعتهم له فعاملهم الامام عليه السلام علي اعتقادهم.

- اما بالنسبة للامام الصادق عليه السلام فلقد عرض عليه ابومسلم الخراساني البيعة ولكن الإمام رفض ذلك وسره واضح لأن ابامسلم لم يرد تحكيم وتولية الامام، وانما اراد التستر والاستفادة من شخصية الامام عليه السلام لأنه يعلم أن التغيير غير ممكن إلا إذا كانت

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 218

هناك شخصية ذات نفوذ وسلطة في قلوب الناس والامام عليه السلام كان له احاطة بالأوضاع الاجتماعية وعلي دراية بخبايا ابي مسلم. ولذلك ما أن أعرض عنه الامام فبادر ودعي الي بني العباس.

- اما بالنسبة للرضا عليه السلام فأولًا عندما امتنع عن قبول الولاية حقق هدفاً مهماً وهو اتضاح أن المأمون ولايته لا أساس شرعي لها. وثانياً عندما قبل الولاية تحت الإجبار والإكراه مع شرط عدم التدخل في أمور السلطة فانه يتجنب امضاء مشروعية افعال السلطة الحاكمة حيث يتضح أن المأمون لا شرعية لسلطته حتي يوليه ولاية العهد. وبهذا يكون قد خلص من الهدف الذي

توخاه المأمون من استغلال مكانة الامام الدينية في دعم شرعية سلطته.

- أما ما استشكله البعض من انصراف الأئمة عليهم السلام عن الجانب السياسي وعدم سعيهم لإقامة الدولة والحكم فجوابه يتضح من خلال النقاط التالية:

أ- ان الأئمة عليهم السلام انصرفوا الي اعمال تعتبر أهم ملاكا من إقامة الحكم عند التزاحم وهي بيان أحكام الدين ومعارفه، أي تدبير الجهة العقلية والمعرفية عند الناس وهي مقدمة علي تدبير الابدان، واضح أن نشر الدين وبيان الاحكام تعم منفعته جميع المسلمين في كافة الازمنة، بينما تدبير الحكم وإقامة الدولة يفيد الاجيال المعاصرة لتلك الحقبة فقط فإذا دار الأمر بين النفع والفائدة الاطول زمانا مع آخر ذي فائدة اقصر زمانا فالتقديم للأول.

ب- ان المجمتع الاسلامي قد توسع بشكل كبير في القرنين الاول والثاني وانفتح علي حضارات مختلفة واختلط بأمم متعددة مما اثار جملة كبيرة من الاسئلة والاستفسارات والشبهات التي احتاجب الي اجوبة شافية دامغة لكل ما يمس الدين الحنيف، وقد عجزت الاذهان العادية التي تنهل من العلوم الكسبية عن الاجابة عليها واحتاجت الي من يكون له علم لدني يجيب عنها، خصوصاً ان

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 219

الحركة المسيحية واليهودية لم تألوا جهداً علي ضرب الإسلام فكرياً وعقائديا بعد أن عجزت عن الاطاحة به عسكرياً، فقامت ببث التشكيك في معارف القران والجبر والتفويض وتجسيم اللَّه عزوجل ومعاجز النبي صلي الله عليه و آله و …

ج- ان إقامة الحكم ورئاسة الامة وظيفة مشتركة بين القائد والأمة فاذا لم تتمثل الامة للواجب الملقي علي عاقتها من رجوعها الي الامام المعصوم فإنه لا يجب علي الامام اجبارهم علي ذلك. وقد تخاذلت الامة عن القيام بواجبها فاتجه الامام الي الوظيفة الاخري.

- ان الائمة لم يغفلوا الجانب السياسي

البتة، وكانوا لا يفوّتون الفرصة من حين لآخر لاثبات أحقيتهم بالخلافة. فالامام الكاظم عليه السلام عندما حج هارون الرشيد وزار المدينة وجعل الاخير يسلم علي الرسول: السلام عليك يابن العم. قال عليه السلام في السلام: السلام عليك ياجداه. للاشارة الي ان المشروعية اذا كانت بالاقربية فإنا اقرب اليه منكم. وغيره من مئات الوقائع التي رصدها التاريخ لهم عليهم السلام مع سلاطين بني أمية وبني العباس.

- ان الائمة عليهم السلام كانوا يمارسون نوعاً من الحكومة الخفية ويأمرون وينهون شيعتهم ومن هذه المواقف:

أ- نهي الكاظم عليه السلام لصفوان عن ايجار جماله- والتي كانت له أكبر مؤسسات النقل في العالم الاسلامي آنذاك- للدولة الحاكمة انذاك.

ب- جباية الاموال في ذلك الزمان من الأمور المختصة بالدولة، ومع ذلك فانهم عليهم السلام كانت تجبي إليهم الأخماس والزكوات، واتفاق الفقهاء علي أنه مع حضور الامام لا تبرأ ذمة شخص إلا بتسليمها للامام عليه السلام. لما كان علي بن يقطين يدفع زكاته للامام الكاظم عليه السلام مع كونه وزيراً للسلطان العباسي، حتي ان جواسيس بني العباس خاطب يوما هارون بما مضمونه هل للمسلمين خليفتان تجبي لكل

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 220

منهما الاموال، وان الثاني هو موسي بن جعفر عليهما السلام، وان معه من شيعته عشرات آلاف السيوف تنصره. مما ينذر الخليفة العباسي بتنامي نفوذ الكاظم عليه السلام في المجتمع الإسلامي.

ب- نصب الوكلاء في المناطق المختلفة وهؤلاء يرجع اليهم الناس في كل من معرفة الأحكام وفي خصوماتهم القضائية وفي كل توابع ولواحق القضاء من انفاذ الاوقاف والوصايا وتقسيم المواريث وادارة اموال القصّر وأخذ القصاص أو الديات وغيرها.

وكان النصب علي نحو نصب خاص ونصب عام ونجد أن فقهاء الشيعة يجعلون المناصب ثلاثة: الافتاء- القضاء- المرجعية، حيث

يرون لكل منها شروطاً تختلف عن الاخر وقد تتداخل بعضها وهذا التفصيل استفيد من روايات الائمة عليهم السلام فعن تقرير يرفعه أحد عيون الجاسوسية للدولة العباسية- يرويه لنا الكشي في كتابه الرجالي- يصف الشيعة في الكوفة انهم علي ثمان طوائف أحدها زرارية بن أعين والاخري مسلمية اتباع محمد بن مسلم وهشامية اتباع هشام بن الحكم وبصيرية أتباع ابي بصير وهذا يذكر في الحقيقة تعداد الجماعات الشيعية التي ترجع الي فقهاء الرواة عن الباقر والصادق والكاظم عليهم السلام كما نجد أن الائمة قد أجازوا اقامة الحدود بما يتناسب مع هذه الحكومة الخفية كالاب علي ابنه والزوج علي زوجته والسيد علي عبده.

ج- الممانعة من الجهاد الابتدائي مع السلطة الاموية والعباسية كما في رواية زين العابدين عليه السلام في الرواية المعروفة عندما اعترض عليه أحد أقطاب العامة قائلا تركت الجهاد وخشونته ولزمت الحجج وليونته واللَّه تعلي يقول: «إِنَّ اللّهَ اشْتَرَي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ … هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» فأجابه عليه السلام اكمل الآية فقال: «التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 221

بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» فقال عليه السلام:

إذا وجدت من هذه أوصافهم من المجاهدين فحينها لا ندع الجهاد والقتال»، وهو عليه السلام يشير الي أن الفتوحات التي تقوم الدولة بها حينذاك هدفها لم يكن نشر الاسلام بل جني الغنائم وتحصيل الجاه والاموال والجواري …

د- ما ورد في رواية ابن حمزة عن ابي جعفر عليه السلام قال: سمعته يقول: من احللنا له شيئاً اصابه من أعمال الظالمين فهو له حلال وما حرمناه ذلك فهو له حرام. وهذه ممارسات ولائية حكومية في تحليل ما يؤخذ من السلطة الجائرة التي كانت

تقوم بجباية الاموال من خراج وزكاة ومقاسمة.

ه- الاشراف علي تولي المناصب في الدولة القائمة من قبل بعض الشيعة حتي يسهل ادارة امور الشيعة. كما في الامام الصادق عليه السلام مع داود الزربي والكاظم عليه السلام مع علي بن يقطين، والصادق عليه السلام مع النجاشي في توليه للاهواز والامام الرضا مع محمد بن اسماعيل بن بزيع.

و- الاذن لاصحابهم في التصدي للفتيا.

ز- تقنينهم لبعض التشريعات الولائية التي هي مقتضيات منصب الحاكمية وليست تشريعات ثابتة. فكما في احياء الموات والأمور الخاصة بها، والتفويض الخاص بالأراضي هو نوع من الممارسة الولائية وليس تشريعاً ثابتاً بدليل ما في بعض الروايات المشيرة الي أنه عند ظهور الحجة عليه السلام سوف يتغير هذا النظام في الاراضي.

ح- اعفاؤهم شيعتهم من اعطاء الخمس في بعض الموارد وفي بعض السنين كما في رواية علي بن مهزيار عن الجواد عليه السلام. وما ورد عن الباقر عليه السلام في تقنين نظام التضمين وعدم ضمان الاجير.

ط- حث الشيعة علي التمسك بالأحكام الخاصة بالمذهب من التولي والتبري،

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 222

وعدم الولاء للسلطة الحاكمة وعدم مشروعيتها، من قبيل التقية، ومتعة الحج والنساء، واقامة الاحكام الفقهية الخاصة في الاعمال اليومية. وحث الامام الباقر عليه السلام والصادق عليه السلام لاصحابه علي اقامة الجمعة فيما بينهم.

وبنظرة استقرائية لأحد المجاميع الروائية القديمة أو لكتاب الوسائل مثلًا يجد الناظر مشجرة كاملة في الابواب الفقهية المروية لممارسات الأئمة عليهم السلام في المجال التنفيذي الولائي والقضائي فضلًا عن التشريعي، فرسم صوررة كاملة عن انشطة الحكومة الشرعية في كل المجالات التي تقوم بدورها في الخفاء عن الظهور أمام السلطة الظاهرية آنذاك.

ثانياً: الدين والسياسة:

اما ما ذكر من ان السياسة ليست من الدين وان الحكومة من الأمور الخارجة عن التكليف

الالهي وان الكتاب غير حاوٍ لاحكام السياسة فيجاب عنه:

أ- ان القران عالج جوانب عدة من كيفية اقامة النظام في المجتمع، فوضع نظام الاحوال الشخصية، وقواعد القضاء وهذه القواعد التي تتفرع منها الاف القضايا الفرعية، وكذا الحدود الجنائية والتعزيرات، والجهاد وأحكامه والذي هو نظام علاقة المسلمين بالكفار وبأهل الكتاب في الحرب والسلم، والخطوط العامة للنظام الاقتصادي الذي تقوم عليه الدولة في دائرة القتصاد الكل والجزء (الدولة والمدينة والريف) ونظام المنابع المالية العامة، وقد أعدت دراسات حديثة لاستخراج نظام القانون الدولي بين الدول من القران.

فهل يعقل ان يقال ان من اهتم ببيان هذه الموارد اغفل عن ذكر نصوص تتعلق بالحاكم وشروطه وتعيينه.

ب- ينقض علي المستشكل بأن حكومة الرسول صلي الله عليه و آله في تلك الفترةالحرجة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 223

وصلت وحققت الكثير من الاهداف والانجازات، فهذا يعني أن هذا النظام مع وجود الشخصية المؤهلة قادرعلي تأدية وظائف الحكومة و تنفيذها بأحسن حال.

كيف وقد انتشلت المجمتع البدوي القبلي المتخلف الي درجة أعظم نظام دولة يناهض القوتين العظميين حينذاك الكسروية والقيصرية.

ج- إن القول بكون مشروعية الحكومة مستمدة من الأمة يناقض فصل الدين عن السياسة، لأن المشروعية تعني الأمر الذي شرعه الشارع واعتبره وصحّحه والذي لا حرج في التعامل والأخذ به، فإذا كانت الحكومة المنبثقة من الأمة مشروعة أي اعتبرها الشارع، فكيف لاتتعرض الشريعة للحكم السياسي، وكيف تكون تلك الحكومة تستمد كل صلاحيتها من الأمة دون الشارع، وبعبارة أخري ما المعني المحصل للمشروعية في كلامه ان لم ترجع الي عدم التأثيم والعذر عند مالك يوم الدين، وأي معني للحديث عن المشروعية حينئذ.

ثم ان مقتضي أن اللَّه سبحانه وتعالي مالك للمخلوقين ولأفعالهم أن مبدأ وأصل الولاية هو للَّه تعالي وان كل الولايات تتشعب من

ولايته «الولاية للَّه الحق» و «ان الحكم الا للَّه»، وهذا أصل غاية الأمر حيث جعل للإنسان الاختيار لا القسر كانت الولاية الربانية عليه من نمط تكويني غير قاسر ونمط تشريعي اعتباري قانوني فمنطق التوحيد ومنطق الشرعية الالهية يبني علي أن أصل الولاية للَّه وأن كل شعبة لابد وأن تنتهي الي ذلك الأصل.

نعم، المنطق الوضعي غير المتقيد بالملة والنهج السماوي وأن للكون خالقاً مالكاً، يجعل مصدر الولاية هو الانسان وسلطة الفرد علي نفسه، فيجعل من العقد الفردي والاجتماعي مصدر السلطات والولايات كما يفصل ذلك الدكتور السنهوري في (الوسيط) فبين المنهجين بعد المشرقين.

د- إن أحدث النظريات في القانون الوضعي تشير الي أن تعيين القائد الذي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 224

تنتخبه الامة ليس اعتباطياً، بل يجب أن تتوفر في القائد المواصفات والاهلية اللازمة التي وضعها الدستور من الكفاءة والامانة وغيرها. وحينئذ فاذا رشح من له هذه الصفات وانتخبته الامة يكون الانتخاب صحيحاً، فحقيقة الانتخاب هي استكشاف من تري الامة ان توفر هذه الصفات فيه بنحوٍ اكمل وافضل، فمنشأ ولايته هو توفر تلك الشروط فيه لا اختيار الامة وانما هو استكشاف فقط، وهذا يقترب من نظرية النص التي تدعي ان السماء هي التي تتكفل ببيان هذه الصفات وتحديدها ويكون بيد الامة تشخيصهم في الخارج.

وقد أثار هذا وأن الباحثون من فقهاء القانون الوضعي أن العقد ليس هو مبدأ نشوء السلطنة سواء علي الأفعال أو الأعيان، بل السلطة التكوينية علي الأولي والحيازة أو العمارة للثانية هو المنشأ، وأما فقهاء الشرع من الفريقين فقد نصوا علي لزوم امضاء الشارع لهذا الاعتبار البشري للسلطة اذ ان للَّه ما في السموات والارض. فلا يملك الفرد البشري في الاعتبار من الافعال والاعيان الا ما حدده الشرع له، لأن الشارع

الاقدس مبدأ السلطات والولايات، لا أن الانسان فاعل ومالك لما يشاء ومطلق العنان، الا ما ينقله هو باختياره عن نفسه بالعقد الفردي او العقد الاجتماعي (الانتخاب) أو العقد السياسي (البيعة) الي الغير. فبين المنهج التوحيدي والمنهج الوضعي بون بعيد. وبذلك يتضح أن اساس الحكومة في المجمتمع بين المنهجين مختلف، فعند المنهج التوحيدي هو متشعب من ولاية اللَّه تعالي علي المخلوقات البشرية، وعند المنهج الوضعي هو مستمد من سلطة الفرد والأفراد علي أنفسهم.

بل ان الدراسات القانونية في الفقه الوضعي تكاد تصل كما ذكرنا آنفا الي هذه النتيجة وهي أن الاساس في الحكومة هو حكم العقل الفطري، وذلك لأن العقد الاجتماعي (الانتخاب) الناشئ من سلطة الفرد علي نفسه لا يبرر حكومة الأغلبية

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 225

علي الأقلية ولو بتفاوت يسير. وكذلك لزوم توفر شرائط في الشخص المنتخب بالعقد الاجتماعي وليس هو من وضع سلطة الأفراد علي أنفسهم، بل كلا الأمرين وغيرها من النتائج التي لا تتلائم مع فلسفة السلطة الفردية والعقد هي من قضاء العقل كمادة قانونية مرعيّة عند الكل. فمثلا لزوم كون الرئيس المنتخب ذو خبرة وكفاءة عالية (العلم بمعناه الوسيع) وذو أمانة فائقة (العدالة واذا ترقت أصبحت عصمة) لابد منه، وليس للفرد والأفراد تخطي هذا القانون تحت ذريعة السلطة الفردية المطلقة العنان، وهذا ما يقال من غلبة النزعة للمذهب العقلي في القانون الوضعي الحديث علي المذهب الفردي.

ومن ذلك يتضح أن العقد الاجتماعي والسياسي (سواء الانتخاب أو البيعة) ليس الا عبارة عن عملية توثيق وإحكام وعهد مغلّظ للعمل بالقانون، سواء علي المنهج التوحيدي الديني او الوضعي أخيراً، فضابطة الصحة للحاكم ليس هو العقد السياسي بل هو توفر شرائط القانون الالهي فيه، أو الوضعي الالهي حيث انه

يشعّب الولاية من المالك المطلق الخالق طبق موازين الكمال والعصمة والاصطفاء، فهو يعين المصداق الذي تتوفر فيه الشرائط ويكسبه ولاية الحكم، وتكون البيعة والعقد السياسي معه من قبل الناس ما هو الا زيادة تعهد وإلزام بالعمل نظير النذر والقسم المتعلق بأداء صلاة الظهر أو صيام رمضان تغليظاً للوجوب.

وأما المنهج الوضعي فهو يترك مجال تعيين المصداق لاختيار الامة لكن يظل هذا التخيير له لون صوري غير واقعي في حالة تخلف الشرائط والمواصفات في الشخص الحاكم التي يعيّنها القانون، ويظل التخيير غير صائب في حالة توفر الصفات بنحو أكمل في شخص لم يقع عليه الاختيار، وهذا الجانب السلبي في المنهج الوضعي قد عالجه المنهج الرباني الالهي بجعل الانتخاب بيد العالم بالسرائر وبمعادن البشر «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ».

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 226

فكون العقد السياسي وثيقة إلزام والتزام وسبب لزيادة التعهد، لا انه عملية مولدة لصحة الشي ء الذي تم التعاقد عليه بل الصحة والسلامة آتية من الشارع أو القانون، وكون العقد هذا مفاده من اوليات الأبحاث القانونية فالعقد السياسي والبيعة لا يؤمنان صحة الانتخاب وسلامة المنتخب والمبايع، وانما الذي يؤمنه تعيين الشرع في المنهج التوحيدي والقانون في المنهج الوضعي. فالعقد لا يؤمن الصحة والسلامة، وهذا ما نجده عند فقهاء القانون من تمييزهم أدلة الصحة عن أدلة اللزوم.

ثم كيف يتلائم قول القائل بأن الحكمة الالهية في المعصوم عليه السلام هي تجسيده للقانون الالهي علي كل الاصعدة السياسية والاجتماعية والفردية وغيرها، مع قوله بعدم نصب الشارع له حاكماً ووالياً علي الأمة، وهل يكون ناطقاً حياً بالقانون الا بجعل الزعامة له علي الامة.

ه- إن من الضروري معرفة الفرق الجوهري بين القانون الوضعي والقانون الالهي، ففي القانون الوضعي يكون المحور هو

الفرد والانسان بما هو هو، وفي القانون الإلهي يكون المحور اللَّه جل وعلا أو الفرد بما هو عبد للَّه، وهذا المائز مهم جداً في فهم عملية التقنين وما يمكن أن يوضع ويقنن إذ يضفي آثاره علي بنوده والأهداف المتوخاة.

ففي القانون الالهي يكون الالتفات الي القوي الناطقية والالهية في الانسان، وفي الوضعي يكون الالتفات الي القوي النازلة والحيوانية له، ولذا تكون نظرية النص اكثر انسجاماً مع القانون الالهي. ونظرية الشوري تنسجم مع القانون الوضعي حيث تجعل السلطة للفرد.

وفي القانون الوضعي تختلف الرؤية الكونية، وفي القانون الالهي تراعي الكمالات التي توصل الي الحق تعالي وهي غير محدودة. ومن هنا يمكننا القول ان

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 227

هناك مائزين جوهريين بين نطريتي النص والشوري:

- ان نظرية الشوري تكاد تشترك مع القانون الوضعي من زاوية فصل الدين عن السياسة، حيث ان الدين لا يقع منهاجاً وتقنيناً للنظام السياسي الحاكم، لأن النظام المتكامل هو الذي يتكفل بنصب الحاكم وبيان خصائصه وشروطه وامتيازاته، بخلاف نظرية النص التي تتكفل هذه الجهة وتطرح نظاماً سياسياً تاماً يعتمد علي أسا الوراثة الملكوتية والتنصيب والتأهيل السماوي.

- ان أصحاب نظرية الشوري يجدون فراغاً كبيراً في التشريع اذ انهم يعتمدون علي ظاهر الكتاب وما ورد عن الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله، أما أصحاب نظرية النص فالتشريع لديهم مستمر عشرات السنين علي يد الأئمة المعصومين الذين أثروا الفكر الاسلامي بالتشريعات المناسبة، وأكملوا مسيرة الرسول الأكرم واستخرجوا كنوز القران الكريم التي لا تفتح للأذهان العادية ولذا يكون اندماج الدين في السياسة واضح وجلي.

و- ما ذكر من خلو الكتاب الكريم من النصوص المتعلقة بالسياسة العامة باطل، لكن قد يقال بأن السياسة ليست هي معرفة تلك الأمور الكلية، بل هي

فن من الفنون قائم علي الفصل بين الجزئيات المختلفة التي تحتاج الي كياسة وخبرة وتجربة والسائس يكون مؤهلًا إذا حصلت لديه تلك الممارسة، ولذا صنف الحكماء السياسة في باب الحكمة العملية.

والجواب عن هذا:

- أن السياسة كما لها جانب عملي فإنّ لها جانب نظري أيضاً، وتحكمه اصول كلية وهذه الأصول الكلية موجودة في الدين (وقد أوضحنا ذلك مفصلًا في بحث الاعتبار والحسن والقبح) ثم ان الدين لا يختص بالأمور النظرية العقائدية فقط بل يرتبط بالجانب العملي وفروع الدين تمثل هذا الجانب.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 228

- إن السياسة علم يدرس في الجامعات الاكاديمية ويحتوي علي كليات مسطورة في الكتب. نعم الجانب التطبيقي منها يعتمد علي الخبرة والكياسة، وفي نظرية النص يكون المعصوم هو صاحب الخبرة حيث أن علمه اللدني لا حاجةمعه الي اكتساب خبرة من الأجيال البشرية لما قد يصوره البعض في غيبة الحجة عليه السلام «وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً»، والعلم نور يقذفه اللَّه في قلب من يشاء وما التجارب والممارسات إلا معدات لذلك الفيض الالهي. هذا بجانب علمه المحيطبا لموضوعات بتسديد من البارئ وترفره علي كمال الصفات في قواه النفسية الاخري.

ثالثا: ان الانبياء لم يكونوا هداة ومبلغين فقط بل يديرون دفة الحكم والاية المذكورة في سورة المائدة (44) أوضح دليل علي ذلك غاية الأمر ان الانبياء في اداء هذه الوظيفة بالذات يحتاجون الي مؤازرة الناس واقدارهم وبدون رجوع الناس اليهم لا تتم هذه الوظيفة.

رابعاً: ما ذكر من أن الحاكمية خارجة عن معني الامامة والنبوة باطل وجوابه يتضح من قوله تعالي: «إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً»، «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ»، «النَّبِيُّ أَوْلَي بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ»، «يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ»، «وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلَا تَتَّبِعْ

أَهْوَاءَهُمْ»، «إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ»، «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ»، «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِن شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَي وَالْيَتَامَي وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ»، «مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَي رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَي فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَي وَالْيَتَامَي وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ»، «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم» فكل المنابع المالية العامة والضرائب المالية هي بيد الرسول صلي الله عليه و آله والإمام، مضافاً الي آيات

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 229

الولاية العامة الكثيرة «النَّبِيُّ أَوْلَي بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ»، «أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ» وغيرها.

خامسا: النص والعقل: ان القول بالحاكمية التعينية يلازم ويسوق إلي الحجر علي عقل الانسان وفكره وتقييد لسلطة العقلاء، فحتي في المعصوم يحتاج الي انتخاب الناس وإلا فالولاية عليهم من دون الانتخاب هو حكم بقصورهم العقلي. وبتعبير آخر فإن النص يحمل في طياته التناقض وذلك لأن جعل الولاية يقتضي التعين، والقيمومة موردها القصور والحجر وكونهم قُصر يعني عدم جواز توليتهم وتنصيبهم مع أنها وظيفتهم، فالتولية يلزم منها عدمها. ومع افتراض ان الناس عقلاء فلا معني لجعل الولاية عليهم فالعصمة التي في الأئمة هي عصمة ا لتبليغ والهداية لا الولاية الحاكمية، والجانب السياسي في حياة الانسان أمر دنيوي لا يرجع فيه الي السماء والحاكم ليس إلا وكيل عن الجماعة في ادارة شؤونها.

وجوابه: ان يكون الانسان عاقلا لا يعني أن له الولاية المطلقة علي نفسه وعلي كل جزء من بدنه، بل ان الولاية المطلقة هي للَّه عزوجل وتتصل به ولاية الرسول والامام أي المعصوم فبمجرد كونه عاقلًا لا يعني عدم ثبوت ولاية عليه من أحد، بل إن هذا العقل

ينقصه الكثير الكثيرلكي يحيط خبرا بكافة الامور غير المتناهية سواء المحيط به أو داخل ذاته، فولاية اللَّه ورسوله وخليفته هي ولاية الحكيم المطلق علي العاقل بعقل محدود في حدود نسبية يسيرة.

فلو قلنا ان الولاية تابعة لمدي عقلائيته لازمه أن تعطي الولاية للاخرين في الامور التي لا يحيط بها عقله. فتبين أن صرف ثبوت الولاية لأحد علي أحد لا يعني أن الاخر محجور عليه. بل للفرد العاقل ولاية في حدود عقلائيته، والمعصوم عقله محيط بجميع الأمور فولايته أقوي من ولايةالانسان علي نفسه. «النَّبِيُّ أَوْلَي بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ»، مضافاً الي أن المستشكل يري أن الفرد عندما ينتخب اخر

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 230

ويعطيه الولاية علي نفسه فهذا لا يجعله متنافياً مع عقلائيته، والبعض فراراً من هذا الاشكال ذهب الي ان الحكم والانتخاب هو وكالة وليس ولاية، لكن الصحيح انه لا يمكن تصوير الوكالة بالمعني المصطلح الجاري عليه في باب المعاملات وذلك لأن الحاكم يقوم بالزام المجتمع بنوع خاص من القوانين والتصرفات ولا يمكن تصوير ان الوكيل يُلزم الموكل بما لا يريده فضلًا عن لزوم هذه الوكالة.

إذ مقتضي أن الوكالة جائزة هو أن الامة يمكن ان ترجع في اختيارها حتي من دون سبب وهذا لا يقول به أحد في هذا المقام.

مضافاً الي العديد من الشواهد التي لا تنسجم مع الوكالة الاصطلاحية كالتعبير عنها بالنيابة والتولية. والقَسَم الدستوري الذي يؤديه الحاكم، وعدم امكان الحاكم الثاني ابطال أعمال الحاكم الأول. وغيرها من الشواهد الكثيرة التي تبطل كون الحاكم وكيلا عن الفرد.

وعلي كل تقدير يبقي المجال امام الولاية فاذا كان القول بأنّ نقل ولاية الفردعلي نفسه بنفسه لا تنافي عقلانيته فكذلك جعل الوالي من قبل اللَّه لا ينافي عقلائيته.

سادساً: النص والاستبداد: إن البعض ذكر أن نظرية

النص تؤدي الي الاستبداد والاستبداد من المعاني المذمومة في القران والسنة، اذ قد وردت كثير من الآيات التي تذم ظاهرة الفرعونية التي تجعل المحور ذات الفرد ولذا قال البعض فراراً من هذا الاشكال ان المعصوم ملزم بالشوري والاستشارة وملزم ايضاً بنتيجة الشوري.

والجواب عنها:

أ- ان الاستبداد ينشأ تارة من أصل النظرية وتارة ينشأ من تطبيق النظرية.

ولاجل ابطال النظرية يجب اثبات الاول.

ب- ان المشرع في نظرية النص وضع وسائل تمنع حصول الاستبداد وذلك عن

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 231

طريق ضمانات اجرائية:

منها: ان المنصوص عليه هو المعصوم من الزلل والخطأ ولا ينساق وراء الذات والشهوات، وسوف يأتي في الحديث في غير المعصوم.

ومنها: لزوم التقيد بالأحكام الالهية بعيداً عن الهوي والاحاسيس، وهذه قاعدة فوقانية تشبه المواد الدستورية والتي يبطل كل تصرف مخالف لها.

ومنها: رقابة الامة تحت اطار الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. وحرمة طاعة المخلوق في معصية الخالق. ورقابتها بالنسبة الي حكومة نائب المعصوم ظاهرة وأما بالنسبة الي حكومة المعصوم فأجنحة الدولة وأفراد جهاز الدولة ليسوا بمعصومين، فتكون الامة معينة للمعصوم علي مراقبة جهاز الدولة كما هو الحال في سيرة علي عليه السلام.

ومنها: لزوم اتصافه بالمواصفات المؤهلة له كالعدالة والامانة والكفاءة هذا في غير المعصوم الذي ينوب عنه وإلا فهي في المعصوم بالنحو الكامل المتصاعد الي العصمة العملية والعصمة العلمية. وقد قال الامام عليه السلام: لا تكلموني بما تكلّم به الجبابرة ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة.

ومنها: ان الحاكم في نظرية النص له في الجانب التشريعي- مضافاً الي الجانب التكويني الخاص- حيثيتان حقوقية بما هو رسول او امام او نائب امام، والاخري حقيقية ومن هذه الحيثية يعتبر كسائر افراد المجتمع، له ما لهم وعليه ما عليهم، وهذا

لما مر في النائب عن المعصوم واما فيه فانه كذلك سوي ما خصّ به من امتيازات في التشريع الالهي مما شرّف وفضّل به علي سائر الناس. فكل تصرف ينبع من شخصيته الحقوقية يكون نافذاً، وكل تصرف ينبع من الاخري لا يكون نافذاً هذا في النائب غير المعصوم والا ففيه لا مجال لاحتمال التصرف الاقتراحي.

وبتعبير آخر ان ولاية شخصٍ ما ينوب عن المعصوم هي لعقيدته وفقاهته وعدالته

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 232

أنيب في الولاية لا لخصوصية شخصه، وفي نظرية النص الحاكم (المعصوم او نائبه) ينظر الي الحكم كمسؤولية وامانة وخدمة ووظيفة.

ومنها: المساواة أمام القانون فالجميع يقفون أمام القانون علي حدٍ سواء وتطبق العدالة عليهم، وهو لا يعني ان يتساوي الجميع في العطاء- مثلا- بل يعطي كل علي حسب ما هو مقدر له في الشرع فالتفاضل والتمايز حاصل، لكنه تمايز وتفاضل رضي عليه الشرع، وهو بلحاظ عالم الاخرة لا عالم الدينا.

ومنها: المحورية في نظرية النص ليس للفردي بما هو هو بل بما هو عبد اللَّه بينما في القانون الوضعي تكون المحورية للفرد بما هو هو، وقد ذكرنا سابقاً ما يترتب علي هذه التفرقة وأهمها أنها في التقنين تُؤمن ما يسد رغباته وحاجاته الشخصية وغرائزه الدانية من ملكية وحرية.. وهذه كلها تعتبر من درجات الانسان السفلي.

بينما في التقنين الالهي يكون الانطلاق من الجهة العقلية والتألهية أي قوي الانسان العليا وهي المحور في التقنين، فمصلحة المجموع قبل المصلحة الشخصية والحرية ليس في اشباع الإنسان لرغباته وشهواته، بل الحرية الحقيقية هي في سيره اللامحدود نحو الكمال المطلق ونيل الكمالات اللامحدودة، والاستبداد يأتي من حرص الانسان علي نفسه وخصوصيته وهذا إنما يرد في النظريات الاخري لا نظرية النص التي تجعل اللَّه هو

الأصل والمقصد والغاية.

فهذه الأمور والضمانات الاجرائية المانعة من الاستبداد، وهي كالقواعد الدستورية التي بيطل كل تصرف يخالفها.

أما الاستبداد فإن نشأته تعود الي عوامل: آ- جهل وقلة وعي بالقانون. ب- وجود طبقة من العلماء والمفكرين يروجون لمحورية ذاتهم والصلاحيات المعطاة لاصحاب المناصب. ومحورية الفرد.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 233

ج- التفكك والاختلاف في صفوف الامة.

د- اشاعة الرعب والرهبة من الولاة.

ه- جعل منابع الثروة بيد طبقة معينة مما ينشأ استبداد طبقي.

وهذه العوامل تجد أرضية خصبة في عالمنا اليوم في الانظمة الغربية المدعية للديمقراطية ولانتخاب الأمة وسيادتها حيث تجد الفارق الطبقاتي شديدواسع الهوة والمال دُولة بين الاغنياء وفرعنة للطبقة الثرية تحت عنوان سيادة الأمة وتحكيم آرائها (ولاية الشوري)، وهذا ما اطلعنا عليه التاريخ قديما فان اكثر من جاء تحت هذا الغطاء الي سدة الحكم كان في الحقيقة بالتغلب والفتك بينما تقاوم نظرية النص نشأة مثل هذه العوامل بعد كون مركز القوي السياسية والمالية والقضائية والعسكرية والامنية هي بيد من عصم علما وعملا كما بيناه مفصلًا وكما اطلعنا التاريخ علي حكومة الرسول صلي الله عليه و آله والامير عليه السلام وبرهة من حكم الحسنين عليهما السلام.

الامر الرابع: الأدلة العقلية علي الشوري: … ص: 233
اشارة

وله تقريبات ثلاثة:

التقريب الاول: ينطلق من أن الانسان مدني بطبعه، ويعلم من ضرورة العقل انه لابد في كل اجتماع مدني من نظام وادارة تقيم هذا الاجتماع وهو المشار اليه في قوله عليه السلام: لابد للناس من أمير بر أو فاجر. كما ان الواجبات الكفائية الملقاة علي عاتق المسلمين لا يمكن تعطيلها في زمان ما، فهذه الحكومة التي تدير شؤون هذا الاجتماع لا تخلو إما ان تكون منصوبة من قبل اللَّه عزوجل، أو تنصبها الامة، أو تنال الحكم بالقهر والغلبة، وهذا الثالث باطل بالتأكيد لأنه ظلم واستئثار،

فينحصر الأمر بين الاولين والفرض ان النصب من قبل اللَّه منتفٍ اما مطلقاً أو علي الاقل في عصر الغيبة فيتعين انتخاب الامة.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 234

التقريب الثاني: ان السيرة العقلائية والبناء العقلائي جاريان علي ان الناس ينتخبون حُكَّامهم بانفسهم، ولا يوجد ردع عن هذا البناء العقلائي، وهي سيرة عقلائية جارية حتي زماننا هذا، وهي ليست سيرة فحسب بل تقنين مركوز في عالم الاعتبار لدي العقلاء.

التقريب الثالث: وحاصله انه قد ثبت أن الناس مسلطون علي أموالهم، والسلطنة علي المال فرع من السلطنة علي فعل النفس، فهذا كافٍ في اثبات سلطنة الناس علي أنفسهم، وقد يقال استدلالا علي هذه المقدمة ان الانسان مسلط علي نفسه بحكم العقل العملي، حيث ان الانسان مسلط علي نفسه تكوينا فهو مالك لتصرفاته وحركاته وسكناته بيده ومع وجود تلك الملكة التكوينية لا حاجة للاعتبار، ومن هنا قالوا في الاجارة ان عمل الاجير لا يملكه المؤجر قبل عقد الايجار، وهذه المقدمة قد يستدل عليها بنحو آخر بالقول ان اللَّه تعالي ذكر ان الرسول اولي بالمؤمنين من انفسهم، فهو يثبت ولاية الانسان علي نفسه في مرتبة سابقة، غايتها ان الشارع جعل الرسول أولي منه بذلك وهذا خاص بالرسول او المعصوم، ومقتضي تسلط كل فرد علي نفسه أنه لا يجوز لأحد أن يقهرهم، وعندما تقام الحكومة لابد من حصول تنسيق بين حريات الافراد المقتضي للحد من اطلاقها، وهذا التحديد لحرية الفرد يخالف تلك السلطنة المطلقة التي للفرد علي نفسه فلابد ان يحصل ذلك بإذنه أو بتوكيل منه.

ويرد علي هذه التقريبات:

اما الاول فإنا مع التسليم بالمقدمات ولكنا نختار من شقوقه نصب اللَّه عزوجل بل نفس لابدية الحكم نستخدمها لقلب الاستدلال لصالح نظرية النص، حيث أن تعيين

الحاكم والقائد من الامور التي يتحقق بها لطف اللَّه حيث انه يدخل في الهداية، وهو ألطف بالبشر وأكثر عناية بهم، وهذا وان كان ينطبق علي المعصوم

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 235

إلا أنه بنفسه يمكن ذكره في الغيبة، أي ترتب المقدمات بعينها بعد فرض وجود المعصوم حياً وان كان في ستار الغيبة فنستكشف من اللابدية المزبورة نصب الفقيه العادل نائباً من قبل المعصوم، إذ الولي في الأصل هو المعصوم فلا معني لولاية الفقيه العادل بالاصالة بل بالنيابة عن إمام الأصل فيقال: ان اللَّه لا يترك مجتمعه هكذا بدون ارشاد وبدون تعيين بل يذكر لهم الشروط والطريقة الفضلي في تعيين القائد، وهذا يستلزم استكشاف نصب المعصوم للنائب الفقيه العادل وينسجم مع نظرية النيابة عن المعصوم.

وخصوصاً ان المعصوم حي ومازال يمارس دوره في هداية الامة وحفظها سواء عبر نوابه بالنيابة العامة، أو عبر دائرة الابدال والاوتاد والسياح المغمورين بين الناس كما تشير اليه الروايات الكثيرة الواردة من طرق الخاصة والعامة، لكنهم نشطون في مجريات الأمور المتغيرة في العالم البشري اجمع فضلًا عن العالم الاسلامي، ولك أن تمثل لذلك بالتنظيم السياسي السري الذي يقوم بدور فعّال في مجريات الامور من دون ظهور بارز علي منصة السياسة في العلن. وقد أشار الي ما يقرب من ذلك كل من الشيخ المفيد والطوسي والسيد المرتضي في كتبهم المتعلقة بغيبته (عج).

وما يقال من أن الامة الاسلامية قد وصلت الي مرحلة الرشد العقلي التي به تستغني عن الهداية الالهية المباشرة من خلال المعصوم أو نائبه مردود بأن الكمالات الالهية والهداية الربانية لا حدود لها، وأن الحامل لهذه الكمالات لابد أن يكون شخصاً لا محدود فينحصر العترة الطاهرة، وبعدهم تصل النوبة لهؤلاء الذين يهتدون بهداية العترة،

وهذا التقريب حينئذٍ لا يتأتي إلا في نيابة الفقيه عن المعصوم. مع أن ما يشاهد حالياً في الأمة من تحكيم الاهواء والامراض الفكرية والاجتماعية الفتاكة خير شاهد علي ضرورة المعصوم.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 236

أما التقريب الثاني فيرده ان هذا البناء العقلائي ليس بممضي بل ورد الردع عنه في آيات وروايات تقدم ذكرها تشير أن الحكم للَّه فقط، وأنه يضعه حيث يشاء، ويجب التنبه الي أن السيرة العقلائية ليست هي حكم العقل فالسيرة تعني تواضع ووضع العقلاء الاعتباري وانشاؤهم الفرضي لأجل تنظيم مجريات أمورهم وحياتهم، وبعضه يقع موضع امضاء الشارع وبعضا لا يقع كذلك وما نحن فيه من هذا القسيم.

وقد يقال بامضاء البناء العقلائي من جهة ما ورد في نهج البلاغة (الكتاب 51) حيث يصف عمال الخراج: من عبداللَّه علي الي أصحاب الخراج أما بعد..

فأنصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم فإنّكم خزّان الرعية و وكلاء الأمة:

فالتعبير بوكلاء الامة يعني ان الامة قد أوكلت الإمام وهو بدوره أو كل هؤلاء.

والجواب:

أ- في التقنين الاقتصادي الاسلامي يعتبر الخراج ضريبة توضع علي الأراضي، وهي ملك المسلمين وليست ملكاً للإمام ولا الحاكم، فمن يكون علي أموالهم له نوع من التوكيل وهذا غير من نحن فيه، وهذا التقنين غير وارد في الفي ء والانفال حيث انها ملك لولاية المعصوم نظير ما يقال حاليا ملك الدولة لا الامة.

ب- ان الامام قال: «وكلاء الأمة وسفراء الأئمة». فهؤلاء لهم لحاظان فمن حيث كون المال للمسلمين فهو بمنزلة الوكيل، ومن ناحية الولاية علي التصرف والتدبير فهو بيد الحاكم وهو سفير له.

ج- الايكال له معني آخر غير الاصطلاحي وهو يحصل بأن يوكل الانسان أمراً الي آخر مع أنه ليس تحت يده كما في التوكل علي اللَّه وايكال الأمر إليه،

وإنما يعني جعل همّ وتدبير ذلك الشي ء بيد الآخر.

وما قيل من دلالة قوله تعالي: «فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 237

أَحْسَنَهُ» «1»

، علي مشروعية الانتخاب ومدح وتحسين غريزة الانتخاب وهو دليل علي امضاء السيرة العقلائية مردود. بان الاية في صدد بيان ممدوحية متابعة القول الحسن فالمحورية ليس لانتخاب الفرد وأعمال سلطة وولاية وارادته وانما انتخاب قوته الفكرية وانتقاءه أصوب وأحسن الآراء كما تقدم في الاستشارة والشوري، وهذا هو مضمون الآية، ثم ليس أن ما انتخبه هو الحسن بل المحورية للحسن في نفسه وانه يجب علي الفرد اتباع ما هو حسن لا أن ما ينتخبه يصبح حسناً.

اما التقريب الثالث: وهذا التقريب تارة يستدل به علي الشوري في قبال النص وتارة في طول النص، وعلي كل حال فانطلاقة هذاالتقريب هو من أن الناس مسلطون علي انفسهم، لكن الرواية لم تذكر ما هو مورد السلطنة هل هو التصرفات الفردية الخاصة، أم التسلط علي النفس في الامور العامة التي تمس منافع الاخرين من الاموال العامة كالمباحات وإقامة اركان الدين في المجتمع وبث الهداية بتوسط جهاز الدولة والرقابة والاشراف علي مسير الامة في كل المجالات لتأخذ طريق الكمال، والرواية غير ناظرة للأمرالثاني بل تتعرض فقط للأمرالأول، وحتي هذه السلطنة ليست مطلقة له بل هي محدودة بما أجاز له اللَّه، والدليل علي ذلك مضافاً الي ما تقدم ذكره من ان الولاية في الاساس هي للَّه وكل الولايات بما فيها الولاية للفرد علي نفسه متشعبة من الولاية الاولي. ان اللَّه عزوجل حرم بعض التصرفات التي يكون فيها ربا واحل البيع وهو نوع تصرف، وغيرها من القيود التي جعلها اللَّه علي تلك التصرفات فهذا أدل دليل علي أن هذا النوع من السلطنة علي

تصرفه غير مطلقة بل هي للَّه عزوجل أحل له التصرف في نطاق وحدود معينة، ومن هنا نقول

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 238

ان اللَّه عزوجل يمكن ان يجعل الولاية في الأمور العامة لِمَن يشاء وأن يمنعه من التصرف فيها كيف يشاء.

وقد يصور البعض هذا التقريب بحكم العقل العملي بحسن تصرف الانسان بما يتولاه، أو أن الواقعية التكوينية تدل علي أنه مسلط علي نفسه وعلي عمله تكويناً فضلا عن الاغيار.

ويجاب عن هذا التصوير أن حكم العقل العملي بتحسين او تقبيح التصرف يعود ويدور مدار الكمال الواقعي وهو مدي أحقية هذا الفرد بالتصرف وهذه الأحقية تعلم من كتاب اللَّه. في مثل هذا المورد الخفي جهاته مع تكثرها.

أما لو اريد الاستدلال بالتقريب علي الشوري في طول النص فجوابه انه مع وجود النص فهو تقييد وتخصيص للرواية وللقاعدة العقلية فيجب أن يعلم ان هذا التخصيص هو استثناء طارئ او استثناء دائم، مضافاً الي انه في عصر الغيبة لا نعدم وجود الامام فالولاية له وليست منقطعة او متوقفة كما هو ضروري مذهب الامامية ومقتضي الأدلة كتاباً وسنة. مع ان لازم هذه الدعوي من كون منتخب الأمة له الولاية بالأصالة من قبل الامة لا من قبل المعصوم لعدم بسط يده في الخارج، هو أنه في فترة الخمس والعشرين عاما التي لم يتسلم كان الامير عليه السلام مقاليد السلطة فيها وكذا بقية الأئمة عليهم السلام تكون الولاية للأمة ولمنتخبها لا للإمام المعصوم عليه السلام، وهو كما تري يناقض أوليات المذهب والأدلة القطعية.

إشكالان ودفعهما: … ص: 238

من الأدلة علي الشوري وهي في كنهها اشكالات علي نيابة الفقيه عن الإمام، وأن النيابة انما تكون للمجموع، أي أن النيابة عن المعصوم لابد أن تكون هي المجموع لا الفرد (الفقيه) فالشوري ان

لم تكن صياغة بديلة عن النص في الغيبة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 239

وفي طول النص، فلا محالة هي المتعينة لنيابة المعصوم، وانها تستمد الولاية منه نيابة لا بالأصالة من الأمة.

وبعبارة اخري ان الادلة المتقدمة التي لم تتم لإثبات الشوري الا أن هناك نمطين آخرين لاثباتها غير ما تقدم:

الاول: عدم تمامية أدلة النيابة للفقيه.

الثاني: أن أدلة النيابة توكل الأمر الي الامة.

- الاشكال الثاني الذي اعترض علي نظرية نيابة الفقيه هو عدم امكان حصر السلطات بيد الفقيه لأنه ليس بمعصوم، وقد يقرب الاشكال بنحو آخر وهو أن يقال ان الشيعة في تجويزهم للفقيه بتولي السلطات مع انه غير معصوم يكونون قد تراجعوا عما دافعوا عنه في زمن ظهور الائمة من وجوب تولي المعصوم سدة الحكم، وعليه فاذا جاز للفقيه تولي الحكم، فالعصمة ليست شرطاً فبطلت ضرورة خلافة الائمة، و اذا كانت العصمة شرطاً كيف يجوز للفقيه تولي السلطة.

والجواب عن كل ذلك ان هذا الاشكال يرد لو قلنا بالولاية المطلقة للفقيه نيابة عن الامام وأن ما للامام له، أما علي ما يقوله مشهور علماء الإمامية من أنّ تولي الحكم ليس يعني توليه لكل الصلاحيات الثابتة للمعصوم، بل الفقيه في توليه للسلطة في زمن الغيبة حاله حال الولاة النواب في زمن ظهور الامام عليه السلام من كون صلاحياته النيابية هي في تطبيق الأحكام الشرعية في مجال الولاية التنفيذية كما له منصب القضاء ومنصب الافتاء واستنباط الاحكام.

ثم ان اختيار مصداق وفرد الفقيه الذي يتولي سدة الحكم اوكله المعصوم للأمة، فهم الذين يختارون من تجتمع فيه الشرائط لكن منشأ ولايته تكون بإنابة المعصوم له بالنيابة العامة، والأمة بعد ذلك تظل في رقابتها للفقيه وحيازته وواجديته للشرائط العلمية والعملية.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 240

وبعبارة

أخري حيث أن الأئمة عليهم السلام لم ينصبوا نائباً خاصاً كما في عصر الحضور والغيبة الصغري، كان جعلها نيابة عامة يفيد تخيير الأمة في اختيار أحد المصاديق ممن ينطبق عليه شرائط النيابة العامة عن المعصومين عليهم السلام.

واما ما ذكر من التقريب الآخر فهذا نابع من جهل بمقام الامامة وما يرادفها، فإن الامامة لا تساوي تسلم سدة الحكم، وبالتالي فلو كانت تعني الامامة التسلم الفعلي لسدة الحكم لكان عدم تسلم الأئمة عليهم السلام السابقين لسدة الحكم يعني عدم فعلية امامتهم وعدم فعلية ولايتهم، مع انا ذكرنا أن الحكم ليس منحصراً في الحكومة الظاهرية فان ممارسة الحكومة الخفية والنفوذ علي الاتباع في الابعاد المختلفة هي نوع من المباشرة للولاية وكذا للحال في الامام الثاني عشر (عج) فإن مباشرته للأمور ليست منحصرة في العلن فراجع. بل ان هناك شؤون ومقامات اخري للامامة- وهذه الشؤون والمقامات ليس للفقيه منها حظ-:

منها: السلطة والولاية المعنوية والتكوينية، وهذه لها شعب لا مجال لبسطها في المقام.

ومنها: وجوب المودّة بنص القرآن «قُل لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي».

ومنها: الإقرار والاعتقاد بهم، وهو ركن في تحقق الإيمان قال صلي الله عليه و آله: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» «1»

فأوجب المعرفة للإمام وهو عنوان غير عنوان الطاعة الواجبة، وحذّر صلي الله عليه و آله بأن من لم تتحقق لديه تلك المعرفة فسيموت علي الكفر الجاهلي الذي ما دخل الإسلام.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 241

ومنها: عرض اعمال العباد عليهم، قال تعالي: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ»، فان عرض اعمال كل الامة المخاطبة في هذه الاية لا يكون علي الامة المخاطبة وانما علي عدة خاصة من المؤمنين الذين يتلون مقام رسول

اللَّه صلي الله عليه و آله.

وغيرها من المقامات والمناصب الاخري.

- ومن الاشكالات: عدم وجود نص علي نصب الفقيه نائباً عن المعصوم وعندئذ نعود الي مقتضي القاعدة عند عدم النص وهو كونه بيد المجموع والأصل عدم تسلط أحد علي أحد.

وبتقريب آخر انه مع الايمان بوجود الامام عليه السلام في سماء الغيب إلا انه مع عدم تمامية النص علي فقيه معين يعني عدم وجود النائب الخاص.

والجواب: ان النص ثابت وجلي في نصب الفقيه كما تقدمت الإشارة اليه من الآية والروايات والدليل العقلي وقد حرر في محله، وقد نشير اليه بنحو أوفي مؤخرا.

مضافاً الي انه عند عدم النص علي النائب كيف يصل الامر الي ولاية الشوري والحال أن المعصوم الحيّ هو الوليّ بالفعل بل تصل النوبة طبقاً لقاعدة الحسبة، وهي إما يستكشف منها نيابة الفقيه العادل كما قدمناه، واما يستكشف مجرد مأذونيه التصدي وتجعل القدر المتيقن هو الفقيه، وهذا واضح من الفقهاء الذين لم تتم لديهم أدلة النيابة العامة للفقيه طبقاً لقاعدة الحسبة أسدوا جواز التصدي والتصرف من باب مجرد المأذونية لا المنصب والتولية في الجهاد ونحوه للفقيه.

وبين التخرجين فروق مذكورة في تلك الأبواب.

وعليه فيمكننا القول إن المذهب الرسمي لفقهاء الامامية لا ينتهي إلي قاعدة الشوري بل لا يمكن ملائمة تلك القاعدة مع القول بالامامة.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 242

فلنستعرض الان النظرية المختارة والهدف منها هو القراءة العقائدية للطرح الموجود في الفقه السياسي أي ان الاطروحة هل تتلاءم مع الأسس التي اسست في علم الكلام ام لا.

والوجه الاخر الذي نريد الاشارة اليه هو أن ادلة النص علي نيابة الفقهاء تامة وهي توكل تعيين المصداق الواجد للشرائط بيد الأمة وأنها تظل علي مراقبته له.

وهذه الطريقة لها نظائر في الفقه الامامي.

*-

في تولي سدة القضاء فقد تسالم الفقهاء علي ان للمتخاصمين وللمتنازعين ان يعينوا من يشاؤون من القضاة الجامعي للشرائط فيختارون من شاؤوا ويرجعون اليه.

*- ما ورد في المرجعية وسدة الفتيا اذ من اجتمعت فيه الشرائط يصح للناس الرجوع اليه فيختار الناس من يشاؤون ممن اجتمعت فيه الشرائط وجواز فتياه لا يكون بسبب رجوع الناس اليه بل بالنصب العام من الامام عليه السلام لمن اجتمعت فيه شرائط الفتيا.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 243

المبحث الخامس: أدلة نصب الفقهاء … ص: 243
اشارة

- اما ما ورد من النصب للفقهاء بنحو عام فيمكن الاستدلال به بما يأتي:

1- في سورة المائدة: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُديً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ» «1»

.سبب النزول: يكاد يجمع المفسرون من العامة والخاصة علي أن سبب النزول هو اختلاف بني النضير وبني قريظة، فقالت بنو قريظة انه اذا قتل منهم واحد شخصاً من بني النضير قتلوا القاتل، واذا كان القاتل من بني النضير والمقتول من بني قريظة اعطوا الدية.

وكان اليهود اذا كان الزاني من الاشراف لم يقيموا عليه الحد، واذا كان من غيرهم اقاموا عليه الحد. فنزلت هذه الايات الشريفة لبيان ماذا يجب علي علماء بني اسرائيل وربانيهم من الحكم.

- ان الاية تدل علي ان العلماء مخولون طولياً في طول الربانيين، وهم أوصياء الأنبياء بقرينة ذكرهم بعدهم وقبل الأحبار- وغيرها من القرائن التي تقدمت الإشارة اليها- لتولي سدة القضاء والفتيا والتي اجملت في سدة الحكم وهذه النيابة ثابتة بإذن المعصوم.

- ان هذا التفويض ليس مختصاً بعلماء بني اسرائيل بقرينة كونه خطاباً

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 244

للرسول صلي الله عليه و آله من بداية اية 41 وانما ذكر التوراة لانها هي

التشريع الالهي الذي يقضي به الأنبياء والربانيون والعلماء في ذلك الموقف فكذلك القرآن فيه التشريع الالهي الذي يحكم به هؤلاء وإنّ هؤلاء هم الذين يصلحون للحكم.

- ان الحكم المذكور أعم من القضاء بل يشمل الفتيا، والحكم انما يقام لأجل أن يُعمل به ويُنفذ.

2- رواية عمر بن حنظلة:

جري الكلام في مدي وثاقة عمر بن حنظلة حيث لم ينص علي توثيقه في كتب الرجال المعروفة، ولذا يعتبر البعض رواياته من المقبولات. ولكننا نذهب الي وثاقته، بل نعدّ هذه الرواية من الصحيح الاعلائي تبعاً لما ذهب اليه عدة من الفقهاء منهم الشهيد الثاني والدليل علي ذلك:

أ- ما رواه في الكافي عن يزيد بن خليفة، قال: قلت لابي عبداللَّه عليه السلام: ان عمر بن حنظلة اتانا عنك بوقت، فقال ابوعبداللَّه عليه السلام: إذاً لا يكذب علينا.

وهذه الرواية واردة في مسألة حساسة كانت محل خلاف بين كبار فقهاء الشيعة في الكوفة، فعندما يكون لابن حنظلة رأياً يرويه عن الصادق عليه السلام فهذا يدل علي مكانة علمية له ومرجعيته لثلة من الشيعة، كما لا يخفي علي من أحاط خبراً بمسألة الوقت التي ثارت بين جماعة زرارة وجماعة أبي بصير وجماعة محمد بن مسلم.

وروايات يزيد بن خليفة متينة.

ب- نفس الرواية التي هي مورد الاستشهاد نلاحظ فيها التشقيقات الواردة، وجواب الامام عن كل منها يدل علي فقاهة وعلمية للسائل، وان الامام جاراه في تشقيقاته ولم يمانع.

ج- يروي عن محمد بن مسلم بسند صحيح «1» أن مشكلة حصلت لدي آل المختار فحمّلوها ابن حنظلة ليسأل الامام عنها واذا علم ان ديدن الشيعة هو تحميل

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 245

المسائل للكبار المعروفين بالفضل لاسيما من البيوتات المعروفة. وان نفس محمد بن مسلم مع منزلته ومكانته هو الذي

يروي الرواية ولم يذكر مغمزاً في ابن حنظلة مما يدلل علي أرفعية منزلة ابن حنظلة علي ابن مسلم إذ العادة في الأقران عدم التصريح بوقوع مراجعة لقرينه في مسألة علمية مهمة من وجهاء الشيعة.

د- رواية اصحاب الاجماع عنه.

ه- ان 21 راويا مسلّم بوثاقتهم يروون عنه.

د- ان أخيه علي بن حنظلة نصّ علي توثيقه وهو دون اخيه وجاهة وعلمية «1».

اما فقه الرواية

فالبعض كالسيد الخوئي قدس سره أصرّ علي ان مورد الرواية هو في قاضي التحكيم والمشهور هو دلالتها علي قاضي التنصيب، والدليل علي ذلك أن القاضي الذي ينصبه الامام حيث يحتاج في انفاذ حكمه وبسط يده الي مؤازرة الناس، وعبّر عليه السلام ب «فليرضوا به حكماً» الا انه قد جعله حاكماً في الرتبة السابقة معللًا الأمر في «فليرضوا..» والان تصل النوبة للناس حتي يرضوا به حكماً.

ويؤيد ذلك انه في معتبرة أبي خديجة حيث وردت بنفس اللسان يعترف السيد الخوئي انها في قاضي التنصيب ولا يعلم وجه التفرقة بينهما.

وبعبارة أخري انه في المعتبرة ذكر بعد «فليرضوا.. فإني قد جعلته …» وليست الفاء للتفريع بل هي تعليل لوجه الأمر بالرضا ولو كان قاضي تحكيم لما كان للتعليل وجه.

ويؤيده انه ورد في المعتبرة: «فالراد عليه كالراد علينا»، ولو كان قاضي التحكيم لما كان هناك وجه لاعتبار الراد عليه كالراد علينا، بل الوجه هو لأنه قاضٍ منصوب من قبل الامام فالراد عليه هو راد علي مقام الطاعة والولاية.

ومادة الحكم كما ذكرنا ليست خاصة بالفقهاء بل الترافع سابقاً كان يجري لدي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 246

السلطات والقاضي علي حد سواء، مضافاً الي أن القاضي كان يمارس جميع الامور الحسبية والفتيا بالجهاد وهو أمر تنفيذي كما في الفتيا الملعونة لابن شريح بقتل سيد

الشهداء عليه السلام، وكذا إقامة الحدود والقصاص، وهو جانب تنفيذي يتعلق بأمن الدولة والمجتمع وغيرها من المجالات التي يجدها المتصفح لعصر صدور الرواية، والتفكيك بين القضاء والفتيا وبين الممارسة السلطوية غير تام.

3- التوقيع الشريف الصادر عن الناحية المقدسة.

فقد اعتبره البعض ضعيفاً لوروده في الاحتجاج مرسلًا، لكن الشيخ الطوسي أورده في الغيبة بسند عالٍ.

حيث يورده عن الكليني، وكان يتشدد في التوقيعات اكثر من تشدده في الرواية العادية، والسر في ذلك أنه صادر عن الامام الحي الفعلي فهو يعين التكليف الفعلي للسائل، مضافاً الي ظروف التقية، ووجود النائب الخاص الذي يستطيع تكذيبه، وأن اجابة الناحية المقدسة للسائل يعتبر نحو تشريفٍ له، فلو لم يكن التوقيع موثقاً لما رواه الكليني.

نعم قد اشكل انه لم يورد الكليني هذا التوقيع في الكافي، وجوابه ان الكافي خالي من التوقيعات تماماً مع أنه معاصر للنواب الخاصين ويُعزي سبب ذلك ان الكليني اراد ان ينشر كتابه ومع ظروف التقية واختفاء الامام نقل التوقيع يعلم منه وجود الامام ونحوه.

ثم ان الكليني يروي عنه الطوسي كثيراً من الروايات وهي غير موجودة في الكافي، فهذا يعني انه لم يودع كل ما يرويه في الكافي مضافاً الي ضياع بعض مؤلفات الكليني وعدم وصولها الينا.

اما فقه الرواية:

فان التوقيع يحمل اجوبة عن اسئلة متعددة لا ارتباط بينها، ومحل الاستشهاد الفقرة «واما الحوادث الواقعة».

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 247

أ- المحقق الاصفهاني في حاشية المكاسب يصرف ظهور هذه الفقرة عن محل الاستشهاد، ويذكر ان لها ارتباطاً بما ذكر سابقاً في التوقيع ويتعرض فيه لوقت الظهور، وأن الوقاتين كاذبون أو المقصود بالحوادث أي الأمور المرتبطة بعلامات الظهور لا ارتباط لها بجعل الفقهاء في سدة الحكم والقضاء والفتيا.

ويجاب عنه: بأنّ الفاصل بين الفقرتين فقرات

ترتبط بمواضيع اخري فلا يعقل أن تعود الحوادث لعلامات الظهور.

ب- واحتمل ان يكون المراد من الحوادث هي الشبهات الواقعة من قبيل حكمها الكلي، فيرجع فيها الي رواة الحديث والفقهاء. أو يقال يراد منها بالاضافة الي ما سبق الشبهات الحكمية من حيث حكمها الجزئي، أي من جهة فصل الخصومة وهو القضاء وجعل سدة القضاء للفقيه.

لكن الجمع بينهما غير ممكن لأن الشبهة الحكمية من حيث حكمها الجزئي تتبع موازين القضاء، ومن حيث حكمها الكلي تتبع موازين الفتيا.

وقد استدل البعض للتعميم بقوله: «هم حجتي عليكم» وهذا لا يناسب مقام الفتيا اذ لا موقعية لكلام المعصوم، فالفتيا اخبار عن المعصوم وهو مخبر محض عن الرسول عن اللَّه.

فيكون المقصود الولاية في القضاء أو الولاية في تدبير الشؤون وهذا ايضاً غير تام لان في فتيا الفقيه، ونقله عن المعصوم- في مقام الفتيا- موضوعية وليس طريقاً محضاً إذ فتيا الفقيه هي دراية للحديث لا رواية للحديث. وأما كون فهم الفقيه فتيا مستندة الي ما فهمه من قول المعصوم فله موضوعية أيضاً لحجية قول المعصوم لا من باب أنه راوٍ بحت للحكم كبقية الرواة، بل انهم عليهم السلام يبلّغون عن اللَّه بقنوات ربانية مسددة لا يداخلها الوهم والخيال ولا وساوس الشيطان ولا الهوي ولا الجهل، فمستسقي علمهم لدني معصوم من الزلل والخطأ ينقلونه بالحق والصواب، ويؤدونه الي الخلق بالحق والصواب، فعلمهم ليس مرهون بدرجة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 248

التتبع والفحص وقوة التدبر والاستظهار نظير أفراد الفقهاء والمجتهدين فلا يصح التنظير لحكمهم واخبارهم عن اللَّه ورسوله وتقدمه علي حكم واخبار غيرهم برواية الأعدل والاضبط عند المعارضة برواية الأقل عدالة وضبطاً فإن هذا التنظير مرتكز علي نظرة بقية المذاهب لا نظرة الإمامية والنصوص القرآنية والنبوية في

حقهم.

ج- ان (ال) في الحوادث ليست عهدية او اشارة الي حوادث معينة بل هي مطلقة تشمل كل الحوادث، ويدلل علي ذلك أن هذا التعبير متخذ كالاصطلاح في الاوساط العلمية من العامة والخاصة آنذاك بل منذ القرن الثاني يدل علي مجريات الامور الحادثة وسدة الحكم. فراجع كلمات العامة عن متقدميهم.

- انه قد ورد في التوقيع: «انهم حجتي عليكم وانا حجة اللَّه» فهذا تصريح بالطولية وأن حجتهم منبثقة عن حجية المعصوم وهي وان لم تكن عينها بل بينهما فوارق.

لكن اطلاق المتعلق للحجية يفيد الشمول لكل من الحكم والقضاءوالفتيا. وبعبارة أخري أن متعلق حجيته (عج) سارية في الموارد الثلاثة، ومع إطلاق النيابة المدلول عليها بالطولية في التعبير المزبور تشمل الموارد المزبورة مع التحفظ علي عدم الاطلاق بنحو التطابق كما ذكرنا سابقاً لموضوعية العصمة كما لا يخفي.

وههنا اشكال معروف له صياغتان:

إحداهما: انه كيف يتصور في عهد الغيبة الصغري ومع وجود النواب الخاصين تجعل النيابة العامة والولاية للفقهاء.

والاخري: ان رواية ابن حنظلة ومعتبرة ابي خديجة اذا استفيد منها النصب العام فهو نصب من قبل الامام الصادق عليه السلام فكيف يبقي ذلك التنصيب الي زمن الحجة عليه السلام والمعروف انه بموت المنوب عنه تبطل النيابة.

وجواب هذا الاشكال يعلم من التأمل في حالة النيابة العامة وفلسفتها حيث ان الائمة عليهم السلام واتباعهم كانوا يعيشون ظرفاً خاصاً فمع انهم ارادوا المحافظة علي المذهب وتعاليمه ارادوا الا يظهروا بمظهر المخالف حتي لا ينالوا عقاب السلطة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 249

الحاكمة آنذاك، فمع هذه الظروف كان هناك وكلاء خاصون للائمة لكنهم كانوا محط نظر لا يستطيع الشيعة الرجوع اليهم دائما، فجعل النصب العام والنيابة العامة حتي يكون للأئمة عليهم السلام أذرع مختلفة فيسهل الامر علي الشيعة في الرجوع

اليهم.

مضافاً الي ان الحكم الولائي التنفيذي يلزم أن يكون موقتا بل يمكن ان يكون دائماً فاذا وجدت القرائن علي ذلك كصيغة الحكم هنا ووردت علي نحو القضية الحقيقية فتدل علي عمومه وديمومته. نعم اذا وجدت قرائن تدل علي توقيته فانه يبطل بوفاة الامام مباشرة. واذا كان علي هذا النحو لا يسمي تنصيباً بل يكون نحو من الوكالة والمأذونية اما الديمومة فانها تتصور في التنصيب.

هذا كله مضافاً الي ما تقدم في المناقشات السابقة من الاشارة الي الوجه العقلي للنيابة، ووجه قاعدة الحسبة في استكشاف النيابة للفقيه العادل وغيرها من الوجوه المحررة في موضعها من علم الفقه.

الخلاصة: … ص: 249

1- ان للفقيه الولاية بحسب بسط يده، وهذه نظرية مشهورة بين علماء الامامية، فلاحظ ما ذكروه في باب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما صرح بذلك المفيد في أوائل المقالات وغيره من الفقهاء، فهم يقومون بالرقابة التنفيذية علي شؤون الحاكمين اذا اتيح لهم المجال، وهذه الرقابة لا تكون في مورد النزاع والتخاصم فقط بل في المجال التنفيذي، نعم ذلك لا يعني عدم استعانته بالخبرات الكفوءة، بل لابد منه كل حسب مجاله وخبرته واستشارتهم أو ايكال بعض الامور في تلك المجالات لهم مع رقابته، وبعبارة أخري شكل الجهاز والنظام هو بحسب آليته بحسب الظروف مع مراعاة الموازين العامة.

2- في حالات عدم بسط اليد لا تكون الولاية لغيره، لأن بسط اليد من قبيل قيد الواجب وهو فرض امكان تنفيذ الوظيفة، نعم في الامور التي لا يستطيع مباشرتها يوكلها للمتخصص الكفؤ.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 250

3- التعبير الوارد «فارجعوا.. فليرضوا.. واجعلوا» خطاب عام لكل المكلفين بوجوب السعي الي تعيين المصداق من بين الفقهاء كما مر بيانه.

4- ان الاستشارة لازمة وان كانت غير ملزمة له

وافضليتها من باب ان الاستعانة بالعقل الجماعي أسد وأفضل مما يتوصل اليه العقل الفرد، وهو ما يسمي حديثاً بالاستعانة ببنك المعلومات.

5- ذكر بعض اصحاب التلفيق بين نظرية النص والشوري في كيفية الحكم في عصر الغيبة من ان النصوص عمومها مجموعي وبالتالي يصل الي شوري الفقهاء.

وان ارادة العموم الاستغراقي يلزم الترجيح بلا مرجح اذ ترجع كل فئة الي واحد فترجيح احدهما علي الاخر يكون بلا مرجح.

والجواب عن هذا:

أ- ان ظاهر لسان الدليل: «فاجعلوا رجلا..» هو الاستغراق لا المجموع، وديدن الفقهاء علي استظهار الاستغراق منها، وتكون النتيجة ان يتصدي الكل للفتيا ولو في عرض واحد ويمارس الكل الجانب التنفيذي وان كان في منطقة محدودة والا لزم في القضاء أن لا ينفذ الا الحكم الصادر من المجموع وهو كما تري.

ب- ان استظهار الاستغراق لا ينافي امكان اخذ شوري الفقهاء اذ قد يري الفرد والأمة الصلاحية في فقيهين او اكثر، وقد اثير نظيره في بحث القضاء في احكام اتخاذ قاضيين او اكثر. ويذكرون هناك كيف يكون الحل عند الاختلاف.

وللمسألة تفريعات وتشقيقات تستعرض في مواضعها.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 251

الفصل الثالث: المقام الغيبي في الإمامة … ص: 251

اشارة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 253

المقام الغيبي في الإمامة

كما ذكرنا في بداية الكتاب أن الحديث حول الإمامة له جوانب متعددة وجهات مختلفة، وقد تناول علماؤنا المتقدمون والمتأخرون- رضوان اللَّه تعالي عليهم- البحث حول اثبات النص وإفحام الخصم وإقامة الأدلة المتنوعة علي إثبات إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، وخلافته عن الرسول الأكرم صلي الله عليه و آله أمثال الإرشاد والغدير وعبقات الأنوار والمراجعات وغيرها كثير، وكانت نتيجة هذه الجهود المتواصلة أن أصبح البحث حول صحة وتواتر حديث من أحاديث الولاية من السهولة واليسر مما لا ينكره إلا مكابر أو معاند.

والبحث الذي نريد أن

نتناوله هنا هو حقيقة الإمامة وما هيتها وكنهها، وهو ليس أمرا مبتكرا في بابه، فقد تناوله الأعلام لكن بنحو مضغوط ومبعثر في ذيل تفسير بعض الآيات القرآنية، وفي شرح بعض الأحاديث الشريفة، ونسعي إلي طرح ذلك من خلال نهج واضح وأسلوب يرفع الستار عن كثير من الحقائق التي خفيت في كتب الأقدمين ويعتبرها بعض أهل العصر من العجائب والغرائب، وقبل الشروع في ذلك نقدم ذكر بعض الامور التي لها مدخلية في البحث:

أولًا: تحرير محل النزاع … ص: 253

يعتبر مصطلح الإمامة من الموضوعات التي كانت مثار بحث وجدل بين المتكلمين والفقهاء من الصحابة والتابعين وغيرهم منذ بدأ عصر الرسالة، وعندما

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 254

يحررون محل النزاع يقال: إن الإمامة ترادف الزعامة الدنيوية، وأن البحث حول الإمامة هو البحث حول من يجب أن يتولي إدارة أمور المسلمين ومن يكون له الأمر والنهي، وبالتعبير الحديث حصر محل النزاع في ما يصطلح عليه اليوم بالفقه السياسي.

وتوسع بعض المتكلمين من الامامية بل أكثرهم في محل النزاع، وأضافوا إليه الزعامة الدينية بمعني أنه بالإضافة إلي دور الإمام في إدارة شئون المجتمع فهو يقوم ببيان الدين والذب عنه ونشر الأحكام الشرعية، فيُعد قوله وتقريره مصدرا من مصادر التشريع الإسلامي.

ونحن لا ننكر هذين الموردين- وإن كان العامة قد انكروهما وأصبح موردا للنزاع- لكن نقول أن الأمر لا ينحصر بهما، بل أن الإمامة تحمل في طياتها معني أوسع وأكبر مما ذكره هؤلاء جميعا، ويمكننا القول أن علماءنا رضوان اللَّه تعالي عليهم ألجأتهم ظروف التخاصم والتقية إلي ذكر ذلك كمحل للنزاع ولا يحصرون اعتقادهم بالإمامة في هذا النطاق.

فالإمامة في حقيقتها هي محور الاتصال بين الأرض والسماء، حيث أن الاتصال الغيبي بين الخالق ومخلوقه لم ولن ينقطع منذ بدء الخليقة حتي

قيام الساعة، فدائما يوجد من يمثل تلك الصلة الروحية والمعنوية ومن هنا اعتبروا الإمامة امتدادا للنبوة والرسالة، فهي من تلك الجهة تؤدي نفس وظيفة النبوة في عالم الدنيا.

فإن الأدلة قائمة علي ضرورة وجود حجة للَّه عز وجل في كل زمان، وأن الاتصال لا ينقطع بوفاة النبي صلي الله عليه و آله، وهذا هو المقام الإلهي الذي يثبته الامامية الأثني عشر، وهو من الامور التي انفردوا بها عن بقية المذاهب حتي الاسماعيلية والزيدية، وهنا يكمن النزاع والخلاف مع المذاهب الأخري، وتلك الحقيقة هي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 255

التي نريد إماطة اللثام عنها.

ومن الشواهد التي تؤيد ما ذكرناه: أن الأئمة في دعواهم للإمامة لم يكونوا ليقصروا حديثهم علي زعامة المسلمين، بل كانوا يركزون علي مقامات أكبر من ذلك ويذكرون في كلماتهم اتصالهم بالغيب، وتحديث الملك لهم، وأن علومهم من نور، وإطلاعهم علي أعمال العباد، وأن ما لديهم هو علم لدني.

والجدير بالذكر أن مثل هذه الدعاوي لم تصدر عن غيرهم ممن عاصرهم أو من أتي بعدهم، بل غاية ما ادعوه هو تصديهم للزعامة الدنيوية، ومن هنا نري بعض المنحرفين يرمون الأئمة بدعوي الألوهية والنبوة، وذلك لأن الأئمة كانوا يركزون علي مسألة الاتصال بالغيب وهي أعم من النبوة والإمامة.

بل في موقف عمر بن الخطاب مع سلمان المحمدي ما يدلل علي أعمق من ذلك فقد روي الشيخ الطبرسي «1» أن سلمان قال- لعمر-: أشهد أني قد قرأت في بعض كتب اللَّه المنزلة أنك باسمك ونسبك وصفتك باب من أبواب جهنم. فقال لي: قل ما شئت أليس قد أزالها اللَّه عن أهل هذا البيت الذين قد اتخذتموه أربابا من دون اللَّه «2».

وفي ذيل قوله تعالي: «وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُسُلِنَا» «3»

يذكر

البحراني في البرهان وكذلك الطباطبائي في الميزان أن نافع كان علي خط الخليفة الثاني جالسا في المسجد الحرام في موسم الحج، إذ رأي أن الناس قد تجمعوا حول شخص (وهو الإمام الباقر عليه السلام) فسأل هشام بن عبد الملك: من هذا الجالس الذي اجتمعت عليه الناس؟ فقال: هذا نبي أهل الكوفة.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 256

فهم كانوا يعرفون أن عقيدة الامامية هي بأن هؤلاء هم الرابط بين السماء والأرض، فالتهمة بالربوبية ليست تهمة جديدة بل لها جذورها من العصر الأول، والسبب في ذلك أن دعوي الربوبية- في أذهانهم- تختلف عن دعوي الألوهية، فالربوبية تعني اتحاد الوسائط بين الارض والسماء، وذلك لأن الإنسان بنفسه يذعن بعدم إمكانيته الاتصال بالغيب وفي نفس الوقت يشهد عقله بأن الاتصال بالغيب لابد منه.

فحكم الفطرة يوجب ان تكون هناك واسطة، ولكن يجب في هذه الوسائط أمران:

أحدهما: أن تكون مجعولة من قبل الخالق الواحد الأحد، لا أن يختلقها بنو الإنسان كما كانوا يفعلون في الأصنام.

والثاني: أن لا تصل هذه الوسائط إلي رتبة الألوهية فهي مخلوقة للَّه وهي ذليلة للَّه تعالي «إِن كُلُّ مَن فِي السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» «1»

وخاضعة له سبحانه في السر والعلانية، وسوف يأتي مزيد بيان لهذا المطلب.

ثانياً: الإمامة وراثة نسبية أم روحيّة … ص: 256

ينسب إلي الشيعة القول بأن الإمامة وراثية، وبالتالي فهم يقولون أن الزعامة تنتقل بالوراثة كما تنتقل الرئاسة بين الملوك وأبنائهم. وهذا لا أساس له من الصحة إذ بناء علي ما ذكرنا من أن الإمامة مقام إلهي واتصال بالغيب، فبالتالي فهي بعيدة عن التوريث النسبي، بل هي مقام تكويني ووراثة روحية بمعني وجود استعداد في روح أخري للكمالات التي أفيضت علي روح سابقة، وعندما يقال: أن الإمامة وراثة فإن ما ذكرنا هو المقصود

منه، قال تعالي «إِنَّ اللّهَ اصْطَفَي آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 257

إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَي الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ» «1»

ثالثاً: الإمامة نصّ أم شوري … ص: 257

مما ذكرنا في الأمر الأول يتضح أن مثل هذا المقام لا يكون بيد الانسان بل للَّه عز وجل يجعله حيث يشاء، أما إذا اقتصرنا في محل النزاع علي الزعامة الدنيوية فواضح أن ما يطرحه العامة من جعله بيد الناس وباختيارهم يكون أوهم إلي العقول وأميل إلي النفوس، وكأنه اشبه بلغة العصر، لنفرة الإنسان من تسلط فئة معينة علي إرادته وتقييدها في إدارة شئون مجتمعه، فطرح محل النزاع بتلك الصورة يخدم العامة، أما علي ما ذكرناه من حقيقة الإمامة يتضح السبب في ايكال ذلك الأمر إلي اللَّه عز وجل، وما إن يجعل الحق تعالي إماما فلا معني للجوء إلي طرق أخري لتعيين من له الزعامة الدنيوية بل يكون هو المتعين، وبتعبير آخر أن من تثبت فيه الكمالات الروحانية العالية ومن يتصل بالغيب لا يمكن أن يلجأ الناس إلي غيره لإدارة شئونهم، وبهذا تري أن مركز الزعامة الدنيوية متفرع علي ذلك المقام وتابع، كما رأينا في حياة الرسول صلي الله عليه و آله فإنه بعد ثبوت نبوته وإيمان الناس به لم ينازع أحد في حاكميته، والخلاصة أنه يمكننا القول أن مقام الزعامة الدنيوية هو أدني مراتب الإمامة ومقاماتها.

رابعاً: الإعتبار والتكوين … ص: 257

إن وظيفة النص في تعيين الإمام لا تنحصر في الجعل والاعتبار والإنشاء كما يقوم أي حاكم في تعيين حاكم آخر، بل إن النص سوف يكون كاشفا عن الإرادة التكوينية والجعل الإلهي.

ومن هنا يتضح أن نصب الرسول أو الإمام السابق للإمام اللاحق لا يقوم به من

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 258

تلقاء نفسه بل هو بايحاء من اللَّه عز وجل فهو جعل اعتباري كاشف عن الجعل التكويني.

خامساً: الإمامة من أصول الدين … ص: 258

من الامور المهمة التي تترتب علي تغيير محل النزاع هو أن مسألة الإمامة تدخل في ضمن المسائل الاعتقادية الأصلية في الدين، لأنها تكون بمنزلة النبوة وإن اختلفت عنها، وتكون هذه المسألة ما بها النجاة يوم القيامة، بخلاف المسائل الاعتقادية غير الأصلية وهي التي لا تكون النجاة يوم القيامة مرهونة بها.

بيان ذلك: أنا ذكرنا أن الركن الاساسي في مقام الإمامة هو مقام السفارة الإلهية ومَن يكون سفيرا من قبل الغيب ومَن هو حجة اللَّه علي خلقه، فالأمر الرئيسي هنا هو في الاعتقاد والتسليم بهذه السفارة والسفير وهذا أمر اعتقادي وليس مسألة عملية فرعية، نعم هذا المقام تلحقه شؤون عملية وفرعية، لكن الأمر الاساس هو الأمر الاعتقادي، كما هو الحال في بحث النبوة.

وللأسف الشديد نجد البعض يعبّر بأن مسألة الإمامة خارجة عن الأصول وداخلة في الفروع، وهذا بلا شك غفلة عن حقيقة الحال، وله لوازم فاسدة من نحو عدم وجود فائدة عملية لهذا البحث في زماننا الحاضر وذلك لأن الامام غائب فينتفي موضوع الزعامة ولو انتفاء مؤقتا، كما انه لا فائدة من البحث عمن كان يجب أن يخلف النبي صلي الله عليه و آله فهذا حدث تاريخي قد مضي، اما علي ما ذكرنا فإن البحث تبقي له أهميته القصوي، إذ قضية الاعتقاد لا

ترتبط بحضوره وعدم حضوره ولا بحياته وعدم حياته.

ومثل هذا في الوهن أن يقال: أن أهمية بحث الإمامة تنحصر في أن الإمام هل هو مصدر من مصادر التشريع الإسلامي أم لا؟ فهذا وإن كان صحيحا إلا أن فائدة البحث لا تنحصر به بل البحث في أمر اعتقادي جانحي كما يُبحث حول النبوة مع

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 259

عدم وجود نبي علي قيد الحياة إلا أن البحث له أهمية وخطورة من حيث وجوب الاعتقاد علي كل مسلم.

فليس البحث حول من يكون رئيسا وزعيما فقط، وليس البحث عن ميزان استنباط الأحكام الفرعية، وهل السنة تشمل النبي والأئمة أم يقتصر فيها علي النبي، فهذه كلها أمور فرعية تبتني علي ذلك الأصل الاعتقادي، وهو أن الإمامة استمرار لمسيرة النبوة فالاعتقاد بها علي نحو الاعتقاد بالنبوة.

سادساً: مقامات الأئمّة عليهم السلام … ص: 259

أن البحث قد يتعمق إلي البحث حول مقامات الأئمة سلام اللَّه عليهم، وليعلم أن مقام الإمامة من أهم هذه المقامات كما أن مقام الزعامة أدناها وأقلها، فتوجد مقامات أخري تتجاوز الإمامة ككونهم كلمات اللَّه «1» وأسماء اللَّه الحسني، وغيرها من المقامات العالية التي تعد من أسرار معارف أهل البيت، وفي كل هذه المقامات لا يخرجون عن زي العبودية بل أن خضوعهم وتذللهم التام وفنائهم في المعبود هو الذي جعلهم ينالون هذه المقامات.

وبعض هذه المقامات يشاركهم فيها غيرهم من الأنبياء والمرسلين، وفي بعضها يتفردون ويشاركون بها الخاتم صلي الله عليه و آله، وكذلك الزهراء عليها السلام تشاركهم في بعض هذه المقامات كمقام حجة اللَّه، كما ورد في الخبر المتواتر معني «وفاطمة حجة اللَّه علينا» أو كون مصحفها مصدر من مصادر علومهم.

سابعاً: الوظيفة الشرعيّة … ص: 259

إذا تم مقام الإمامة فسوف يتوجه إلي المكلفين عدد من الوظائف الشرعية، بدءا من الاعتقاد والمعرفة والتسليم إلي التولي والتبري القلبي والعملي، ووظائف

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 260

أخري سوف نأتي علي ذكرها في الخاتمة.

ولا يخفي أن هذه المقامات الاخري لا يتوقف عليها الإيمان، فكثير من علمائنا في علم الرجال يشيرون إلي أن الاعتقاد بأدني مراتبه وهو إجمال الزعامة الدينية والدنيوية- كما هو حال كثير من الناس والرواة- كاف في اعتبارهم من الامامية.

ثامناً: تحليل الإقتداء … ص: 260

وقد يطرح هاهنا إشكال حاصله:

إن اثبات المقامات الغيبية للنبي والأئمة وتعميق هذا الجانب في شخصيتهم البشرية يتنافي مع جعلهم قدوة للبشرية ولا يتلاءم مع أمر اللَّه عز وجل باتباعهم واتخاذهم أسوة.

بيان ذلك: أن طبيعة الاقتداء والإتباع أن يأمل المقتدي من الوصول إلي مرتبة المقتدي، وأن يجعل همه الأول هو الوصول إليه والسير علي هداه، وهذا يعني أن يكون المقتدي بمرتبةٍ ومقامٍ يمكن الوصول إليه، أما إذا كان مقامه مما لا يمكن الوصول إليه بل هو ممتنع المنال فكيف يجعل قدوة ونؤمر باتخاذه أسوة! فعليه يجب حصر الجانب الغيبي في ما يظهرونه من معجزة لاثبات الرسالة والإمامة فقط.

وقد يطرح الاشكال بنحو آخر أن تعميق هذا الجانب الغيبي في أحكام الدين سوف يبعد الدين عن الجوانب الاجتماعية والمادية التي جعلها ضمن اهتماماته، وبتعبير آخر أنه لو قلنا أن ملاكات الأحكام أمور غيبية بعيدة عن تأثيرات وضعية دنيوية سوف يفقد المكلف الدافع المحرك للسعي وتحصيل تلك الملاكات.

وفي الواقع ليس هذا الاشكال بصياغتيه شيئا جديدا مبتكرا بل هو اشكال يعود في جذوره إلي ما قبل الاسلام، حيث كان الناس يعتقدون أن الوصول والاتصال

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 261

باللَّه سبحانه وتعالي ذي القدرة المطلقة اللامحدودة متعسر وممتنع فيجب توسيط وسائط تعد

أربابا وآلهة صغيرة تكون وسيلة وواسطة.

أما الجواب:

أولا: أن طبيعة الاقتداء تقتضي أن يكون هناك فارق بين المقتدي والمقتدي، فإذا كان المقتدي مساويا للمقتدي، فإن الإقتداء يكون ممتنعا، إذ لا توجد مزية للمقتدي حتي يقتدي به، فالسعي والحركة والانبعاث الذي يحصل للمقتدي إنما هو من أجل تحصيل أمور وكمالات هو فاقد لها لكنها متوفرة وحاصلة في المقتدي، إذن يجب أن يكون المقتدي غير مساو للمقتدي.

ثانيا: كما أن الحاصل لا يسعي الإنسان إلي تحصيله، كما أن الممتنع أيضا لا يسعي الانسان إلي تحصيله، فيجب أن يكون المقتدي له مرتبة بين هذين الأمرين، وفي نفس الوقت يجب أن يكون هذا الاقتداء ملازماً للانسان في كل مسيرته بمعني أن المقتدي يجب أن يكون متفوقا دائما علي المقتدي، وإلا لو فقد هذا التفوق لتوقف الاقتداء في فترة من فترات حياة الإنسان، وذلك فيما إذا نال كل كمالات المقتدي، وحينئذ لا يكون هناك سعي ولا يكون هناك هدف يحرك هذا الانسان، فيجب أن يكون هناك باعث ومحرك دائمي للانسان وللانسانية قاطبة، وفي نفس الوقت لا تكون كل درجات كمالات المقتدي ممتنعة، كي يمكن السعي والتحصيل.

وهذا هو معني الحالة الوسطية بين الأمرين أي لا كمالاته كلها ممتنعة ولا كل كمالاته بكل درجاتها حاصلة، فيسعي الانسان لتحصيل تلك الكمالات فقد يصل بجهده إلي تحصيل بعضها وقد لا يستطيع «ألا أنكم لا تستطيعون علي ذلك فأعينوني بورع واجتهاد وعقل وسداد».

فتحصيل كل كمالات المقتدي أمر مستحيل غير ممكن أما تحصيل بعض

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 262

درجات كمالاته فهو أمر مرجو ممكن الحصول عليه، فلماذا لا يصح الاقتداء ولماذا لا يمكن السعي نحوها!!

وقد يقال: إذا كان الأمر كذلك فما الحاجة إلي الإمام من أجل الإقتداء به إذا

لم يكن من الممكن الحصول علي كل كمالاته، فليقتدي مباشرة بالكمال المطلق اللامحدود وهو الذات المقدسة؟

وجوابه: أن الإمام هو الآية العظمي وفي الحديث «ما للَّه أية أكبر مني» وآيته في الصفات الخلقية، فالسعي إلي اللَّه غير متناه لا في الدنيا ولا في الآخرة ومن رحمة اللَّه بعباده أن جعل لهم إماما يقتدون به يماثلهم في البشرية ومتخلقا بأخلاق اللَّه عزّ وجل، وهذا هو لطف اللَّه بعباده لأن المقتدي أيضا هو في حالة سير وحركة من أجل تحصيل الكمال اللامتناهي، وسوف يأتي مزيد بيان لهذه النقطة.

ونعود إلي محل الكلام فإن هذه الحالة الوسطية دائما هي التي تدفع الإنسان نحو الحركة والعمل وكما في الخوف والرجاء، فلا هو حصر في حالة الخوف فقط لأنه يأس من رحمة اللَّه، واليأس عدم اعتقاد برحمته تعالي فهو كفر، والرجاء المطلق كفر أيضا لأنه عدم اعتقاد بعقاب اللَّه.

فالإمام ليست صفاته كلها قابلة للمنال ولو كانت كذلك لما كان الانسان متحركا نحوها بحركة مستمرة دائمة لا تقف عند حد، ولا هي حاصلة للانسان حتي لا يكون هناك دافع نحو السير والسعي الحثيث. وسوف نشير في بحث الفقه العقلي للإمامة إلي أن الوسيلة الصحيحة للتوحيد هي الإمامة.

ثالثا: ذكرنا أن كمالات الإنسان تشمل جنبتيه البدنية المادية و الروحية المعنوية، وكمالات الجنبة الأخيرة علي قسمين: منها ما له ارتباط بالبدن كالشجاعة فهي كمال روحي إلا أن له ارتباطاً بالبدن. والقسم الآخر: كمالات روحية لا ارتباط لها بالبدن بل ترتبط بعوالم الغيب و الآخرة والعوالم المجردة،

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 263

وكمالات هذا الجانب أشرف من الجوانب الأخري، والاقتداء المؤدي للكمال لا بد أن يشمل جميع جوانب النفس الانسانية، ومن هنا نحتاج في المقتدي أن تكون له جوانب غيبية

وكمالات مرتبطة بعالم الغيب.

رابعا: إن دراسة طبيعة حركة الانسان ترشدنا إلي أن جوارحه تنطلق في حركتها من الجوانح، والأخيرة تتحرك طبقا للاذعان والايمان والاعتقاد الذي يلتزم به الانسان فهذه الهيكلية في صدور تصرفات الانسان هي الاساس، وهذا يعني أن أساس تحرك الانسان هو معارفه الاعتقادية، والاعتقاد يشمل جميع الجوانب الغيبية وغيرها، فلا يمكن أن نتمسك بقسم معين من المعارف ونثبته ونغض الطرف عن القسم الآخر لأن العقائد شأن مجموعي تبتني عليه عمل الجوانح التي هي المحرك للجوارح فإذا اختل الأساس اختل ما عليه من البناء.

خامسا: نحن نسائل المستشكل الذي لا ينفي الغيبيات في المقتدي، بل يحصرها في اثبات المعجزة للرسالة والنبوة والإمامة، نقول: لماذا في هذا الجانب نثبت الأمر الغيبي؟

والجواب: أن هذا هو الكاشف عن اتصال هذا الشخص بالغيب وأنه مبعوث وسفير من قبل اللَّه سبحانه وتعالي، فالمعجزة هي المثبتة للاتصال والسفارة الإلهية وأن هذا الاتصال غير موجود في بقية أفراد البشر، ونحن نقول أن هذا الاتصال الغيبي هو المقام الغيبي نفسه، بمعني أن هذا الاتصال يكشف أن لهذا الشخص درجة وجودية معينة، وهذه الخصوصية مَنّ اللَّه تعالي بها عليه وهي التي مكنته من الإتيان بالمعجزة حتي يثبت لبني البشر أنه سفير من قبل اللَّه تعالي.

ومما لا شك فيه أن تصحيح محل النزاع بما ذكرنا سوف يهئ لنا الأرضية والذهنية المطلوبة للتعامل مع الأدلة العقلية والنصوص الشرعية، حيث أن طائفة كبيرة سوف تدخل في ضمن نطاق التحليل والاستنطاق بخلاف ما إذا كان

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 264

المطلوب هو اثبات الزعامة الدنيوية فإنه سوف يتم اسقاط عدد كبير من الأدلة بحجة أنها تبحث عن ما هو خارج عن محل النزاع.

ولا يخفي أن الخوض في مثل هذه المباحث

يحتاج إلي أهلية عقلية وإلمام تام بالمباحث الفقهية والتفسيرية والكلامية والفلسفية والعرفانية، مضافا إلي ما يمكن استفادته من علوم النفس والاجتماع الحديث.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 265

المبحث الأول: تعريف الإمامة … ص: 265

الجهة الاولي: التحليل اللغوي: … ص: 265

إنا لا نهدف من بحثنا استعراض المعني اللغوي الذي يسطره اللغويون في كتبهم، بل مرادنا هو الوصول إلي ماهية وحقيقة الإمامة وبتعبير اصطلاحي رفع الستار عن ما الشارحة وما الحقيقية. وإذا ما استعرضنا كلمات اللغويين فما ذلك إلا توطئة للوصول إلي التعريف الماهوي واستخلاص المعاني العقلية التي تنطوي عليها اللفظة.

ومن خلال ما يذكره اللغويون يمكن ذكر بعض الملاحظات التالية:

1- أن اصطلاحات الامام والأمة والمأموم كلها تعود إلي جذر لغوي واحد هو أمّ يؤم.

2- أن المراد من يؤمه أمّ إذا قصده، والأمّ هو القصد المستقيم والتوجه نحو المقصود «1» ففي هذا الأصل الاشتقاقي جنبة السير والسلوك.

3- أن المراد من الأمة هي الجماعة الذين يكون لهم مقصد واحد.

4- أن الإمام هو كل من ائتم به قوم كانوا علي الصراط المستقيم أو كانوا ضالين، وعلي هذا يكون معني إمام بمعني المقتدي اسم مفعول، ويكون المأموم اسم فاعل

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 266

أي الذي يقتدي بغيره، وأما إذا كانت بمعني الهداية فسوف يكون الامام بمعني الهادي وهو اسم فاعل والمأموم المهتدي فهو اسم مفعول.

فيلاحظ أن المعني اللغوي يستطبن معني الاقتداء والهداية.

من خلال تلك النقاط نري أنه في جميع اشتقاقات (أمّ) يتضمن قصد وسلوك غاية وهدف معين مع إضافات أخري في كل اشتقاق، فإذا كانت الأمة فإنها تطلق علي الجماعة البشرية التي لها مقصد واحد فهي بالضرورة تتبع إماماً لها يقتدي به الناس ويأخذ بيدهم نحو ذلك المقصد وتلك الغاية، ومن هنا ورد التعبير في القران «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ» «1»

، ولذا لم يطلق

الأمة علي كل المجتمع البشري بل أطلقه بحسب الحقب الزمانية.

ويمكننا القول أن الامامة في اللغة تساوق الهداية، والهداية كما يذكر اللغويون لها معنيان أحدهما: مجرد إراءة الطريق المستقيم، والآخر: هو الإيصال إلي المطلوب، والثاني يستلزم الأول، وذلك لأنه لو قلنا أنها بمعني الأخذ بيد المأموم وإيصاله إلي المطلوب والغاية المرادة فهي لا تقتصر علي مجرد الاراءة بل تتعداها إلي الإيصال.

ونقول أن المراد من الهداية هنا هو الثاني، وذلك لأن الأمة وهي الجماعة التي لها مقصد واحد فإنها تسير نحو هذا المقصد وتتبع الامام من أجل الوصول إلي تلك الغاية، ووجود الامام ومقتضي السير أن يكون المراد من الهداية هو الايصال وأن الامام لا يقتصر علي مجرد إراءة الطريق الصحيح بل يتبع ذلك بالاخذ بيد الامةمن أجل ايصالهم إلي الغاية القصوي، نعم تلك الهداية والايصال ليس ايصالا جبريا بل ايصال اختياري.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 267

الجهة الثانية: التحليل العقلي … ص: 267

اشارة

إنا إذا قمنا بتحليل أعمق لماهية الامامة وكيفية أخذ الامام بيد الأمة لتحقيق الغاية القصوي، فإنه يجب أن تكون هناك طاعة ومتابعة وانقياد من قبل المأموم للامام، مع المحافظة في نفس الوقت علي الاختيار والارادة التي للمأموم، وهذا يعني وجود نوع من السلطة والولاية من قبل الامام علي المأموم مع المحافظة علي اختياره وهو أنه إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل.

فالامامة متقومة بطرفين الامام والمأموم وفي كل طرف منهما يكون لها معني؛ ففي الاول له التسلط والولاية، وفي الثاني له الاختيار بمعني أن الامام لا يلجأ المأموم علي التصرف المعين ولا يقوم بتسخيره أو قهره بل يجب أن يقوم المأموم بذلك طواعية واختيارا، ونستطيع تشبيه ذلك بالانجذاب الحاصل بين المحب ومحبوبه وسيطرة الأخير علي الأول لا بنحو يقهره ويسلبه

وهذا لا ينافي اختياره.

ومن هنا نستطيع القول أن الإمامة ليست علة تامة للهداية بل هي مقتضٍ لحصولها إذا ارتفع المانع وهو إرادة نفس المأموم واختياره، إذ بيده أن يتبع هداية الأمام حتي يوصله إلي الغاية وان يسلم له القيادة، وله أن لا يستجيب له فلا تؤثر عليه هداية الامام.

فالتحليل الماهوي للإمامة يقوم علي حيثيات؛ حيثية الاقتداء، وحيثية الهداية الايصالية، وحيثية السير السلوك والحركة، وحيثية الولاية والسلطة والجذب.

وإذا أردنا أن نتلمس بنحو أفضل فما علينا إلّاالتأمل في هذه الامثلة الثلاثة والموازنة بينها: الانسان الصغير وهو ذلك المخلوق الذي كرمه اللَّه تعالي بالعقل.

والإنسان المجموعي وهو المجتمع البشري، والإنسان الكبير وهو عالم الخلقة.

فنتناول دور الهداية في هذه العوالم الثلاثة.

- أما الانسان الصغير: فهو ذو جنبتين أحدهما البدن والاخري الروح، ولكل

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 268

منهما تكامل وارتفاع وصعود كما أن لهما تسافلًا وهبوطاً وانحداراً.

ولندقق النظر في تكامل الروح فإن اللَّه تعالي قد كرم بني آدم بالقوي العقلية والعملية المختلفة التي تضمن للانسان أفضل السبل للصعود إلي الكمالات العالية.

وعلي رأس القوي العملية والإدراكية يقف العقل ليقود هذه القوي، فإذا ما رضخت له القوي الأخري تصاعد الانسان في الكمالات، وإذا ما انقلبت الآية ولم يأخذ العقل موقعه المناسب تجد الإنسان في هبوط وانحدار.

والقوي العقلية علي نحوين: العقل النظري والعقل العملي. والأول وظيفته الادراك. والآخر وهو العقل العملي ووظيفته الادراك والعمل والتأثير علي القوي المادون التي تتبعه في الحركة، فيكون أميرا لها وتكون أسيرة له، وفي اتباعه لا تكون ملجئة بل يبقي للقوي الاخري الاختيار في اتباع العقل العملي، فإذا ما تسلطت القوي المادون علي قوة العقل العملي فتكون إمام ضلال وباطل، وقد ورد في حكمة لأمير المؤمنين عليه السلام: «كم من

عقل أسير تحت هوي أمير» «1»

.أما إذا أذعنت لقوة العقل العملي فإنه يصبح إمام هدي، فالعقل العملي هاد ومرشد لقوي الانسان المختلفة، ووجود هذه القوة امر لا بد منه وإلا لسعت كل قوة إلي ما يؤدي إلي تكاملها وأدي الصراع بين قوي الانسان إلي فنائه، فيحتاج إلي ما يكون هاديا وموصلا للكمال وهو العقل العملي، وزود هذا العقل بسلطة اخضاع القوي المادون مع احتفاظ النفس الانسانية بالاختيار، والاختيار حيثية نفسانية توظفه النفس- التي هي غير القوي العملية والادراكية- في يد القوي الفوقانية أو القوي المادون، ولو كان العقل العملي ملجئا وسالبا للاختيار لما صدرت المعصية من أحد لأنه موجود في كل إنسان.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 269

والعقل العملي في فعله يعتمد علي الادركات الصحيحة التي تتم في العقل النظري والعملي، فهو يقود لأنه يمتلك العلم الذي لا تمتلكه بقية القوي وهذا العلم هو الذي يعطيه الصلاحية لقيادة قوي الانسان، ولو كان هذا العلم محتملا للخطأ لما أصبحت لديه اللياقة لقيادة الانسان وقواه، وقد بينا في الفصل الأول مفصلا مدركات العقل العملي والنظري وعلمه الحصولي والحضوري، والمهم هو الأخير لأنه أعلي وأشرف من الأول، فالهداية الايصالية للعقل العملي وهو إمام هدي للقوي المادون تتم بواسطة علم شريف أشرف من العلم الحصولي وهو العلم الحضوري.

والعقل في نفسه مبرأ من الغرائز الشهوية والزلل، وليس العقل هو الذي يسبب الزلل والوقوع في الخطأ، بل هو بسبب سيطرة القوي المادون، وقد قرروا في محله أن إدراكات العقل في نفسها لا خطأ فيها إلا إذا تدخلت القوي الأخري فيها وهي الواهمة والمخيلة والقوي الشهوية والغضبية.

والخلاصة: … ص: 269

أ- أن قوي الإنسان تهتدي إلي الكمال بواسطة العقل العملي.

ب- أن العقل العملي يقوم بدور إمام هدي،

وهذه الهداية ايصالية وليست مجرد إراءة وإلا لاكتفي بالعقل النظري، فهذا يدل علي الحاجة الفطرية داخل الانسان لوجود ما يقوده إلي الكمال.

ج- أن العقل العملي استحق هذا المقام بسبب العلم الذي لديه.

د- أن العلم الحصولي لدي العقل العملي يعتمد علي أساس العلم الحضوري الذي لا خطأ فيه.

ه- أن العقل واسطة لتنزل العلوم من العوالم الغيبية العلوية إلي العوالم المادون، ولا يمكن للقوي المادون (الغضبية والشهوية …) أن تتصل بتلك العوالم إلا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 270

بالعقل العملي وذلك لضعف قابليتها.

و- ورد في الأثر أن للَّه حجتين ظاهرة وباطنة أما الظاهرة فهو الرسول وأما الباطنة فهو العقل، وهذه الموازنة تعني أن مقام النبوة كما له دوره وموقعه في الانسان المجموعي فإن له موضع في الانسان الصغير، وأن اللَّه عز وجل قد أودع في الإنسان رسولًا باطناً وظيفته الهداية وهي علي وزان الهداية التي يقوم بها الرسول الظاهر وهي الاراءة «إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ» «1»

فهي هداية إرائية وانذار وبيان أين يكمن الطريق الصائب والصحيح من دون أن تقوم بوظيفة الايصال (نعم قد يكون النبي إماما فتجتمع لديه ولاية تشريعية وتكوينية كما في أولي العزم) والعقل المقصود به هنا هو العقل النظري، فتكون أوامره تشريعية يشخص الصواب من الخطأ ولا تكون له سيطرة علي بقية القوي، وهذه هي مهمة الرسول الباطن.

ز- أن الرسول الباطن وحي فطري إنبائي، والامام الباطن وحي فطري ولوي.

أما كونه وحيا: فلأن العقل قوامه بالعلم، لكن العلم الذي في الوحي النظري غير عمّال أي علم باطني غيبي أما في العقل العملي فهو علم عمّال ومستند للعلم الحضوري، والعلم الإنبائي الذي في العقل النظري أيضا مستند للعلم الحضوري إلا أن تكامل العقل النظري يكون فيما إذا وجد العقل العملي،

وعندما نقول أن العلم فيه حيثية ولوية فلا نقصد بذلك تعبيرا أدبيا بل إشارة إلي عمّاليته ومحركيته وقدرته.

أما سبب اطلاقنا عليه بالوحي «2» فلأن حقيقة الوحي هي الارتباط بالغيب، والانسان لوجود حيثية التجرد فيه فهو مفطور علي الارتباط بعالم التجرد بواسطة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 271

العقل، أي بتوسط نفسه، ومن هنا كان فطريا، لا وحيا نبويا تشريعيا جعليا، ومن هنا نقول أنه عندما يقال: انقطع الوحي فإنما يعني الوحي التشريعي لا انقطاع الوحي بمعناه الأعم الشامل لما بيناه أي مطلق الارتباط بعالم الغيب.

ح- في مراتب العلم الحضوري يذكرون أن مرتبة القلب من النفس بوابة الغيب والعوالم العلوية لكلا العقلين، والعقل العملي والنظري يأتمان به وهو مصدر علومهما الحضورية.

ط- أن تصرف الامام الباطن في القوي المادون يكون بقدرة ملكوتية ونعني بها القدرة التجردية التي ليس فيها تدريج وتدرج بل علي نحو كن فيكون، وهذه القدرة لا تحتاج إلي شرائط عالم المادة و لا شرائط في فعله وتأثيره، وإنما مجرد الاذعان يحرك النفس تحريكا اختياريا، فلو أن المحرِّك لم يختر التحريك فلا يتحرك، وليس معني (كن فيكون) الجبر.

وبيان أخر للملكوتي: أنه اصطلاح يطلق علي القدرة النابعة من العلم محضا في مقابل القدرة التي تتوقف علي العلم والآلة المادية وتسمي القدرة المادية، وهذا أمر متفق ومبرهن عليه في علوم المعارف العقلية والنقلية نذكره كأصل موضوعي.

فالعلم الحصولي وهو مرتبة ضعيفة من العلم يحتاج إلي الآلة كما في قدراتنا المعتمدة علي العلم الحصولي. أما إذا كانت القدرة نابعة من العلم الحضوري فإنها لا تحتاج إلي شرائط المادة لشرافة و قوة العلم المعتمدة عليه.

فإمامة الامام الباطن وعمّاليته بتوسط قدرة ملكوتية وهداية الامام الباطن بأمر ملكوتي ويسمي أمر إلهي، والإلهي اشارة إلي عالم

التجرد، وقد يطلق علي عالم الملكوت بعالم الامر فتسمي القدرة الأمرية.

فتبين أن الامام الباطن تكون له نحو إحاطة وقيمومة علي من دونه، وهذه ليست كإحاطة واجب الوجود ببقية الممكنات بل هي كإحاطة العلة بمعلولها،

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 272

ويُمثل لها بالصور الخيالية الحاصلة لدي النفس، فإن النفس تحيط بها احاطة قيمومية فظاهرها وباطنها وأصل وجودها مرهون بفعل النفس.

وفي الانسان الصغير نري أن نسبة العقل العملي والنظري لما دونه من القوي هي إحاطة قيمومية، والوجه في ذلك أن النفس والقوي المادون لا تستطيع أن تصدر فعلا من الأفعال سواء كان فعلا إدراكيا أو عمليا من دون توسيط العقل في البين، فهو يحيط بأعمال وأفعال القوي المادون، وأن الكمالات العملية تفاض عليها بتوسط العقل وبسبب كونه واسطة في الفيض فهو يدرك كمالات المادون ولا يكون جسرا للعبور فقط.

وبناء علي كل ما مضي نقول في تعريف الامام الباطن في الانسان الصغير: انه يكون هاديا وموصلا للنفس إلي كمالاتها بأمر ملكوتي.

ي- نقطة أخيرة؛ نضيفها أن التسلسل في تنزل الفيوضات يكون من القلب للعقل النظري الذي هو الرسول الباطن ومن ثم للعقل العملي الذي هو امام باطن، وقد ذكرنا ان العلم الذي في الثاني أشرف من الأول لكن إذا جمع الأول بين الرسالة والامامة فإنه ينال الشرف العالي، وقد ورد في كلمات أمير المؤمنين عليه السلام عن الذين ابتعدوا عنه «احتجوا بالشجرة وضيعوا الثمرة»، وهذا قريب مما ذكرنا أن كمال العقل النظري هو بالعقل العملي فالامامة هي ثمرة النبوة، وذلك لأن مجرد العلم ومجرد التمييز بين الحسن والقبيح من دون ترجيحها إلي إعمال وإثارة القوي المادون لا يكون ذا أثر، والأثر الوحيد هو في الاستفادة من العلم الذي يتوصل إليه العقل

النظري لوصول الانسان إلي الكمال وتجنب الوقوع في المفاسد والقبائح، ومن هنا تكون الامامة ثمرة النبوة والرسول الأكرم صلي الله عليه و آله قد حاز شرف النبوة والإمامة وكما أنه امام للخليقة فهو إمام للأئمة كما أن القلب امام للعقل العملي الذي هو إمام لما دونه من القوي.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 273

وبهذا البيان نستطيع استيعاب ما ورد في الأثر أن «المؤمن جماعة بمفرده في صلاته» حيث يكون أحد تفسيراته أن كل قواه تكون مسخرة لقوة العقل العملي وهو مسيطر عليها.

الانسان المجموعي: … ص: 273

وهو مجموع المجتمع بما فيه من اركان وهي الدولة والحكومة، فإنا نشاهد انها تتألف من فقرات متعددة منها القوة التنفيذية، ومنها القوة التشريعية، ومنها القوة القضائية، كما أن كلا من تلك القوي الثلاث تتشعب إلي أقسام.

والقوة التشريعية وظيفتها الهداية الارائية، والقوة التنفيذية وظيفتها الهداية الايصالية، والقوة القضائية وظيفتها كوظيفة الوجدان في الانسان الصغير، وهي لتعديل الاشياء لكي لا تستعصي في قبول الهداية الارائية الايصالية والسير نحو التكامل وعدم التخلف عن ذلك، ويمكن المطابقة في التفاصيل الاخري بين الانسان المجموعي والانسان الصغير فمثلا وزارة الجيش والدفاع توازي القوي الغضبية، ووزارة الرياضة والتربية البدنية أو السياحة ونحوها مما يغطي جانب اللهو واللعب توازي القوي الشهوية، وإلي غير ذلك من التطابق إلا ان اهم ركن في الانسان المجموعي هو ما يقوم بالهداية الارائية والهداية الايصالية إلي الكمالات المنشودة.

الانسان الكبير: … ص: 273

ونقصد به عالم الخلقة وما يحويه من عوالم ونشآت في قوس النزول وقوس الصعود، وذلك لنتعرف علي دور الامامة وحقيقتها في هذا العالم الكبير، وهذا الانتقال طبقا لما هو المسلم به في المعارف أن «من عرف نفسه فقد عرف ربه»، أي أن معرفة آيات اللَّه وأفعاله جل وعلي يكون عن طريق معرفة الانسان نفسه وهذا يقتضي موازاة الانسان الصغير للانسان الكبير، وأن فعل اللَّه وهو الخلقة تكون

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 274

معرفته بمعرفة الانسان الصغير.

ففي الانسان الكبير أيضا مراحل ومراتب من النفوس الكلية (بمعني السعة والاحاطة) إلي العقول الكلية التي تدير تلك النفوس، ونحن في بحثنا نعتمد علي قاعدة عقلية مؤداها أن التعريف الماهوي للإمامة له مصداق في الانسان الصغير إي في ترتب قوي النفس الانسانية وبمقتضي التطابق مع الانسان الكبير- عالم الخلقة- نستكشف الاخير.

والمهم لدينا هو استكشاف موقع الامامة في

الانسان الكبير وأنها مرتبة تكوينية ومقام وجودي في ضمن المراتب الوجودية المختلفة، وهذا هو محل النزاع مع الآخرين والذي أردنا إثباته، فهم قد جعلوا محور البحث في الانسان المجموعي ونحن ننقل ذلك إلي الانسان الكبير أيضا.

ولا ندعي أنا قد توصلنا إلي معرفة كنه وحقيقة الامامة في هذا الموقع بل تمكنا من وضع تصور اجمالي يرفع الغموض واللبس وإن بقيت جوانب مجهولة، وهذا المقدار لا يمنع من ثبوت المعرفة وتحققها.

ونبدأ بحديث هشام بن الحكم مع عمرو بن عبيد المعروف والمشهور حيث قال له: ألك عين؟ قال: نعم، قلت: ما تري بها؟ قال: الألوان والاشخاص، قال: قلت: فلك أنف؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: اشتم به الرائحة، قلت: فلك فم؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: أذوق به الطعم. قلت: ألك قلب؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: أميز به كل ما ورد علي هذه الجوارح، قلت: أليس في هذه الجوارح غني عن القلب؟ قال: لا، قلت: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة؟ قال: يا بني الجوارح إذا شكت في شي ء شمته أو رأته أو ذاقته ردته إلي القلب فيتيقن اليقين ويبطل الشك، قلت: وإنما أقام اللَّه القلب لشك الجوارح؟ قال: نعم، قلت: فلا بد من القلب وإلا بم تستيقن الجوارح؟

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 275

قال: نعم، قلت: يا أبا مروان إن اللَّه لم يترك جوارحك حتي جعل بها إماما يصحح لها الصحيح ويتيقن لها ما شكت فيه، ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكهم واختلافاتهم لا يقيم لهم إماما يردون إليه شكهم وحيرتهم، ويقيم لك إماما لجوارحك ترد إليه حيرتك وشكك «1».

فيلاحظ في هذه الرواية أن ما ذكره عمرو بن عبيد من التسالم علي خضوع

القوي المادون للقلب وأن هذا الخضوع ليس اعتباريا بل تكويني حقيقي.

الجهة الثالثة: التعريف النقلي … ص: 275

يلاحظ أن هذه الكلمة وردت في القران في موارد عدة هي: «قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً» «2»

، «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ» «3»

، «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ» «4»

، «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ» «5»

، «وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ» «6»

.والعلامة الطباطبائي يتعرض لتفسير مقام الامامة الذي أُعطي لابراهيم وأنه مغاير لمقام النبوة والرسالة، ويأتي بشواهد عدة:

1- أن هذا المقام أعطي لابراهيم علي كبره و بعد تولد ذريته اسماعيل واسحق، وقد كان قبلها نبيا بلا شك. وذلك لأنه لو لم يكن لديه ذرية لما كان سؤاله اللَّه تعالي «وَمِنْ ذُرِّيَتِي».

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 276

2- أنه لو كان المراد من الإمامة هنا النبوة فلا معني لأن يقال لنبي مفترض الطاعة إني جاعلك للناس نبيا أو مطاعا فيما تبلغه من نبوتك فهذا لا يتناسب مع كونه نبيا.

3- أن القران كلما تعرض للإمامة تعرض معها للهداية تعرض تفسير «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ» والهداية الجديدة التي حاز مرتبتها ابراهيم يجب أن تكون مخالفة للهداية السابقة التي كان حائزا عليها عندما كان نبيا، ولا شك أن الهداية التي في النبوة هي هداية اراءة فالهداية هنا هي هداية ايصال.

4- أن لفظ الهداية قُيد بالأمر في آية السجدة، والأمر هو الذي يبين حقيقته ما ورد في قوله تعالي «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ» «1»

، وقوله «وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» «2»

، فهذا الأمر هو أمر ملكوتي ليس فيه تدريج بل يحصل دفعة واحدة بمجرد إرادته بعيداً عن شرائط المادة والآلة وهذا الملكوت

قد حاز عليه ابراهيم كما ورد في «وَكَذلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» «3»

، فإراءة الملكوت لابراهيم كانت مقدمة لافاضة اليقين عليه، وأهل اليقين لا يحجبهم عن ربهم حجاب قلبي من معصية أو جهل أو شك أو ريب، بل يكون لهم شهود حضوري علي الأعمال أي أعمال البشر.

فالامام هاد يهدي بامر ملكوتي يصاحبه، والامامة بحسب الباطن نحو ولاية علي الناس في أعمالهم، وهدايتها ايصالها إياهم إلي المطلوب بامر اللَّه دون مجرد اراءة الطريق الذي هو شأن النبي والرسول»

.الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 277

ولأن محور تعريف الامام حول فهم الملكوت فإنا نستكشف رأي العلامة في ذلك فتوجد آيات عدة تتعرض للملكوت وهي يس 83- الانعام 75- الملك 3- المائدة 120- القمر 50- آل عمران 26.

ففي سورة الملك تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَي كُلِّ شَي ءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَي فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ …» فالآية تشير إلي أن الذي بيده الملك هو بيده القدرة وعلله «الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماوَاتٍ» أي كل عالم الخلقة، فالملك بيد اللَّه لأن ايجاد الخلق بيد اللَّه، فكون وجود الاشياء منه وانتساب الاشياء بوجودها وواقعيتها إليه تعالي هو الملاك في تحقق ملكه الذي لا يشاركه فيه غيره، ولا يزول عنه إلي غيره ولا يقبل نقلا ولا تفويضا، وهذا هو الذي يفسر الملكوت في قوله تعالي «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ» «1»

فالملكوت هو وجود الاشياء من جهة انتسابها إلي اللَّه سبحانه وتعالي، أي جنبة الإيجاد والقيومية والهيمنة والاحاطة.

فالمخلوق يكون ذا جهتين فإذا لحظناه بما هو في نفسه فإنك تلحظه من جهة المخلوقية، أما

إذا لحظته بما هو دال علي خالقه تكون جنبة ملكوتية، ومن هنا كان النظر في ملكوت الأشياء يهدي الانسان إلي التوحيد هداية قطعية، فإراءة ابراهيم ملكوت السماوات والأرض هو توجيهه تعالي نفسه الشريفة إلي مشاهدة الاشياء من جهة استنادها ووجودها إليه «2».

«قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ» «3»

،

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 278

فالملك هنا يشمل الحقيقي والاعتباري، بل قد يقال بالأول فقط وهو قد يعطيه من يشاء من عباده وليس فيه معني تعطيل نفسه عن الملك وحصر لقدرته حتي تكون يده مغلولة والعياذ باللَّه، وإنما هو اقدار في عين أنه قادر.

إذن فالامامة هي الهداية الايصالية الملكوتية النابعة من العلم والقدرة، فالامام هو رابطة تكوينية بين الخالق والمخلوق فهو يشهد الاعمال «كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ» «1»

، فالمقربون لهم نوع من العلم الحضوري، ويضيف العلامة أنه يوجد في سورة الانبياء قيد آخر «وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ» فمتعلق الوحي جاء خال من (إن) وقد حرر في البلاغة أن إضافة العامل إلي معموله إن كانت ب (أن والفعل) فإنه يفيد الاستقبال وأنه أمر تشريعي، مثل «وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ» اما إذا أضيف إلي ما يضاف الفعل لمعموله من دون توسط (أن) بين أوحينا إليهم وبين فعل الخيرات، فهذا يدل علي تحققه فعلا علي نحو ما ورد في آية التطهير «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ» فإن الفعل لم يسبق بأن وهو دال علي وقوع التطهير فعلا، ففعلهم نابع من الوحي والتسديد الإلهي وهو معني العصمة أي لا يحتاج إلي هداية غيره.

- وقوله تعالي «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ».

يذهب العلامة إلي أن المراد من الامام هنا هو إمام الهدي، إذ

ان الآية تدل علي أن لكل زمان إمام، ولا يخلو أناس في عصر من العصور من إمام فيكون المراد من الإمام هنا هو إمام الهدي، نعم الروايات دالة علي وجود إمامين هدي وضلال، واستظهار العلامة وإن خالف ظاهرها لكن لا مخالفة حقيقية عند التدبر في الروايات، وذلك لان الروايات المفسرة للقران علي نحوين:

أحدهما: أنها تقوم بمعالجة ظاهر القران الكريم بحيث تبين المراد من الآية

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 279

وترشد إلي النكات الأدبية والبلاغية في الآية، و هذه لا مجال لاستظهار غير المعني الذي تشير إليه بل يجب الأخذ بها، وأمثلتها كثيرة منها: في تفسير آية الوضوء «إِلَي الْمَرَافِقِ» أنه ليس المراد بيان انتهاء عملية الغسل بل لتحديد المقدار المغسول ويذكر الامام شواهد علي ذلك، وقوله «فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ» ليس المراد هو التخيير بين القصر والتمام، بل المراد هو الالزام فمثل هذه الروايات يجب الأخذ بها في تعيين الظهور.

والقسم الآخر: من الروايات التي تقوم ببيان باطن القرآن وهذه الروايات لا تنفي حجية الظاهر بل يبقي علي حجيته فهي لا تحصر معني الآية فيما تذكر، والشاهد علي ذلك ورود روايات متعددة في تفسير الآية الواحدة، فهذه كلها غير متناقضة إذ أنها تشير إلي أسرار الآيات التي لا يصل إليها غير المعصوم. وهذا بحث حرره الأصوليون.

نعود إلي الآية الكريمة: فعلي فرض كون المراد من الامام هو إمام الضلال أيضا لا الامام الذي اجتباه اللَّه، فإن إمام الهدي هو من البشر، وقد عرفته آيات أخري من أن هدايته تكون بأمر ملكوتي خلاف إمام الضلال الذي لم تعرفه الآيات بهذا السنخ، وسيأتي مزيد تفصيل لهذا المعني في فقه الآيات.

وقد ذهب البعض إلي أن المراد من الامام هوا

لكتاب التشريعي كالتوراة والانجيل والقرآن، وهذا غير صحيح لأن المراد من كل أناس أنه يعم كل الناس من الأولين والآخرين، وليس مختصا بفئة معينة، ويلاحظ أن القرآن إذا أراد تخصيص فئة معينة من الناس لها هدف معين فإنه يعبر عنهم بالامة وعدم استخدامه لهذا اللفظ هنا يدل علي إرادته كل الناس في مختلف الأزمنة.

ونعود إلي إمام الهدي والضلال؛ فإن امام الهدي هو الذي تكون هدايته بأمر ملكوتي بخلاف إمام الضلال الذي تكون هيمنته علي مستوي الشيطنة، وهذه

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 280

الهيمنة يوازيها في الانسان الصغير التخيل والتوهم إي العقل المقيد، وفي رواية في ذيل سورة القدر: واللَّه إنه ليوحي إلي امام الضلالة بتوسط ابليس وجنوده كما يوحي إلي امام الهدي كما تتنزل عليه الملائكة من اللَّه.

ففي الانسان الصغير بظل أئمة الضلال من الواهمة والمتخيلة والغضبية والشهوية لا تستطيع أن تترفع إلي مستوي التجرد العقلي فكذلك أئمة الضلال في الانسان الكبير إبليس وأشياعه وأتباعه.

ويستعين العلامة في توضيح الهداية المخبوة في الامام بقوله تعالي «أَفَمَن يَهْدِي إِلَي الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمْ مَن لَا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَي» «1»

، فإن الآية تجعل المقارنة بين هاديين إلي الحق (والهادي إلي الضلال خارج عن هذه المقارنة) أحدهما يهدي إلي الحق من نفسه والآخر يحتاج إلي هداية الغير من أجل أن تهتدي نفسه ثم يقوم بهداية غيره.

إن قلت: أن الذي يهدي من نفسه ولا يحتاج إلي هداية الغير هو اللَّه سبحانه وتعالي كما ذكرته الآية في الشق الأول، والذي يحتاج إلي هداية الغير هم الأنبياء والرسل والائمة المهتدون بهداية اللَّه سبحانه.

قلت: إن لازم ذلك أن يبعث اللَّه للناس نحو هداية نفسه مباشرة لا الهداية التي في الرسل والانبياء لأنهم يهتدون بغيرهم،

وبتعبير آخر لازم ذلك أن ينهانا عن اتباع الرسل والانبياء في حين لا توجد لدينا قناة لاستلام الهداية إلا من الرسل فيحصل تنافي في مدلول الآية الشريفة، وهداية اللَّه لا يدعيها أحد من دون توسط الرسل والانبياء، فبالتأكيد هذا المعني خاطئ، والصواب أن الآية دالة علي أن الهادي الذي يتبع هو المعصوم الذي علمه لدني لا من الأغيار البشرية وإن كانت

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 281

في خط الهداية، ومن يهدي بهداية غيره لا يكون مأمونا من الخطأ والزلل، فلا يكون هاديا.

وذلك المعصوم هو الذي يكون هاديا للحق علي نحو الدوام أما الشخص الآخر الذي لا يهتدي إلي الحق إلا بهداية غيره فإذا لم يوجد ذلك الغير فهو يهدي إلي الباطل والضلال. وهداية اللَّه لهؤلاء المعصومين تكون بأحد الطرق الثلاثة «مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا» «1»

.وينقل العلامة دليلا عقليا علي وجوب العصمة وهو تفسير الامامة بأنه يهدي (بأمرنا) وأن الهداية ايصالية كما مر ذكره سابقا، فلابد أن مَن يكون لديه القدرة علي تلك الهداية أن يكون مهتديا بنفسه بل تدل الآية علي أن الفيوضات الكمالية العملية علي النفوس، وانتقال النفوس في سيرها التكاملي من موقف لآخر إنما يتم عبر الامام، وذلك لأنه يهدي بأمرنا إي بالامر الملكوتي وهو (كن فيكون) فالفيوضات تكون بواسطة رابطة الامامة أما رابطة النبوة فهي من أجل هداية الخلق في الاراءة فقط وهي الجهة التشريعية.

فتحصل مما تقدم:

1- ضرورة كون الامام معصوما.

2- أن يكون موجودا في كل زمان.

3- أنه يفوق غيره في الفضائل النفسية سواء المعاشية أو الاخروية.

4- أن الإمامة باقية في عقب ابراهيم، وهذا يستفاد من نفس سؤاله للَّه تعالي في سورة البقرة، واستجابته تعالي

لذلك، وما ورد في سورة الانعام من الآية 82- 90:

«وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَي قَوْمِهِ … وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 282

وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ..» حيث الخطاب في الآية لذرية ابراهيم واصطفاء اللَّه لهم، وهدايتهم ثم يقول عز من قائل «فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ» فالمراد من (بها) الامامة، وهذا يدل علي تأبيدها واستمرارها، وأن الخطاب ما زال لابراهيم وذريته فهم الموكلون بهداية البشرية.

ويطرح العلامة اشكالا ويجيب عنه، أما الاشكال فهو أن الآية تدل علي أن من يكون نبيا فهو مهتديا فهذا يدل علي أن كل نبي إمام، ويجيب عنه: أنه مما لا شك فيه أن النبي يكون مهتديا لكن ليست لدينا قاعدة أن كل مهتدي فهو هاد هداية ايصالية، نعم ما دلت عليه آية «أَفَمَن يَهْدِي إِلَي الْحَقِّ …» تدل علي أن الهادي إلي الحق يجب أن يكون مهتديا فالتلازم من طرف واحد لا من طرفين.

ويضيف العلامة في آية سورة الزخرف 28: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ء 27 وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» أن اللَّه عز وجل جعل الهداية باقية في عقبه.

نعم يبقي اثبات أن المراد من الهداية في (سيهدين) حيث أنه كان نبيا ويدعو قومه فيجب أن تكون تلك الهداية غير ما هو حاصل عنده وما ذلك إلا الهداية الايصالية والامرية المجعولة باقية في عقبه.

ويخلص العلامة إلي أنه يتضح من آية البقرة سبع مسائل هي امهات مسائل الامامة:

1- أن الامامة مجعولة.

2- أن الامام يجب أن يكون معصوما بعصمة إلهية

3- أن الارض لا تخلو من أمام حق.

4- أن الامام يجب أن يكوم مؤيدا من

عند اللَّه.

5- أن اعمال العباد غير محجوبة عن علم الإمام.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 283

6- أنه يجب أن يكون عالما بجميع ما يحتاج إليه الناس في أمور معادهم وحياتهم.

7- أنه يستحيل أن يوجد من يفوقه في فضائل النفس.

وفي كتاب المقالات التأسيسية يذكر العلامة تعريفا أوسع للامامة: أن الامام هو السائق للنفوس البشرية إلي لقاء اللَّه وإلي المعاد حيث يسوق أعمالهم ونفوسهم إلي اللَّه تعالي، فبه معادهم وحشرهم ونشرهم حيث تشير الروايات المستفيضة إلي ورود الامام في كافة منازل الآخرة، وقد أشار القرآن إلي ذلك «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» فهذه الآية تثبت للرسول الذي هو حي في عالم الدنيا بأنه يشهد الاعمال وهي من سنخ ملكوتي والمؤمنون هم المعصومون يشهدون الاعمال بمقتضي «يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ».

ونضيف علي ما ذكره العلامة أن رابطة الامام والرسول بما هو امام لا تقتصر علي عالم الدنيا وما بعده بل حتي ما قبل عالم الدنيا، حيث بعثه في عالم الذر إلي الآخرين وبقية العوالم السابقة علي نشأة الدنيا، وأن الهداية الارائية ايضا مفروضة في الامامة لتقدمها علي الايصالية- وان كانت هي في الامام في طول الهداية الارائية للنبي صلي الله عليه و آله- وهو ما يعبر عنه بالحافظ والمبين للدين عند المتكلمين، وأن الامامة في المجتمع- الانسان المجموعي- هي الزعامة السياسية أيضا مفروضة في حدّ الامامة.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 285

المبحث الثاني الأدلة العقلية علي ماهية الإمامة الإلهية … ص: 285

اشارة

وقبل الدخول في البحث، نذكر مقدمة تنفع في المقام:

من المسائل المهمة التي دار البحث عنها في الامم السابقة هي مسألة اتصال الارض بالسماء وهل أن اللَّه بعد أن خلق الخلق تركهم أم استمر اتصاله بهم، واتخذت هذه المسألة اشكالا متعددة ففي عهد اليهود شاعت مقولة «يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ» بمعني أن اللَّه

عز وجل ترك عالم الخلق يسير كما يشاؤن ولا يتدخل في سيرهم ولا يعيق إرادتهم.

وفي عهد مشركي الجزيرة العربية قالوا بضرورة توسيط آلهة صغار ليتم الاتصال مع الذات المقدسة اللامحدودة.

وفي العهد الاسلامي ظهرت مقولة العامة من انقطاع الاتصال بين الارض والسماء بعد الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله وأنه لا يمكن أن تتنزل مشيئة إلهية جزئية في الموارد الخاصة، وقد أشرنا إلي ذلك فيما سبق، وأن دعوي العامة وإن لم تكن في انقطاع التشريع الالهي لكنها في انقطاع الارادة التكوينية المرتبطة بالناموس البشري فتكون هذه العقيدة قريبة المضمون من «يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ».

والقران الكريم عالج كل تلك المقولات فبالنسبة لعقيدة اليهود أجابهم بصراحة «غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ» وأن الارادة الالهية لم ينقطع اتصالها

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 286

بالمخلوقين.

كما أن القران قد عالج مشكلة المشركين حيث خطّأهم في نقطتين:

1- في اعتقادهم أن الرابطة مع الغيب يجب أن تكون ذاتاً مستقلة صغيرة (إله صغير).

2- في اختراعهم لتلك الوسيلة والواسطة من عند أنفسهم دون اللَّه تعالي، فالقرآن الكريم في نفس الوقت يؤكد علي عدم انقطاع الاتصال بالغيب المطلق، وأن هناك وسيلة للاتصال بالعوالم العلوية وهي في حقيقتها محكومة للَّه عز وجل ولا تكون معبودة بل العبودية المطلقة للَّه عز وجل.

فهذه الصيغ الثلاث تتضمن نفس المحتوي وهو انقطاع الوحي عن الارض وعدم الاتصال مع السماء. وأما استمرار الاتصال فهو عين التوحيد وذلك لأن التوحيد الخالص هو توحيد الذات والصفات والافعال بل حتي التوحيد في التشريع حيث لا يكون للانسان حق التشريع والتقنين بل اللَّه وحده له هذا الحق الذي بيّنه عن طريق الانبياء والائمة.

وايضا هناك التوحيد في الولاية أي نتبع اللَّه عز وجل فيمن نتولاه ونستهديه للوصول إلي الكمالات العالية وهذا

هو معني الامامة فنفي الامامة يكون شركا ونفيا للتوحيد في الطاعة.

ويمكن لنا أن نضم إلي هذه الصيغ الثلاث صيغة رابعة نادي بها أصحاب المدرسة المادية الحديثة التي تدعي أن عالم المادة تحكمه المعادلات المادية والقوانين الخاصة بها حيث أنهم يجعلون مصدر الخلقة والايجاد هو المادة ثم يختلفون في تفسير هذه المادة فيجعل البعض أن المقصود منها الطاقة والقدرة ولأجل الأقلمة مع أساس العقيدة يجعلون المادة شاعرة عالمة.

ولكننا نقول- في مقابل الصياغات المتقدمة- أن ارتباط مراتب الوجود مع

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 287

الذات المقدسة موجود ودائم غير منقطع حتي في عالم الانسان الصغير، وهذا الارتباط اختياري لا اجباري وقد برهن عليه في محله.

الدليل الاول: ضرورة الإرتباط بالغيب … ص: 287

اشارة

وخلاصته:

أنه لابد من ارتباط غيب الغيوب وهو الذات المقدسة بالعوالم النازلة وبالاخص عالم الانسان الصغير واراداته وهدايته الارائية والايصالية وهذا التنزل بلا شك يجب أن يكون عبر قناة وجودية خلقية وإلا لاقتضت وجود طفرة، ولابد لهذه القناة من أن تتصف بصفتين أحدهما الارتباط بالغيب والاخري الارتباط بالعالم النازل. وتفصيل ذلك من خلال النقاط التالية:

* أننا اثبتنا فيما سبق وجوب الارتباط وعدم انقطاع الاتصال بين الارض والسماء.

* أن الاتصال إما أن يكون من خلال ارتباط الذات المقدسة بكل فرد فرد وبكل نفس بشرية، وهذا يعني أن تكون كل النفوس أنبياء ورسل وائمة وهذا وإن أمكن ثبوتا وليس بممتنع علي الحق تعالي لكنه علي خلاف نظام الخلقة إذ أنه قائم علي أن لا يكون الكل كذلك.

* أن الاتصال حينئذ يكون عبر أفراد، ولا يخلو أمرهم أن يكونوا إما بشرا او ملائكة أي اننا اشترطنا أن يكون فيهم جنبة بشرية وذلك لما ذكرنا سابقا أن عدم وجود الجنبة البشرية مطلقا يفقد خيرية الاقتداء والأسوة إذا أنه لا

يحقق البعث والتحريك نحو الكمال فهو بشر يراه الناس كأنفسهم ن لكنها نفس تعالت عن مزالق الشهوات إلي مراتب الكمال فأصبحت تهدي بأمر ملكوتي، فهو نموذج بشري توفرت فيه صفات الكمال، وفي هذا جواب علي ما ذكره بعض العرفاء او

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 288

الصوفية من أن المرتاض في سير وسلوك وارتباط بالارواح الكلية و العوالم العلوية أما في عالم الشهادة فإنه يخطئ في تطبيق تلك الروح المرتبطة بعلي عليه السلام فيجعل لها مصداقا من آخرين كزيد وعمرو … فهو في حقيقة أمره مرتبطومذعن بالعوالم النورية، مثل ما قد ينسب إلي بعض عرفاء العامة فيري أنه وصل في سيره وسلوكه إلي الحقائق العلوية ولكنه اخطأ في التطبيق في هذه النشأة.

وقد ذكرنا أن هذا الارتباط أيضا غير نافع، وذلك لأن الحقيقة الانسانية هي أشرف صور المخلوقات الالهية ومنها يبدأ السير التكاملي والاتصال بالغيب فيجب أن لا يكون دونها كمالا، وهذا مع ما ذكرناه سابقا يقتضي أن يكون الهادي والرابط بين الأرض والسماء له جنبة بشرية.

* نعم يبقي الجواب عن اشكال قد يطرأ علي ذهن البعض؛ وهو أن الاتصال بالغيب يكفي فيه النبوة فما الحاجة للائمة، وبتعبير آخر ما الحاجة إلي الهداية الايصالية مع وجود الهداية الارائية؟

وفي مقام الجواب نشير إلي أن الروايات قد استفاضت أو تواترت علي أن للائمة جنبة تشريعية للاحكام لا بمعني الاتيان بأصل الشريعة بل هي هداية تشريعية متممة للنبوة والرسالة، وبيان ذلك من خلال مقدمات:

- من المبادئ الاساسية التي تحكم التشريعات والتقنينات علي مدي العصور هو مبدأ تدرج القوانين، وهو يعني أن القانون يبدأ من قواعد كلية وعمومات فوقانية ثم تتدرج إلي قوانين متوسطة حتي تصل إلي القوانين الجزئية التي تطبق علي الظواهر الفردية

والاجتماعية، وهذا النحو هو الحاكم علي التقنينات الوضعية فتري الدستور ثم القوانين الصادرة من المجالس النيابية ثم القوانين الصادرة من السلطة التنفيذية. وقد أشرنا في بحوث الاصول إلي تماثل الاعتبار الشرعي مع الاعتبار الوضعي علي أساس اتحاد لغة التقنين والتشريع.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 289

- أن تنزل القوانين العامة والقواعد الكلية إلي المصاديق يحتاج إلي مراقبة وذلك لمنع حصول الاختلاط والتدافع والتصادم في التطبيق.

- أن السنة الجارية في عالم الخلقة هي محدودية أعمار الانبياء والرسل، ولذا فهم يكتفون بذكر الكليات والقوانين العامة ولا يستوفون تنزيلها وتطبيقها علي كل الدرجات و الموارد الجزئية إذ أن محدودية أعمارهم تمنع من مراقبة كل الدرجات و الجزئيات الحاصلة بعد حياتهم الشريفة.

- ان سلامة الشريعة وصوابية التقنين تقتضي استمرار المراقبة في تطبيق تلك القواعد العامة والقوانين الكلية، خصوصا في القواعد الالهية التي ترعي المصالح والمفاسد الواقعية التي تخفي علي الاذهان العادية فلابد من استمرار بيان المتوسطات والتطبيقات، خصوصا إذا قلنا أن الاحكام الشرعية هي إرادات إلهية صادرة من جانب الذات المقدسة في الوقائع الجزئية والفردية والمجموعية.

- أن البشر العادي المنقطع عن الغيب ليس له أن يتوصل إلي بيان مؤدي النقطة السابقة وذلك لاحتياجها إلي عصمة علمية.

والنتيجة: انه لا بد من وجود فرد له عصمة علمية مضافا إلي العصمة العملية والكمالات النفسانية العالية، وهذا الفرد الذي يكمل مسيرة الأنبياء التشريعية هو الامام.

ولا يخفي علي كل ذي لب ما نشاهده في حياتنا العملية حال التشريعات الوضعية والمراقبة المستمرة علي كيفية تطبيق التشريعات الدستورية وعدم مضادتها لها، ومع ذلك توجد موارد عديدة للنقض والخطأ وبين كل فترة وأخري تحصل الاستدراكات والملاحق لغرض تفادي الاخطاء والنقص، وفي القانون الالهي وإن لم يُقس بالقانون الوضعي البشري

إلا انه لا بد من وجود المعصوم عصمة علمية يقوم ببيان تلك المتوسطات وبذلك يؤمن عن الوقوع في الخطأ

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 290

والزلل في التطبيق أوالتنزيل المسمي في اصطلاح الوحي بالتأويل، ومجرد احتواء الكتاب علي تلك التشريعات العامة لا يدفع الخطأ في مجال التنزيل أو التفريع، فكم نري في عملية الاجتهاد أثناء استنباط الاحكام الشرعية من أخطاء وغفلات «1».

وبهذا يندفع الاشكال من أنه لا حاجة إلي افتراض العصمة العلمية بواسطة وجود كتاب يروونه عن النبي صلي الله عليه و آله فيعتبرون لكونهم رواة عدولًا ولا حاجة إلي العصمة حينئذ.

ووجه الاندفاع أنه مهما بلغت درجته العلمية فإنه لا يؤمن من الوقوع في الخطأ في بيان القوانين المتوسطة وتطبيقها علي الجزئيات، فلا بد من الاتصال بالغيب.

وبناء علي ما مضي يتبين ضرورة ابراز جنبة الهداية الارائية في الائمة مضافا إلي الهداية الايصالية، وعدم الاكتفاء بالاخيرة فقط كما ذهب إليه السيد العلامة في الميزان.

* وقد يثار اشكال آخر: أنه ما المانع من عدم وجود ائمة معصومين عملا فكل ما نحتاجه هو عصمة نسبية عملية كالعدالة، وعصمة نسبية علمية كالفقاهة، فنكتفي بهما عن العصمة الشاملة بمعني المقام الغيبي والملكوتي؟

ويوجد في المقام جوابان:

الأول: ان هذا الإشكال قد حصل فيه التغافل عما ذكرناه في بداية البحث أن الانبياء والرسل بمقتضي محدودية أعمارهم البشرية لا يوضحوا كل شي ء ولا يبينوا كل القوانين الجزئية والمتوسطات، فمن أين للفقيه أن يعلم بقية المتوسطات مع عدم كونه متصلا بالغيب إذ المتوسطات ليست مجرد تطبيقات للكليات بل هي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 291

نوع من الانشاء التشريعي من نفس المشرع الاول. وبتعبير آخر: أن الانبياء نحو اراءتهم كانت اراءة اجمالية فلابد من الاراءة التفصيلية واستمرارها عن طريق الائمة بأن

تكون متصلة بالغيب معصومة من الوقوع في الخطأ.

الثاني: أن بيان الامام وفهمه للحكم الشرعي لا يكون كفهم الفقيه بل هو، بيان بعلم الغيب والتسديد الالهي المصيب للحق دوما. فاراءة الامام للاحكام الشرعية ليست شريعة جديدة بل بيان لتلك الشريعة الاجمالية الكلية المتنزلة عبر القناة الغيبية للنبي صلي الله عليه و آله.

إذن نلاحظ في مقام الامامة والنبوة نقاط التقاء وافتراق وأفضلية جانب علي آخر فكلاهما حلقة اتصال بالغيب، وكلاهما حجة اللَّه علي الخلق وسفارة إلهية إلا أن وظيفة كل منهما تختلف عن الآخر فالنبوة فضيلة في نفسها والامامة فضيلة في نفسها، ورأينا في تفسير آية البقرة كيفية استحقاق ابراهيم للامامة، وأنه كان عبر تلك الابتلاءات المختلفة والشديدة.

فالنبوة لها فضل والامامة تفصيل لتشريع النبوة، ويبقي للامامة الهداية الايصالية بخلاف النبوة التي تقتصر علي الهداية الارائية وبعض الانبياء هم ائمة أيضا، أما الائمة فليسوا بأنبياء وتفضيل بعضهم علي بعض ثابت بالنصوص القرآنية والروائية، وقد تبين أيضا كيف أن النبوة لا تقوم مقام الامامة وأنها تكتمل بها.

وهاهنا تساؤل آخر وحاصله: لماذا لا يكتفي بالامامة عن النبوة فإنها جامعة للهداية الايصالية والارائية؟؟

والجواب عن ذلك:

1- أن المفروض أن الهداية الايصالية ليست إلجائية بل اختيارية.

2- أن المكلف في اختياره لأي سيرة في حياته يجب أن يكون طبقا لعلم، لكي يؤمّن جانب الاختيار والكمال في المسير الانساني فلابد أن يكون الانسان علي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 292

علم بالطريق والغاية والهدف من هذا المسير وهذا الجانب العلمي لا يؤمّن إلا بالهداية الارائية، فعلمه وانتقاؤه طبقا لهداية النبي هو قوام الاختيار.

وبعد حصول ذلك العلم لدي المكلف يأتي دور الهداية الايصالية والتسبب الملكوتي الذي يري أن أرضية المكلف مخيرة ومهيأة لتقبل الكمال، ويستطيع المكلف الاختيار ويتبع إمام الهدي

ويفضله علي اتباع إمام الضلال.

فتظهر أهمية العلم بالشريعة الذي يبينه النبي، ثم يأتي دور الامام بعد أن يختاره المكلف فتكون هدايته اختيارية لا إلجاء فيها ولا جبر، وخصوصا أن السير التكاملي لا يؤدي هدفه إلا اختياريا وإذا كان جبريا فلا كمال فيه.

وعليه فمن تمام عناية اللَّه ولطفه بالانسان أن يهيئ له الاسباب المعدة للكمال، ونظير هذا حقيقة الانسان الصغير حيث أن العقل العملي لا يغني عن العقل النظري فحكمة وجوده هو نوع اعداد وتهيئة أرضية لانجذاب الانسان إلي نزعات العقل العملي وذلك بما يحصل عليه من علوم حصولية «1».

تقييم الدليل الأول: … ص: 292

يلاحظ علي هذا الدليل هو تركيزه علي حيثية الهداية الارائية في الامام، ولا يقوم باثبات المقام الغيبي للامام بما هو هاد هداية ايصالية، وهذا الدليل هو الذي اعتمده عامة المفسرين من الامامية طيلة قرون عديدة، ولكنهم عند ذكره لم يتطرقوا إلي المقام الغيبي للامام الذي يمكن التعمق فيه من خلال نفس المقدمات

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 293

المذكورة.

الصياغة الثانية لنفس الدليل: … ص: 293

في بداية هذا الفصل بيّنا الجهاز العلمي والادراكي في الانسان الصغير وذكرنا أنه توجد مدارج ادراكية ثلاث:

- المراتب الروحية (الاخفي والخفي والسر والقلب).

- المراتب الادراكية (العقل والوهم والخيال والحس).

- المراتب العملية (العقل العملي والقوي الشهوية والقوي الغضبية والاختيار).

وذكرنا أن تنزل العلوم البشرية دليل علي وجود العالم العيني وعالم ما وراء المادة حيث أن العلم ليس بمادي وليس له عوارض المادة وقد ثبت في محله أن التجربة و الاستقراء لا يفيدان العلم وذلك لأن الجزئي لا كاسب ولا مكتسب، بل العلم يفاض من العالم الغيبي.

وفي تنزل العلوم تدرج في تلك المراتب حتي يصل إلي عالم الخارج، وقد أشرنا إلي أن البديهيات توفر عصمة نسبية لدي الانسان ولهذا أطلق علي العقل الرسول الباطن، وأن هذه البديهيات لا تكون بديهية لدي العقل النظري إلا بعد ارتباطها بعلوم حضورية، وذلك لأن العلوم الحصولية وهي الصور الذهنية تظل قابلة للانطباق علي كثيرين وطبيعتها أنه يظل فيها الاحتمال والامكان، فهي لا تولد اليقين ولا الضرورة أي ضرورة الوقوع والوجود، أما الدرك العياني الحضوري فليس محلا للاحتمال والزلل لذلك يجب أن تستند الادراكات الحصولية إلي ادركات حضورية حتي تكون يقينية صحيحة.

وعلي كل حال فهذه القنوات الانسانية ليست بمأمونة من الخطأ باعتبار تجاذب النزعات الشيطانية باعتبار أن الجن والشيطان ذو وجود خفي لطيف حيث بامكانه أن يرتبط

بالانسان عبر مدارج وجوده لا سيما الادراكية النازلة وهو ما يعبر عنه في

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 294

الروايات «أنه يجري في البدن مجري الدم في العروق» فللشيطان منافذ يستطيع أن ينفذ من خلالها في الانسان.

ونضيف هنا أنه كيف يمكن أن تتنزل الارادات والمشيئات الربانية من دون اشتباه والتباس وخطأ؟ والجواب: أن هذا غير ممكن إلا لمن أهّله اللَّه بمدارج روحانية وادراكية بأن لا يستطيع الشيطان النفوذ إليها، وهو ما تشير إليه الآية قاصدة النبي صلي الله عليه و آله «وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبالْحَقِّ نَزَلَ» «وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ» فما دام الاتصال بالغيب موجودا في كل الازمنة وأن عالم الشهادة قائم علي وجود هذا الاتصال وأن يد اللَّه مبسوطة فهذا يدل علي ضرورة وجود قناة معصومة تتنزل عن طريقها المشيئات الالهية.

وبعبارة أخري: أن الارادة والمشيئة الالهية يجب أن تبرز إلي عامة البشر المختارين حتي يستعلموا مواطن مشيئة وإرادة اللَّه حتي في الموارد الجزئية سواء الجزئي الاضافي أو الحقيقي، وهذه الارادات لا يمكن أن تتنزل إلا عبر من كانت له عصمة عملية وعلمية أي يكون علي صعيد المدارج الادراكية النازلة وعلي المدارج الادراكية الروحية الفوقانية. وبتعبير جامع له مقام غيبي، فلا تنازعه قوي الغضب ولا الشهوة والخيال ولا الوهم: «هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَي مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَي كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ» «1»

، فالشيطان يدعو ويغري الادراك، فالذي تكون ارادته ومشيئته مظهرا لارادة اللَّه يجب أن يكون مأمونا من نفوذ الشيطان إلي ادراكا ته.

تقييم الدليل: … ص: 294

هذه الصياغة توضح كثيرا من الروايات نحو «نحن تراجمة أمر اللَّه ونهيه وتراجمة ارادة اللَّه ومشيئته». وفي هذه الصياغة ترميم للنقص في تعريف الامامة لدي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 295

العلامة الطباطبائي، حيث أنه قد ركز علي

أن للامام مقاماً ملكوتياً يوجب بمقتضاه التصرف في النفوس والسير بها من منزل إلي منزل معنوي أعلي، وما ذكرناه يركز علي الهداية الارائية للمعصوم.

فالدليل الاول بصياغتيه يقوم بمهمة البرهنة علي جانب الهداية الارائية في الامام.

الدليل الثاني: الفطرة … ص: 295

وهو المعروف بالدليل الفطري وقد ورد في عدة روايات، واجماله:

أن كل فطرة بشرية تجد في أعماقها انجذاباً فطرياً نحو الكامل علما وعملا، وهذا الانجذاب هو الباعث والمحرك للانسان لأن يتكامل، وهذا دال علي وجود من هو كامل علما وعملا.

تفصيل الدليل: من خلال بيان عدة مقدمات:

المقدمة الأولي:

أن مدارس المعارف البشرية تتفق علي وجود الأمور البديهية والفطرية لدي الانسان، ويعرفون القضية البديهية بأنها القضية التي يضطر الانسان إلي الاذعان بها بالضرورة من دون حاجة إلي إعمال الفكر بل مجرد الرجوع إلي النفس ورفع الموانع يجد نفسه مصدقا بها.

ونلاحظ أن هذا التعريف للبديهة ينطبق علي الامور التي فطر عليها الانسان، فاذا افترض امر اشتركت البشرية فيه فإنه يعلم أنه من الامور الفطرية، ومن أدلة التوحيد د ليل الفطرة وهو من براهين الصديقين حيث يقولون أن انجذاب الفطرة البشرية نحو الكمال اللامحدود، دليل علي وجود اللامحدود، وذلك لأنه لا يعقل أن تشترك البشرية بالايمان بأمر ما وتكون خاطئة به وإلا لزم السفسطة لأنه لو تبين

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 296

خطؤها فهذا يعني عدم وجود حقيقة يمكن أن يرتكز عليها الانسان في علومه، إذ أن السفسطة تعني احتمال الخطأ في كل علم تذعن به النفس، فالعلوم التي تكون علي وزان الامور الفطرية والبديهية والتي يشترك بها عامة البشرية لا يمكن أن تكون خاطئة.

المقدمة الثانية:

أن الانسان في حين انجذابه إلي اللامحدود يقر في نفسه أنه لا يستطيع أن يكون لا محدودا لان قدرته وامكاناته كلها محدودة. فحتي

لا يصاب باليأس وعدم الأمل والرجاء يجب أن يسعي لتحصيل الكمالات العلمية والعملية بالمقدار الممكن علي حسب قدرته ووسعه، وهذا أحد وجوه تفسير ما يعبر عنه في بعض الروايات «أه من طول السفر وقلة الزاد» فهذا السفر لا نهاية له لأن المقصود لا محدود ولا متناه.

المقدمة الثالثة:

أن من مسببات الانجذاب إلي الكامل اللامحدود الانجذاب إلي الكامل من بني الانسان، فنجد الناس ينجذبون إليه وهذا ما يثبته علماء الاجتماع حيث يذكرون أن من أعرق الاساطير في تاريخ البشرية هي اسطورة البطل، ولا يكاد يخلو مجتمع وملة منها، حيث يصورون البطل الشجاع والهمام المتحلي بمحاسن الاخلاق، ونري الناس يندفعون إلي التشبه به في كافة جوانبه وذلك للاعتقاد أن كمالاته من اللامحدود.

المقدمة الرابعة:

أن من كمالات الانسان الارتباط باللامحدود علما وقدرة و هيمنة علي كل عالم الخلقة أو مَن تكون له السيطرة علي كل شي ء، وهذا لا يعني الاحاطة المطلقة بالعزل عن الذات المقدسة وإلا لم يكن ذلك كمالا، ونفس وجود هذا الأمر و النزع

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 297

الفطري دال علي عدم امتناعه.

والنتيجة: أنه لا بد من وجود مثل هذا الكامل لامتناع السفسطة وثبوت ذلك بالفطرة.

الصياغة الثانية:

وهي تنطلق من نفس ما انطلقت منه الأولي أن الانسان ينجذب نحو الكمال اللامحدود.

المقدمة الثانية:

أن الحركة نحو أية غاية كمالية يشترط فيها أمران ذكرناهما فيما سبق: كون الهدف ممكنا وليس بممتنع ولا محال، وان يكون الكمال المطلوب غير حاصل للانسان فعلا.

المقدمة الثالثة:

أن الكمالات المطلقة للذات المقدسة لا يحدها حد والانسان يعلم من نفسه أنه لا يمكن أن ينقلب إلي اللامحدود، فحتي تكون تلك الكمالات ممكنة يجب أن تتنزل إلي الحظيرة الانسانية حتي يتصورها الانسان ممكنة التحصيل مع بقاء تلك الكمالات المتنزلة غير حاصلة

لديه.

وينتج من ذلك أن الارتباط بالذات المقدسة يجب أن يكون بواسطة رابطة من الحقيقة البشرية وقد ذكرنا سابقا أن المقتدي يجب أن يتحلي بالصفتين الغيبية والبشرية، وقد أشار القران إلي هذه الحقيقة «وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَا يَلْبِسُونَ» «1»

، فهذه الآية تؤكد ذات الحقيقة، ولذا يعيش الانسان الحالة الوسطي ما بين الخوف والرجاء فالارتباط مع الذات المقدسة يكون بواسطة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 298

المعصوم، وإذا لم نفترض ذلك فإنه يعني انقطاع الاتصال مع الخالق جل وعلا.

والخلاصة: أن الموجب لحفظ الخوف والرجاء حسب التعبير الشرعي والموجب لضمان دوام الحركة حسب التعبير الفلسفي، والموجب للايمان بالغيب حسب تعبير الروايات (ونعني بالايمان بالغيب الاعتقاد بغيب الكمال اللامحدود والانجذاب إليه فتتحكم إرادات الغيب في التكامل بنحو غير منقطع) لا يتحقق إلا بوجود الرابطة، فمآل مَن لم يؤمن بالرابطة أنه لا ينجذب ولا يؤمن بالذات المقدسة ومعني الايمان بها هو الايمان باللَّه تعالي.

وضرورة الارتباط باللَّه عز وجل عن طريق الواسطة يؤمن به العامة أيضا باضطرارهم الفطري، إلا أنهم في تطبيق مَن يلبسونه لباس العصمة يشتبهون في التطبيق، وهذا هو عين الانحراف والضلال، مثلا يلبسون الصحابي أو بعضهم ثوب العصمة والكمال العلمي والعملي وهذا واضح من خلال ما ينقلونه من فضائل للأول والثاني والعشرة المبشرة بالجنة كما يدعون، ونحن نستشهد بذلك علي أنه في واقعه استجابة لنداء الفطرة الذي قد أشرنا إليه في بداية الدليل وإقرار بمسلك الإمامية ومعتقد الامامة العهدية الالهية، و لأجل ذلك نلاحظ اطلاق الروايات علي الأول والثاني الجبت والطاغوت لأنهما في قبال العبودية والمخلوقية، فالجبت مأخوذ من الجب وهو الطم أو القطع أي السد العام لطريق الحق وسلوك الكمال، والطاغوت من الطغيان والتمرد في الذات

علي ما توجبه حقيقة الفطرة البشرية بأن يكون عبدا للعيش ويدرك حالة الفقر في حقيقته لربه فيتمرد ويعتد بذاته مستقلة ومستغنية عن المدد الرباني.

ولذلك فبوابة التوحيد هو الامام، وهو السبيل إلي الايمان الخالص باللَّه، وفي الرواية عن النبي الاكرم صلي الله عليه و آله «يا علي من قصد اللَّه و لم يقصدني فلم يقصد اللَّه و من قصدني ولم يقصدك فلم يقصدني» إذن فالواسطة والرابط يجب أن يكون من الكمال

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 299

العلمي والعملي بمكان حتي يتحرك الانسان وينبعث انبعاثا صحيحا سليما نحو الكمال المطلق والذات الأزلية، وواضح من الحديث أن الهداية النبوية هي هداية ارائية اجمالية بحاجة إلي هداية تفصيلية يقوم بها الامام.

فالامام مظهر عقلي أتم للخوف والرجاء الذي يجب أن يتحلي به الانسان ليتكامل وليكون مرتبطا بالذات المقدسة.

وهاهنا اشكال: أن هذه الصياغة تثبت كيفية الارتباط بين أفراد البشر والذات المقدسة وذلك عبر المعصوم الذي يتوفر فيه الشرطان اللذان يدفعان الانسان نحو الحركة، لكن كيف هو الارتباط بين المعصوم وهو بشر مع الذات المقدسة حيث يعلم أن كمالات الذات المقدسة أزلية أبدية لا يمكن تحصيلها فكيف يحصل الاقتداء والسير التكاملي بالنسبة إلي نفس المعصوم؟

والجواب: لقد ذكرنا في المراتب الوجودية أن النبي الخاتم صلي الله عليه و آله هو أفضل الائمة والمعصومين فهو يمثل الرابطة بينهم وبين الذات المقدسة، ويكونون في حالة استسعاء تام لتحصيل كمالات الحقيقة المحمدية، وهذا ما تفيده الروايات والآيات، وارتباط النبي الخاتم صلي الله عليه و آله بالذات المقدسة تكون مسألة من مختصات النبوة ولكن نشير إليها بنحو الاجمال، حيث أن عليه الصلاة والسلام أول ممكن في الوجود فهو يعلم أن ما في الذات الازلية غير منقطع الفيض عنه، والكمالات

كلها تتجلي أو تتنزل تدريجيا شيئا فشيئا فالنبي صلي الله عليه و آله في تكامل دائم.

الصياغة الثالثة: … ص: 299

تعتمد علي مقدمة نقلية ذكرناها فيما سبق، حاصلها: أن لفظ الأمة أطلق في اللغة علي المجموع البشري السائر نحو هدف ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بوجود هاد مطلع وعالم بالهدف يقود الامة في هذا المسير التكاملي، ولا يمكن أن ينال هذا الدور أحد إلا إذا توفرت لديه العصمة العلمية والعملية حتي يمكن الوثوق بهدايته

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 300

فيتبعه الآخرون. فماهية الامة يستحيل أن تتخلف عن وجود الامام فيها.

يبقي اشكال علي هذه الصياغة: بأن القران الكريم أطلق الامة علي عدد آخر من الأمم بل بعضها منحرف وتتبع إمام الضلال؟

والجواب: أن القرآن أطلق علي هذه الأمة أنها الملة الحقة والأمة الحقة، وهي التي لديها هدف حقيقي يوصل إلي الكمال الواقعي أما الامم الأخري فاطلاق الامة عليها لا يكون بلحاظ قصد الكمال الحق فهم لا يؤمّون إليه لأن سيرها لا ينتهي إلي الكمال المطلق.

تقييم الدليل الثاني: … ص: 300

أن هذا الدليل يثبت ما ذكره العلامة الطباطبائي من جنبة الهداية الايصالية في مقام الامامة وفيها جنبة الهداية الارائية، وهو ما ذكرناه من الاشكال والجواب ومدي الحاجة إلي الهداية التفصيلية ليحصل الاطمئنان في اتباع هذا الهادي.

الدليل الثالث: برهان الغاية … ص: 300

ويسمي برهان الغاية، وله عدة مقدمات:

1- أن كل انسان عندما يتكامل لا بد أن يجعل له غاية يريد الوصول إليها وهذا أمر ثابت في جميع مدارس المعارف البشرية القديمة والحديثة.

2- أن الموحدين يجعلون هدفهم هو اللَّه عز وجل أي التخلق بأخلاق اللَّه.

3- ثبت لدي أصحاب المعارف أن الفطرة لا يستحثها الكمال فقط بل ما يدفعها نحو السعي هو خوف الضرر والهلاك أيضا، وعليه فالايمان بالتوحيد والنبوة يوفر الجانب الأول وهو كونه غاية وهدف، أما الجانب الآخر فيوفره الايمان بالمعاد والعقاب الأخروي، وأن الانسان لا يعيش عالم الدنيا فقط وإنما يوجد هناك عوالم أخري يحياها الانسان، وهذه الرابطة بين المعاد والتوحيد يقرها كثير من علماء

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 301

النفس والاجتماع.

4- أن الكمالات التي يسعي الانسان إلي تحصيلها لا تقتصر علي كمالات عالم الدنيا بل هي كمالات في عوالم لاحقة لهذه الدنيا فهناك عوالم آتية فيها كمالات و دركات ومفاسد، وأعمال الانسان في هذه الدنيا تهيئ الارضية لنيل المكانة في تلك العوالم وهذا هو معني المعاد.

فالنتيجة: أن هذا السير يقتضي وجود الهادي والمعصوم الذي يسير بالامة نحو المعاد الحقيقي واحراز الكمالات العالية في العوالم اللاحقة، وهذه المقدمات تثبت ضرورة تحلي الامام الهادي ب:

أ- الهداية الايصالية وأن يكون له تصرف في النفوس تصرفا غير إلجائي أي تتكامل النفوس باختيار الانسان.

ب- الهداية الارائية التفصيلية.

ج- الزعامة الاعتبارية في الانسان المجموعي وهو المجتمع.

فهذا الدليل يثبت ضرورة الامامة حسب تعريف العلامة مع التكملة التي أضفناها.

كذلك يبين

الدليل الارتباط بين المعاد ومعرفة الامام ومن هنا نفهم قوله تعالي «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ» فالدعوة والحشر والمعاد يكون بتوسط الامام لأنه هو الهادي لهم نحو الكمالات التي تظهر في العوالم اللاحقة، والآثار التي تظهر في المعاد إنما هي بتوسط الامام حيث يكون مرتبطا بالغيب، ويعلم بلوازم الافعال الدنيوية وحقائقها وما يضر وما ينفع.

ومن الأدلة النقلية التي تؤيد هذا الدليل وما هو دور الامام في المعاد:

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 302

قوله تعالي «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» «1»

، وهذه الآية سوف نفرد لها بحثا مستقلا في المقام الثالث، إلا أنا نريد أن نشير إلي أن الآية تنص علي أن المؤمنين (وهم الائمة كما في العديد من الروايات) يشاهدون حقائق أعمال العباد في الدنيا وهذا الاطلاع اطلاع ملكوتي.

وفي روايات أخري تشير إلي أن الاعمال إذا أريد أن تصعد إلي السماء والعرش فإن الصاعد بها هوا لامام، وروايات تشير إلي أن دور الامام يكون عند قبض الروح وفي البرزخ وعقبات الانتقال من عالم إلي عالم، وروايات تشير إلي أن الامام يُنصب له عمود من نور علي كل مدينة فيطلع علي أعمال العباد.

وفي تفسير «وَعَلَي الأَعْرَافِ رِجَالٌ …» «2»

يشير العلامة إلي أنه علي الاعراف رجال مشرفون علي الناس من الاولين والآخرين يشاهدون كل ذي نفس منهم في مقامه الخاص به علي اختلاف مقاماتهم ودرجاتهم ودركاتهم «3».

تقييم الدليل الثالث: … ص: 302

إن هذا الدليل يثبت مقام الهداية الايصالية والارائية والزعامة والرئاسة التي ذكرها المتكلمون.

الدليل الرابع: معرفة النفس … ص: 302

ويعتمد علي مقدمات:

1- أنه من الثابت روائيا وعقليا أن معرفة النفس من أشرف الطرق للمعرفة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 303

الربوبية وذلك لأنه طريق برهاني يؤول إلي العيان الحضوري بناء علي «من عرف نفسه فقد عرف ربه» «أعرفكم بربه أعرفكم بنفسه».

2- قد بينا في زاوية التعريف العقلي ل (ما الحقيقية) شئون النفس والرسول الباطن ودور العقل العملي والقلب واشرنا إلي صفات عشرة لدور العقل العملي وآثار القلب وسائر القوي.

3- بمقتضي المطابقة بين الانسان الصغير والكبير، وأن المقصود من معرفة الرب ليس معرفة الذات الأزلية بل معرفة أفعال الذات وعالم الخلقة الذي هو عالم ربوبية الباري للخلق، والرب هو عنوان من الصفات الفعلية للباري عز وجل بل وبمقتضي المطابقة بين الانسان الكبير والمجموعي أي المجتمع وهو وأن كان اعتباريا إلا أن هذا الاعتبار ليس ناشئا من لا شي ء، بل الاعتبار كما أشرنا إليه يقتنص وينتزع من التكوين، وقد مثلنا أن قوي الانسان الصغير كلها تتمثل في المجتمع فالجيش يمثل القوة الغضبية ووزارات الترفيه تمثل القوة الشهوية، والقوي المقننة تمثل العقل النظري، والقوة القضائية تمثل الوجدان والضمير وحسب تعبير القرآن «النَّفْسِ اللَّوَّامَةِ» فهذه هي المطابقة بين الانسان الكبير والصغير والمجموعي.

وبمقتضي هذه المقدمات إذا كان في الانسان الصغير توجد امامة ذات هداية ايصالية ارائية فنستكشف وجود ذلك في الانسان الكبير والمجموعي وهو دور الامامة في المجتمع، وما ذكرنا في كيفية تصرف العقل العملي في بقية القوي ينطبق علي الامام في الانسان المجموعي.

الدليل الخامس: برهان العناية … ص: 303

اشارة

وهو برهان العناية، وقد تعرضنا له في الفصل الأول إلا أنا نعيده هنا ملخصا:

وهو علم الباري بالنظام الوجودي الأحسن، وعلي أكمل ما يكون عليه، وهذا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 304

العلم مستلزم لإفاضة الوجود الإمكاني الخلقي علي أحسن ما يمكن

أن يكون عليه، ولو بنحو الترتيب أو التدريج في العوالم كي تستقصي كل الكمالات في عالم الامكان (وهذا التعريف مأخوذ من مدرسة الاشراق والحكمة المتعالية)

وقد أشرنا إلي أن قاعدة العناية الفلسفية هي بعينها قاعدة اللطف لدي المتكلمين حيث أن الاخيرة تعني أن كل فعل موجب لقرب المكلف من كماله المنشود، فإن الباري يحسن ويلطف تهيئته وايجاده ويقبح عدم ايجاده، فمن حيث اللب القاعدتان تعبران عن مفهوم واحد وأمر واحد، إلا أن الفلاسفة في منهجهم يعتمدون علي العقل النظري في اثبات القاعدة، أما المتكلمون فيعتمدون علي العقل العملي في اثبات القاعدة.

* أن أعلام الامامية استنادا إلي الروايات المختلفة ذهبوا إلي أن موقع الامام في الانسان المجموعي (موقع الرئاسة والزعامة) هو لطف فلذا يحسن عن اللَّه نصبه وتعيينه واللطف هو أكمل ما يمكن أن يكون عليه الوجود، فإذا كان أكمل ما يمكن أن يكون عليه الانسان المجموعي هو بوجود الامام فبمقتضي قاعدة العناية يجب عن الحق تعالي ايجاده.

* أن الحفظ للدين و تدبير الدنيا تستلزمان أن تتوفر في الامام الهداية الايصالية والارائية التفصيلية، وذلك أن الامام لا يكون حافظا للدين إلا إذا أمّنت جنبة المقام الغيبي، ويكون علي اتصال بالغيب فلا تصدر منه زلة علمية في تبيان مدارج الاحكام الشرعية، وبما أن الغاية هو تكامل الافراد إلي الكمالات المنشودة وهو نوع من الهداية الايصالية.

تقييم الدليل: … ص: 304

أن المتكلمين اقتصروا في اثبات الامامة في الانسان المجموعي علي قاعدة اللطف ولم يتناولوا جانب الهداية الايصالية مع انها لطف أيضا، وقد قمنا بتوسعة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 305

الدليل ليشمل هذا الجانب أيضا حيث أن العناية صفة من صفات الباري وأنه لطيف خبير «إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ».

ملاحظة عامة: … ص: 305

إلي هنا نلاحظ الارتباط بين الإمامة وبقية أصول الدين ففي الدليل الأول بينّا كيف الارتباط بين الامامة والنبوة، وفي الدليل الثاني بينا الارتباط بين الامامة وفطرة التوحيد وأن بوابة التوحيد هو الامامة، وفي الدليل الثالث بينا الارتباط بين الامامة والمعاد ودور الامام في عوالم ما بعد نشأة الدنيا، وفي الدليل الرابع انتقلنا من معرفة النفس إلي الامامة، وفي الدليل الخامس ننتقل من صفات الباري وإنها تستلزم الامامة.

وبتعبير آخر أن هذه الادلة ليست أدلة خطابية بل هي برهانية عرفانية في آن واحد أي ان ادراكها يحتاج إلي مقدمات فكرية من المعاني الحصولية وإلي ذائقة قلبية كي يدرك كنه تلك الأدلة الخمسة، ففيها مطالب علمية ممتزجة من العلم الحصولي والعلم الحضوري، والنكتة التي أردنا الاشارة إليها أن هذه الادلة الخمسة اللمية تدلل علي أن أصول الدين تقود إلي الامامة.

الدليل السادس: الأدلة الإنيّة … ص: 305

اشارة

وهو من الأدلة الإنية التي اعتمدها المتكلمون والتي تنطلق من احتياج الكل إليه وغناؤه عن الكل دليل علي إمامته، وعبر البعض عنه انه اجتمعت فيهم من الفضائل كلها، فهم احق بالامر بحكم العقل العملي، وبتعبير ثالث أنهم عليهم السلام المشار إليهم باشخاصهم وأسمائهم بحسب الجرد التاريخي وباعتراف كل الفرق والملل قد فاقوا نوابغ كل صفة في كمال تلك الصفة.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 306

تفصيل ذلك: … ص: 306

أن التاريخ يذكر أنهم قد وضعوا الحلول الناجعة لكثير من المعضلات الفكرية التي ابتليت بها الامة الاسلامية؛ كما في اشكالية صفات الباري حيث قالوا:

«لا تعطيل ولا تشبيه وإنما أمر بين أمرين»، فلا يجوز تعطيل الصفات والقول أننا لا ندرك شيئا من صفاته تعالي، كما لا يجوز التشبيه والقول أننا ندركه كما ندرك المحسوسات، وكذا نفي التجسيم ولوازمه عن ذات الباري، فقد كانت الاذهان عالقة بهذا الوهم. ونفي الجبر والتفويض وإثبات الاختيار في الافعال.

وهكذا في معالجتهم للمشاكل الفكرية التي انتقلت إلي الامة الاسلامية من الحضارات الأخري فتراهم يجعلون لها الحلول بنحوٍ لا يصطدم مع الاسلام وضرورياته، وموارد هذا شتي من التوحيد وصفات الحق تعالي، والعدل والمعاد والقضاء والقدر وما ورد من الشبهات حول نبوة الأنبياء عليهم السلام، وبقول ابن أبي الحديد في ذيل إحدي الخطب «لم تنتشر المعارف الالهية من غير هذا الرجل ولم يكن في الصحابة من تصور أو صور شيئا طفيفا من المعارف»، ونضيف علي مقولته تلك أن عباراتهم وحلولهم وحكمهم ظلت حتي يومنا هذا مدار بحث وتشييد لأنها تفوق ما توصل إليه السابقون من الفلسفة اليونانية ويستنير بهديها المتأخر ون من الفلاسفة.

* المرحوم الشاه أبادي يذكر: أنه في الصحيفة السجادية لفتات وحلول لمعضلات في عالم المعني والعرفان، بنحو لم يكن

مطروحا في العرفان الهندي الذي هو من أقوي وأقدم المدارس العرفانية لدي البشرية، ويشير إلي أنه في الادعية الأولي بحوث عديدة وغريبة ودقيقة في السير والسلوك أو في مقامات الهادي، أو مقامات الخلقة والتكامل الانساني ويعبّر عن ادعيتهم عليهم السلام أنها بمثابة القرآن الصاعد لما تحتويه من أسرار المعرف الالهية.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 307

فمثلا المتقدمون يجعلون الظاهر في قبال الباطن والأول في قبال الآخر، بينما الامام عليه السلام جعل الذات المقدسة هو الظاهر والباطن والاول والآخر، «فهو وحدة واحدة يستوي فيها الظاهر والباطن والأول والآخر»، وفي كتاب التوحيد في ما ذكره الامام الصادق عليه السلام تبيان إلي كيفية الدلالة علي ذلك.

* أن خضوعهم وعبوديتهم المطلقة للَّه عز وجل لا تجد لها مثيلا عند من عاصرهم أو تأخر عنهم.

* أن معجزة السماء الخالدة القرآن الكريم لم ولا يوجد في الساحة الاسلامية ترجمان له- بحيث يثبت للبشرية أن القران الكريم يغطي كل احتياجاتها وكل تساؤل يطرح علي وجه الأرض لم يتمكن احد من الاجابة عليه- سوي الامام مما يوضح وجود رابطة بينهم وبين القران، وهو ما سوف نثبته في المرحلة الثالثة في فقه الآيات.

* يضاف إلي تلك الادلة مقدمة مشتركة لا بد منها وذلك لأن الاقتصار عليها يثبت أن الائمة هم أليق الناس وافضلهم لادارة شئون الامة، لكن لا يثبت بها وجود مقامات أخري في حين اننا يمكن أن نستفيد من تلك الادلة لما هو أوسع من ذلك باضافة هذه المقدمة وحاصلها:

أن توافر هذه الصفات بهذا النحو في هؤلاء الاثني عشر إما أن يكون من باب الصدفة والاتفاق أو يكون بسبب وعلة.

اما الأول فباطل وذلك لأن القول به هو نفي لوجود اللَّه وذلك لأن الطفرة هي صدور شي ء

من شي ء من دون سبب وعلة والاتفاق عبارة أخري عن نفي السببية، وأن حيازة هؤلاء علي الريادة في الصفات الكمالية إن كان اتفاقا يعني أن يد اللَّه مغلولة، وأنه ترك الخلق كما خلقهم من دون هدايتهم والاتصال بهم.

فيبقي الثاني وأن وجود تلك الصفات فيهم لم يكن من باب الصدفة والاتفاق

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 308

بل أن هذا يدل علي عناية الهية وافاضة ربانية جعلت هؤلاء متصفين بتلك الصفات طيلة تلك السنين المتعاقبة والتي شهدت منافسين عدة حاولوا النيل منهم بشتي الطرق والوسائل، فتوجد في البين إفاضة ربانية للكمالات العلمية والعملية، وإن الوراثة بينهم ليست وراثة نسبية بل وراثة نورية تكوينية جعلت تلك الحقيقة الغيبية مستمرة بهم.

وبهذه المقدمة تكون تلك الادلة الإنية مثبتة للمقام الغيبي الذي نتوخاه في الامامة والذي يكون به عدل النبوة وسفارة إلهية.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 309

المبحث الثالث الامامة في القران الكريم … ص: 309

اشارة

إن الهدف الذي نتوخاه من هذه الدراسة هو فهم حقيقة الامامة ودورها في عالم الغيب بعد ان استوفي الباحثون حقيقتها في عالم الشهادة، ونعتمد في ذلك علي الآيات الكريمة التي تحمل معانٍ نورانية لنستوحي منها معاني تلك القناة المعصومة المرتبطة بالغيب.

وهاهنا ملاحظة مهمة: أنه يجب الالتفات إلي أن القرآن الكريم قد صدر من الحكيم العالم بخفايا الامور، والعارف بأساليب اللغة ومفرداتها، فالالفاظ المستخدمة في القرآن ليست قوالب لفظية شعرية وأدبية بغرض ابراز الجمال الادبي، بل إن وراء استخدام ألفاظ دون أخري أو صياغات معينة دون غيرها غاية وهدف ومعني يرمي إليه القران، وعدم فهم كلام الباري بهذا النحو يكون ابتذالا وتوهيناً للمعاني القرآنية وتزييفا لمعارفه ويخالف قوله تعالي «تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ» فليس المراد أن القرآن فيه تبيان للحقائق التشريعية فقط، بل أن القرآن فيه بيان للحقائق التكوينية

أيضا، كما يظهر من كثير من الآيات التي تذكر خلق العالم وسنن التكوين، وأن هذا القران الحامل لسبعين بطنا لا يجوز لنا أن نقف أمام الظاهر فقط بل يجب الغوص في حقائق معانيه وما تحمله الالفاظ من معارف، بل نجد أن البعض يقدس القرآن ويسلّم بعظمته لكنه عندما نلاحظ فهمه لآياته نجده يبتذل

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 310

معانيه ويقف عند حاق اللفظ والظاهر فقط جاهلا أن الالفاظ ليست هي الهدف والغاية، بل هي قنطرة للوصول إلي المعني المراد فيجب تجاوز منطق الادب وعلومه، فتنفتح أمام الانسان حينئذ تلك المعاني العالية الدقيقة التي تحتاج إلي موازين العقل والمنطق. وهذه نقطة نفترق بها عن العامة الذين حجبوا عن أعينهم تلك الأمور.

وقد قسمنا الآيات التي تتحدث عن الامامة إلي طوائف عدة نتناولها بالتفصيل.

الطائفة الأولي: … ص: 310
اشارة

استخلاف آدم، من الوقائع القرآنية العجيبة التي يحكي بها الحق تعالي بدأ الخلقة وكيفية خلق آدم عليه السلام وامر الملائكة بالسجود إليه، وهي من الآيات التي تحمل معانٍ كبيرة تدللنا علي موقع الامامة في الوجود الامكاني، ويمكن القول أنها تمثل البوابة لهذا البحث والعلامة الأم لهذا الموقع الإلهي. وقد تكرر ذكر هذه الواقعة أو مقاطع منها في مواضع كثيرة من القرآن في السور التالية:

1- سورة البقرة 2: 30:

«وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَي الْمَلَائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ

غَيْبَ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوْا لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَي وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتَما وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَافَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 311

وَمَتَاعٌ إِلَي حِينٍ فَتَلَقَّي آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».

وهذه السورة تحوي جميع مقاطع الواقعة منذ إخبار اللَّه الملائكة بخلق آدم وحتي هبوطه إلي الأرض.

2- سورة الكهف: 50:

«وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا».

3- سورة الحجر: 28:

«وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَي أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ».

4- سورة الاسراء: 61:

«وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ ءَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً قَالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَي يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا».

5- سورة طه: 115:

وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَي آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَي فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَي إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَي وَأَنَّكَ لَا تَظْمَؤُا فِيهَا وَلَا تَضْحَي فَوَسْوَسَ إِلَّيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَي شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّايَبْلَي فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَي آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَي ثُمَّ اجْتَبَاهُ

رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَي قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِنِّي هُديً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَي وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ …».

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 312

6- سورة الاعراف: 11- 25:

«وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكِةِ اسْجُدُوا لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِنَ السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ …»

7- سورة ص: 71- 75:

«إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ …»

وقبل الاستعراض التفصيلي لهذه الطائفة نذكر عدة ملاحظات:

1- إن هذه الواقعة العجيبة التي يذكرها اللَّه جلّ وعلا لعباده تحتوي علي معانٍ جليلة وعظيمة وتستحق وقفة مطولة.

2- إن ستة سور من التي وردت فيها القصة مكية، وسورة واحدة مدنية وهي البقرة.

3- إن العنصر المشترك المتكرر في كل هذه الموارد السبعة هو أمر الملائكة بالسجود لآدم وامتناع ابليس عن ذلك.

4- تمتاز سورة البقرة بورود نص الاستخلاف فيها ومناقشة الملائكة فيه، وهذا لم يتكرر في الموارد الاخري.

5- قد رتبنا السور المكية التي ورد فيها هذه القصة حسب النزول.

وسوف تكون دراسة هذه الحادثة في مقامات أربع:

أولًا: دراسة الألفاظ الواردة فيها … ص: 312

نبدأ بدراسة الواقعة كما وردت في سورة البقرة والتدقيق في المعاني الواردة فيها:

* الملائكة: وهو وإن كان جمع معرف باللام ويفيد العموم أي جميع الملائكة إلا أن بعض الروايات تشير إلي أنهم قسم من الملائكة لا أقل من نمط جبرئيل

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 313

وميكائيل واسرافيل وعزرائيل، لكن ادخال عنصر غيب السماوات والارض يدل علي أن الملائكة في الواقعة لم يكونوا صنفا خاصا منهم بل عموم الملائكة إذ أن ما غاب عنهم هو خاف علي كل السماوات والارض. كما ان الخطاب للملائكة بإخبارهم

عن جعلٍ عام وهو جعل الخليفة، ولم يخصص بآدم.

* في الارض: وفيه احتمالات ثلاث:

أ- أن تكون متعلقة ب (خليفة).

ب- أن تكون متعلقة بالضمير المستتر في (خليفة) لأنها مشتق.

ج- أن تكون متعلقة ب (جاعل).

فعلي الاحتمال الاول يكون المعني أن الخليفة مقيد في الارض، فدائرة الخلافة تكون محددة حينئذ بالأرض.

وعلي الاحتمال الثاني تكون دائرة الخلافة مطلقة غير محددة، والمستخلف مقيد بكونه أرضيا فهو انسان أرضي دائرة خلافته مطلقة غير محددة فتشمل كل عالم الخلقة.

وعلي الاحتمال الثالث فحيث أن (جاعل) تتعدي إلي مفعولين الاول (في الارض) والثاني (خليفة) فيكون المعني اخبارا من اللَّه عز وجل أن الذي هو في الارض قد جعلته خليفة علي نحو «جعلت الآجر بيتا».

أما الاحتمال الاول فهو بعيد حيث أن من البعيد جدا تقيد الخلافة في الأرض وذلك لمجموعة من القرائن نستوحيها من الآية نفسها:

أ- أن العلم الذي يمتلكه هذا الخليفة علم خاص يفوق علم الملائكة إذ أنه علم محيط بكل الاشياء حتي التي لا ترتبط بالواقع الأرضي- كما سوف نتبين ذلك لاحقا- فلو كانت خلافته محددة بالارض فما هو الحاجة لهذا العلم ثم ما هو الداعي لاظهار تفوق علمه علي علم الملائكة بخلاف ما إذا كانت دائرة الاستخلاف

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 314

غير محددة بالارض.

ب- إن إسجاد الملائكة لآدم يدل علي الهيمنة التكوينية للمطاع بإذن اللَّه، وهذه الطاعة وتلك الهيمنة إنما هي وليدة العلم بحيث أن الملائكة تستقي علومها منه كما سوف يأتي التدليل عليه، ومعلوم أن شؤون الملائكة ليست منحصرة بالارض بل بكل عالم الخلقة، فهذا يدل علي أن دائرة الخلافة غير مقيدة بالارض بل هي تشمل كل عالم الخلقة غايتها هذا الموجود كينونة بدنه هي في الارض.

وقد يستشكل أنه لو كانت خلافته

عامة لكل عالم الامكان فكيف يجعل متأخرا عن الملائكة أي كيف تتأخر خلقته عنهم؟؟ والجواب: ان خلقته غير متأخرة عنهم وأنما المتأخر هو وجوده الارضي أما أصل الخلقة فإنها لم تتأخر عنهم كما سيتضح ذلك لا حقا.

ج- استنكار الملائكة وتساؤلهم لم يكن دائرا حول دائرة الاستخلاف بل حول الموجود الارضي، فهي فهمت أن هناك ذاتاً في الارض سوف تكون هي الخليفة فجاء الاستنكار، وبعبارة أخري أن مقتضي كلامهم (أتجعل فيها من …) هو تعلق (في الارض) بالجعل.

د- إن مقتضي تقدم الجار والمجرور علي لفظة الخليفة، مع صلاحية تعلقه بالعامل المتقدم يعين تعلقه به وخلاف ذلك يحتاج إلي قرينة.

* أما بالنسبة إلي (جاعل) فإنها تأتي بمعنيين أحدهما بمعني موجد وهو يتعدي إلي معمول واحد، والاخر يعني الصيرورة وهو يتعدي إلي معمولين، والاقرب ان يكون الوارد هنا الثاني، ومعمولاه هما (في الارض) و (خليفة) وهذا يؤدي نفس المعني الذي نتوخاه وهو عدم تقييد وتحديد دائرة الخلافة في الارض.

إن اصل المعمولين مبتدأ وخبر فلو قدرنا المبتدأ (خليفة) والخبر (في الارض) فمقتضاه انه ليس في صدد جعل الاستخلاف بل هو أمر مفروغ منه، وأنما هو في

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 315

صدد الاخبار عن الجعل الارضي لهذا الخليفة، أما لو كان العكس فإنه يعني أن كونه في الارض أمر مفروغ عنه والجعل والاخبار عن الاستخلاف، والاول أنسب وذلك لأن مسائلة الملائكة هو عن كينونته في الارض وعن هذا القيد الذي يظهر انه مجهول بالنسبة إليهم.

ويحتمل أن يكون الجعل بمعني الايجاد فيأخذ معمولا واحدا، هو (في الارض) وخليفة صفة له، وقد يعترض عليه أن هذا التركيب يشبه قولك إني جاعل في البيت مسئولا أو إني جاعل في المؤسسة مديرا وهذا تقيد للمسؤولية

والادارة؟؟ والجواب: أن هنا مناسبة بين المؤسسة والادارة والبيت والمسئولية في حين أنها مفقودة بين الارض والاستخلاف، كما أن القرائن التي ذكرناها سابقا من التعليم والا سجاد وما يأتي من تعليم الاسماء كلها تؤكد علي ان الاستخلاف دائرته أوسع من الارض، ثم ان هذا الجعل مضافا إلي ظهوره في الاطلاق الزماني والتأبيد ما دام الموجود الارضي أن اعتراض الملائكة حيث يكفي في توجهه صدقه ولو بمقدار البرهة والفترة اليسيرة، فالتخطئة لهذا الاعتراض لابد ان يكون بنحو النفي والسلب المطلق له، وذلك بدوام وجود الخليفة ذي العلم اللدني ما دام الخلق البشري علي الارض.

* خليفة: والاستخلاف الوارد في القرآن علي نحوين: استخلاف عام لنوع البشر والهدف منه إعمار الأرض والعالم الكوني، والثاني استخلاف خاص وهو خلافة الاصطفاء وهي المقصودة هنا وذلك لأن الحق تعالي قد ربط هذا الاستخلاف بالعلم اللدني المحيط، ومثل هذا العلم ليس لدي نوع البشر بل لدي فئة خاصة منتخبة من البشر، ولكن هذا لا يعني الاختصاص بآدم بل قد يعم فئة من بني البشر، نعم هو لا يعم كل البشر.

والفارق بين الاستخلاف والنيابة والوكالة، أن هذه العناوين تقتضي وجود

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 316

طرفين أحدهما يتولي عن الآخر الفعل والعمل إلا أن دائرة التولي إذا كانت محدودة فتسمي وكالة ويتبع ذلك ضيق صلاحيات الطرف، وإذا اتسعت تسمي نيابة وتزداد صلاحيات الطرف، وإذا اتسعت أكثر تسمي ولاية، وإذا ازداد اتساعها تسمي خلافة و هي قيام شخص مقام آخر، فيقال خلف فلان فلانا أي حل محله، غاية الامر أنه في عالم الممكنات تكون بدلا عن فقد أي بعد فقد المستخلف في ذلك المقام، أما عندما تكون الخلافة عن الواجب فلا تكون عن فقد بل بنحو

الطولية، فاللَّه مالك الملك في السماوات والارض فهو يملك ويُقْدِر الملائكة علي شي ء، ولا هو فاقد للقدرة بل في عين تملكهم واقدارهم يكون مالكا وقادرا، فهذا الاستخلاف ليس هو التفويض الباطل بل هو اقدار وتمكين من دون تجافٍ وفقد.

فالمستخلف هو اللَّه عز وجل والخليفة يكون هو الرابطة التكوينية بين الذات الأزلية ومورد الاستخلاف، نظير الافعال الاختيارية التي يقدم بها الفاعل المختار المخلوق فإنها إقدار وتمكين من مالك الملوك واستخلاف فيها من دون عزلة ولا إنحسار لقدرة واجب الوجود.

وأخيرا فإن عنوان الخليفة غير عنوان النبوة والرسالة بل يكون أهم شأنا منها لأنه يقوم مقام اللَّه ويخلف اللَّه بخلاف العنوانين.

* قال: إني أعلم ما لا تعلمون.

إن اعتراض الملائكة يدل علي انهم تصوروا أن الهدف من ايجاد آدم هو اعمار الارض ولكن الآية تبين خطؤهم في فهمهم، ومحط اعتراض الملائكة أن من يصدر منه الافساد وسفك الدماء أي من يصدر منه الزلل والخطأ لا يتساوي مع من يكون معصوما عن الخطأ، فهم أحق بخلافته من هذا الموجود، وكان الجواب أن هذا الاعتراض منشؤه الجهل، حيث أن العصمة العملية ليست هي العاصمة فقط عن الزلل بل المهم هو العصمة العلمية التي تكون عاصمة حينئذ عن الزلل العملي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 317

أيضا، فالجهل العلمي هو الذي يسبب الوقوع في الاخطاء والزلل، ومن هذه الآية نعرف السر في حث القرآن علي طلب العلم واستخدام العقل حيث أن التقدّس والتعبد غير مانع وعاصم من الوقوع في الخطأ بل العلم التام والصحيح هو العاصم الأتم، وبذلك يمكننا القول أن سؤال الملائكة ليس اعتراضا فهم مسلمون للَّه وخاضعون إليه إلا أنه سؤال استفهامي ناتج عن عدم احاطتهم بكل شي ء فتصوروا أنهم أكثر أهلية لهذا

المقام.

* الاسماء: وهو جمع محلي باللام مفيد للعموم، والكلام في المراد من هذه الاسماء فذهب البعض إلي انها المعاني المختلفة، وبعض إلي أنها أسماء المعاني كلها، ولكن التدبر في الآيات الشريفة لا يساعد علي الاقتصار علي أيٍ منها وذلك:

- أن العلم بهذه الاسماء أوجد امتيازاً لآدم علي الملائكة وبه استحق الاستخلاف، وإذا كان هو ما ذكروه من المعلومات الحصولية فإن آدم بتعليمه للملائكة يصبحون في مستوي واحد، بل قد يكون تدبر اللاحق اشرف من السابق وعليه لا موجب لاستحقاق الافضلية لآدم علي الملائكة.

- أن الاسماء لو كانت هي اللغات وأسماء هذه المعاني المتداولة فإن الحاجة إليها إنما هو لانتقال المعاني والمرادات بين الناس، والملائكة ذات كمال أعلي وأشرف من ذلك فإنها تطلع علي النوايا من دون حاجة إلي الألفاظ فأي كمال تحصل عليه الملائكة في إنبائها بهذه الاسماء.

- أن هذه الاسماء أرفع من أن تصل إليها الملائكة مع تنوع شئونها ووظائفها حيث أنها جاهلة بها، خصوصا أن الملائكة كانت عالمة بشؤون الارض ولذا سألت عن هذا الموجود الارضي فلا يخفي عليها شأن من شؤون الارض، فلا بد أن تكون هذه الاسماء غير أرضية.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 318

- في الآية اللاحقة عندما عرض اللَّه جل وعلي المسميات أو الاسماء علي الملائكة أشار إليها باسم الاشارة (هؤلاء) وهو يستخدم للعاقل الحي الحاضر ولا يقال للمعدوم ولا للجماد، وكذا استعمل ضمير الجمع للعاقل (هم) في جملة (عرضهم) وفي جملة (انبأهم باسمائهم فلما انبأهم بأسمائهم).

- إن تميز آدم عن الملائكة ظل حتي بعد إنباء الملائكة بهذه الاسماء أو بأسماء الاسماء.

- إن آدم لم يعلم الملائكة بهذه الاسماء بل أنبأهم والإنباء غير التعليم إذ أن التعليم هو العيان الحضوري، أما

الانباء فهو إخبار بالعلم الحصولي.

- التعبير عن هذه الاسماء أنها (غيب السماوات والارض) فالاضافة هنا لامية وليست تبعيضية أي غيب للسماوات والارض لا أنه غيب من السماوات والارض أي ما وراء السماوات والارض وأنها كانت غائبة عن الملائكة بل خارجة عن محيط الكون.

وهذه القرائن والشواهد تدل علي حقيقة واحدة:

أن هذه الاسماء لمسميات و وجودات شاعرة حية عاقلة عالمة أرفع مرتبة وأشرف وجودا من الملائكة، بل هي اشرف من آدم لأنه بالعلم بها استحق الخلافة، فهي اشرف مقام في الخليقة.

* العلم: أن العلم الذي تعلمه آدم من قبل الحق تعالي لم يكن بالتعليم الكسبي الحصولي إنما هو بالعلم الحضوري، وهو نوع من الارتباط والرقي للروح إلي عوالم عالية حيث ترتبط الروح بتلك العوالم العلوية عيانا وحضورا، والحديث هنا ليس في مقام الرسالة والنبوة بل في مقام الخلافة وخليفة اللَّه.

إذن فالعلم المذكور هنا هو خارج حد الملائكة، لذا نفي التعليم عنهم حتي بعد إنباء آدم يدل علي ان هذا المقام هو غير مقام النبوة بل هو مقام الامامة والخلافة كما

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 319

ترتب عليه إطواع وإتباع الملائكة له.

ثم أن هذا التعليم لآدم كان قبل دخوله الجنة وقبل نزوله للأرض كما يتفق عليه المفسرون أي قبل أن يكون مقام النبوة لأدم، وقد يقال أن من إنبائه للملائكة يدل علي كونه نبيا لهم لكن هذا ليس من قبيل النبوة الاصطلاحية للأرض حيث التكليف والعمل، وإنما الانباء هاهنا من قبيل التعليم اللدني الذي هو فوق مقام الملائكة.

ويذهب البعض إلي القول أن الخلافة التي جعلت عنوانا لهذا الموجود هي خلافة عن النسناس الأرضي وهذا خطأ فاحش بل بقرينة الانباء المزبور هو مقام خلافة اللَّه عز وجل أي بمعني الاقدار من

قبله عز وجل.

ومما يدلل علي أن العلم الوارد ليس علم النبوة والرسالة أن في هذا العلم لا يحتمل واسطة ملكية بين اللَّه وبين آدم بينما في علم النبوة يحتمل واسطة الملك ويمكن وقوعها.

فهذه القرائن تدل علي أن هذا العلم الذي تعلمه آدم نحو من العلم الحضوري الخاص، وأنه استحق به مقام الولاية والرتبة التكوينية، وهو فوق مقام النبوة والرسالة.

* إن كنتم صادقين.

إن القرآن في حديثه عن الصدق يذكر له مراتب من مقام الصديقين والصديق وهذه المراتب ليس في قبالها الكذب الاصطلاحي، بل هي مراتب اشتدادية في نفس الصدق وقد أشرنا قبل إلي قوله تعالي «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلًا» حيث ذكرنا أن اللَّه أصدق من سيد الكائنات وهذا لا يعني أنه كاذب- والعياذ باللَّه- فالاصدق دوام كلامه وسعته أكثر من الآخر، والامر الذي نريد التأكيد عليه أن مراتب الصدق لا يقابلها الكذب فالآية لا تدل علي كذب الملائكة بل تشير إلي عدم واقعية ما

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 320

حسبوه وتوهموه.

وهناك روايات تبين كيف الطريق إلي أن يكون الانسان من الصديقين وهو مقام أوسع من الصدق الخبري والمخبري، فالذي يكون أكثر علما وأكثر احاطة يكون أصدق من الاقل علما وذلك لان الاول يكون علمه محيطا والآخر أقل احاطة فتأتي علومه غير مطابقة، فالمقصود أن المراد هنا من الصدق الاحاطة وعدمها لا المطابقة للواقع وعدمها.

ونظير ذلك ما تصف الروايات بعض آيات القرآن أنها أصدق من آيات أخري وأكثر احكاما وأكثر حقا، وهذا لا يقصد منه بطلان الآيات الاخري بل يقصد منه أن تلك الآيات اكثر احاطة بالواقع فتكون أصدق وأحق وأحكم.

فالملائكة في هذه الآية يخبرون عن أحقيتهم وأهليتهم للخلافة في الارض حيث انهم أنبئوا عن استحقاق ذلك لمن

تكون له العصمة العملية لا أنهم يخبرون عن واقع بل من باب المسائلة.

* الإنباء: بناء علي ما ذكرنا سابقا من أن استخدام الحق تعالي للالفاظ المختلفة ليس من باب التنوع اللفظي والنثر البلاغي، بل القرآن كتاب حقائق، وتغير اللفظ من موضع إلي آخر يدل علي تغاير في المعني الحقيقي المراد للحق تعالي.

فنلاحظ هنا أن الباري تعال أسند تعبيرين لهذه الاسماء أحدهما: وعلم آدم الاسماء كلها، والآخر: قوله للملائكة (أنبئوني) وأجابت الملائكة (لا علم لنا إلا ما علمتنا) فأمر آدم بانبائهم باسمائهم، فالارتباط بين الحق تعالي وآدم كان بالتعليم أما عندما أخبر آدم الملائكة كان بالانباء. وهذا التغاير يدل علي أن الملائكة لم ينالوا العلم الحقيقي بهذه الاسماء.

والسر في هذا التغاير هو أن التعليم عياني حضوري، والانباء إخبار من وراء حجب الصور والمفاهيم وما شابه ذلك، فإضافة آدم مع ربه من نحو العلم

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 321

الحضوري، وأما الاضافة بينه وبين الملائكة فهي اضافة انباء وهي درجة نازلة عن العلم، ومن القرائن علي تلك المغايرة:

- أن الملائكة لو كانت قابلة لتعليم الاسماء لأصبحوا في الشرف سواء مع آدم، ولما كانت لآدم مزية عليهم فالملائكة لم يستحصلوا علي ذلك العلم إلي آخر المطاف، خصوصا إذا لاحظنا أن الاهلية للخلافة غير منوطة بالاسبقية الزمانية للحصول علي العلم بل الاهلية هي بالعلم وهي حاصلة لآدم.

- فاطلاع الملائكة لم يكن بالعلم اللدني ولو كان كذلك لما كانت حاجة لانباء آدم.

فالخلاصة أن الملائكة بعد إنباء آدم أصبح لديهم علما حصوليا بتلك المسميات.

* غيب السماوات والأرض: ذكرنا في بحث الاسماء أن الاضافة في غيب السماوات هي اضافة لامية أي غيب للسماوات والارض، وقد جعل بعض العامة أن المراد بهذا الغيب هو ما

كتمته الملائكة لكنه غير تام وذلك لأن قوله تعالي «وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» «1»

من عطف المغاير زيادة علي الجملة السابقة إذ (ما تبدون) ليس من الغيب أصلا، وما كانت تكتمه هو أنها كانت تري أنه لا يوجد من هو أقرب منها إلي اللَّه كما يفهم من مفاضلتها ذواتها علي مطلق من هو غيرها من المخلوقات، فليس هذا المراد من غيب السماوات والارض بل المراد منه أمر ليس بجزء من السماوات والارض.

ومقابل الاضافة اللامية التبعيضية أي خصوص غيب هو جزء من السماوات والارض وهو ينطبق عل الكونية المستقبلية لكن المورد ليس من هذه الموارد التي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 322

تكون الاضافة تبعيضية، وذلك لأنه مقام اظهار قدرته تعالي واحاطته وعجز الملائكة، وتمام العجز أن هذه الاسماء أمور غائبة عن العالم السماوي والارضي خارج محيط الكون، ومما يبعد معني التبعيض وأن الغيب بمعني المستقبل الذي هو جزء السماوات والارض أنه قد عرضهم علي الملائكة فهي موجودات بالفعل لا مستقبلية، وهذا مما يعزز أيضا أن المراد غيب فعلي عن السماوات والارض، فإذن هي موجودات أحياء فعلية خارج إطار السماوات والارض.

* أية السجود: وفيها موقفان يجب التأمل فيهما، أحدهما: أمر اللَّه عز وجل الملائكة بالسجود لآدم، والآخر هو إباء ابليس واستكباره وكونه من الكافرين.

أما الامر الاول وهو السجود ففيه عدة نقاط:

- أن التساؤل يثار عادة هل أن السجود لغير اللَّه تعالي صحيح أم لا؟ وهذه مسألة كلامية فقهية نتعرض لبعض جوانبها ومن ثم نذكر ما يمكن استيحاؤه من الآية الكريمة.

ذهب بعض الفقهاء إلي أن السجود ذاتيه العبادة، فأينما وقع فهو عبادة فلا يجوز ايقاعه لغير اللَّه تعالي لأنه هو المعبود حقيقة، ولذا يذهبون إلي تأويل ما ورد في

القرآن الكريم من السجود لغير اللَّه تعالي إلي أنها تحمل علي مطلق الخضوع والخشوع لا اداء تلك الحركة المعينة، لأنه من المحال أن يأمر اللَّه تعالي بعبادة من ليس أهلا للعبادة فهو شرك وقبيح، ويستشهدون بما ورد من الأثر عن النبي صلي الله عليه و آله:

«لو كنت أمرا أحدا بالسجود لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها»، وهذا يعني عدم جواز الأمر بالسجود.

والجواب عنه: أن المستدل يستدل بوجهين أحدهما أن السجود ذاتيه العبادة، والآخر نهي الشارع عن السجود لغير اللَّه.

أما الاول: فكون السجود- لو كان بمعني الهيئة الجسمانية المخصوصة- ذاتية

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 323

العبادة أول الكلام، بل أن السجود مظهر ومبرز للعبادة وفرق بين الأمرين، والشاهد علي ذلك أن تلك الهيئة المعينة قد يوقعها الإنسان و مقصوده الرياضة أو الاستراحة أو أي أمر آخر، وهذا يدل علي أن العبادية فيها متقومة بالقصد لا أن الهيئة متي وقعت كانت عبادة، وعليه نقول أن تلك الهيئة لو وقعت بقصد الاكرام والاحترام لا بقصد الخضوع العبادي فلا تكون عبادة، وقد مورس هذا النوع من التكريم والاحترام في الشعوب القديمة حيث كان يسجد للسلطان والملك كما في عهد النبي يوسف عليه السلام، ولم يكن في البين عبودية وهذا يدلل علي أن تلك الهيئة ليست ماهيتها التكوينية العبادة، مضافا إلي أن أصحاب هذا الرأي لا يعتبرون الركوع عبادة مطلقا، ويجوّزون وقوعه لغير اللَّه إذا كان القصد منه الاحترام والتكريم.

وبعبارة أدق أن الخضوع تارة عبودي وأخري مطلق الاحترام والتكريم والتعظيم، والفارق بينهما أن الخضوع إن كان بقصد ان المخضوع له ذات واجبة الوجود بنفسه خالق متصف بجميع الكمالات بالذات فهو عبادة، وإن كان لا بقصد منتهي الخضوع ولا ان المخضوع له ذات مستقلة

الوجود فلا يكون عبادة.

بل أن القبح يزول عن هذه الهيئة عندما يكون الآمر إلي هذا السجود هو اللَّه عز وجل، بل يعد السجود لهذا الشخص هو منتهي الامتثال والخضوع لأوامر اللَّه، بل هو منتهي الفناء والابتعاد عن أنانية الذات، والحق تعالي عندما يأمر بالسجود لا يكون أمرا بمعني العبادة لغيره إذ أنه مستحيل، بل العبادة للَّه تعالي بتوسط الاحترام والخضوع لخليفته تعالي، وهذا ما توضحه كثير من الاخبار والآثار الواردة في ذيل السجود ليوسف عليه السلام، وفي آية «وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ» «1»

، إذ ليس

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 324

المراد السجود لبيت موسي بل هو سجود للَّه وإكرام واحترام للشخص.

أما الوجه الثاني: فابتداء ليتنبه إلي أنه غير الوجه الاول إذ أنه يتم ولو فرض التنزل بأن السجود ليس ذاتيه العبادة فهو منهي عنه من قبل الشارع ايقاعه لغير اللَّه. وبذلك لا نحتاج إلي تأويل آيات السجود في القرآن، بل بأن السجود بهذا المعني لم يكن محرما في شريعة يوسف وموسي عليهما السلام، وعلي كل حال نقول أن السجود بمعني العبادة لغير اللَّه منهي عنه من قبل الشارع.

أما الآية الكريمة التي نحن بصددها فإنه- علي ما ذكرنا- لا حاجة لتأويل السجود إلي معني الخضوع والاحترام وما معناه، ولا حاجة إلي القول أن السجود علي معناه الحقيقي ولا مانع منه لأنه لم يكن محرما إلا في شريعة الخاتم، لا حاجة إلي كل هذا بل نقول ان السجود لا مانع منه حيث لم يوقع بقصد العبادة.

مضافا إلي أنه لو كان منهيا عنه فيمكن أن يأمر اللَّه تعالي به في هذا الموضع ويكون تخصيصا للنهي العام عن السجود لغير اللَّه ولا مانع من تخصيص العام- علي الوجه الثاني- حيث أن السجود

كان تكريما لآدم، وقد أشارت الروايات من الفريقين إلي أن ابليس كان ومازال يستطيع التوبة بالسجود لآدم فلو سجد لتاب اللَّه عليه، وهذا من سعة حلمه تعالي بعباده إلا أن ابليس أخذته العزة بالاثم فأبي عن السجود.

2- ومن أجل الوصول إلي المعني المراد من السجود في الآيات الكريمة نستعرض عدداً من النقاط:

أ- نعيد التذكير بأن القرآن كتاب حقائق فعندما نلاحظ لفظ كرر عدة مرات فلا يمكن القول أن التعبير به أمر أدبي بل يكون إشارة إلي ماهية معينة أراد الحق تعالي إفهامها لخلقه وهذا هو ما ذكرناه سابقا في مقدمة البحث.

ب- عبر في آية 29 من سورة الحجر «فَقَعُوا» حيث لم يكتف بذكر مادة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 325

السجود بل عبر بالوقوع الفوري وهذا فيه نوع من التشديد والتأكيد لمعني الخضوع والتعظيم.

ج- أن حادثة السجود هي الحلقة المتصلة بين هذه السور السبعة فقد كررت في كل الآيات بخلاف بقية مقاطع قصة آدم.

د- أن لفظ السجود ومشتقاته تكرر كثيرا حتي في الآية الواحدة مثلا في سورة الحجر كررت 5 مرات وفي الاعراف 4 مرات وفي الاسراء وص كرر 3 مرات، وهذا التكرار لهذه اللفظة لابد له من وجه لا أنه مجرد التحسين اللفظي والأدبي، بل يدل علي محورية هذه الماهية وجعلها فيصلا بين الطاعة والمعصية.

ه- في بعض الآيات ورد التأكيد علي أن الامر بالسجود كان لجميع الملائكة ولم يكتف بدلالة الجمع المحلي بأل (الملائكة) بل أردف بالتأكيد ب (أجمعون) و (كلهم) للدلالة علي الاستغراق.

و- إنه عندما رفض ابليس السجود لآدم عبر عن ذلك «أَبَي وَاسْتَكْبَرَ» أي أن منشأ عصيان إبليس هو الإباء والاستكبار وفي مقابله طاعة الملائكة الذي يقابل الاباء والاستكبار وهو الانقياد والمتابعة والخضوع، فمعني السجود

المأمور به فيه زيادة علي معني الاحترام والتكريم بل هو اظهار لمطلق الانقياد (غير العبادي) لآدم، و ابليس لم يستكبر عن عبادة اللَّه في الصورة بل استكبر عن أمر اللَّه بالانقياد لآدم حيث زعم أن آدم أقل مرتبة منه.

ز- أن قوله تعالي في خطابه لابليس «مَالَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ» منطو علي ظريفة لا تحصل من التعبير بلفظ الملائكة أو الضمير ما منعك ان تكون معهم إذ وصفهم بالساجدين لبيان حالة الانقياد وهو السجود.

ح- نسبة آدم للَّه جل وعلا «وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي» فيها تشريف لأدم وأن خلقته وتسويته مباشرة من اللَّه من دون توسيط الملائكة.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 326

ط- يظهر من بعض الآيات الحاكية لهذه الواقعة أن الامر بالسجود وقع مباشرة بعد خلقة آدم من دون وجود تراخي «فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ» وهذا يدل علي التلازم والفورية وأن لا تمر فترة من بعد الخلقة من دون انقياد الملائكة به.

ي- أن تكرار هذا المقطع بالذات من دون بقية المقاطع فيه دلالة مؤكدة علي أن ما جري من الواقعة هو من باب المقدمة لهذا الأمر، وأن كل ما مضي كان اعداداً لها وبتعبير آخر أن المحاورة من إخبار الملائكة بالخلق وغيره كله جري تمهيدا وبيانا لمقام هذا المخلوق الجديد حتي لا يكون الامر بالسجود مفاجئا للملائكة ولا تنفر منه ذواتهم.

فهذه 10 قرائن وملاحظات عامة علي التعابير الواردة في هذا المقطع، أما ما يمكن استظهاره من المعاني في هذا الشأن فهو:

1- كما ان انباء آدم للملائكة تعبير عن الهداية الا رائية وأنه استكمال لهم لولاه لما حصل لهم ذلك العلم، فإن السجود لآدم هو تعبير عن الهداية الايصالية والمتابعة العملية التي بدونها لا

يحصل لهم أي كمال، وهذا الانقياد لم يكن لمجرد مخلوق بل إنما هو لمقام الخلافة الذي جعله اللَّه تعالي لآدم فلازم مقام الخلافة عند اللَّه هو متابعة وانقياد الملائكة والجن (بناء علي القول المشهور ان ابليس من الجن) وهذا هو مفاد الامامة وهي المتابعة العملية والعلمية والهداية الا رائية والايصالية، ويثبت بذلك أن شؤون الامامة ليست للناس فقط وإنما هي تشمل الملائكة والجن.

2- أن حدود إمامة آدم لا تقتصر علي البشر بل تشمل الملائكة والجن أيضا.

3- أن القرآن الكريم قد أثبت للملائكة وظائف وشؤون متعدد منها الحفظة، انزال الذكر، قبض الأرواح، نشر الرياح، اللواقح، المقسمات، نصرة الرسل

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 327

وتأييدهم، تسبيح اللَّه …

ونتيجة أن علمهم كان من آدم وأن عليهم متابعة آدم والانقياد له وأنه حاز مقام الخلافة فهذه كلها تدل علي أن لآدم الولاية التكوينية علي الملائكة، وتكون شؤون الملائكة كلها تحت يده وفي تصرفه.

4- أن خلافة آدم ليست خلافة مقيدة بل خلافة مطلقة ونستطيع أن نطلق عليها أنها خلافة اسمائية للَّه عز وجل وذلك لأنه بالعلم بالاسماء الشاعرة الحية العاقلة استحق مقام الخلافة، وأسماء اللَّه لها تأثير في عالم الخلقة حيث أنها حقائق حية واقعية مهيمنة، حيث أن أفعال اللَّه تعرف باسمائه وهي آثار وتوابع اسمائه فتكون بذلك كل القدرات الموجودة في عالم التكوين محاطة بها وهو ذلك المقام.

وبالطبع ليس هذا الثبوت بنحو التفويض الباطل العزلي بل هو اقدار من اللَّه سبحانه وتعالي في عين ثبوت القدرة المستقلة الازلية للَّه عز وجل.

الأمر الثاني: إباء ابليس

* إن من المسلم به أن ابليس كان في جمع الملائكة عندما خاطبهم اللَّه وأمرهم بالسجود لآدم، أما أن ابليس هل هو من الجن أو الملائكة فقد كان موضع خلاف

وتعبير القرآن أنه من الجن «كَانَ مِنَ الْجِنِّ» وهذا وإن كان له تفسيران أنه كان من الملائكة فصار من الجن وأن (كان) هنا بمعني صار، أو أن يقال أنه من الجن وإنما تواجد في جمع الملائكة لأن اللَّه جل وعلا، كان يكلفه بوظائف الملائكة وهذا نوع تشريف لابليس، والروايات الواردة تشير إلي أن لابليس قبل الامتحان مقاما رفيعا ويدل عليه انضمامه في الخطاب الموجه للملائكة، كما أن تشريفه بالخطاب الالهي يدلل علي أنه كان من الموحدين، والمؤمنين باللَّه وبعالم الغيب والمعاد «أَنظِرْنِي إِلَي يَوْمِ يُبْعَثُونَ» وأما انباء آدم للملائكة فقد كان حاضرا بمقتضي تواجده معهم.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 328

ومقتضي ذلك أن ابليس استحق الكفر لأنه لم يؤمن بالامامة، مقام خلافة اللَّه، وبالتحديد لعدم طاعته للَّه عز وجل في الائتمام والانقياد لمن جعله اللَّه اماما، ولم يذكر لابليس فعلا وعصيانا آخر استحق به هذا العقاب، وكانت النتيجة أن مصير ابليس هو جهنم وأن كل ما عمله قد ذهب سدي وهباء.

فهذا يثبت أحد معتقدات الامامية وهي ان النجاة مرهونة بالائتمام بخليفة اللَّه في ارضه، وقد وصف ابليس بالكفر وهو علي درجات، و يراد منه هاهنا الكفر الاصطلاحي الذي يقابل أصل الايمان ويستوجب الخلود في النار.

والكفر علي قسمين: أحدهما بحسب الواقع دون الظاهر، والآخر بحسب الواقع والظاهر معا، والظاهري هو ما عليه الكفار الآن، واما الأول فهو ما نشاهده من المقصرين الذين اطلعوا علي الادلة الحقة إلا انهم لم يؤمنوا «قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ» «1»

، فهؤلاء وإن كانوا في الظاهر غير كافرين إلا أنهم بحسب الواقع كافرون، ويعاملون في الآخرة علي طبق الواقع الحقيقي، وأما في هذه النشأة والدار

فيعاملون معاملة ظاهر الاسلام، فالامامة مرتبة من مراتب التوحيد والايمان فهي توحيد في الطاعة كما ذكرنا ذلك مرارا في الفصل الاول، وبالتعبير الوارد في هذه الواقعة رأينا أن الكفر أطلق في قبال الائتمام كما اطلق في مقابل الايمان والتوحيد.

* كما أننا نلاحظ أن من أصعب الامتحانات الالهية في العقيدة هو الايمان بالامامة حيث أن هذين الموجودين الملائكة والجن لا يظهر منهم أي تمنع من الاستجابة لنداء التوحيد والنبوة بخلاف الامامة وهو الانقياد المطلق لخليفة اللَّه والخضوع و السجود إليه حيث تمنع ابليس عن ذلك.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 329

وبتعبير آخر أن أكمل مراتب التوحيد والايمان هو الامامة أي أن بها تمام التوحيد لا بمعني أنها الأصل والباقي فرع.

ثانياً: الفوائد … ص: 329

بعد هذا الاستعراض للمقاطع الواردة في هذه الآيات الشريفة نستعرض الفوائد التي نقتطفها من هذه الآيات:

الفائدة الاولي: يمكن القول أن هذه الآيات تعتبر من أمهات الآيات الوارد ذكرها في قوله تعالي «هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ» وذلك لأنها تبين ركناً من أركان النجاة الاخروية، وتبين كيفية بدء الخليقة ومقام خليفة اللَّه.

الفائدة الثانية: أن المفاد الاجمالي هو استخلاف اللَّه عز وجل لخليفةٍ أحد مصاديقه آدم وهذه الخلافة مطلقة غير مقيدة بقيد وهي خلافة اسمائية كما بيناه.

الفائدة الثالثة: أن هذا المقام الذي يبينه الحق تعالي في هذه الآيات ليس مقام النبوة والرسالة وإن كان يتصادق معهما بل ينطبق علي مقام الامامة، وسوف يأتي مزيد بيان لهذه النقطة في شرح الخطبة القاصعة.

الفائدة الرابعة: أن الخلافة ليست محدودة في الارض وغير مقيدة بهذه النشأة وإن كان المستخلف ذات بدن وسنخه أرضيا.

الفائدة الخامسة: الذي يظهر من الآيات الكريمة أن آدم كان قد تلقي العلم اللدني قبل نزوله الارض بل قبل دخوله الجنة، وهذا يدفعنا للقول

أن الموجود الانساني حقيقته ليست جهته البدنية التي يحيا بها علي هذه الأرض بل إن له مدي أعمق من ذلك، وأن وراء تلك الحقيقة البدنية الأرضية حقيقة بعيدة عن عالم البدن هي الروح تكون- بشهادة قصة آدم- سابقة علي الوجود الأرضي مخلوقة قبل خلق البدن، وهذا هو المقدار الذي اتفق عليه كثير من الفلاسفة من لدن أفلاطون وحتي صدر المتألهين وإن اختلفوا بعد ذلك في كيفية التقدم وتفسير ذلك

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 330

التقدم وحدوثه أو قدمه علي نظريات مختلفة، لكن القدر المتفق عليه بينهم أن خلق الارواح كان قبل خلق الابدان بمعني ما، وإن عبّر المشاؤون بأنها حادثة بحدوث البدن.

فهذه الروح أيضا ذات درجات مختلفة تبعا لاختلاف درجات العلم كما يظهر من قصة آدم، ووجود هذه الروح يتلاءم مع تفسير العلم أنه من سنخ المجردات.

وأخيرا نود ان يسائل الانسان نفسه إذا كان تلك حال آدم وروحه المقدسة ودرجاتها العالية فكيف يكون الحال مع من تكون حقيقته الاسماء التي أشير إليها بلفظ (هؤلاء)؟!

الفائدة السادسة: أثبتنا سابقا أن ملاك استخلاف آدم هو العلم اللدني الذي تلقاه من الحق تعالي.

الفائدة السابعة: أن متعلق العلم الذي تلقاه آدم حقائق نورية حية عاقلة شاعرة جامعة للعلوم وهي غيب السماوات والارض، وما ورد في بعض روايات العامة والخاصة من أن المراد بالاسماء هي مسميات كل الاشياء في عالم الخلقة فهو لا يتنافي مع ما نذكره، وذلك لأن الفرض أن العلم بالمعلومات التي هي جوامع ومحيطة بما تحتها من مصاديق وأنواع وأجناس، فيكون متعلق العلم اللدني جامع كل العلوم وذلك بجنسية اللام.

الفائدة الثامنة: ان هذه الآيات تقودنا إلي ما يثبته الامامية من أبدية الخليفة علي وجه الارض ودوام وجود الحجة علي هذه

الأرض إلي أن يرث اللَّه الارض وما عليها. ويتضح ذلك من خلال تساؤل الملائكة عن الخليفة الارضي حيث أنها نظرت إلي الصفات السلبية، فأجاب الحق تعالي أنه يكفي في صحة الاستخلاف وجود انسان كامل تتمثل فيه الحقيقة البشرية، وهو حاصل العلم اللدني وهو خليفة اللَّه في أرضه، فلو فرضنا انتفاء ذلك الموجود الكامل علي وجه الارض فترة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 331

وبرهة زمنية ما لصح اعتراض الملائكة وتساؤلهم وأن ما ذكره اللَّه عز وجل غير متحقق- والعياذ باللَّه-.

الفائدة التاسعة: أن الروايات وردت أن الامامة سفارة ربانية الهية كالنبوة وإن لم تكن نبوة فآدم حل في مقام الخليفة والسفير وهو الحجة صاحب التعليم، وهم ينقادون إليه، فهو ينطبق عليه الحد الما هوي للامامة بدليل اكتمال الملائكة بالعلم الحصولي الذي حصلوا عليه وأنبأهم به آدم وبالانقياد إليه وإلا لما امرهم تعالي بذلك، فهو إمام الإنس والجن.

الفائدة العاشرة: أن الخلافة هنا لا تكون بعزل المستخلف عن الأمر بل هي خلافة مع وجوده تعالي ولا انحسار لقدرته تعالي، بل هو اقدار من جانبه لآدم والخليفة هنا حاو وجامع لصفات المستخلف بنحو التنزل في عالم الامكان لا أن الاستخلاف هو عين تلك الصفات.

الفائدة الحادية عشر: ذكرنا مرارا أن مراتب التوحيد لا تتم إلا بالمرتبة الأخيرة وهي التوحيد في الطاعة، ومن هنا نجد أن الروايات المختلفة لدي العامة والخاصة تشير إلي أن كفر ابليس ليس كفر شرك فهو لم يعبد غير اللَّه، وإنما كان جحده واستكباره عن توحيد اللَّه في مقام الطاعة وقد ورد في بعضها أنه طلب من ربه اعفائه من السجود لآدم وسوف يعبده عبادة لا نظير لها، وجاء الجواب من الحق تعالي: «إني أريد أن أطاع من حيث أريد

لا من حيث تريد» «1»

، وفي رواية اخري «إني أُريد أن اعبد من حيث أُريد لا من حيث تريد» «2»

، وهذه هي الضابطة المهمة في بحث الامامة فالامامة هي توحيد في عبادة وطاعة الباري من حيث يريد لا من حيث الذوات الاخري تريد.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 332

الفائدة الثانية عشر: أنه ورد في بعض الروايات عن أهل البيت عليهم السلام «الناس عبيد لنا» وهذه ليست عبادة ربوبية بل هي خضوع وانقياد وعبودية الطاعة ونكران الذات والانقياد المطلق للسفير الإلهي، وهذا التسليم هو الذي نستفيده من الاسجاد الوارد في هذه الآيات.

الفائدة الثالثة عشر: أن قبول الاعمال مرهون بالتولي لخليفة اللَّه وسفيره، وهذا نستفيده من الغضب الالهي الذي حل علي ابليس لامتناعه عن السجود كما أن عبادته السابقة ذهبت هباء لا اثر لها لعدم التولي والانقياد لخليفته، وقد أشرنا فيما سبق أن قبول الاعمال مرهون بالموافاة أي موت المكلف الحي علي موافاة التوحيد أي أن لا يكفر، وقد ذكرنا أن التوحيد المقابل للكفر الاصطلاحي أحد أركانه التوحيد في الطاعة أي تولي ولي اللَّه. وهذا الأمر الذي دلت عليه هذه الواقعة القرآنية مدلل عليه أيضا في علم الكلام والتفسير.

وبتعبير آخر أن الثواب علي الاعمال هو التكامل، والتكامل هو السير إلي المقامات المعنوية العالية والامام هو صاحب ذلك المقام الملكوتي الذي يسير بالنفوس في سيرها التكاملي من كمال إلي كمال.

الفائدة الرابعة عشر: أن الآية تثبت الولاية التكوينية، وذلك لأن سجود الملائكة لآدم كما ذكرنا لم يكن سجودا عباديا بل طاعتيا وهذا يعني إقداره عليهم، وهذا يعني ولايته علي أهل السماوات والارضين والغيب ومن ثم الاشراف علي كل عمل يسند إلي الملائكة في الكتاب المجيد.

ويجب الالتفات إلي أن المقصود بالولاية التكوينية

هي اقدار من عند الحق تعالي وفي طوله من دون أن يوجب ذلك حصر قدرته وعزله عن مخلوقاته ومن دون ان يؤدي إلي التفويض الباطل ومن دون أن يحيط المخلوق- الذي أقدره تعالي- بقدرة الباري، وحيثية الشرك ناشئة من عزله تعالي وحصر قدرته بل إن

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 333

الاعتقاد باستقلالية الممكن استقلالية تامة هو شرك وندية للَّه تعالي أما الاعتقاد بالطولية واقدار اللَّه وأن كل عالم الامكان هو في حضرته تعالي فهو ليس بشرك بل تمام التوحيد في الافعال.

إذن في هذه الآيات بيان لجانب من جوانب الولاية التكوينية وخصوصا إذا لاحظنا أن السجود قامت به كل الملائكة وليس بعضهم، بخلاف المواقف الأخري في الآيات الكريمة حيث أنه كان بمحضر بعض الملائكة كما يظهر من بعض الروايات، أما مقام السجود فإنه كان بحضور جميع الملائكة كما يظهر من (كلهم، اجمعون، اللام في الملائكة) ويؤيده ما ورد في الحديث أن جبرائيل لا يتقدم علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وفي كثير من المواطن يخاطبه الرسول صلي الله عليه و آله عن ذلك، فيعلله من أن اللَّه أسجدنا نحن أجمعون لآدم، وفي صحيح عبد اللَّه بن سنان عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: لما مات آدم عليه السلام فبلغ إلي الصلاة عليه، فقال هبة اللَّه لجبرئيل: تقدم يا رسول اللَّه فصل علي نبي اللَّه، فقال جبرئيل: إن اللَّه أمرنا بالسجود لأبيك فلسنا نتقدم علي ابرار ولده وأنت من أبرهم» «1».

الفائدة الخامسة عشر: يستفاد من جعل الخليفة سابقاً علي الخلق (أن الحجة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق) وهو تفسير لما ورد «لولا الحجة لساخت الارض».

الفائدة السادسة عشر: إن امامة آدم وغيره من خلفاء اللَّه وسفراءه مطلقة

وعامة للجميع- البشر والملائكة والجن- وهذا يستدعي بيان مقدمات:

- أشرنا في الفصل الثاني إلي أن الاستخلاف لبني البشر علي نحوين أحدهما:

استخلاف اصطفاء وهو مقام خليفة اللَّه والامامة، والثاني: الاستخلاف العام لنوع

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 334

بني الشر وفي هذا النحو اختلفت الآراء في الهدف من هذا الاستخلاف، فذهب جمع من العامة إلي أن الغاية من هذا الاستخلاف هو اعمار الارض تمسكا بظاهر قوله تعالي «هُوَ أَنشَأَكُم مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيَها» «1»

، ولكن في هذا الرأي مجانبة للحقيقة والواقع وذلك لأن ظاهر كثير من الآيات القرآنية تدل علي خلاف ذلك أو بالاحري تدل علي أن الغاية من الخلقة والاستخلاف في هذه النشأة لا ينحصر بالاعمار، وأوضح تلك الآيات «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» حيث فسرت العبادة بالمعرفة، فالغاية النهائية من الاستخلاف في هذه النشأة هو معرفة الحق تعالي حق معرفته وإطاعته وعبادته بل في قوله تعالي «إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَي السَّماوَاتِ … وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولًا» اشارة إلي ان الغاية من خلق الانسان ليس خصوصيته الارضية بل هو أمر أعمق غورا، وآيات تسخير المخلوقات له وأن أكرم الخلق هم بني آدم التي تدل دلالة قاطعة علي أنه حشد في هذا المخلوق من الامكانيات والطاقات لا يتناسب مع جعل الغاية هو اعمار جزء عالم الامكان.

- وبتعبير فلسفي عرفاني أن الانسان هو المظهر الجامع للاسماء الحسني، فمظاهر كل اسم من اسماء اللَّه الحسني يمكن أن تتجلي وتظهر في الانسان وفي أفعاله ودرجات وجوده بخلاف بقية الكائنات، ولذا يوصف الانسان بأنه مظهر الاسم الجامع اللَّه، وإن كان هناك أبرز أفراد البشر وهو النبي صلي الله عليه و آله في مظهر اسم الجمع (اللَّه)، أما بقية الافراد مظهر

العليم أو غيرها..

وعليه فالانسان أتم مخلوق وأشرف مخلوق وأكرم مخلوق، فمن غير الممكن أن يكون المخلوق بتلك الامكانيات والقدرات أن يخلق من أجل أمر سافل بل لا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 335

بد أن يكون لأجل شي ء أعلي وهدف أسمي.

وهذا الامر العقلي يتناسب مع ما ذكرنا من ظواهر الآيات القرآنية أن هدف الخلقة ليس هو مجرد اعمار الارض بل يجب ان يكون أمرا أسمي وأعلي، وأن المطلوب من الانسان غير الذي هو مطلوب من غيره، وهذا من باب الكشف الآني.

- أشرنا أيضا إلي أن حادثة السجود حضرها جميع الملائكة بدون استثناء والملائكة هي التي تدير الكون بأمر اللَّه تعالي ورتبتها تفوق كثير من المخلوقات، ومع ذلك فهي تنقاد لخليفة اللَّه فيظهر من ذلك أن الجن وما دون الجن تنقاد أيضا لخليفة اللَّه.

الفائدة السابعة عشر: من الامور التي ركّز عليها في قصة آدم هو مسألة خلق آدم من الطين، وأن اللَّه عز وجل تعمد إخبار الملائكة بذلك قبل أمرهم بالسجود، وهذا يدلل علي أمر مهم وهو أن الملائكة مع أنهم معصومون إلا أن تكاملهم ورقيهم يتوقف علي الامتحان والابتلاء- كما سوف تأتي الاشارة إلي ذلك في الخطبة القاصعة في نهج البلاغة- وذلك بالامر بالسجود مع علمهم انه مخلوق من طين وهو ليس من جنسهم وهذا فيه تشديد في الابتلاء والامتحان، وما ذلك إلا لأن الطاعة حينئذ سوف تكون خالصة للَّه لا شائبة فيها، فلو كان في خلق آدم مزية علي خلق الملائكة وكان له من النور ما يخطف به الابصار لكانت الطاعة مشوبة لا خالصة. وهذا يرشدنا إلي ما يجب أن تكون عليه الواسطة من كونها لمجرد الارشاد والعلامتية والحرفية للذات المقدسة، وأن لا يري فيها الانسان شيئا سوي

حرفيتها، ولهذا كان التنبيه الدائم علي الطبيعة الارضية لآدم.

فكمال التوحيد وتمامه هو بالائتمام وبه يتم الخلوص في العبادة وهذا ليس شرطا كماليا للعبادة بل يكون شرطا مقوما للتوحيد والعبادة، حيث يري أن كل ما

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 336

سوي اللَّه مخلوقا للَّه.

وإذا نظر إليها علي نحو الاستقلالية فإنها سوف تكون ربا، وحال الواسطة حال المعني الحرفي الذي إذا لوحظ في نفسه فلن ينبأ عن معني في غيره، وإذا لم يلاحظ كذلك فسوف ينبأ عن معني في غير ه ويؤدي الغرض منه.

ومن هنا يجب أن تكون الطاعة خالصة للَّه عز وجل لا يري فيها إلا وجه المعبود خالية من الزوائد والشوائب. وهذا لا يكفي فيه الخطور الذهني فقط بل يجب ان يري في نفسه حقيقة العبودية، والخلوص بهذا المعني نستفيده من هذه الآية، وأن ما جري لابليس أنه كان يري لنفسه استقلالية فقال «لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ» فهو رأي أن لا يليق بشأنه أن يسجد لآدم وهذا نحو من رؤية استقلال الذات ونفي للواسطة التي نصبها اللَّه أي نفي للحاظ الافتقار إلي الباري. ومن هنا يظهر ان الايمان أحد محاوره هو الامامة حيث فيها يظهر كيف يقوم الانسان باماتة الذات ودحر الانانية وأن عدم الاعتقاد بالامامة هو بداية الشرك.

الفائدة الثامنة عشر: والحديث حول نفس الوسائط حيث يجب أن يؤمن فيها معني الحرفية وهذا يعني أنهم لا يشيرون إلي ذواتهم وغرور ذاتهم بل هم في حالة خضوع وتذلل لباريهم، وهذا لا يكون إلا بعصمتهم العلمية والعملية، وذلك لأنه إذا نصب واسطة غير معصومة فإنها سوف لا تكون مشيرة إلي الحق تعالي وسوف تظهر نفسها، ولا تظهر عظمة اللَّه، ولدينا في بعض الروايات «أن

من حكم بغير حكم اللَّه فهو طاغوت».

وهنا يجب التدقيق في أن منشأ عدم حكمه بما حكم به اللَّه ما هو؟ والجواب:

هو غرائزه النفسية فذاته طغت علي ما يجب ان تكون عليه الذات الانسانية من حقيقة العبودية للَّه والحرفية له تعالي، وطاغوت صيغة مبالغة من الطغيان، وقال

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 337

في المفردات «أنه كل متعد، وكل معبود ما سوي اللَّه»، أي تعدي حدود نفسه ونظر إليها علي نحو الاستقلالية، والايمان بالطاغوت هو الايمان بذلك الطاغوت وهي الذوات التي ليس فيها اراءه للَّه عز وجل، إذن العصمة هي التي تؤمن لنا أن يكون الواسطة دائما مظهرا للَّه يطوع ارادته لارادة ربه في كل مكان ولا يري لنفسه شيئا.

فيجب علي العابد:

1- أن لا يلتفت إلي ذاته، وأن يري نفسه دائما مخلوقا.

2- أن تكون الوسائط حقة من عند اللَّه لا أن توسطها له من عند المخلوق بل توسطها منتسب إلي اللَّه ولا استقلالية لها في نفسها وأن الواسطة دائما في حالة خضوع وتذلل إلي اللَّه ولا تشير إلي نفسها ومن هنا كان التنصيب للواسطة من عند اللَّه، وكانت الواسطة معصومة حتي لا تري لنفسها مكانا سوي مكان الطاعة والخضوع للَّه عز وجل، بل يجب أن تكون في تمام شئوناتها حاكية عن اللَّه قال تعالي «مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِن دُونِ اللّهِ» «1»

.وإذا لم تكن الواسطة آية فسوف تكون حجابا «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّهِ» إذ من الواضح أن المسيحيين لم يؤلهوا أحبارهم وإنما كانوا مستقلين في أحكامهم يحكمون بهواهم ورغباتهم ولم يستقوها من عند اللَّه.

وفي كلام بعض أهل المعرفة والتحقيق عند شرحه للسفرين الاولين من الاسفار الاربعة قال: وفي هذين

السفرين لو بقي من الانانية شي ء يظهر له شيطانه الذي بين جنبيه بالربوبية ويصدر منه (الشطح) والشطحيات كلها من نقصان السالك والسلوك وبقاء الإنية والانانية، ولذلك بعقيدة أهل السلوك لا بد للسالك

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 338

من معلم، يرشده إلي طريق السلوك، عارفا كيفياته غير معوج عن طريق الرياضات الشرعية، فإن طرق السلوك الباطن غير محصور بل هو بعدد انفاس الخلائق «1».

والائمة عليهم السلام في حالة خضوع وخشوع وتضعضع للَّه دائما ومن اقترب منهم فقد اقترب من الحق تعالي لأنهم مرآة له وآيات له.

الفائدة التاسعة عشر: أن مقام سفير اللَّه وحجته احد شئونه النازلة هي الزعامة السياسية وأن غصبها منه لا تعني غصب مقام الامامة، وهي أدني شؤون الامامة، وقد أشرنا أن أعلاها هو الخلافة الاسمائية لاسماء اللَّه حيث يبين في الآيات أن استحقاقه لهذا المقام هو بتعلمه لهذه الاسماء فأدني الدرجات اعتبارية كما في نصبه في حديث الغدير وأعلاها تكويني.

الفائدة العشرون: أن الامامة أمر اعتقادي ومن أصول الدين وليست مسألة فرعية ويبتني عليه أن البحث فيها يكون ذا ثمرة خطيرة وليس بحثا متوسط من الفائدة، ولا تنحصر الفائدة منه في كونه مصدرا للاحكام فقط، بل المسألة اعتقادية كمسألة النبوة تناط بالتواجد الفعلي فيجب بحثها حتي مع غيبة المعصوم، كما أنها ليست مسألة فرعية يكون الحكم فيها دائرا مدار وجود الموضوع، ومن الغفلات الشديدة ان يقال أن البحث في الامامة لا محل له الآن.

وهذا الامر نستفيده من مقام الولاية علي الملائكة الوارد في الآية، وأن هذا المقام حقيقة تكوينية، ويحاول البعض من العامة الاستفادة من غفلة البعض ليعترض بأن الامام الثاني عشر غائب فما الفائدة من البحث في امامته وهذا الامر يؤثر علي المبني المتبع في تنظير

الحكم والحكومة في زماننا هذا، حيث أنه مع عدم وجود الامام فقد يقال بالشوري، وهذا كله غفلة عن حقيقة الامام و مقامه

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 339

التكويني وانه يتصرف في النفوس لا من باب الجبر وقد مضي البحث في هذا مفصلا.

الفائدة الحادية والعشرون: اثبات المعرفة النورانية وأنهم كانوا أنوارا لما تقدم من ان اسم الاشارة (هؤلاء) وضمير الجمع (هم) المتكرر ثلاث مرات، إنما يستعمل في الحي الشاعر العاقل وأن تلك المسميات غيب محيط بالسماوات والارض بالعلم باسمائهم استحق مقام الخلافة والتفوق علي الملائكة، فهذه المسميات موجود نوري أي حي شاعر لطيف منشأ للقدرة والعلم وكونهم أعلي وأرفع شأنا من آدم فضلا عن الملائكة، وفي الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام «إنه لا يستكمل أحد الايمان حتي يعرفني كنه معرفتي بالنورانية فإذا عرفني بهذه المعرفة فقد امتحن اللَّه قلبه للايمان وشرح صدره وصار عارفا مستبصرا،.. معرفتي بالنورانية معرفة اللَّه عز وجل، ومعرفة اللَّه عز وجل معرفتي بالنورانية وهو الدين الخالص الذي قال اللَّه تعالي «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ»» «1»

والحديث طويل يتناول فيه معرفتهم بالنورانية وشؤون الامامة وهو وإن كان حديثا مرسلا إلا أن مضمونه عال، وهكذا الرواية التي تليها من نفس الباب عن جابر بن يزيد الجعفي عن الامام السجاد والباقر عليهما السلام وهي كالسابقة عالية المضامين ويشير بعض الاعلام في ذيلها (إنما أفردت لهذه الاخبار بابا لعدم صحة أسانيدها، وغرابة مضامينها، فلا نحكم بصحتها ولا ببطلانها ونرد علمها إليهم عليهم السلام) وهذا عجيب منه قدس سره حيث أن أحاديث النورانية عنهم كثيرة في غير هذا الباب وليس فيها غرابة، انظر في بحار الانوار المجلدات

23- 24- 25 يذكر روايات كثيرة في بيان مقام الامامة التكوينية

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 340

وعلومهم اللدنية، وكذا من طرق العامة التي بمضمون «اول ما خلق اللَّه نور نبيك يا جابر».

وفي حديث طارق بن شهاب عن أميرالمؤمنين المروي في البحار 25: 169:

«يا طارق الأمام كلمة اللَّه و حجة اللَّه ووجه اللَّه ونور اللَّه وحجاب اللَّه و أية اللَّه يختاره اللَّه ويجعل فيه ما يشاء ويوجب له بذلك الطاعة والولاية علي جميع خلقه فهو وليه في سماواته وأرضه أخذ له بذلك العهد علي جميع عباده، فمن تقدم عليه كفر باللَّه من فوق عرشه» وهذه الموارد كلها قد ذكرناها في النقاط الماضية حيث أنه يكون حرفيا بالنسبة للَّه مشيرا إليه دائما وأن إمامته تشمل جميع الخلائق، و لا نريد الاسترسال في البحث الروائي وإنما اوردنا البعض فقط من باب التأييد لما يستفاد من ظهور الآية الكريمة، ومن أراد الاستزادة فعليه بما ورد عن الامام الرضا في الكافي حيث يزاوج بين مقامات الامام العالية وشئونه النازلة.

الفائدة الثانية والعشرون: إن اللَّه عز وجل بيّن موضوعية الواسطة والوسيلة وضرورة الأخذ منها فلا يقول قائل ملك مقرب أو عبد ممتحن وأنه يجب أن يكون كل شي ء عن طريقه، وفي نفس الوقت نؤكد أن تمام وجودها آية والاقتراب من الحق سبحانه هو بالواسطة ومن دون الواسطة سوف يكون كفراً إبليسياً وحجاب.

الفائدة الثالثة والعشرون: أن الملائكة علي عظم مقاماتهم وخلوصهم وصفائهم ونورانيتهم غير مؤهلين لخلافة اللَّه تعالي. الفائدة الرابعة والعشرون: أن اضافة الرب إلي ضمير الخطاب (ربك) يفيد ان هذه السنة الالهية في هذه الامة ايضا، بل ان صياغة التعبير المكرر في السور لهذه الواقعة آب عن الاختصاص بأمة دون أخري بل لنوع البشرية، هذا

مضافا إلي ما ذكرناه من أن عموم جواب الملائكة لدفع اعتراضهم يقتضي التأبيد ايضا.

الفائدة الخامسة والعشرون: أن مقتضي الجملة الاسمية واعتماد هيئة الفاعل في

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 341

الخبر الذي هو بمنزلة الفعل المضارع يفيد الاستمرار، ومقتضاه الحصر به تعالي في جعل هذا المقام.

الفائدة السادسة والعشرون: أن مقتضي مادة الخلافة تعطي تحلي الخليفة بصفات المستخلف لأنه ينوب في جهة ومورد الخلافة وإن كان في الباري الامر بلا عزلة ولا انحسار رباني ولا تفويض باطل.

ثالثاً: قراءة في الخطبة القاصعة … ص: 341

في قراءة للخطبة القاصعة التي يتناول فيها الامام عليه السلام مقامات الائمة ويتعرض لهذه الآيات:

«الحمد للَّه الذي لبس العز والكبرياء، واختارهما لنفسه دون خلقه وجعلهما حمي وحرما علي غيره واصطفاهما لجلاله وجعل اللعنة علي من نازعه فيهما من عباده».

ففي هذا المقطع نشاهد أنه انطلق من كون هذين الاسمين مختصين به تعالي لأن العز والكبرياء من لوازم الاستقلال وما عداه فهو خاضع له متذلل له، ومن ينازعه فيهما ويدعي له هاتين الصفتين فسوف يبعد عن رحمة اللَّه، ولا يخفي ما في الابتداء من براعة الاستهلال حيث يريد أن يبين في الخطبة حقيقة التوحيد والطاعة وأن لا استقلالية لأحد علي الاطلاق وسوف نشاهد أن هذا الامر هو السلك الذي تنتظم عليه فقرات الخطبة، وهو المنتهي إلي وجه ركنية الامامة في عقيدة التوحيد ونفي الشرك.

(ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين).

ثم أراد الباري اختبار ملائكته في التوحيد في الطاعة ليتميز المتواضع عن المستكبر ومنه يعلم أن التواضع جذره عقيدتي وليس مجرد أخلاق حيث أن المتواضع هو الذي لا يري لنفسه موقعا ومقاما ومكانا، ومنه ايضا يتبين أن الملائكة يعملون ويتكاملون لكن فرقهم عن غيرهم أن الملك لا يعمل بغريزة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 342

الشهوة والغضب،

واختبارهم يدلل علي أنه يفعل ما يفعل عن علم واختيار. ثم إن اختبار التوحيد- وهو اتصاف الباري فقط بالاستقلالية- هو في اتباع ولي اللَّه وهو كما أشرنا إليه مرارا أشق المقامات.

(وهو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب «إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ»).

ويوجد بحث بين الفلاسفة أنه هل لدي الملائكة علوما وصورا مرتسمة أم لا؟

العلامة الطباطبائي في الميزان والنهاية ينفي ذلك لكن ما في القرآن «وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» يدلل علي أن لديهم نوع من العلم الحصولي، ويركز الامام علي الصفة الطينية لآدم، وكذلك اجتماع (فقعوا) مع (السجود) حيث أن فيه زيادة في الاخضاع.

(اعترضته الحمية، فافتخر علي أدم بخلقه وتعصب عليه لأصله، فعدو اللَّه إمام المتعصبين، وسلف المستكبرين الذي وضع أساس العصبية ونازع اللَّه رداء الجبرية وادرع لباس التعزز، وخلع قناع التذلل).

فيشير الامام أن ابليس نازع اللَّه تعالي رداء الكبر الذي لا يحق لأحد إلا له سبحانه واعتقد لنفسه الاستقلال ورفض الانصياع لولي اللَّه، وخلع قناع التذلل فجحود خليفة اللَّه تعالي وحجته علي خلقه جذره ومنشأه كبر في الجاحد واستكبار علي امر اللَّه تعالي ورؤية استقلالية للجاحد في ذاته، وكانت عاقبته:

(ألا يرون كيف صغّره اللَّه بتكبره ووضعه بترفعه فجعله في الدنيا مدحورا وأعد له في الآخرة سعيرا).

وهذه هي نتيجة الكفر الابليسي وعدم الانصياع لاوامر اللَّه تعالي، وعاقبة من لا ينزل نفسه منزلتها ويري الانا دون خالقه.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 343

(ولو أراد اللَّه أن يخلق أدم من نور يخطف الابصار ضياؤه، ويبهر العقول روأؤه وطيب يأخذ الانفاس عرفه، لفعل، ولو فعل لظلت له الاعناق خاضعة ولخفت البلوي

فيه علي الملائكة ولكن اللَّه سبحانه يبتلي خلقه ببعض ما يجهلون أصله تمييزا بالاختبار لهم، ونفيا للاستكبار عنهم وإبعادا للخيلاء منهم).

فهكذا نري أن آدم لو كان في خلقه مبهرا للعقول لاستجاب له الملائكة لأنه بهرهم لا لأن اللَّه أمرهم بذلك ومن هنا كان امتحان الامامة أصعب الامتحانات وأشقها حيث يكون المعني حرفيا فقط دالا عليه وبه يكون التوحيد خالصا حيث لا يكون في اتباع الواسطة سوي حرفيته وآيتيته للَّه جل وعلا، فإذا نجح في هذا الامتحان الشاق واستطاع أن يكبح جماح ذاته وأناه فبها، وإلا لم تنفعه عبادته الماضية كابليس.

(فاعتبروا بما كان من فعل اللَّه بابليس إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد، وكان قد عبد اللَّه ستة ألاف سنة، لا يدري أمن سني الدنيا أم من سني الآخرة عن كبر ساعة واحدة، فمن ذا بعد ابليس يسلم علي اللَّه بمثل معصيته. كلا ما كان اللَّه سبحانه ليدخل الجنة بشرا بامر أخرج به منها ملكا).

ويتبين أن ابليس كان ملكا، كما يشير إلي ان القانون واحد بين أهل الارض والسماء وسير الكمال واحد وحكمه واحد.

«فاحذروا عباد اللَّه عدو اللَّه أن يعديكم بدائه، وأن يستفزكم بخيله ورجله، فلعمري لغد فوق لكم سهم الوعيد، وأغرق إليكم بالنزع الشديد …

فأطفئوا ما كمن في قلوبكم من نيران العصبية، وأحقاد الجاهلية، فإن تلك الحمية تكن في المسلم من خطرات الشيطان …

ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم! الذين تكبروا عن حسبهم وترفعوا فوق نسبهم، وألقوا الهجينة علي ربهم وجاحدوا اللَّه علي ما صنع بهم..

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 344

ولا تطيعوا الادعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم وخلطتم بصحتكم مرضهم، وأدخلتم في حقكم باطلهم، وهو أساس الفسوق وأحلاس العقوق اتخذهم إبليس مطايا ضلال وجندا بهم يصول

علي الناس وتراجمة ينطق علي ألسنتهم، استراقا لعقولكم ودخولا في عيونكم ونفثا في أسماعكم، فجعلكم مرمي نبله وموطئ قدمه ومأخذ يده».

فهذا تحذير منه عليه السلام من عدوي داء ابليس إليهم، ودائه هو عدم التسليم لخليفة اللَّه تعالي والكبر عن طاعة اللَّه في امره بطاعة حجته، وترفع ذاته عن الخضوع لأمر اللَّه بمتابعة خليفته، وأن ابليس أخذ علي نفسه إغواء البشر بنفس الغواية التي ابتلي بها، وإخباره عليه السلام بأن قد وقع منهم تأثر بعدوي ابليس، وهذا إشارة إلي ترك الناس الائتمام بإمامته عليه السلام بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، وأن سبب ذلك الحمية الجاهلية التي يسعرها ابليس في قلوبهم ايجادا للكبر والاستكبار عن متابعة وطاعة خليفة اللَّه تعالي، وأن دواء هذا الداء هو التواضع، ثم يشير مرة أخري إلي وجود من هو مبتلي بهذا الداء في هذه الأمة ومتابعته لكبرياء ابليس وجحود حجة اللَّه تعالي وأن عليه الوزر والآثام إلي يوم القيامة، ثم يقتبس عليه السلام من القرآن قوله تعالي «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ» الوارد في سياق ذم محترفي النفاق في الامة وتحذيرهم بأنهم لاستكبارهم بحمية وفخر الجاهلية عن طاعة خليفة اللَّه تعالي في أرضه، إذا تقلدوا زمام الامور امعنوا في الغي وافسدوا في الارض إلا انه عليه السلام يخبر عن تحقق ما حذّرت عنه الآية الكريمة.

ثم انه عليه السلام يحذّر الناس من طاعة واتباع الذين تكبروا عن طاعة أمر اللَّه في خليفته في ارضه وحجته علي عباده الذي هو كبر ابليس أيضا، ووصفهم بأنهم جحدوا اللَّه، وكابروا قضائه … ومن هنا يتبين ان هذه الخطبة أصرح من الخطبة الشقشقية في بيان زلة طريقة القوم.

(فاعتبروا بما

اصاب الامم المستكبرين من قبلكم من بأس اللَّه وصولاته ووقائعه

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 345

ومثلاته، واتعظوا بمثاوي خدودهم، ومصارع جنوبهم..

فلو رخص اللَّه في الكبر لأحد من عباده لرخص فيه لخاصة انبيائه، ولكنه سبحانه كره إليهم التكابر …

فإن اللَّه سبحانه يختبر عباده المستكبرين في انفسهم، بأوليائه المستضعفين في اعينهم، ولقد دخل موسي بن عمران ومعه أخوه هارون- صلي اللَّه عليهما علي فرعون وعليهما مد ارع الصوف وبأيديهما العصي …

ولو اراد اللَّه سبحانه لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان، ومعادن العقيان … ولو فعل لسقط البلاء وبطل الجزاء واضمحلت الانباء ولما وجب للقابلين أجور المبتلين ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين ولا لزمت الاسماء معانيها ولكن اللَّه سبحانه جعل رسله أولي قوة في عزائمهم وضعفا فيما تري العين من حالاتهم مع قناعة تملأ القلوب والعيون غني، وخصاصة تملأ الابصار والاسماع أذي.

وكلما كانت البلوي والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل).

فيستعرض عليه السلام استكبار الامم الماضية وكيف آل مصيرهم، ومن المعلوم أن أكثر استكبارهم كان علي أنبياء اللَّه حجه استصغارا لهم، وهو عين الاستكبار والجحود الابليسي، ثم وصف عليه السلام حالة موسي وهارون عند دخولهما علي فرعون من حالة التواضع والمسكنة زيادة امتحان اللَّه لفرعون إذ لو بعث اللَّه انبياءه بالقدرة المهيبة والسطوة الشديدة لسقط البلاء وبطل الجزاء ولكان الايمان عن خوف القوة أو رغبة فيها لدبّ الشرك في النيات، ولكان التسليم ليس للَّه تعالي وحده، فمن ثم يظهر وجه التناسب الطردي بين شدة الامتحان وشدة الخلوص في التوحيد، وهذا يتجلي بوضوح في رسل اللَّه تعالي وخلفائه حيث انه تعالي أراد أن يكون الاتباع لرسله والاستكانة لأمره له خاصة أي التذلل له تعالي في كل من التابع وهم البشر والمتبوع

وهم الرسل والحجج، فيصفي الامر عن أي كبر وإدعاء استقلالية في البين

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 346

لأن الكبر هو دعوي المخلوق الفقير الغني والاستقلال عن الباري بأي نحو كان.

(ألا ترون أن اللَّه سبحانه اختبر الاولين من لدن أدم صلوات اللَّه عليه إلي الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضر ولا تنفع ولا تبصر …

ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام ومشاعره العظام بين جنات وانهار وسهل وقرارٍ جم الاشجار داني الثمار ملتف البني متصل القري بين برة سمراء وروضة خضراء وأرياف محدقة وعراص مغدقة وزروع ناضرة وطرق عامرة لكان قد صغر قدر الجزاء علي حسب ضعف البلاء

ولكن اللَّه يختبر عباده بأنواع الشدائد ويتعبدهم بأنواع المجاهد ويبتليهم بضروب المكاره إخراجا للتكبر من قلوبهم وإسكانا للتذلل في نفوسهم وليجعل ذلك أبوابا فتحا إلي فضله وأسبابا ذللا لعفوه …

فاللَّه في عاجل البغي وأجل وخامة اللم وسوء عاقبة الكبر فإنها مصيدة إبليس العظمي ومكيدته الكبري …

انظروا إلي ما في هذه الافعال من قمع نواجم الفخر وقدع طوالع الكبر).

يتعرض إلي وجود هذا السلك التوحيدي الجامع لكل أبواب الشريعة فيتعرض إلي وجود هذه الحكمة في الحج إلي بيت اللَّه الحرام وأن ضروب المشقة في السفر وأداء الاعمال ووعورة المسالك كل ذلك اختبارا بالشدائد وأنواع المجاهد ليخرج التكبر من قلوبهم واسكانا للتذلل في نفوسهم، إذ حالة التكبر شرك وندية لذوات البشر مع باريهم وخروج منهم عن طورهم وواقعهم وهو الفقر لباريهم بخلاف حالة الذل في النفس فإنها حالة توحيد وخضوع لتسليم الذوات حينئذ بالفقر للباري وأن الغني والعز خاص به تعالي.

ثم انه عليه السلام يبين وجود هذه الحكمة ايضا في بقية الفرائض في الصلاة والزكاة والصيام مع ما فيها من الحكم الاخري من

انها تسبب خشوع أبصار البشر، وتسكنّ

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 347

أطرافهم، وتذلل نفوسهم، وتذهب خيلاءهم، وأنها دواء عن السموم القاتلة لابليس وهي الكبر الذي وصفه عليه السلام بأنه مكيدة ابليس الكبري.

(ولقد نظرت فما وجدت أحدا من العالمين يتعصب لشئ من الاشياء إلا عن علة تحتمل تمويه الجهلاء او حجة تليط بعقول السفهاء غيركم فإنكم تتعصبون لأمر ما يُعرف له سبب ولا علة، أما ابليس فتعصب علي أدم لأصله وطعن عليه في خلقته … واما الاغنياء من مترفة الامم فتعصبوا لآثار مواقع النعم..

فإن كان لا بد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد الافعال ومحاسن الامور …

فتعصبوا لخلال الخمد من الحفظ للجوار والوفاء بالذمام والطاعة للبر والمعصية للكبر والاخذ بالفضل والكف عن البغي والإعظام للقتل والإنصاف للخلق والكظم للغيظ، واجتناب الفساد في الارض

واحذروا ما نزل بالامم قبلكم من المثلات بسوء الافعال وذمم الاعمال فتذكروا في الخير والشر أحوالهم واحذروا ان تكونوا امثالهم …

وتدبروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء، ألم يكونوا اثقل الخلائق أعباء وأجهد العباد بلاء وأضيق أهل الدنيا حالا … ألا وقد قطعتم قيد الاسلام وعطلتم حدوده وامتم أحكامه).

ثم انه عليه السلام يبين أن العصبية وليدة الكبر والاستكبار علي اختلاف الوانه وأقسامه، وأن الحريّ بالانسان أن يتعصب للفضائل والمكارم المحمودة.

ثم أنه عليه السلام بين أن النصرة والعزة لأي أمة من الامم لا تكون إلا بالولاية فإنه بها يذهب تشتت الألفة وتزول اختلاف الكلمة والافئدة، وكذلك كان حال ولد اسماعيل وبني اسحاق وبني اسرائيل، حيث كانت الا كاسرة والقياصرة غالبين لهم قاهرين عليهم، إلا انه بنعمة اللَّه عليهم حين بعث رسولا إليهم انتظمت به ملتهم

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 348

وطاعتهم وألفتهم واغدقت عليهم

البركات فعادوا قاهرين بعد ان كانوا مقهورين، وغالبين بعد ان كانوا مغلوبين، ولكنهم- بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله- سرعان ما تركوا حبل الطاعة والولاية وهدموا حصن اللَّه تعالي بأحكام الجاهلية وصاروا بعد الهجرة أعرابا، وبعد موالاتهم لولي اللَّه أحزابا، لم يبقوا إلا علي ظاهر الاسلام يرفعون شعار النار ولا العار، إلي ان تمادي بهم الامر أن قطعوا قيد الاسلام وعطلوا حدوده وأحكامه.

(ألا وقد امرني اللَّه بقتال أهل البغي والنكث الفساد في الارض، فإما الناكثون فقد قاتلت وأما القاسطون فقد جاهدت، واما المارقة فقد دوخت …

أنا وضعت بكلاكل العرب وكسرت نواجم قرون ربيعة ومضر …

ولقد قرن اللَّه به صلي الله عليه و آله من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن اخلاق العالم ليله ونهاره.

ولقد كنت اتبعه اتباع الفصيل أثر امه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما ويأمرني بالاقتداء به ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه، ولايراه غيري ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وخديجة وأنا ثالثهما، أري نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة. ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلي الله عليه و آله، فقلت: يا رسول اللَّه، ما هذه الرنة؟ فقال: هذا الشيطان، قد أيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع، وتري ما أري، إلا أنك لست بنبي ولكنك لوزير، وإنك لعلي خير …).

فبعد ما بين عليه السلام أن قوة الامة وعزها بموالاة ولي اللَّه وخليفته في أرضه وأن هذه الموالاة تذلل في النفوس وتواضع للباري تعالي سبب لنزول الفيض الالهي والبركات والنعم وأن بدون موالاة حجة اللَّه تعالي في أرضه

تدب الفرقة والاهواء والاحزاب لكون ذلك عن كبر في النفوس واستكبار وهو منشأ نزاع كل منهما مع الآخر، بعد هذا كله، أخذ عليه السلام في بيان الادلة والبراهين علي تقلده لمقام خليفة اللَّه

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 349

في أرضه وحجته علي عباده بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله من بيان الصفات الخاصة التي يتحلي بها سواء للتربية السوية أو الاهلية الروحية الخاصة به حيث يري نور الوحي والرسالة ويسمع المغيبات حتي قال له رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أنك تسمع ما اسمع وتري ما أري … إي أنه قد أوتي مؤهلات العلم اللدني، ثم يبين أنه اول السابقين إلي الاسلام وأنه معصوم من الزلل والخطل، وأنه أقرب واشد الناس اتباعا لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله وغيرها من الصفات التي تشير إلي تقلده الخلافة الالهية.

وبهذا يختم خطبته عطفا علي ما بدأ من أن كمال التوحيد وتمام الاخلاص هو بموالاة ولي اللَّه وطاعته كما في سجود الملائكة لآدم ولذلك كفر ابليس اللعين ودحر باستكباره عن ولاية خليفة اللَّه.

وبذلك يفصح عليه السلام عن وجه هذه الواقعة القرآنية التي تكررت في سبع سور من القرآن الكريم، كما أنه عليه السلام افصح عن حقه وغصب القوم له، ومن بديع الحكمة الذي أظهره عليه السلام أن يبين كيفية كون الصفات الخلقية هي جذر الافعال. وان الاعتقادات جذر للصفات الخلقية، أي ان كل فعل صادر من الفاعل المختار منشؤه صفة خلقية في نفس الانسان وهي منشؤها أمر اعتقادي يبطنه الفاعل ذو الصفة المعينة وهذا يفسر موالاة ولي اللَّه وخليفته في أرضه وعدم موالاته أنهما يتسببان عن التواضع في النفس في الموالي والمنقاد، والكبر في الجاحد والمنكر، وأن التواضع

متسبب عن خلوص الشخص لربه أي خلوص توحيد لربه عن الشرك بإقامة ذات نفسه ندا لخالقه، والكبر كفر وجحود وشرك لاقامة المتكبر ذات نفسه مستقلة علي غير ما هي عليه من الحد الواقعي من الفقر للَّه تعالي.

ومن ثم يتبين أن الولاية لخليفة اللَّه في ارضه علي أصعدة ثلاث في الفعل وفي الخلق بالمحبة له، وفي الاعتقاد بالاذعان أنه مجعول من قبل الباري.

وهكذا نري الامام يتدرج من الكفر الابليسي إلي الكفر في النبوة ثم الكفر في

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 350

الافعال يري أن جذرها كلها واحد هو الانصياع إلي الانا وعدم تسليم النفس للَّه الواحد الاحد وعدم الانصياع لأوامره وأن كل شي ء ذائب فيه وأن لا استقلالية لأحد بل كل في سبيله ومن أجله وكل آية له سبحانه، و أخيرا يصل إلي الاخلاق وأن منشأ جميع الرذائل يرجع إلي الكبر ومنشأ كل الفضائل يرجع إلي الخضوع، والامام في كل هذا يربط بين اقسام الكفر ويرجعها إلي الاصل الواحد.

رابعاً: عصمة آدم … ص: 350

معصية آدم وإخراجه من الجنة، وهذه من المسائل المهمة التي كثرت فيها الاقوال والآراء وزلت الاقدام من القديم وحتي يومنا هذا، وخصوصا أن القران قد عبر «وَعَصَي آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَي»، فكيف يتناسب هذا التعبير مع غيره من نسبة زلة الشيطان لآدم الذي له تلك المقامات العالية والخلافة عن الحق تعالي وهي خلافة اسمائية، وهذا له جواب نقضي وحلي.

أما الجواب النقضي فهو: أن الواقعة تحكي نوع من المخالفة للملائكة مع أنهم معصومون ولا يعصون اللَّه ما أمرهم، وذلك عندما قال لهم الحق تعالي «إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» فإن فيها نوع من التأنيب فأي جواب يذكر للملائكة فيتجه لآدم، ثم إن المكان الذي يجب أن يكون فيه هو الارض وان فعله هذا لم

يؤثر علي مقامه وخلافته بدليل رد الاعتبار الذي حصل له بالتوبة، وأن الذي فقده هو الخروج من الجنة ولا يعلم أن هذا عقاب حيث أن آدم مخلوق أرضي أصلا، ثم ان الانزال للأرض ليس فيه عقاب بل هو نوع من التكريم لأنها دار الحصاد وفيها الابتلاء والتكامل والسعي نحو الآخرة، وهذه الجنة التي كان فيها ليست جنة الخلد بل هي أقل شأنا من جنة المأوي والآخرة وذلك لأن الخلود في الأخيرة، وهذا كله شاهد علي ان الهبوط للارض ليس فيه توهين لآدم.

اما الجواب الحلي:

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 351

1- أن الحق تعالي يتعرض في حديثه عن الانبياء دائما إلي جنبتهم البشرية وأنهم مخلوقون له، وان كمالاتهم بالنسبة إليه ناقصة ومحدودة كما يتعرض إلي كمالاتهم الغيبية التي يفوقون بها علي البشر، وهذا ليس لأجل بيان عيوبهم ونقائصهم بل لأجل بيان أنهم ليسوا بآلهة يعبدون من دون اللَّه بل هم عباد مكرمون محتاجون إلي اللَّه، وحتي الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله الذي لا خلاف في مقاماته ومنزلته فإن القران يركز علي بشريته، كما يركز علي مقاماته الغيبية «قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَي إِلَيَّ» «1»

ففي الحين الذي يؤكد علي مماثلته لهم بالبشرية يؤكد علي اختلافه معهم بالمقام الغيبي وهو الارتباط بالوحي والعوالم الإلهية، حتي لا يعبد من دون اللَّه فهم بالاضافة إلي بارئهم محدودين كمالاتهم ناقصة ولكن بالاضافة إلي ما سواهم فهم المعصومون الانبياء الواجب اتباعهم واتخاذهم قدوة. وهذا كله لأن الواسطة- في الحين الذي هي ضرورة لا بد منها- يجب أن يتوفر فيها خاصية الوساطة لا خاصية الحجاب.

وبتحليل آخر يشير علماء النفس إلي أن الانسان يجب ان يستشعر في نفسه النقص فإذا أحس به سار

وسعي نحو الكمال، ولذلك كانت العبادة- أي اصل العبادة- تكاملًا لكن المتعلقة بالمعبود الحقيقي، وحيث كان الانبياء هم قدوة المخلوقات فيجب أن يشعر الناس فيهم كلا الجنبتين، يرونهم أعلي منهم شأنا وأرفع منزلة من جهة الهدي الخارق والافعال التكوينية الخارقة ليستشعر الانسان النقص في نفسه فيسعي نحو الكمال الذي يراه، ويجب في نفس الوقت أن يلحظوا فيهم جنبة النقص والحاجة للَّه وانهم مخلوقون مثلهم حتي لا يكونوا حجابا دون الحق تعالي فيظهر الحق تعالي جانب النقص فيهم من خلال بعض

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 352

الافعال ويكون جانب النقص بالاضافة إلي من هو أعلي رتبة منه لا بالنسبة إلي من هو دونه ممن يكون لهم إماما، فالانبياء والائمة في حركة إلي اللَّه تعالي.

2- الجواب الآخر المذكور في بعض الروايات أن النهي في عالم الجنة ليس هو نهي تكليفي حيث أن الجنة ليست دار تكليف إذ التكليف مقارن مع الكمال والعقاب والثواب وبالتالي لا تكون معصيته معاقباً عليها كما في عالم الارض، مضافا إلي ان هذه الجنة كانت مختصة بأحكام خاصة منها أن لا تجوع ولاتعري، ومن المتفق عليه بين العامة والخاصة أن المخالفة ليست لعزيمة وليس لها عقوبة أخروية.

3- أن الآية تدل علي ان هناك مقامات ورتب و مدارج في الامامة وهي تلك الوجودات الحية النورية الشاعرة التي عرضها علي آدم وهي بالتأكيد غير الذات الالهية المقدسة ونسبتهم لآدم كنسبة آدم لبقية الخلق.

الطائفة الثانية: آيات الكتاب … ص: 352

وهي كل آية ورد فيها لفظ القرآن أو الكتاب، وعمدة البحث في آيتين الاولي: «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَي بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ» «1»

.الثانية: «أَفَمَن كَانَ عَلَي بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَي إِمَاماً وَرَحْمَةً

أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ» «2»

.والبحث في الآية الاولي ويقع في أمور:

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 353

1- في شأن النزول المعروف أن سورة الرعد مكية وإن ادعي البعض أن خصوص الآية التي هي مورد بحثنا مدنية، علي أساس ان المقصود من (من عنده علم الكتاب) هم اهل الكتاب وهؤلاء أسلموا في المدينة، وهذا ليس بشئ لان الاتفاق علي نزولها في مكة.

كما أن السورة كأغلب السور المكية واردة في بيان التوحيد والرسالة والرسول وتأكيد أن الرسول حق من عند اللَّه عز وجل، وقد ورد فيها لفظ الكتاب 7 مرات، والآية واردة مورد الاحتجاج مع الكفار حيث ظلوا يجحدون بآيات اللَّه ويستهزؤن بالرسول فهي بقرينة (بيني وبينكم) دالة علي ورودها مورد الاحتجاج وهذا كله يدفع ورودها في المدينة حيث لم يتعرض الرسول لمثل هذه المواقف.

2- أن الآية تذكر شهادتين الأولي شهادة اللَّه تعالي والثانية شهادة من عنده علم الكتاب، واقترانها بالاولي يدل علي عظمها وفضلها، وهي غيرها وإلا لما ذكرت ثانية فإن التعدد دال علي المغايرة.

3- كيفية شهادة اللَّه، إن الكفار لما كانوا مشركين فأنهم يؤمنون بالقدرة المطلقة للَّه غايته أنهم يشركون بعبادته ويكفرون بنبوة النبي الخاتم صلي الله عليه و آله، كما انهم يذعنون بكبري مؤداها أن الذي يتقول علي المقام الربوبي سيما مقام الشريعة وبيان مطلق الارادات الالهية فهذا ليس بكذب في مسألة جزئية بل هو ادعاء مقام من وإلي الرب، ومن هاتين كان وجه حجية المعجزة أنه اقدار الباري بقدرة يعجز عنها بقية البشر وتكون مقرونة بدعوي الوساطة. وهم مع اذعانهم أنها قدرة خاصة لا تصدر من

البشر إلا أنهم يغالطون ويقولون أنها قدرة سحرية، فهم يذعنون كبرويا أن القدرات التي لا يقدر عليها البشر لا بد أن يكون منبعها الغيب.

فشهادة اللَّه هي اقداره للنبي صلي الله عليه و آله إي اعطاؤه قدرة غيبية، وكيفيتها هي نفس كيفية المعجزات وأنها هي شهادة منه والمعجزة هنا هي القرآن

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 354

الكريم.

ويمكننا القول ان الشهادة نوع من البرهان وهو لا ينحصر بالعلم الحصولي بل يطلق علي ما يولّد العلم الحضوري، وذكرنا أن الكثير- من الفلاسفة من عهد ابن سينا- غفل عن البرهان العياني، وغرضنا أن شهادة اللَّه هي من نوع البرهان العياني خلافا لما هو مشهور عند المتكلمين من الخاصة والعامة من حصر برهانية المعجزة في العلم الحصولي، بيان ذلك:

أن معجزات الانبياء المذكورة في الكتاب باقية وليست منصرمة ومختصة بزمن معين، بل هي باقية وذلك لأن الغرض من المعجزة هو تحدي جميع الأقوام وليس خصوص القوم الذي أرسل لهم الرسول، ولو كانت المعجزة خاصة بمن ارسل إليهم لأمكن أن يطلع علي ايجادها الأمم الاخري فينتهون إلي بطلان نبوته ولا تكون في واقعها معجزة بل أمرا عاديا خفي سببه عن الآخرين، فلابد أن يتوفر في المعجزة أنها تحدٍ أبدي للبشرية أي ما يعجز عنه الاولون والآخرون، ولذا نقول أنه يطلق علي المعا جز البرهان العياني.

أما تطبيق البرهان العياني علي شهادة اللَّه فذلك بعد كون بعض مواده المؤلفة عيانية لا بتوسط الصور الحصولية، وهنا قد يتساءل عن وجه تقديم (باللَّه) علي (شهيدا) والجواب انه من جهة الحصر ثم من جهة العيانية فاللَّه حاضر بقدرته اللامتناهية واللامحدودة فكفي باللَّه الحاضر عيانا وكفي بحضوره العياني، ويذكر بعض المفسرين أن التعبير ب (شهيدا) وليس بشاهد دليل علي إرادة الحضور

لا الشهادة المنشأة بالكلام.

ومما يدلل علي أن المراد من الشهادة التكوينية لا الاعتبارية، هو الرجوع إلي أصل اشتقاقها اللغوي حيث أنها أطلقت علي التأدية والاداء مع انها اسم للتحمل

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 355

والحضور فاطلقت علي التأدية باعتبار المنشأ أي أن من له التأدية هو من كان حاضرا فتحمّل الشهادة، والشهادة في الامور الاعتبارية تجعل السامع كالحاضر حين التحمل أما في الامور التكوينية فإنها تجعل المشهود له في أكمل إدراك وأقصي ما يمكن تصوره وهذا لا يكون إلا بحصول علم لديه من الشهادة علما حضوريا.

وكأن المعني كفي باللَّه حاضرا وتشهدون حضوره في بيان الحق حيث ان هذه القدرة المدركة في القرآن التي يعجزون عنها نحو من رفع الستار عن قدرة الغيب فهو ظهور للغيب عياني لهم بعد كونهم يذعنون بأن اللَّه موجود وحاضر.

4- شهادة من عنده علم الكتاب، وهاهنا تطرح أسئلة متعددة في كيفية شهادة هذا الشاهد وفي امكان كونها شهادة علي صدق النبي وفي مصداقها، وذلك لان المشهود به هو النبوة والارسال فكيف يكون هذا الشاهد شاهدا علي ارساله وهذا يعني انه يكون حاضرا في مقام انباء الرسول حتي يستطيع تحمّل الشهادة والاداء بها، وإذا لم يكن حاضرا عند تحمله فسوف تكون شهادته اطمئنانا بصدق النبي صلي الله عليه و آله، ومقتضي كون النبي في مقام الاحتجاج أن هذا الشاهد حاضر الانباء حتي يستطيع الأداء. ومن هنا نستطيع أن نفهم ما ورد في الخطبة القاصعة «انك تسمع ما أسمع وتري ما أري»، وهذا يعني أن (من عنده) جهز بجهاز وجودي وروح ذات خصائص معينة مشابهة للروح النبوية «وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ».

قد يقول قائل ان تحمل (من عنده) ببرهان حصولي ثبت لديه فسوغ له الشهادة كما في قصة

ذي الشهادتين حيث شهد لمجرد ان الرسول هو الذي أخبر ان الدرع له.

وهذا القول مدفوع أن تسمية هذا بالشهادة من باب التنزيل وهذا مسلم به، ولو كان حصول العلم لدي الشاهد بهذه الطريقة فالاولي أن يذكر نفس البرهان ولا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 356

حاجة حينئذ لشهادته لأن ترامي الشهادة اضعاف للمشهود به فلو أمكن الادلاء بالمشهود به فهو أولي، فالغرض من الشهادة ان ما حصله الشاهد بعين الشهود واليقين المستند إلي العلم الحضوري، وهذا يدل علي أن مستند الشاهد ليس علما حصوليا.

وهاهنا تساؤل يطرح أنه كيف تكون شهادة الشاهد وهو من تابعي النبي يحتج بها علي الكفار الذين يشككون في النبي؟

ومن أجل الاجابة علي هذا التساؤل يجب الاشارة إلي أن النبي محمد صلي الله عليه و آله كان قبل البعثة معروفا لدي قومه ببعض الخصال والصفات التي استيقن منها الجميع كالصدق والامانة وانه من الذين يستسقي بهم الغمام، وهو من عائلة سلمت إليها زعامة قريش وذلك لأهليتهم وصدور خوارق العادات منهم، ومن هنا كان يتهم بالسحر، وقد تواتر النص التاريخي من المشركين علي وصفه «أنه سحر قديم في بني هاشم» مع ما هو مقرر عند قريش من كونهم من نسل ابراهيم واسماعيل الذبيح وهم ورّاثهما، وقد ذكر الامام ذلك في ذيل الخطبة القاصعة «وأني لمن قوم لا تأخذهم في اللَّه لومة لائم سيماهم سيما الصديقين، وكلامهم كلام الابرار عمار الليل ومنار النهار، متمسكون بحبل القرأن يحيون سنن اللَّه وسنن رسوله لا يستكبرون ولا يعلون ولا يغلون ولا يفسدون، قلوبهم في الجنان، وأجسادهم في العمل» أي انه من قوم وشجرة توفرت فيهم صفات الكمال من الحكمة والصدق والاحسان والعفاف والشجاعة والخلوص للَّه تعالي والاجتهاد في العبادة والتحلي بالعصمة

العملية، فلم يشاهد لهم زلل ولاخطل في جاهلية قريش ولا في الاسلام.

ثم أن نفس ولادة الامام في الكعبة وانشقاق الجدار ودخول فاطمة بنت أسد وبقاؤها داخل الكعبة ثلاثة أيام لم يكن بالامر الذي لاقي استنكارا من قريش لما تعودوه من أهل هذا البيت من خوارق العادات.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 357

وعلي كل حال لا نجد فيما بأيدينا من أخبار وتواريخ اعتراض الكفار علي هذه الشهادة وطعنهم فيها، ثم إن وصفه بأنه عنده علم الكتاب يعطي الحجية علي وجه الاستشهاد به لأن في ذلك اشارة إلي انطوائه عليه السلام علي العلم الجامع وفي ذلك تبيان لكيفية استعلام ذلك بالمسائلة ونحوها ليتحققوا من ثبوت الوصف ومن ثم يستثبتوا وجه حجية شهادته عليه السلام، وهذا الكتاب إما ان يراد به الكتب السماوية أو القرآن الكريم، والاخير هو الارجح حيث أن سورة الرعد نزلت دفعة واحدة غير متقطعة وموارد الكتاب فيها قد قصد منه القران الكريم، بل في بعض الآيات من السورة ارادة كتاب التكوين كما في ام الكتاب.

5- من عنده علم الكتاب، من بين معاني الاضافة الانسب ان تكون الاضافة بيانية استغراقية ولو اريد منها التبعيض لأتي بلفظ من كما في وصف آصف بن برخيا في سورة النمل، وقد ذكرنا ان الاختلافات الواردة في تعابير القرآن تدل علي اختلاف المعاني وليس الهدف منها بلاغيا أدبيا، والاحاطة بمعاني الكتاب ليس بالعلم الحصولي بل بالعلم الحضوري، حيث ان الكتاب ليس الموجود النقشي بل كتاب التكوين كما سوف يأتي بيانه فيما بعد. هذا مضافا إلي ان العلم لو كان ببعض الكتاب لما كان في شهادته مزية حيث ان المشهود عليه هو اعظم الغيبيات وهو نبوة النبي الخاتم.

ثم إن ماهية هذا العلم لا

يمكن ان تكون حصولية وذلك لما ذكرناه من ان هذا العلم جعل منشأ لحجية الشهادة ومقتضاه ان يكون التحمل حضوريا.

وقد ينقض علي هذا المعني وأن القرآن استشهد بشهادة بعض اصحاب الكتب السابقة وذلك في عدة آيات: منها «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 358

شَاهِدٌ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَي مِثْلِهِ» «1»

.منها: «أَوَ لَمْ يَكُن لَهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ» «2»

.ومنها: «لكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَي بِاللّهِ شَهِيداً» «3»

.ومنها: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُم لَا تَعْلَمُونَ» «4»

.والجواب العام عن هذه الموارد أن الاستشهاد بطائفة من علماء بني اسرائيل وما شابههم ليس من جهة أشخاصهم بل استشهاد بما ورد في كتبهم من بشارات بالنبي الخاتم، وواضح أن هذه الكتب غيبية من عند اللَّه، والمشركون متأكدون من أن كتبهم متقدمة بقرون علي زمن النبي صلي الله عليه و آله وهي منسوبة إلي السماء وليس هو من السحر، وفي ذلك بينة وبرهان قاطع علي نبوة النبي الخاتم فهي شهادة الكتب السماوية بالنبوة وهي تكون من سنخ شهادة اللَّه وهي بمعني آخر شهادة الانبياء السابقين علي صدق النبي الخاتم، وشهادة الملائكة أيضا شهادة غيبية وسنخها ليس بالعلم الحصولي، وعليه نصل إلي نتيجة أن جميع الشهادات ترجع إلي سنخ واحد.

اما الأجوبة التفصيلية:

1- فشهادة الملائكة ليس شهادة عادية وذلك لأنهم لا يستطيعون استنطاق

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 359

الملائكة فكيفيتها يجب أن تكون بما ذكر في شهادة اللَّه من أن ذلك هو بمحضره وقدرته، حيث ان مشركي قريش يذعنون بوجود الملائكة وانهم اعوان اللَّه وذلك بدليل نسبتهم الأنوثة لملائكة للَّه وانهم بنات اللَّه

والعياذ باللَّه تعالي.

2- أن قريش والمشركين كانوا علي اطلاع وخبر من علم أحبار اليهود ببعثة النبي صلي الله عليه و آله حيث كانوا من قبل يستبشرون ببعثته ويأملون النصر به علي المشركين قال تعالي «وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَي الَّذِينَ كَفَرُوا» «1»

.3- أن الآية الاخيرة ليس فيها استشهاد علي أصل الرسالة والبعثة بل دفع لاستبعادهم كون الرسول المرسل بشرا رجلا، ومع ذلك فإن الاستشهاد بأهل الذكر لا باعتبار اشخاصهم كما قدمنا.

6- ونتعرض فيه لمقام القران الكريم ومراتبه.

وفيه مسائل ثلاث:

المسألة الاولي: ان القران ذو حقيقة تكوينية بمعني ان القرآن لا تنحصر درجات وجوده بالعبارات الوارد ذكرها بين الدفتين، وأن هذا الوجود للقرآن هو المعبر عنه بالكتبي وأنه معبر عن وجود آخر للقرآن وهو الوجود التكويني، ويدل علي هذه المرتبة للقرآن مجموعة من الشواهد:

أ- ان التنزل يدل علي أن القرآن كان موجودا ثم تنزل بما نراه نحن الآن وهذا التنزل لا يضاهيه التعبير بأنه كان لفظا مصوتا وكلاما نفسيا.

ب- بعض الآيات القرآنية التي تدل علي آثار للقرآن لا يمكن نسبتها إلي هذا الوجود الاعتباري من نحو «وَلَوْ أَنَّ قُرآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْكُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَي بِل لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً»»

، حيث أنه قد ذكر في شأن النزول أن قريش اقترحت علي النبي صلي الله عليه و آله أن يباعد بين جبال مكة لأن مكة ضيقة فتتوسع وتصبح بها

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 360

وديان وسهول ومزارع وما شابه ذلك، وطلبوا منه أن يحيي لهم قصي جد قريش وأجدادهم ليكلموهم، فاللَّه تعالي يخاطبهم أن القرآن لو أظهر لهم تلك الآثار بالقرآن لما آمنوا، وهذه الآثار لا تفترض للكتاب الاعتباري لأن هذه ألفاظ والوجود اللفظي وجود تنزيلي للشي ء.

ج-

قوله تعالي «لَوْ أَنزَلْنَا هذَا الْقُرْآنَ عَلَي جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» «1»

، وواضح ان المقصود في هذه الآية ليس القرطاس والورق الذي كتب عليه القرآن له هذه الخصوصية، ولم ينزل القرطاس المكتوب علي صدر النبي الخاتم، بل ان ما نزل هو المعاني وحقيقة القرآن التكوينية هو الذي يجعل الجبل خاشعا متصدعا، ولدينا شاهد علي تصدع الجبل وهو في قوله تعالي «فَلَمّا تَجَلّي رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً» فتدكدك الجبل هو من تجلي النور الالهي، والحقيقة القرآنية هي التي تجعل الجبل متصدعا وهي التي لها الآثار التكوينية.

د- قوله تعالي «بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ» «2»

، فهذا القرآن المتصف بالمجد وهو نوع من العلو والرفعة والعز العظمة في اللوح المحفوظ فهو متنزل من حقيقة أخري.

ه- قوله تعالي «فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِن رَبِّ الْعَالَمِينَ» «3»

وهذه الآية صريحة في كون حقيقة القرآن التكوينية في كنّ محفوظ لا يناله إلا المعصومون.

المسألة الثانية: ما ورد من وصف الكتاب بالمبين وقد ورد ذلك في أماكن

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 361

متعددة.

ويذكر العلامة الطباطبائي في ذيل قوله تعالي «وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ … فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «1»

أن الكتاب وارد في ثلاث معان:

الاول: الكتب المنزلة علي الانبياء وهي المشتملة علي شرائع الدين مثل كتاب نوح «وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ» «2» «صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَي» «3»

وكتاب عيسي وهو الانجيل «وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُديً وَنُورٌ» «4»

وكتاب محمد صلي الله عليه و آله «تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ» «5»

.والثاني: الكتب التي تضبط أعمال العباد من حسنات أو سيئات، وهو كتاب الاعمال والآجال «وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ

الْقِيَامَةِ كِتَاباً» «6»

وما ورد في سورة المطففين: 21.

والثالث: الكتب التي تضبط تفاصيل نظام الوجود و الحوادث الكائنة فيه ولعل هذا النوع من الكتب فيه ضبط عام حفيظ لجميع الموجودات وهو ام الكتاب يستطر فيه كل شي ء وفيه ضبط خاص يتطرق إليه المحو والاثبات، وهذا هو الكتاب المبين واللوح التكويني «وَمَا يَعْزُبُ عَن رَبِّكَ مِن مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ … إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «7»

.فالكتاب المبين بشهادة الآيات هو الذي يستطر فيه كل شي ء وهو يحصي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 362

جميع ما وقع في عالم الصنع والايجاد مما كان وما يكون وما هو كائن من غير أن يشذ عنه شاذ وفيه نوع تعيين وتقدير للاشياء إلا أنه موجود قبل الأشياء ومعها وبعدها.

المسألة الثالثة: ان القرآن الكريم هو الكتاب المبين بدليل قوله تعالي «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «1»

، وهذا الكلام الصادر من الحكيم العليم ليس من قبيل الالفاظ العادية والمبالغات وقد أشرنا إلي ذلك في بداية الفصل حول المعاني القرآنية العالية، و أننا إذا استنطقنا القرآن ووصلنا إلي معني فلا يجوز ان نتراجع عنه خشية ذلك المعني الهائل، فإذا كان القرآن فيه تبيان لكل شي ء صادر من حكيم، وهو تعالي يعبر عن القران بذلك وفي موضع آخر أن الكتاب المبين فيه كل شي ء ولا يعزب عنه شي ء، وليس المقصود من التبيان هو خصوص الاحكام الشرعية وذلك لان الواقع يخالفه حيث أن أربعة أخماس القرآن في المعارف الالهية، ولا يمكن ان نقول ان ظاهر هذا الذي بين الدفتين هو فيه كل شي ء من احكام الوجود وهو محدود إلا إذا اعتبرناه نافذة علي أمر آخر، وأنه يشير إلي حقيقة معينة هي القرآن الذي فيه تبيان لكل شي ء، وهذا

هو الذي نريد الوصول إليه من أن النبي الخاتم اختص بالكتاب المبين، ومن هنا لم تطلق علي كتب بقية الانبياء القرآن بل الفرقان.

ونستطيع ان نوجز الدليل علي اتحادهما من خلال اتحاد وصفهما:

1- ان الكتاب المبين يستطر فيه كل شي ء وهكذا القرآن الكريم.

2- ان المقصود من القرآن ليس هو خصوص اللفظ المصوت بل الحقائق النورانية التي ليست من سنخ المعاني الحصولية ومن الشواهد علي ذلك قوله

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 363

تعالي «فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ» فكيف يكون مكنونا مع أن المنقوش برسم الخط متداول بين أيدي الناس.

3- قوله تعالي «مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ …» وقد ورد توصيف الكتاب المبين بأنه ام الكتاب.

4- أن في القرآن الاسم الاعظم وهو ليس من جنس الالفاظ المصوتة- وإن كان لإسمه لفظ- فلا يعقل وجوده في القرآن بوجوده الاعتباري بنقش رسم الخط بل في القرآن التكويني.

ومن هنا ننتقل إلي نقطة أخري ان هذه الاقسام التي ذكرناه للكتاب هي في واقعها تنزلات ومراتب للكتاب المبين وأنها كلها تعود إليه، والكتاب المبين هو عين القرآن الكريم وهو له مدارج عالية ونازلة ومدارجه العالية ام الكتاب أي المصدر الذي يتنزل عنه كل شي ء، والبقية تنزلات.

والدليل علي ذلك:

أ- أنه قد ورد أن في القرآن أشياء يراد منها أمور تكوينية كالاسماء الحسني، واللوح، والقلم والصحف والرق المنشور.

ب- أن الماهية المقررة للكتاب شي ء يكتب فيه ويجمع فيه الكلمات والكلام، والكلمة والكلام هو ما يدل علي أمر ما، وهذه الدلالة وإن كانت بالوضع الاعتباري كما في الالفاظ فهي كلمة وكلام اعتباري، ومصداق فرضي لماهية ومفهوم الكلمة والكلام، وأما إن كانت الدلالة تكوينية فالشي ء الدال تكوينا كلمة وكلام حقيقيان ومصداق خارجي للماهية، قال تعالي «إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ

اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ» «1»

، وبالتالي فإن الكتاب الحقيقي هو الذي يجمع ويضم الكلمة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 364

والكلام الحقيقيين جمعا وضما تكوينا.

وكذلك الحال في الاسم إنما سمي اسما لأنه يكون علامة علي ذي العلامة والمصداق الاعتباري له هو اللفظ المصوت لكون دلالته بالوضع الفرضي الاعتباري، بخلاف المصداق الحقيقي فهو الدال تكوينا والعلامة التكوينية علي الشي ء، فالكتاب مجموع الكلمات، و ماهية الكلمة هي الشي ء المنطوق بها، والنطق هو الاظهار والاعراب وهو أيضا ينقسم إلي اظهار تكويني واعتباري، وهو اعراب عن مغيب ومستور فنطق اللَّه تعالي خلقه وايجاده ومخلوقاته كلماته وبعضها تام.

ج- ذكر في المعقول أن كل معني ماهوي له وجود اعتباري، ولا يمكن ان يكون هناك شي ء اعتباري ليس وراءه امر تكويني أي ان الماهية التي يفرض لها وجود اعتباري انما تُقتنص وتنتزع عن وجود تكويني لها، فالكلمة لها وجود تكويني، والاسم له وجود تكويني، فالمعني الاعتباري لا يمكن ان يكون مستلا لا من شي ء، بل لا بد ان يستل من وجود تكويني، وهذه مسألة استوفي البحث فيها في الاعتباريات في علم الاصول أيضا، ومن شواهدها القرآنية التعبير عن بعض الانبياء انه كلمة من اللَّه، (النساء: 171- المؤمنون: 50)، وهذا الاطلاق ليس مجازيا بل هو اطلاق حقيقي واطلاق الكلمة علي اللفظ هو المجازي لأن حقيقة الكلمة هي المعبرة تكوينا عن معني لدي المتكلم، والمتكلم هنا هو اللَّه جل وعلي والنبي معبر حقيقي عن اللَّه وعن عظمته وينبئ عما في الغيب، فهذا الاطلاق حقيقي.

وإذا كان القرآن الكريم هو الكتاب المبين وهو ام الكتاب وهذا يعني انه الكتاب التكويني فكل الكمالات المتنزلة تكون هناك موجودة بشكل بسيط شريف وعالٍ ويكون معني الكتاب هو وجود جمعي بسيط مجموع

فيه كل الكلمات التي تعبر

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 365

عن الغيب.

د- وهناك الكثير من الآيات التي يذكر فيها الحق سبحانه تنزيل الكتاب والآيات مع ذكر خلق السموات والأرض مثل قوله تعالي «إِنَّ اللّهَ لَا يَخْفَي عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّماءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرَ مُتَشَابِهاتٌ» «1»

، وقوله تعالي «كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ … وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَا عَلَي اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» «2»

، وقوله تعالي «الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَي النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَي صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ» «3»

، وقوله تعالي «طه مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَي إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَن يَخْشَي تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّماوَاتِ الْعُلَي» «4»

، وغيرها من الآيات في السور الاخري.

5- الروايات الواردة ان في القرآن عمل كل عامل ومكانه في الجنة مآله وثوابه وعقابه … وهذه الكتب في الكتاب المبين باعتبار انه يستطر فيه كل شي ء، وهذا يعني ان القرآن فيه كل شي ء وهو عبارة ثانية عن العينية بين القرآن والكتاب المبين.

والخلاصة: ان المراد من حقيقة القرآن الكريم هو الكتاب بوجوده التكويني وهو حقيقة علوية تكوينية جامع لجميع الكلمات الالهية، والشهادة المعطوفة علي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 366

شهادة اللَّه تعالي هي شهادة من عنده علم مثل هذا الكتاب فمن ثَمّ ذكرت تلو الشهادة الاولي.

ثانياً: قوله تعالي «أَفَمَن كَانَ عَلَي بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ

مُوسَي إِمَاماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ» «1»

.* الآية الكريمة في مقام الموازنة بين كفتين بعد ان ذكر الاحتجاج مع الكفار علي كون القرآن كتابا منزلا من عند اللَّه سبحانه، ثم يطيب خاطر النبي بأن ليس من كان كذا وكذا كغيره ممن ليس كذلك، وأنت علي هذه الصفات من كونك علي بصيرة من ربك ويتلوه من يشهد بأحقية القرآن وكان علي بصيرة من أمره فآمن به عن بصيرته وشهد بأنه حق منزل من عند اللَّه تعالي.

* إنما اوردناها في هذه الطائفة من حيث ان هذا الشاهد من شأنه أن يشهدعلي اصل النبوة وأحقية القرآن فتكون قريبة المضمون من آية سورة الرعد، مع اتفاقهما في كونهما مكيتان.

* حاول البعض صرف ظهورها عن الامام علي عليه السلام وذلك بالتصرف في ارجاع الضمائر ونحوه أو القول ان المراد منه جبرائيل يتلو القرآن علي النبي صلي الله عليه و آله، لكن كلها مردودة وخصوصا علي ما ورد في بعض القرآت عند أهل البيت عليهم السلام من ان الآية «وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَي» فوصف الامامة والرحمة للشاهد لا لكتاب موسي إلا أنهم بدلوا موضعها عند جمع القرآن.

* وجود قيد (منه) للشاهد تدفع الاحتمالات التي ادعوها في المقصود من الشاهد، حيث لا معني ان يرجع الضمير إلي غير الرسول، وان المراد من (يتلوه)

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 367

التلو التابع لا التلاوة.

* ان المراد من حرف الجر في قوله تعالي «بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ» هي النشوية لا البيانية أي انها ناشئة من اللَّه وآتية من جانبه.

* لفظة (منه) الواردة في (شاهد

منه) هل المراد منها الاتصال النسبي أم امر آخر؟ والاول بعيد وذلك لان القرآن لا يعتد بخصوص ظاهرة الولاء النسبي فقط في نسبة الاشخاص كما في قوله تعالي «إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ» مع انه ابنه، بل يعتبر ان من خرج عن الطريق الصحيح فهو خارج عن اتصاله بالنبي وهنا اطلاق (منه) علي الامام علي عليه السلام من جهة نسبة الروح والولاء والايمان وكونه منه لها دخالة في شهادة الشاهد، ويؤكده ما ورد عن الامام من رؤيته لنور النبوة، وقوله صلي الله عليه و آله: انت أخي، فالاخوة ليست نسبية والشقيق يعني الاشتقاق من أصل واحد فمرتبتهما الغيبية تؤول إلي أصل واحد، وقريب منه ما ورد كنا نورا واحدا، ومثله قوله تعالي «وأنْفُسَنا وأنْفُسكُم».

ثالثاً: اما النقاط التي يمكن استفادتها من هذه الطائفة:

1- ثبوت مقام الطهارة والعصمة لمن عنده علم الكتاب حيث ان الشهادة لا يمكن أن تقبل في هذه المواطن التي هي اللبنة الاولي للشريعة إلا لمن اتصف بذلك، وإن سر وحقيقة العصمة يعود للعلم، ولم يدع احد من الاولين والآخرين ان لديه علم الكتاب إلا هؤلاء الاطهار واستعدادهم للجواب علي كل تساؤل، ومن دلائل العصمة اجوبتهم وكلماتهم التي صحت نسبتها إليهم فإنها تظل منارا هاديا ومشعلا مضيئا إلي أبد الدهر ودالا علي امامتهم وعصمتهم ومعاجزهم العلمية.

2- أن الائمة عليهم السلام لديهم العلم اللدني المحيط بكل الاشياء وهو ليس غير علم الاسماء الجامع، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في الطائفة الاولي.

3- ان من يكون لديه العلم اللدني يكون مؤهلا للهداية التكوينية الايصالية وهي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 368

الحد لماهية الامامة كما ذكرنا في الطائفة الاولي.

4- بما أن لديهم هذا العلم الحضوري فلديهم القدرة وهذا يعني ان لديهم الولاية

التكوينية والقدرة التكوينية علي من سواهم حتي الملائكة، وهذا العلم يكسب مثل هذه القدرة الغريبة كما رأينا في آصف بن برخيا إذ ان اتيانه بعرش بلقيس بهذه السرعة ليس إلا بسبب ما حصل عليه من علم من الكتاب فكيف بمن عنده علم الكتاب، وقد حرر في محله ان القدرة فرع العلم.

5- لقد أشرنا إلي ان الكتاب هو الكتاب المبين وهو كتاب التكوين وهو الحاوي لكل شي ء ومن وصل إلي هذا العلم يدل علي علو منزلته ومقامه وعلي حسب ما أوتي نستطيع معرفة رقيه الروحي، ومن المسلم به في علوم المعارف الالهية أن فضيلة الانسان بمقدار ما أوتي من ربه.

6- ان مقتضي النقاط السابقة هو امامتهم لمن دونهم وان هذه الامامة هداية تكوينية وانها باقية علي مر الزمان، إذ تنزل العلوم والكمالات من المراتب العليا علي النفوس المستعدة لها، وقد مرّ عليك اطلاق الكلمة علي بعض الانبياء، كما انه قد عرفت الفرق بين الكلمة والكتاب التكوينيين، فعلم الكتاب حاوٍ لجميع الكلمات، وإياك أن تحمل هذه الاستعمالات القرآنية علي المجاز والتفنن اللفظي، فإنه كتاب حقائق موزونة ألفاظه واستعمالاته ومعانيه ولطائفه وحقائقه من لدن حكيم عليم، فلاحظ ما ذكرناه في الفصل الاول.

7- ان القرآن معجزة خالدة باقية علي حقانية الرسول وهكذا الامام الذي هو شاهد حي علي مر الدهور علي صدق الرسول، حيث ان شهادة من عنده علم الكتاب لكل افراد الانسانية كما ان القرآن لجميع الانسانية فكذلك الشاهد الآخر يكون شاهدا ابديا علي صدق الرسالة وصدق الكتاب من الحق سبحانه وهو القرآن الناطق.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 369

وهذا المفاد عين مفاد حديث الثقلين، وقد اشارت روايات أهل البيت عليهم السلام إلي العديد من الآيات التي يتطابق مفادها مع حديث

الثقلين، وبالتالي فإن هذا الحديث وإن كان متواترا بين الفريقين إلا انه يزداد رصيد اعتباره مفادا وسندا.- وسوف يأتي مزيد بيان في فقه الروايات- والمحصل: ان وجود الائمة عليهم السلام وتصديقهم بنبوة النبي صلي الله عليه و آله شهادة و معجزة علي نبوته صلي الله عليه و آله علي حذو شهادة ومعجزة القرآن الكريم علي نبوته، وهذا مفاد يدق معناه ويلطف في معني معية الثقلين، فوجود الائمة عليهم السلام وعلومهم وسيرتهم وطهارتهم وكمالاتهم المختلفة في الجوانب العديدة التي بهرت العقول دليل صدق علي النبوة، ومن ثم ورد عنهم عليه السلام أن آية «وَكَفَي بِاللّهِ شَهِيداً …» مورد نزولها في أمير المؤمنين عليه السلام وهي جارية في الأئمة عليهم السلام، ولقد كان تحدي السلطات القائمة دولة بني امية و بني العباس لهم مستمرة علي كافة الاصعدة في العلوم المختلفة والرياضات النفسانية والقدرات الكمالية، وكانوا يستعينون برواد العلوم والفنون والرياضات من الاقطار المختلفة في العالم ومن الممالك المختلفة بل كانوا يستعينون بالسباع فيرونها تخبت لهم خاضعة.

8- يثبت من خلال الآية ان ولايتهم وامامتهم امر اعتقادي وليس من الفرعيات وذلك باعتبار ان المعجزة يجب الايمان بها كالقرآن وهذه الشهادة أمر اعتقادي وهي دليل النبوة، مما يدلل علي أن النبوة والامامة توأمان وقرينان لا ينفك احدهما عن الآخر.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 370

الطائفة الثالثة: آيات الهداية … ص: 370

وهي علي ثلاثة ألسنة:

أ- «إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ» «1»

.«أَفَمَن يَهْدِي إِلَي الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمْ مَن لَا يَهِدِّي» «2»

.ب- «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَي» «3»

.«يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ» «4»

.ج-

«وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُديً» «5»

.«وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُديً» «6»

.«وَقُلْ عَسَي أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً» «7»

.«وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا» «8»

.إن الهداية الواردة في القرآن الكريم علي انحاء مختلفة:

1- الهداية التكوينية الخلقية «وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَي» أي الذي خلق كل شي ء، وجعله في صراطه التكويني الذي يؤدي إلي كماله وهدفه، وجعل ذلك في فطرته حتي الكائنات غير الشاعرة غير الارادية.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 371

2- الهداية التشريعية الارائية العامة، وهي التي تصدر عن النبوات وشرائع الانبياء وهي معلقة علي العلم والادراك الذي يستطيع ان يصيبه كل احد.

3- الهداية الايصالية للفاعل المختار، وهي التي نبحث عنها بالآيات من القسم الاول ويقابلها الاضلال التكويني، وفي القسم الثالث يتضح أن هذه الهداية معلقة علي العمل والطاعة «وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مَخْرَجاً»، «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ».

فهذه الالسنة الثلاثة تعالج ماهية الامامة، وهي المستبطنة للهداية الايصالية وأما الارائية فتكون تابعة لصاحب الشريعة، ونلاحظ ان القران في مواطن كثيرة يشير إلي أن العمل الصالح له آثار وضعية منها انه يؤدي إلي عمل صالح آخر أكثر من الاول.

و- يظهر من آية سورة الكهف: 24 أن الهداية علي مراتب ودرجات وهي لا تقف عند حد فكلما زاد العمل والسعي زادت الهداية، وما ذلك إلا لأن الكمال لا حد له والقرب الالهي لا يقف عند نقطة معينة، وفي هذا جواب قاطع علي العامة الذين يقولون ان الهداية حاصلة بمجرد التلفظ بالشهادتين بل أن قوله تعالي «وَزِدْنَاهُمْ هُديً» «1»

، وقوله تعالي «وَقُلْ عَسَي أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً» «2»

دليل علي خطئهم.

وتشير آية سورة المائدة إلي تعين الولاية وتشخيص صاحب الهداية الايصالية، مما يعني ان هذا السعي يجب ان يسري عن هذا

الطريق ومن هذا الباب.

أن آية سورة طه التي اشرنا إليها في البداية تدل علي ان الغفران منوط بالولاية لأنها تشترط الايمان والعمل الصالح والهداية وهو اتباع الهادي.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 372

المفاد التفصيلي للآيات:

1- إنما أنت منذر ولكل قوم هاد

في هذه الآية الشريفة موارد للبحث:

أولا: من المقصود بالهاد، فقد ذكر البعض ان المقصود هو الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله أي انك هاد لكل قوم، وهذا الاحتمال ضعيف لامور منها: ان الحصر ب (انما) في قبال توهم أن وظيفته صلي الله عليه و آله هي اهتداؤهم بالفعل بتلبية طلبهم بإتيان المعجزة والآية التي يقترحونها.

ومنها: من الجهة الاعرابية حيث سوف يتنازع منذر وهاد الجار والمجرور ولذا لا يجوز توسطها، كما لا يجوز الفصل بين العامل والمعمول بالواو.

ومنها: ان الانذار هداية ارائية فتكون هاد عطف تفسير، وهو خلاف الاصل الاولي في ظهور الكلام في التأسيس.

ومنها: انه لا يكون هناك وجه لتأخير هاد عن الجار والمجرور

ثانيا: أن الهداية ليست الهداية الارائية بل الايصالية وذلك لعدة وجوه:

* المقابلة بين الانذار والهداية.

* إن الكفار طلبوا من الرسول آية وهي مظهر للقدرة والقدرة مظهر الولاية، وهذا ما يحتاج إلي بيان:

وذلك لان المدعي أن المعجزة التي تظهر علي يد الرسول هو من حيثية ولايته لا رسالته، ويكون جواب طلبهم أنك من حيث الرسالة لا تجري بيدك الآية وإنما ظهور الآية، والمعجزة بيد الهادي ومَن له الهداية الايصالية، والنبي الاكرم حيثياته متعددة ومن هذه الحيثية يكون المعجز علي يديه.

* إن هذه الهداية جعلت عدلا للنبوة باعتبار أنها تحقق الايمان في الخارج وهو غاية الهداية الارائية فإن الايمان في الخارج متوقف علي الهادي.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 373

* إن مجيئ أداة العموم (كل) والتنوين في

(قوم، هاد) يدل علي الاستغراق وأن لكل قوم هاد وحيث أن النبي صلي الله عليه و آله محدود العمر و ليس باقٍ في هذه النشأة لجميع الأقوام، فبتكثر الاقوام يتكثر الهادي.

* إن سياق الآيات التالية لهذه الآية يدل علي العلم اللدني، وأن علم الحق يسع ويحيط بكل شي ء وموارد قدرته التكوينية وهو مناسب للهداية التكوينية.

2- الآية الثانية «أَفَمَن يَهْدِي إِلَي الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمْ مَن لَا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَي».

والآية مكية واردة في مقام الاحتجاج مع الكفار، وأن الالهة التي يعبدونها لا تستطيع شيئا وان الهادي هو اللَّه واسناد الهداية إليه لا يختص بالهداية الارائية بل يعم حتي الايصالية، ويكاد يجمع المفسرين ان (يهدي) في الاصل يهتدي ثم قلبت التاء دالا لاجل التخفيف، والمقابلة هنا بين من يهدي إلي الحق وهو عام ولم يخصص كما في قوله تعالي «قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ» أي من هو الاحق بالاتباع هل هو الذي يهدي إلي الحق ام من لا يهتدي إلي الحق إلا أن يهدي.

فالذي تكون هدايته من ذاته ومن نفسه هو الذي يكون هاديا، أما من لا تكون هدايته ذاتية وليست من نفسه فإنه لا يكون هاديا للحق فتوجد ملازمة بين الهداية الحقة والهداية اللدنية، فيجب ان يكون الهادي مهتدياً لا بغيره وفي المقابل الذي يهتدي بغيره لا يكون هاديا للحق فتوجد ملازمة بين الاثنين أي ان المهتدي بنفسه هدايته ملكوتية باقدار اللَّه عز وجل. والمهتدي باللَّه لا يقال انه مهتدي بغيره من المخلوقين، إذ الاهتداء بهداية اللَّه كما ورد في قل اللَّه يهدي للحق هو عبر اتباع رسوله واللَّه هو الحق وهداية الرسول إلي الحق هي هداية إلي اللَّه، ونتيجة لهذه الخصوصية في الهداية نقول

ان المراد هو الهداية الايصالية وذلك لان المهتدي بسبب غيره قادر علي الهداية الارائية اما الايصالية فلا يستطيعها.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 374

ثم أن للهداية درجات كما تشير إليه العديد من الآيات كقوله تعالي «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُديً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ» «1»

، وقوله تعالي «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُديً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ» «2»

، وقوله تعالي «وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُديً» «3»

مما يدلل علي كون الهداية علي درجات، وفي الاستعمال القرآني أيضا استعملت الهداية في مقابل الضلالة، والهداية بمعني الصراط المستقيم في مقابل بقية السبل المتفرقة.

كما ان في قوله تعالي «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَي» «4»

دال علي وجود درجة من الهداية دخيلة في أصل النجاة الاخروية وهذه الدرجة وراء مبدأ الايمان والعمل الصالح، وهذا المفاد كما يلاحظ مقارب لمفاد الطائفة الاولي في واقعة آدم عليه السلام، حيث تبين ان ابليس لم ينفعه إيمانه باللَّه تعالي واليوم الآخر، ولا عبادته بعد عدم توليه آدم عليه السلام وعدم خضوعه وانقياده إليه كخليفة للَّه تعالي، وهذا المفاد في آية سورة طه لمفاد آية الاكمال «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِيناً» فالاسلام بما فيه من التوحيد والنبوة والمعاد والفروع من الصلاة وغيرها كملت بالذي نزل ذلك اليوم وتم به، ورضا الرب مشروط بما نزل في حجة الوداع عند رجوعه صلي الله عليه و آله في غدير خم في قوله تعالي «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ»»

، فوعده بالعصمة مما

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 375

يحذره صلي الله عليه و آله من الناس وأن من يكفر بذلك الذي انزل

فإن اللَّه لا يهديه، فهذه الهداية هداية زائدة علي ما ذكرنا تشترط في النجاة الاخروية وهي الهداية التي في هذه الطائفة.

الطائفة الرابعة: آيات الملك … ص: 375

قوله تعالي «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَي مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُلْكاً عَظِيماً» «1»

.والآية تتعرض للنبي الخاتم صلي الله عليه و آله بأن الآخرين يحسدونه علي ما آتاه اللَّه من فضله ثم يعدد ذلك الفضل بالكتاب والحكمة والملك العظيم، اما الكتاب والحكمة فمعناهما واضح إجمالا فالاول هو النبوة، والثاني هو العصمة كما تشير إليه كثير من الروايات فإن مقتضي الحكمة عدم الزلل.

أما الملك العظيم فيتضح معناه بالالتفات:

أولا: ان آل ابراهيم لم يستلم أحد منهم السلطة والملك إلا سليمان وداود وهذا لا يتناسب مع مجيئه مورد صفة الجمع والمنة علي كل آل ابراهيم.

وثانيا: هذا الملك العظيم لا بد أن يكون مغايرا للكتاب والحكمة ولا يكون غير الاقتدار والسلطنة، وهذا هو الحد الماهوي للملك.

وثالثا: إذا لاحظنا الآية السابقة عنها وهي «أَم لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً» فما هو الملك الذي لو أوتوه بني اسرائيل لما اعطوا الناس منه شيئا بالتأكيد ليس هو الملك الظاهري حيث ان المراد من النقير هو المتخلف من التمر في النواة وهذا نوع تشبيه و المراد منه باب المحاجة وبيان المباغضة والحسد الذي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 376

عند اليهود تجاه نبوة النبي صلي الله عليه و آله وهي في مقام النعم الغيبية الالهية التي حباها اللَّه تعالي آل ابراهيم، فإذا كانت لديكم النبوة وما هو من قبيلها من المنح الإلهية فلا تؤتونها أحداً من الناس وتمانعون من وصول هذا الفضل الالهي لأحد، فلا بد من مجموع هذه القرائن أن يكون هذا الملك

ولاية تكوينية.

وهذا يعني ان الملك هو الذي تنبثق عنه النبوة وهو أعظم مقام من النبوة بمعني أن ولاية كل نبي أرفع شأنا من نبوته- لا أن ولاية أي ولي أرفع من مطلق النبوة- وذلك لأن الولاية تعبر عن أرقي مراحل الروح التي ترتقي فيها فترتبط بالفيض عن الذات الازلية، او ترتبط بالذات ويعبر عنه بباطن النفس وهي تنقاد للرب وتعبد الرب منتهي الانقياد والعبادة بحيث تكون مشيئته مشيئة اللَّه وارادته ارادة اللَّه.

فالولاية هي الجانب الملكوتي اما الانباء والنبوة دون ذلك المقام وذلك لانه بتوسط رقي روحه يفاض عليه المطالب العالية حيث أن علومها أوسع من التشريعية وتكون مصدرا لها، ويشير إلي ذلك قوله تعالي «وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» «1»

، حيث أن الابتلاء كان في كبر سنه بعد ما رزق الذرية، والابتلاء بتوسط ما أوحي إليه كما تشرحه بقية السور، فهو بعد النبوة والرسالة: كان التأهل لمقام الامامة.

ثم بالنظر إلي الآيات الاخري نري ان آل ابراهيم قد أوتوا الامامة وحبوا بها «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا..» «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ»، فالحبوة التي حبي بها اللَّه آل ابراهيم هي الامامة، وهل يوجد ملك اعظم من هذا! وهذا الملك العظيم هو الذي حباه اللَّه لرسوله

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 377

الاكرم وعترته الطاهرة.

يذكر العلامة الطباطبائي «ان المراد من الملك هو السلطنة علي الامور المادية والمعنوية فيشمل ملك النبوة والولاية والهداية وملك الرقاب والثروة وذلك انه هو الظاهر من سياق الجمل السابقة واللاحقة فإن الآية السابقة تومئ إلي دعواهم انهم يملكون القضاء والحكم علي المؤمنين وهو مسانخ للملك علي الفضائل

المعنوية … ثم عندما يصل إلي الملك العظيم يقول «تقدم ان مقتضي السياق ان يكون المراد بالملك ما يعم الملك المعنوي الذي منه النبوة والولاية الحقيقية علي هداية الناس وارشادهم ويؤيده ان اللَّه سبحانه لا يستعظم الملك الدنيوي لو لم ينته إلي فضيلة معنوية ومنقبة دينية» «1»، ونحن وإن نقلنا كلام العلامة بطوله إلا أنا لا نتفق معه علي أن كلا من النبوة والامامة داخلتان في الملك العظيم لما ذكرناه من القرائن، ونضيف أن قوله تعالي «قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ..» يدل علي أن القدرة هو علم الكتاب وهو الامامة كما توصلنا إليه.

ثم ان المراد بآل ابراهيم هم النبي وآله وذلك لجملة من القرائن:

- منها ان المقام هو المحاجة والحاسدين هم بنو اسرائيل وحسدهم للنبي صلي الله عليه و آله، ولو كان المراد انبياء بني اسرائيل لكان تقريرا لحجتهم لا دحضا لها فلا بد ان آل ابراهيم لا يشمل بني اسحق.

- ان الناظر في الآيات الاخري:

كقوله تعالي «وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَي قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَن نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَي وَهَارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 378

وَيَحْيَي وَعِيسَي وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَي الْعَالَمِينَ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ذلِكَ هُدَي اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَاكانُوا يَعْمَلُونَ أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَي اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لَاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا

ذِكْرَي لِلْعَالَمِينَ» «1»

.وقوله تعالي «وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّي وَعَهِدْنَا إِلَي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلي عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ» «2»

.وقوله تعالي «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» «3»

.فإن ما في سورة الانعام دل علي ان ابقاء هذا الاجتباء والحبوة الالهية في ذرية ابراهيم متصلة حتي النبي الخاتم صلي الله عليه و آله فإن يكفر بها أي بهذه النعم اللدنية الالهية

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 379

(الكتاب والحكم والنبوة) فقد وكلنا …

وهكذا في سورة البقرة أن الامامة متصلة في ذريته وهي ذرية اسماعيل وكذا ما في سورة الزخرف فإن كلمة التوحيد ونفي الشرك جعلها اللَّه باقية في عقب ابراهيم متصلة، ومن الواضح أن الباقي علي التوحيد ونفي الشرك إنما هو في عقب اسماعيل، وتدل كل هذه الآيات في السور علي بقاء هذا الأمر والأمور بعد النبي الخاتم في ذريته التي هي ذرية اسماعيل وابراهيم عليه السلام أيضا.

فيستنتج ان الامامة في عقب ابراهيم و اسماعيل إلي

النبي الخاتم صلي الله عليه و آله ثم في ذريته.

- قوله تعالي «إِنَّ أَوْلَي النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا» «1»

، فهذا التشقيق الثلاثي الذين اتبعوه والنبي والذين آمنوا فهو اولي الناس بابراهيم …

- إن ما ورد في دعاء اسماعيل عند بناء البيت العتيق واستجابة الدعاء وأن الامامة في ذريته. وهي الآية المتقدمة في سورة البقرة.

وعلي كل حال فإن المتتبع لآي القرآن الكريم يقف علي ان المراد من آل ابراهيم في اصطلاحه هم محمد وآله عليهم الصلاة و السلام.

الطائفة الخامسة: آيات الاصطفاء والطهارة … ص: 379

«إِنَّ اللّهَ اصْطَفَي آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَي الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ» «2»

، «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 380

تَطْهِيراً» «1»

.«إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» «2»

، «وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً» «3»

، «إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ» «4»

.* ونبدأ البحث في آية سورة الاحزاب وقد وردت الآية في ضمن سياق آيات تخاطب نساء النبي وقد اشبع علماء الامامية البحث عن ان المراد منهم اصحاب الكساء خاصة لا نساء النبي ولذا نكتفي بما قرروه و نتحدث في فقه الآية:

- ان في الآية قصرين احدهما ب (انما) والمقصور عليه اذهاب الرجس عن اهل البيت، والآخر هو تكرار الاسم بعد الضمير في عليكم وهو دال علي القصر والاختصاص أي ان المخاطب هم اهل البيت

- ان الارادة هل هي تشريعية ام تكوينية؟ وهذا أيضا بحثه علماء الامامية واثبتوا ان الارادة تكوينية ونشير إلي نكتتين لذلك:

أحدهما: ان الارادة لو كانت تشريعية وان اللَّه يريد تبيين ان الهدف من ارادته- أي من التكاليف- هو تطهير اهل البيت فهو غير مختص بهم عليهم السلام، حيث ان المعني ان ارادته تعالي

متعلقة بصدور الفعل الواجب تشريعا من غيره بارادته واختياره كما في ارادة اللَّه سبحانه وتعالي صدور العبادات والواجبات من عباده باختيارهم وارادتهم لا مجرد حصولها باعضائهم وصدورها بابدانهم، وحملها هنا عليهم فقط لا خصوصية فيه لان الجميع مخاطبون بذلك كما في «فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّي يَطْهُرْنَ.. إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ»

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 381

لأن التعليل بالاعتزال لا يختص بأهل البيت، بخلاف ما إذا كانت الارادة تكوينية فهي لا تتخلف أي ان المراد يتحقق لا محالة، فيصح التخصيص في لفظ الآية، هذا مع أن الاغلب في استعمال الارادة التشريعية مجي ء لفظ (أن) التفسيرية متوسطة بين الارادة و متعلقها تدليلا علي التكليف.

الثاني: يبقي التساؤل حول التعبير بالمضارع الدال علي التدريجية لا الدفعية واذا كانت الارادة كذلك فهذا يدل علي ان المراد من الارادة هو التشريعية لا التكوينية إذ ان الارادة التكوينية لا يتخلف عنها المراد فلا مجال للتدريج والاستمرار، مضافا إلي ان أهل البيت استخدمت في القرآن واريد منها الزوجة كما في سارة امرأة ابراهيم «رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ».

اما الاخير فجوابه ان سارة هي ابنة عم ابراهيم فهي من اهل بيت الوصاية وهي من اهل البيت من هذه الجهة لا من جهة زوجيتها لابراهيم. مع انه في هذه الآية أيضا لم يستعمل في خصوص الزوجة، وكذا في قوله تعالي حول موسي عليه السلام «وَسَارَ بِأَهْلِهِ» حيث أن الاطلاق عليها وهي حامل مقرب.

وعلي أية حال فاطلاق الاهل علي ذي الرحم ودخوله فيه لا ريب، وأما الازواج فعلي فرض الاطلاق فليس اطلاق ذاتي بل معلق علي الوصف وهو الزوجية، ويزول بزواله وظاهر الحكم في الآية أنه بلحاظ الذوات هنا، مضافا إلي ما

حرره العديد من الاعلام من ورود الروايات من طريق العامة علي قراءة الرسول صلي الله عليه و آله هذه الآية ستة اشهر علي باب اصحاب الكساء، أي اختصاصها بهم عليهم السلام، مضافا إلي تغاير الضمير بين آيات سورة الاحزاب المخاطبة لنساء النبي صلي الله عليه و آله بضمير جمع الاناث بينما الضمير في الآية بلفظ جمع المذكر كما ان لسان تلك الآيات التحذير والوعيد والتشدد بينما لسان هذه الآية المجد والتودد مما يوجب الوثوق بأن هذه الآية أقحمت بين تلك الآيات عند جمع القرآن الكريم.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 382

اما الاشكال الاساس في الارادة فجوابه: أولا: ان الارادة التكوينية علي نحوين اما دفعية واما تدريجية كما في الامطار وارسال الرياح لواقح، وهذه التدريجية لا تقدح في كونها تكوينية وذلك لان الخاصية الاساس لها هو عدم التخلف وهي متوفرة، وكونها تدريجية لا يقدح في كون الارادة تكوينية. اما ان التدريجية تقدح في العصمة فهذا أيضا غير تام وذلك لان العصمة علي درجات فالملائكة معصومون ولكن هذا لم يمنع ان يتركوا الاولي، والمسلمون قاطبة يجمعون ان النبي الخاتم صلي الله عليه و آله بالنسبة إلي ربه تعالي هو في تكامل مستمر ويكتسب الفيض منه تعالي، وان كان بالنسبة لمن دونه لا يصل إليه احد لما له من مقام لا يصل إليه نبي ولاوصي، إذن التدريجية لا تنافي العصمة لان التكامل والسير نحو اللَّه مستمر وهم مكلفون بحقيقة التشريع.

وأما الاشكال: بأن الاذهاب من زاوية التدريج لا يستلزم العصمة، لكن من زاوية اثبات الرجس قبل الاذهاب يدل علي عدم العصمة.

فجوابه: ان هناك مقطعين في الآية احدهما يذهب الرجس والاخر يطهركم تطهيرا فلنتأمل في سر المخالفة بينهما! والسر في هذه المخالفة

انه قد قرر في علم الفلسفة والعرفان وايده الاخلاق ان هناك مقامان مقام التزكية او التخلية ثم مقام التحلية و التجلية، وذلك لان التحلية بالفضائل لا يكون إلا بعد التخلية عن الرذائل وهذا شرط في تحقق التحلية وبدونه لا تتحقق، وفي مقامنا نقول ان اذهاب الرجس تخلية والتطهير تحلية ويلاحظ أن التطهير- وإن كان مستمرا- فعلي حيث لا يوجد فيه دلالة علي الاستقبال بل انه مؤكد بالمفعول المطلق وهذا يدل علي الوقوع الحالي فلا بد من وقوع الاذهاب قبل ذلك، وهذا التطهير غير متناهي.

ثم ان هناك معني آخر لإذهاب الرجس يجتمع مع ما تقدم من المعني وهو بمعني الإبعاد وأن لا يقترب الرجس من الذات والتوقية عن حريم ذواتهم نظير

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 383

قوله تعالي «لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ» «1»

، أي الصرف فلا يقترب إليه.

والجواب الثاني: يذكر علماء الاخلاق والعرفان ان المرتبة الادني من العصمة هي عدم الرجس وما فوقها كمالات، كما ان ليس كل عدم يطلق عليه رذيلة، وذلك لأن العدميات تصنف إلي قسمين احدهما ما يكون منشأ للرذيلة والشرور والاخر عدم كمال، والمنطقة الاولي من العصمة سميت بإذهاب الرجس، ومنه يبدأ السير التكاملي.

اما المراد من الطهارة في الآية:

فهي في معناها اللغوي مقابل القذارة وقد استعملت في القرآن في مصاديق مادية ومعنوية، اما الاولي ففي النقاء من الحيض وموارد الاستنجاء بالماء، اما المعنوية فقد عبر عن الكفر بالرجس في آيات عديدة «كَذلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَي الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ»، وقد اطلق فيها الرجس علي احد معاني الشرك أو الالتفات لغير اللَّه.

وللطهارة مراتب ومدارج نستفيدها من نفس القرآن الكريم ففي سورة الدهر «وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً» في الرواية عن الامام الصادق عليه

السلام قال: «يطهرهم عن كل شي ء سوي اللَّه» «2»

، فهؤلاء الذين ادخلوا الجنة ونعموا بها يبقي هناك مجال للتطهير مع انهم داخل الجنة ولا يدخلها إلا المؤمنون، ولكن مع ذلك يمكن ان ينظروا بانشداد وجذبة في هذه الجنة إلي غير الذات الالهية نظرة مستقلة وهذا معني للشرك دقيق قد لا يلتفت إليه الانسان في حياته اليومية، وفي بعض الروايات نري التعبير ان كل شي ء شغلك عما سوي اللَّه فهو صنم، وهذا يدلنا علي ان الطهارة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 384

لها مدارج عديدة وعجيبة.

* ثم أن هاهنا تحقيق دقيّ يزول به اللبس المتوهم في معني الإذهاب، وذلك بالامعان في هذه النكتة العقلية وهي أن الرفع وإن عرف بأنه إزالة ما كان، والدفع ممانعة الشي ء عن الحصول منذ البدء إلا انه في الواقع يرجع الرفع في حقيقته إلي الدفع لأنه أيضا ممانعة من الوجود غاية الامر بقاءا، إذ أن وجود الشي ء حدوثا لا يشفع في وجوده بقاءا بل هو محتاج إلي سبب ليفيض عليه وجوده أناً فآناً فمن ثم يتضح أن الرفع هو دفع ممانعة عن حصة الوجود اللاحقة لا أن ما هو موجود بالفعل يزال ويعدم في عين فرض وجوده، فإن ذلك تناقض فإن العدم لا يصدق علي نفس الوجود، فمن ثم يتضح أن الرفع أو الاذهاب في حقيقته دفع وليس هناك رفع حقيقي، نعم المصحح للتفرقة هو الوجود السابق ثم لحوق العدم أو العدم من الابتداء، ولكن المصحح للتفرقة لا ينحصر بذلك بل يسوغه أيضا وجود القابلية في المحل، إذ أن الممانعة التي في الدفع لا تصحح إلا بوجود الاقتضاء القابلي وإلا فلا معني للممانعة «لولا التقي لكنت أدهي العرب» وهو ممانعة التكليف، فالاذهاب والرفع والدفع

يصححه الامكان الذاتي والاقتضاء القابلي، فليس يتوقف الذهاب علي الوجود الفعلي كما يتوهم وهذا الذي قررنا باللغة العقلية هو المعني الثاني للاذهاب الذي اشرنا إليه سالفا بمعني الصرف والابعاد للرجس عن حريم الذوات المطهرة.

* اما الآية الثانية وهي «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ء 78 لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ».

لقد تقدم البحث في شئون الكتاب في الطوائف السابقة ونشير هنا إلي المراد من المس، وقد ذكر ان المس غير اللمس الحسي بل يقصد به الادراك والعلم به، وعليه يحمل علي ان الكتاب مكنون في العوالم العلوية لا يصل إليه إلا المطهر،

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 385

والمطهر بقول مطلق هو الذي عنده علم الكتاب وبهذا يكون التناسب بين هذه الآية وبين الآيات السابقة في الكتاب.

* آيات الاقتران بين التوبة والطهارة.

وهنا نلاحظ ان منشأ التوبة هو منشأ الطهارة، وبيانها العقلي ان كل أوبة وتوبة هو رجوع وسير إلي اللَّه عز وجل إذ هو انقلاع للنقائص، والبعد عن الباري هو سبب النقائص والقرب منه تعالي هو سبب الكمال.

* آيات الاصطفاء.

وواضح ان المراد منها هو الغربلة والانتقاء ومنها «إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَي الْنَّاسِ بِرِسَالاتِي» «1»

، وهو اختصاص بمقام غيبي واصطفاء آل ابراهيم وآل عمران علي العالمين واضح فيه انه لمقام فوق مقام بقية العالمين، وفي بعض الآيات «قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَي عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَي» «2»

، وهذا سلام مخصوص يدل علي مقام مخصوص.

الطائفة السادسة: آيات شهادة الاعمال … ص: 385

«وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» «3»

.«كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُونَ ء 19 كِتَابٌ مَرْقُومٌ ء 20 يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ» «4»

.وقوله تعالي «إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَي وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْنَاهُ

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 386

فِي إِمَامٍ مُبِينٍ» «1»

. وهذا المقام هو مقام غيبي

حيث فيه شهادة اعمال الأمة.

«لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَي النَّاسِ» «2»

.الكلام يقع أولا في الشهادة علي الناس فليس المراد شهادة مطلق المسلمين بل المراد ثلة خاصة منهم لقرائن:

- لما ورد في آية الحج «وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هذَا..» «3»

والتعبير ب (أبيكم) حيث لا يراد منه مطلق المسلمين.

- إن هذه الامة المسلمة التي دعي لها ابراهيم ربه «رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً» «4»

، وهذه هي التسمية التي اطلقها ابراهيم عليهم.

- ما ورد في آيات عديدة من خصائص لذرية ابراهيم من الاصطفاء وان ليس كل الذرية مشمولون بكل دعاء وقوله تعالي «وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» «5»

.- وقوله تعالي «فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَي هؤُلَاءِ شَهِيداً» «6»

، ومن الواضح ان مقام الشهادة ليس لكل الناس بل لفئة خاصة حيث يكون الرسول شاهدا علي جميع الامم الغابرة، وهذا يقتضي نوع خاص من التحمل، خارج اطار الحياة البشرية حيث انها قبل ولادة الرسول وبعد وفاته.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 387

- إن سنخ هذه الشهادة التي هي مقرونة برؤية اللَّه تعالي للاعمال تعني أن التحمل لهذه الشهادة ليس من سنخ الادراك الحسي إذ هو ممتنع في حقه تعالي لأنه ليس بجسم، وممتنع في حق رسوله صلي الله عليه و آله والمؤمنون المعنيون في الآية، بحسب أجسامهم البدنية أن يفرض لها الاحاطة بكل الناس مع ان رؤية الاعمال غير مخصوصة بما إذا كانوا في النشأة الدنيوية للتأبيد والعموم في الآية، فيحدس اللبيب بالقواعد العقلية أن نحو الإحاطة بأعمال العباد إحاطة ملكوتية

في طول إحاطة الباري تعالي.

- وقد ورد مثلها في قوله تعالي «وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَي النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» «1»

، وفي قراءة أهل البيت «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً» حيث فرع غايتين علي الوسطية شهادتهم علي الاعمال وشهادة الرسول عليهم وهذه الوسطية ليست متوفرة في جميع افراد الامة، ففيها الطغاة والظالمين فليس كونهم مسلمين هو الذي جعل لهم تلك الوسطية بل أن الوسطية في الصفات العلمية والعملية والخلقية- بين الافراط والتفريط- علي نحو الاطلاق تعني التوفر علي أكمل الصفات وأعلاها وإلا لم يكن وسطا ميزانا شاهدا وهو يعني العصمة من كل النقائض.

وفي العياشي عن الصادق عليه السلام قال: ظننت ان اللَّه عني بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحدين أفتري أن من لا يجوز شهادته في الدنيا علي صاع من تمر يطلب اللَّه شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الامم الماضية، كلا لم يعن اللَّه مثل هذا من خلقه يعني الامة التي وجبت لها دعوة ابراهيم كنتم خير امة اخرجت للناس وهم الائمة الوسطي وهو خير امة اخرجت للناس «2».

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 388

إذن ما نستفيده من الآية ان الرسول له مقام الشهادة علي كل الامم والائمة علي كل اعمال الناس، وفي قوله تعالي لعيسي بن مريم «مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ» «1»

، فهو شهيد عليهم في زمن حياته، بخلاف شهادة النبي صلي الله عليه و آله فهو مقام شهادة يفوق مقام شهادة بقية الانبياء.

كما نستفيد من هذه الطائفة ان الامام هو رائد قافلة الاعمال الذي له وسطية الفيض في العمل وله احاطة بالعمل، وقد ورد في كثير من تعاريف

الامامة علي لسان الائمة بشهادة الاعمال، فقد روي في بصائر الدرجات بعدة اسانيد معتبرة عن الباقر عليه السلام: أن الامام إذا قام بالامر رفع له في كل بلد منار ينظر به إلي أعمال العباد، وروي بعدة أسانيد أخري أنه يجعل له في كل قرية عمود من نور يري به ما يعمل أهلها فيها «2».

الطائفة السابعة: آيات الولاية … ص: 388

وهي الآيات التي تبين مقامات من ولاية النبي صلي الله عليه و آله في الامة ولسان آخر تبين ان الولاية للنبي وآخرين معينين «أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ»، «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ» «3»

.وهذه الآيات وثيقة الصلة ببحث التوحيد في الطاعة وهي آيات اغلبها مدنية وقد اشبعنا البحث حولها في الفصول السابقة، اما هنا فالكلام في نقاط:

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 389

* قوله تعالي «النَّبِيُّ أَوْلَي بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ» «1»

.في هذه الآية يطرح بحث حول حدود ولايته وسلطانه، وكما ذكرنا مرارا ليس الغرض من القرآن التفنن الادبي الصرف والتزويق اللفظي المجرد بل الالفاظ لقولبة المعاني وهندسة القواعد وتحديد الحقائق، وأن انتقاء الالفاظ للدلالة علي المعاني المعينة المحددة، وهنا يعبر عز من قائل عن النبي بأنه اولي من النفس فكل ما يثبت انه شأن من شئون النفس فالنبي اولي به وشئون النفس غير منحصرة في الارادة قال العلامة: «فالمحصل ان ما يراه المؤمن لنفسه من الحفظ والكلاءة والمحبة والكرامة واستجابة الدعوة وانفاذ الارادة فالنبي أولي بذلك من نفسه ولو دار الامر بين النبي وبين نفسه في شي ء من ذلك كان جانب النبي ارجح من جانب نفسه.، وكذا النبي اولي بهم فيما يتعلق

بالامور الدنيوية أو الدينية كل ذلك لمكان الاطلاق في الآية» «2».

وهكذا تظهر الاولوية بنصوصية في قوله تعالي «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَي اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ»»

، وواضح من نزول الآية كون موردها قضية شخصية وهي زواج زينب بنت جحش وهو امر شخصي وهذا يعني ان ولايته تعم حتي الامور الشخصية

- وهاهنا اشكالات قد تطرح علي تعميم الولاية:

1- و حاصله ان ارادة النبي لو كانت في الاغراض الشرعية والامور العامة المهمة التي يعتمد عليها مصير الجماعة فيكون هناك وجه لتقديم ولاية النبي صلي الله عليه و آله، اما لو كانت إرادته صادرة عن أمر نفساني خاص وشوق شخصي فإنه لا يليق بالشريعة

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 390

ذلك، وأنه لو كانت الولاية عامة لشملت حتي وطي الزوجة والنظر إلي محارم المؤمنين.

والجواب: أن هذه الأحكام منوطة بعناوين خاصة كالزوجية وعناوين الرحم الخاصة كالابن والاب والعم ونحو ذلك، مضافا إلي عدم كونها أفعالا منوطة بالرضا والاختيار أي بقدرة وولاية الشخص فلم ينط حلية وطء الزوج للزوجة برضا الزوج ولم يعلق حلية نظر لمحرم للمرأة المحرم برضاه، والولاية خارج هذا الاطار وانما الولاية تشمل المواطن التي تناط بالاختيار والارادة وتكون للمؤمن ولاية علي نفسه، وبتعبير آخر الاشياء الثابتة للمؤمن بما هو مؤمن وليست ثابتة له بعنوان خاص مثل عنوان الولد أو الاب أو الزوج لذا لا تصح المقايسة بين البيع والنظر لان في الاول منوط بالرضا والاختيار لذا يستطيع المالك ان ينيب غيره عنه بخلاف الوطي فإنه لا يعقل ان ينيب فيه أحد عنه والطلاق كفعل مثل انيط برضا بالزوج بما ان له الولاية وحينئذ يثبت للنبي صلي الله عليه و آله.

2- ما ذكره

البعض ان الآية ليست في صدد بيان الولاية الخاصة للنبي علي الامة بل في صدد بيان ولايته علي بيت المال وإمرة المؤمنين بدليل ما ورد في أدلة الارث من أن النبي ولي من لا ولي له، وان الامام من ضمن طبقات الميراث وانه إذا لم يوجد من يسدد ديون الميت فالامام هو الذي يقوم بسداده، مع الاستدلال بهذه الآية في مثل تلك الروايات منها ما روي عن النبي صلي الله عليه و آله أنه كان يقول: «أنا أولي بكل مؤمن من نفسه فأيما رجل مات وترك دينا فإلي، ومن ترك مالا فهو لورثته» «1»

، وأمثال هذه الروايات العامة التي تثبت ولايته في الامور السياسية العامة وما يشبه الضمان الاجتماعي في يومنا هذا.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 391

ولكن الحق أن كل هذا لا يدل علي تحديد لولاية النبي صلي الله عليه و آله وذلك لأن الآية ظاهرة في أن للنبي مقاماً فوق منزلة النفس يجب الانصياع لها في كل مورد يوجد نفوذ للارادة التي هي في مجال الولاية، وهذه الروايات في الارث لا تتنافي مع هذا الذي ذكرناه وذلك لأنها تعلل وتنزل ولاية النبي علي الامة منزلة الوالد علي الولد وهذه الولاية تعني أنه في موارد التزاحم تنفذ ولاية الوالد بمناط حرمة العقوق ووجوب الطاعة (وهي لا تعني أن يجب ان يستأذن من والده في كل تصرف) وهكذا في مورد البيع أنيط برضا المالك الشخصي ولم ينط بارادة النبي صلي الله عليه و آله، وكذلك بقية التصرفات الاعتبارية انيطت بالملاك الشخصيين ولم تنط بولاية النبي، نعم في بعض الموارد إذا أعمل النبي صلي الله عليه و آله ولايته وارادته تكون المفاضلة له وهي النافذة.

هذا في موارد وجود

الارادة النبوية اما في موارد عدمها فأن صرف الاعتقاد والمحبة هو الذي يكون عليه الفرد المسلم، ويوطن نفسه أنه في بعض الموارد إذا أراد النبي استعمال ارادته.

3- أنه لا يعقل تعميم الولاية للميل الشخصي أي أن النبي صلي الله عليه و آله يعمل ولايته تبعا لرغبات وأمور شخصية، لأنه يكون فيها نوع من الاستبداد الذي ينبذه القرآن والعقل فلا بد من اعتماده ميزانا شرعيا يرجع إليه في تصرفاته، وهذا يعني أن ولايته غير مطلقة بل محددة، وشبيه بهذا ما يقال في الأنفال والأخماس من أنه ليس ملكا شخصيا للامام بل هو للمقام، ويترتب عليه أن الامامة حينئذ لا تكون حيثية تعليلية بل تقيدية، لأنها إذا كانت تعليلية فتكون ملكا شخصيا للامام، وعليه لا يكون المعصوم منطلقا من الميول الشخصية خصوصا في الأمور العامة ومصالح المسلمين.

والجواب: إن في هذا الكلام خلط لأنا عندما نتكلم عن اعمال الولاية في الأمور

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 392

العادية والشخصية هل مرادنا هو غرائز المعصوم أم الارادة المعصومة؟ ولاشك أنا نريد الثاني وأصل البحث أن ثبوت هذه الولاية لهم هو بتعليل عصمتهم، فهم آباء هذا الامة فارادته معصومة عن الزلل والخطأ وغرائز الشهوة وكبرياء الذات، ولا يمكن أن تصدر منه نزوة و لا يكون تصرفه صادر عن جهالة، بل إنا من تصرفه نستكشف الارادة الشرعية لأن ارادته هي ارادة شرعية وإنْ لم نعلم جهتها الشرعية، وخلاصة القول:

إن المعصوم غير خال من الغرائز والشهوات كبقية بني آدم، لكن الفارق أن مبدأها هو العقل والارادة الالهية التي تجعل كل فعل يقوم به الانسان يكون خالصا لوجهه الكريم ولا يكون مبدؤها الشهوات الطامحة البهيمية التي تأكل الإنسان العادي، بل القوة العاقلة المتصلة بالافق المبين هي

التي تسيطر علي جميع القوي المادون فتجعلها تسير في خط مستقيم لا ينحرف عن جادة الصواب والحق.

وهذا يقودنا إلي بحث آخر وهو ان الجنبة البشرية في النبي والامام هل تعني الغاء الافعال الغيبية أو ان الجنبة الغيبية للمعصوم تلغي افعاله البشرية؟

وللاجابة عن هذا التساؤل نقول أنه يذكر في اقسام العبادات: عبادة الاحرار وهو من يعبد اللَّه حبا فيه وأنه أهلا للعبادة، وعبادة التجار وهي عبادة من يرغب في الجنة، وعبادة العبيد وهي من يعبد اللَّه خوفا من النار، ومن جانب آخر نري في الادعية حرص الائمة علي العبادة والدعاء خوفا من ناره وطلبا لجنته، وقد ألفت صدر المتألهين- في مبحث المعاد من كتاب الاسفار- إلي ان هذا الرجاء والخوف لا ينافي الاكملية، إذ أن تلبية الغرائز الدانية للنفس ليس ينافي الا كملية دوما فليس كل من طلب بعبادته الجنة فهي عبادة التجار بل توجد روايات تشير إلي أن الذي يعبد طلبا للجنة بما هي جنة من دون غاية أخري فهي عبادة التجار أما إذا أتي بالعبادة طلبا للجنة والنجاة من النار كغاية متوسطة، والغاية النهائية هي اللَّه فلا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 393

يكون خلافا للراجح وتكون هي عبادة الاحرار.

وببيان عقلي ان لكل قوة من قوي النفس كمال تسعي إليه وهذه القوي المادون كمالها هو في النعيم الاخروي والاجر والابتعاد عن النار، فيجعل الانسان سعيه في الدنيا لغرض تسكين تلك الغرائز في النشأة الدنيوية كي لا تمانعه من أن يسير في طريق آخر وهو طريق الحق وسير النفوس في كمالاتها العالية، فالخوف من النار وطلب الجنة هو غاية متوسطة للقوي النازلة حتي لا تمانع من سير النفوس العالية.

وروي في الصحيفة السجادية أنه عليه السلام رؤي بعد منتصف

ليلة متهيأ بأحسن وأجمل هيئة لي سكك المدينة فسئل: إلي أين؟ فقال عليه السلام: إلي خطبة الحور وقصد بذلك التهجد في المسجد النبوي، وفي كفاية الاثر في باب ما جاء عن الصادق عليه السلام في التنصيص علي الائمة عليه السلام في حديث قال عليه السلام: أن اولي الالباب الذين عملوا بالفكرة حتي ورثوا منه حب اللَّه فإن حب اللَّه إذا ورثه القلب استضاء به وأسرع إليه اللطف فإذا نزل منزلة اللطف صار من أهل الفوائد فإذا صار من أهل الفوائد تكلم بالحكمة فإذا تكلم بالحكمة صار صاحب فطنة فإذا نزل منزل الفطنة عمل في القدرة فإذا عمل في القدرة عرف الاطباق السبعة، فإذا بلغ هذه المنزلة جعل شهوته ومحبته في خالقه «1».

4- أنه ورد في معتبرة السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: «إذا حضر سلطان من سلطان اللَّه جنازة فهو أحق بالصلاة عليها، وإن قدّمه ولي الميت وإلا فهو غاصب» «2»

فقد قيد صلاته علي الجنازة بإذن ولي الميت، ولم يجعل أولي منه.

والجواب: أن متن الرواية متدافع حيث ان اثبات الاحقية يفيد اولويته علي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 394

الكل وعلي ولي الميت، والتقييد بأن قدمه ولي الميت، ينفي الاحقية الخاصة به، إذ أن من يقدمه ولي الميت أحق من غيره سواء كان السلطان أو غيره فلو كان المدار علي تقديم من يقدمه ولي الميت فلا اختصاص لها بالسلطان كما ان الاحقية هي لتقديم ولي الميت، فلو لم يقدمه لما كان أحق، فكيف يجعل الاحقية الخاصة به دون بقية الناس.

فالوجه في مفاد الرواية هو كون المراد ان سلطان اللَّه أحق بالصلاة، وعلي ولي الميت تقديمه علي الجميع، وإلا فولي

الميت غاصب في التصرف فيما غيره وهو السلطان أحق منه، ويعضد هذا التفسير لمفاد الرواية، ما رواه الكليني في الصحيح عن طلحة بن زيد- وهو وإن كان عاميا بتريا إلا ان الشيخ الطوسي وصف كتابه بأنه معتمد- عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: إذا حضر الامام الجنازة فهو أحق الناس بالصلاة عليها «1» وقد رواه الشيخ في التهذيب أيضا، فإن ظاهر اطلاقها الأحقية علي الجميع بما فيهم ولي الميت، ويكفي بيانا في المقام قضية زواج زينب بنت جحش من زيد بن حارثة، فقد روي في تفسير البرهان عن الكليني عن أحمد بن عيسي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في قول اللَّه عز وجل «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا» قال: أنما يعني اولي بكم أي أحق بكم وبأموركم وانفسكم وأموالكم وللَّه ورسوله والذين آمنوا يعني عليا واولاده عليهم السلام إلي يوم القيامة.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 395

المبحث الرابع: الامامة في السنة النبوية … ص: 395

اشارة

وجريا علي ما اتخذناه من المنهج فإنا لن نتعرض للروايات الخاصة الواردة في مقامات الائمة عليهم السلام بل سوف ننتقي الروايات التي تواتر نقلها لدي الفريقين والتركيز علي الفقه العقلي والذوق المعرفي.

الحديث الأول: حديث الثقلين … ص: 395
اشارة

وهو حديث متواتر ومشهور بين العامة والخاصة ويظهر التسليم علي أنه قد ذكره النبي الاكرم صلي الله عليه و آله في مواطن عدة حتي قال ابن حجر الهيثمي في صواعقه: ثم اعلم ان لحديث التمسك بذلك طرقا كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابيا، ومر له طرق مبسوطة في حادي عشر الشبه، وفي بعض تلك الطرق أنه قال ذلك بحجة الوداع بعرفة وفي أخري أنه قاله بالمدينة في مرضه وقد امتلأت الحجرة بأصحابه، وفي أخري أنه قال ذلك بغدير خم، وفي أخري أنه قال لما قام خطيبا بعد انصرافه من الطائف، ولا تنافي إذ لا مانع من أنه كرر عليهم ذلك في تلك المواضع وغيرها اهتماما بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة «1».

والاستدلال من طرق العامة في ثبوت هذه الاحاديث له فائدة في افحام الخصم لأن الحديث كلما كان نقلته غير مؤمنين بما ورد فيه كلما كان ابعد عن الرمي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 396

بالتدليس والكذب.

والبيان الاجمالي لهذا الحديث هو: ان النبي اشترط للنجاة من الضلال التمسك بالعترة ومن ثم ورد في كثير من الروايات انهم اعدال الكتاب فلا مجال لمقولة حسبنا كتاب اللَّه ولا أن يقال حسبنا الروايات المأثورة، وعلي حسب تعبير العلامة: ان من يقول حسبنا كتاب اللَّه فقد خالف الحديث وذلك لأن من فارق التمسك بهما فقد فارقهما لا أنه فارق أحد والتزم بالاخر.

ثم أن مقتضي العِدلية هي اتحاد صفاتهما، فإذا كان الكتاب تبياناً لكل شي ء ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا

من خلفه ونور وهدي وغير ذلك هو ثبوت الصفات للعِدل الآخر، ومن ثم تسمي كل منهما باسم الآخر، فهم القرآن الناطق، والكتاب امام لمن استهداه وعمل به.

ومن الغريب بعد ذلك حسر مفاد حديث الثقلين بكون مفاده كالقاعدة الفقهية، وهو كون مصدر التشريع الكتاب والعترة، وحجية اقوالهم، كيف وأن نفي الضلال المشروط بالتمسك بهما ليس مخصوصا بالاعمال الجارحية، بل أن الشطر الاعظم في جانب الضلال هو في العقيدة والمعرفة فبالتمسك بهما يتحرز عنه اولا، وعن الضلال في الفروع ثانيا، كما ان الكتاب الكريم أكثر ما اشتمل عليه هو في المعتقدات والمعارف، وكذلك مجموعة المنظومة الروائية المأثورة عنهم عليهم السلام، وهل يتم التمسك بالكتاب- مع ذلك- من دون الاعتقاد به انه منزل من الباري تعالي، فكذلك في التمسك بالعترة لا يتم من دون الاعتقاد بنصبهم من قبله تعالي، مع ان لازم حجية اقوالهم الاخذ بما يدعون إليه من الاعتقاد بامامتهم.

1- حديث الثقلين في القرآن الكريم: … ص: 396

ذكرنا سابقا ان هذا الحديث الشريف اكد عليه القرآن في ضمن مجموعة من الآيات نستعرضها:

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 397

1- قوله تعالي «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «1»

، وقوله تعالي «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْ ءٍ» وغيرها من الآيات الدالة علي ان الكتاب الكريم فيه تبيان لكل شي ء ولا يعدوه شي ء ثم نربط هذا بقوله تعالي «هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» «2»

، حيث ان القرآن- الحامل لهذا النعت المادح لنفسه- لابد ان يوجد من يصل إلي هذا البيان العظيم الذي اقتصر علي الذين اوتوا العلم وصاروا هم المحيطون به احاطة علمية تامة، فقد جعل اللَّه لهذا القرآن عِدلا مطلعا علي أسراره واحاطته، وهؤلاء موجودون ما وجد القرآن، وذلك لأنه لو كان تبيانا ولا يوجد

من يصل إلي هذا التبيان لما كان هناك فائدة من هذا الوصف، واللطيف أنه لم يدع احد من المسلمين علم ما في القرآن إلا هم عليهم السلام.

2- قوله تعالي «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ»، وهي دالة علي ان للقرآن مرتبة وجودية تكوينية غيبية لا يصل إليها أحد إلا المطهرون المعصومون، كما نستطيع اقتناص عدة نكات من الآية: آ- أن مس هذا الكتاب المكنون وهو مرتبة للقرآن- قد أشرنا سابقا إلي مؤداها تفصيلا- مختص بالمطهرين مما يدل علي ان لهم رقي روحي يجعلهم قادرون علي الوصول إلي تلك المرتبة، ب- انهم معصومون، ج- ان المؤهل لنيل هذه المرتبة العلمية العالية بسبب الطهارة والعصمة.

3- قوله تعالي «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرَ مُتَشَابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ». ويستفاد منها:

أ- ان الاستفادة المستقلة من الكتاب من دون توسط الراسخون غير ممكن

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 398

ويجب الاستهداء بهم في رفع المتشابه.

ب- كما تدل علي أن المحكم أيضا لا سبيل للوصول إليه من دونهم وذلك لأن المحيط بالمحكم يرتفع عنده التشابه حينئذ حيث انها ام الكتاب والامومة هي في الاحاطة التامة، فهم يهدون إلي القرآن وعليه نستطيع فهم المعية فهما صحيحا فلا مقولة حسبنا كتاب اللَّه تامة ولا مقولة حسبنا الروايات المأثورة تامة بل هما معا.

ج- إن هذه الآية تدل علي وجودهم دائما لأن القرآن موجود دائما والمحكم والمتشابه موجودان فيجب أن يكون هناك من يرفع هذا المتشابه خصوصا أن التشابه في كثير من الاحيان يعود إلي المصداق والتطبيق لا المعني المراد، و

إلي تأويل القرآن تطبيقاته حيث أن كثير من الاخطاء والانحرافات تنشأ من ارجاع الصغريات أو الكليات العديدة المتوسطة إلي الكليات الفوقانية.

ومن هنا ايضا نفهم كيف يقاتل عليه السلام علي التنزيل وعلي التأويل ايضا، ومن هنا نتوجه لمعني ما روي عنهم عليهم السلام أنهم الكتاب الناطق، وأن بدونهم يعني تعطيل الكتاب وترك التمسك به، ومن أمثلة رفع التشابه ما ذكره المشايخ الثلاث وابن حمزة والحلبي ان من فوائد وجوده عليه السلام أنه ينبه بوسائل خفية بوسائط غيبية شيعته، ولذا اعتبروا الاجماع حجة من باب اللطف وأن الامام إذا وجد الاتفاق علي الخطأ فإنه يتدخل لازالته واحداث الخلاف فيرتفع الاتفاق.

د- ان هذه الطائفة تدلل علي وجوب الاتباع في الجزئيات والكليات المتوسطة، ومن ثم يدل علي لزوم الائتمام بهم وهذا هو الهداية الايصالية التي هي حد الامامة، فإذا كان امير المؤمنين عليه السلام قاتل علي التأويل فإن بقية الائمة يهدون إلي التأويل، فليس الايمان فقط بالتنزيل بل المهم ايضا الايمان بالتأويل وأنه بيد ثلة خاصة هم اهل البيت عليهم السلام، إذ ما الفائدة في الايمان بالكليات الفوقانية مع فرض الخطأ في الكليات المتوسطة بدرجات عديدة و في الجزئيات والمصاديق.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 399

4- قوله تعالي «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْ ءٍ» وقوله تعالي «وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ».

وواضح الارتباط بين الآيتين إذ أن الكتاب الحاوي لكل شي ء ولم يغادر صغيرة ولا كبيرة وان الذي عنده علم الكتاب هم أهل البيت عليهم السلام.

5- قوله تعالي «كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» الدالة علي أن الصادقين المأمور بالكون معهم موجودون في كل زمان ومكان.

2- أما ما ورد من الالفاظ في الحديث الشريف: … ص: 399

التعبير ب (الثقل) وهو العيار الذي يوضع ليثبت به الميزان، وقد يعبر به عن الثقل والتثبت وأن حركته تكون مطمئنة

فالكتاب والعترة هما اللذان تستقر بهما الحياة المطمئنة الدنيوية، وبارتفاعهما يرتفع الاستقرار، وبهذا المضمون «لولا الحجة لساخت الارض بأهلها».

- (فيكم) مما يدل علي التواجد الدائم وأنه امر يتوصل إليه وليس ممتنعا.

- «ما ان تمسكتم بهما» لم يقيد التمسك بمورد معين أو في مجال ما، بل جعله مطلقا حتي يشمل كل شي ء ومطلق الامور وخصوصا أن القرآن جامع لكل العلوم.

- «لن تضلوا أبدا» تأكيد الاطلاق ب (أبدا) يدل علي عدم الضلال المطلق وهو يعني أنه غير مختص بالارائة فقط بل يعمه إلي الهداية الايصالية وهو يدلل علي ماهية الامامة التي ذكرناه.

- «لن يفترقا» دليل علي العصمة حيث أن العترة مع الكتاب دوما، والكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه، وهذا غير مختص بهذه النشأة بل يدل علي الاتصال في جميع مراتبه ومدارجه

- إن المعية بين القرآن والعترة مؤبدة بدليل قوله «حتي يردا علي الحوض» وهذا يشمل جميع النشآت التالية للدنيوية والبرزخ والبعث وتطاير الكتب … والمراد

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 400

من الحوض هو حوض يوم القيامة وقد يشار به إلي حقائق أخري، كما يستفاد من الورود علي النبي انه صلي الله عليه و آله أعلي مكانة ومنزلة ومقاما من العترة ومن الكتاب إذ انه المرجع والمنتهي، وهو المبدأ «إني تارك» لحجية الثقلين وهو المنتهي (علي الحوض) لهما.

3- النظريات في تفسير المعية بين القرآن والعترة: … ص: 400

ثم إن مقتضي المعية الواردة فهي هو التلازم بينهما كما ذكرنا مرارا وهاهنا بحث في تفسير هذه المعية وقد ظهرت ثلاث نظريات في بيان العلاقة بينهما:

النظرية الاولي:

حسبنا كتاب اللَّه وأنه هاد، ولذلك ورد الأمر في تمييز الحجة عن اللاحجة من الروايات في عرضها علي الكتاب الكريم، وهذا مؤيد بأنه المعجزة الخالدة الباقية الذي لا يأتيه الباطل من بين

يديه ولا خلفه، ودور اهل البيت هو كونهم مقدمة للقرآن الذي عليه المدار فإذا وصل واصل إلي تلك المفادات بأي طريقة كانت فبها ونعمت فيكون الآل طريق ليس إلا، ويستدل لهذا البيان بقوله تعالي «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ» «1»

، «وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ» «2»

فدوره دور المعلم والدال علي طريق التعليم والأصل هو القرآن، ويعضده ما ورد من تحدي المشركين بأن يؤتوا بمثل هذا القرآن فلو كان مغلقا مقفلا لما كان هناك معني للتحدي، بل إن حجية قوله صلي الله عليه و آله مستمدة من معجزة القرآن وحجيته.

وفي مقام تقييم هذه النظرية نري ان أدلة النظرية الثانية وان لم تتم منفردة فهي بلا شك تخدش في تمامية هذه النظرية، ولكن يمكن الاجابة عن هذه النظرية بعدة وجوه:

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 401

منها: وجود آيات- قد أشرنا إليها وهي التي ذكرنا أنها دالة علي الثقلين ومعيتهما علي الاطلاق وغيرها- وطوائف روايات عدة دالة علي أنهم المخاطبون بالقرآن وهم القادرون علي فهمه وتأويله، والظاهر من عموم الادلة أنه لا يمكن الإستبداد دونهم والانفراد في فهم القرآن.

منها: أن معجزة الرسالة المحمدية ليس هو القرآن وحده والذي يظهر من النصوص- سواء من حديث الثقلين وغيره- أن مقام النبي الخاتم فوق مقام القرآن، فهو كما ذكرنا المبدأ لهما بمقتضي أنه صلي الله عليه و آله أسند وجود الثقلين في الامة إلي نفسه الشريفة «إني تارك» فهو بمنزلة المصدر لاعتبارهما، وهو المنتهي باعتبار «يردا علي الحوض».

بل أحد وجوه حجية القرآن هي صفات الرسول صلي الله عليه و آله «وَإِذَا تُتْلَي عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَايَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ

أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَي إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُل لوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فُيكُمْ عُمُراً مِن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ» «1» «أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنِكِرُونَ» «2»

فأمانته وصدقه ووثاقته كانت بدرجة عالية فائقة تضاهي أمانة وصدق ووثوق المعجزة في الدلالة علي كون القرآن من الباري تعالي، وقد لبث فيهم عمرا لم يأتهم بشي ء لأنه لم يأته من تلقاء نفسه، وهذه كلها من الموثقات علي ان القرآن من عند اللَّه، والتاريخ ينقل لنا ان الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله سأل المشركين: أنه لو اخبرتكم ان العدو وراءكم وراء هذا الجبل أكنتم تصدقوني؟ قالوا: بلي انك الصادق الامين، إذن نفس حجية الكتاب من نفس قطع المشركين بصدقه وامانته، وما رأوا من بقية معجزاته، لكنه العناد

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 402

والتكبر هو الذي منعهم عن التسليم له.

ومنها: ان الاحتياج إلي الغير في فهم القرآن لا يدل علي نقص القرآن الكريم، بل هو أشبه شي ء بالوادي العميق الذي يحتاج في ارتياده إلي رائد يقود المسير والقرآن فيه المحكم والمتشابه والظاهر والباطن، فالنقص في الواقع هو في الانسان الذي يقرأ القرآن ويتداوله حيث لا يستطيع أن يصل إلي أعماقه، لا في القرآن الذي نزل بلسان عربي مبين وعلي الانسان ان يغرف منه ما استطاع طبقا لما يمتلك من القدرات والامكانيات العلمية.

ومنها: أن الصحيح بعدما تقدم هو تكافل الحجج الالهية فصفات الرسول صلي الله عليه و آله وبقية معجزاته أحد وجوه حجية القرآن و القرآن هو أحد معجزات النبي صلي الله عليه و آله، ومن عنده علم الكتاب، والراسخون في العلم، والذين اوتوا العلم …

أحد وجوه حجية

القرآن، وهم شهداء للرسول صلي الله عليه و آله، فالتكافل والتشاهد بين الحجج برهانا وفي مقام الدلالة الاثباتية كذلك.

وأخيرا: قد ذكرنا بحثا مبسوطا في الفصل الاول في جواب منهج العلامة الطباطبائي القائل أنه بممارسة السنة يحصل لنا الدربة في طريقة تفسير القرآن بالقرآن.

النظرية الثانية:

ومؤداها حسبنا الاحاديث المأثورة عن العترة الطاهرة وقد نادي بها الاخباريون، واستدلوا علي ذلك بما ورد بأنهم المخاطبون بالقرآن وأنه لا يحيط بالقرآن إلا أهل البيت، وأن القرآن فيه المحكم والمتشابه وله ظاهر وباطن وفيه العام والخاص والناسخ والمنسوخ، وهذا يعني عدم امكان التوصل لنا إلي معانيه المرادة الواقعية، وكذلك يستدل بما ورد من النهي عن التفسير بالرأي والذي فسر علي أساس النهي عن الاستبداد بالرأي، كما يستدل بالحصر الوارد في قوله تعالي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 403

«والرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ» حيث أن فيها حصرا في عدم العلم بالتأويل إلا لهؤلاء، وهذا يعني ان المحكم ايضا لا يحيط به كل أحد وذلك لأن للمحكم قيمومة علي المتشابه باعتبار أنه أم الكتاب فلو كان غير الراسخين لهم احاطة بالمحكمات فلا يبقي متشابه حينئذ وعليه يبطل الحصر الوارد ان المتشابه لا يعلمه إلا اللَّه والراسخون في العلم.

وما ذكره الاخباريون من مواد الأدلة متين لكن لا يؤدي إلي ما ذكروه، ونفس أدلة النظرية الأولي تبطل أدلتهم، كما أن النصوص القرآنية لا تجعل المدار علي أقوال العترة فقط بل تنص علي أن للقرآن دورا خصوصا مع روايات العرض علي الكتاب، ونفس الآيات التي مفادها حديث الثقلين وكذا نفس الحديث التمسك فيه بهما معا لا بأحدهما هو المدار في عدم الضلال، بل قد تقدم أن التمسك بأحدهما هو تمسك صوري وإلا فهو في واقعه عدم تمسك به أيضا لأنهما

لا ينفكان عن الآخر فالانفكاك عن احدهما انفكاك عن كل منهما معا.

النظرية الثالثة:

وهي التي نادي بها أغلب علماء الامامية والتي تنص علي المعية علي نحو المجموعية لا الاستقلال كما أفادته النظريتان السالفتان، وهذه المجموعية هي المدار في المعرفة الدينية واستنباط الاحكام الشرعية الاصولية والفرعية، فالتعامل يكون معهما كوحدة واحدة. هذا هو البيان الاجمالي لمفاد النظرية، اما المفاد التفصيلي:

فإن المعية بين الكتاب والسنة علي صعيدين أحدهما تكويني والاخر اعتباري باعتبار الحجية. أما الصعيد الاول فقد اشرنا في بحث الآيات إلي طوائف عدة تشير إلي أن للقرآن حقائق تكوينة و مدارج في عالم التكوين، وأن لأهل البيت حقيقة تكوينية وأن تلك الحقيقتين في الواقع واحدة.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 404

ونشير مجملا إلي ذلك ببيان أن المصداق الحقيقي للكتاب هو الشي ء الوجودي الجامع للكلمات الحقيقية فالكتاب له دلالة علي شي ء جامع لكل شي ء وهو شاعر، ومَن تكون له الاحاطة الحضورية بذلك الوجود الجامع، ويكون هناك اتحاد بين العالم والمعلوم والعلم فهذا يعني أن العلم يكون فصلا نوعيا واحدا، وكذا الفصول النوعية للراسخين في العلم والذين أوتوا العلم فهي تدل علي أن الفصل النوعي كمال جوهره ورقيه بذلك العلم، وهو يدل علي الوحدة التكوينية بينهما فهناك معية في مدارج الوجود.

نعم في تنزل هذه الحقائق العلوية تتنزل بكثرة ويعبر عن ذلك في بعض الروايات أن الائمة نور واحد، وقد يعبر عنه في مقام التنزل بالروح الاعظم التي تنتقل من امام إلي امام.

فإذا كان الحال هكذا في مدارج التكوين فهو بنفسه في مدارج الاعتبار، فالوجود الاعتباري اللفظي المصوت أو للنقوش المرسومة في الخط للقرآن في محاذاته وجود اعتباري للامام وهو كلامه، ومما تقدم يتضح أن كلامهم عليهم السلام واحد وإن كان متفرقا

ومجموعه حجة وإن تعددت رواياته، نعم القرآن له اضافة تشريفية في كونه كلام اللَّه وكلام العترة هو دونه وانه كلام المخلوق وفي الجهة الحقيقية التكوينية فإنهم كلمات اللَّه التكوينية، كما في التعبير عن عيسي أنه كلمة اللَّه وهم حقيقة القران.

ومن هنا نفهم لماذا يجب عرض رواياتهم علي الكتاب الكريم بمعني ان المتشابهات من كل من الكتاب والعترة تعرض علي المحكمات منهما جميعا، وما ذلك إلا لأن مصدر الكلام واحد، وقريب من هذا التعبير في عالم الاعتبار والحجية ما يقال إن الكتاب الكريم هو كالمتن، وإن روايات المعصومين هي كالشرح علي المتن وإنهم شارحون لشريعته صلي الله عليه و آله وهادين إليها علي اساس «إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 405

قَوْمٍ هَادٍ».

4- خلاصة ما يستفاد من الحديث … ص: 405

1- أن من المسامحة والبعد عن الانصاف حصر مفاد الحديث في التشريع والفروع حيث أن التمسك بهما ورد مطلقا من دون تقييد ومقتضي الاطلاق وجوب الاخذ بهما في الاعتقادات، كما ان مقتضي ذلك هو وجوب الاعتقاد بكل منهما.

2- دوام وتأبيد بقاء امامتهم وهذا التأبيد شامل لعالم الدنيا والحشر.

3- أن النبي صلي الله عليه و آله هو المبدأ لحجية الثقلين والمنتهي لهما وأنه أفضل من أهل البيت عليهم السلام.

4- ان لهم مقام غيبي باعتبارهم عِدلا للقرآن فصفات القرآن المسطورة في الآيات والسور المتكثرة كلها فيهم بمساعدة الآيات الدالة علي الحديث.

5- المعية في الحجية بين الكتاب والعترة فلا يجوز الاكتفاء بأحدهما دون الاخر.

6- مفاضلتهم علي بقية الانبياء حيث أن الكتاب وصف بأوصاف لم يتصف بها أي من الكتب السماوية التي نزلت علي الانبياء، وكونهم عدل الكتاب المتصف بهذه الاوصاف يدل علي مدارجهم الروحية واحاطتهم بهذا الكتاب الذي امتاز بهذه المميزات.

الحديث الثاني: «من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية» … ص: 405

وهذا من الاحاديث التي ثبتت صحتها من كتب العامة والخاصة والكلام في فقه الحديث.

وللأسف حاول البعض تفسير هذا الحديث سياسيا بمعني وجوب مبايعة الامام

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 406

ولو كان فاسقا ولا يجوز ان تكون رقبة وذمة المكلف خالية من البيعة، وقد وجدناامثال هؤلاء في العصر المتقدم كعبد اللَّه بن عمر مع الحجاج عندما ذهب إليه ليبايعه مستدلا بهذا الحديث، وسوف نتناول الحديث في نقاط عدة:

* إن أول أمر يواجهنا في هذا الحديث هو الأثر المترتب علي عدم المعرفة لا عدم البيعة، وهو أن تكون النتيجة كميتة الجاهلية أي أن هذا الانسان مدرج في الذي لم يشم رائحة الاسلام في الآخرة أي بحسب الواقع، ويكأن الرواية الشريفة تعطي مفاد الآية «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ

لَكُمُ الإِسْلَامَ دِيناً» فرضيت كانت متوقفة علي الامامة التي بلّغها الرسول في هذا اليوم وبها يتم الدين والاسلام كمجموع متكامل وكل شي ء مرهون به، وقبله لم يكن رضا، ولذلك قال عز من قائل «وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ» وهذه كلها تؤكد المضمون الذي يورده هذا الحديث من أن معرفة والاعتقاد بالامامة دخيل في أصل الدين والتدين بالاسلام بحسب الواقع والآخرة.

* نعود إلي الشرط المذكور في الرواية حيث أنه مطلق غير مقيد بشي ء بل هو المعرفة المطلقة مما يدلل علي أن المطلوب العمدة هو أمر اعتقادي، فليس المطلوب الاهم المتابعة في الفروع ولا المتابعة السياسية بل المتابعة الاعتقادية والمعرفة والتدين والائتمام، وهل يعقل ترتب مثل هذه النتيجة وهي الموت ميتة الجاهلية علي مجرد عدم المتابعة في الفروع، بل الأمر أهم وأكبر وهو محور اعتقادي المعرفة والاعتقاد، ولو فرض المتابعة السياسية المصطلح عليه بالولاء السياسي والمتابعة في الفروع والاخذ من الامام المنصوب أحكام الفروع من دون المتابعة الاعتقادية المصطلح عليه بالولاء الاعتقادي المعرفي لما تحقق أصل التدين بالاسلام بحسب عالم الآخرة والواقع.

* إن الرواية مطلقة من حيث الزمان والمكان فهذا اللسان عام وشامل لكل

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 407

الافراد في جميع الازمنة، مما يدلل علي عموم وجود الامام وانه موجود حتي قيام الساعة وهذا يؤيد مدعي الامامية من تأبيد وجود الامام.

* إن الرواية تدلل علي وجود واجب شرعي في قسم من الأصول الدينية علي الفرد المسلم وهو السعي إلي معرفة الامام في كل فترة من فترات حياته فهذه وظيفته التي أوكلها إليه الحق سبحانه ويقع علي عاتقه تشخيص الامام، وإن هذا الواجب جانحي، وإن هذا الامام تناط به النجاة من النار.

* ثم أن هذا الوجوب الاعتقادي- من

قسم الاصول الدينية- دال علي كون المعتقد من الامامة ليس من سنخ حسي مشهود بالآلات الحسية، بل متعلق المعرفة ومتعلق الاعتقاد هو من السنخ الغيبي فمثلا نبوة النبي ليست امرا حسيا بل شيئا وراء الحس ومن قبيل نشأة الروح، وإن كان لها آثار في عالم الدنيا والحس دالة عليها برهانا، وإلا فمثل السماء والارض والشمس والقمر والنجوم والجبال ونحوها من الحسيات ليست تتعلق بها المعرفة الدينية، فالمعرفة الحسية والشهود المادية ليس من متعلقات الايمان والمعرفة الدينية، فالايمان ركن متعلقه لا بد أن يكون غيبيا من نشآآت أخري وأن كانت تلك النشآآت مهيمنة محيطة علي الحس، يقصر الحس عن مدرج ظهورها فتكون غيبا عنه، فظهورها الشديد عين غيبها عن الحس.

* وقد ينقض علي هذا اللسان ما ورد من ان من استطاع الحج ولم يحج او سوّف في ذلك ثم مات بعثه اللَّه يهوديا أو نصرانيا، ولكن التأمل في هذا المفاد يبين الفرق بين ان يبعث يهوديا وان يبعث كافرا جاهليا فإن الثاني هو من لم يدخل في الدين السماوي من الاساس أما الأول فهو المعتنق للديانة الالهية إلا انه بعّض في التدين وآمن ببعض وكفر ببعض، فقد تكرر في أحاديث كثيرة ان تكون هناك درجة معينة من العذاب في النار مترتبة علي ارتكاب بعض الكبائر، ولكنه بخلاف

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 408

ما نحن فيه من ان المنكر وغير العارف لإمام زمانه يخلد في النار ويموت ميتة الجاهلية، وهو إنما يتفق مع كون الواجب الاعتقادي من اصول الديانة.

الحديث الثالث: في تبليغ سورة براءة … ص: 408
اشارة

وقد ورد الحديث بألسنة متعددة منها: ان جبرائيل نزل علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله فقال: يا محمد لا يؤدي عنك إلا رجل منك، ومنها: لا يبلغ عنك

إلا علي، ومنها:

لا يؤدي عني إلي أنا أو رجل مني.

ولا خلاف في نزول هذا الحديث في امير المؤمنين عليه السلام، ولكن الكلام في مدلول هذا الحديث الشريف الذي ينطوي علي دلالات مهمة تفوق مسألة التبليغ لسورة براءة كما يحاول كثير من العامة تصويرها علي أساس أن من عادات العرب ان لا ينقض العهد إلا عاقده أو رجل من أهل بيته ومراعاة هذه العادة الجارية هي التي دعت النبي صلي الله عليه و آله أن يأخذ سورة براءة- وفيها نقض ما للمشركين من عهد- من ابي بكر ويسلمها إلي علي ليستحفظ بذلك السنة العربية فيؤديها عنه بعض اهل بيته ويزعمون أن ابا بكر لم ينفصل من امارة الحاج.

وواضح أن هذا التأويل من العامة لا أساس له.

أما أولا: فأي شهادة من التاريخ أن من عادة العرب ذلك بل من عاداتهم أنهم يبعثون في اجراء العهد أو حله علية القوم ومن يطمئنون به، وأي مدرك في سير ووقائع العرب دال علي أنه يجب أن يكون من عشيرة القوم، فهذه قريش في صلح الحديبية بعثت مسعود الثقفي وهو ليس من قريش لإبرام العهد مع النبي صلي الله عليه و آله والواقعة في تبليغ سورة براءة ليست قبلية وعائلية وشخصية بل أمر الهي لا يتحمله إلا من هو أهل له.

وثانيا: إن كتب السير والتاريخ مختلفة في كون أمارة الحاج بيد أبي بكر في ذلك

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 409

العام، مضافا إلي أن أبا بكر لم يكن هو الأمير إلي الابد بل تولي الامارة غيره أيضا.

وثالثا: ما ذكره العلامة الطباطبائي: من أن البحث ليس في أفضلية مَن علي مَن، بل الكلام في ما يمكن فهمه من الحديث، و «وليت شعري من اين

تسلموا ان هذه الجملة التي نزل بها جبرائيل: «انه لا يؤدي عنك إلا انت او رجل منك» مقيدة بنقض العهد لا تدل علي ازيد من ذلك ولا دليل عليه من نقل او عقل فالجملة ظاهرة أتم ظهور في أن ما كان علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أن يؤديه لا يجوز ان يؤديه إلا هو أو رجل منه سواء كان نقض عهد من جانب اللَّه كما في مورد سورة براءة او حكما آخر إلهيا علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ان يؤديه ويبلغه»، ثم أن هذا التبليغ يتميز أنه التبليغ الأول عن السماء حيث ان الحكم لم يعلن بعد علي مسامع المسلمين وغيرهم بل اختص به النبي صلي الله عليه و آله، ومن هنا ورد في الرواية أن الكتاب كان لدي ابي بكر مغلق لا يعلم ما فيه وعندما اتي الامام اخذه منه.

وهذا يغاير ابلاغ بقية الاحكام بتوسط من سمعها إلي من لم يسمعها التي كان النبي قد أعلن عنها في ملأ المسلمين في مناسبات عدة، فمقام تبليغ سورة براءة هو مقام الناطق الرسمي عن السماء وهذا لا يعني الشركة في النبوة مع النبي الخاتم صلي الله عليه و آله و سلم لأن الوارد هو لا يؤدي عنك إلا انت أو رجل منك وليس الوارد لا يؤدي إلا انت أو رجل منك، وواضح الفرق بين المعنيين بأدني تأمل.

وبتعبير آخر: أن الذي له أهلية التبليغ عن الغيب يجب أن يكون له ارتباط بالغيب، فلا يبلغ عن تلقيك النبوي إلا لسانك النازل وبفيك أو فاه آخر لكنه من سنخك الذي يسمع صوت الوحي ويري نوره ويشمه، ويسمع رنة ابليس، كما تقدم في الخطبة

القاصعة.

وهذا يفتح الباب لفقه حديث المنزلة (أشركه في أمري) وأن هارون كموسي نبي، وحيث يضفي النبي علي عليّ تلك المنزلة إلا النبوة أي الانباء فبقية الصفات

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 410

تكون ثابتة للامام بمقتضي حديث المنزلة، كما يتضح معني الحديث «يا علي انا وانت ابوا هذه الامة» والظاهر أن هذا المقام من مختصات علي أمير المؤمنين، وهكذا نفهم المؤاخاة بينهما في المدينة ليست اعتبارية بل تكوينية حقيقية.

فالمدلول الذي نستفيده من الحديث أنه يشير إلي مقام للامام عليه السلام وأن مقام تأدية الاحكام الالهية لا يكون إلا للنبي أو من يؤديه عنه وهو منه، ونستفيد منه أن ما يبلغه الامام وبقية الائمة لا ينحصر فيما بلغه النبي بل حتي الموارد التي لم يبلغها للامة فهم يبلغونها عنه، وتشمل الأخذ عن مقامه النوري بعد مماته كما هو الحال في مصحف فاطمة عليها السلام، لأن عنعنتهم عن النبي ليست روائية حسية سماعية كما هو المتعارف في نقلة الحديث خاضعة لشرائط الحس والمشاهدة، بل هي عنعنة نورية.

وقد روي الصدوق في العيون «ان المأمون سأل الرضا عليه السلام: ما وجه إخباركم بما يكون؟ قال: ذلك بعهد معهود إلينا من رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قال: فما وجه إخباركم بما في قلوب الناس؟ قال عليه السلام: اما بلغك قول الرسول صلي الله عليه و آله اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور اللَّه، قال:

بلي، قال: وما من مؤمن إلا وله فراسة ينظر بنور اللَّه علي قدر ايمانه ومبلغ استبصاره وعلمه وقد جمع اللَّه في الائمة منّا ما فرقه في جميع المؤمنين، وقال اللَّه عز وجل في محكم كتابه «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ» فأول المتوسمين رسول اللَّه صلي الله عليه و

آله ثم امير المؤمنين عليه السلام من بعده، ثم الحسن والحسين والائمة من ولد الحسين عليهم السلام إلي يوم القيامة، قال: فنظر المأمون فقال له: يا أبا الحسن زدنا مما جعل اللَّه لكم أهل البيت، فقال الرضا عليه السلام: إن اللَّه عز وجل قد ايدنا بروح منه مقدسة مطهرة ليست بملك ولم تكن مع أحد ممن مضي إلا مع رسول اللَّه وهي مع الائمة منا تسددهم وتوفقهم وهو عمود من نور

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 411

بيننا وبين اللَّه عز وجل» «1»

.ومن هنا يجب ان نهتم كثيرا بإزالة هذا الالتباس عن أذهان الجميع من ان روايتهم ليست رواية بالموازين العادية أوان حجية اقوالهم بما أنهم رواة.

ونتجاوز اطار اللفظ إلي عمق المعني لنقول إن هذا الحديث يدلنا علي حجية الزهراء البتول عليها السلام وذلك من جهة ان المناط في حجية المؤدي عن النبي صلي الله عليه و آله هو الوصف المتعقب للرجل وهو (منك) وهذا الوصف يدل علي عدم خصوصية الرجل بل الوصف هو المهم وقد ورد في الحديث انها منه صلي الله عليه و آله، فما تؤديه عن النبي لا ينبغي التشكيك فيه، ومن هنا كان مصحف فاطمة مصدر لعلوم الائمة عليهم السلام.

اشكال ودفع: … ص: 411

قد يقال ان رواة الحديث الذين ينقلون الحديث عن المعصومين لهم هذا المقام، حيث يسأل الامام حول مسألة معينة ولم يكن الامام قد أظهر الحكم فيها قبل ذلك، ويكون دور الراوي نشر هذا الحكم بين أهل مدينته أو قبيلته وما شابه ذلك؟

والجواب عن هذا الاشكال: أن الحديث يتحدث عن مقام خاص اختص به الامير عليه السلام، وليس الحديث عن مسألة شرعية سألها أحد المسلمين بتلقيه حسا عن حس المعصوم، وهذا المقام هو مقام التلقي

النبوي الذي حازه النبي الأكرم صلي الله عليه و آله، ولو كان هذا التلقي عن الوجود النازل لمقام النبوة لما قيل في الحديث القدسي لا يؤدي عنك إلا أنت أو … فتأدية النبي صلي الله عليه و آله عن نفسه، ليست بمعني تأدية حسه الشريف عن حسه بل هو نحو من التجريد وتأدية المراتب النازلة من وجوده

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 412

الشريف عن المراتب العالية من روحه المقدسة، وعن مقام التلقي للوحي في درجة وجوده، فالذي يبلغ عن ذلك المقام من روحه وجوده النازل أو رجل منه يتلقي عن ذلك المقام، فعلي عليه السلام يتلقي من المقام الروحي النوري النبوي كما تتلقي القوي الادراكية النازلة في نفس النبي صلي الله عليه و آله عن المقام الباطن لروحه الشريفة، ومن ذلك يتضح أن عليا في حين أخوته للنبي صلي الله عليه و آله إلا ان النبي صلي الله عليه و آله يمتاز عليه وعلي بقية الائمة عليه السلام انهم يتلقون مما قد تلقاه المقام الروحي النوري النبوي أي في طوله متأخرا عنه.

فالتصريح بأنه لا يؤدي عنك أي عن هذا المقام الذي انت فيه إلا انت او رجل منك، والترديد هو لإفادة كونكما في نفس هذه المرتبة الصالحة للتأدية عن مقامك النوري.

وجواب ثالث: أن المعصوم في السؤال والجواب العاديين لا يكون غرضه تخصيص السائل دون غيره بالحكم بل أي شخص أتي وسأله هذا السؤال لكان أجابه بنفس الحكم لأنه أدي إليه الحكم عبر قناة الحس إلي حسه، فليس المقام مقام تبليغ حكم عن السماء وكون المبلغ هو الناطق الرسمي، بل من باب الاتفاق اختص هذا السائل بهذا الحكم، ثم إن الحصر الوارد في هذا الحديث القدسي عن رب

العزة بالحصر في التأدية بهذين دليل علي ان هذا لا يشمل مقام الرواية.

الحديث الرابع: «ان اللَّه يرضي لرضا فاطمة» … ص: 412

إن هذا الحديث من الاحاديث المهمة التي نستفيد منها عصمة الزهراء البتول، وليست المسألة هي مداراة من العلي القدير لنبيه الاكرم في تبجيل ابنته التي يحبها، بل هو مقام حباها اللَّه به، حيث تكون هي ممثلة لرضا اللَّه جل وعلي ويكون رضاه برضاها، وهذا يعني أنها لا تفعل المعصية لأنها ممثلة لرضا الرب وغضبه.

وقد ذكرنا سابقا في بحث المراتب الوجودية للانسان وتنزل العلوم ان للانسان مراتب ثلاث هي مرتبة العلم الحضوري ومرتبة العلوم الحصولية ومرتبة القوي

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 413

العملية التي هي دون المرتبتين، وسلامة الافعال تتوقف علي مدي المطابقة بين هذه المدارج الثلاث حيث تتنزل الارادات الالهية من دون عوائق، ولا تكون هناك مشاكسات من القوي المادون وذلك إذا ما ابتلي بالامراض والوساوس والبلادة والحدة أو سلطنة الغرائز النازلة.. وقد استعرضنا ذلك بنحو التفصيل وشواهده من الآيات القرآنية.

وبناء علي هذا فعندما يقال ان الرضا الالهي هو برضا أحد عباده فهذا يعني أن هذا العبد هو ممثل للمشيئة الالهية ويكون كل حركاته وسكناته لا تتخلف عن المشيئة الالهية، وهذا يعني ان تكون القنوات التي تسير فيها علوم الانسان وهي ما تقدم ذكره غير مبتلاة بأمراض ادراكية ولا عملية، ولا يكون هناك عائق أمامها فتتنزل صافية من دون كدر، وهذا ليس تأليها بل هو استقامة في مدارج الوجود فيخرج العمل مظهرا للارادة الالهية، وعلي هذا البيان لا تنحصر عصمة في الموضوعات الكلية بل تشمل الجزئيات الخارجية ولا يشذ عنها مورد، وقريب من هذا المعني الحديث الذي ينص علي ان عليا مع الحق والحق مع علي، إذ لا يمكن أن تكون هناك موائمة بينه

وبين الحق إلا إذا افترضنا ان هناك عصمة علمية عملية تجعل كل تصرفاته نابعة عن العلم الحضوري وأن اراداته تمثل الارادة الالهية.

ومنه نستطيع الربط مع الاحاديث التي تبين كيفية تلقي الامام عليه السلام عن النبي الاكرم صلي الله عليه و آله حيث لا يكون التلقي من الوجود البشري للنبي صلي الله عليه و آله، بل هو تلقي عن مقام النورية للنبي وخصوصا في مثل الحديث القائل «علمني رسول اللَّه الف باب من العلم ينفتح من كل باب الف باب»، حيث لا يوجد تفسير لها علي نحو العلوم الحصولية، بل هي الوراثة النورية التي ورثها النبي صلي الله عليه و آله للائمة الاطهار، وعليه يكون أداء الائمة عن النبي ليس عن مرتبته الوجود الحسي له، بل عن المرتبة النورية.

وقد اورد علي هذا التقريب لفقه الحديث عدة نقوض حاصلها: انه قد ورد في الاحاديث والآيات القرآنية تصريح برضا اللَّه تعالي عن بعض المؤمنين، مثل «قَالَ

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 414

اللّهُ هذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» «1»

، وورد في موارد اربعة قوله تعالي «رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ» الفتح 18، المجادلة 22، البينة 8، التوبة 100، ما ورد في الحديث الشريف «رضي اللَّه عن عمار»، وان ابا ذر لا يكذب قط.

وهناك جواب تفسيري عن هذه الاحاديث ينفع جوابا كليا عن هذه الموارد نذكره: وهو ان العصمة علي درجات وليس كلها من نحو واحد، فإن منها العلمية ومنها العملية ومنها الذاتية ومنها الافعالية أي في مقام الفعل دون الذات، وكل منها فيه شدة وضعف، وقد مر بعض الحديث عن ذلك في آية استخلاف آدم والفرق

بين عصمته وعصمة الملائكة، كذلك هناك مقامات تتلو آدني مراتب العصمة كمقام الحكمة الذي من أوتيه أوتي خيرا كثيرا كما وردت الاشارة إليه في الآيات، وكمقام الصديقين ومقام أهل الفوائد ومنهم من يعطي علم البلايا والمنايا وغير ذلك من المقامات.

ويشير إلي تلك المقامات حديث الامام الصادق عليه السلام الذي رواه الخزاز القمي في كفاية الاثر: 253، وهي مقامات من سنخ غيبي وهيبة ملكوتية بحسب تولي الشخص وتسليمه لأوامر اللَّه تعالي ونواهيه الالزامية والندبية وطوعانيته لاراداته.

فلا يقال بامتناع انوجادها في من يتلو المعصومين من المؤمنين المتمسكين بحبل اللَّه كالاوتاد والابدال الذين اخلصوا في طاعة اللَّه، مثل لقمان الذي لم يكن نبيا ومع ذلك اوتي الحكمة وهي نحو يتلو العصمة العلمية، وكما في ذي القرنين الذي ورد عن امير المؤمنين عليه السلام أنه رجل أحب اللَّه فأحبه اللَّه وآتاه ما تذكره سورة الكهف، و مثل زينب عندما قال لها الامام زين العابدين يا عمة انك عالمة غير معلمة، وفي السيد محمد ابن الامام الهادي عليه السلام وابي الفضل العباس وغيرهم من ابناء الائمة وهكذا عمار وابو ذر، مضافا إلي انهم ممن ائتم بإمامة أهل

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 415

البيت عليهم السلام وآمن بالمقام الغيبي للائمة ويتولون أهل الكساء وممن يتشفع بهم، وهذا المقدار لا يجعل مقامهم مقام الائمة.

وقد ذكرنا في علم الكلام وعلوم المعارف أن الصفات الكمالية وإن كانت مشتركة بين الخالق وعبده ولكنها ليست بمرتبة واحدة كالصدق فقوله تعالي «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلًا» و النبي الاكرم صلي الله عليه و آله هو الصادق الامين أيضا، لكن اتصاف الحق تعالي بهذه الصفة في مرتبة واجب الوجود- لا متناهية- غير مرتبة اتصاف الرسول الاكرم بها، وهذا التفاوت في

الدرجات حاصل أيضا بين المعصوم وغيره اذ ان رضا اللَّه لرضا المعصوم غير رضاه علي عمار او ابي ذر لأنهم آمنوا بالمعصوم واعتقدوا به فهم في مرتبة تلي المعصوم، وروايات كثيرة تشير إلي الاوتاد وان وجودهم هو حفظ لمدنهم او لمن يحيط بهم، كالذي ورد عن الرضا عليه السلام في زكريا بن آدم «1» والذي ورد في سلمان وأبي ذر والمقداد وعمار «2»، كما تشير المصادر ان عمار انما وصف بهذا الوصف في سياق نصرته وولائه لعلي عليه السلام «3».

اما الجواب التفصيلي:

1- اما آية المجادلة «لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِروحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»، وهذه الآية لا ينقض بها علي ما تقدم وذلك لأن الرضا الالهي مترتب علي الاتصاف بهذه الاوصاف الخاصة وهي الايمان باللَّه واليوم الآخر و عدم موادة من حاد اللَّه

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 416

ورسوله، كتب الايمان في قلوبهم، التأييد بروح منه و الاتصاف بها مورد رضا اللَّه وهو يختلف عما نحن فيه حيث ان الرضا مترتب علي ذات فاطمة من دون تقييدها بوصف معين ولا زمان ولا مكان معين بل هو عام شامل ومطلق، اما ما ورد في الآية فهو رضا للوصف لا لذات هؤلاء بما هي هي.

2- وقريب منه ما في سورة البينة حيث أن الرضا هو للوصف ويزاد عليه ما ختمت به الآية من ان «ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ» أي مقيد بالخشيه منه تعالي وإلا ينتفي عنه الرضا،

مضافا إلي ان المفسرين ينصون علي انها نزلت في علي عليه السلام، وقد ذكره السيوطي في الدر المنثور في ذيل آية خير البرية من السورة.

3- آية الفتح: «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً» وهذه الآية الشريفة تؤكد نفس المدلول من ان الرضا هنا بالوصف وهو الايمان لا انه مطلق وذلك مع ان مطلق المسلمين قد بايع لكن الرضا لم يكن عن الكل، ويؤيد ذلك «إذ التعليلية حيث أن الرضا نتيجة الفعل الصالح وهو المبايعة تحت الشجرة وليس رضا بالذات، ثم إن تمامية المبايعة والحصول علي الرضا الالهي مناط بالموافاة والبقاء علي العهد حتي الموت، وهكذا آية المائدة التي ذكر فيها الرضا مقيدا بالوصف وهو الصدق مع شرط الموافاة.

4- أما آية التوبة «وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» فالجواب عن النقض بها مضافا إلي الاجوبة السابقة..

أ- ورد في الحديث في ذيل الآية انهم هم النقباء وابوذر والمقداد وسلمان وعمار ومن آمن وثبت علي ولاية امير المؤمنين عليه السلام «1». ويشهد لذلك و لعدم إرادة العموم أن سورة التوبة تقسم من صحب النبي صلي الله عليه و آله من المكيين والمدنيين إلي اقسام

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 417

عديدة كالذين في قلوبهم مرض، ومن أهل المدينة مردوا علي النفاق، الذين يلمزون المطوعين، المخلّفون، الذين يؤذون النبي، المنافقون وغيرهم.

ب- إنه ليس فيها تعميم لكل المهاجرين والانصار بل خصوص السابقين، بل خصوص الأولين من السابقين، بل خصوص الاولين من السابقين.

ج- إن اصطلاح السابقون تشرحه الآيات القرآنية «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» ومن هم المقربون «كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ» فهم شهداء الأعمال الذين

لا يكونوا بشرا عاديين إذ لا يمكن أن يشهد الأعمال إلا البشر الذين يكون لهم نفوس خاصة هي عِدل النبوة، كما تقدم مفصلا.

د- إن الآيات في سورة المدثر تشير إلي أن بعض من أسلم أول البعثة من المنافقين من الذين في قلوبهم مرض أي أن اسلامهم لم يكن عن ايمان فلا يمكن أن يراد منها السابقون من المهاجرين والانصار علي العموم، وكذاما في سورة العنكبوت المكية الآية 1- 13 وسورة النحل المكية: 107- 110.

ه- ورد في الرواية ان المقصود من السابقين علي عليه السلام ومن الانصار الحسن والحسين، والذين اتبعوهم باحسان هم الائمة الذين لم يدركوا النبي صلي الله عليه و آله، ويشهد لذلك ما تقدم من إرادة شهداء الاعمال من السابقين الاولين.

و- ان (من المهاجرين) ليس متعلقا و لا معمولا للسابق بل للفاعل المضمر فيه إذ لا تصلح (من) التبعيضية للتعلق لمادة السبق، ولو أريد ذلك لأتي بلفط (في الهجرة) ونحوه، وهذا يعني أن (السابقون) وصف مستقل و (المهاجرين) وصف مستقل آخر لهؤلاء الاشخاص، لا أن المراد السابقون هجرة كما يريد البعض تصويرها.

ز- أنه ورد في العديد من السور تأنيب الصحابة الذين خالفوا أوامر الرسول، ونجد ذلك في سورة الانفال وهي من أوائل السور المدنية وتتعرض لغزوة بدر، وتقسم مَن شهد بدرا إلي صالح وبعضهم طالح، وكذا سورة آل عمران تتعرض لمَن شهد أحدا وتقسمهم إلي ثلاث فئات واحدة صالحة مخلصة واثنتين

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 418

طالحتين، فلاحظ سياق مجموع الآيات في السورتين، وكذا سورة الاحزاب في مَن شهد الخندق وسورة محمد، وفي سورة التوبة نفسها وهي آخر ما نزل في المدينة تقسيم مَن صحب النبي صلي الله عليه و آله من المكيين والمدنيين إلي

فئات عديدة كما تقدم وتشير إلي فرار المسلمين في حنين إمام الزحف إلا ثلة من بني هاشم

ومن هنا لا نستطيع القول ان الآية شاملة لكل من أسلم مع الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله.

وهناك نكتة تشير إليها الآية وهي أن التابع موصوف بالمحسن فكيف بالسابق إذ مقام الاحسان ليس من المقامات العادية حيث ورد في القرآن «لَيْسَ عَلَي الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيَما طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» «1»

، فهو مقام بعد الايمان والعمل الصالح والتقوي بدرجات من المنازل العلوية، ثم المذكور في هذه الآية هو التابعين المقيدين بقيد الاحسان، وهذا لا يكون إلا في المعصومين الذين لم يشهدوا الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله.

وورد في رواية أن عليا عليه السلام قرأ هذه الآية في زمن عثمان وقرأ بعدها آية السابقون السابقون وقال: من يشهد أنها نزلت فيمن؟ فشهد عدة من الصحابة أنها نزلت في الانبياء والاوصياء وفي علي، وكذا ينفي العموم ما ورد في مسلم (كتاب الفضائل- باب حوض النبي صلي الله عليه و آله) والبخاري (كتاب الفتن) مِن عرض الصحابة علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله عند الحوض، إلا أن جماعات منهم يحال بينهم وبين رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، ويذادون عن الحوض فيقول: اصحابي اصحابي، فيقال: لقد أحدثوا أو بدلوا بعدك، فيقول: بُعدا بُعدا «علي اختلاف في الفاظ الحديث، وهي تؤكد ان الصحبة ليست هي الموجبة للنجاة بل الموافاة علي منهاج رسول اللَّه صلي الله عليه و آله حتي الممات هو المناط في النجاة.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 419

الحديث الخامس: … ص: 419

«علي مني وانا من علي»، هذا الحديث

الشريف الذي تواتر نقله في كتب العامة والخاصة، دال بلا ريب علي النشوية وهي ليست البدنية فقط بل هي وحدة بلحاظ الروح و النورية، وفي بعض الروايات قال جبرائيل وأنا منكما، وهذا يدل علي ان الوحدة من سنخ الملك الغيبي العلوي اللطيف، وقريب من هذا المعني ما ورد من «الناس معادن شتي واشجار شتي وانا وعلي من شجرة واحدة»، وبنفس البيان حديث النور الوارد كنت انا وعليا نورا بين يدي اللَّه..

الحديث السادس: قاتلت علي التأويل كما قاتلت علي التنزيل … ص: 419

والتنزيل هو تلقي المقامات الكلية لحقيقة القرآن الكريم، والتأويل هو تطبيق تلك المقامات الكلية علي الموارد الدرجات المتوسطة و الجزئية العديدة، ولا يمكن لشخص أن يحيط بكل تأويل القرآن إلا أن يكون قد أحاط بمراتب القرآن وأن تكون قواه خالية من الزلل والزيغ ومنه يعلم أن النبوة في التنزيل والامامة في التأويل فهي تلو النبوة الخاتمة ومشتقة منها ومترتبة عليها، وفي كثير من الاحاديث نري ان النبي صلي الله عليه و آله يقرن بين النبوة والامامة المتمثلة بشخص النبي الاكرم صلي الله عليه و آله وعلي عليه السلام، مع بيان الفاصل بين الشأن النبوي والشأن الولوي.

تذييل: … ص: 419

بعد هذا الاستعراض لفقه الروايات الواردة في الامامة نحاول ان نذكر عدد من التوصيات التي تنفع في المقام:

اولا: أن قدماء الامامية تبعا للطرق المبيّنة في الكتاب والسنة للمعصومين عليهم السلام قد ذكروا عدة مناهج لأثبات امامة الائمة الاثني عشر- سواء من متكلمي الرواة أو متكلمي الغيبة كالشيخ المفيد والمرتضي والطبرسي- ونحن نشير إلي تغاير صياغات أدلتهم ومواد قوالبها تنبيها علي تعدد اشكالها وموادها المنطقية.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 420

منها: التدليل علي الكبري بما ورد نصوص عديدة تنص علي ان الخلفاء بعد الرسول الاكرم صلي الله عليه و آله اثنا عشر، وفي بعضها أنهم من قريش، وفي بعضها أنهم من بني هاشم، وهذه طائفة من الاحاديث.

وقد وقع العامة في بلبلة وتشويش في كيفية التطبيق الخارجي للخلفاء الاثني عشر، واختلفت اقوالهم وبعض جعل بينهم فاصل ولم يشترط التتابع، وبعض أنهاهم قبل يوم القيامة مع أن في بعض الالسنة أنه هؤلاء الخلفاء حتي يوم القيامة، ولو بحث الباحث عن الحقيقة بعيدا عن التعصب لا يري مصداقا لهذا الحديث إلا لدي الامامية الاثني عشرية

حيث لا يوجد طائفة لديها تفسير لهذه الطائفة المتواترة إلا لدي الامامية الاثني عشرية، حيث أن الامامة المنصوبة المجعولة من قبل اللَّه تعالي عندهم إلي يوم القيامة هي في الاثني عشر.

ونشير إلي نكتة مهمة يلحظها المطالع لكتب التاريخ انه لم يدّع احد لنفسه هذه المقامات وأنها خلافة الرسول طبقا لهذا الحديث إلا الائمة الاثني عشر، فكانوا يدّعون علم الكتاب كله وكانوا علي مرأي ومسمع من الدول الاموية والعباسية قرابة ثلاثة قرون، ولم تفتأ تلك الدولتين من امتحانهم في العلوم المختلفة ومسائل الدين وأحكامه، بل كانوا يمتحنونهم في الفنون المختلفة وفي الصفات البدنية بغية منهم أن يقطعوا عليهم دعواهم، ولم تكتفِ الدولتين بما كان لديها من أفراد في العلوم المختلفة بل كانت تستعين بعلماء النصاري واليهود والروم والهند وغيرها، وبأصحاب الرياضات المختلفة، وبمختلف وسائل القوي روما في دحض دعوي هؤلاء الائمة الاثني عشر.

لكن الرصد التاريخي ينبئنا بفشل الدولتين في ذلك، وفشل علماء الفرق الاسلامية الاخري في مقابلتهم، بل كان نجمهم يزداد تلألأ مما يضطر السلطات إلي تصفية وجودهم المبارك، فكان ذلك تحدي واعجاز للبشرية أجمع طيلة قرون ثلاثة.

وقد تحدوا جميع مَن حولهم أن يُقدِموا علي مساجلتهم وقطع حجتهم ولم

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 421

يظفر احد علي ذلك، ومناظراتهم مع اليهود والنصاري اكثر من ان تحصي، بل انا نجد ان الائمة المعروفة الان قبورهم قد تواتر بين كل المسلمين انهم هم الذين ادعوا الامامة بهذا المعني من السفارة الالهية والخلافة للَّه في أرضه ولم يدعها غيرهم.

ثم اذا تساءلنا عن كيفية الخلافة وانها في أي شي ء؟ نجيب: أن الحديث مطلق واذا ضممنا إلي ذلك ان الزعامة الدنيوية لم يتولها إلا البعض منهم فقط، وحينئذ يكون الحديث لا اثر له مع

تواتره وتعدد المواضع التي ذكّر الرسول امته بهؤلاء، وهذا يدلنا علي ان مقام الخلافة عمدتها في المقامات الغيبية وهي المهمة بدليل انهم لم يتولوا الزعامة الدنيوية إذن مقام الامامة لا ينحصر بالزعامة الدنيوية بل يشمل المقام الغيبي.

ومنها: الاجوبة العلمية الاعجازية في المسائل العلمية التي كان علماء اليهود والنصاري وغيرهم من اصحاب الملل والنحل التي دخلت الاسلام يسألون عنها وهي اسئلة يمكن القول انها فوق افق البشرية، وهذه الاجوبة تكون مقدمة لكبري ان من يستطيع الاجابة عنها لا بد ان يكون له نحو من العلم يختلف عن بقية البشر ومستقي من معين خارج اطار القدرات البشرية العادية، ويثبت بذلك اهليتهم وامامتهم وافضليتهم وقد اعتبرها الطبرسي من الدلائل الصريحة علي امامتهم.

وهذه الاجوبة لا زالت تتحدي المعارف والعلوم البشرية و مادة اعجازية لبيان امامتهم من اللَّه تعالي، فمثلا في علم المعرفة الالهية ببركة كلماتهم المبسوطة المتكثرة ننفي التجسيم عن الذات الالهية ولوازم الجسم من الاين والمتي والكيف ونحوها، حتي أصبح الامر من البديهيات في الدين الاسلامي مع ان بعض الفرق الاسلامية لا زالت مجسمة فيما يسرونه من اعتقادات.

وكذلك ببركة كلماتهم عليهم السلام ننفي الجبر والتفويض حيث اثبتوا الاختيار والأمر بين الأمرين، وبكلماتهم أبانوا عن عينية الصفات للذات وأن الذات في عين بساطتها هي عين كل كمال حتي صفة العلم، بينما بقية فرق المسلمين يجعل

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 422

الذات جوفاء خالية تتبعها الصفات الكمالية، بل أن ذلك حتي في فلسفة البشر المشائيين والاشراق فأنهم يخلون الذات من العلم وأنه عبارة عن الصور المرتسمة أو عين الفعل، بينما يقول الصادق عليه السلام: ان الذات الالهية علم لا جهل فيه قدرة لا عجز فيه نور لا ظلمة فيه حياة لا موت

فيه.

وكذلك كلامهم في التوحيد وتوحيد العبادة وأن مَن عبد الاسم دون المسمي فقد ألحد، ومَن عبدهما فقد أشرك، ومَن عبد المسمي دون الاسم فقد وحّد، ومراده عليه السلام مطلق مدارج و درجات الاسم، وهذا من البحوث العرفانية الوعرة التي لم تفتق معرفتها في البشرية قبل ذلك.

وكلماتهم في ان الارادة صفة فعل لا صفة ذات وغيرها من غوامض المعرفة، مثلا الصحيفة السجادية زبور آل محمد صلي الله عليه و آله فإن فيها من دقائق المعرفة والتهذيب للنفس ولطائف السير والسلوك لمَن رام الرياضة وآداب العبودية، هذا فضلا عما يجده الباحث في ما يبهر الالباب في نهج البلاغة وبقية الروايات عنهم عليهم السلام.

ومنها: الملاحم المذكورة عن كل واحد منهم عليهم السلام بدءا بأمير المؤمنين عليه السلام وما اخبر به من ملاحم عديدة في كيفية قتل اصحابه، وما يجري علي شيعته وعلي بقية المسلمين إلي قرون متمادية، وكذلك ما أخبر به الحسنان عن اعدائهما، وإخبار الصادق عليه السلام للمنصور الدوانيقي بوصوله للسلطة وأن بني الحسن لا يصلوا إليها.

ومنها: ريادتهم وسبقهم في كل فضيلة وكمال علمي وعملي في الصفة والاخلاق، ويكفيك التنبيه لذلك انهم عليهم السلام من السجاد للعسكريين لم يقوموا بنشاط للإطاحة بالنظام الحاكم من الامويين والعباسيين، ومع ذلك كان الحكام علي أشد هيبة وخوف منهم، وكأن اصل وجودهم الحامل لهذه المناقب والفضائل ينادي بحقانيتهم ونصبهم من قبل الباري تعالي.

ومنها: ان الاصل في الفكر البشري هو الاختلاف فلا يكاد يكون هناك اثنان يتفقان في طريقة معينة للتفكير، وهذا بخلاف الفكر السماوي الآتي من السماء حيث يكون واحدا لأنه لا يصطبغ بطبيعة الفرد بل يعبر عن المصدر الواحد، وهذه

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 423

الكبري نطبقها علي ائمتنا حيث نلاحظ انهم

يصدرون عن فكر واحد ورأي واحد لا تضارب بين آرائهم وعقائدهم في ما لا يحصي من ابواب المعرفة والاعتقادات وابواب الفروع المتكثرة الهائلة، فما ثبت عنهم بطريق قطعي لا تخالف فيه، وما ثبت عنهم بالظن يندفع ما بينه من التخالف بطرق الجمع المعروفة، ونظيره في ظواهر الآيات فيما بينها، وذلك بقانون حمل المحكم علي المتشابه والمظنون علي ما يتفق مع المقطوع، وهذا القانون من أصول البيان في النطق البشري، والعمدة أن ما هو مقطوع به عنهم لا تري يه أي تخالف «وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً» «1»

.ومن الطرق الاخري لاثبات الامامة النظر في نبوءات الاديان الاخري المتقدمة وتبشيرهم بأوصياء خاتم الانبياء كما ورد في الكتابة علي سفينة نوح وما هو مذكور في التوراة والانجيل والزبور، وقد استقصي عدة من محققي الامامية هذا الباب ووضعوا فيه كتبا جليلة، ويذكر هذا المنهج المسعودي في اثبات الوصية وفي تاريخه واليعقوبي في تاريخه.

ثانيا: ان البحث حول الامامة يتناول الكتاب والحديث ومن غير الصحيح أن يتناول الباحث أحدهما ويهمل الآخر بل يجب ضمهما إلي بعضهما دائما، حيث ان الآيات الكريمة توضح الامر الكلي ومواصفاته والروايات توضح المصاديق المتصفة، إذ ان الروايات تشير إلي وجود ثلة مع النبي وبعده لها هذه المواصفات ولها تلك المقامات ومن ثم نأتي إلي الاحاديث التي تنص علي التطبيق ومن له هذه الصفات.

وبعبارة أخري إن طوائف الآيات تثبت كبري هي وجود ثلة معصومة هم ائمة منصبون من اللَّه تعالي، ولهم ذلك المقام الغيبي إلي انقضاء هذه النشأة النبوية، وتدل بعض تلك الطوائف علي إمامة علي عليه السلام، وبعضها علي ضميمة الحسنين،

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 424

ونظير اثبات الكبري كثير من الاحاديث النبوية

المتواترة كحديث الثقلين فإنه يدل علي دوام بقاء العترة حتي الحوض، وأنهم عِدل الكتاب، واللازم التمسك بكل منهما والائتمام بهما، وكحديث الاثني عشر خليفة كلهم من قريش، وحديث من مات ولم يعرف امام زمانه، وغيرها من الاحاديث التي إما تشمل جميع الائمة أو بعضهم، وعلي أية حال فإن اثبات الكبري ينضم إليها عدة تقريبات لاثبات الصغري والمصادق كما اشرنا إليه في النقطة السابقة.

ثالثا: من خلال قراءة التاريخ نستطيع أن نكشف عن طريقة اخري من الاستدلال، وهي إن التاريخ ينص علي وجود فرقة عاشت في الدولة الاموية والعباسية اسمها الرافضة، وهؤلاء كانوا يتبعون الائمة من أهل البيت عليهم السلام، وكان من المنطقي والطبيعي ان يقوم اصحاب الطوائف الاخري ان يقطعوا الطريق عليهم من خلال محاولة افحام ائمتهم في المناظرات والاسئلة، وأن يكون ذلك بمساعدة السلطة الحاكمة، والحال أن التاريخ لا يذكر لنا شاهدا ولو واحدا حول ابكات هؤلاء الائمة، بل علي العكس ينقل لنا صورا مشرقة عن العديد من المناظرات والمحاجات التي اجراها امراء الدولتين في محاولة للاطاحة والنيل من الائمة، مع الاخذ بعين الاعتبار ان ما نقل الينا هو النزر اليسير الذي لم تستطع السلطة الحاكمة اخفاؤه عن الناس.

وعليه نستطيع القول ان منهج الاستدلال يكون بالآيات والاحاديث والعقل والتاريخ.

رابعا: يجب الالتفات إلي ما اشرنا إليه في حقيقة التواتر وانه لا بد من الرجوع إلي كتب الحديث والاخذ بالنصوص ولو فرض انها بمفردها غير تامة لكن بتظافرها و بمعية الجميع وبتراكم الاحتمالات كما وكيفا ينتج التواتر.

وقد أشرنا في الفصل الاول إلي تقسيم التواتر إلي ثلاثة أقسام لفظي ومعنوي واجمالي، وبيّنا كل قسم، كما ذكرنا إن دوائر التواتر تختلف سعة وضيقا وأن هذا الاختلاف لا يخل بضابطة

التواتر الرياضية البرهانية، فمن الخطير الغفلة عن ذلك.

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 425

الخاتمة … ص: 425
الوظيفة الإجمالية في الإئتمام … ص: 425

بعد هذا الاستعراض كنموذج لفقه ماهية الامامة فقها عقليا وفقها قرآنيا وروائيا، وبيان مقتطف من المقامات التي للائمة عليهم السلام رأينا من المناسب ان نختم البحث في بيان الوظائف الإجمالية للمكلفين اتجاه أئمتهم حيث قال تعالي «وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْؤُولُونَ» «1»

وقال تعالي «قُل لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي» «2»

، وقال تعالي «قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَي رَبِّهِ سَبِيلًا» «3»

، وسوف نوجزها بالامور التالية:

1- معرفتهم كأمر اعتقادي وهو غير مرهون بحضورهم بل حتي بعد مماتهم في زمان غيبتهم فمعرفتهم واجبة، كما هو الحال في الاعتقاد بنبوة الرسول صلي الله عليه و آله.

2- كون الامامة من أصول الدين لا من فروعه، ومن تحريف الكلم عن مواضعه بمكان حصر توليهم علي الموالاة السياسية فقط، والتولي والتبري المذكور في الفروع صحيح ولكنه غير معرفتهم.

3- إن محبتهم وبغض اعدائهم من الامور الركنية في معرفتهم والاعتقاد بهم التي لا تتوقف علي حياتهم بل يجب اظهارها لأن المحبة من الامور التي تكون مصداقا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 426

للموالاة ألا تري في قوله تعالي «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِدُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبَّاً لِلَّهِ» «1»

حيث أن المحبة واظهارها مصداق من مصاديق الولاء، وأن حب اعداء اللَّه يوجب الخسارة وضياع الاعمال حسرات بل والخلود في النار، كما تشير إليه تتمة هذه الآية من سورة البقرة، وبقية الآيات الناهية عن موادة من حادّ اللَّه ورسوله.

4- تحليل فلسفي وذوقي معرفي لنكتة ما ورد في بعض الروايات «هل الايمان إلا الحب والبغض».

إن الايمان بنحو مطلق فعل من افعال النفس، و لا

يمكن للموجود البشري أن يعيش من دونه لأن الايمان والاذعان بشئ ما من كمال الفرد البشري، ولو عثر علي فرد بشري لا يعتقد بشي ء أصلا فهو لا يستطيع أن ينتهج أي جادة في حياته، ومن ثَمّ فسيكون من الممتنع أو الصعب علي بقية البشر التعامل معه لأن المفروض انه لا يتقيد بأي منهج ولا طريقة، إذ لا يؤمن بشي ء ما كي يتقيد به، وحينئذ سوف يكون مطلق العنان في جميع غرائزه ورغباته كالوحش الكاسر أو الحيوان أو الحيوان المسعور المخيف لمن حوله، ويتبين بذلك أن الايمان بأي نحلة كانت وبأي شي ء ما من الكمال بالمعني الاعم، بمعني أنه لا يستطيع احد ان يتركه ومن هنا وقع البحث في علوم مختلفة حول حقيقة الايمان بعض النظر عن متعلقه، فهل حقيقته هو الادراك ام المعرفة أم الاعتقاد والتصديق أو انه مجرد الانجذاب نحو الشي ء؟؟

وذكرنا فيما سبق أن الايمان ليس هو مجرد الادراك لأن بعض درجات الادراك الحصولي لا يلازمها الايمان وبتعبير آخر علينا معرفة ان الايمان من أفعال العقل النظري أو العملي؟

ومن الأمور التي تسهل البحث في الحكم في القضايا المدركة أن الحكم طبقا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 427

لآخر التحقيقات ليس جزء القضية، فقد ذكر الملا صدرا أن الادراك تارة يلازمه الاذعان فيسمي تصديقا وتارة لا يلازمه فلا يسمي تصديقا، ثم في التحقيقات الاخيرة فسروا الحكم بما تقوم به النفس من دمج المحمول بالموضوع وهو من افعال العقل العملي، ولكنه لا يقوم به إلا مع الادراك والوضوح بنحو يدفع العقل العملي للحكم والاذعان، ومن ثَمّ التسليم والاخبات، فاتضح انه من لوازم الادراك بدرجته العالية.

اما حالة الجحود التي تحصل عند استيقان الحق فهي ناشئة من أمراض النفس من استهواء

نزعات الغرائز او جربزة الخيال وانفعالات الوهم الذي يمنع من الانفعال الطبيعي الفطري لليقين، ولذا تقدم- في الفصل الاول- أن اليقين ليس علة تامة للاذعان ولكنه مقتض له.

ومن ثم نستطيع معرفة تعريف الامام أن الايمان هو الحب والبغض لأن الايمان يعني اذعان النفس فإن الحب والبغض من افعال العقل العملي، وهو من درجات العقل العملي فإن الايمان بشي ء يعني انجذاب النفس إليه وعدم الايمان بشي ء ما هو خلافه فتنفر النفس منه فالنفرة تعني البغض والابتعاد.

وبتعبير آخر نقول: إن افعال العقل العملي والنظري وجهان لعملة واحدة، والحقائق التي يدركها العقل النظري إثباتا لوجودها أو نفيا لها، إذا ادركها العقل العملي بعينها يكون لها آثار أخري كالحب والبغض.

ومن هنا يتضح ما ذكره أهل المعرفة من الامامية من أن التولي لاولياء اللَّه وهم الائمة عليه السلام، والتبري من اعدائهم من مظاهر الجلال والجمال الالهي، وذكرنا أن الجلال والجمال من لوازم الصفات الثبوتية والسلبية للذات الالهية، لأن معرفة الصفات الثبوتية يلازمها المحبة لأنه مفطور علي حب الكمال ومعرفة الجلالية يلازمه النفرة والخوف، وقد بينا ملازمة معرفة الذات لمعرفة الامام فمن لوازم الصفات الثبوتية الجمالية الايمان لوليه وانه مهبط لنافذية قدرة اللَّه ومحل لتنزل مشيئة اللَّه تعالي واراداته في مقام الفعل، وفيما ينكره العقل النظري فيوازيه في

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 428

العملي التبري من اعدائه.

ومنه يتبين أن التولي والتبري بعض درجاته في الاصول وبعضها في الفروع فالذي يكون في القلب من الاصول ويتنزل إلي الجوارح فيكون من الفروع، كما أن المتابعة السياسية ليست وحدها من الفروع بل قبول أقوالهم ومودة اوليائهم ومعاداة اعدائهم في أفعال الجوارح ايضا منها.

وقد ورد عنهم عليهم السلام: «كذب من يزعم انه يحبنا ويتولي عدونا ويبغض ولينا».

والبرهان

عليه بنفس النحو: إذ كيف يمكن للانسان ان يجمع بين الكمال والنقص، ويثبت الصفات الثبوتية ولا يثبت الصفات السلبية لأن الصفات السلبية تعني نفي النقص عن الباري فالجلال لا يمكن ان لا يلازم الجمال

ومن ثمّ من لوازم اثبات الجمال والجلال والصفات الثبوتية ونفي السلبية هو اثبات كمال قدرة الباري تعالي بإرسال الرسول وجعل خليفته في الارض الهادي لمراضيه ما دامت النشأة الدنيوية- كما اوضحنا في صدر هذا الفصل كون الامامة ركن من اركان التوحيد- فالتوحيد واثبات القدرة الازلية يستدعي عدم مغلولية بد الباري عن خلقه أي تولي خلفائه في أرضه، كما ان توحيده بنفي الصفات السلبية عنه أي صفات الجلال يعني الخوف والابتعاد عن قهره ومواطن غضبه بالتبري من اعدائه.

5- إن الحب والولاء محدود بحد وهو عدم الغلو وهو الافراط، وعدم الجفاء وهو التفريط فيجب بيان الحد الذي يجعل الانسان مغاليا أو جافيا قاليا وخارجا عن جادة الصواب؟

قال بعض: بأن من يثبت صفة لهم خارجة عن نطاق البشر يوجب الغلو والخروج عن حد الاستقامة فهو يثبت لهم مقام العصمة العملية والعلمية فقط، وهذا مع انهم انفسهم يرون روايات احاطة أنوارهم لا اجسامهم بالعوالم والنشآت السابقة واللاحقة.

اما اصحاب السر كسلمان ورشيد الهجري ومحمد بن سنان ويونس بن عبد الرحمن وجابر بن يزيد الجعفي وامثالهم فانهم يعتقدون بهم فوق ذلك المقام

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 429

«قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَي إِلَيَّ» فالرسول في عين مثليته البشرية للآخرين إلا انه يغايرهم في (يوحي إلي) وأي مغايرة هذه وأي مفارقة. وانهم منذ بدء الخليقة كانوا أنوارا وأنهم مطلعون علي عالم الملكوت بما يزيد علي الانبياء من اولي العزم، ورواية تفسير الثمانية الذين يحملون العرش أربعة من الاولين وأربعة من

الآخرين وهم نوح وابراهيم وموسي وعيسي عليهم السلام علي يسار العرش، ومحمد صلي الله عليه و آله وعلي والحسن والحسين علي يمين العرش، ومن المعلوم ان اليمين واليسار في الرواية يدل علي الدنو وعلو المقام وأنه لا من جهة المكان والأين إذ لا مكان جسماني للعرش الذي هو العلم

وقد عرفت في استخلاف آدم أنه يحمل علم اللَّه ما لا تحمله الملائكة، وقد أشير إلي تفسير الثمانية عند العامة (فقد رواه السيوطي في الدر المنثور عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: يحمله اليوم أربعة، ويوم القيامة اربعة، فإن اليوم اشارة إلي من يحملهم من هذه الامة، وقد صرح بأسمائهم في روايات أهل البيت).

وكل الامامية متفقون علي ان مستقي علومهم ليس بالعلم الحصولي الاعتيادي بل لهم العلم الواقعي، وانهم مطهرون مبرؤون من العيب والادناس والارجاس، وهذه كلها بعيدة عن الغلو.

فالمقياس العقلي هو أن الخروج بهم عن حد الامكان أو الخروج بصفاتهم عن صفات الممكن هو افراط، وأن كل ما عندهم هو من عند اللَّه العزيز الحكيم الذي اعزهم واقدرهم واعطاهم من نعمه ما لا يحصي، مع بقاء محدودية ذاتهم وانهم معاليل مخلوقون والمعلول لا يبلغ شأن العلة، بل يجب الاعتقاد انهم محتاجون إليه تعالي ولا يوكل اليهم الامور بنحو العزلة والاستقلال- والعياذ باللَّه- مطلق ومستقل فهم الفقراء إلي اللَّه واللَّه هو الغني المطلق، كما هو البحث والكلام الجاري في ادني فعل يوجده البشر من أعمال جوارحه أنها باقدار اللَّه لا بنحو التفويض العزلي الباطل.

واما جانب الجفاء والذي يجب الابتعاد عنه ايضا فمعناه هو تنزيلهم عن مقام

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 430

كرامة الخلقة التي اولاها الباري تعالي لهم، وبيان ذلك علي نحو الاجمال:

إن الصوادر الاولي في عالم

الخلقة لها صفات لا يقاس بها سائر المخلوقات الاخري، وهذا يعني ان لهم مقاما، وانهم ليسوا كبقية البشر وبالنسبة إلي باقي الخلق فبينهم بون شاسع، وهم بوجودهم النوري لا بأجسادهم واسطة في الفيض، كما تقدم اثبات ذلك برهانيا في طيات البحوث السابقة قال تعالي «ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَي الْمَلَائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلَاءِ» ولم يقل تعالي عرضها أو اسماء هذه فهم ذوات عالية «أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ» وقد تقدم شرح ذلك، فكما ان افاضة الحياة في الزرع لا تكون إلا بواسطة مادة البذر وصورة الزرع واعداد التربة فهي في حقيقتها شرائط قابلية القابل ولذا كان الكمال من الباري يتنزل عن طريقهم، وهذا أيضا لعجز القابل المخلوق لا الفاعل جلّ وعلي علوا كبيرا وهذا كله لا يجعلهم شركاء للباري فهل التربة شريكة اللَّه وهل الصورة الزرعية ومادة البذر شريكة اللَّه.

والضابطة الشرعية- المتطابقة مع الضابطة العقلية المتقدمة- المهمة ما ورد مستفيضا أو متواترا علي لسانهم عليهم السلام «نزلونا عن الربوبية وقولوا فينا ما شئتم، ولن تبلغوا» «1»

، وهناك طوائف عديدة من الروايات التي تثبت هذا المطلب، والمعني بلسان آخر كما في حديث الرضا «فمن ذا الذي يبلغ معرفة الامام.. ضلت العقول وتاهت الحلوم وحارت الالباب وخسئت العيون وتصاغرت العظماء وتحيرت الحكماء وتقاصرت الحلماء وحصرت الخطباء وجهلت الالباء وكلّت الشعراء وعجزت الادباء وعييت البلغاء عن وصف شأن من شئونه وفضيلة من فضائله، واقرت بالعجز والتقصير، وكيف يوصف بكله أو ينعت بكنهه أو يفهم شي ء من امره» «2»

.وببيان فقهي نقول: ان المتابعة والتعظيم ليس فيه أي حد من حدود الشرك، بل ان كبار الفقهاء من المسلمين يذكرون أن التعظيم لغير اللَّه لا يكون شركا إذا كان لا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص:

431

عن عبادة، وانه يكون عبادة اصطلاحية وتأليها إذا كان تمام الخضوع مع اعتقاد الاستقلال لذلك لا يجوز، أما إذا كان مع اعتقاد حاجة المخضوع له وفقره إلي اللَّه سبحانه فانه لا يكون عبادة، هذا من جانب الحد الاعلي.

أما من جانب الحد الادني فإن ادني درجات الولاء هو المودة والمحبة القلبية وعليه يكون التشفع بهم وزيارتهم والتوسل والدعاء بهم لا يكون عبادة ولا يدخل تحت حد الغلو، قال تعالي «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرَوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَحِيماً» «1»

، وقال تعالي مخاطبا نبيه «وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ» «2»

، وقال تعالي «أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ» «3»

، وقال تعالي «اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذا فَأَلْقُوهُ عَلَي وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً» «4»

، وقال تعالي «قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ء 97 قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» «5»

، قال تعالي «مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» «6»

.6- ولابأس بالاشارة مختصرا إلي ان شرك الجاهلية في العبادة كان بالتعظيم والتوسل بأمور من دون جعل اللَّه تعالي وإذنه، والتوحيد في العبادة هو نفي الطقوس التي لم تؤخذ من عند اللَّه سبحانه وتعالي، ونستطيع ان نجد ما يدعم نظرية الامامية في التوسل بهم:

أ- ان اللَّه يأمر بابتغاء الوسيلة إليه قال تعالي «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَابْتَغُوا

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 432

إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ»»

، وقد تقدمت الاشارة إلي انهم السبيل إلي اللَّه.

ب- ان الشفاعة مذكورة بنص القرآن الكريم «وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَي» والعديد من الآيات وهذا الاستثناء يدل علي وجود اصل الشفاعة، والشفاعة تعني كرامة خاصة ومنزلة للشافع عند اللَّه تعالي.

ج- انه لا فرق بين الوسيلة ان

تكون تصرفا وعملا كالصلاة والصوم للَّه من اجل تحقيق حاجة معينة، وبين ان تكون بالتوسل بالنبي صلي الله عليه و آله بل ان آية المائدة المتقدمة تدل علي ان الوسيلة هي غير العمل الصالح والتقوي وأنها درجة فوق ذلك.

د- ان القرآن ذكر سجود الملائكة لآدم وابناء يعقوب ليوسف سجود احترام لا عبادة.

ه- ان النذر مباح في اصله فقد نذرت والدة مريم ما في بطنها لمكان العبادة، كما ينذر الشيعة للَّه تعالي الان مالا يختص بالائمة والصالحين أي يصرف في خيراته.

و- قوله تعالي «واسْتَغْفِرْ لَهُمْ» الواردة في العديد من السور القرانية.

ز- «وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» فوجوده صلي الله عليه و آله كان حرزا لهم.

ح- «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» فلا بد من مطلق التسليم النفسي للرسول فضلا عن عمل الجوارح.

فوجوب الخضوع للتوقير ثابت في القرآن للرسول الاكرم وهو مغاير للعبادة، والتفريق بينه حيا وميتا مما يضحك الثكلي، و في بعض الروايات لدي العامة والخاصة ان المسلمين كانوا يتبركون بفضل وضوء رسول اللَّه (كما في ما حكاه مندوب مشركي قريش في صلح الحديبية من فعل المسلمين، فلاحظ كتب السير والتاريخ)، و في غزوة خيبر تنص الروايات التاريخية ان الامام علي كان به رمد

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 433

فدعاه الرسول صلي الله عليه و آله وتفل فيها فبرأت، وغير هذا كثير جدا.

بل ان احد مبرزات التودد واظهار محبتهم هو زيارة قبورهم وتعاهدها وغير ذلك، وكل ذلك لكرامتهم عند اللَّه تعالي وشأن قربهم ومنزلتهم عنده وخاصتهم به وصدق مقاعدهم عنده.

ومن مراتب ولايتهم هي الولاية التشريعية بمعني انهم ليسوا رواة عدول ليس إلا بل ان علومهم مستقاة

من معين الغيب وان واسطتهم الروائية هي بالقناة النورية لا بالحس كما في عنعنة النبي صلي الله عليه و آله عن جبرئيل عن ميكائيل عن اسرافيل عن اللَّه تعال، وإن اختلفت القناة النبوية بالوحي والنبوة، وقناتهم بالعلم اللدني الجامع بالكتاب المكنون «لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ»، «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً».

وكذلك ولايتهم التكوينية بإذن اللَّه تعالي وقد اشرنا إليها في موارد عدة ونشير هنا إلي بعض الآيات التي تنص علي وجود ولاية تكوينية للبعض منها قوله تعالي «إِذْ قَالَ اللّهُ يَاعِيسَي ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَي وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونَ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَي بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» «1»

، «كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمَحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّي لَكِ هذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ» «2»

، «وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَي فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ» «3»

، «وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ» «4»

، «قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ

الامامة الالهية(5)، ج 1، ص: 434

مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هذَا مِن فَضْلِ رَبِّي» «1»

.أخيرا.. فإن من الواجب علي الانسان الذي يوالي ائمة الهدي ان يثبت لهم هذه المقامات العلوية عند اللَّه من دون ان يكون هناك تحفظ او تردد في احدها،

فهم خلفاء اللَّه في ارضه وآيات قدرة اللَّه الواسعة التي لا يحدها شي ء يؤتيها من يشاء من عباده وهو تعالي أقدر بلا كفو علي الشي ء الذي يؤتيه.

وهؤلاء هم الذين عرفوا اللَّه حق معرفته واستحقوا بذلك تلك المقامات وهم علي ما هم عليه من المنزلة الرفيعة في جميع عالم الوجود إلا انهم يستشعرون النقص والفقر والعبودية اتجاه الذات المقدسة وانهم دونها منزلة وهل يقاس برب الارباب شي ء؟! ولذا نري عبادتهم- التي لم يبلغها بشركما وكيفا- تتناسب مع قدر معرفتهم بربهم، وعظيم تذللهم- الذي لا يُري لأحد غيرهم- لعلمهم أنهم امام العليم الجليل.

الجزء (2)

الُمقدّمة … ص: 5

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للَّه الجاعل في الأرض خليفة إماماً افترض طاعته علي جميع الملائكة والجنّ والإنس وقد علّمه من لدنه علماً جامعاً بالأسماء كلها فاحتاجته الملائكة لعلمه، ولم يقبل تعالي طاعة وعبادة أحد من خلقه إلّابالطاعة لخليفته، ثمّ الصلاة والسلام علي المبعوث للعالمين رحمة إمام الخلق التارك فينا الثقلين الجاعل باب علمه وحكمته وصيه المرتضي والمستخلف علي الأمة اثني عشر وعلي آله المطهّرين الذين يمسّون الكتاب المكنون وهو آيات بينات في صدورهم الذين قرن اللَّه بطاعته وطاعة رسوله طاعتهم فريضة، وجعل مودّتهم قرين الرسالة وسبيلًا متخذاً إليه.

وبعد فهذا هو الجزء الثاني والثالث من كتاب الإمامة الإلهية وقد اشتملا علي مباحث متعدّدة من خمسة فصول وقد كان من بواعث الخوض فيها ما يلاحظ في جملة من المقولات من النظرة إلي علم النبي صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليه السلام كملكة علمية بفقه الدين والشريعة وان الأحكام الصادرة عنهم أشبه بالفتاوي النابعة عن أعمال جهد الفهم المكتسب والتتبّع في الكتب والأدلّة. أو أن ما يحكمون به هو وليد الاستظهار من وراء حجاب الألفاظ ودلالاتها، وقد

صرّح أهل سنّة جماعة الخلافة باجتهاد النبي صلي الله عليه و آله والعياذ باللَّه تعالي- وانه هل يصيب أم يخطأ، ولوازم وتوالي هذا القول من الحالقات للدين.

وقد عبرّ في بعض الأقوال عن بيان أئمة أهل البيت عليهم السلام للسنّة النبوّية انهم رواة لها ونقلة، وهو تخيل ان اخبارهم عن النبي صلي الله عليه و آله علي حذو الرواة من سائر الناس، وانهم يخبرون عنها بما يمتلكون من رصيد مسموعات حسّية وكتب مخطوطة.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 6

وقد جاءت سلسلة البحث بدءاً بالمنهجية والنظام المتّبع في معرفتهم (صلوات اللَّه عليهم) ثمّ تلا ذلك البحث في فقه مصادر تلك المعرفة بالتعرض للقواعد الأمّ في معرفة مقاماتهم ولم يكن ذلك علي سبيل الاستقصاء كيف ومن حدّهم فقد وصفهم ومن وصفهم بكمالهم فقد أحاط بهم فهو أعلم منهم لان من حدّ شيئاً فهو أكبر منه.

ثمّ البحث عن جملة من أبواب تلك المعرفة وأسسها.

وقد تضمّن في مطاوي تلك السلسلة محاور قد احتدم فيها الجدل العلمي:

كالاستقامة في طريق المعرفة بعيداً عن إفراط الغلوّ وتفريط التقصير إن الايمان فضلًا عن الأعمال لا يصحّ فضلًا عن القبول إلّابالتوجّه والتوسّل والانقياد لهم فضلًا عن معرفتهم- قراءات جديدة ثلاث في حديث الغدير أن ولايتهم عليهم السلام من أصول الدين الواحد الذي بعث به جميع الانبياء عليهم السلام ولايتهم في التشريع- ان الامام هو حقيقة القرآن المكنون وهو الثقل الأكبر أن ليلة القدر نافذة غيبية وقناة ارتباط سماوية لا زالت قائمة مستمرة في عقيدة الإسلام عند المسلمين- أن للقرآن منازل ومواطن غيبية هي منال لهم عليهم السلام الإمامة القائمة الراهنة للمهدي (عج) في ظل الغيبة نماذج الارتباط الغيبي لأمثال الإمامة في القرآن-.

وقد قام بتقرير وضبط هذه المباحث

ذو البصيرة المعرفية والنظر النافذ الشيخ صادق الساعدي أدام اللَّه سعيه في نشر العقائد الحقّة لمدرسة أهل البيت عليهم السلام.

قم عش آل محمّد عليهم السلام

بجوار كريمة أهل البيت عليهم السلام

محمد سند

الحادي من ذي القعدة 1426 ه. ق

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 7

مقدّمة المؤلِّف … ص: 7

الحمد للَّه ربّ العالمين والصّلاة والسلام علي صفوة الخلق محمّد وآله الهداة المهديين الذين اجتباهم اللَّه وجعلهم صراطه المستقيم وارتضاهم لغيبه واختارهم لسرّه وجعلهم خلفاء في أرضه وحججاً علي بريته.

الإمامة هي ضرورة من الضرورات الفطرية ولهذا تجدها في الوجدان لدي عامة المسلمين وتحت ذريعة الضرورة تسارع جمع من الناس لنصب الخليفة ومنعوا مخالفته أو الخروج عليه بزعم انهم خلفاء وألوا امر الذين أمر اللَّه بطاعتهم كما أمر بطاعته وطاعة رسوله وبهذا الزعم انقادوا لهم واتبعوا الملوك الذين تربّعوا علي العروش باسم الخلافة الإسلامية كملوك بني امية وبني العباس وغيرهم الذين عاثوا بالإسلام فساداً وبالمسلمين قتلًا وتشريداً إلي أن أوصلوا الإسلام والمسلمين إلي ما نراه الآن..

والإمامة هي منصب الولاية في الدين والحاكمية علي المسلمين وهل الإمام هو من استطاع الوصول إلي هذه الزعامة والمنصب بأية طريقة كانت حتي لو كان عن طريق سفك دماء المسلمين وانتهاك حرماتهم بل وحتي لو كان انتهاك لحرمة رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وهل ضرورة الإمامة مبرر لذلك وهل يعقل أن يلتزم بهذا القول في الإمامة غالبية الأُمّة الإسلامية وفي الحقيقة أنه يترتّب علي الإمامة نتائج خطيرة علي مستوي العقائد وبقية أبواب الدين ومستوي الأحكام الفقهية ولا ابالغ لك في القول كما سيتضح ذلك من خلال المباحث الموجودة في صفحات الكتاب الذي بين يديك.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 8

والمنهج في مدرسة أهل البيت عليهم السلام لأصل الإمامة يختلف اختلافاً جوهرياً

عمّا رسمته المدارس الاخري لهذه الحقيقة وكذلك لصفات الإمام.

فالإمامة هي عهد إلهي وجعل ربّاني وتنصيب منه سبحانه وتعالي وهذا صريح الآيات والروايات قال تعالي: «وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَايَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» «1»، وقال تعالي: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا» «2» والإمام له صفات ومقامات خاصة أولها أن يكون معصوماً وهذا ما أشار إليه سبحانه وتعالي: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً» «3» وقوله تعالي: «لَايَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ».

والإمامة مستمرّة وباقية لا تنقطع «وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ» «4».

وقد جاءت هذه البحوث القيمة التي أفاضها علينا سماحة الأستاذ الشيخ محمد سند (دامت بركاته) لتجلي البصائر عن تلك المقامات للنبي وأهل بيته عليهم السلام وبيان وتأثير تلك المقامات في مسيرة الخلق إلي الحقّ والناس في هذه المسيرة علي درجات ارتفاع وانخفاض بما لديهم من معرفة تلك المقامات.

صادق الساعدي

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 9

الفصل الرابع: الغلوّ والتقصير (منهجية المعرفة) … ص: 9

اشارة

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 11

الفرقتان أوالثلاث المذمومة … ص: 11

ورد في الكتاب العزيز والسنّة المطهّرة ذمّ الغلوّ والتقصير، وكذلك العداوة والضغينة لأصفياء اللَّه وحججه، قال تعالي: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَاتَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ» «1»

، وقال تعالي: «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَاتَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَي اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ» «2»

، وقال تعالي علي لسان المقصّرة في معرفة أصفياء اللَّه: «قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْ ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ» «3»

، وقال تعالي علي لسانهم: «مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ» «4»

وأيضاً: «مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ* وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ» «5»

وأيضاً: «فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَي اللَّهُ» «6»

وأيضاً: «وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَي إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا» «7».

فيبرز القرآن الكريم أهم العوامل الموجبة لجحود الصراط الإلهي وهو قصور معرفة الأُمم بشخصيات الحجج الإلهية واقتصارهم في المعرفة علي الحيثية

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 12

البشرية. وقد أجاب تعالي عن هذا القصور بقوله: «وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَايُنْظَرُونَ* وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ» «1»

، أي أنّ أصفياء اللَّه وإن كانت حقائقهم ملكية، إلّاأنّ صورتهم ولباسهم في الخلقة هي الصورة البشرية.

وقال تعالي في ذمّ الفرقة الثالثة المنطوية علي عداوة أصفياء اللَّه: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ» «2».

والضغينة المنهي عنها في القرآن الكريم هي في مقابل المودّة المأمور بها في كتابه العزيز: «قُلْ لَاأَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي» «3».

وقال تعالي: «أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذَا لَايُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا* أَمْ

يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَي مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا* فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَي بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا» «4»

، وقال تعالي علي لسانهم: «أَءُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ* أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ» «5»

، و «وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَي رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» «6».

أمّا الروايات: فقد روي في زيارته عجّل اللَّه تعالي فرجه الشريف: «الحمد للَّه الذي هدانا لهذا وعرّفنا أولياءه وأعداءه، ووفّقنا لزيارة أئمّتنا ولم يجعلنا من المعاندين الناصبين، ولا من الغلاة المفوّضين، ولا من المرتابين المقصّرين» «7».

وفي الزيارة الجامعة: «فالراغب عنكم مارق، واللازم لكم حق، والمقصّر في حقّكم

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 13

زاهق» «1»

، وكذلك ما ورد في الصلوات الشعبانية: «اللهمّ صلِّ علي محمّد وآل محمّد، الفلك الجارية في اللجج الغامرة، يأمن من ركبها ويغرق من تركها، المتقدّم لهم مارق، والمتأخّر عنهم زاهق، واللازم لهم لاحق» «2».

وروي الكليني أيضاً في مصحّح محمد بن سنان، قال: «كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السلام فأجريت اختلاف الشيعة، فقال: يا محمد، إنّ اللَّه تبارك وتعالي لم يزل متفرّداً بوحدانيته، ثمّ خلق محمّداً وعليّاً وفاطمة فمكثوا ألف دهر، ثمّ خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها وأجري طاعتهم عليها وفوّض «3» أمورها إليهم، فهم يحلّون ما يشاؤن، ويحرّمون ما يشاؤن ولن يشاؤا إلّاأن يشاء اللَّه تبارك وتعالي. ثمّ قال: يا محمّد، هذه الديانة التي من تقدّمها مرق ومن تخلّف عنها محق ومن لزمها لحق، خذها إليك يا محمّد» «4»

.قال المجلسي «5» في شرح الحديث: والديانة الاعتقاد والمتعلّق بأُصول الدين، من تقدّمها أي تجاوزها بالغلوّ، مرق أي

خرج من الإسلام، ومن تخلّف عنها أي قصّر ولم يعتقدها، محِق أي أبطل دينه أو بطل، ومن لزمها واعتقد بها لحق أي بالأئمّة أو أدرك الحقّ، خذها إليك أي احفظ هذه الديانة لنفسك.

وروي المجلسي هذه الرواية عن محمّد بن سنان بطريق آخر مثل ما تقدّم، إلّا أنّ فيه: «وفوّض أمر الأشياء إليهم في الحكم والتصرّف والإرشاد والأمر والنهي في

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 14

الخلق؛ لأنّهم الولاة، فلهم الأمر والولاية والهداية، فهم أبوابه ونوّابه وحجّابه، يحلّلون ما يشاء ويحرّمون ما شاء، ولا يفعلون إلّاما شاء، عبادٌ مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، فهذه الديانة التي من تقدّمها غرق في بحر الإفراط، ومن نقصّهم عن هذه المراتب التي رتّبهم اللَّه فيها زهق في بر التفريط، ولم يوفِ آل محمّد حقّهم فيما يجب علي المؤمن من معرفتهم. ثمّ قال: خذها يا محمّد «1»؛ فإنّها من مخزون العلم ومكنونه».

وروي المجلسي في البحار في باب معرفتهم بالنورانية رواية طويلة في فضائل أمير المؤمنين والأئمّة عليهم السلام ومقاماتهم ورتبهم، قال عليه السلام: «يا سلمان ويا جندب! قالا: لبيك ياأمير المؤمنين صلوات اللَّه عليك. قال عليه السلام: من آمن بما قلت وصدّق بما بيّنت وفسّرت وشرحت وأوضحت ونوّرت وبرهنت فهو مؤمن ممتحن، امتحن اللَّه قلبه للإيمان وشرح صدره للإسلام، وهو عارف مستبصر قد انتهي وبلغ وكمل، ومن شكّ وعَنَدَ وجَحَدَ ووقف وتحيّر وارتاب فهو مقصّر وناصب» «2»

.وفي صدر الرواية قال صلوات اللَّه عليه مخاطباً إيّاهما: «مرحباً بكما من وليّين متعاهدين، لستما بمقصّرين إلي أن قال عليه السلام: - إنّه لا يستكمل أحد الإيمان حتّي يعرفني كنه معرفتي بالنورانية، فإذا عرفني بهذه المعرفة فقد امتحن اللَّه قلبه بالإيمان وشرح صدره للإسلام وصار عارفاً

مستبصراً، ومن قصر عن معرفة ذلك فهو شاكّ ومرتاب» «3»

.وروي الشيخ الطوسي في الغيبة بطريقين»

، عن أبي نعيم محمد بن أحمد الأنصاري، قال: «وجّه قوم من المقصرة والمفوضة كامل بن إبراهيم المدني إلي أبي

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 15

محمّد عليه السلام، قال كامل: فقلت في نفسي أسأله لا يدخل الجنّة إلّامن عرف معرفتي وقال بمقالتي. ثمّ سرد الرواية وفيها لقياه بالإمام العسكري وتشرّفه بلقيا الحجّة (عج) معه، ثمّ قال (عج): وجئت تسأله عن مقالة المفوضة؟ كذّبوا، بل قلوبنا أوعية لمشيئة اللَّه، فإذا شاء شئنا، واللَّه يقول: «وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ» «1»

.. الحديث».

وفي زيارة عاشوراء المعروفة، قال عليه السلام تعليماً للزائر: «ولعن اللَّه أمةً دفعتكم عن مقامكم وأزالتكم عن مراتبكم التي رتبكم اللَّه فيها» «2»

.وروي الصفّار بسنده عن الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام قال: «يا أبا حمزة لا تضعوا عليّاً دون ما وضعه اللَّه، ولا ترفعوه فوق ما رفعه اللَّه، كفي لعليّ أن يقاتل أهل الكرّة وأن يزوّج أهل الجنّة»، وكذا رواه الصدوق في الأمالي «3».

وروي الشيخ في الأمالي عن الأصبغ بن نباتة قال: «دخل الحارث الهمداني علي أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال لأمير المؤمنين عليه السلام: وزادني إواراً وغليلًا اختصام أصحابك ببابك. قال: وفيم خصومتهم؟ قال: في شأنك والبلية من قبلك، فمن مفرطٍ غالٍ ومقتصدٍ قالٍ ومتردّدٍ مرتاب لا يدري أيقدم أو يحجم. قال: فحسبك يا أخا همدان، ألا أنّ خير شيعتي النمط الأوسط، إليهم يرجع الغالي، وبهم يلحق التالي.. الحديث» «4»

.وروي السيّد شرف الدين في تأويل الآيات، بسنده عن الصادق عليه السلام قال: «قال عليّ بن أبي طالب عليه السلام.. وإنّه ليس عبدٌ من عبيد اللَّه يُقصّر في حبّنا لخير جعله

اللَّه

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 16

عنده» «1».

وروي ابن شهرآشوب في المناقب عن الحسن بن عليّ عليهما السلام أنّه خطب الناس فحمد اللَّه وأثني عليه وتشهّد ثمّ قال: «أيّها الناس، إنّ اللَّه اختارنا لنفسه وارتضانا لدينه واصطفانا علي خلقه وأنزل علينا كتابه ووحيه، وأيم اللَّه لا ينقصنا أحدٌ من حقّنا شي ء إلّاانتقصه اللَّه في عاجل دنياه وآجل آخرته» «2»

. وهو يشير عليه السلام إلي انتقاصهم من مقاماتهم التي ذكرها عليه السلام.

وروي الكليني في الموثق عن عبدالخالق الصيقل، قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن قول اللَّه عزّوجلّ: «وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا» «3»

؟ فقال: لقد سألتني عن شي ء ما سألني أحد إلّامن شاء اللَّه. قال: من أمّ هذا البيت وهو يعلم أنّه البيت الذي أمر اللَّه عزّوجلّ به وعَرِفَنا أهل البيت حقّ معرفتنا كان آمناً في الدنيا والآخرة» «4»

. ومفهوم قوله عليه السلام: إنّ المقصّر في معرفتهم لا يكون آمناً في الآخرة.

روي الكليني في الكافي عن ضريس الكناسي، قال: «سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول وعنده أُناس من أصحابه-: عجبت من قومٍ يتولّونا ويجعلونا أئمّة ويصفون أنّ طاعتنا مفترضة عليهم كطاعة رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ثمّ يكسرون حجّتهم ويخصمون أنفسهم بضعف قلوبهم، فينقصونا حقّنا ويعيبون ذلك علي من أعطاه اللَّه برهان حقّ معرفتناوالتسليم لأمرنا! أترون أنّ اللَّه تبارك وتعالي افترض طاعة أوليائه علي عباده، ثمّ يخفي عنهم أخبار السماوات والأرض …» «5»

.الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 17

جدلية الغلوّ والتقصير في قول بعض أعلام الطائفة … ص: 17

وسيأتي جملة عديدة من أقوال علماء الطائفة في أبواب الفصول اللاحقة حول التفويض، إلّاأنّا سنشير إلي نبذة وجملة نافعة، منها ما قاله الشيخ المفيد في شرح اعتقادات الصدوق عند قوله: اعتقادنا في الغلاة والمفوّضة، وإنّ علامة المفوّضة والغلاة وأصنافهم

نسبتهم المشايخ والعلماء إلي القول بالتقصير … قال:

والغلاة من المتظاهرين بالإسلام، هم الذين نسبوا أمير المؤمنين وذرّيته إلي الإلوهية والنبوّة إلي أن قال وأمّا نصّه رحمه الله أي الصدوق بالغلوّ علي من نسب مشايخ القمّيين وعلمائهم إلي التقصير، فليس نسبة هؤلاء القوم إلي التقصير علامة علي غلوّ الناس؛ إذ في جملة المشار إليهم بالشيخوخة والعلم من كان مقصّراً، وإنّما يجب الحكم بالغلوّ علي من نسب المحقّين إلي التقصير، سواء كانوا من أهل قمّ أم من غيرها من البلاد وسائر الناس.

وقد سمعنا حكاية ظاهرة عن أبي جعفر محمد بن الحسن بن الوليد لم نجد لها دافعاً في التقصير، وهي ما حكي عنه أنّه قال: أوّل درجة في الغلوّ نفي السهو عن النبيّ صلي الله عليه و آله والإمام عليه السلام، فإن صحّت هذه الحكاية عنه فهو مقصّر، مع أنّه من علماء القمّيين ومشيختهم.

وقد وجدنا جماعة وردوا إلينا من قم يقصرون تقصيراً ظاهراً في الدين، وينزلون الأئمّة عليهم السلام عن مراتبهم، ويزعمون أنّهم كانوا لا يعرفون كثيراً من

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 18

الأحكام الدينية حتّي ينكت في قلوبهم، ورأينا من يقول إنّهم كانوا يلتجئون في حكم الشريعة إلي الرأي والظنون، ويدّعون مع ذلك أنّهم من العلماء، وهذا هو التقصير الذي لا شبهة فيه، ويكفي في علامة الغلوّ نفي القائل به عن الأئمّة عليهم السلام سمات الحدوث وحكمه لهم بالإلهية والقدم … ولا يحتاج مع ذلك إلي الحكم عليهم وتحقيق أمرهم بما جعله أبو جعفر رحمه الله سمة للغلوّ علي كلّ حال «1».

وعلّق المجلسي علي قولَي الصدوق والمفيد بقوله: ولكن أفرط بعض المتكلّمين والمحدّثين في الغلوّ لقصورهم عن معرفة الأئمّة عليهم السلام وعجزهم عن إدراك غرائب أحوالهم وعجائب شؤونهم،

فقدحوا في كثير من الرواة الثقاة لنقلهم بعض غرائب المعجزات، حتّي قال بعضهم: من الغلوّ نفي السهو عنهم، أو القول بأنّهم يعلمون بما كان وما يكون، وغير ذلك، مع أنّه قد ورد في أخبار كثيرة «لا تقولوا فينا ربّاً، وقولوا ما شئتم ولن تبلغوا» «2»

.وورد: «إنّ أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلّاملك مقرّب أو نبيّ مرسل أو عبد مؤمن امتحن اللَّه قلبه للإيمان».

وورد: «لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله»، وغير ذلك ممّا مرّ وسيأتي.

فلابدّ للمؤمن المتديّن أن لا يبادر بردّ ما ورد عنهم من فضائلهم ومعجزاتهم ومعالي أمورهم إلّاإذا ثبت خلافه بضرورة الدين أو بقواطع البراهين أو بالآيات المحكمة أو بالأخبار المتواترة، كما في باب التسليم وغيره. «3»

وفي صحيحة زرارة قال: «دخلت علي أبي جعفر عليه السلام فسألني ما عندك من أحاديث الشيعة؟ قلت: إنّ عندي منها شيئاً كثيراً قد هممت أن أوقد لها ناراً ثمّ أحرقها. قال: ولِمَ؟

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 19

هات ما أنكرت منها. فخطر علي بالي الأُمور. فقال لي: ما كان علم الملائكة حيث قالت:

أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك …» «1»

.وقال المجلسي في شرح معني الحديث: لعلّ زرارة كان ينكر أحاديث من فضائلهم لا يحتملها عقله، فنبّهه عليه السلام بقصّة الملائكة وإنكارهم فضل آدم عليهم وعدم بلوغهم إلي معرفة فضله، علي أنّ نفي هذه الأُمور من قلّة المعرفة، ولا ينبغي أن يكذب المرء بما لم يحط به علمه، بل لا بدّ أن يكون في مقام التسليم، فمع قصور الملائكة مع علوّ شأنهم- عن معرفة آدم لا يبعد عجزك عن معرفة الأئمّة عليهم السلام «2».

وقال الوحيد البهبهاني «3» في فوائده: إعلم أنّ الظاهر أنّ كثيراً من القدماء سيما القمّيين

منهم والغضائري، كانوا يعتقدون للأئمّة عليهم السلام منزله خاصّة من الرفعة والجلالة، ومرتبة معينة من العصمة والكمال بحسب اجتهادهم ورأيهم، وما كانوا يجوّزون التعدّي عنها، وكانوا يعدّون التعدّي ارتفاعاً وغلوّاً علي حسب معتقدهم، حتّي أنّهم جعلوا مثل نفي السهو عنهم غلوّاً، بل ربما جعلوا مطلق التفويض إليهم، أو التفويض الذي اختُلف فيه كما سنذكر- أو المبالغة في معجزاتهم ونقل العجائب من خوارق العادات عنهم، أو الإغراق في شأنهم وإجلالهم وتنزيههم عن كثير من النقائص وإظهار كثير قدرة لهم وذكر علمهم بمكنونات السماء والأرض ارتفاعاً أو مورثاً للتهمة به، سيما بجهة أنّ الغلاة كانوا مختفين في الشيعة مخلوطين بهم مدلسين.

وبالجملة، الظاهر أنّ القدماء كانوا مختلفين في المسائل الأُصولية أيضاً، فربما

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 20

كان شي ء عند بعضهم فاسداً أو كفراً أو غلوّاً أو تفويضاً أو جبراً أو تشبيهاً، أو غير ذلك، وكان عند آخر ممّا يجب اعتقاده، أو لا هذا ولا ذاك.

وقال صاحب تنقيح المقال «1» ما ملخّصه: وإنّ أكثر ما يُعدّ اليوم من ضروريات المذهب في أوصاف الأئمّة عليهم السلام كان القول به معدوداً في العهد السابق من الغلوّ؛ وذلك أنّ الأئمّة عليهم السلام حذّروا شيعتهم من القول في حقّهم بجملة من مراتبهم؛ إبعاداً لهم عمّا هو غلوّ حقيقة، فهم منعوا الشيعة من القول بجملة من شؤونهم حفظاً لشؤون اللَّه جلّت عظمته، حيث كان أهمّ من حفظ شؤونهم؛ لأنّه الأصل وشؤونهم فرع شأنه، نشأت من قربهم لديه ومنزلتهم عنده، وهذا هو الجامع بين الأخبار الثمينة من الشؤون لهم والنافية لها.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 21

لا غلوّ ولا تقصير بل معرفة بحقّهم … ص: 21

والملاحظ ممّا تقدّم التوصية القرآنية عن الوقوع في كلّ من جانبي زيغ الغلوّ وزيغ التقصير، وكذلك لسان الروايات المتضمّن لاصطلاح الغلوّ

والغلاة والتقصير والمقصّرة، هو تخطئة كلا المنهجين والأمر بمنهج آخر يعتمد فيه نفي الغلوّ الذي هو إفراط ونفي التقصير الذي هو تفريط، وأنّ هذا النهج الوسط من الدقّة بمكانة يصعب المحافظة علي تجنّب الوقوع في الطرفين.

ومن ثمّ يُلاحظ رسوخ هذا الاصطلاح في ذهنية علماء الطائفة الأقدمين والمتقدّمين والمتأخّرين، وتشدّدهم علي توخّي نهج المعرفة والعارف بالأئمّة عليهم السلام، وهو النهج الوسط، ومحاذرة الوقوع في طرفي الغلوّ والتقصير، فلا غلوّ ولا تقصير بل معرفة عارف بحقّهم عليهم السلام. وهذا ميزان أطّره لنا الكتاب والسنّة المطهرة، نظير لا تعطيل ولا تشبيه بل توصيف بما وصف به نفسه وهو التوحيد، نظير لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين.

كما يتبيّن ممّا تقدّم أنّ الغلوّ ذو درجات، وكذلك التقصير شدةً وضعفاً، وأنّ محذور التقصير لا سيّما في بعض مراتبه- ليس هو بأدون من محذور الغلوّ، وأنّ النجاة في سلوك نهج التعرّف وكسب المعرفة بكيفية مقاماتهم ومراتبهم والتسليم الإجمالي أثناء ذلك السلوك.

هذا وقد وقف أئمّة أهل البيت عليهم السلام قبالة ظاهرة التقصير في معرفة الأئمّة عليهم السلام،

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 22

نظير وقوفهم أمام ظاهرة الغلاة، حتّي فشي وانتشر عند أصحاب الأئمّة عليهم السلام أنّ التقصير والغلوّ والتفويض في الزيغ عن جادة سواء الحقّ، وهذا المعيار تلقّاه شيعتهم بتعليم منهم عليهم السلام، وقد ورد مكرّراً تأكيدهم علي زيارة قبورهم بحال كون الزائر عارفاً بحقّ الإمام حقّ معرفته، أو عارفاً بحقّه، وإنّ أدني حقّ معرفة الإمام كونه منصوباً منتجباً من قبله تعالي لهداية الخلق.

ومحذور التقصير كونه يؤدّي بصاحبه إلي الإنكار والجحود، وبالتالي إلي نقص الإيمان أو المروق منه، ومن ثمّ قد ورد مستفيضاً «1» أو متواتراً الحثّ علي التسليم، وأنّها من صفات الإيمان

الكبري، بل في بعضها أنّها من أعظم صفات الإيمان ولوازمه، وإليه تشير الآية الكريمة: «فَلَا وَرَبِّكَ لَايُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَايَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا» «2»

، كما قد أُطلق عليه في الروايات الإخبات، كما في قوله تعالي: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَي رَبِّهِمْ» «3»

.ومن هذا الباب أيضاً ما ورد من حرمة الردّ للأحاديث المرويّة وإن كانت ضعيفة السند، وهذا الحكم وإن لم يكن بمعني حجّية واعتبار الروايات الضعيفة، إلّا أنّه يعني فيما يعنيه وجوب التسليم الإجمالي لما صدر عنهم عليهم السلام فضلًا عمّا يتولّد من الأخبار الضعيفة نتيجة تراكم حساب الاحتمالات من تولّد المستفيض والمتواتر أو الموثوق بصدوره.

وهذا الحكم قد اتّفق عليه علماء الإمامية الأصوليون منهم والأخباريون، فاللازم في الخبر الضعيف ردّ علمه إليهم والتسليم إجمالًا بالواقع وحقائق الدين

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 23

وإن لم نعلمها تفصيلًا، ولا يسوغ الردّ والإنكار ولا المبادرة بالنفي والإنكار.

وهذا المفاد ممّا قرّره الحكماء بقولهم: كلّما قرع سمعك ممّا لم يزدك واضح البرهان فذره في بقعة الإمكان، ويشيرون بذلك إلي هذا المنهج المنطقي الفطري من أنّ الإثبات كما يحتاج إلي دليل كذلك النفي والإنكار يحتاج إلي دليل.

ولك أن تقول: إنّ الفحص والتنقيب عن الأدلّة في الشبهات الحكمية من الأحكام الشرعية الفرعية إذا كان لازماً وكان إجراء الأُصول النافية للتكليف قبل الفحص التامّ البالغ في أبواب الأدلّة غير سائغٍ، فكيف يسوغ في المعارف العقائدية حول شؤونهم ومقاماتهم ومراتبهم المبادرة إلي النفي والإنكار من دون فحص تامّ ومن دون تضلّع وممارسة علمية ممتدّة، لا سيّما وأنّ أبواب الأدلّة في المعارف هي أضعاف مضاعفة علي عدد وكم أبواب أدلّة الفروع، وكذلك الحال في آيات القرآن في

المعرفة هي أضعاف آيات الأحكام الفرعية التي عددها خمسمائة ونيف، وهو أقل من عشر آيات القرآن!

ويكفي للمتتبّع أن يُلاحظ المجاميع الروائية ككتب الصدوق، فإنّ أغلب أسمائها هي في أبواب وفصول المعارف، وكذلك بقية المحدّثين وأصحاب الجوامع الروائية من متأخّري الأعصار كصاحب البحار، حيث قد وضع لروايات الفروع عشر مجلّدات (الطبعة الحديثة) بينما الغالب في بقية المجلّدات بحوث المعارف، فإذا كانت أدلّة المعارف بهذه السعة والترامي فضلًا عن أهمّية وخطورة أحكام المعارف التي هي مدلول تلك الأدلّة، فكيف يتهاون في الفحص والتنقيب والممارسة العلمية الطويلة؟ وكيف يتسنّي الفحص في كلّ تلك الأبواب في وقت قصير فضلًا عن البحث في الدلالة ومعالجة العامّ والخاصّ والحاكم والمفسّر، وتأليف القرائن العديدة، والتمعّن في الدلالات الالتزامية، وتبويب الأدلّة في طوائف؟

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 24

كيف يتمّ ذلك في برهة قصيرة فلا يسوغ المبادرة بالإجابة بنفي ثبوت الأمر الفلاني أو الكذائي أو زعم أنّه لم يقم دليل عليه، ونحو ذلك من التعابير التي تطلق مع عدم استنفاذ الفحص وعدم المراس والاضطلاع والخبرة المعرفية في تلك الأبواب، ومع عدم الإحاطة بأقوال علماء الإمامية من المتكلّمين والمحدّثين والمفسّرين علي اختلاف مبانيهم ومشاربهم، والإحاطة بشتّي الوجوه المذكورة، وربط المسائل بعضها ببعض، فالحريّ والعزيمة في مثل ذلك هو التوقّف قبل استتمام الفحص كما هو ديدن فتاوي وأجوبة الشيخ المفيد في المسائل العقائدية في الموارد التي لم يكمل تمحيصاً ولم يستنفذ الوسع في الفحص والتنقيب عنها، بمثل قوله لم أقف علي الروايات في ذلك، أو المسائلة بعد محتاجه إلي التأمّل، ونحو ذلك من التعابير.

وهذا منهج السالك المتعلّم من علومهم عليهم السلام علي سبيل النجاة، وأمّا المبادرة بالنفي والإنكار فهو طابع منهج التقصير والمقصّرة.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 25

إلفات إلي قاعدة في الغلو … ص: 25

اشارة

قال تعالي: «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَاتَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَي اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ» «1»

الآية، وقال تعالي: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَاتَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ» «2»

.ذُكر في تفسير هاتين الآيتين أنّ الغلوّ هو التجاوز عن الحدّ والزيادة والإفراط، وغير الحقّ الباطل وادّعاء أنّه ما أنزل اللَّه. في المعجم الوسيط: (غلا السعر وغيره غلواً وغلاءً، زاد وارتفع وجاوز الحدّ فهو غالي وغلي … فلان في الأمر والدين تشدّد فيه وجاوز الحدّ وأفرط) «3».

وظاهر الآيتين يشير إلي ضابطة وقيد مقوّم لمعني الغلوّ، وهو أنّ الغلوّ تجاوز الحدّ في الشي ء والإفراط فيه بغير الحدّ الذي له في الدين، وبالتالي وضعه في غير محلّه الذي وضعه له الدين، أي التجاوز برتبته الرتيبة التي جعلها الدين لذلك الشي ء، ومن ثم وضعه في غير حقّ موضعه الذي حدّد في الدين، وإلي ذلك تشير الآية الثانية.

كما يلزم من الغلوّ القول علي اللَّه بغير الحقّ؛ لأنّ التديّن والديانة بالإفراط في

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 26

الشي ء ينطوي علي نسبة ذلك إلي دين اللَّه تعالي وتشريعه، وبالتالي الافتراء علي اللَّه عزّوجلّ، وإلي هذا المعني تشير الآية الثانية.

ويتحصّل من ذلك: أنّ للغلوّ معنيً عامّ وهو التجاوز بالشي ء والإفراط في رتبته زيادةً علي الرتبة التي حدّدها الشارع لذلك الشي ء. ولهذا المعني العامّ موارد ومصاديق لا تحصي؛ إذ لا يقتصر الغلوّ علي التأليه وهو ما ارتكبته النصاري في النبيّ عيسي عليه السلام بل يعمّ الإفراط والتجاوز في كلّ شي ء زاد عن حدّه المرسوم في دين اللَّه، فلو اعتُقد في الإمام أنّه نبيّ لكان ذلك من الغلوّ وكذا لو اعتُقد في النبيّ غير المرسل أنّه

رسول لكان من الغلوّ أيضاً، وهكذا لو اعتُقد في صحابة النبيّ صلي الله عليه و آله بالعصمة لكان من الغلوّ أيضاً، وكذا لو اعتُقد في علماء الأُمّة وفقهائها أو في بعض العارفين السالكين أو في بعض الحكماء والفلاسفة بالعصمة لكان من الغلوّ أيضاً، وكذا لو اعتُقد في بعض أركان فروع الدين أنّه برتبة تفوق بعض اصول الدين الاعتقادية كان من الغلوّ أيضاً …

وبالجملة، فوضع أيّ شي ء في رتبة زائدة عن الرتبة التي حدّدها الدين لذلك الشي ء فهو من الغلوّ، ولا يقتصر ذلك علي التأليه، كما لا يقتصر شكل الغلوّ ونموذجه علي التصريح بالإفراط في رتبته، الشي ء بل قد يتّخذ أشكالًا وأنماطاً متعددة ترجع في جوهرها إلي الافراط في الحدّ والرتبة، وذلك مثل ترتيب أحكام وآثار علي ذلك الشي ء تتجاوز برتبتها عن رتبة الشي ء، مثل أن نجعل قول الصحابي في قبال قول النبي صلي الله عليه و آله.

ومن الغريب زعم أهل سنّة الخلافة غلوّ الشيعة في أئّمتهم مع أنّهم لا يقولون فيهم أجاز إلّاما أجاز لهم القرآن في ذلك والنصوص النبوية بفقه غور تلك المعاني، ولم يتعدّوا في مقامات الأئّمة عليهم السلام إلّاما هو دون مقام سيّد الأنبياء عليهم السلام:

(مسلمين للَّه مطيعين لأمر رسوله).

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 27

بينما تري أنّ أهل سنّة الخلافة يقرّون ويصحّحون للصحابي- كالخليفة الثاني- مواقف يعترض فيها علي النبيّ صلي الله عليه و آله، وأنّه ينزل الوحي بتصويب الثاني وتخطأة النبيّ صلي الله عليه و آله، في حكايات اختلقوها بأسباب النزول مشحونة بالتناقض والتهافت.

أو يروون بأنّ الثاني كانت غيرته علي الدين والعياذ باللَّه- أكثر من النبيّ، وأنّه أشدّ نكيراً للباطل منه صلي الله عليه و آله.

ومع أنّهم ينفون وينكرون دعوي العصمة في الصحابي

حسب زعمهم- ومع ذلك تراهم يفرطون ويغلون فيه إلي ما فوق عصمة النبيّ صلي الله عليه و آله، فمن جانب قد وقعوا في الغلوّ في شأن بعض الصحابة، ومن جانب آخر وقعوا في التقصير في شأن مقام النبيّ صلي الله عليه و آله وعصمته التي قال تعالي: «مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَي* وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَي* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَي» «1»

. وإنّ اجتهاد الصحابي علي حدّ حكم النبي صلي الله عليه و آله بزعم أنّه اجتهاد منه صلي الله عليه و آله، وكذلك جعل قول الحكيم والفيلسوف والعالم في قبال قول المعصوم!

هذا وقد ورد عن الأئمّة الأطهار أقوال تحثّ شيعتهم علي تنزيههم عن الربوبيّة: «نزّلونا عن الربوبية» و «قولوا فينا إنّا عبيد مخلوقون» و «لا تزعموا أنّا أنبياء وقولوا فينا ما شئتم»، أي في بيان الحدّ الذي هو دون الخالقية، أي حدّ المخلوق المكرّم عند اللَّه، «ولن تبلغوا كنه معرفتنا»، أي رتبة الإكرام والحظوة والزلفي التي لهم عند اللَّه «2»، وفي هذه القاعدة توصية بعدم الغلوّ فيهم، كما أنّ ذيلها متضمّن للتوصية بعدم التقصير بمعرفتهم.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 28

ملازمة بين الغلوّ والتقصير: … ص: 28

وبعد ما تبيّن أنّ للغلوّ أصنافاً وأقساماً عديدة، يجدر الإلفات إلي أنّ بعض أقسام الغلوّ هي ملازمةٌ إلي أنماطٍ من التقصير، بل التدقيق يرشد إلي تلازم كلّ أنواع الغلوّ لنمط من أنماط التقصير، فمثلًا التأليه للبشر المخلوق من نبيّ أو إمام- هو في الواقع تقصير في معرفة الباري؛ للزومه الشرك ونحوه، وكذلك البناء علي العصمة في الصحابي رافقه الخدشة في عصمة النبيّ صلي الله عليه و آله.

وبكلمة جامعة: إنّ الغلوّ كما هو وضع الشي ء زيادة علي رتبته، فهو يستلزم سلب الشي ء الآخر رتبتَه، وإعطائها للطرف

الأوّل الذي حصل فيه الغلوّ، وهذا من ميزات باب الغلوّ والتقصير، أنّهما متلازمان من جهتين، وإن كانا متقابلين في الجهة الواحدة، فلا يظنّ أنّ الخلاص من الغلوّ هو بالتقصير، بل التقصير هو وقوع في الغلوّ من نمط آخر من حيث لا يشعر المقصّر.

قال الإمام الصادق عليه السلام: «إلينا يرجع الغالي فلا نقبله، وبنا يلحق المقصّر فنقبله.

فقيل: كيف ذلك يابن رسول اللَّه؟ قال: لأنّ الغالي قد اعتاد ترك الصلاة والزكاة والصيام والحجّ، فلا يقدر علي ترك عادته وعلي الرجوع إلي طاعة اللَّه عزّوجلّ أبداً، وإنّ المقصّر إذا عرف عمل وأطاع» «1».

أسباب التقصير: … ص: 28

إنّ أسباب التقصير عديدة كما هو الحال في أسباب الغلوّ فبعضها ناجمة عن قصور علمي، وكلّ مورد بحسب العلم الذي يتكفّله أو إلي عوامل نفسانية ذاتية، وبعضها عن تقصير.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 29

وقد تقدّم أنّ القصور حالة بشرية ملازمة لغير المعصوم مهما بلغ سعيه العلمي والعملي، إلّاأنّ المحذور هو في إنكار ما وراء الحدّ الذي بلغه الشخص، بخلاف ما إذا كان مسلّماً بما لا يحيط بمعرفته التفصيلية «1».

نعم، هناك من الدواعي العمدية للتقصير قد ارتكبتها طوائف من هذه الأُمّة لمنازعة الحقّ أهله ومدافعة الأئمّة المعصومين المطهّرين، تارةً في المقامات التكوينية، وهي الخلافة الإلهية في جانبها الملكوتي، وأُخري في الحاكمية والإمامة السياسية، وهي الخلافة الإلهية في جانبها الملكي لتدبير النظام الاجتماعي.

وممّن وقع في ورطة النموذج الأوّل: جملة غفيرة من الصوفية والعرفاء، حيث قالوا: بأنّ القطب في كلّ زمن من الكمّلين، وهو لا يقتصر علي أشخاص بأعيانهم محدودين، بل هو مقام نوعي، وهو الغوث والإمامة النوعية.

وممّن وقع في النموذج الثاني: فقهاء أهل سنّة الجماعة، حيث بنوا علي عدم لزوم العصمة في الحاكم، وأنّ دور العلم الكسبي يكفي

في إدارة الأُمور العامّة.

ومن ثمّ تري أصحاب النموذجين ينالون من مقامات أئمّة أهل البيت وقيعة؛ بداعي فسح المجال لتسنّم مراتبهم.

ويشير إلي هذه الظاهرة في دواعي التقصير، وإلي النموذج الأوّل ما قاله علي بن الحسين عليه السلام، قال: «انتحلت طوائف من هذه الأُمّة بعد مفارقتها أئمّة الدين والشجرة النبوية إخلاص الديانة، وأخذوا أنفسهم في مخائل الرهبانية، وتعالَوا في العلوم، ووصفوا الإيمان بأحسن صفاتهم، وتحلّوا بأحسن السنّة، حتّي إذا طال عليهم

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 30

الأمد وبعدت عليهم الشقَّة وامتحنوا بمحن الصادقين، رجعوا علي أعقابهم ناكصين عن سبيل الهدي وعلم النجاة، يتفسّخون تحت أعباء الديانة تفسّخ حاشية الإبل تحت أوراق البزل.

ولا تحرز السيف الروايا وإن جرت ولا يبلغ الغايات إلّاسيوفها

وذهب آخرون إلي التقصير في أمرنا، واحتجّوا بمتشابه القرآن فتأوّلوا بآرائهم، واتّهموا مأثور الخبر ممّا استحسنوا «1»، يقتحمون في أغمار الشبهات ودياجير الظلمات بغير قبس نور من الكتاب ولا أثرة علم من مظان العلم بتحذير مثبطين، زعموا أنّهم علي الرشد من غيِّهم.

وإلي من يفزع خَلَف هذه الأُمّة وقد درست أعلام الملّة ودانت الأُمّة بالفرقة والاختلاف يكفّر بعضهم بعضاً، واللَّه تعالي يقول: «وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ» «2»

؟ فمن الموثوق به علي إبلاغ الحجّة وتأويل الحكمة إلّاأهل الكتاب وأبناء أئمّة الهدي ومصابيح الدجي، الذين احتجّ اللَّه بهم علي عباده، ولم يدع الخلق سدي من غير حجّة؟ هل تعرفونهم أو تجدونهم إلّامن فروع الشجر المباركة، وبقايا الصفوة الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وبرّأهم من الآفات، وافترض مودّتهم في الكتاب!

هم العروة الوثقي وهم معدن التقي وخير جبال العالمين وينعها» «3»

.بيّن عليه السلام أنّ هنالك نموذج من هذه الأُمّة ممّن ينازع الحقّ أهله- وهم أئمّة العترة-

في بعد كمالاتهم الملكوتية، فهو ينسب نفسه إلي إخلاص الديانة، أي إلي درجة المخلَصين والفتح وتزيّوا بالرسوم الظاهرية من الرهبانية والزهد

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 31

والانقطاع عن الدنيا، ونسبوا لأنفسهم مراتب من العلوم وأجهدوا أنفسهم في تحصيلها، وتبجّحوا في وصف الإسلام تعريضاً بالمديح لأنفسهم أنّهم يتحلّون بتمام درجات الإسلام، إلّاأنّهم لم يتمكّنوا لطبيعة شأنهم- في الاستقامة علي هذا المنوال؛ لاحتياجه إلي إعداد رباني للذات الإنسانية، وهو الاصطفاء والانتجاب، وهم لم يُصطَفوا لذلك فلم يقدروا علي مواصلة الطريق وتبيّن حال تقمّصهم لهذا المقام، وهو مقام الإمامة الملكوتية التي تنطوي علي مقام العلم اللدني بمنبع غيبي، وعلي كمال روحي يكون فيه الشخص مخلَصاً بالفتح- وعلي اتّصاف النفس بتمام الكمالات الروحية.

وهذا الغلوّ الذي ادّعاه هؤلاء لأنفسهم استلزم التقصير في من له حقّ تلك الرتبة، وهم الأئمّة من عترة النبيّ صلي الله عليه و آله، كما مرّ بنا: كلّ غلوّ يستتبع تقصير من جهة أُخري، وإنّ كلّ تقصير يستتبع غلوّ من جهة أُخري، وقد وقع في شراك هذا النموذج من الغلوّ والتقصير أكثر الصوفية وكثير من العرفاء، حيث قالوا: بأنّ القطب والغوث في كلّ زمان شخص، ويتبدّل من زمان إلي آخر، ولا ينحصر في عدد محدود، وإنّ الولاية الإلهية لنوع الواصلين، وبالتالي فالعصمة الذاتية تتعدّي وتتحقّق لكلّ سالك للقرب الإلهي، فباب الوصول الكامل مفتوح للكلّ.

وقال تعالي: «قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا* وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَي مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا* قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا* قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْ ءٍ حَتَّي أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا» «1»

.وفي هذه الواقعة التي سردها لنا القرآن الكريم تنبيه علي منهجية وضابطة في طبيعة الإنسان بل وكلّ موجود

مدرك- أنّ الأُمور التي يصعب عليه معرفتها

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 32

بالتفصيل وتبهم لديه وتجمل حقيقتها عن أفق إدراكه، تحصل لديه النفرة والجموح عن الإذعان بها، فيبادر إلي الإذعان بنفيها، وكأنّه توصّل إلي أنّ نفيها هو الحقّ، مع أنّ فرض الحال أنّ الأمر مبهم ومجمل عليه، وأنّ إبائه ونفرته منه هو لأجل ذلك، لكن يحصل لديه الخلط بين ذلك وبين أن يحسبه أنّه من قبيل ما يعلم ببطلانه وبعدمه في الواقع، وهذا الخلط في كيفية الاستنتاج يربك علي الإنسان طريقة الاستنتاج الصحيحة؛ فإنّ المطلوب منطقياً ومنهجياً في الحالة الأُولي هو التوقّف عن النفي أو الإثبات وعن الإنكار أو القبول تفصيلًا، والقيام بعملية الفحص العلمي، لا المبادرة باستنتاج النفي ومن ثمّ الإنكار والجحود.

وهذا المنهج جاري في كلّ مسألة صعبة ومعقّدة في أي علم من العلوم، كعلم الرياضيات والفيزياء والكيمياء، وغيرها من العلوم التجريبية أو العلوم الإنسانية أو علوم المعارف الإلهية، كما قد يحصل خلط لدي الإنسان بين حالة الفحص والبحث والتنقيب وحالة التشكيك؛ فإنّ حالة التشكيك في ظاهر صورتها أنّها عملية تسائل وتنقيب، إلّاأنّ في طياتها استنتاج عجول للنفي ومبادرة سريعة للإنكار غير مبنية علي أُسس الفحص العلمي، والتمييز بين الحالتين غامضة تدقُّ علي أفهام عامّة البشر.

ويذكر القرآن الكريم لنا مثالًا آخر في قوله تعالي: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَاتَعْلَمُونَ* وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَي الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* قَالُوا سُبْحَانَكَ لَاعِلْمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ* قَالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ

أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 33

تَكْتُمُونَ»»

. ففي المثال يضرب تعالي عبرة لنا بالملائكة مع قدسيتهم ومكانتهم، إلّاأنّه لاحتجابهم عن علم الغيب الإلهي بدر منهم استنكار ما جهلوه ومسارعة إلي التنديد به مع كونه الحقّ.

ويشير إلي النموذج الثاني الإمام أبو عبداللَّه عليه السلام في قوله: «إنّما مثل علي عليه السلام ومثلنا من بعده من هذه الأُمّة كمثل موسي عليه السلام والعالم حين لقيه واستنطقه وسأله الصحبة، فكان من أمرهما ما اقتصّه اللَّه لنبيه صلي الله عليه و آله في كتابه، وذلك أنّ اللَّه قال لموسي: «إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَي النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ» «2»

، ثمّ قال: «وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «3»

، وقد كان عند العالِم علم لم يُكتب لموسي في الألواح، وكان موسي يظنّ أنّ جميع الأشياء التي يحتاج إليها في تابوته وجميع العلم قد كُتب له في الألواح، كما يظنّ هؤلاء الذين يدّعون أنّهم فقهاء وعلماء، وأنّهم قد أثبتوا جميع العلم والفقه في الدين ممّا تحتاج هذه الأُمّة إليه وصحّ لهم عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وعلموه وحفظوه.

وليس كلّ علم رسول اللَّه صلي الله عليه و آله علموه، ولا صار إليهم عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ولا عرفوه؛ وذلك أنّ الشي ء من الحلال والحرام والأحكام يرد عليهم فيُسألون عنه، ولا يكون عندهم فيه أثر عن رسول اللَّه، ويستحيون أن ينسبهم الناس إلي الجهل، ويكرهون أن يُسألوا فلا يجيبوا فيطلب الناس العلم من معدنه.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 34

ولذلك استعملوا الرأي والقياس في دين اللَّه، وتركوا الآثار ودانوا اللَّه

بالبدع، وقد قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: كلّ بدعة ضلالة، فلو أنّهم إذا سُئلوا عن شي ء من دين اللَّه فلم يكن عندهم منه أثر عن رسول اللَّه ردّوه إلي اللَّه وإلي الرسول وإلي أُولي الأمر منهم، لَعلِمهُ الذين يستنبطونه منهم من آل محمّد عليهم السلام، والذي منعهم من طلب العلم منّا العداوة والحسد لنا، لا واللَّه ما حسد موسي عليه السلام العالِم، وموسي نبيّ اللَّه يُوحي اللَّه إليه، حيث لقيه واستنطقه وعرّفه بالعلم ولم يحسد كما حسدتنا هذه الأُمّة بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله علي ما عَلِمنا وما ورثنا عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، ولم يرغبوا إلينا في عِلمنا كما رَغب موسي عليه السلام إلي العالِم وسأله الصحبة ليتعلّم منه ويرشده، فلمّا أن سأل العالِمَ ذلك عَلِم العالِمُ أنّ موسي عليه السلام لا يستطيع صحبته ولا يحتمل علمَه ولا يصبر معه، فعند ذلك قال العالِم: «وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَي مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا» «1»

، فقال موسي عليه السلام له وهو خاضع له يستعطفه علي نفسه كي يقبله: «سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا» «2».

وقد كان العالم يعلم أنّ موسي عليه السلام لا يصبر علي علمه، فكذلك- واللَّه يا إسحاق بن عمّار- حال قضاة هؤلاء وفقهائهم وجماعتهم اليوم، لا يحتملون واللَّه- علمنا ولا يقبلونه ولا يطيقونه ولا يأخذون به ولا يصبرون عليه، كما لم يصبر موسي عليه السلام علي علم العالِم حين صحبه ورأي ما رأي من علمه، وكان ذلك عند موسي عليه السلام مكروهاً، وكان عند اللَّه رضاً وهو الحقّ وكذلك علمنا عند الجهلة مكروه لا يؤخَذ وهو عند اللَّه الحقّ» «3»

.وفي هذه

الرواية العديد من الوجوه علي ضرورة موقعية الإمام في القيمومة علي الشريعة، وسيأتي بيانها مفصّلًا، إلّاأنّنا نقتصر في المقام علي نبذة مجملة منها، وهي أنّ النبيّ موسي عليه السلام مع كونه نبيّاً مرسلًا من أولي العزم يتنزل عليه الوحي، أي إنّه محيط بالأحكام الشرعية وتشريعات اللَّه علي ما هي عليه في الواقع، أي بالأحكام الواقعية، إلّاأنّ ذلك لم يغنه عن العلم اللدني الذي أعطاه اللَّه

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 35

للخضر، وهو الشريعة في نظامها الكوني والإرادات الإلهية التكوينية. وهذا العلم اللدني غير النبوّة، وهو حقيقة الإمامة، والذي كان مجتمعاً بشكله الأكمل والأتمّ في خاتم النبيين صلي الله عليه و آله، فلا تُغني الإحاطة بالأحكام الواقعية لكلّ تفاصيل ظاهر الشريعة عن شريعة الإرادات الإلهية الكونية وتأويلها، فضلًا عن إحاطة الفقهاء القاصرة عن الإلمام بكلّ الأحكام الواقعية لظاهر الشريعة.

بل الفقهاء كما ذكر المحقّق النائيني في بحث الإجزاء- لا يحيطون بجميع الأحكام الظاهرية التي دورها إحراز الأحكام الواقعية لظاهر الشريعة؛ فإنّ جملة من الأحكام التي يستنبطها هي أحكام تخيّلية التي ينكشف له عدم كون استنباطها علي الموازين من الأدلّة.

وبعبارة أُخري: إنّ الفارق بين علم النبيّ موسي وعلم الفقهاء، إنّ علم النبيّ موسي ليس منبعه نقلي، بل هو منبع وحياني، بينما منبع علم الفقهاء ليس إلّا ظنون معتبرة، فضلًا عمّا لو كانت ظنون تخيّلية يتوهّم أنّها معتبرة، ومع كلّ ذلك فلم يُغن علم النبيّ موسي وهو صاحب الشريعة- عن علم التأويل الذي زوّده اللَّه تعالي للخضر لدنيّا، فكيف يفرض إستغناء الفقهاء في أحكام الشريعة عن دوام الرجوع إلي المعصوم؟

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 36

قاعدة آلية لنفي الغلوّ والتقصير … ص: 36

وهي ما روي عنهم مستفيضاً من قاعدة: «نزّلونا عن الربوبية، وقولوا فينا ما شئتم ولن تبلغوا». فأمّا

الروايات الواردة في ذلك فهي:

الأُولي: ما رواه الصدوق في الخصال من حديث الأربعمائة المعروف، قال أمير المؤمنين عليه السلام: «إيّاكم والغلوّ فينا، قولوا إنّا عبيد مربوبون، وقولوا في فضلنا ما شئتم». «1»

الثانية: ما رواه الصفّار في بصائر الدرجات، عن إسماعيل بن عبد العزيز، قال: «قال أبو عبد اللَّه عليه السلام في حديث: ياإسماعيل لا ترفع البناء فوق طاقته فينهدم، إجعلونا مخلوقين، وقولوا فينا ما شئتم فلن تبلغوا» «2»

.الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 37

الثالثة: ما رواه الصفّار بسنده عن كامل التمّار، قال: «كنت عند أبي عبد اللَّه عليه السلام ذات يوم فقال لي: ياكامل، اجعل لنا ربّاً نؤوب إليه، وقولوا فينا ما شئتم قال: قلت: نجعل لكم ربّاً تؤوبون إليه ونقول فيكم ما شئنا؟ قال: فاستوي جالساً ثمّ قال: وعسي أن نقول ما خرج إليكم من علمنا إلّاألف غير معطوفة.

والمراد من الألف غير المعطوفة كناية عن نهاية القلّة» «1»

.الرابعة: روي في كشف الغمّة من كتاب الدلائل للحميري عن مالك الجهني، قال: «كنّا بالمدينة حين أُجلبت الشيعة وصاروا فرقاً، فتنحينا عن المدينة ناحية، ثمّ خلونا فجعلنا نذكر فضائلهم وما قالت الشيعة، إلي أن خطر ببالنا الربوبية، فما شعرنا بشي ء؛ إذا نحن بأبي عبد اللَّه عليه السلام واقف علي حمار، فلم ندرِ من أين جاء، فقال:

يامالك وياخالد، متي أحدثتما الكلام في الربوبية؟ فقلنا: ما خطر ببالنا إلّاالساعة.

فقال: إعلما، أنّ لنا ربّاً يكلأنا بالليل والنهار نعبده، يامالك وياخالد، قولوا فينا ما شئتم، واجعلونا مخلوقين. فكرّرها علينا مراراً وهو واقف علي حماره» «2»

.الخامسة: وروي في البحار في باب معرفتهم بالنورانية (أي إنّ مبدأ خلقهم هو خلق أنوارهم)، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «يا سلمان ويا جندب. قالا: لبيك صلوات اللَّه

عليك. قال عليه السلام: أنا أمير كلّ مؤمن ومؤمنة ممّن مضي وممّن بقي، وايّدتُ بروح العظمة، وإنّم أنا عبدٌ من عبيد اللَّه، لا تسمّونا أرباباً وقولوا في فضلنا ما شئتم، فإنّكم لن تبلغوا من فضلنا كُنه ما جعله اللَّه لنا، ولا معشار العشر» «3»

.السادسة: ما رواه الراوندي في خرائجه عن خالد بن نجيع، قال: «دخلت علي أبي عبداللَّه عليه السلام وعنده خلق، فجلست ناحية وقلت في نفسي: ما أغفلهم، عند من

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 38

يتكلّمون! فناداني: إنّا واللَّه عبادٌ مخلوقون، لي ربّ أعبده؛ إن لم أعبده عذّبني بالنار.

قلت: لا أقول فيك إلّاقولك في نفسك.

قال: اجعلونا عبيداً مربوبين وقولوا فينا ما شئتم إلّاالنبوّة» «1»

.ورواه في بصائر الدرجات بطريقين.

السابعة: ما رواه في التفسير المنسوب إلي الإمام العسكري عليه السلام عن آبائه عليهم السلام، قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: لا تتجاوزوا بنا العبودية ثمّ قولوا ما شئتم ولا تغلوا، وإيّاكم والغلوّ كغلوّ النصاري؛ فإنّي بري من الغالين» «2»

.ورواه في الاحتجاج عن تفسير الإمام العسكري عليه السلام: «قال الرضا عليه السلام: من تجاوز بأمير المؤمنين عليه السلام حدّ العبودية فهو من المغضوب عليهم والضالين.

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: لا تتجاوزوا بنا العبودية ثمّ قولوا ما شئتم ولن تبلغوا، وإيّاكم والغلوّ كغلوّ النصاري؛ فإنّي بري من الغالين …

إلي أن قال بعد شرح غلوّ النصاري: فكذلك هؤلاء، وجدوا أمير المؤمنين عبداً أكرمه اللَّه ليبيّن فضله ويقيم حجّته، فصغر عندهم خالقهم أن يكون جعل عليّاً له عبداً، وأكبروا عليّاً عن أن يكون اللَّه عزّوجلّ له ربّاً، فسمّوه بغير اسمه، فنهاهم هو وأتباعه من أهل ملّته وشيعته، وقالوا لهم: يا هؤلاء! إنّ عليّاً وولده عبادٌ مكرمون مخلوقون مدبرون، لا يقدرون إلّاعلي ما

أقدرهم عليه اللَّه ربّ العالمين، ولا يملكون إلّاما ملكهم» «3»

.الثامنة: ما في غرر الحكم: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: إيّاكم والغلوّ فينا، قولوا إنّا

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 39

مربوبون واعتقدوا في فضلنا ما شئتم» «1»

.التاسعة: ما رواه الكليني عن عبد العزيز بن مسلم، قال: «كنّا مع الرضا عليه السلام …

ثم ساق حديثاً طويلًا عنه في الإمامة، وفيها: إنّ الإمامة أجلّ قدراً وأعظم شأناً وأعلي مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم … الإمام كالشمس الطالعة المجلّلة بنورها للعالم، وهي في الأُفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار … فمن الذي يعرف معرفة الإمام أو يمكنه اختياره؟ هيهات هيهات، ضلّت العقول وتاهت الحلوم وحارت الألباب وخسئت العيون وتصاغرت العظماء وتحيّرت الحكماء وتقاصرت الحلماء وحصرت الخطباء وجهلت الألبّاء وكلّت الشعراء وعجزت الأدباء وعييت البلغاء، عن وصف شأن من شأنه أو فضيلة من فضائله، وأقرّت بالعجز والتقصير، وكيف يوصف بكله أو ينعت بكنه أو يفهم شي ء من أمره أو يوجد من يقوم مقامه ويغني غناه، لا، كيف وأنّي؟ وهو بُعد النجم عن يد المتناولين ووصف الواصفين، فأين الاختيار من هذا، وأين العقول عن هذا» «2»

.وروي في المنتخب من بصائر الدرجات لسعد بن عبد اللَّه الأشعري، عن ابن عيسي بإسناده إلي المفضّل، قال: «قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: ما جاءكم منّا ممّا يجوز أن يكون في المخلوقين ولم تعلموه ولم تفهموه، فلا تجحدوه، وردّوه إلينا، وما جاءكم عنّا ممّا لا يجوز أن يكون في المخلوقين، فاجحدوه ولا تردّوه إلينا «3».

فبيّن عليه السلام أنّ الضابطة في صحّة إسناد النعوت والأوصاف لهم عليهم السلام والمدار في تحقيق مقاماتهم، ليس علي عدم غرابة النعت، ولا علي تعقّلنا

لتلك النعوت وإمكان فهمنا لها تفصيلًا، ولا علي أنسنا لتلك الأوصاف والنعوت، بل ولا علي

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 40

صرف صحّة السند وعدمه، وإنّما المدار علي إمكان كون تلك الصفة صفة المخلوقين، أي عالم الإمكان ما سوي اللَّه، وإن لم يكتنه العقل المحدود للبشر كنه حقيقة تلك الصفة بنحو التفصيل، لكنّه يدرك إجمالًا أنّ الصفة صفة ممكن حادث، لا صفة المختصّة بالذات الأزلية الغنية.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 41

قاعدة آلية أُخري وهي معرفتهم بالخلقة النورية … ص: 41

وهي أنّه تعالي أوّل ما بدأ بخلق نورهم، ثمّ خَلَق جميع الأشياء بعد ذلك.

وهذه القاعدة في المعرفة متطابقة المعني مع الإطار السابق: نزلونا عن الربوبية وقولوا فينا ما شئتم. من الكرامة الوجودية التي حباها اللَّه تعالي لهم ولن تبلغوا كنه ذلك. وبسبب تطابق المعني بين الإطارين فهما قاعدة واحدة، ذُكِرا في الرواية الخامسة المتقدّمة- في لسان الإطار الأوّل.

وقد عقدت أكثر المجامع الحديثية من الفريقين باباً لذكر روايات الإطار الثاني، وهي أنّ بدأ الخلقة كان نور النبيّ صلي الله عليه و آله، ثمّ أنوار أهل بيته، ومن ثمّ بقية الخلق، من العرش والكرسي واللوح والقلم والجنّة والسماوات والأرضين وعالم الأرواح وعالم الأجسام … وقد تعدّدت ألفاظ الحديث بسطاً واختصاراً واللفظ الجامع لها. ثمّ نعقّبه بالمصادر من الفريقين، ثمّ إشارة مقتضبة لمفاد الحديث وأُمومته لبقية أبواب المعارف.

فأمّا لفظ الحديث من بعض طرقنا، ما روي في الكافي:

«أحمد بن إدريس، عن الحسين بن عبد اللَّه، عن محمّد بن عيسي ومحمّد بن عبد اللَّه، عن علي بن حديد، عن مرازم، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: قال اللَّه تبارك وتعالي: يا محمّد، إنّي خلقتك وعليّاً نوراً، يعني روحاً بلا بدن، قبل أن أخلق سماواتي وأرضي وعرشي وبحري، فلم تزل تهلّلني وتمجّدني، ثمّ

جمعت روحيكما فجعلتهما واحدة، فكانت

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 42

تمجّدني وتقدّسني وتهلّلني، ثمّ قسّمتها ثنتين، وقسّمت الثنتين ثنتين فصارت أربعة:

محمّد واحد، وعليّ واحد، والحسن والحسين ثنتان، ثمّ خلق اللَّه فاطمة من نور إبتدأها روحاً بلا بدن، ثمّ مسحنا بيمينه فأفضي نوره فينا» «1»

.وكذلك ما رواه الكافي في نفس الباب: «الحسين بن محمّد الأشعري، عن معلي بن محمّد، عن أبي الفضل عبد اللَّه بن إدريس، عن محمّد بن سنان، قال: كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السلام، فأجريت اختلاف الشيعة، فقال: يا محمّد، إنّ اللَّه تبارك وتعالي لم يزل متفرّداً بوحدانيته، ثمّ خلق محمّداً وعليّاً وفاطمة، فمكثوا ألف دهر، ثمّ خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها، وأجري طاعتهم عليها، وفوّض أمورها إليهم، فهم يحلّون ما يشاؤون ويحرّمون ما يشاؤون، ولن يشاؤوا إلّاأن يشاء اللَّه تبارك وتعالي.

ثمّ قال: يا محمّد، هذه الديانة التي من تقدّمها مرق ومن تخلّف عنها محق ومن لزمها لحق، خذها إليك يا محمّد» «2»

.الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 43

وذكر المجلسي في ضمن شرحه للرواية: فأشهدهم خلقها، أي خَلَقها بحضرتهم وبعلمهم، وهم كانوا مطّلعين علي أطوار الخلق وأسراره، فلذا صاروا مستحقّين للإمامة؛ لعلمهم الكامل بالشرائع والأحكام وعلل الخلق وأسرار الغيوب، وأئمّة الإمامية كلّهم موصوفون بتلك الصفات دون سائر الفرق فيه، فيبطل مذهبهم، فيستقيم الجواب علي الوجه الثاني أيضاً.

ولا ينافي هذا قوله تعالي: «مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ» «1»

، بل يؤيّده؛ فإنّ الضمير في (ما أشهدتهم) راجع إلي الشيطان وذرّيته، أو إلي المشركين؛ بدليل قوله تعالي سابقاً: «أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي» «2»

وقوله بعد ذلك: «وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا» «3»

، فلا ينافي إشهاد الهادين للخلق.

قال الطبرسي رحمه الله: قيل: معني الآية أنّكم اتّبعتم الشياطين كما يتّبع من

يكون عنده علم لا يُنال إلّامن جهته، وأنا ما أطلعتهم علي خلق السماوات والأرض ولا علي خلق أنفسهم، ولم أعطهم العلم بأنّه كيف يُخلق الأشياء، فمن أين يتبعونهم؟ انتهي.

وأجري طاعتهم عليها: أي أوجب وألزم علي جميع الأشياء طاعتهم، حتّي الجمادات من السماويات والأرضيات، كشقّ القمر وإقبال الشجر وتسبيح

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 44

الحصي، وأمثالها ممّا لا يحصي، وفوّض أُمورها إليهم من التحليل والتحريم والعطاء والمنع، وإن كان ظاهرها تفويض تدبيرها إليهم فهم يحلّون ما يشاؤون، ظاهره تفويض الأحكام كما سيأتي تحقيقه … الخ. «1»

وكذلك ذكر قدس سره في ذيل روايات أوّل ما خلق من الروحانيين العقل، وذكر له ستّة تفاسير، وقال عقب تفسير الفلاسفة:

فاعلم أنّ أكثر ما أثبتوه لهذه العقول قد ثبت لأرواح النبيّ والأئمّة عليهم السلام في أخبارنا المتواترة علي وجه آخر، فإنّهم أثبتوا القدم للعقل، وقد ثبت التقدّم في الخلق لأرواحهم إمّا علي جميع المخلوقات، أو علي سائر الروحانيين في أخبار متواترة. وأيضاً أثبتوا لها التوسّط في الإيجاد أو الاشتراط في التأثير، وقد ثبت في الأخبار كونهم عليهم السلام علّة غائية لجميع المخلوقات، وأنّه لولاهم لما خلق اللَّه الأفلاك وغيرها، وأثبتوا لها كونها وسائط في إفاضة العلوم والمعارف علي النفوس والأرواح، وقد ثبت في الأخبار أنّ جميع العلوم والحقائق والمعارف بتوسّطهم تفيض علي سائر الخلق، حتّي الملائكة والأنبياء.

والحاصل، إنّه قد ثبت بالأخبار المستفيضة أنّهم عليهم السلام الوسائل بين الخلق وبين الحقّ في إفاضة جميع الرحمات والعلوم والكمالات علي جميع الخلق، فكلّما يكون التوسّل بهم والإذعان بفضلهم أكثر، كان فيضان الكمالات من اللَّه أكبر …

فعلي قياس ما قالوا يمكن أن يكون المراد بالعقل نور النبيّ صلي الله عليه و آله الذي انشعبت منه أنوار الأئمّة

عليهم السلام، واستنطاقه علي الحقيقة. أو بجعله محلّاً لمعارف الغير المتناهية.

والمراد بالأمر بالإقبال ترقّيه علي مراتب الكمال وجذبه إلي أعلي مقام القرب والوصال، وبإدباره إمّا إنزاله إلي البدن أو الأمر بتكميل الخلق بعد غاية الكمال،

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 45

فإنّه يلزمه التنزّل عن غاية مراتب القرب بسبب معاشرة الخلق، ويشير إليه قوله تعالي: «قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا* رَسُولًا» «1»

، وقد بسطنا الكلام في ذلك في الفوائد الطريفة، ويحتمل أن يكون المراد بالإقبال الإقبال إلي الخلق، وبالإدبار الرجوع إلي عالم القدس بعد إتمام التبليغ؛ ويؤيّده ما في بعض الأخبار من تقديم الإدبار علي الإقبال وعلي التقادير.

فالمراد بقوله تعالي (ولا أكمّلك) يمكن أن يكون المراد ولا أكمّل محبّتك والارتباط بك وكونك واسطة بينه وبيني، إلّافيمن أحبّه، أو يكون الخطاب مع روحهم ونورهم عليهم السلام، والمراد بالإكمال إكماله في أبدانهم الشريفة، أي هذا النور بعد تشعّبه بأي بدن تعلّق وكمل فيه يكون ذلك الشخص أحبّ الخلق إلي اللَّه تعالي. انتهي. «2»

وأمّا في طرق العامّة، فقد ذكر صاحب عبقات الأنوار السيّد حامد حسين اللكهنوي عن حديث النور، قال:

الحديث الثامن: «ما رووا أنّه صلي الله عليه و آله قال: كنت أنا وعليّ بن أبي طالب نوراً بين يدي اللَّه قبل أن يُخلق آدم بأربعة آلاف سنة، ولمّا خلق اللَّه آدم قسّم ذلك النور جزئين، فجزء أنا وجزء عليّ بن أبي طالب …» الحديث.

قال صاحب العبقات: لقد نسب الدهلوي صاحب التحفة الاثني العشرية- رواية حديث النور إلي الإمامية فقط، وادّعي إجماع أهل السنّة علي كونه موضوعاً، وعن مدي تعصّب صاحبها وعناده بذكر رواة الحديث من الصحابة والتابعين وكبار علماء أهل السنّة، ثمّ ذكر أسماء رواة حديث النور من الصحابة وعدّتهم ثمانية،

كما ذكر رواة حديث النور من التابعين وعدّتهم ثمانية أيضاً،

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 46

وذكر العلماء والمحدّثين والحفّاظ الذين رووا الحديث في مجاميعهم وعدّتهم واحد وأربعون، بطرقهم المختلفة. منهم: ابن حنبل، وابنه عبد اللَّه، وابن مردويه، وأبو نعيم الأصبهاني، وابن عبد البرّ القرطبي، وابن المغازلي، والخطيب الخوارزمي المكي، وابن عساكر الدمشقي، والمحبّ الطبري، والحمويني، والگنجي الشافعي، والخطيب البغدادي، وابن حجر العسقلاني، وغيرهم.

ثمّ أخذ رضوان اللَّه عليه- في إثبات تواتر الحديث، ثمّ ذكر مصادر الحديث واحداً واحد، وذكر صحّة أسانيد الحديث لديهم، ثمّ ذكر كلام الشيخ ابن عربي في تفسير الحديث بأنّه: لم يكن أقرب إلي اللَّه تعالي في عالم الهباء وهو عالم النور- من رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، وأقرب الناس إليه عليّ بن أبي طالب، أمام العالم بأسره، والجامع لأسرار الأنبياء أجمعين «1».

ثمّ نَقَل عن ابن عربي في الفتوحات: إنّ جميع الأنبياء يأتيهم الإمداد من تلك الروح الطاهرة لسيّد الأنبياء، في ما يظهرون فيه من الشرائع والعلوم في زمان وجودهم رسولًا وتشريعهم الشرائع.

ونَقَل عنه قوله أيضاً: إنّ اللَّه لمّا جعل منزل محمّد صلي الله عليه و آله السيادة فكان سيداً ومن سواه سوقة، علمنا أنّه لا يُقاوَم؛ فإنّ السوقة لا تقاوم ملوكها، فله منزل خاصّ وللسوقة منزل، ولمّا أُعطي هذه المنزلة وآدم بين الماء والطين، علمنا أنّه الممدّ لكلّ إنسان مبعوث بناموس إلهي أو حكمي، وأوّل ما ظهر من ذلك في آدم، حيث جعله اللَّه خليفة عن محمّد صلي الله عليه و آله فأمدّه بالأسماء كلّها من مقام جامع الكلم التي لمحمّد صلي الله عليه و آله.

ثمّ نَقَل كلام الشيخ عبد الوهاب الشعراني من كتابه اليواقيت والجواهر وتقريره

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 47

لكلام ابن

عربي. ثمّ نَقَل كلام شمس الدين القناري وتقريره لكلام ابن عربي في مصباح الانس «1».

ثمّ نَقَل مصادر حديث النور عند الإمامية، فذكر جملة من الروايات عن الكليني في الكافي، وعن الصدوق في جملة من كتبه، وعن الشيخ المفيد في الاختصاص، والشيخ الطوسي في الأمالي، والراوندي في الخرائج والجرائح، والعلّامة الحلّي في كشف اليقين، وتفسير فرات الكوفي … وجملة غفيرة أُخري من علماء الإمامية. «2»

هذا، وقد روي بألفاظ متعدّدة أيضاً، فمنها: ما رواه عبد الرزاق الصنعاني في مصنّفه، كما حكاه عنه صاحب كشف الخفاء «3» بسنده عن جابر بن عبد اللَّه قال:

«قلت: يارسول اللَّه، بأبي أنت وأُمّي، أخبرني عن أوّل شي ء خلقه اللَّه قبل الأشياء؟ قال:

يا جابر، إنّ اللَّه تعالي خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء اللَّه، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم، ولا جنّة ولا نار، ولا ملك، ولا سماء ولا أرض، ولا شمس ولا قمر، ولا جنّي ولا إنسي، فلمّا أراد اللَّه أن يخلق الخلق قسّم ذلك النور أربعة أجزاء: فخلق من الجزء الأول القلم، ومن الثاني اللوح، ومن الثالث العرش.

ثمّ قسّم الجزء الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الجزء الأوّل حملة العرش، ومن الثاني الكرسي، ومن الثالث باقي الملائكة.

ثمّ قسّم الجزء الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الأوّل السموات، ومن الثاني الأرضين،

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 48

ومن الثالث الجنّة والنار.

ثمّ قسّم الجزء الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الأوّل نور أبصار المؤمنين، ومن الثاني نور قلوبهم وهي المعرفة باللَّه، ومن الثالث نورانيتهم وهو التوحيد لا إله إلّااللَّه محمّد رسول اللَّه» … الحديث، كذا في المواهب.

وقال فيها أيضاً: واختُلف، هل القلم أوّل المخلوقات بعد النور المحمّدي أم لا؟

فقال الحافظ أبو يعلي الهمداني: الأصحّ أنّ العرش قبل القلم؛ لما ثبت في الصحيح عن ابن عمر، قال: «قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: قدّر اللَّه مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه علي الماء». فهذا صريح في أنّ التقدير وقع بعد خلق العرش، والتقدير وقع عند أوّل خلق القلم، فحديث عبادة بن الصامت مرفوعاً: «أوّل ما خلق اللَّه القلم، فقال له: اكتب، فقال: ربّ: وما أكتب؟ قال:

اكتب مقادير كلّ شي ء»، رواه أحمد والترمذي وصحّحه.

وروي أحمد والترمذي، وصحّحه أيضاً من حديث أبي رزين مرفوعاً: إنّ الماء خُلق قبل العرش». وروي السدي بأسانيد متعدّدة: «أنّ اللَّه لم يخلق شيئاً ممّا خلق قبل الماء».

فيجمع بينه وبين ما قبله، بأنّ أوّلية القلم بالنسبة إلي ما عدا النبوّي المحمديّ والماء والعرش. انتهي.

وقيل: الأوّلية في كلّ شي ء بالإضافة إلي جنسه، أي أوّل ما خلق اللَّه من الأنوار نوري، وكذا باقيها، أو في …

وروي في كشف الخفاء أيضاً- عن كتاب الأحكام لابن القطّان، فيما ذكره ابن مرزوق، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جدّه: «أنّ النبيّ صلي الله عليه و آله قال: كنت نوراً بين يدي ربّي قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام». انتهي ما في المواهب.

ونبّه الشبراملسي: ليس المراد بقوله من نوره ظاهره من أنّ اللَّه تعالي له نور قائم

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 49

بذاته؛ لاستحالته عليه تعالي؛ لأنّ النور لا يقوم إلّابالأجسام، بل المراد خُلِق من نور مخلوق له، قيل: نور محمّد، وأضافه إليه تعالي؛ لكونه تولّي خلقه. ثمّ قال:

ويحتمل أنّ الإضافة بيانية، أي خلق نور نبيّه من نور هو ذاته تعالي، لكن لا بمعني أنّها مادّة خلق نور نبيّه منها،

بل بمعني أنّه تعالي تعلّقت إرادته بإيجاد نور بلا توسّط شي ء في وجوده. قال: هذا أولي الأجوبة، نظير ما ذكره البيضاوي في قوله تعالي: «ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ» «1»

، حيث قال إضافة إلي نفسه تشريفاً وإشعاراً بأنّه خلق عجيب، وأنّ له مناسبة إلي حضرة الربوبية. انتهي ملخّصاً «2».

وكذا ما رواه أحمد بن حنبل «3» بسنده عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله.

وروي سبط ابن الجوزي: «قال أحمد في الفضائل: حدّثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن خالد بن معدان، عن زاذان، عن سلمان، قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: كنت أنا وعليّ بن أبي طالب نوراً بين يدي اللَّه تعالي قبل أن يُخلق آدم بأربعة آلاف سنة، فلما خُلق آدم قُسّم ذلك النور جزئين: فجزء أنا وجزء عليّ» «4»

.وروي العاصمي: «أخبرنا الحسين بن محمّد، حدّثنا عبد اللَّه بن أبي منصور، حدّثنا محمّد بن بشر، حدّثنا محمّد بن إدريس الرازي، حدّثنا محمّد ابن عبد اللَّه بن المثني، حدّثنا حمدي الطويل، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: خُلقت وعليّ بن أبي طالب من نور واحد يسبّح اللَّه عزّ وجلّ في يمنة العرش قبل خلق الدنيا» «5»

.وروي القطيعي: «حدّثنا الحسن، حدّثنا أحمد بن المقدام العجلي، حدّثنا الفضيل بن عياض، حدّثنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن زاذان، عن سلمان، قال: سمعت

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 50

حبيبي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يقول: كنت أنا وعليّ نوراً بين يدي اللَّه عزّوجلّ قبل أن يخلق اللَّه آدم بأربعة عشر ألف عام، فلمّا خلق اللَّه آدم قسّم ذلك النور جزئين: فجزء أنا وجزء عليّ»

«1»

.وروي الخوارزمي: «بسند متّصل إلي زياد بن المنذر، عن محمّد بن علي ابن الحسين، عن أبيه، عن جدّه، قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: كنت أنا وعليّ نوراً بين يدي اللَّه تعالي قبل أن يُخلق آدم بأربعة عشر ألف سنة» «2»

.وروي الگنجي الشافعي: «أخبرنا إبراهيم بن بركات الخشوعي … عن عكرمة، عن ابن عبّاس: قال النبي صلي الله عليه و آله: خلق اللَّه قضيباً من نور قبل أن يخلق الدنيا بأربعين ألف عام، فجعله أمام العرش، حتّي كان أوّل مبعثي، فشقّ منه نصفاً فخلق منه نبيّكم، والنصف الآخر عليّ بن أبي طالب» «3»

.وروي ابن المغازلي: «أخبرنا أبو طالب محمّد بن أحمد بن عثمان … عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي ذرّ، قال: سمعت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يقول: كنت أنا وعليّ نوراً عن يمين العرش، يسبّح اللَّه ذلك النور ويقدّسه قبل أن يخلق اللَّه آدم بأربعة عشر ألف عام، فلم أزل أنا وعليّ في شي ء واحد حتّي افترقنا في صلب عبد المطّلب» «4»

.وروي ابن المغازلي: «أخبرنا أبو غالب محمّد بن أحمد بن سهل النحوي … عن سعيد بن عبد العزيز، عن جابر بن عبد اللَّه، عن النبيّ صلي الله عليه و آله، قال: إنّ اللَّه عزّوجلّ أنزل قطعة من نور فأسكنها في صلب آدم، فساقها حتّي قسّمها جزئين: جزءً في صلب عبد اللَّه وجزءً في صلب أبي طالب، فأخرجني نبيّاً، وأخرج عليّاً وصيّاً» «5»

.وروي الحمويني: «أخبرني الشيخ الصالح جمال الدين أحمد … عن العلاء ابن عبد

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 51

الرحمان، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلي الله عليه و آله، قال: لمّا خلق اللَّه

تعالي أبا البشر ونفخ فيه من روحه، التفت آدم يمنة العرش، فإذا في النور خمسة أشباح سجّداً وركّعاً، قال آدم: هل خلقت أحداً من طين قبلي؟ قال: لا ياآدم، قال: فمن هؤلاء الخمسة الذين أراهم في هيئتي وصورتي؟ قال: هؤلاء خمسة من ولدك، لولاهم لما خلقتك …» «1»

.والحاصل: إنّ مضمون هذه القاعدة وهي خلقتهم النورانية وإبداعها قبل كلّ الخلائق- مروية بألفاظ مختلفة عند الفريقين، وبطرق متعدّدة في المصادر الكثيرة، ويدلُّ علي مضمون هذه القاعدة من الآيات قوله تعالي: «اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَاشَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِي ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَي نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ* فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* رِجَالٌ لَاتُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ»، فنورهُ تعالي المضاف إليه بالإضافة التشريفية هو نور السماوات والأرض، اشتقّ منه وجودها كما ورد في أحاديث الفريقين في أنّه أوّل ما خلق اللَّه نور النبيّ صلي الله عليه و آله- وهذا النور مرتبط في تركيب الآيات بجملة «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ»، وهذه البيوت هي رجالٌ عُصموا عن اللهو بالتجارة والبيع، لا يفترون عن ذكر اللَّه وإقام الصلاة وإيتاء

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 52

الزكاة، فهذا النور مرتبط بأرواحهم، فحقيقة معرفة هؤلاء الرجال هو معرفتهم بمبدأ خلقتهم وهو النور.

وبعبارة أُخري: إنّ في صدر آيات النور ذكر مبتدأ، وهو قوله: «مَثَلُ نُورِهِ»، أي النور المضاف إلي

اللَّه تعالي بالإضافة الخلقية، ثمّ بعد ذلك أخبر عنه بأخبار متعدّدة تباعاً، فأخبر عن ذلك النور:

أوّلًا: بتشبيهه بخمسة أُمور «كَمِشْكَاةٍ..».

ثانياً: تعاقب هذا النور بعد الخمسة وتعدده «نُورٌ عَلَي نُورٍ».

ثالثاً: هداية اللَّه لنوره من يشاء «يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ».

رابعاً: كون هذا النور في بيوت معظّمة مبجّلة رفعها اللَّه بإذنه، ووصف هذه البيوت التي فيها النور بعدّة أوصاف، وإنّ تلك البيوت رجالٌ لا حجر ومدر: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* رِجَالٌ..».

ويتحصّل من هذه الأخبار المتعدّدة عن نور اللَّه، أنّ هذا النور المخلوق للَّه المشرّف بالإضافة التشريفية والتكريم إلي الذات المقدّسة، هو في رجالٍ معصومين عن اللهو، لا يفترون عن ذكر اللَّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، أي أنّهم دائماً في مقام العبودية والطاعة.

وكون هذا النور فيهم يعني أنّه أعلي مرتبة في أرواحهم، كما أنّ هذا النور بمقتضي الخبر الأوّل، مبتدأه وفي بدوه خمسة أنوار؛ لأنّ التشبيه وقع علي خمسة أشياء، أي بكلّ من المصباح والزجاجة والمشكاة والكوكب الدريّ والشجرة.

كما أنّ مقتضي الخبر الثاني تعاقب الأنوار بعد الأنوار الخمسة، وهذا المفاد لظهور الآيات متطابق مع ما ورد في روايات الفريقين في الخلقة النورانية من أنّ الخمسة أصحاب الكساء- هم مبتدأ خلق النور ومن ثم بقية العترة، ولا ريب أنّ أحد الخمسة وسيّدهم هو النبيّ صلي الله عليه و آله، ولا تكتمل عدّة الخمسة الذين فيهم

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 53

النبيّ صلي الله عليه و آله إلّابالخمسة الذين وقعت بهم المباهلة، وهم أصحاب الكساء الذين نزلت في حقّهم آية التطهير بنصّ روايات الفريقين.

والعمدة التفطّن إلي أنّ تعدّد التشبيه في الآية إلي خمسة ليس جزافاً وزخرفاً في الكلام، بل المغزي منه الإشارة

إلي أنّ هناك خمسة مشبّهين بخمسة أُمور مشبّه بها، وأنّ لكلّ مشبّه وجه شبه في المشبّه به الموازي له، وقد ورد في نصوص الفريقين مسائلة النبي عن تلك البيوت، وأنّ بيت عليّ وفاطمة منها؟

فقال صلي الله عليه و آله: «نعم، من أفاضلها» «1»

.ونصّ الحديث في السيوطي، وأخرجه عن ابن مردويه، عن أنس بن مالك وبريد: «قال: قرأ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله هذه الآية: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ»، فقام إليه رجل فقال: أيّ بيوت هذه يا رسول اللَّه؟ قال: بيوت الأنبياء. فقام إليه أبو بكر فقال:

يا رسول اللَّه، هذا البيت منها، بيت عليّ وفاطمة؟ قال: نعم، من أفاضلها».

ولا يخفي أنّ هذه الرواية فيها دلالة علي أنّ أبا بكر قد اختلج في نفسه أنّ بيت عليّ وفاطمة ومقام عليّ وفاطمة عند اللَّه في الحجّية والاصطفاء والطهارة لا يقتصر عن مقام الأنبياء، ومقتضي جواب النبيّ صلي الله عليه و آله إثبات هذا المعني، بل مقتضي الجواب علوّ مقامهما وأرفعيته وأنّه أعلي.

وممّا ورد في كون هذه البيوت منطبقة علي المساجد أيضاً في الآية الكريمة وبضميمة مفاد هذه الرواية، تبيّن أنّ مراقدهم عليهم السلام هي بيوت لهم أيضاً، وهي أفضل شرفاً وعظمة من المساجد، ولذلك نقل السمهودي في وفاء الوفاء: إجماع أهل سنّة الخلافة بأنّ ما ضم الأعضاء الشريفة له صلي الله عليه و آله أعظم فضلًا من مكّة

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 54

المكرّمة. وحُكي هذا الاجماع عن القاضي عياض، والقاضي أبو وليد الباجي، وأبو اليمن بن عساكر، بل نُقل عن التاج السبكي، عن ابن عقيل الحنبلي: أنّ تلك البقعة هي أعظم من العرش. «1»

وتوهّم بعض الرواة أنّ المراد من البيوت هو البيت الطيني الذي يحلّ

فيه أهل البيت، مع أنّ المراد بحسب ظهور الآية- من البيوت هو نفس الرجال المطهرون، كما هو مفاد قول الإمام الباقر عليه السلام في ذيل الآية الكريمة.

ويعضد مفاد الخلقة النورية لهم عليهم السلام المستفادة من آيات سورة النور- ما في قوله تعالي في سورة البقرة: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَي الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* قَالُوا سُبْحَانَكَ لَاعِلْمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ* قَالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» «2»

.ومقتضي مفاد هذه الآيات أنّ السبب في تأهّل آدم للخلافة الإلهية هو معرفته بعلم الأسماء الجمعي، وبه تشرّف لمقام سجود وطاعة وتبعية الملائكة له، ولم يكن جميع الملائكة عالمين بتلك الأسماء.

ويستفاد من هذا الاستعراض القرآني لهذه الواقعة أُمور:

الأوّل: إنّ تلك الأسماء موصوفة بغيب السماوات والأرض، وفي الآية التالية من تلك الآيات نري أنّ الملائكة لم تكن تعلم بتلك الأسماء، مع أنّ الملائكة تملأ السموات والأرض، فلو كانت كينونة تلك الأسماء في السموات أو في الأرض لعلمتها الملائكة ولأحاطت بها خُبراً، بل إنّ تنبّه الملائكة لها بعد عرضها

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 55

عليهم- ليس علم إحاطة بالأسماء، وإنّما هو علم إنبائي، لا كعلم آدم علم لدني، والعلم اللدني منه ما يكون عياني، بخلاف الإنبائي فإنّه حصولي.

الثاني: إنّ هذه الأسماء ليست أصوات متموّجة وكلمات لسانية، بل هي موجودات حيّة شاعرة عاقلة؛ لقوله تعالي: «عَرَضَهُمْ» حيث إنّ الضمير (هم) لا يُستعمل إلّافي ذلك؛ ولقوله تعالي: «بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ» فإنّ اسم الإشارة (هؤلاء) لا يُستعمل إلّافي ذلك أيضاً؛ ولقوله تعالي: «… فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ» فيُعلم أنّ هذه

الموجودات الحيّة الشاعرة العاقلة، هي سنخ موجودات كينونتها في الغيب الذي هو باطن السماوات، أي في نشأة ما وراء السماوات وما وراء نشأة الملائكة، وهذا ينطبق علي المخلوقات النورية، ولا ريب في كون نور النبيّ هو أحدها، لأنّه سيّد الكائنات والمخلوقات، كما في قوله تعالي: «ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّي* فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَي» «1»

، وقوله تعالي: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» «2»

.فتحصّل من هاتين الطائفتين الإشارة الواضحة إلي الخلقة النورية المتقدّمة علي خلق السماوات والأرض باعتبار وصفها غيب السماوات والأرض.

وهناك آيات أُخري تتعرّض لخلقتهم النورانية، لسنا في صدد بسط الدلالة حولها، ونكتفي بالإشارة في الموضع المناسب لها، نظير قوله تعالي: «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَي اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» «3»

، وقوله تعالي: «فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «4»

.الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 56

والمهم الالتفات إلي أهميّة هذه القاعدة في الاعتقادات والمعرفة الدينية؛ حيث إنّ لها موقع الأُمومة والأصل لكثير من المعارف والقواعد والمسائل الاعتقادية، وقد مرّ نماذج من ذلك في الروايات، حيث إنّهم عليهم السلام يستدلُّون علي بقية مقاماتهم بذكر هذا الأصل المعرفي.

وهذه الأُمور لهذه القاعدة تقتضيها القواعد الحكمية والعقلية؛ إذ للصادر الأوّل والصوادر الأُولي في الإبداع الوجود الأشرف، بالقياس إلي سائر أقسام الخلقة، فلابدَّ من توفّرها علي سائر الكمالات التي تكون فيما دونها من الخلقة، فإذا تقرّر أنّ النور المُبدَع له الأسبقية، في الخلقة فلا بدَّ أن تكون له كلّ كمالات ما دونه وزيادة، كما لا بدّ أن يكون له الإشراف والهيمنة علي ما دونه بإذن واقدار اللَّه تعالي.

وعلي هذا التقرير لمعرفتهم بالخلقة النورانية معرفتهم بالنورانية- يتّضح تطابق هذه القاعدة مع

القاعدة المتقدّمة: نزّلونا عن الربوبية وقولوا فينا ما شئتم، ولن تبلغوا كنه ما جعله اللَّه لنا.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 57

الفصل الخامس: فهرست المناهج التي اعتمدها الإمامية … ص: 57

اشارة

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 59

: فهرست المناهج التي اعتمدها الإمامية … ص: 59

المنهج الأوّل: عبارة عن إثبات كبري الإمامة بالأدلّة النقلية، ثمّ إثبات المصداق، بمعني تشخيصه لا أصل وجوده؛ وإلّا فأصل وجوده قد دلّ عليه بنفس الكبري.

وهذه الكبري إمّا قرآنية أو روائية أو عقلية أو شهودية قلبية.

المنهج الثاني: إثبات النصوص الخاصّة الواردة بأسمائهم عليهم السلام، وهي علي أنحاء: تارة بأسماء كلّ واحدٍ منهم، وأُخري في خصوص عليّ والحسن والحسين، وذرّية الحسين عليهم السلام.

وغير ذلك من أنحاء التسمية.

المنهج الثالث: إثبات الأدلّة العقلية علي الكبري وضرورة وجود المعصوم عليه السلام وهذه الأدلّة تُثبت تارةً بالعقل العملي وأُخري بالعقل النظري.

المنهج الرابع: إثبات إمامتهم عليه السلام عبر معاجزهم العلمية، ببسط البيان في موارد انعطاف الأُمّة الإسلامية إلي انحرافات هدّامة لولا الهداية العلمية التي قام بها آل البيت عليهم السلام. أو ببيان دقائق أسرارهم في العلوم والمعارف التي بثّوها والتي تتحدّي المضمار العلمي إلي يومنا في العصر الحديث، مع ما كانت عليه الجزيرة العربية من البداوة وندرة العلوم، وإحاطتهم باختلاف المذاهب، وتعدّد شؤون علومهم الروحية والحكمية والمادّية، وكذلك لجوء المخالفين بالرجوع إلي أهل

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 60

البيت عليهم السلام «1» … وتراثهم العلمي في شتّي العلوم ماثل بين يدي البشرية يفوق ويتحدّي في الحلبة العلمية علم أيّ عالم وأيّ حاضرة علمية، كيف لا وهم أعدال الكتاب الذي له هذه الصفة أيضاً!

المنهج الخامس: مقارعة الدول المعاصرة لهم بكلّ طاقاتها وقواها، واستعانتها ببقية الدول البشرية علي ذلك، مع ما كان يدّعيه آل محمّد صلي الله عليه و آله من الكمال وعدم الإعياء في العلم ممّا يثير نائرة التحدّي معهم، فقد تحدّوهم في العلوم والفنون ومختلف المهارات، حتّي في الفروسية والطبّ وعلوم الشعبذة، وغيرها.

المنهج السادس: إثبات خصوص إمامة عليّ عليه السلام

أو الحسنين، أو إمامة المهدي (عج)، أو بهما معاً مع ضمّ ضمائم أُخري، من قبيل تنصيص عليّ عليه السلام علي من بعده، أو استلزام إمامة الثاني عشر عليه السلام لإمامة من قبله.

المنهج السابع: ريادتهم وسبقهم جميع البشر من عاصرهم ومن لم يعاصرهم- في تمام الكمالات والفضائل، وفي شتّي الصفات الفضيلية والكمالية الروحية والعقلية والنفسية والبدنية.

المنهج الثامن: الآيات البينة التي هي معاجز غير المعاجز العلمية، مثل قلع باب خيبر، وتكلّمهم بكلّ لسان وعلمهم بلغة الحيوانات.

المنهج التاسع: الملاحم الإخبارية التي أنبأوا بها، كخطبة البيان وأخبار آخر الزمان وما أخبروا عن أحوال معاصريهم. وقد دوّن الفريقان فصولًا في كتبهم التاريخية وكتب السير ونحوها من إخبارات عليّ عليه السلام عن الملاحم.

المنهج العاشر: تنصيص الكتب السماوية السابقة عليهم.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 61

المنهج الحادي عشر: معرفتهم التامّة لفظاً ومعنيً وشؤوناً بالكتب السابقة وبالشرايع السابقة وبتواريخها الخفية ومنظومة الأولياء.

المنهج الثاني عشر: تطابق السنن الجارية علي الأنبياء المسطورة في القرآن مع ما جري لهم وعليهم في شؤونهم الفردية وشؤونهم العامّة مع الناس. كما في هارون عليه السلام وعليّ عليه السلام، وغيبة الحجّة عليه السلام وموسي عليه السلام، ونظير الرضا عليه السلام ويوسف عليه السلام، ونظير يحيي عليه السلام والجواد عليه السلام، وعيسي وإدريس والياس والخضر عليهم السلام مع الحجّة (عج)، ومريم عليها السلام وفاطمة عليها السلام.

المنهج الثالث عشر: وهو إثبات إقدار اللَّه عزّوجلّ لهم علي خوارق العادات والمعجزات، باعتراف خصومهم، حيث أسموا ذلك بأنّه سحر من بني هاشم، بدءاً من قريش في العهد المكي، إلي العهد المدني وعهد التابعين وتابعيهم إلي بداية الغيبة.

المنهج الرابع عشر: إثبات العلم اللدني لهم عليهم السلام، من تراجم كتب رجال وحديث العامّة، وذلك بواسطة الروايات التي روتها العامّة

عنهم، المتضمّن مفادها لدعواهم عليهم السلام بعدم استقاء علمهم من غيرهم، وأنّ علمهم لا يعي عن إجابة المسائل المختلفة، مضافاً إلي تلّمذ علماء المذاهب علي أيديهم دون غيرهم.

وهناك غير ذلك من المناهج، يستطيع الباحث الوقوف عليها في كتب الإمامية المستفادة من الكتاب والروايات والعقل والفطرة السليمة.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 63

نبذة في تطويف الآيات القرآنية الدالّة علي الإمامة … ص: 63

اشارة

ولنستعرض جملة يسيرة من تلك الطوائف لا علي سبيل الاستقصاء:

الأُولي: آيات الثقلين، وهي جملة من الآيات تفيد عين مفاد حديث الثقلين.

الثانية: آيات الهداية والصراط، وهي جملة من الآيات في السور الدالّة علي أنّ هداية الأُمّة هي علي عاتق أئمّة هداة يقومون مقام النبيّ صلي الله عليه و آله.

الثالثة: آيات الاستخلاف، ومفادها بيان السنّة الإلهية في جعل الخليفة في الأرض مزوّداً بالعلم اللدني والعلم الأسمائي الجامع.

الرابعة: آيات التبليغ، وهي المتضمّنة للأمر الإلهي بإبلاغ الإمامة والولاية.

الخامسة: آيات الولاية، وهي المتضمّنة للفظ وعنوان الولاية، وأنّها لثلّة من هذه الأُمّة خاصّة.

السادسة: آيات الاصطفاء لذرّية إبراهيم عليه السلام، ومن هذه الأُمّة.

السابعة: آيات الإمامة، المتضمّنة للفظ وعنوان الإمامة.

الثامنة: آيات الأنفال والفي ء والخمس لذي القربي.

التاسعة: آية التسليم علي آل ياسين (آيات أولياء الدين وحججه).

العاشرة: آيات شهادة الأعمال، المتضمّنة لوجود ثلّة من هذه الأُمّة تشهد أعمال الأُمّة في كلّ عصر إلي يوم القيامة، وهم الأشهاد.

الحادية عشر: آيتا التطهير.

الثانية عشر: آية الأشهر الإثني عشر.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 64

الثالثة عشر: آيات التولّي والتبرّي.

الرابعة عشر: آيات الكتاب المبين والمكنون.

الخامسة عشر: آيات رباني هذه الأُمّة.

السادسة عشر: آيات الوسيلة والسبيل.

السابعة عشر: آيات النور.

الثامنة عشر: آيات ليلة القدر، وصاحبها وليّ الأمر النازل في تلك الليلة.

جدولة مصادر الطوائف: … ص: 64

الطائفة الأُولي: آيات حديث الثقلين: آل عمران: 7، الواقعة: 77- 81، الرعد:

39 و 43، النحل: 64 و 89، القيامة: 16 19، الأنعام 38 و 59، يس: 12، النحل: 40 و 75، البروح: 22، ص: 22، يونس: 61، فاطر: 32، الحجر: 75 76، يوسف:

111، العنكبوت: 47، الحج: 54، سبأ: 6، البقرة: 121، الأنعام: 154 155، الأعراف: 144.

الطائفة الثانية: آيات الهداية والصراط: الرعد: 7، سورة الحمد، يونس: 35 و 131، الأعراف: 181 و 184، الأنبياء: 73،

السجدة: 24، الجن: 16، طه: 82 و 135، التوبة: 119، الأنعام: 153، الاسراء: 158، النمل: 75، المؤمنون: 73 74، النور: 55، الملك: 22، الحج: 54، الفرقان: 27، يونس: 180، غافر: 6 و 10، مريم:

6 7، محمد: 17، الكهف: 24، العنكبوت: 69، المائدة: 67، البقرة: 18، يس:

82، إبراهيم: 22.

الطائفة الثالثة: آيات الاستخلاف: البقرة: 30، النمل: 62، ص: 26، وهي متطابقة مع حديث: خلفائي اثنا عشر من قريش.

الطائفة الرابعة: آيات التبليغ: المائدة: 3 و 67.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 65

الطائفة الخامسة: آيات الولاية: النساء: 59، المائدة: 54 56، الأحزاب: 6، آل عمران: 63، النور: 54 و 55.

الطائفة السادسة: آيات الاصطفاء لذرّية إبراهيم: آل عمران: 33 34، الحج:

75 78، البقرة: 237، النساء: 54 و 58، آل عمران: 68، الزخرف: 26- 28، الأنبياء: 73، البقرة: 127 128، آل عمران: 164.

الطائفة السابعة: آيات الإمامة: البقرة: 124، النساء: 154، هود: 17، الأحقاف: 12، يس: 12، الأنبياء: 73، السجدة: 24، القصص: 5.

الطائفة الثامنة: آيات الأنفال والخمس والفي ء والقربي: الحشر: 7، الروم:

38، الأنفال: 41، الشوري: 23، الاسراء: 26.

الطائفة التاسعة: أولياء الدين وحججه، وآيات الأشهر الحرم: آل عمران:

61، الصافات: 130، البراءة: 36.

الطائفة العاشرة: آيات شهادة الأعمال: البراءة: 105، النحل: 89، البقرة:

143، الحج: 78، الرعد: 43، آل عمران: 140، المطففين: 21، الواقعة: 11، النساء: 41، الأعراف: 46.

الطائفة الحادية عشر: آيتا التطهير: الواقعة: 79، آل عمران: 42.

الطائفة الثانية عشر: التولّي والتبرّي: الأعراف: 3، الممتحنة: 4، الزخرف:

26، البقرة: 166 و 167، البراءة: 114، المجادلة: 22، الشوري: 23، محمّد: 29.

الطائفة الثالثة عشر: آيات الكتاب: الواقعة: 79، البروج: 21 22، آل عمران:

7 و 79، النساء: 54، المائدة: 44 و 48، الأنعام: 38 و 59 و 114، البراءة: 36، يونس: 61،

هود: 1 و 6، الرعد: 31 و 39 و 43، الحشر: 21، النحل: 89، الكهف:

49، طه: 52، الحج: 70، الشعراء: 2، النمل: 1 و 75، سباء: 3، الدخان: 2، الزخرف: 2 4، فاطر: 11، الشوري: 52، المطففين: 18 20، يس: 12.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 66

الطائفة الرابعة عشر: آيات الوسيلة: التكاثر: 8، البقرة: 211، المائدة: 35، الاسراء: 58، الفرقان: 57، سباء: 47، الشوري: 23.

الطائفة الخامسة عشر: آيات مقامهم النوري: النور: 35 36، البقرة: 31 34 و 37، النساء: 171، البقرة: 124، الكهف: 109، لقمان: 27، التحريم: 12، الأنعام:

115، الأعراف: 158، الأنفال: 7، الشوري: 24، آل عمران: 39 و 45، إبراهيم: 24، الزخرف: 28، التغابن: 8، البراءة: 32، الزمر: 69.

أما الطائفة الأولي: تفصيل آيات الثقلين وهي علي أنماط:

الأوّل: سورة الحمد.

الثاني: سورة آل عمران.

الثالث: الواقعة: 78، الأحزاب.

الرابع: سورة الأنعام: 38 و 59 و 154، الدخان: 1 2، فاطر: 32، العنكبوت: 47 50، البقرة: 121، النمل: 40، الرعد: 31 و 39 و 43، البروج: 22، الأعراف: 145، يوسف: 101، الاسراء: 12 و 14، المائدة: 48، يونس: 61.

الخامس: النحل: 89.

السادس: القيامة: 17، النحل: 64.

السابع: سباء: 6، الحج: 54.

الثامن: النساء: 83، محمّد: 16.

التاسع: المائدة: 44. وهي تتطابق مع طائفة آيات ربانيو الأمة.

العاشر: الشوري: 23، الأنعام: 90، يوسف: 104، سباء: 47.

الطائفة السادسة عشر: آيات ليلة القدر وصاحبها وليّ الأمر النازل فيها، وهي تتطابق مع قالب آيات حديث الثقلين: سورة القدر، سورة الدخان: 1 3، النحل: 1، غافر: 15، الشوري: 52.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 67

النصوص القرآنيةالدالّة علي إمامة أهل البيت عليهم السلام … ص: 67

اشارة

القسم الأوّل: آيات الثقلين: وهي طوائف:

الطائفة الأولي: الراسخون في علم الكتاب … ص: 67

«هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» «1»

.إنّ الظهور الأوّلي الإجمالي لهذه الآية الشريفة، هو الإعلان عن وجود قسمين من آيات الكتاب الكريم: محكم ومتشابه. كما أنّها تقسّم المكلّفين إلي أقسام:

راسخون في العلم، وغير راسخين. وغير الراسخين إلي قسمين: قسم يتّبع المتشابه، وهم الذين قد زاغت قلوبهم عن الصراط المستقيم وعن الحقّ. والقسم الآخر لا يتّبع المتشابه، ولكنّها ترشد إلي لزوم اتّباع الراسخين في العلم؛ كي يهدوهم إلي تأويل المتشابه بالمحكم.

كما أنّ الآية تُعلم بأنّ المحكمات لها مقام الأُمومة في آيات الكتاب، ممّا يعني أنّ المتشابهات كفروع لها، والتأويل لغةً: من الأوْل، أي الرجوع والأوب، وانتهاء

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 68

شي ء إلي شي ء، من آل شي ء إلي آخر، أي انتهي إليه.

وتأويل المتشابه، إمّا بمعني الانتهاء إلي المعني الحقيقي المراد منه، أو بمعني انتهاء المتشابه إلي أصله وهو المحكم، وهو يتّحد مع المعني السابق أيضاً؛ إذ برجوع المتشابه إلي المحكم يوجب كشف المعني المراد من المتشابه، وأنّه منسجم ومتلائم معه.

وبمقتضي النقطة الأخيرة وما تقدّم، يستلزم أنّ الإحاطة بالمحكم إحاطة تامّة، غير مقدور عليها لغير الراسخين في العلم؛ وذلك لأنّ الإحاطة التامّة بالمحكم تستلزم العلم بتأويل المتشابه؛ إذ المفروض في المحكم أنّ له الأُمومة والهيمنة والمرجعية لتفسير بقية الآيات، فعدم العلم بحقيقة المتشابه ناشئ من عدم فرض الإحاطة التامّة بالمحكم، إذ لا تشذ آية في المتشابه عن حيطة المحكمات وقيمومة معانيها علي تلك الآيات، فلا تكون متشابهة عند المحيط خبراً بالمحكمات.

وهذا يدلّ علي أنّ المتشابه

وصف نسبي إضافي بالإضافة إلي غير الراسخين، وأمّا الراسخون فلا تشابه لديهم في الآيات، وإن كان التقسيم إلي المحكم الأمّ وإلي الآيات الفرعية وصف حقيقي غير إضافي لنفس الآيات في نفسها.

وكلّ ذلك لا يلزم منه تعطيل الكتاب أو تجميده أو فقده لصفة الإعجاز بتوهّم أنّ آياته المحكمات لا يحاط بها للكلّ، والمتشابه لا يؤخذ به بنفسه لإجمال المراد منه، يزيغ من يتابعه من دون مفسّر معتبر صحيح، والمحكم لا يحاط؛ وذلك لأنّ الآية في صدد بيان كيفية الأخذ واشتراطه باتّباع الراسخين بالعلم ومعونتهم وإرشادهم.

فيتبين أنّ الأخذ الذي لا بدّ منه المفترض في تلك الآية والتمسّك بالكتاب اللازم يجب أن يكون مقروناً بالتمسّك بأولي العلم الراسخين، لا أنّها في صدد

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 69

حجب الكتاب عن التمسّك به، بل غاية دلالتها أنّ التدبّر بالقرآن والتمسّك به يجب أن يكون مقروناً وبمعيّة الراسخين في العلم.

عين ما يقال من أنّ كلّاً من الكتاب والسنّة مصدر للشريعة؛ فإنّ معني الاثنينيّة في الحجّية ليس بأن يكون كلّ منهما مستقلّ عن الآخر، ولا بأن يكون أحدهما معطّلًا للآخر، وكونه فاعلًا أو غير فاعل، بل أن يكون هناك معية بينهما، وتشاهد وتعاضد وتكافل، ومن ثمّ لا يستلزم تعطيل أحدهما ولا فقد الكتاب المجيد لإعجازه؛ لأنّ ادراك المعجزة فيه لا يتوقّف علي الإحاطة بكلّ محكماته فضلًا عن متشابهاته، بل يكفي في ذلك معرفة البعض.

وكون الراسخين في العلم ثلّة من هذه الأُمّة الإسلامية لا خصوص فرد واحد، وكون هذه المجموعة باقية سلسلتها ما بقيت حجّية القرآن في هذه النشأة، وأنّها لا تُرفع إلّابرفع الكتاب يوم القيامة، كلّ ذلك لأنّ الكتاب لا يؤخذ به بنحو تامّ إلّا بهم.

ويستفاد من الآية أنّ التمسّك بالكتاب علي انفراد

لا يتحقّق بصورة صحيحة كاملة تامّة إلّابهم، كما لا يتحقّق التمسّك بهم إلّابالتمسّك بالكتاب؛ لأنّهم هادون إلي محكماته وتأويل متشابهاته. وهو مفاد حديث الثقلين.

وإنّ علم الراسخين في العلم ليس من العلم الكسبي؛ لأنّه لا يؤهّل إلي ذلك مهما بلغ الإحاطة بدرجة من محكمات الكتاب؛ إذ من الضروري أنّ الكتاب المجيد الحجّة لكلّ هذه النشأة، لا تنتفي حقائقه ولا تحصي محكماته المحيطة بتطاول هذه النشأة، بل وبالنشآت السابقة واللاحقة، فالعلم التامّ بكلّ الكتاب الذي أثبتته هذه الآية للراسخين في العلم لا يكون إلّامن سنخ العلم اللدني؛ إذ الكتاب المبين الذي يستطرّ فيه كلّ شي ء وما من غائبة في السموات والأرض إلّا فيه- هو من لدن الغيب، والعلم التام به من سنخه.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 70

ولا سيما وأّن الآية قد قرنت تشريفاً- الراسخين في العلم باللَّه تعالي، ونفت العلم بالكتاب كلّه عن الجميع، وحصرته في الذات الإلهية ومن بعده بالراسخين في العلم، ممّا يعطي شرافةً وتعظيماً للراسخين في العلم كحجج اللَّه علي خلقه، ووهبهم ذلك النمط اللدني من العلم.

ومقتضي حجّية الكتاب وحجّية الراسخين في العلم، أنّ حجّيته مرهونة بحجّيتهم، وحجّيتهم مرهونة بحجّيته أيضاً، فالحجّتان من سنخ واحد، ممّا يدلّ علي عصمتهم؛ وإلّا لو جاز عليهم الخطأ لانسدّ باب العلم في الكتاب ولزم التعطيل.

ويشير إلي مقام حجّيتهم ذيل الآية: «وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ» «1»

، إشارة الآية إلي مثل هذه المضامين إنّما يتفطّن إليها ذو اللبّ، لا ذو الذهنية القشرية الذي لا يبصر إلّاالقشور. وكذلك الآية اللاحقة «رَبَّنَا لَاتُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» «2»

، أي أنّ ذوي الألباب بتفطّنهم بحجّية الراسخين في العلم بمعية الكتاب العزيز، يكونون قد اهتدوا إلي

كيفية التمسّك بالكتاب والأخذ به من دون زيغ قلوبهم عن الحقّ؛ إذ من تفرّد بالأخذ بالكتاب من دون التمسّك بالراسخين بالعلم، قد حكمت عليه الآية بزيغ قلبه، فلذلك اتّبع المتشابه، وأنّ اتّباعه للمتشابه طلباً لفتنة الناس عن الحقّ وعن الدين، وطلباً لتأويل الكتاب وعطفه علي ما يوافق أهوائهم وجهالتهم.

كما أنّ جملة «يقولون آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا» «3»

المجعولة صفة للراسخين في العلم علي تقدير الواو عاطفة، أو خبر علي تقدير كون الواو استئنافية، فإنّ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 71

الجملة الدالّة علي علم الراسخين بالعلم بالتأويل حيث إنّ الضمير عائد إلي التأويل، وتعلّق الإيمان به يستلزم العلم به بنحو ما، لا سيما وأنّه قد وصف بإضافته إلي أنّه من عند اللَّه، والتوصيف يستلزم التعيين، كما أنّ وصفهم بالراسخين بالعلم أيضاً مشعرٌ بذلك، وكذا إرداف ذكرهم للمستثني وهو الباري تعالي، وكذا قولهم بعدم مخالفة المتشابه للمحكم؛ لأنّ كلّ منهما من عند اللَّه تعالي، أي وحدتهما في ذلك دالّ علي معرفتهم بكيفية رجوع المتشابه إلي المحكم، أي تأويله به.

مضافاً إلي أنّه لو لم يكن ثلّة من هذه الأُمّة بعد الرسول صلي الله عليه و آله تعلم متشابه القرآن وكيفية تأويله بالمحكم، لكان يلزم منه تعطيل الكتاب بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله. وهذا هو مفاد حديث الثقلين.

وبذلك تدلّ الآية علي اختصاص علم الكتاب بهم بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، دون غيرهم من الأُمّة.

ثمّ إنّ مقتضي إحاطتهم بعلم الكتاب هو إحاطتهم بناسخه ومنسوخه، وعامّه وخاصّه، ومطلقه ومقيده، وموارد نزوله، وعزائمه، من رخصه، ومغايرة متشابهه من محكمه. وهذه الحجّية لهم بمعية حجّية الكتاب كما تقدّم في تبين كيفية العمل بالكتاب، وتنفي الاستقلالية، أي استقلالية غيرهم

بالفهم للاستفادة من الكتاب، فحينئذٍ يعمل بموازين الدلالة المقرّرة في علوم الأدب بضميمة الاستعانة بالثقل الآخر.

مضافاً إلي وجوه التشاهد الآتية بين هذه الآية وبقية آيات الثقلين الدالّة علي إحاطة الراسخين في العلم في هذه الأُمّة بالكتاب كلّه.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 72

الطائفة الثانية: من عندهم بيان تبيان الكتاب لكلّ شي ء … ص: 72

وهم كما في قوله تعالي: «وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَي هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً وَبُشْرَي لِلْمُسْلِمِينَ» «1»

.وقوله تعالي: «بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ* وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ» «2»

.و «وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «3»

و «ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَي الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَي الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ» «4»

.أما الآية الأولي الدالّة علي الثقل الأوّل بل الثقلين معاً- فقد فُسّر (تبياناً لكلّ شي ء) بأنّه تبيان لكلّ أُمور الدين، أي العلوم الدينية. والتفسير الآخر أنّ فيه تبياناً لكلّ شي ء من أُمور الدين وغيره، فيشمل العلوم الدينية وغير الدينية، لا سيما أنّ معارف الدين محيطة بكلّ الحقائق الكونية.

وتقريب الاستدلال في الآية يتمّ علي كِلا القولين، وقد وقع المفسّرون من العامّة في حيص وبيص في تفسير معني الآية فلاحظ كلماتهم، وإن كان الثاني هو الصحيح؛ لما في قوله تعالي: «وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «5»

؛ وقوله تعالي: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَايَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 73

إِلَّا فِي كِتَابٍ

مُبينٍ» «1»

؛ وقوله تعالي: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْ ءٍ» «2»

؛ وقوله تعالي: «يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» «3»

، وغيرها من الآيات الدالّة علي إحاطة الكتاب بكلّ صغيرة أو كبيرة. مضافاً إلي ما سيأتي في الطائفة الثالثة.

ثمّ إنّ شمولية الكتاب أوسع من التوراة، كما دلّت عليه الآيات في سورة الأعراف، وهي قوله تعالي: «وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُورِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ» «4»

.وهذا هو الثقل الأوّل، بل في الآية إشارة إلي الثقل الثاني أيضاً، حيث تُبيِّن وجود شاهد في كلّ أُمّة، والأُمّة الجيل من الناس أو القرن، أي وجود شاهد في كلّ قرن يشهد علي الناس أعمالهم، ويكون هذا الشاهد من نفس أُمّة ذلك القرن، ويكون الرسول شاهداً علي هؤلاء.

قال الفخر الرازي في ذيل الآية: اعلم أنّ هذا نوع آخر من التهديدات المانعة للمكلّفين عن المعاصي، واعلم أنّ الأُمّة عبارة عن القرن والجماعة، إذا ثبت هذا فنقول: في الآية قولان: الأوّل: إنّ المراد أنّ كلّ نبيّ شاهد علي أُمّته. والثاني: إنّ كلّ جمع وقرن يحصل في الدنيا فلابدّ وأن يحصل فيهم واحد يكون شاهداً عليهم، أمّا الشهيد علي الذين كانوا في عصر رسول اللَّه صلّي اللَّه عليهم وآله وسلّم، فهو الرسول؛ بدليل قوله تعالي: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَي النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا» «5»

.وثبت أيضاً أنّه لابدّ في كلّ زمان بعد زمان الرسول من الشهيد.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 74

فتحصل من هذا أنّ عصراً من الأعصار لا يخلو من شهيد علي الناس، وذلك الشهيد لابدّ وأن يكون

غير جائز الخطأ؛ وإلّا لافتقر إلي شهيد آخر، ويمتدّ ذلك إلي غير نهاية، وذلك باطل، فثبت أنّه لابدّ في كلّ عصر من أقوام تقوم الحجّة بقولهم، وذلك يقتضي أن يكون إجماع الأُمّة حجّة. «1»

أقول: ما تبيّن من دلالة الآية هو الحقّ من لزوم شاهد غير جائز الخطأ، ولكن تطبيق ذلك علي إجماع الأُمّة واهي غايته؛ فإنّ الأُمّة منقسمة في أكثر أمرها، فأين الشاهد في ما اختلفت فيه.

وحيث أنّ الشاهد لابدّ أن يكون عالماً بأعمال العباد، كما يشير إليه قوله تعالي:

«وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» «2»

، فيري أعمال العباد حين صدورها.

ومن الواضح أنّ علم كلّ ذلك كان لدي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، إذ ما كان ينزل عليه شي ء إلّاكان يعلمه ويعلّمه غيره، لكن لا يحيط بكلّ تعليمه إلّاالأُذن الواعية، كما قال تعالي: «لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ» «3»

، وهي أُذن عليّ عليه السلام كما جاء في أحاديث الفريقين. «4»

وقد قال تعالي: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» «5»

، وقال تعالي:

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 75

«وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ» «1»

، وقال تعالي: «إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ» «2»

.وكيف يبيّن ما لم يعلمه، وكيف يفرض أنّ علمه عند غير رسول اللَّه صلي الله عليه و آله؟ مع أنّ بيانه علي عهدة ووظيفة رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، بيان كلّ الكتاب.

ثمّ إنّ عملية إنزال حقائق الكتاب لتبيان ما فيه لم ينقطع ويرتفع بموت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله؛ إذ هو باقٍ لتنزّله كلّ عام ليلة القدر إلي يوم القيامة، فعلمه في كلّ الكتاب لابدّ أن

يكون باقياً في ثلّة من هذه الأُمّة، وهو الثقل الثاني، وهو الذي تشير إليه الآية الثانية من قوله تعالي: «وَمَا كُنْتَ تَتْلُواْ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ* بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ» «3»

، و (بل) للإضراب إمّا عمّا سبق في الآيات عليها، أو عن كون علم الكتاب أي كون الآيات بينات في صدور من عدا الذين أوتوا العلم. وعلي كلا التقديرين تدلّ علي حصر علم وبيان ما في الكتاب بالذين أُوتوا العلم، والضمير (هو) عائد إلي الكتاب المجيد، بمقتضي السياق ومقتضي توصيفه بالآيات.

ثمّ إن الذين أُوتوا العلم قد ذُكروا في آيات أُخر، كقوله تعالي: «وَيَرَي الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَي صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» «4»

، وقوله تعالي: «وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» «5»

، وقوله تعالي: «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَي الْكَافِرِينَ» «6»

، وقوله تعالي: «وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 76

وَالإْيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَي يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» «1»

، وقوله تعالي: «وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ» «2»

، وقوله تعالي: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّي إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَي قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ» «3»

، وقوله تعالي: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ

دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» «4»

.وهذه الآيات تصفهم بصفات التحلي بالعلم اللدني والعلم بالكتاب كما في قولهم: «لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَي يَوْمِ الْبَعْثِ» «5»

، حيث بمقتضي علمهم بالكتاب المحيط بالنشأتين لا يجهلون كيفية أحكام النشأة الأخري.

كما أنّ الآيات آنفة الذكر أثبتت لهم رؤية ومعاينة الذي أُنزل إلي النبيّ صلي الله عليه و آله من الوحي.

ويُستفاد من سورة النحل أنّ الذين أُوتوا العلم هم المعصومون؛ إذ أُبعد عنهم مطلق الخزي، كما أنّ إثبات التكلّم في مواطن من يوم القيامة والبعث دالّ علي رفعتهم ومكانتهم وكونهم ذوي صلاحيات من المقام المحمود، وأنّهم لا تأخذهم أهوال يوم القيامة ولا أهوال البعث، وقد وصف اللَّه تعالي مشاهد ذلك اليوم بقوله: «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَايَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 77

صَوَابًا» «1»

.وأيضاً قد أطلق علي القرآن في سورة القصص: «طَسِمِ* تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ» «2»

، وكذا في سور اخري «3»، وكذا ما مرّ في الطائفة الثانية من وصف الكتاب بأنّ فيه تبيان كلّ شي ء، وقد نُعت الكتاب المبين في القرآن بأنّ ما من غائبة في السماء ولا في الأرض إلّافيه، وأنّه فيه مفاتح الغيب وما في البرّ والبحر وكلّ شي ء. وكذا ما مرّ في الطائفة الأُولي من وصف الآيات المحكمات للكتاب بأنّها أُمّ الكتاب، وقد ذُكر في آيات هذه الطائفة، أنّ كلّ ما يمحي ويثبت في المشيئة الإلهية هو في أُمّ الكتاب. فمحكمات الكتاب هي أُمّ الكتاب.

ويتحصّل حينئذٍ: إنّ القرآن الكريم يشتمل علي جميع مسائل علوم الدين والعلوم الأُخري، وهذا يعزّز عموم مفاد الطائفة الثانية من أنّ في الكتاب تبيان كلّ شي ء، ويدعم ذلك أنّ القرآن قد وصِف أنّه مهيمن علي الكتب

السابقة، كما في قوله تعالي: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ» «4»

، والهيمنة هي الإحاطة، مع أنّه قد وصفت بعض الكتب السماوية المتقدّمة باحتوائها علي غير علوم الدين، كقوله تعالي: «قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي» «5»

، فإنّ المجي ء بعرش بلقيس بقدرة علمٍ من الكتاب ليس ممّا يرتبط بالأحكام، وكذا قوله تعالي: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَي بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا» «6»

، فقوله تعالي: «يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 78

وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» «1»

دالّ علي أنّ حقيقة القرآن تشمل وتحوي المشيئات الإلهية، وهما مشيئة المحو ومشيئة الإثبات، فضلًا عن القضاء والقدر الإلهيين.

كما أنّ في الكتاب علم بكافة الكائنات والمخلوقات الأرضية والسماوية، بمقتضي قوله تعالي: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَايَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «2»

، وقوله تعالي: «وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «3»

، وقوله تعالي: «عَالِمِ الْغَيْبِ لَايَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «4»

، هذا كلّه في الثقل الأوّل وهو الكتاب الكريم.

أمّا الثقل الثاني، فمضافاً إلي الآيات في الطائفتين السابقتين حيث بيّنت أنّ تأويل كلّ الكتاب والإحاطة بمحكماته هو عند الراسخين في العلم، وأنّ مجموع القرآن الكريم آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم، وهم الراسخون في العلم المشار إليهم، وهم المطهرون في

آية التطهير الذين يمسّون الكتاب المكنون، كما في قوله تعالي: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» «5»

.وهم المعبّر عنهم بمن عنده علم الكتاب في قوله تعالي: «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَي بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ» «6»

، وهذه الآية آخر سورة الرعد المكّية نزولًا، ولم يكن قد أسلم يومئذٍ في مكّة من أهل الكتاب أحد، فالمراد بها هو أحد المسلمين التابعين لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله ممّن شرّف بهذا العلم.

فقد ذكرت أقوال في المراد من الآيتين المتقدمتين.

أحدها: إنّه هو اللَّه، كما عن الحسن والضحّاك وسعيد بن جبير والزجاج،

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 79

واستُدلّ له بقول ابن عبّاس إنّه كان يقول: ومن عند اللَّه علم الكتاب. «1»

وثانيها: إنّ المراد به أهل الكتاب، منهم: عبد اللَّه بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري، كما نسب إلي ابن عبّاس وعبد الملك بن عمير وجندب، وغيرهم. «2»

ومقتضي ذلك أن تكون مدنية، كما عن ابن مردويه وابن الزبير والكلبي ومقاتل. وكلا القولين كما تري في الضعف والسقوط؛ فإنّ ظاهر الآية اثنينية الشهادة والشاهدين، والسورة كلّ آياتها مكّية، والآية الأخيرة مذكورة في سياق نتيجة للآيات السابقة، فكيف يفكّك النزول بينها فتكون سابقتها مكّية وهي خاصّة مدنية؟ وليس هذا إلّا تعصّب وعناد ممجوج، وسيأتي بسط الحديث في ذلك أكثر بعد الطائفة الثالثة.

ثم إنّه يستفاد من الطائفة الثانية أُمور:

الأمر الأوّل: إنّ هذه الطائفة بمجموع الآيتين دالّة علي لزوم الرجوع إلي ثلّة معصومة في مقام التمسّك بالكتاب العزيز، وعند إرادة تبيّن الأحكام الشرعية والمعارف من الكتاب العزيز، نظير ما تقدّم في الطائفة الأُولي.

الأمر الثاني: تدلّ أيضاً علي استمرار بقاء تلك الثلّة ببقاء القرآن وبقاء هذا الدين،

حيث إن هذه الملحمة القرآنية في الآية الأُولي- وهي دعوي بيان حكم وعلم كلّ شي ء في القرآن- علي مرّ الأزمان والعصور محتاجة إلي من يبيّن ذلك من القرآن.

الأمر الثالث: إنّ حجّية هؤلاء الثلّة- عدل حجّية القرآن، وإنّ هذه الحجّية

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 80

بنحو معي، ومن الواضح اقتضاء ذلك عصمة تلك الثلّة علماً وعملًا؛ وإلّا لاختلّ وانسدّ باب الرجوع في الكتاب إلي كلّ شي ء.

أمّا العصمة العلمية؛ فلأنّ الآية الثانية تدلّ علي أنّ مجموع القرآن هو بيّن في صدورهم، والمفروض أنّ القرآن فيه تبيان لكلّ شي ء، مضافاً إلي أنّه مع فرض الجهل العلمي في تلك الثلّة يستلزم حصول العجز لكافة الأُمّة عن الوصول إلي كلّ ما يحتاجونه من أحكام الكتاب ومعارفه.

وأمّا في صورة عدم العصمة العملية؛ فلأنّه سوف تُفقد الأمانة والوثوق في الرجوع إلي أقوالهم.

الأمر الرابع: إنّ هذه الطائفة تعضد الاستثناء في الطائفة الأُولي من أنّ الذي يعلم متشابه القرآن إنّما هو اللَّه والراسخون في العلم حيث؛ إنّ في هذه الطائفة دلالة علي أنّ آيات القرآن بيّنة عندهم غير متشابهة.

الأمر الخامس: إنّ العلم الذي بتوسّطه صار مجموع القرآن بيّن لهم، هذا العلم إيتائي وهبي عطائي من اللَّه تعالي، لا تسبيبي (كسبي)، أي أنّه علم لدني. وقد أشار إليه القرآن الكريم في آيات عديدة، كما في سورة الكهف حيث قوله تعالي:

«فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا» «1»

، وقوله تعالي: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّي يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» «2»

، وقوله تعالي:

«قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ» «3»

، وقوله تعالي: «وَلَقَدْ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 81

آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ» «1»

.الأمر السادس: إنّ علمهم لدنيّ، علمٌ تالي لعلم النبيّ صلي الله عليه و آله وتابع للنبوّة؛ حيث إنّ ذلك العلم متعلّق ببيان كلّ الكتاب، كما في آية العنكبوت المتقدّمة، أو تأويل كلّ الكتاب، كما في قوله تعالي في آل عمران: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» «2»

، وهو تأويل الكتاب المنزّل علي النبيّ صلي الله عليه و آله، فعلمهم متأخر رتبة عمّا أُنزل علي النبيّ صلي الله عليه و آله، ومن ثمّ أُطلق علي علمهم أنّه وراثة عن النبيّ صلي الله عليه و آله، وليست هذه الوراثة هي وراثة معهودة بل هي وراثة نورانية، أي أنّ تلقّيها لدنيّ من اللَّه تعالي وبوساطة نبويّة.

الطائفة الثالثة: الذين يحيطون بالكتاب المبين … ص: 81

قوله تعالي: «وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «3»

، وقوله تعالي: «عَالِمِ الْغَيْبِ لَايَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «4»

، وقوله تعالي: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْ ءٍ» «5»

، وقوله تعالي:

«وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَايَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ..» «6»

، وقوله تعالي: «يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» «7»

، وقوله تعالي: «فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ* وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ* إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» «8»

، وقوله تعالي: «كَفَي بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 82

وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ» «1»

.والآيات الأُولي الدالّة علي استطار كلّ

شي ء في الخلقة في الكتاب، فكلّ غائبة وكلّ رطب وكلّ يابس لم يفرط في تدوينه في الكتاب، وكل ما يُمحي ويُثبت في عالم الخلقة في الكتاب. وقد وصف القرآن بالكتاب المبين أي بأنّ القرآن هو ذلك الكتاب المبين-، كما في سورة الدخان من قوله تعالي: «حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ» «2»

، وقوله تعالي: «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ» «3»

، وقوله تعالي: «طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ» «4»

، وقوله تعالي: «هُدًي وَبُشْرَي لِلْمُؤْمِنِينَ» «5»

، وقوله تعالي: «وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «6»

، مع أن إستطار كلّ شي ء في الكتاب المبين صرّح به في إحدي الآيات «وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «7»

، وقوله تعالي:

«وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَي اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «8»

. وهذه الطائفة مع كونها دالّة بالاستقلال علي الثقلين بضميمة قوله تعالي

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 83

في الرعد: «كَفَي بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ» «1»

فالحريّ بنا أن ننقّح الحال في كون الآية مكّية في قبال القولين السابقين اللذين مرّا في الآية وأنّها مدنية.

وهذا القول يستلزم كون الآية مدنية؛ لأنّ هؤلاء وهم عبد اللَّه ابن سلام أو سلمان الفارسي أو تميم الداري- أسلموا بعد الهجرة، وكلا القولين بعيدين عن الحقيقة والصواب.

أمّا القول

الأوّل، فإنّ ما نُسب إلي ابن عبّاس فمع كون النسبة غير مسندة، فتكون القراءة شاذّة لا يجب التعويل عليها في قبال المتواتر من قراءة الآية، أي أنّ (مَنْ) اسم موصول لا حرف جرّ.

أمّا القول الثاني، فيردّه شواهد عديدة:

الأوّل: كون الآية مكّية كما عن النحاس عن ابن عباس، وممّن ذهب إلي أنّها مكّية سعيد بن جبير والحسن وعكرمة وعطاء وجابر ابن زيد. «2»

الثاني: إنّ سياق السورة من أوّلها إلي آخرها سياق واحد في المحاججة مع الكفّار، مثل قوله تعالي: «وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» «3»

، وقوله تعالي: «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَي ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ* وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ» «4»

، ومن الظاهر أنّ هذا اللحن لحن دعوة الرسول صلي الله عليه و آله في مكّة مع كفّار قريش كبقية السور المكّية، لا أُسلوب المواجهة بالقوّة والتهديد بالقتال، وكذلك هو لحن الطرف الآخر وهم الكفّار- لحن المطالبة بالمعجز أي الحجاج المنطقي، وهي مرحلة متقدّمة في عهد مكّي من الرسالة تختلف عن العهد المدني من أُسلوب المواجهة مع الرسول

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 84

القائد لدولته التي أنشأها في المدينة.

ثمّ إنّ السورة تتابع آياتها بنفس السياق والأُسلوب، كقوله تعالي: «لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَايَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ ءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَي الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ* وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ …» «1»

، وكذلك الآيات اللاحقة: «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ

عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ» «2»

، وكذا قوله تعالي:

«كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ* وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَي بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا» «3»

.وأجمع المفسّرون وأصحاب السير: أنّ الآية الأخيرة نزلت في مكّة لمطالبة قريش النبيّ صلي الله عليه و آله بهذه الأُمور الخوارق، ومن الواضح أنّ السياق لا يمكن تفكيكه بل هو تابع مع مبتدأ السورة، فمن الغريب ما نُسب إلي بعضهم قوله أنّ السورة مكية وخصوص هذه الآية مدنية، مع أنّ هذه الآية كما يلاحظ بالتدبّر في السورة متّصلة النظم وهي في مقام الجواب عن حجج الكافرين، فكيف يصحّ إقحام هذه الآية المدنية بعد فرض كون الآيات السابقة جميعاً مكية؟

وهكذا في استرسال بقية الآيات كقوله تعالي: «وَلَقَدِ اسْتُهْزِي ءَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ» «4»

، والإمهال كان في مكّة، وقوله تعالي: «بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ …» «5»

، وكذا قوله تعالي: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 85

رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ» «1»

، و «يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» «2»

، و «وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ» «3»

، و «أَوَلَمْ يَرَوْا …» «4»

، و «وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَي الدَّارِ» «5»

، و «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا

لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَي بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ» «6»

.فتجد أنّ مخاطبة الكفّار في هذه الآية الأخيرة هي عين مخاطبتهم السابقة وبنفس اللحن من الحجاج المنطقي، بل إنّ مضمون هذه الآية الأخيرة ملخّص وحاصل لجميع الآيات السابقة، بل في هذه الآية تصريح وتعرّض لرفض مقترحات الكفّار والتي طلبت في الآيات السابقة، كما في قوله تعالي: «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ» «7»

، ومقترحهم بتسيير جبال مكّة وتكليم الموتي رفض بقوله تعالي: «قُلْ كَفَي …» أي إنهاء للمحاججة وقطع للحجّة بشهادة اللَّه وشهادة من عنده علم الكتاب، وهذا دلالة علي مكّية الآية الأخيرة.

الثالث: لم يوصف علماء اليهود والنصاري والأحبار عدا أنبيائهم ورسلهم

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 86

وأوصيائهم بهذه الصفة من العلم بالكتاب، فهم في قوله تعالي: «قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَ آهُ مُسْتَقِرًّا …» «1»

، هو وصف لآصف بن برخيا وصي سليمان، وقد بيّنت هذه الآية أنّ خاصّية علم الكتاب القدرة التكوينية الخارقة كالتي كانت حاصلة لدي آصف، وقد أشارت إليه سورة الرعد نفسها في قوله تعالي: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَي …» «2»

ومن الواضح أنّ هذه الخاصّية والصفة إنّما تُعطي لذوي المناصب الإلهية كالأوصياء والرسل، ومن ثمّ وصف بعلم الكتاب أكثر أنبياء اللَّه.

كما أنّ آيات الثقل الأوّل في هذه الطائفة مبيّنة لاحتواء الكتاب بكلّ المشيئات الإلهية وبكلّ غائبة في السماوات والأرض وكلّ صغيرة وكبيرة ورطب ويابس، فالإحاطة بمثل هذا العلم لم يكن لدي من أسلم من اليهود والنصاري كما زُعِم،

كعبداللَّه بن سلام وتميم الداري وغيرهما، فمع خطورة هذا المقام وعظمة شأن هذه الصفة يمتنع أن يكون مصداقها هؤلاء، وذلك دليل بيّن علي كون نزولها في مكّة وأنّ مصداقها هو من يكون وصياً للنبيّ صلي الله عليه و آله.

الرابع: إنّ شهادة من عنده علم الكتاب أمر أُردف بشهادة اللَّه تعالي للدلالة علي أنّها تتلوها في السنخ، وبعبارة أُخري: إنّ إدلاء الشاهد بالشهادة يستلزم تحمّل الشاهد عياناً للأمر المشهود به، ممّا يعني أنّ الشاهد لديه إدراك حضوري عياني لعملية إنباء النبيّ ونزول الوحي علي قلبه الشريف، ونزول الوحي علي قلب النبيّ صلي الله عليه و آله أمر غيبي ليس من عالم الشهادة والحسّ، فلا يتيسّر للشاهد الشهادة إلّاأن يشهد بقلبه كيفية نزول الوحي علي النبيّ صلي الله عليه و آله، وكيف لا يتيسّر له ذلك وعنده علم الكتاب الذي استطرّ فيه كلّ شي ء.

وهذا ما يشير إليه قول علي عليه السلام في الخطبة المعروفة بالقاصعة: «… ولم يجمع بيت واحد في الإسلام غير رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وخديجة وأنا ثالثهما، أري نور الوحي

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 87

والرسالة وأشمّ ريح النبوّة، ولقد سمعت رنّة الشيطان حيث نزل الوحي عليه صلي الله عليه و آله فقلت: يارسول اللَّه ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته إنّك تسمع ما أسمع وتري ما أري إلّاأنك لست بنبيّ، ولكنّك لوزير وإنّك لعلي خير». «1»

ويشير إلي ذلك قوله تعالي: «وَيَرَي الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ» «2»

، فإّنه قد أثبت الرؤية لا الرأي، وقد وصف القرآن الذين أوتوا العلم بأنّ مجموع القرآن آيات بيّنات في صدورهم.

وأمّا قوله تعالي: «وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ

عَلَي مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ» «3»

، وهذا وإن كان شهادة ممّن أسلم من بني إسرائيل علي مثل القرآن من الكتب السابقة المنزّلة، إلّاأنّه في الحقيقة ليس الاعتداد بشهادتهم الصادرة منهم من جهة أشخاصهم، وإنّما هي في الحقيقة شهادة الكتب السابقة علي نبوّة النبيّ الخاتم وحقّانية القرآن المنزّل، فالشهادة إذن لصدق النبوّة وصدق القرآن هي بشاهد غيبي، وهو الكتب المنزّلة السابقة مسانخ ومن نمط المشهود له.

الخامس: إنّ لفظ (الكتاب) في الآية لم يُقيّد بقيد الدالّ علي إرادة الكتب السابقة المنزّلة، مضافاً إلي أنّ (ال) إمّا جنسية أو عهدية، والجنسية هو ما يراد به اللوح المحفوظ وأُمّ الكتاب، وقد تقدّم أنّه لا يحيط به من أسلم في المدينة من أهل الكتاب، ولا ادَّعي ذلك ولا ادُّعي فيهم ذلك، وإنّما الذي ادّعي ذلك في الأُمّة الإسلامية هم خصوص عترة النبيّ صلي الله عليه و آله.

وأمّا إن كانت عهدية، فالعهد الذهني والعهد الذكري واللفظي في السورة إنّما هو القرآن الكريم، فالعالم بالكتاب المراد به العالم بتمام القرآن.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 88

فتحصّل حينئذٍ:

إنّ من عنده علم الكتاب المقرونة شهادته بشهادة اللَّه تعالي هو ممّن أسلم مع النبيّ صلي الله عليه و آله في مكّة، وممّن قد زُوّد بعلم أُمّ الكتاب، أي ممّن له علماً لدنياً بتمام حقائق القرآن الكريم. ومن البيّن أنّ صلة الموصول في الآية دالّة علي حجّية شهادته، وأنّ منشأ تلك الحجّية هو إحاطته بالكتاب المستطرّ فيه المغيّبات، إذ من يكون بهذه المنزلة هو الذي يتمكّن من تحمّل تلك الشهادة والإحاطة بصدق المشهود بها، وهذا وجه حجّية شهادته.

وحيث احتجّ اللَّه تعالي بشهادته فلابدّ من علم قريش ومعرفتهم لهذه الصفة التي فيه وإن جحدوا لساناً، سواء حصلت معرفتهم بذلك- وباتّصاف

هذا الشاهد بهذه الصفة- سابقاً، أو بتوسّط نفس الاحتجاج بأن يكون في وصف اللَّه أنّ الشاهد هو بتلك الصفة تنبيهاً للكفّار علي منشأ حجّية شهادته، وأنّ ذلك المنشأ وتلك الصفة بإمكانهم التحقّق من وجودها والفحص عن ثبوتها في الشاهد.

وهذا ما تشير إليه المصادر التاريخية من وقيعة قريش في بني هاشم بأنّهم بيت سحر والعياذ باللَّه- وأنّه طالما رؤي منهم السحر. ووقيعتهم تلك كانت شاملة لعليّ عليه السلام، ممّا يدلّل علي مشاهدة قريش خوارق العادات من بني هاشم ومن عليّ عليه السلام، إلّاأنّهم يجحدوها بلسانهم ويصفوها بأنّها سحر.

ويشير إلي ذلك قول عليّ عليه السلام في الخطبة القاصعة عندما طلبت قريش من رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أن يظهر لهم معجزة الشجرة في حركتها وتكلّمها، فأظهر لهم رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ذلك، فقال عليّ عليه السلام: «فقلت أنا لا إله إلّااللَّه إنّي أوّل مؤمن بك يارسول اللَّه، وأوّل من أقرّ أن الشجرة فعلت ما فعلت بإذن اللَّه تعالي تصديقاً بنبوّتك وإجلالًا لكلمتك، فقال القوم كلّهم: بل ساحر كذّاب عجيب السحر خفيف فيه، وهل يصدقك في أمرك إلّامِثلُ هذا يعنونني- وإنّي لمن قومٍ لا تأخذهم في اللَّه لومة لائم، سيماهم سيماء

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 89

الصدّيقين وكلامهم كلام الأبرار، عُمّار الليل ومنار النهار، يتمسّكون بحبل القرآن، يحيون سنن اللَّه وسنن رسوله، لا يستكبرون ولا يعلون ولا يضلّون ولا يفسدون، قلوبهم في الجنان وأجسادهم في العمل» «1»

.وعدم استجابة قريش للأمر في القرآن بأنّ عليهم الاكتفاء بشهادة اللَّه وشهادة من عنده علم الكتاب، أي أنّهم لم يستشهدوا بمن عنده علم الكتاب، كما لم يستشهدوا بالقرآن علي صدق نبوّته صلي الله عليه و آله.

فيتحصّل من هذه الطائفة

أُمور:

الأوّل: اشتمال القرآن علي لوح التشريع والتكوين، أي بتمام كلّ من اللوحين.

الثاني: إحاطة من عنده علم الكتاب وهم المطهّرون الذين يمسُّون مكنون القرآن كما سيأتي في الطوائف اللاحقة- وهم الراسخون في العلم كما في الطائفة الأولي- والذين يعلمون تأويله ومتشابهه وهم الذين أوتوا العلم فمجموع آيات القرآن بيّنات في صدورهم كما في الطائفة الثانية-.

وإرادة الجمع من اسم الموصول (من عنده علم الكتاب) متعارف في مثل الأسماء الموصولة، ولذلك فَسّر الجمع أيضاً- من زعم أنّ الآية مدنية، وطبّقها علي مَنْ أسلم من اليهود والنصاري.

الثالث: مقتضي قوله تعالي: «قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَأَهُ مُسْتَقِرًّا» «2»

، وقوله تعالي: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَي بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا» «3»

، إنّ خاصّية علم الكتاب هو إقدار اللَّه تعالي لصاحب ذلك العلم علي إحياء الموتي والتصرّف

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 90

بخوارق العادات، مع أنّ آصف بن برخيا الذي أُشير إليه في الآية الأُولي كان عنده بعض علم الكتاب؛ لمكان (من) التبعيضية، لا سيما أنّ الآية الثانية في نفس سورة الرعد ومورد نزولها هو اقتراح الكفار باتساع أرض مكّة بإزالة الجبال وتسوية الأرض وتكليم الموتي، من دون تقييدهم وقوع ذلك بالقرآن الكريم- تتضمّن جوابه تعالي بإمكان القدرة علي ذلك بتوسّط القرآن، بياناً لعظمة القرآن التكوينية وشؤونه في الآفاق الخارجية، نظير قوله تعالي: «لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَي جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» «1»

.الرابع: تتوضّح مفاد هذه الطائفة مع مفاد الطائفتين السابقتين بأمور مستنتجة، وذلك مثل ضرورة وجود ثلّة عالمة بالكتاب وما فيه؛ وإلّا لزم تعطيل

الكتاب الذي جمعت فيه حقائق الكون والتشريع، والذي فيه بيان كلّ شي ء، وأنّهم عليهم السلام في علمهم هذا بالكتاب تالين تابعين لرسول اللَّه؛ لأنّ علمهم متعلّق بما أُنزل علي النبيّ صلي الله عليه و آله.

وكذا تلازم وجود القرآن ووجودهم بأنّهم حينئذٍ الوسيلة للوصول إلي تمام حقائق القرآن التشريعية والتكوينية، وما به من هداية المكلّفين مما تضطرّهم إليه الحاجة.

الطائفة الرابعة: المطهّرون والكتاب المكنون واللوح المحفوظ … ص: 90

قوله تعالي: «فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ* وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ* إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ* أَفَبِهَذَا

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 91

الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ* وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ» «1»

.وقوله تعالي: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً» «2»

.وقوله تعالي: «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ* وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ* بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ» «3»

.ومقتضي القسم في الآية كون المقسوم عليه جملة خبرية لا جملة إنشائية؛ إذ القسم لأجل توثيق الأخبار بالمقسوم عليه، كما أنّ القسم في الآية موصوف بالعظمة لبيان عظمة المخبر به، والمخبر به كرامة القرآن، وقد فُسرت كرامته باكتنانه في كتاب غيبي لا يصل إليه إلّاالمطهّرون من الذنوب ومن الضلال، وفي ذلك بيانٌ لعزّة القرآن وقداسته عن أن يكون مبتذلًا لغير المطهرين.

فمن الواضح حينئذٍ- عدم إرادة القرآن في وجوده في رسم المصحف الشريف، بل المراد من الوجود وجوداً أسمي مكنوناً، محفوظاً في لوح غيبي لا يناله ولا يصل إليه إلّامن كان علي ارتباط بذلك الغيب واطّلاع بالمغيبات. وهذا الوجود للقرآن ليس فيه متشابه؛ لأنّ المتشابه وصف للقرآن المنزّل، أي في وجوده النازل علي صورة آيات وسور، ومنه محكم؛ وإلّا فهو في وجوده الغيبي كتاب كلّه مبين كما تقدّم وصفه بذلك في الطائفة الرابعة

آنفة الذكر. وهذا سبب كون القرآن بتمامه آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم حيث إنّهم مطهرون يطّلعون علي الوجود الأرفع للقرآن أي الغيبي وهو معني مسّهم للكتاب المكنون..

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 92

إذن هناك تشاهد جلي بين هذه الطائفة والطوائف المتقدّمة، كما أنّ للقرآن في وجوده النزولي أوصافاً كما في رسم المصحف الشريف، ففي وجوده المكنون أوصاف أُخري، فبعض الأوصاف للوجود الأوّل، وبعض الأوصاف للوجود الثاني.

وهذا التعدّد في الأوصاف راجع إلي تعدّد مراتب وجود ونزول القرآن نفسه، وهو مقتضي التعبير المتكرّر في الآيات والسور بإنزال القرآن ونزوله، المستلزم لتواجد القرآن في رتبةٍ عالية ثمّ أُنزل إلي النشأة الأرضية.

كما أنّ الآية تحصر الواصل لحقيقة القرآن الغيبية ب (المطهرين)، ولا تكون الطهارة إلّابعدم اقتراف الذنب، وهي المعبّر عنها بالعصمة، وهي شاملة للبعد عن الضلال، وقد وصِف الضلال والشكّ والريب بالرجس في القرآن الكريم، كما في قوله تعالي: «وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَي رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ» «1»

، وقوله تعالي: «كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَي الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ» «2»

.بل قد أطلق القرآن الكريم الرجس علي الجهل والجهالة، كما في قوله تعالي:

«… وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَي الَّذِينَ لَايَعْقِلُونَ» «3»

. كما أطلق الرجس علي المعاصي المُرتكبة بالجوارح، كما في قوله تعالي: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ» «4»

.فيُعلم من ذلك أنّ المطهرون هم الواجدون للطهارة عن جميع أنواع الرجس، فلا يرتابون ولا يشكّون قطّ، كما أنّهم لا يجهلون ولا يقعون في جهالة قطّ، مستكملي العقل.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 93

فالطهارة قسمان: منها عن الرذائل العملية، وأُخري عن رذائل الجهالات، فهم علي كمال في العلم والعمل بدرجة يتميزون بها، تؤهّلهم للاتّصال بالغيب والكتاب المكنون واللوح المحفوظ. فالآية دالّة

علي وجود هؤلاء المطهّرين في الأُمّة. ومن البيّن أنّ وجود هؤلاء المطهّرين لازم لبقاء القرآن؛ وإلّا للزم تعطيل حقائق وأسرار القرآن، وقد عيّنت وشخّصت آية التطهير مصداق المطهّرين، وهم أهل البيت عليهم السلام؛ لقوله تعالي: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً» «1»

، ولا يخفي الفرق اللغوي بين المطهّر والمتطهّر.

ويتحصّل مما مرّ أُمور:

الأوّل: معية الثقلين، وهم الكتاب والمطهّرون من عترة النبيّ صلي الله عليه و آله.

الثاني: تصريح الآية باطّلاع الثقل الثاني علي مكنون القرآن الغيبي الذي هو من أنماط العلم الغيبي، والذي يمتازون به دون الأُمّة.

الثالث: طهارتهم وعصمتهم علماً وعملًا، وأنّ ذلك سبب تأهّلهم للإحاطة بحقائق القرآن الغيبية.

الرابع: إنّ المطهّرين هم المجموعة المعصومة المعدودة من عترة النبيّ صلي الله عليه و آله.

الخامس: إنّ للقرآن حقائق غيبية تكوينية وراء وجود رسم المصحف.

الطائفة الخامسة: وراثة الكتاب والعصمة في التدبير … ص: 93

قوله تعالي: «وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَي الرَّسُولِ وَإِلَي أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 94

لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا» «1»

.وقوله تعالي: «وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ* ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» «2»

، وقوله تعالي: «قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَي عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَي آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ» «3»

.من الواضح أنّ الكتاب في الآية الثانية هو القرآن الكريم بحسب السياق، كما أنّ هذا التوريث المشار إليه في الآية ليس توريثاً مادّياً بالأسباب المتعارفة، نظير ما ورد في قوله تعالي: «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَي» «4»

،

و «وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» «5»

، وقوله تعالي: «وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَي الْهُدَي وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ» «6»

، فالتوريث هذا توريث إلهي من سنخ الملكوت والعلم اللدني؛ بقرينة تخصيص هذه الوراثة للكتاب ب (المصطفين)، والاصطفاء بالاصطلاح القرآني قد خُصّ بالأنبياء والرسل والملائكة ونحوهم من المعصومين والمطهّرين.

وأمّا تقسيم الآية في الذيل: فمنهم ظالم ومنهم مقتصد ومنهم سابق، فالضمير عائد إلي (عبادنا) أنّهم منقسمون إلي ثلاث فئات، بخلاف التوريث؛ فإنّه قد خُصّ ب (المصطفين)، نعم قد عُرّف المصطفون بأنّهم بعض من عبادنا، و (من) للتبعيض هنا لا بيانية، ويدلُّ علي كون التوريث من سنخ العلم اللدني الغيبي ذكر (السابق بالخيرات)، فإنّه عُرّف في سورة الواقعة بالمقرَّب، وعُرّف المقرَّب في سورة المطفّفين بأنّه يشهد الأعمال وكتاب الأبرار، وهو قوله تعالي: «كَلَّا إِنَّ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 95

كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ* كِتَابٌ مَرْقُومٌ* يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ» «1»

، فالسابق هو المقرّب وهو الشاهد علي أعمال الأبرار، فهو مهيمن علي مقام العلّيين الذي يُدوّن فيه كتاب الأبرار، وهو مقام غيبي، وهو الذي أُصطفيَ وورث الكتاب بوراثة لدنية، وقد تقدّم في الطائفة الثالثة أنّ الذي عنده علم الكتاب يحيط بالكتاب المبين الذي يستطرّ فيه كلّ شي ء ومنها أعمال الأبرار.

محصّل مفاد الآية «2»: إنّ السابق هو الذي اصطُفي من العباد، والعباد ينقسمون إلي ثلاثة أقسام: ظالم ومقتصد وسابق بالخيرات.

أما الآية الأولي «3» فهي دالّة علي أنّ المفزع والمصدر في الأُمور هو الرسول وأُولي الأمر، وأنّ الواجب علي المسلمين إذا انتابهم أمر يمسّ حياتهم الاجتماعية الرجوع والردّ إلي الرسول صلي الله عليه و آله وأولي الأمر للبتّ في شأنه؛ وذلك لإحاطة تلك الثلّة باستنباط واستخراج ما هو

الحقّ في تدبير ما ألمّ بهم من أمر.

فالآية دالّة علي أنّ تدبير الرسول صلي الله عليه و آله وأُولي الأمر ليس اجتهادياً ولا ظنّياً كما ذهب إليه أكثر أهل سنّة الجماعة، بل هو تدبير عن علم وإحاطة بالأُمور بأقدارٍ من اللَّه عزّوجلّ. فهذا الاستنباط هو استخراج صُراح الحقّ كما هو أصل معني الاستنباط لغةً دون المعني المصطلح عليه المتأخّر في العلوم الدينية، وليس إعمال الموازين الظاهرية التي قد تخطأ أو تصيب، كما لا مجال للخطأ في استخدام الموازين في تدبير الأُمور العامّة من قِبل الرسول وأُولي الأمر.

نعم، قد يوهم إسناده إلي الرسول صلي الله عليه و آله وأُولي الأمر من ناحيتين:

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 96

الأُولي: إنّ الجهاز الحاكم في حكومة الرسول وأُولي الأمر غير معصوم، وقد يرتكب الأخطاء أو المعاصي، فينسب ذلك بعضهم إلي الرسول صلي الله عليه و آله وأُولي الأمر، علي أنّ هذا الإسناد ليس في حقيقته متّصل بالرسول صلي الله عليه و آله، بل يُنسب إلي أعضاء حكومته صلي الله عليه و آله، نظير ما صنعه خالد بن الوليد في فتح مكّة حيث غدر ببني الأجلح فتبرّأ النبيّ صلي الله عليه و آله من فعله بقوله: «اللهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا فعله خالد» «1»

وكان معيّناً من قبل النبيّ صلي الله عليه و آله علي إحدي الفرق العسكرية المرسلة، ثمّ انتدب رسول اللَّه صلي الله عليه و آله عليّاً عليه السلام ليسترضيهم ويعطي الدية لمن قُتل منهم.

وكذا ما صنعه أُسامة بن زيد حينما قتل مَن أظهر الإسلام شبهةً وظنّاً منه أنّ إظهار الشهادتين لا يحقن الدم مع الريبة.

الثانية: إنّ الميزان الظاهري الشرعي الموظّف العمل به أن يكون ظاهرياً، أي قد يخطئ وقد يصيب،

نظير البيّنة والحلف في القضاء كما في قوله صلي الله عليه و آله: «إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان، وبعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فكأنّما قطعت له قطعة من النار» «2»

.فتحصّل: أنّ تدبيره صلي الله عليه و آله وأُولي الأمر كذلك- في الحكم بمقتضي مفاد الآية الشريفة هو العصمة عن الزلل والخطأ، وأنّه إن شوهد ما يوهم ذلك في سيرته صلي الله عليه و آله فإنّ ذلك عند التدبّر راجع إلي أعضاء جهازه الحكومي من ولاة وغيرهم، أو إلي كون الميزان الشرعي الموظّف في التدبير حيث إنّه ظاهري، فقد لا يصيب الواقع في بعض الموارد، ولكن جملة تدبير الرسول وتدبير أُولي الأمر في النظام السياسي قائم علي استخراج الحقيقة والواقع، كما هو مفاد هذه الآية.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 97

ثمّ إنّ هذه الآية «1» دالّة علي وجود ثلّة هم ولاة الأمر مقرونة ولايتهم بولاية الرسول صلي الله عليه و آله، وأنّ لهم عصمة في التدبير وهي متقوّمة بالعصمة العلمية والعملية، وأنّ هذه الثلّة باقية ما بقيت الأُمّة وما بقي القرآن الكريم؛ لأنّ هذه الآية خطابٌ إلي كلّ المكلّفين إلي يوم القيامة، وأنّ الواجب عليهم ردّ وإيكال ما يعتريهم في أُمورهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وغير ذلك بايكاله وردّه إلي أُولي الأمر العالمين بحكمه من خلال قدرتهم علي استنباط واستخراج الحقّ والواقع فيه.

ومن البيّن أنّ هذا الاستنباط الموصّل إلي العلم بحقائق الأُمور، مستقي من الكتاب الكريم لا بلحاظ ما فيه من تشريع فقط؛ فإنّ ذلك لا يؤمِّن بمفرده العصمة في التطبيق والتدبير، بالإضافة إلي ذلك ما في الكتاب من استطارَ كلّ شي ء فيه من غائبة في الأرض أو في السماء أو

رطب أو يابس، في رتبة حقائقه العالية من الكتاب المكنون الذي هو الكتاب المبين والذي لا يمسّه إلّاالمطهّرون، وهو وصف أُولي الأمر المعصومين، الأمر الذي يتنزّل عليهم في ليلة القدر بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، هذا الأمر الذي فيه يفرق ويقدّر كلّ شي ء إلي العام القابل، ويفصّل مقادير جميع الأشياء، ومن ثمّ يحيط أُولي الأمر وأصحاب الأمر المتنزّل في ليلة القدر بكلّ الحوادث الخارجية وملابساتها ويحكمون تدبيرها وإصلاحها.

ويستحصل من هذه الطائفة أُمور:

الأوّل: إنّ توريث الكتاب بالاصطفاء ليس من نمط الوراثة البشرية المعتادة، وإنّما هو عبر اصطفاء الشخص المورّث للمقام الغيبي والمنصب الإلهي اللدني، أي أن الوراثة من سنخ ملكوتي لا ملكي مادّي نظير ما تشير إليه الطوائف السابقة

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 98

من كون آيات الكتاب كلّها بينات في صدور الذين أوتوا العلم وهو علم الكتاب، وهم الراسخون الذين يعلمون تأويل متشابهه الذين يمسّون الكتاب المكنون.

ويشير إلي ذلك قوله تعالي: «وَوَرِثَ سُلَيَمانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ» «1»

، فإنّه كالعطف التفسيري لبيان أنّ هذه الوراثة لدنية وهبية إلهية، كما هو الحال في علم منطق الطير وأسباب القدرة التي أوتيت لداود وسليمان، وإن لم تنحصر الوراثة في الآية بالوراثة التكوينية وشملت الوراثة الاعتبارية القانونية، أو أنّ شمولها للاعتبارية بالأولوية القطعية، ولذلك أحتجّت بالآية الصدّيقةُ الزهراء عليها السلام للمطالبة بإرثها من فدك، ويتم احتجاجها عليها السلام بكلا المعنيين كما يتبين بالتدبّر.

الثاني: إنّ تدبير الرسول صلي الله عليه و آله للحكم وشؤونه السياسية والعسكرية وغيرها وأُولي الأمر الذين تقدّم وصفهم في الأمر الأوّل، هو تدبير بعلمٍ معصوم عن الخطأ، وهذا يخالف ما ذهب إليه

أهل سنّة الجماعة من حصر عصمته صلي الله عليه و آله في تبليغه الأحكام.

الثالث: الآية دالّة علي أن لا اعتصام للمسلمين في نظامهم الاجتماعي والسياسي- عن الخطأ والزلل والضعف والوهن إلّابردّ شؤونهم العامّة إلي الرسول وأُولي الأمر، والتمسّك بذيلهم من أجل الاعتصام بحبل اللَّه الممدود لهم.

الرابع: إنّ هذه الطائفة دالّة علي أنّه ما دام للمسلمين حوزة واجتماع، وما داموا مكلّفين بكتاب اللَّه وأحكامه، فإنّ هناك ثلّة مصطفاة في الأُمّة الإسلامية باقية وهم ولاة الأمر، ولهم وراثة الكتاب اللدنية، وأنّهم معصومون علماً وعملًا، ومن ثمّ كان تدبيرهم للحكم بصواب وعلم لا يخالطه جهل؛ إذ لو كان استنباطهم للأمر

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 99

في التدبير العام بموازين ظنّية، لما صدق إطلاق الجزاء (لعلمه) بإطلاق الشرط (لو ردّوه) في الجملة الشرطية لمخالطة الجهل.

فهذه الطائفة دالّة علي أنّ هناك اصطفاء لثلّة من الأُمّة الإسلامية، كما أنّ الطوائف السابقة دالّة علي أنّ هناك ثلّة مطهّرة في المسلمين. وقد استُخدم لفظ الاصطفاء والتطهير في آيات الكتاب العزيز في الأنبياء وأولياء اللَّه الحجج، كقوله تعالي: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَي آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَي الْعَالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» «1»

، فمن هذه الأُمّة الإسلامية من يجتبيه اللَّه عزّوجلّ ويطهّره من النقائص العلمية والعملية، وهي المعبّر عنها بالعصمة، فقد وقع الاصطفاء من بين هذه الأُمّة كما قد وقع التطهير، ووقع إيتاء العلم علم الكتاب لأُولئك المعنيين من بين هذه الأُمّة.

الخامسة: إنّ في ذيل هذه الآيات وصف توريث الكتاب للمصطفين وسبقهم للخيرات بإذن اللَّه، إنّه فضل كبير كما يصفه تعالي، ليس بلحاظ النعم والعطاءات في دار الدنيا، بل مطلقاً، أي أخروياً أيضاً؛ إذ لم يصف اللَّه بهذا الوصف إلّافي حقّ الرسول صلي الله عليه

و آله كقوله تعالي: «وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا» «2»

، فقد وصف اللَّه تعالي إنزال الكتاب علي النبيّ صلي الله عليه و آله وإيتاءه الحكمة والعلم اللدني، ووصفه بالفضل العظيم، وهو موافق إطلاق الفضل الكبير علي توريث الكتاب المصطفين وسبقهم للخيرات.

وكذا قوله تعالي: «وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَاتَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا* إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا» «3»

، حيث أطلق الفضل الكبير

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 100

علي وحي الكتاب بتمام حقائقه ومعرفة بطونه، وقوله تعالي: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ* ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَاأَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ» «1»

، فهو اطلاق علي عطاء دار الآخرة لا عطاء دار الدنيا، مضافاً إلي أنّ السياق يشهد بإرادة ذوي القربي.

وفي مقابل ذلك لم ينصّ القرآن علي إعطاء فضل كبير وعظيم لأحدٍ من الأنبياء غير الرسل، كقوله تعالي حكاية عن سليمان: «وَوَرِثَ سُلَيَمانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ» «2»

، فأطلق عليه أنّه فضل مبيّن، أي ظاهر غير خفي، ولم يصفه بالعظمة وكونه كبيراً.

وكذا قوله تعالي: «وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَي بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا» «3»

، وقوله تعالي: «وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَي الْعَالَمِينَ» «4»

، وقوله تعالي علي لسان داود وسليمان عليهما السلام: «وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَي كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ» «5»

، وقوله تعالي: «وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ

مِنَّا فَضْلًا» «6»

.ذكر اللَّه تعالي الفضل بصورة التنكير؛ للدلالة علي أنّه نوع من الفضل، ولم يوصف بالعظمة والكِبر. فمجموع هذه الشواهد دالّ علي أنّ توريث الكتاب للمصطفين من هذه الأُمّة هو توريث من سنخ الوحي بالقرآن، أي لدنياً وإن لم يكن نبوّة، وأنّ هذا الفضل قد خصّ بصيغة الكِبر والعظمة بخلاف الفضل الذي

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 101

اعطي لبقية النبيين والمرسلين فانه لم يوصف بذلك. ونظير الدلالة علي هذا الامتياز ما تقدّم في سورة الواقعة أنّهم في هذه الأُمّة، وهم أهل البيت عليهم السلام بنصّ آية التطهير، وهم الذين يمسّون القرآن المحفوظ في كِنْ «1» الكتاب المحفوظ، والمتنزّل من ذلك المقام الغيبي وهو المصحف الشريف الذي بين الدفّتين.

السادسة: إنّ في تقييد وصفهم (السابقون للخيرات) بإذن اللَّه، يتوافق ويتشاهد مع قوله تعالي: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاة وَإِيتَاءَ الزَّكَوةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ» «2»

، الدالّة علي أنّ فعلهم وسبقهم للخيرات هو بإذنٍ من اللَّه، والمراد بالإذن الإيحاء الذي هو أعمّ من الوحي الاصطلاحي كالوحي التسديدي والإلهامي أي هو العلم اللدني لا الوحي النبوي.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 103

قراءات جديدة في آيات وحديث الغدير … ص: 103

القراءة الأُولي النبيّ وأهل بيته أولياء لدين اللَّه)

إنّ مفهوم الولاية قد انطبع في الأعصار الأخيرة بحدود ضيّقة تقتصر علي صلاحية الحكم السياسي بمصطلحاته الثلاثة: القضائية والتنفيذية والتشريعية، وكذلك الحال في مفهوم حقّ الطاعة. بينما مفهوم الولاية في أصل الوضع اللغوي والاستعمال القرآني والروائي أعمّ من ذلك، أي هو في معني يساوي الدين والديانة، كما يقتضيه التدبّر في الشواهد الآتية.

وعلي ضوء ذلك، فالولاية تمتدّ بامتداد سعة دائرة الدين وأبوابه، وبعبارة أُخري: الولاية تسنّم وتقلّد صلاحية كلّ شي ء بحسبه، ومن ثمّ يقال: ولاية التنفيذ وولاية القضاء وولاية التشريع

وولاية الإفتاء وولاية إبلاغ الرسالة، كما سيأتي في الاستعمال القرآني. وكذلك يقال: الولاية التكوينية، وهو القدرة علي التصرّفات بإذن اللَّه تعالي.

وفي لسان العرب: ولي في أسماء اللَّه تعالي؛ الولي هو الناصر، وقيل: المتولّي لأُمور العالم والخلائق والقائم بها، ومن أسمائه عزّ وجلّ: الوالي، وهو مالك الأشياء جميعها المتصرّف فيها.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 104

قال ابن الأثير: وكأنّ الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل، وما لم يجتمع ذلك فيها لم يطلق عليها اسم الوالي … وعن ابن السكيت: الوِلاية بالكسر- السلطان.

وقال سيبويه: الوَلاية بالفتح- المصدر، والوِلاية بالكسر- الاسم، مثل: الإمارة والنقابة؛ لأنّه اسم لما تولّيته وقمْت به.

وروي ابن سلام عن يونس، قال: المولي له مواضع في كلام العرب: منها المولي في الدين وهو الوليّ، وذلك قوله تعالي: «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَي الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَامَوْلَي لَهُمْ» «1»

، أي لا وليّ لهم، ومنه قول سيّدنا رسول اللَّه صلي الله عليه و آله:

«من كنت مولاه فعليّ مولاه» أي من كنت وليّه وروي أنّ النبيّ صلي الله عليه و آله قال: «من تولّاني فليتولّي عليّاً»، معناه من نصرني فلينصره «2».

وقال الفرّاء في قوله تعالي: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ» «3»

، أي تولّيتم أُمور الناس والخطاب لقريش- قال الزجّاج والفرّاء: إن تُوُلّيتُم أي وَلِيَكُم بنو هاشم «4»، وقوله صلي الله عليه و آله: «اللهمّ والِ من والاه» أي أحبب من أحبّه وانصر من نصره.

ثمّ قال: وقد تكرّر ذكر المولي في الحديث، وهو اسم يقع علي جماعة كثيرة، فهو الربّ والمالك والسيّد والمنعم والمعتق والناصر والمحبّ والتابع والجارّ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 105

وابن العم والحليف والعقيد والصهر والعبد والمُعْتَق والمنعم عليه، قال: وأكثرها قد جاءت في الحديث، فأضاف كلّ واحد

لما يقتضيه الحديث الوارد فيه، وكلّ من ولي أمراً أو قام به فهو مولاه ووليه.

قالوا: وقد تختلف مصادر هذه الأسماء، فالوَلاية بالفتح في النسب والنصرة والعتق، والوِلاية بالكسر في الإمارة، والولاء في المُعتق الموالاة من والي القوم.

قال ابن الأثير: وقوله صلي الله عليه و آله: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» يحمل علي أكثر الأسماء المذكورة. وقال الشافعي: يعني بذلك ولاء الإسلام، كقوله تعالي: «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَي الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَامَوْلَي لَهُمْ» «1»

. قال: وقول عمر لعليّ: أصبحت مولي كلّ مؤمن، أي وليّ كلّ مؤمن «2».

وقال النيسابوري في وجوه القرآن: إنّ الولي علي ثمانية أوجه، وذكر أنّ أحدها بمعني الآلهة، كقوله تعالي: «مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ» «3»

، وقوله تعالي: «أَمِ اتَّخَذَوُا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ» «4». «5»

هذا وإنّما أطلنا في نقل كلام اللغويين روماً في إثبات أنّ معني الولاية معنيً عام إذا أُضيف إلي الدين شمل كلّ من الإمارة وبقية الصلاحيات والمناصب في الدين.

وبعبارة أُخري: إنّ للولاية معنيً جامع وأصل فارد يستعمل في الموارد العديدة، وهو الذي تنبّه إليه ابن الأثير فيما تقدّم من قوله: (إنّ الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل)، أي أنّ المعني الجامع مفاده التمكين والقدرة علي التصرّف، فإذا تقرّر ذلك يتبيّن من خلال ما مضي وسيأتي من شواهد عديدة أنّ الولاية

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 106

المجعولة في الأدلّة لعليّ عليه السلام والأئمّة عليهم السلام هي ولاية كلّ الدين، بما في ذلك من الإمارة والحكومة والقيام بالأُمور السياسية في النظام الاجتماعي وكذا الولاية في التشريع والقيمومة علي الدين ووساطتهم في التدين بالدين، وغير ذلك من الشؤون.

وهذه الآية ملحمة قرآنية لقريش بأنّها ستتولّي الأُمور وتكون سيرتها ما

ذكرته الآية. وفي القراءة الثانية إن تولّت بنو هاشم الأُمور ستعاديهم قريش فتضمّنت الملحمة القرآنية نبوءة مستقبلية قد جاء بتصديقها ما وقع في الصدر الأوّل للأُمّة الإسلامية.

فالولاية من معاني الولاية في جميع أبواب الدين، ومن تلك الأبواب الإبلاغ عن اللَّه تعالي ممّا أبلغه النبيّ صلي الله عليه و آله عن اللَّه لهم خاصّة، سواء في نشأة حياته الدنيا أو حياته الأُخري، ولا زال النبيّ صلي الله عليه و آله يبلّغ الإمام القائم بالأمر (عج) عن اللَّه تعالي، وهذه هي السفارة الإلهية وإن لم تكن من سنخ النبوّة أي السبب المتّصل بين الأرض والسماء، قال الشيخ الصدوق في الاعتقادات: وقد فوّض اللَّه تعالي إلي نبيّه صلي الله عليه و آله أمر دينه، فقال عزّوجلّ: «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» «1»

، وقد فوّض ذلك إلي الأئمّة عليهم السلام. «2»

فالولاية الواردة لهم عليهم السلام في الآيات والأحاديث كحديث الغدير- هي ولاية كلّ الدين عدا النبوّة، فكلّ ما كان للنبيّ صلي الله عليه و آله فهو ثابت لهم، وكذا وساطتهم عن اللَّه، غاية الأمر بتوسّط النبيّ صلي الله عليه و آله.

وليست ولايتهم مقصورة علي الولاية السياسية والرئاسة وقيادة النظام الاجتماعي، وإن كانت هذه الولاية إحدي شعب ولايتهم في الدين، وبعبارة

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 107

أُخري، إنّ الإمامة كما تقرّر في معناها ليست مقتصرة علي الرئاسة العامّة وحفظ الدين في جانب الحاكمية والتدبير، بل حدودها ومعناها أوسع من ذلك بنحوٍ يتناول الهداية التشريعية الارائية في طول النبوّة والهداية الإيصالية للنفوس إلي الكمالات الحقيقية بتدبير ملكوتي

وكلّ من الهدايتين هي من موقع تكويني لنفس وروح الإمام المعصوم، نظير ما ذكره المتكلّمون في تعريف النبوّة والنبيّ من أنّها كون النفس البشرية

بحيث تسمع كلام اللَّه، أي أنّه مقام تكويني للروح النبويّة، فكذلك الحال في الإمامة فإنّها مقام تكويني كمالي وإن اختلفت سنخاً عن النبوّة، ويتقرّر من ذلك أنّ الولاية بمعناها الوسيع الشامل تتطابق «1» مع ماهية الإمامة.

ويجدر هاهنا الإشارة إلي جملة من الشواهد علي سعة معني الولاية بالإضافة إلي الدين وأبوابه ومقاماته:

أوّلًا: قوله تعالي: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا* وَدَاعِيًا إِلَي اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا» «2»

، مفاد الآية يقرّر أنّ الدعوة إلي اللَّه وهي الهداية الأرائية هي صلاحية وولاية يعطيها اللَّه عزّوجلّ، وهذا مؤدّي قوله (بإذنه)؛ إذ إعطاء الإذن إنّما هو في حقل الولاية والملكية والقدرة والسلطنة. فيظهر من الآية أنّ إحدي محطّات الولاية وشعبها هي الدعوة إلي اللَّه والهداية التشريعية، ونظير هذا المفاد قوله تعالي: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُم مِنْهُ حَرَاماً وَحَلَالًا قُلْ ءآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَي اللَّهِ تَفْتَرُونَ» «3»

.حيث أوضحت الآية التقابل بين الفريّة من جانب والفتيا بالإذن من جانب

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 108

آخر، مع أنّ المتبادر في بدو النظر أنّ المقابل للافتراء هو الصدق والمقابل للفتيا بالإذن هو الفتيا بغير إذن، فجَعْل المقابلة في الآية بين الافتراء والفتيا بالإذن يقتضي كون التحليل والتحريم وبيان الأحكام الإلهية متوقّفاً علي الإذن ممّن له الولاية، وأنّها أُمور مولوية، وأنّ جهة التشريع من شعب ولايته تعالي.

وثانياً: إنّ الجعل التشريعي قوامه بالمولوية ومولوية المولي؛ لأنّ الحكم التكليفي قوامه بالطلب المولوي، والمولوية هي ولاية الباري تعالي، كما أنّ قوام الحكم الوضعي هو بالحكم التكليفي، فيكون قوام الأحكام التشريعية بولاية المولي، والتقنين ينقسم إلي سنخين من الحكم الوضعي والتكليفي، أي ينقسم التقنين إلي قانون يقرّر المعاني كالملكية والحقوق والعقود، وإلي قانون

فيه اقتضاء الفعل والإلزام به، وكلّ من الحكمين أصيل في التشريع إلّاأنّ مآل الحكم الوضعي في التشريع إلي الحكم التكليفي، ولذلك أفرط بعض علماء الأُصول في نفي تأصيل الحكم الوضعي في التشريع، وقالوا إنّه منتزع وتابع لحدود الحكم التكليفي.

وعلي أيّ تقدير، فإنّ الحكم الوضعي الذي هو تقرير لمعاني الأشياء كمؤدّي اعتباري قانوني، إنّما يشرّع ويقنّن لتنظيم أفعال أفراد المجتمع، أي فيؤول الحكم الوضعي وغايته الحكم التكليفي الذي يتعلّق بفعل الفرد مباشرةً، هذا من ناحية.

ومن ناحيةٍ أُخري فإنّ قوام الحكم التكليفي هو بمولوية الشارع، والمولوية قوامها بولاية المولي وحقّ الطاعة له، وبذلك يكون التشريع وصلاحيته وليدة ولاية المشرّع والمقنّن علي المتدين لذلك الشرع والمتّبع لذلك التقنين.

ويعضد ذلك أنّ فقهاء الشريعة وفقهاء القانون الوضعي في استنباطهم وقراءتهم للنصوص الشرعية والقانونية، إنّما يستنبطون الحكم ولو كان وضعياً فيما إذا كان الشارع يعمل جهة المولوية في إنشائه للحكم، أي لا يكون بداعي

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 109

الإرشاد، أي لابدّ أن يكون المقنّن من جهة سيادته وسيادة القانون يقرّر ذلك النصّ القانوني لا من باب النصيحة، والإرشاد منه، وهذا ممّا يدلّل علي أنّ الحكم الوضعي في تشريعه يستند إلي ولاية الشارع وسيادته، وبالتالي يتّضح لنا أنّ الولاية تتشعّب إلي الولاية التشريعية كما تتشعّب إلي ولاية القضاء والتنفيذ والتدبير.

ثالثاً: إنّ مفهوم الدين والديانة هو الخضوع بالطاعة في اتّجاه من له الولاية، ومن ثمّ كانت الديانة هي الطاعة، والمطاع هو الدائن، وكذلك في مفهوم الإسلام الذي هو من التسليم والخضوع. ومن ذلك يتقرّر المطلوب من أنّ ولاية النبيّ صلي الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام، أي وجوب طاعتهم تتّسع لكلّ حدود ودائرة الدين والديانة في طول وتبع ولاية اللَّه تعالي وطاعته، ومن

ثمّ تتبلور القراءة الصحيحة لقوله تعالي: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأوِيلًا» «1»

، وقوله تعالي: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ* وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ» «2»

.بأنّ وجوب طاعة الرسول صلي الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام وولايتهم ليست مقتصرة علي الحاكمية السياسية، بل هي ولاية وقيمومة علي هذا الدين، كما هو الحال في وجوب طاعة اللَّه وولايته، حيث إنّها غير مقتصرة علي الحاكمية السياسية والقضائية والتشريع السياسي، بل هي ولاية عامّة بحدود سعة الدين والديانة، حتّي في الأبواب العبادية، بمعني أنّ رسم العبادة للَّه تعالي هو بتوسّط سنن وأوامر

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 110

نبوية وسنن وأوامر ولوية كما هي مشتملة علي فرائض وأوامر إلهية فقصد الأمر المأخوذ في العبادة هو إمتثال الأمر الشامل للأقسام الثلاثة من الأوامر، فبطاعتهم يُعبد اللَّه تعالي.

وإلي ذلك يشير ما رواه الكليني والمفيد والطوسي في الصحيح عن محمّد بن زيد الطبري، قال: «كنت قائماً علي رأس الرضا عليّ بن موسي عليه السلام بخراسان وعنده جماعة من بني هاشم منهم إسحاق بن العبّاس بن موسي، فقال له عليه السلام: يا إسحاق، بلغني أنّكم تقولون: إنّا نقول: إنّ الناس عبيد لنا، لا وقرابتي من رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ما قلته قطّ ولا سمعته من أحد من آبائي، ولا بلغني عن أحدٍ منهم قاله، لكنّا نقول: الناس عبيد لنا في الطاعة، موالٍ لنا في الدين، فليبلغ الشاهد الغائب» «1»

.وما ورد في الروايات من زيارة الإمام الرضا عليه السلام:

«اللّهمّ صلِّ

علي أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عبدك وأخي رسولك الذي انتجبته بعلمك وجعلته هادياً لمن شئت من خلقك، والدليل علي من بعثته برسالاتك، وديّان الدين بعدلك، وفصل قضائك بين خلقك، والمهيمن علي ذلك كلّه» «2»

.وورد وصف ديان الدين في الصلاة علي الحسنين وعلي علي بن الحسين في الزيارة المزبورة التي ورد فيها: «اللهمّ صلِّ علي عليّ ابن موسي الرضا المرتضي عبدك ووليّ دينك» «3»

، كما ورد أيضاً في زيارة آل ياسين في الناحية «السلام عليك يا باب اللَّه وديّان دينه» «4»

، ومنها قوله تعالي تلقيناً لنبيّه صلي الله عليه و آله: «إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 111

الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّي الصَّالِحِينَ» «1»

، فإنّ إنزال الكتاب وإن كان وصفاً لاسم الجلالة، إلّا أنّ الوصف ذكر للمناسبة مع عنوان الولي، كما هو مطّرد في الاستعمال والأدب القرآني، وإلّا لذكر وصف آخر غير إنزال الكتاب.

رابعاً: ما يظهر من دلالة العديد من أدلّة ولايتهم عليهم السلام أنّها قيمومة علي مجمل الدين في طول وتبع قيمومة الرسول وفي طول قيمومة وتبع اللَّه عزّوجلّ، فالولاية علي الدين هي بالأصالة للَّه عزّوجلّ، كما قال تعالي: «أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ» «2»

، وقوله تعالي: «وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ» «3»

، وقوله تعالي: «الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ» «4»

، فإن خلوص الدين للَّه من قبل العبد يقتضي أن لا يخضع العبد لغير اللَّه، ولا يدين بولاية وطاعة غير اللَّه تعالي، أي يقتضي أنّ الولاية والطاعة في الدين في كلّ شعبها مبدأها ومنتهاها وأصلها وغايتها وأقسامها واختلاف ضروبها هي للَّه تعالي:

«أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ الْكَافِرِينَ» «5»

، و: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ» «6»

، وغيرها من الآيات المتظافرة الدالّة علي ولاية الرسول في قيمومته علي

دين اللَّه التابع لولاية اللَّه في كلّ شعبها وضروبها وأقسامها، فهي ثابتة للرسول صلي الله عليه و آله تبعاً لولاية اللَّه، سواء في ولاية التشريع والحكم والقضاء والتصرّف والبيان والترخيص والنسخ والإقرار وأنّ طاعتهم باب العبادة للَّه تعالي …

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 112

وغيرها من ضروب أنماط الولاية وحقّ الطاعة في أبواب الدين الكثيرة المتعدّدة، التي يكون ولاية الحكم السياسي بقواه الثلاثة باباً من أبوابه؛ إذ الدين دائرته وملاكاته أوسع من النشأتين فضلًا عن أن ينحصر بأحكام النظام السياسي في النشأة الدنيا.

فتحصّل: أنّ ولايتهم الواردة في الأدلّة المتعدّدة هي الولاية علي كلّ الدين في جميع أبوابه وروافده، وهذا أصل من أُصول الشريعة في المعرفة تنشعب منه قواعد عديدة من المعارف.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 113

توحيد اللَّه في العبادة بولايتهم وطاعتهم … ص: 113

اشارة

قال تعالي: «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَاتَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ» «1»

، فأطلق علي الطاعة للشيطان أنّه عبادة له، وهذا يقتضي أنّ عبادته تعالي لا تتقوّم حقيقة بمجرّد السجود والركوع وأشكال النسك، بل لانطوائها واحتوائها وتضمّنها لطاعة اللَّه فحينئذٍ تكون عبادة له تعالي، وهذا الاستعمال للعبادة في الطاعة يقتضيه المعني اللغوي؛ لأنّ قوام العبادة بالخضوع.

والخضوع هو الطوعانية والأئتمار والانقياد لإرادته تعالي، فذلك هو روح وجوهر العبادة، وأمّا أشكال النسك والطقوس العبادية فهي قشر ولباس وثوب وبدن العبادة، وأمّا اللباب والروح فهي الطاعة وعبودية الانقياد والخضوع والانقهار أمام إرادته تعالي والتسليم والضعة والإخبات لمشيئته تعالي، فإنّما صارت العبادة النسك والطقوس- عبادة بالطاعة.

ونظير ذلك قوله تعالي: «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ* قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ» «2»

، فأطلق تعالي علي طاعة الجنّ وتولّيهم

وموالاتهم عبادة لهم وقال

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 114

تعالي: «وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ» «1»

، أي الذين يعبدون الطاغوت، وقد فسّر بطاعتهم للأحبار والطاغوت كلّ من أطيع في معصية اللَّه، ويعضد هذا التفسير قوله تعالي: «إِتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ» «2»

، وقوله تعالي: «وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ» «3»

، وفي صحيح أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في قول اللَّه تعالي: «إِتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ» قال: «واللَّه ما صلّوا لهم ولا صاموا ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالًا فاتّبعوهم» «4»

.وفي رواية أُخري، قال عليه السلام: «واللَّه ما دعوهم إلي عبادة أنفسهم، ولو دعوهم ما أجابوهم، ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالًا، فعبدوهم من حيث لا يشعرون» «5»

.وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام: «… وأمّا قوله أحبارهم ورهبانهم فإنّهم أطاعوهم وأخذوا بقولهم واتّبعوا ما أمروهم به ودانوا بما دعوهم إليه، فاتّخذوهم أرباباً بطاعتهم لهم وتركهم أمر اللَّه وكتبه ورسله، فنبذوه وراء ظهورهم، وما أمرهم به الأحبار والرهبان اتّبعوه وأطاعوهم وعصوا اللَّه، وإنّما ذُكر هذا في كتابنا لكي يُتّعظ به» «6»

.وروي الثعلبي بإسناده عن عدي بن حاتم قال: «أتيت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وفي عنقي صليب، فقال لي: يا عدي اطرح هذا الرق (الوثن) من عنقك. قال: فطرحته ثمّ انتهيت إليه

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 115

وهو يقرأ من سورة براءة هذه الآية: «إِتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ» حتّي فرغ منها، فقلت له: إنّا لسنا نعبدهم. قال: أليس يحرّمون ما أحلّه اللَّه فتحرّمونه ويحلّون ما حرّم اللَّه فتستحلونه؟ قال: فقلت: بلي. قال: فتلك عبادتهم» «1»

.فإذا تقرّر ذلك يتبيّن أنّ

قوام العبادة بالطاعة، وهي روحها وجوهرها، ولا ريب أنّ الطاعة للَّه لا تُعرف إلّابدلالة منه عزّوجلّ، إذ لا يصيب العقل البشري مواطن رضا اللَّه وإرادته ومشيئته، ولا يميزها عن مواطن سخطه ونقمته، إلّاالنزر القليل، ممّا تقضي به الفطرة البشرية من المحاسن وتدركه من القبائح، فمن ثمّ تتبلور ضرورة وجود الدليل علي طاعته والهادي إلي إرادته ومشيئته، ومن ثمّ كانت بعثة الأنبياء ونَصبْ الأوصياء من بعدهم ضرورة ملحّة للوقوف علي مواطن طاعة اللَّه.

وبمعرفة طاعة اللَّه يصيب المسلم والمؤمن حقيقة العبادة، وبجهله بطاعة اللَّه يخفق عن إقامة عبادته، فالتوحيد في العبادة هو بالطاعة التي هي الركن الركين، وطاعته تعالي لا طريق لها إلّابطاعة نبيّه ورسوله وحججه المنصوبين من قِبله خلفاء في أرضه.

المنهج السلفي وعبادة إبليس: … ص: 115

أشار القرآن الكريم إلي هذه الحقيقة في استعراضه لقصّة إبليس مع آدم في أكثر من سبع سور «2»، إذ قال تعالي في سورة ص: «إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ* فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ* إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ* قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ* قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 116

وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ* قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ* وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَي يَوْمِ الدِّينِ* قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَي يَوْمِ يُبْعَثُونَ* قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ* إِلَي يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ* قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الُمخْلَصِينَ* قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ* لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ» «1»

.وقال في سورة البقرة: «إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَي وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ» «2»

.قد بيّنت الآيات الكريمة أنّ الخضوع والانقياد لآدم توحيد للَّه في العبادة،

لأنّه خليفة اللَّه، وأنّ ترك الانقياد له شرك وكفر في العبادة وإن أتي بصورة السجود للَّه كما ورد في الأحاديث.

ففي الخطبة القاصعة لأمير المؤمنين عليه السلام قال: «ثمّ اختبر بذلك ملائكته المقرّبين؛ ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين، فقال سبحانه وهو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب: «إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ* فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ* إِلَّا إِبْلِيسَ»، اعترضته الحمية فافتخر علي آدم بخلقه وتعصّب عليه لأصله، فعدو اللَّه إمام المتعصّبين وسلف المستكبرين … وكان قد عبد اللَّه ستّة آلاف سنة، لا يُدري أمن سني الدنيا أم من سني الآخرة من كبرٍ ساعة واحدة، فمن ذا بعد إبليس يسلم علي اللَّه بمثل معصيته؟» «3»

.وكالذي رواه الراوندي بإسناده إلي الصدوق بسنده الصحيح: «عن هشام، عن الصادق عليه السلام قال: أُمر إبليس بالسجود لآدم، فقال: يا رب، وعزّتك إن أعفيتني من السجود لآدم لأعبدنّك عبادة ما عبدك أحد قطّ مثلها. قال اللَّه جلّ جلاله: إنّي أُحبّ أن أُطاع من حيث أُريد» «4»

. ورواه القمّي في تفسيره بسنده، إلّاأنّ فيها: «لا حاجة لي إلي عبادتك؛ إنّما

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 117

أُريد أن أُعبد من حيث أُريد لا من حيث تريد» «1»

.وكذا في تفسير علي بن إبراهيم كما نقله المجلسي في البحار. «2»

وروي الطبرسي في الاحتجاج في جواب مسائل الزنديق، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، أنّه سُئل: «أيصلح السجود لغير اللَّه؟ قال: لا. قال: فكيف أمر اللَّه الملائكة بالسجود؟

فقال: إن من سجد بأمر اللَّه فقد سجد للَّه فكان سجوده للَّه؛ إذ كان عن أمر اللَّه. ثمّ قال عليه السلام:

فأمّا إبليس فعبدٌ خلقه..» «3»

.وروي الشوكاني في فتح القدير، قال: «وقد أخرج ابن أبي حاتم عن

ابن عبّاس، قال: كانت السجدة لآدم والطاعة للَّه. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي الحسن، قال: سجدوا كرامة من اللَّه أكرم بها آدم. وأخرج ابن عساكر عن إبراهيم المزني، قال: إنّ اللَّه جعل آدم كالكعبة» «4»

.وقال تعالي: «وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَي عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَي الَّذِينَ هَدَي اللَّهُ» «5»

.والآية الكريمة من ملاحم الآيات في تبيان حقيقة العبادة والقبلة والصلاة، حيث بيّن تعالي أنّ غاية جعل القبلة السابقة في الصلاة هو اتّباع الرسول وطاعته، وليحصل التمحيص بين المطيع وبين من ينقلب علي عقبيه، ولا يخفي ما لصعوبة هذا الامتحان، حيث تمّ تبديل القبلة من البيت الحرام إلي بيت المقدس، أي إلي قبلة اليهود والنصاري، وشُرّعت بعدما كان البيت الحرام في بدء الشريعة النبوية أوائل البعثة في مكّة- هو القبلة، وهو من الخطورة بمكان؛ حيث إنّ القبلة في

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 118

العبادة والدين من النواميس العظيمة.

ولا سيما وأنّ قبلة البيت الحرام قد توارثتها قريش من ملّة إبراهيم وإسماعيل الحنيف، وكان البيت الحرام هو محور النسك والمناسك المختلفة العبادية في الصلاة والطواف والذبائح والقرابين، وتبديل القبلة حينئذٍ- التي هي معلم رئيسي في الدين يدلّ علي مدي موقعية الرسول وولايته وطاعته في الديانة، وأنّ الديانة وطريق العبودية للَّه تعالي هو باتّباع وطاعة الرسول صلي الله عليه و آله، وأنّ قوام القبلة والعبادة باتّباع الرسول وطاعته، فكانت محنة هذا الامتحان عظيمة جدّاً ليتقرّر معني الديانة والدين.

ومن ثمّ قال تعالي: «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ» «1»

، وقال تعالي:

«أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ

الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَايَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَايَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» «2»

، وقال تعالي:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَاتَشْعُرُونَ* إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَي لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ» «3»

.فتبيّن من الآيات: إنّ روح العبادة ولبّ التوجّه في القبلة إلي وجه اللَّه، هو الاتّباع والطاعة للنبيّ صلي الله عليه و آله، وإنّ حقيقة عبادته تعالي كامنة في طريق طاعة واتّباع

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 119

النبيّ صلي الله عليه و آله، لا مخالفته والجرأة عليه.

فتبيّن من ذلك: إنّ جوهر العبادة ليس بشكل وهيئة رسوم العبادة، بل جوهر العبادة الطاعة والطوعانية والخضوع والانقياد؛ إذ لو كان مدار التوحيد في العبادة علي نفي الواسطة المنصوبة من قبله تعالي ونفي الوسيلة، لكان إبليس إمام الموحّدين، ولكان قدوة الموحّدين في نفي العقيدة الشركية في العبادة؛ لأنّه عرض علي اللَّه أن يعبده عبادة من دون واسطة خليفة اللَّه آدم، وهذا العرض بحسب الصورة الظاهرة- أبلغ في دعاء اللَّه وحده بلا شريك،

بينما نري الباري تعالي قد حكم بأنّ ما فعله إبليس بنفي الواسطة الإلهية كفر، بل وحكم بأنّ رغبة إبليس في عبادته مباشرةً شرك، وقد فسّر أمير المؤمنين وأئمّة أهل البيت عليهم السلام ذلك: بأنّ رفض إبليس للواسطة الإلهية وطلبه للسجود مباشرةً للَّه من دون الانقياد لآدم عليه السلام ينطوي في الحقيقة علي تكبّر علي اللَّه؛ لأنّه لم يسلّم لربّ العزّة في قضائه وأمره.

والكبر: انفساخ عن العبودية وبروز لفرعونية الذات، فرأي في نفسه الاستقلال عن

باريه فردّ عليه أمره، ورأي تقدّم رأيه علي حكم اللَّه وحكمته، وكلّ ذلك ينطوي علي إنكار مقامات ربوبيته تعالي وصفاته الكمالية بنحو مستبطن، فاعتدّ إبليس بذاته بأنّ له شأن الارتباط والتلقّي مباشرةً عن الباري، وهذا يؤول إلي الاستخفاف بعلوّ مقامات الربوبية وإنكار عزّ الشؤون الإلهية.

وسنّة إبليس هذه قد ارتكبنها أغلب الأُمم التي كفرت بأنبيائها وأوصيائها، كما قال تعالي: «فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ* كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ* فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ* بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِي ءٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَي صُحُفًا مُنَشَّرَةً» «1»

، فبيّن أنّ سبب إنكارهم

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 120

لدعوات الأنبياء استطالتهم ليكون كلّ واحد منهم نبيّاً، فالتكبّر والاستعلاء علي الواسطة الإلهية ينطوي علي الكفر بالمقامات الإلهية، وبالتالي إلي جحد وإباء للواسطة الإلهية.

وقال تعالي أيضاً: «وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَي إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا» «1»

، فدعاوي نفي الوسائط الإلهية والوسيلة إليه تعالي تحت ذريعة الارتباط مباشرةً به، هي هتك للحجب الإلهية وتجرّي علي حرمات الشؤون الإلهية، وهو ناشئ حقيقةً- عن عدم التسليم بعظمة الصفات الإلهية، وعدم التوحيد في المواطن المختلفة. فالإباء والرفض للتوجّه إلي الواسطة والوسيلة المنصوبة من قبله تعالي تحت شعار لزوم الطلب مباشرة من اللَّه لا من الواسطة ولا التوبة الي الواسطة، ينطوي علي التكبّر الإبليسي والاستخفاف بالمقام الربوبيّ.

ومن ثمّ نجد أنّ القرآن الكريم يشير إلي أنّ شرك عبدة الأوثان ناشئ من اختيار الوثنيين تلك العبادة من عند أنفسهم دون إذنٍ من اللَّه تعالي حكم منه، لا من جهة ضرورة الواسطة والوسيلة بين المخلوق الذي ليس من المقرّبين إلي الساحة الربوبية وبين الخالق؛ فإنّ الواسطة والوسيلة ضرورة تكوينية وسنّة إلهية، بل شرك الوثنيين وعبدة الأوثان هو من جهة إقتراحية الواسطة

والوسيلة، أي كون تعيينها من قبل أنفسهم، والخلط بين الأمرين غالط به الكثير باب التوحيد، والوجه الذي إليه يتوجّه الأولياء، فشرك الوثنيين في الواسطة هو من حيث: هم يريدون ويختارون لا من حيث: يريد اللَّه ويختار، ومن حيث هم يشاؤن لا من

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 121

حيث يشاء اللَّه.

فيجعلون لأنفسهم حقّ التصرّف في تحديد العلاقة بينهم وبين ربّهم، ويجعلون لأنفسهم السلطان المقدّم علي سلطانه تعالي ومن ثمّ يجعلون أنفسهم أرباباً بدل أن يكونوا عبيداً له تعالي.

فمن ذلك يتبيّن أنّ الوثنية وشرك عبدة الأصنام ينطوي علي الاستكبار والكفر الذي هو سنّه إبليس اللعين، لا من جهة ضرورة أصل الواسطة والوسيلة، كما يشير إلي ذلك قوله تعالي: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ» «1»

، وقال تعالي: «أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ» «2»

، فالآيتان يشير مفادهما إلي أنّ المحذور، وهو عدم إلاذن وهو السلطان من اللَّه في تعيين مصداق الواسطة والوسيلة، لا كون المحذور في ضرورة الوسيلة. وكذا قوله تعالي علي لسان إبراهيم الحنيف في محاجّته لعبدة الأصنام: «وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» «3»

، وقوله تعالي: «قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإْثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَي اللَّهِ مَا لَاتَعْلَمُونَ» «4»

، وقوله تعالي في مشركي قريش في معركة أُحد: «سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَي الظَّالِمِينَ» «5»

، وقوله تعالي

علي لسان يوسف النبيّ عليه السلام: «يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ* مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ» «6»

، قابلت

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 122

بين توحيد الحكم وتوحيد العبادة من جهة، وبين عبادة الأرباب من دون اللَّه من جهةٍ أُخري؛ لكونها بدون سلطان وأمر منه تعالي، ممّا يقتضي أنّ مدار الشرك في العبادة في قبال التوحيد في العبادة يدوران مدار وجود الأمر الإلهي وعدمه.

فتؤكّد هذه الآيات علي أنّ شرك الوثنيين وعبدة الأصنام ليس بسبب وجود الواسطة بين البشر والباري، ولا بسبب وجود الوسيلة، بل إنّما شرك الوثنيين هو بسبب استقلالهم باتّخاذ الواسطة من عند أنفسهم، وتقديم اختيارهم وإرادتهم علي اختيار اللَّه وإرادته. ففي الآيات تقرير لضرورة الوسيلة والواسطة، فأمّا الوثنيون فأشركوا إرادتهم ومشيئتهم مع إرادة اللَّه ومشيئته، ونازعوه في سلطانه.

ومن ثمّ تكرّر التعبير في هذه السور والآيات لعنوان عدم السلطان لهم بذلك من اللَّه، فجعلوا لأنفسهم سلطاناً يشاركون فيه سلطان اللَّه في تعيين الواسطة والباب إليه تعالي، كما فعل إبليس عندما اقترح علي اللَّه نفي الواسطة المنصوبة من قبله تعالي، مقابل أن يعبده كما هو يريد لا كما يريد اللَّه وكان هذا حال مشركي العرب وعبدة الأصنام الذين عبدوا اللَّه من حيث يريدون لا من حيث أراد اللَّه.

فالعقيدة الشركية ليست في الانقياد لواسطة الباري، وإنّما في إشراك إرادة العبد في العبادة مع إرادة المعبود، ومن ثمّ كان سجود الملائكة لخليفة اللَّه آدم توحيد، وإباء إبليس عن الانقياد للواسطة شرك وكفر؛ لأنّ سجود الملائكة لآدم كان بأمرٍ من

اللَّه وسلطانٍ منه، كما قال الإمام الصادق عليه السلام في تفسير سجود الملائكة له: «إنّ من سجد بأمر اللَّه فقد سجد للَّه فكان سجوده للَّه إذ كان عن أمر اللَّه» «1»

.فالشرك يدور مدار إشراك العبد سلطان نفسه في العبادة وكيفيتها مع سلطان الباري، لا في وجود الواسطة من حيث هي واسطة والوسيلة من حيث هي وسيلة.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 123

كيف! وهي ضرورة، كما أنّ مدار التوحيد هو في التسليم لأمر اللَّه وسلطانه ولو عبر واسطة ووسيلة، لا في نفي الواسطة والحجاب والباب في البين.

ولك أن تقول: إنّ ما قرّره علماء الكلام والمعرفة من العلوم الأُخري في تعريف الشرك بأنّه الخضوع لغير اللَّه بما أنّ الخاضع عبد والمخضوع له ربّ، هو الآخر يرجع إلي تحديد سلطان اللَّه والقول بسلطان الغير وتقديمه علي سلطان اللَّه.

وبعبارة أُخري: إنّ الشرك باعتباره من أقسام الكفر يقابل التوحيد في مقامات عديدة، فكما أنّ التوحيد يُقرّر في مقام الذات الإلهية كذلك الشرك في مقام الذات- يكون عبارة عن القول بتعدّد الذات الإلهية الواجبية.

فكما أنّ التوحيد في الصفات، هو عبارة عن وحدة الصفات الكمالية مع الذات الأزلية، وأنّ تلك الصفات الكمالية الواجبية لا يتّصف بها أحد غير الباري، فكذلك الشرك في الصفات يُقرّر بتعدّد وتغاير ذوات الصفات عن الذات الإلهية، أو باتّصاف غيره تعالي بتلك الصفات. وكما يُقرّر التوحيد أيضاً في الأفعال بأن تُسند الأفعال إلي الباري تعالي وأنّ لا مؤثّر في الوجود إلّاهو من دون استلزام ذلك الجبر في أفعال المخلوقين، فكذلك الشرك في الأفعال يُقرّر بأسناد الأفعال لغيره بنحو الاستقلال.

كذلك التوحيد في العبادة، هو الخضوع له تعالي بما أنّه واجب الوجود وأنّ له حقّ الطاعة وسلطان الولاية، والشرك في العبادة يُقرّر بالخضوع لغير

اللَّه باعتبار أنّ الغير مستقلّ الذات أو الفعل أو مستقلّ الولاية والسلطان ومستقلّ في حقّ الطاعة، فالشرك في العبادة لا ينحصر في النمط الأوّل أي الشرك في الذات- كما قد يوهمه التعريف الدارج.

بل أنّ مشركي العرب في الجزيرة وعبدة الأصنام من غيرهم لا يعتقدون في

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 124

الأصنام والأوثان الاستقلال في وجود ذواتها ولا أزليتها ولا الأرواح الكلّية المزعوم تعلّقها في الأصنام، وإنّما شركهم كما تقدّم- لقولهم بحقّ الطاعة لتلك الأصنام والأرواح من دون إذنٍ ولا أمرٍ من اللَّه، ويشير إلي ذلك قوله تعالي:

«وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَي اللَّهِ زُلْفَي إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ» «1»

، فاتّضح أنّ الشرك في العبادة لا يتحقّق بمجرّد الخضوع لغير اللَّه تعالي، بل فيما كان بغير أمر اللَّه وسلطانه، كما أنّ التوحيد في العبادة لا يتحقّق بمجرّد صورة الخضوع للَّه تعالي، بل إنّما يتحقّق فيما كان بأمر اللَّه وسلطانه.

فالشرك في العبادة يدور مدار معني العبودية من الخضوع والطوعانية لولاية وسلطان المعبود، فإذا جُعل الخضوع لمبدأ سلطان غير اللَّه فيقع الشرك في العبادة، فتعريف العبادة التي هي عبودية التأليه وربوبية المعبود، كما أشار إلي ذلك الشيخ الكبير كاشف الغطاء في رسالته منهج الرشاد لمن أراد السداد: (إنّها الامتثال والانقياد للعظيم في ذاته، المستوجب للطاعة لا بواسطة أمر غيره» «2» أي يستوجب الطاعة بذاته. ولك أن تقول بأنّها الطاعة والامتثال والخضوع والانقياد للعظيم في ذاته، المستوجب للطاعة لا بأمر غيره، أي المستوجب للولاية بذاته لا بتولية غيره، فالعبادة هي الطوعانية من العابد للمعبود بما له من ولاية ذاتية.

وهذا هو المعني المصطلح لعبادة التأليه في

قبال عبادة الخدمة وعبادة الطاعة بأمر الغير.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 125

صورية الطاعات بدون الولاية … ص: 125

الإيمان شرط في قبول الأعمال … ص: 125

إنّ قبول الأعمال والجزاء عليها هي من السنن الإلهية التي تتبع شروطاً تكوينية خاصّة، والشرط المهم في ذلك هو الإيمان؛ لأنّ العمل إذا لم ينل النور والصفاء عن طريق الإيمان والنية السليمة فهو سراب بقيعة، قال تعالي: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّي إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ» «1»

، فالآية تقرّر أنّ الأعمال مهما بلغت من العظمة- التي يراها الناس- إذا لم تقترن بالإيمان باللَّه فهي جميعاً عبث وهباء وخيال كالسراب.

وقال تعالي في آية أخري: «مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَايَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَي شَيْ ءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ» «2»

، وقال تعالي: «وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» «3»

تشير إلي أنّ المجازات علي الأعمال في الآخرة مشروط بالبقاء علي الإيمان، وقال تعالي: «وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإْيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ» «4»

.الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 126

فهذه الآيات الكريمة تبين لنا الموقف من قبول الأعمال أو رفضها من الباري عزّ وجلّ. ونستطيع أن نعبّر أنّه يشترط في قبول الأعمال الحُسن الفاعلي؛ لأنّ كلّ عمل له بعدان أو حيثيتان في جهات الحسن والقبح، فتارةً يُلحظ العمل بما هو موجود في الخارج فيحكم عليه بالحسن أو القبح، وتارةً يُلحظ العمل من حيث صدوره من الفاعل وبما ينطوي عليه من دوافع لذلك العمل.

كما جاء في الحديث النبويّ: «إنّما الأعمال بالنيات»، فوزن وقوام الأعمال والعمل هو بالنيات والنية، والثواب والعقاب علي الأعمال يلحظ فيه جانب الحسن الفاعلي، قال تعالي: «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوةَ لِيَبْلُوَكُمْ

أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» «1»

، فلم يقل عزّ وجلّ: (أكثركم عملًا) حتّي يكون المدار علي الحسن الفعلي، بل قال «أيّكم أحسنُ عَملًا»؛ وإلّا لو كان الحسن الفعلي هو المدار لعُوقب المجبور والمضطرّ علي صدور المحرّم أو ترك الواجب.

ولهذا يُلاحظ أنّ بعض الأعمال قد أعطي اللَّه سبحانه وتعالي الثواب عليها لبعض الناس ولم يعط لآخرين قاموا بأعمال هي في الظاهر أكثر، كما في تصدّق الخاتم من أمير المؤمنين عليه السلام إلي الفقير حال الركوع فنزلت بحقّه الآية المباركة:

«إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ» «2»

، وقوله تعالي: «إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَانُرِيدُ مِنْكُمْ …» «3»

، فإنّ القيمة ليست للخاتم التي بسببها نزلت الآية، بل من جهة قيمة خلوص العمل، وهكذا قضية تصدّق الزهراء عليها السلام بأقراص الشعير.

وهكذا الأعمال تقاس بهذا المنظار، فالزكاة مع الرياء، أو الجهاد وفتح البلدان

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 127

بغير خلوص هو سراب يصبّ في نزوات الهوي وجمع الثروات والتوسّع في اللذائذ والشهوات.

فالإيمان باللَّه واليوم الآخر شرط أساسي في قبول الأعمال؛ لأنّ الحسن الفاعلي كما قلنا- لا يمكن أن يتحقّق بدون عقيدة الإيمان؛ لأنّ العمل بدون الإيمان باللَّه سبحانه وتعالي لا يكون إليه، وإنّما يكون للأنا وللذات ونزعاتها السفلية، وهو فارغ عن الغاية التي يريدها اللَّه من الأعمال؛ فإنّ روح الأعمال هو الإخلاص، «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» «1»

.أمّا العمل بدون الخلوص فهو في حقيقته تمرّد وتكبّر علي الباري، كما هي أعمال إبليس التي أوصلته إلي الهلاك والكفر وحبط الأعمال.

فقصّة إبليس الواردة في القرآن الكريم نموذج علي ما آلت إليه أعماله التي هي في ظاهرها منتهي العبودية، فإنّه لعنه اللَّه- كان قد سجد سجدة واحدة ستّة

آلاف سنة، وكان يقرّ للَّه بالوحدانية، وأنّه مخلوق من مخلوقاته، وكان يقرّ بيوم المعاد وبنبوّة آدم بنصّ القرآن الكريم: «خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» «2»

و «قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَي يَوْمِ يُبْعَثُونَ» «3»

، فهذا اعتراف وإقرار منه باللَّه تعالي وأنّه مخلوق من مخلوقاته، وأمّا إقراره بيوم المعاد والآخرة: «قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَي يَوْمِ يُبْعَثُونَ» «4»

، ولكن لم ينفعه كلّ ذلك العمل وذلك الإقرار، صار لعيناً مرجوماً كافراً، «وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ» «5»

.وعليه، فالإيمان شرط في قبول الأعمال، وهذه حقيقة مسلّمة عند جميع المسلمين، إنّما الكلام يقع حول أجزاء الإيمان، فهل تقتصر علي التوحيد والنبوّة

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 128

والمعاد؟ أم تشمل معرفة الإمام والولاية له وممّا يقرّر ذلك؟ وأنّ ولاية أهل البيت شرط في قبول الأعمال …

عدّة وجوه قرآنية وحديثية وعقلية:

ولاية أهل البيت عليهم السلام شرط لقبول الأعمال … ص: 128

الدليل الأوّل: الآيات القرآنية:

الآية الأُولي: قوله تعالي: «قُلْ لَاأَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي» «1»

، ذكر علماء المسلمين من الخاصّة والعامّة، من رواة ومؤرّخين ومفسّرين متواتراً:

أنّ كلمة القربي هي خاصّة بأُناس قد عيّنهم النبيّ صلي الله عليه و آله، وعندما يستعرض الباحث للسيرة النبويّة الشريفة يري أنّ النبيّ لم يكن يدع فرصة أو مناسبة صغيرة كانت أو كبيرة إلّاويؤكّد لهم من خلالها علي تحديد قُرباه، من حديث الكساء والأحاديث الأُخري: «عليّ منّي وأنا من عليّ»، «فاطمة بضعة منّي …»، «حسين منّي وأنا من حسين»، وهكذا توجد أحاديث كثيرة بهذا المضمون.

ولابدّ أن يكون هناك خطب كبير يترتّب علي هؤلاء القُربي مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالرسالة التي بعث بها النبيّ صلي الله عليه و آله. والآية المباركة هي من ملاحم الآيات القرآنية التي تبيّن حقيقة الرسالة الخاتمة الكاملة التي جاء بها، والتي تشمل جميع الأعمال، من اعتقادات بالتوحيد والنبوّة والمعاد،

وعبادات من صلاة وصيام وحجّ وزكاة … الخ.

وبعبارة أُخري: من فروع وأُصول، فإنّها جميعاً وقعت طرف معاوضة وتعادل في قبال محبّة أهل البيت، ومقتضي التعادل والمعادلة بين العوض والمعوّض هو

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 129

كون العوض بدرجة قيمة المعوّض، ولا ريب أنّ عمدة وثقل الرسالة هي في أُصول الدين وأركانه، لا مجرّد الفروع، فإذا كان في المعوّض والتي هي الرسالة جملة أُصول الدين، فلابدّ أن يكون العوض هو أيضاً من أُصول الدين؛ بمقتضي الموازنة والمعادلة.

وجعل العوض في قبال جملة أُصول الدين في المعوّض دالّ علي كون مودّة القربي وولايتهم هو مفتاح لمعرفة بقية أُصول الدين. وهذا يدلّ ويقضي بالترابط بين مجموع هذه الأُصول وأنّ الباب والمفتاح لبقية حقائق أُصول الدين يمرّ بولايتهم.

فمن أراد مدينة الإيمان فلابدّ عليه أن يأتيها من بابها، فمغزي إفراد الولاية والمودّة للقربي في كفّة وطرف المعاوضة في قبال جملة بقية أُصول الدين في طرف آخر، هو إشارة لهذا المعني وبيان لهذا الترابط العضوي في محاور أُصول الدين، وأنّ الوصول إلي حقائق الإيمان لا مجرّد ظاهر الإسلام هو بولاية القربي ومودّتهم؛ لأنّها الهداية إلي بقية الأُصول، والعاصمة عن الضلال، كما هو مؤدّي حديث الثقلين حيث اشترط في العصمة من الضلال اشترط لزوم التمسّك بالكتاب والعترة.

وهذا ممّا يفيد أنّ صحّة التوحيد وصحّة الإيمان بالنبوّة والمعاد لا بدّ في تحققهما من ولاية ومودّة ذي القربي فضلًا عن الثواب والجزاء عليها، فإذا كان هكذا الحال في أُصول الدين ففي فروعه أوضح؛ حيث إنّها في الرتبة الثانية من أجزاء الرسالة.

فتبين من مفاد هذه الآية الشريفة: أنّ مودّة القربي شرط في تحقّق أُصول الدين فضلًا عن الثواب عليها، ناهيك عن أعمال الفروع والثواب عليها.

وبالتالي، فولاية القربي شرط في

صحّة الأعمال فضلًا عن قبولها، وأنّ المراد

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 130

بتلك الأعمال ما يشمل الاعتقاد لا صرف أفعال الجوارح، وهذه قراءة عميقة لقاعدة شرطية الولاية في صحّة الأعمال.

الآية الثانية: وهي قوله تعالي: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإْسْلَامَ دِينًا» «1»

النازلة بعد قوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ» «2»

، ومن الواضح من الآيتين أنّ الرسول صلي الله عليه و آله قد أُمر من قِبله تعالي بإبلاغ أمر بالغ الخطورة والأهميّة، بحيث لولا إبلاغه لما كانت هناك أية جدوي في إبلاغ التوحيد والنبوّة والمعاد وأركان الدين فضلًا عن تفاصيل الفروع؛ إذ عمدة اسم الرسالة قد طُبّق علي الأُصول والأركان.

وكان ذلك الأمر المأمور بإبلاغه شديد الوقع علي نفوس المسلمين؛ إلي درجة كان الرسول يتخوّف تمرّدهم عن الطاعة والتسليم. وكلّ هذا المفاد يجده المتمعّن اللبيب في أجواء ألفاظ الآيتين، وقد ذكر المفسّرون ورواة الحديث نزولهما في إبلاغ النبيّ صلي الله عليه و آله لإمامة وولاية عليّ عليه السلام من بعده في غدير خم «3».

ومفاد الآيتين يتناغم بشدة مع مفاد آية المودّة؛ حيث يشير إلي التقابل بين جملة الرسالة والديانة في طرف، وما أُبلغ في ذلك اليوم في طرف آخر، كما مرّ ذلك في مفاد آية التبليغ، حيث علّق رضاه تعالي بمجمل الرسالة والدين علي ذلك الأمر، أي علّق رضاه بالتوحيد والنبوّة والمعاد وأركان الدين علي ذلك الأمر، فقبولها موقوف عليه، بل في الآية دلالة علي توقّف صحّتها عليه حيث علّق إكمال الدين عليه.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 131

ژوالإكمال يغاير الإتمام الذي في النعمة، حيث إنّ

كمال الشي ء يغاير تمامه؛ إذ كمال الشي ء هو بصورته التي هي قوام هويته، وأمّا تمام الشي ء فهي نعوته الطارئة بعد تحقّق هويته، فمفاد هذه الآية يدلّ علي ما تقدّم استنتاجه واستظهاره في آية المودّة من أنّ أُصول الدين وأركانه فضلًا عن الفروع مشروطة بالولاية، كما أنّ المشروط في الأعمال بالولاية هو صحّتها فضلًا عن قبولها.

الآية الثالثة: وهي قوله تعالي: «إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ* فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ* إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ* قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ* قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ* قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ* وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَي يَوْمِ الدِّينِ» «1»

، وقد تقدّم دلالة الآيات المتعرّضة لقصّة آدم وإبليس علي المطلوب إجمالًا، حيث إنّ إبليس كان مقرّاً بالتوحيد والمعاد حينما قال: «رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَي يَوْمِ يُبْعَثُونَ» «2»

، وكذا كان مقرّاً بنبوّة لآدم عليه السلام حينما قال: «أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَي يَوْمِ الْقِيَامَةِ» «3»

.ولكنّه لم يكن يأتمّ بآدم ويتولّاه ويتابعه ويطيعه، حيث إنّ السجود عنوان لكلّ ذلك فالإباء عن السجود عبارة عن ذلك، ومع كلّ إقراره بالثلاثة من الأُصول، ولكنّه استحقّ الطرد والرجم والذمّ من اللَّه تعالي. وظاهر هذه الأحكام هو عدم صحّة صور ما أقرّ به من توحيد ومعاد ونبوّة، إذ حُكم علي صورة إيمانه بالكفر مضافاً إلي العقوبة؛ فليس التولّي لوليّ اللَّه والائتمام به مجرّد شرط لقبول بقية

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 132

الاعتقادات، بل هو شرط صحة لها. فالأُصول الاعتقادية عبارة عن نسيج مترابط كلّ منها دخيل في

صحّة الآخر.

ويظهر من مفاد هذه الآيات ما ظهر من مفاد الآيات السابقة من كون ولاية خليفة اللَّه وحجّته شرط في صحّة الأعمال لافي مجرّد قبولها فقط، وشرط في صحّة الاعتقادات لامجرّد أعمال الجوارح.

وهناك طوائف أُخري من الآيات الواردة في ولايتهم عليهم السلام دالّة علي ذلك، لكن نكتفي بهذا القدر من الإشارة في المقام.

الدليل الثاني: الأحاديث النبويّة والقدسيّة المستفيضة الواردة عند الفريقين:

«لو أن عبداً عمّره اللَّه ما بين الركن والمقام، يصوم النهار ويقوم الليل حتّي يسقط حاجباه علي عينيه ثمّ ذُبح مظلوماً كما يُذبح الكبش، ثمّ لقي اللَّه بغير ولايتهم عليهم السلام، لكان حقيقاً علي اللَّه عزّوجلّ أن يكبّه علي منخريه في نار جهنّم» «1»

.وفي الحديث القدسي: «ثمّ لقيني جاحداً لولاية عليّ لأكببته في سقر» «2»

.بل في بعضها: «إنّ للَّه في وقت كلّ صلاة يصلّيها هذا الخلق لعنة. قال: قلت: جُعلت فداك ولم؟ قال: بجحودهم حقّنا وتكذيبهم إيّانا» «3»

.وعن أمير المؤمنين عليه السلام في جواب الزنديق مدّعي التناقض في القرآن، قال: «..

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 133

وأمّا قوله: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ» «1»

. وقوله:

«وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَي» «2»

، فإنّ ذلك كلّه لا يغني إلّامع الاهتداء، وليس كلّ من وقع عليه اسم الإيمان كان حقيقاً بالنجاة ممّا هلك به الغواة، ولو كان ذلك كذلك لنجت اليهود مع اعترافها بالتوحيد وإقرارها باللَّه، ونجا سائر المقرّين بالوحدانية، من إبليس فمن دونه في الكفر، وقد بيّن اللَّه ذلك بقوله: «الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ» «3»

، وبقوله: «الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ» «4».

وللإيمان حالات ومنازل يطول شرحها، ومن ذلك: إنّ الإيمان قد يكون علي وجهين:

إيمان

بالقلب وإيمان باللسان، كما كان إيمان المنافقين علي عهد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، لمّا قهرهم السيف وشملهم الخوف فإنّهم آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، فالإيمان بالقلب هو التسليم للربّ، ومن سلّم الأمور لمالكها لم يستكبر عن أمره، كما استكبر إبليس عن السجود لآدم، واستكبر أكثر الأمم عن طاعة أنبيائهم، فلم ينفعهم التوحيد كما لم ينفع إبليس ذلك السجود الطويل، فإنّه سجد سجدة واحدة أربعة آلاف عام لم يرد بها غير زخرف الدنيا والتمكين من النظرة، فلذلك لا تنفع الصلاة والصدقة إلّامع الاهتداء إلي سبيل النجاة وطريق الحقّ» «5»

.وفي بعض الروايات عن الإمام الصادق عليه السلام: «فلو كان لك بدل أعمالك هذه عبادة الدهر من أوّله إلي آخره، وبدل صدقاتك والصدقة بكلّ أموال الدنيا، بل بمل ء الأرض ذهباً، لما زادك ذلك [بدون ولاية أهل البيت عليهم السلام] من رحمة اللَّه إلّابُعداً، ومن سخط اللَّه إلّا

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 134

قرباً» «1»

.ونُقل عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قال: «رجلٌ حضر الجهاد في سبيل اللَّه فقُتل مقبلًا غير مدبر والحور العين يطلعن إليه، والخزّان يتطلّعون ورود روحه عليهم، وأملاك الأرض يتطلّعون نزول حور العين إليه والملائكة وخزّان الجنان فلا يأتونه، فتقول ملائكة الأرض حوالي ذلك المقتول: ما بال الحور العين لا ينزلنّ إليه، وما بال خزّان الجنان لا يردون عليه، فيُنادَون من فوق السماء السابعة: يا أيّتها الملائكة، انظروا إلي آفاق السماء ودوينها، فينظرون فإذا توحيد هذا العبد وإيمانه برسول اللَّه صلي الله عليه و آله وصلاته وزكاته وصدقته وأعمال برّه كلّها محبوسات دوين السماء قد طبّقت آفاق السماء كلّها كالقافلة العظيمة قد ملأت ما بين أقصي المشارق والمغارب ومهاب الشمال والجنوب، تنادي

أملاك تلك الأثقال الحاملون لها الواردون بها: ما بالنا لا تفتح لنا أبواب السماء لندخل إليها بأعمال هذا الشهيد؟ …».

وفي تتمّة الرواية أنّه يُأمر بتلك الأعمال فتوضع في سواء الجحيم؛ لأنّ ليس لذلك الرجل موالاة عليّ والطيبين من آله، ومعاداة أعدائه، ويُقلّب اللَّه تلك الأثقال من الأعمال أوزاراً وبلايا علي فاعلها؛ لمّا فارقها عن مطاياها من موالاة أمير المؤمنين عليه السلام؛ ولموالاته لأعدائه. «2»

قراءة ثالثة للقاعدة: العبادة من دون الولاية عصيان وعدوان، والأعمال بدون الولاية آثام … ص: 134

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 135

ومضمون هذه الروايات يتضمّن ما تقدّم من أنّ الولاية شرط في الصحّة فضلًا عن القبول، وشرط في أُصول العقائد فضلًا عن الفروع. ويزيد ويمتاز بمعني ثالث، وهو أنّ تلك الأعمال التي صورتها إيمان وطاعة هي في حقيقتها كفر ومعصية، وهذا المعني يثقل علي السامع تصوّره فضلًا عن تصديقه في الوهلة الأُولي، وتمجّه النفوس وتنفر منه الأذهان وتتلّكأ عنده الألسن، لكن الحقيقة إذا اتضحت معالمها لا مفرّ من الأخذ بها واتّباعها، وإذا حصحص الصبح انقشعت غياهب الظلمة، وليكن تقرير مفاد هذه الروايات هو تقرير الدليل العقلي كما ترشد إليه الروايات بل والقرآن أيضاً، فالأحري في المقام تقريره.

الدليل العقلي: ويقرّر بأنحاء:

الأوّل: قد مرّ أنّ حقيقة وروح ومخ وقوام العبادة هو بالطوعانية والضراعة والخضوع والتذلّل للباري، والتسليم والسلم والانقياد له، وهو جوهر العبادة والعبودية وقلب ومركز وقطب معناها، فمع خلوّها عنه لا تعدوا أن تكون قشور خاوية اللب وبدن جائف ميتة بلا روح، فهو قوام القربة والتقرّب، فالعبادة والعبودية هي الطاعة والطوعانية، والطاعة هو الانقياد لإرادة اللَّه والخضوع لها.

وأمّا تحكيم إرادة النفس علي إرادة الربّ فهو تجرّي واستكبار علي العظيم- عزّ وجلّ- وعصيان له.

وإرادة اللَّه لا يهتدي إليها البشر من نفسه، ومن ثمّ احتاج إلي بعثة الرسل، وبمجملات الشريعة ومتشابهاتها

لا يحيط البشر بتفاصيل إرادة الربّ من قبل أنفسهم، ومن ثمّ اضطرّوا إلي الحجّة والإمام الراسخ في العلم الذي تكون إرادته ومشيئته هي مظهر مشيئة وإرادة اللَّه. فمن ثمّ امتنع الاطّلاع علي إرادات الربّ من دون حجّته وخليفته في أرضه، ومن ثمّ اضطرّ البشر إلي ولاية خليفة اللَّه والمطهّر من عترة نبيّه لكي يطّلع علي مواطن إرادات اللَّه ورضاه.

وإلّا امتنع عليهم عبادة اللَّه، وكانوا فيما يمارسونه من طقوس وصور عبادية هي معاصي وتجرّي علي اللَّه؛ بتحكيمهم إراداتهم وميولهم وأهوائهم علي إرادة

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 136

اللَّه، وكانوا يطيعونه من حيث تريد أنفسهم ولا يطيعونه من حيث يريد، ولأجل ذلك احتاجوا في تحقّق عبادتهم للَّه تعالي إلي دلالة وهداية الإمام والحجّة المنصوب من قبله.

ومن ذلك يتبيّن أنّ السجود الطويل من قبل إبليس حيث لم يكن منطوياً علي الخضوع للَّه؛ لعدم خضوع إبليس لمن أمره اللَّه تعالي بالخضوع له وهو خضوعه لآدم وتوليّه له، فلم يكن إبليس في صورة طاعته مقيم علي الطاعة ولا خاضع لإرادة الربّ، بل كان في سجوده مقيم علي الجموح والطغيان والتعدّي علي الربّ وتحكيم إرادته علي إرادة اللَّه وكان سجوده الصوري حقيقته معصية وطغيان واستكبار وعدوان علي ساحة القدس الإلهي.

وبذلك يتبين أنّ صورة العبادات من دون طاعة اللَّه بولاية وليه هي عدوان وعصيان، وترك للمواطن الحقيقية لعبادة اللَّه، وانتهاج لمناهج عبادية تتطاول فيها إرادة العبد علي إرادة المعبود. وبهذا البيان العقلي يتبين المعني الثالث للقاعدة وهي شرطية الولاية في العبادات والأعمال أن بدونها تكون تلك الأفعال هتوك واجتراءات علي المولي العزيز يؤزر فاعلها ويأثم بها بدل أن يُثاب، لا أن يُحرم من مجرّد الثواب.

هذا تقرير لهذا الوجه في الأعمال، وأمّا تقريره علي صعيد الإيمان

والاعتقادات فبيانه أنّ الإيمان عمل كلّه وطاعة كلّه، فليس الطاعة والعمل مخصوصين بأعمال الجوارح بل يعمّان أعمال الجوانح، كما يعمّان أعمال القلوب من الإيمان بالأصول الاعتقادية، ولذلك ورد أنّ أوّل الفرائض التي افترضها اللَّه علي العباد هو التوحيد والمعرفة بمعني الإيمان والإذعان والإخبات والتسليم، وكذلك الإقرار القلبي ببعثة الرسل والمعاد والكتب وكذلك بأوصياء الرسل وهم الأئمّة المستخلفين بعدهم كما مرّ في مفاد آية المودّة الدالّة علي أنّ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 137

تولّي العترة المطهّرة هو من أصول الديانة، وكذلك هو مفاد آيتي المائدة النازلتين في بيعة الغدير، وغيرها من طوائف الآيات والأحاديث النبويّة الدالّة علي ذلك.

فإذا تقرّر أنّ الإيمان بأُصول الدين فريضة وطاعة وعمل بل هو من أكبر الفرائض وأعظم الطاعات والأعمال- يتبين أنّ الإيمان أيضاً لابدّ فيه من الإخبات والخضوع والانقياد والتسليم ونحو ذلك، بخلاف ما إذا امتزج بجموح واستكبار وعناد وجرأة علي ساحة الباري، فإنّه لن يعود طاعة وعملًا عبادياً، بل سيكون معصية وطغياناً وفرعنة وصنمية للنفس، وعبادة للطاغوت لا عبادة للَّه.

فالإباء والاستكبار عن الإخبات والتسليم والإيمان بوليّ اللَّه وخليفته يدلّ علي انقلاب حقيقة الإيمان إلي طغيان وكفر، أي يدلّ علي صورية الإيمان بالتوحيد والمعاد؛ إذ مقتضي الإقرار بالتوحيد هو الإقرار بكلّ الصفات الكمالية للباري، وأنّه الغنيّ المطلق، وأنّ المخلوقات هي عين الفقر المحض والافتقار إليه تعالي، وأنّ له الملك وهو مالك جميع الأشياء، فله ملك ذوات المخلوقات ووجوداتها وأفعالها، وله مالكية الخضوع والطاعة.

فالتمرّد عليه في أُمّهات الطاعات استكبار وإنكار لهذه المالكية، فيرجع إلي الخلل في الإيمان بالتوحيد، وبالتالي يتّضح أنّ عصيان اللَّه في التولّي لوليه هو كفر بمالكية اللَّه واستحقاقه للطاعة، نظير الخلل الواقع في الإيمان بالمعاد أو بالرسالة، فإنّه يؤول إلي الخلل

في التوحيد أيضاً فيكون هناك غاية وراء اللَّه، فتكون والعياذ باللَّه- ذاته محدودة.

وكذلك الحال في إنكار الرسالة، فإنّه يرجع إلي إنكار كون صلاحية الحكم والتشريع للباري، وبالتالي يؤول إلي عدم الإقرار بعلم الباري النافذ ولا بحكمته ولا بإحاطته بخفيات وعواقب الأُمور.

فالإقرار والإيمان بالتوحيد بمنزلة الإقرار المبهم المجمل الذي لا يتمّ تفصيله

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 138

وكماله إلّابالإقرار بالتوحيد في مقامات أُخري، فالإيمان بالمعاد هو مقام آخر من مقامات التوحيد وهو التوحيد في الغاية- كما أنّ أصل التوحيد هو توحيد في مقام المبدأ والأوّلية، ولا يكمل التوحيد بالاعتقاد بأنّه أوّل من دون الاعتقاد بأنّه آخر، كذلك الحال في الاعتقاد بالرسالة وببعثة الرسل والكتب المنزّلة، هو اعتقاد بالتوحيد في مقام التشريع «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ».

ونفس الشي ء يقال في الولاية والإمامة، هو اعتقاد بالتوحيد في مقام الطاعة والولاية، فهذه مقامات وأركان للتوحيد لا يتمّ صرح الاعتقاد بالتوحيد إلّابها. وفي تفسير القمّي عنه عليه السلام حينما سئل عن التوحيد قال: «هو لا إله إلّااللَّه، محمّد رسول، عليّ وليّ اللَّه، إلي ها هنا التوحيد» «1»

.وفي البصائر والتوحيد: عن الصادق عليه السلام في بيان فطرة التوحيد، قال عليه السلام:

«فطرهم علي التوحيد، ومحمّد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، وعليّ أمير المؤمنين عليه السلام» «2»

.وبذلك يتبيّن أنّ الاعتقاد ببعض الأُصول والتخلّف عن البعض الآخر، هو كالاعتقاد ببعض الصفات الإلهية وإنكار البعض الآخر، ويؤدّي إلي القول بمحدودية الذات وتركيبها وتجزّئها، ومن ثمّ ورد قوله تعالي: «وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ» «3»

.الثاني: قد تقدّم في الأدلّة القرآنية والروائية السابقة أنّ الأعمال تحبط، وهي حابطة بدون الإيمان، وهذا غير مختصّ بالفروع بل شامل للأُصول أيضاً، والحبط الأخروي للعمل والاعتقاد وإن لم يكن في الاصطلاح

الفقهي ملازماً لعدم صحّة العمل والاعتقاد، كذلك في المصطلح الكلامي الدارج، وأنّه فساد بلحاظ الثواب

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 139

الأخروي والقبول، لا بلحاظ ماهية العمل.

إلّا أنّ الحبط وفق نظرية تجسّم الأعمال أنّ الجزاء هو عين العمل وحقيقته الباقية، ويكون موجب الحبط كاشفاً عن دخالة ذلك الشي ء في الوجود البقائي للعمل والاعتقاد. وبعبارة أُخري عندما لا يكون للعمل أجر وثواب فذلك يعني أنّه ليس للعمل حقيقة باقية في الأبد الأخروي، فليس هناك إلّاصورة العمل لا حقيقته، ويستلزم ذلك كون الموجب للحبط دخيلًا في حقيقة العمل وبقائه، وكذلك دخيلًا في حقيقة الاعتقاد وبقائه.

ويتبيّن صورية الاعتقاد والأعمال بدون الإيمان، وليس المقصود من صورية الاعتقاد مجرّد الإقرار اللساني، بل إنّ عقد القلب هو علي الصورة لا علي الحقيقة، فما رواه الفريقان من حبط الأعمال والاعتقادات من دون حبّ علي عليه السلام وولايته كما مرّت الإشارة إلي المصادر- وكذلك ما رواه الفريقان أنّه قسيم الجنّة والنار، وأنّ حبّه إيمان وبغضه نفاق، دالّ علي حبط الاعتقاد فضلًا عن العمل بدون ولايته.

روي الصدوق في الأمالي بإسناده عن ابن عبّاس قال: «قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله:

المخالف علي عليّ بن أبي طالب بعدي كافر، والمشرك به مشرك، والمحبّ له مؤمن، والمبغض له منافق، والمقتفي لأثره لاحق، والمحارب له مارق، والراد عليه زاهق، عليّ نور اللَّه في بلاده، وحجّته علي عباده، وعلي سيف اللَّه علي أعدائه ووارث علم أنبيائه، عليّ كلمة اللَّه العليا، وكلمة أعدائه السفلي، عليّ سيّد الأوصياء ووصيّ سيّد الأنبياء، عليّ أمير المؤمنين وقائد الغرّ المحجّلين وإمام المسلمين، لا يقبل اللَّه الإيمان إلّا بولايته وطاعته» «1»

.الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 141

القراءة الثانية (ولاية عليّ في الشرائع السابقة) … ص: 141

اشارة

النقطة الأولي:

فكما قد أخذ اللَّه تعالي علي النبيّين والرسل الميثاق بالإقرار

بنبوّة خاتم الأنبياء وبُعثوا بالبشارة بها لأقوامهم، أخذ عليهم وعلي أُممهم الإيمان والتصديق بها:

«وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَي ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ* فَمَنْ تَوَلَّي بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ* أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ* قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَي وَعِيسَي وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَانُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ* وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإْسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ» «1»

.فأخذ اللَّه الميثاق علي النبيّين في مقابل إيتائهم وبعثهم بالكتاب والحكمة والنبوّة، وشرط عليهم الإيمان بخاتم الأنبياء ونصرته، وكان ذلك الميثاق مشدّداً مغلّظاً وقد أخذ فيه إقرارهم بذلك وأشهدوا عليه تغليظاً.

ولا يخفي أنّ الآية مشحونة بالدلالات علي هيمنة مقام النبيّ صلي الله عليه و آله علي جميع

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 142

الأنبياء:

منها: التعبير عنهم بالنبوّة والتعبير عنه بالرسالة؛ فإن وصف الرسالة أعلي من مقام النبوّة، وفيه إشارة إلي توسّطه صلي الله عليه و آله بين اللَّه تعالي وبين الأنبياء بالرسالة.

ومنها: التعبير عنه (بمصدّق)، والتعبير عنهم بأنّهم (يؤمنون) به، فإنّ ذلك يقتضي اتّباعهم له دونه؛ فإنّه يوثّق نبوّاتهم.

ومنها: التعبير عنه صلي الله عليه و آله بأنّ تصديقه أسند إلي ما معهم ممّا قد أُوصي لهم، وهذا يغاير التعبير بأنّه (مصدّق لهم)، بينما التعبير عنهم عليهم السلام بأنّهم (يؤمنون به صلي الله عليه و آله)، أي: جعل متعلّق إيمانهم به صلي الله عليه و آله، وفيه بيان لعلوّه عليهم في

المقامات الإلهية.

ومنها: قد أخذ عليهم نصرته دونه، ولم يؤخذ ذلك عليه صلي الله عليه و آله. ثمّ بين تعالي أنّ الإيمان بنبوّة خاتم الأنبياء هو دين اللَّه الذي هو الإسلام، وهو دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسي وعيسي والنبيّين.

ونظير هذه الآيات قوله تعالي علي لسان نبيّه عيسي عليه السلام: «وَإِذْ قَالَ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» «1»

، وكذا قوله تعالي في قضية بني إسرائيل:

«وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَي الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَي الْكَافِرِينَ» «2»

، فبيّن تعالي أنّ اليهود كانوا قبل بعثة النبيّ صلي الله عليه و آله يستبشرون به ويستظهرون ببعثته وملكه علي المشركين؛ لمعرفتهم ذلك في توراتهم: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإْنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 143

وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «1».

النبوّة والولاية … ص: 143

وكما قد أُخذ نبوّة النبيّ صلي الله عليه و آله والإيمان بها علي الأنبياء السابقين وأُممهم؛ لكونها قوام دين الإسلام الذي هو دين جميع الأنبياء، فكذلك قد أُخذت ولاية عليّ عليه السلام وإمامته علي الأنبياء السابقين وأُممهم لأخذها في قوام دين الإسلام الذي هو دين جميع الأنبياء والرسل السابقين. ولبيان ذلك لابدّ من الالتفات إلي نقطتين:

قاعدة أديانية: وحدة الدين وتعدّد الشرايع … ص: 143

الأُولي: إنّ هناك تعدّد بين معني الدين والشريعة، فإنّ الدين واحد وهو الإسلام الذي قد بُعث به جميع الأنبياء والرسل ولا نسخ فيه، وهو مجموعة أُصول العقائد والمعارف وأركان الفروع وأُصول المحرّمات والواجبات في الفروع، وهذا بخلاف الشريعة فإنّ لكل رسول شريعة وهي ناسخة لشريعة النبيّ والرسول الذي قبله، والشريعة هي تفاصيل التشريعات في الفروع.

ويشير إلي هذا التغاير قوله تعالي: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإْسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ» «2»

، فالدين عند اللَّه واحد وهو الإسلام، ولم يبعث الأنبياء بأديان مختلفة، وإنّما الذي أحدث اختلاف الأديان هم أتباعهم، حيث حرّفوا الدين

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 144

الواحد وهو دين الإسلام بغياً.

ويشير إلي ذلك أيضاً قوله تعالي: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا» «1»

، فبيّن تعالي تعدّد شرائع ومناهج الأنبياء بخلاف الدين فإنّه واحد، وسيأتي تفصيل هذه النقطة وبسطها.

ونستخلص من هذه النقطة في المقام أنّ الأُصول الاعتقادية وأُصول الإيمان هي من مساحة الدين، ومن مقوّمات دين الإسلام غير القابلة للنسخ والتبدّل والتغيّر، فلا تكون من أجزاء الشريعة ولا من تفاصيل الفروع.

وهذا المبحث

والقاعدة الأديانية ينبع منها مناهل عذبة في بحوث المعرفة الدينية واختلاف المذاهب، وينبّه إلي هذا التغاير بين الدين والشريعة، ووحدة الدين وتعدّد الشرايع ما رواه الشيخ المفيد في الاختصاص، من (مسائل عبد اللَّه بن سلام) للنبيّ صلي الله عليه و آله:

«… قال: صدقت يامحمّد فأخبرني إلي ما تدعو؟ قال صلي الله عليه و آله: إلي الإسلام والإيمان باللَّه.

قال: ما الإسلام؟ قال صلي الله عليه و آله: شهادة أن لا إله إلّااللَّه وحده لاشريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ اللَّه يبعث من في القبور. قال: صدقت يا محمّد فاخبرني كم دين لربّ العالمين؟ قال صلي الله عليه و آله: دين واحد واللَّه واحد لا شريك له. قال:

وما دين اللَّه؟ قال صلي الله عليه و آله: الإسلام. قال: وبه دان النبيّون من قبلك؟ قال صلي الله عليه و آله: نعم. قال:

فالشرائع؟ قال صلي الله عليه و آله: كانت مختلفة وقد مضت سنّة الأوّلين. قال: صدقت يامحمّد..» «2».

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 145

ولاية عليّ عليه السلام أصل في الدين لا من فروع الشريعة: … ص: 145

النقطة الثانية: إنّ جملة ما ورد من آيات قرآنية في ولاية عليّ وولده عليهم السلام وإمامتهم، وكذلك ما ورد من أحاديث نبويّة متواترة ومستفيضة في ذلك، دالّ علي أخذ ولايتهم وإمامتهم أصلًا إيمانياً قوامياً في الاعتقاد، كما أشبع ذلك علماء الإمامية ومتكلّميهم في كتبهم، وهذا يقتضي أخذ ولايتهم وإمامتهم ركناً في الدين الحنيف وهو الإسلام، لا أنّها فريضة في تفاصيل الشريعة بمقتضي ما تبين في النقطة الأُولي السابقة.

ويعزّز هذه الحقيقة قوله تعالي في آية الغدير: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإْسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ

غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» «1»

، وبيان الآية وإن كان له مقام آخر سيأتي، إلّاأنّ مفادها إجمالًا: إنّ الذي بلغه النبيّ صلي الله عليه و آله في ذلك اليوم من أخذ البيعة لعليّ عليه السلام في غدير خم من المسلمين، بها يتحقّق كمال الدين وهو الإسلام وهو الركن الركين لرضا الربّ لدين الإسلام، فبيّنت الآية أنّ ولايته وولاية ولده عليهم السلام مأخوذة ركناً في الدين، لا فريضة فرعية في تفاصيل الشريعة.

وسيأتي ثمّة وجه التعبير بأنّها (كمال الدين) ولم يعبّر أنّها (تمام الدين أي الفرق بين الكمال والتمام كما يعزّز هذه الحقيقة قوله تعالي في آية الغدير الثانية وهي: «يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ» «2»

، حيث جعل الباري تعالي تبليغ النبيّ صلي الله عليه و آله لبقية أجزاء الدين وللشريعة في طرف، وتبليغه لما أمر به في يوم

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 146

الغدير من حجّة الوداع في سورة المائدة في طرف آخر، وهذا ممّا يقضي بكون ولايته وإمامته هي بتلك المكانة في الشأن والأهميّة في الدين، أي من الأُصول الاعتقادية، فهي من الأركان في الدين الحنيف، لا من التفاصيل الفرعية في الشريعة.

وهذا هو مفاد آية المودّة أيضاً في قوله تعالي: «قُلْ لَاأَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي» «1»

، حيث جعل الباري تعالي مودّتهم في كفّة والرسالة في كفّة أُخري، سواء رجع ضمير (عليه) إلي الدين أو إلي جهده صلي الله عليه و آله في تبليغ الدين فإنّ المآل واحد، حيث إنّ قيمة العمل وأجرته هي بقيمة نتيجة العمل وهو الدين، فإذا قوبلت مودّتهم ببقية أجزاء الدين

برمّتها اقتضي ذلك كون مودّتهم هي الركن الركين في الدين، وعليه يظهر أنّ ولايته عليه السلام وولده المطهرين هي تتلو نبوّة خاتم الرسل في الموقعية فهي من الأركان الثابتة في الدين الحنيف وهو الإسلام.

وقد تبيّن ممن مضي ان الدين واحد وهو الذي بعث به جميع الأنبياء والرسل) وهو أمر لا نسخ فيه ولا تبديل، كما قال تعالي: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّي بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَي وَعِيسَي أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَي الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ* وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ» «2»

، فبيّن تعالي أنّ الدين الذي بُعث به الأنبياء وأُولو العزم واحد، لم يتفرّقوا فيه، وإنّ تفرّق أتباعهم ليس من الدين في شي ء، وإنّما هو لبغي الأتباع والأقوام. ويتّضح من ذلك أنّ جميع الأنبياء والرسل بُعثوا علي الإقرار برسالة خاتم النبيّين ومحبّة قرباه وولاية أهل بيته.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 147

القواعد الثلاث الأُمّ المحيطة في معرفة مقاماتهم … ص: 147

اشارة

القاعدة الأولي:

من شرائط قبول التوبة التوسّل والتوجّه بهم إلي اللَّه بعد المعرفة والتصديق بولايتهم.

القاعدة الثانية:

إنّ شرط صحّة العبادة وقبولها بل صحّة الإيمان باللَّه وبرسوله وبولايتهم هو التوجّه بهم إلي اللَّه بعد التصديق بولايتهم.

القاعدة الثالثة:

إنّهم عليهم السلام باب اللَّه الأعظم الذي منه يُؤتي للقرب والزلفي ونيل كلّ مقام، وإنّ دعاء العبد والعباد لا يستجاب إلّابعد أن يطلب النبيّ صلي الله عليه و آله من اللَّه تعالي ويسأله إجابة طلبهم، وهو معني شفاعته ووسيلته عند اللَّه تعالي كما سيتبين من الآيات.

أما القاعدة الأولي: وهي شرطية التوسّل والتوجّه بهم إلي اللَّه تعالي في صحّة وقبول التوبة بعد التصديق بولايتهم، فقد ذكر جملة من

المتكلّمين والمفسّرين والمحدّثين وفقهاء الإمامية: أنّ ولايتهم عليهم السلام من جملة شروط قبول وصحّة التوبة؛

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 148

لقوله تعالي: «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَي» «1»

، حيث اشترطت الآية في التوبة الهداية علاوة علي أصل الإيمان والعمل الصالح، وهي المشار إليها في آيات عديدة، كقوله تعالي: «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ» «2»

، وقوله تعالي: «إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ» «3»

، وقوله تعالي: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ» «4»

.وغيرها من الآيات فضلًا عن الروايات المستفيضة المشيرة إلي وجه دلالة الآيات علي ذلك. إلّاأنّ مقتضي جملة من الآيات والروايات إضافة شرط آخر وهو التوسّل والتوجّه بهم عليهم السلام إليه تعالي، ويدلّ عليه جملة من الآيات:

منها: قوله تعالي: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا» «5»

، فذكرت الآية ثلاثة شروط لحصول التوبة:

الأوّل: مجي ء مذنبي الأُمّة إلي الرسول. والمراد: الالتجاء والتوسّل والتوجّه به إلي اللَّه تعالي، فجعل تعالي ذكره التوجّه أوّلًا إلي نبيّه الذي هو الوسيلة، لكي يتمّ التوجّه من بعد إليه، كاستقبال المصلّي أوّلًا الكعبة متوجّهاً بها إلي اللَّه تعالي، فهذا

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 149

الشرط الأوّل من ناموس أدب الدعاء في القرآن الكريم.

ودعوي السلفية بشركية التوجّه في الدعاء إلي النبيّ وأهل بيته ردّ لهذه السنّة القرآنية العظيمة في أدب الدعاء، بل إنّ الآية ناصّة بكل وضوح علي أنّ دعاء أي داعي لا يستجاب إلّابطلب النبيّ صلي الله عليه و آله من اللَّه تعالي، فلا بدّ من سؤال النبيّ صلي الله عليه و آله من ربّه كي يستجاب طلب الداعي

الثاني: إعلان التوبة والاستغفار من الذنب.

الثالث: استغفار الرسول

صلي الله عليه و آله لهم بعد ذلك، وهو عبارة عن شفاعته لهم، فأيّ مذنب في هذه الأُمّة إلي يوم القيامة لا يغفر اللَّه له ذنبه إلّابشفاعة النبيّ صلي الله عليه و آله، فهذه الآية الكريمة هي من الآيات المتعرّضة لشرائط التوبة، حيث اشترطت لحصولها الشرائط الثلاثة الآنفة الذكر، وقد حكي الآلوسي في روح المعاني عن ابن عطاء في تفسير قوله تعالي: «لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا» «1»

، أي: لو جعلوك الوسيلة لديّ لوصلوا إليّ «2».

هذا وقد وردت عن أهل البيت عليهم السلام روايات مستفيضة تفيد أنّ الدعاء من الأوّلين والآخرين مطلقاً وبدون استثناء- محجوب حتّي يصلّي الداعي علي محمّد وآل محمّد، كصحيح صفوان الجمال عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: «كلّ دعاء يُدعي اللَّه عزّ وجلّ به محجوب عن السماء حتّي يصلّي علي محمّد وآل محمّد» «3».

ومثلها: صحيح هشام بن سالم «4»، ومثلها: رواية الخزار بسندٍ متّصل عن أبي ذر، عن النبيّ صلي الله عليه و آله، ومثلها: ما رواه الصدوق عن حارث الأعور عن أمير المؤمنين عليه السلام «5».

وفي موثقة السكوني عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: «من دعا ولم يذكر النبيّ صلي الله عليه و آله رفرف الدعاء علي رأسه، فإذا ذكر النبيّ صلي الله عليه و آله رُفع الدعاء» «6». وغيرها من الروايات.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 150

ومن الواضح أنّ التوبة والاستغفار من الذنب دعاء، فلا يرفع ولا تفتح له أبواب السماء إلّابالتوجّه بالنبيّ وآله، وسيأتي أنّ هذه الروايات تشير إلي مضمون عدّة من الآيات، فلابدّ من الالتفات إلي ذلك.

ويصبّ في مضمون قوله تعالي: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا» «1»

قوله تعالي: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ

يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ» «2»

، لكنّ الآية السابقة صريحة في الشرطية، وأمّا الآية الثانية فغاية دلالتها أنّ التوسّل والتوجّه بالنبيّ في التوبة والتسليم والخضوع والتعظيم لرسول اللَّه من مفاتيح الوفادة علي اللَّه تعالي، ومن علائم الإيمان، والاستكبار عن التوجّه بالنبيّ من صفاة النفاق والمنافقين.

التوجّه إلي النبيّ صلي الله عليه و آله بالدعاء … ص: 150

وهذه الآيات القرآنية هي الأُخري تدلّل علي أنّ من سنن ناموس الدعاء في القرآن التوجّه أوّلًا إلي النبيّ صلي الله عليه و آله والطلب منه للتوسّط عند اللَّه لقضاء الحاجة، وليس من الأدب الإلهي في دعاء العبد أن يتوجّه بالدعاء والطلب إلي اللَّه تعالي مباشرة ويصدّ عن التوجّه إلي النبيّ صلي الله عليه و آله تحت شعار الابتعاد عن الشرك والتفويض والغلوّ كما يدّعيه السلفية- فإنّ هذا عين الاستكبار والنفاق، كما صرحت به هذه الآية الكريمة، وهو عين المرض الذي ابتلي به إبليس؛ حيث أبي أن يتوجّه بآدم كالملائكة في عبادته وسجوده حيث توجّهت لآدم لتتوجّه بعد به إلي اللَّه تعالي

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 151

وكانت الملائكة بذلك موحّدين، بخلاف إبليس؛ فإنّه وصِفَ بالكفر، بل إنّ الآية تحصر استجابه دعاء كلّ داعي بأن يطلب النبيّ صلي الله عليه و آله من اللَّه تعالي حاجة العبيد كي يستجيب. وهو معني إستغفاره صلي الله عليه و آله وسؤاله، أي لابدّ من طلب النبيّ صلي الله عليه و آله.

ومنها: قوله تعالي: «إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَاتُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّي يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ» «1»

، فاشترطت الآية لفتح أبواب السماء التصديق بآيات اللَّه والخضوع لها، والمراد من آياته تعالي حججه المصطفون، كما في قوله تعالي: «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً» «2»

؛ وذلك لأنّ التكذيب في مقابل التصديق،

وهما في حقّ الحجّة المنصوب الذي يخبر عن اللَّه تعالي، خلاف الآيات التكوينية في الآفاق مثلًا، فإنّه إليها يقال غافلون عنها ولا يسند التكذيب.

فاشترط في الآية المباركة أمران:

الأوّل: التصديق والإيمان بالآيات.

والثاني: الخضوع لها والتوجّه إليها؛ لأن التعبير ب (استكبروا عنها) متضمّن لمعني الصدّ، فمقابله الخضوع للآيات والتوجّه إليها.

وممّا يدلّل علي أن المراد من الآيات الحجج المصطفون، ورود التعبير بنفس الشاكلة في إباء إبليس عن التوجّه بآدم في عبادة ربّه، كما في قوله تعالي: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَي وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ» «3»

.فشاكل التعبير بالإباء الاستكبار؛ إذ الإباء هو الجحود القلبي، والاستكبار هو في جانب العمل والصد، في مقابل الخضوع والتوجّه.

ومن الواضح أنّ فتح أبواب السماء لابدّ منه في التوبة لقبول دعاء الاستغفار. ثمّ إنّ الآية جعلت هذين الشرطين من شروط دخول الجنّة، وأكّدت استحالة ذلك

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 152

أي فتح أبواب السماء ودخول الجنّة من دون الإيمان بآيات اللَّه الحجج المنصوبين من قبله تعالي، ومن دون الخضوع والتوجّه بهم إليه تعالي، أي أنّه وإن حصل الإيمان بحجج اللَّه المصطفين لا يُفتح باب السماء للدعاء ولا يُدخل الجنّة من دون التوجّه إليهم والتوسّل بهم؛ ليحصل بذلك التوجّه إلي اللَّه تعالي، ولا يخدعنّك استكبار إبليس حيث أبي أن يتوجّه لآدم ويجعله قبلة في سجوده؛ ليحصل بذلك التوجّه إلي اللَّه تعالي كما فعلته كلّ الملائكة الموحّدين، بخلافه حيث أراد التوجّه مباشرة إلي اللَّه تعالي استكباراً وصدّاً عن خليفة اللَّه تعالي ووسيلة فما يقوله السلفية وتفويض وغلو هي مقوله إبليس وقد رد القرآن مقولته.

ثم إنّ هذه الآية لا تقتصر في الدلالة علي القاعدة الأُولي، بل هي تدلّ علي القاعدة الثانية؛ حيث إنّ فتح أبواب

السماء ليس فقط في مقام الاستغفار والتوبة، ولا يقتصر علي مطلق الدعاء، بل هو في مطلق التوجّه والنية في مقام العبادة للإقبال والوفود علي الحضرة الإلهية، وفي صعود الأعمال والعقائد وقبولها، كما في قوله تعالي: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» «1»

، فإنّ صعود الكلم الطيب وهو المعتقد ورفع العمل الصالح لا يتمّ إلّابفتح أبواب السماء، ومفاتيح أبواب السماء هي أوّلًا: التصديق بحجج اللَّه المصطفون الذين اصطفاهم بالطهارة، وثانياً: الخضوع لهم بالتوجّه بهم إلي اللَّه تعالي، لا الاستكبار والصدّ عنهم.

ومعني التوجّه بهم إليه تعالي: هو التوجّه إليهم لكي يحصل التوجّه إليه تعالي ولهذا أمر تعالي الملائكة بالتوجّه لآدم في السجود كي يحصل التوجّه إليه تعالي،

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 153

وكما هو الحال في التوجّه في العبادة إلي الكعبة ليتوجّه إلي الباري تعالي ولهذا ابتدأت الآيتان السابقتان بذلك «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ» «1» و «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ..» «2»

، فالمجي ء إلي الحضرة النبويّة أوّلًا هو التوجّه للنبيّ صلي الله عليه و آله أولًا ليطلب لهم من اللَّه تعالي وليحصل لهم التوجّه إليه تعالي مآلًا، بل إنّ هذه الآية تدلّ علي القاعدة الثالثة، وتقريب دلالتها أنّ التعبير بأبواب السماء وفتحها وهو تعبير عن مسير الوفادة إلي الحضرة الإلهية، وبيان لمسافة القرب والزلفي إلي الساحة الربوبية، فهو بيان للاستقبال والتوجّه إلي الحضرة الربانية، فكما تُستقبل القبلة ويُتوجّه بها إلي اللَّه فكذلك لابدّ في الاستقبال والتوجّه القلبي من التصديق بآياته وحججه والخضوع لطاعتهم والتوجّه بهم إليه في مطلق المقامات القُربية والزلفية، فيمتنع علي المستخفّين بحجج اللَّه والمستهينين بهم الصادّين عن التوجّه إليهم وبهم إلي اللَّه أن تفتح لهم أبواب القرب الإلهي.

كما طُرد إبليس

من درجة القرب وحُرمت عليه الرحمة الإلهية، وأُسقط من مقام الزلفي إلي حضيض البعد وهاوية اليأس وقعر الحرمان واللعنة؛ لاستكباره علي خليفة اللَّه وإباءه عن استقبال آدم في السجود والتوجّه به إلي اللَّه، فهو بذلك لم يقصّر في آداب العبودية مع الحضرة الربوبية فقط، بل امتنع عليه الوفود إليه تعالي، وإلي ذلك تشير الآية الكريمة: «قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ* قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ» «3»

، فمن أُصول السنن الإلهية في أدب التوجّه واللقاء

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 154

والقرب هو الخضوع لآياته وأصفياءه الذين نصّبهم حججاً علي خلقه، بالتوجّه إليهم ليتّخذهم وسيلة إلي اللَّه.

حقيقة ابتغاء الوسيلة هو قصدها: … ص: 154

ومنها: قوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» «1»

والآية يمكن أن يذكر في إعرابها احتمالان:

الأوّل: أن يكون قوله (ابتغوا) قد أُسند إلي كلّ من (إليه) و (الوسيلة)، فيعمل فعل (ابتغوا) في كلّ من الجار والمجرور والاسم وهو الوسيلة، وعلي ضوء هذا التقدير في الإعراب يكون الابتغاء- وهو القصد والتوجّه- قد جعل متعلّقاً بكلّ من الجار والمجرور والوسيلة.

وحاصل المعني حينئذٍ أنّه في مقام القصد يتوجّه إلي كلّ من الساحة الربوبية ويتوجّه إلي الوسيلة، غاية الأمر يكون التوجّه إلي الوسيلة مقدّمة للتوجّه إلي الساحة الربوبية.

الثاني: أن يكون فعل (ابتغوا) أُسند إلي (الوسيلة) فقط، أي أنّه يعمل في هذه اللفظة فقط، ويكون مفعول به للفعل، وأمّا الجار والمجرور فهو متعلّق بنفس الوسيلة، والذي يعمل في الجار والمجرور هو لفظ (الوسيلة) بما اشتمل من معني الحذف، فيكون حاصل المعني حينئذٍ- أنّ القصد والتوجّه والابتغاء هو إلي الوسيلة

ابتداءً وحصراً، غاية الأمر أنّ الوسيلة التي يتوجّه إليها هي تلك التي بذاتها تُوصّل وتُسلك بالذي يتوجّه إليها وبها إلي الساحة الربوبية، ويعضد هذا المعني وهو كون ابتغاء الوسيلة هو بالتوجّه إلي الوسيلة وقصدها ليحصل التوجّه إلي اللَّه

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 155

تعالي مآلًا ومنتهيً جملة من الشواهد:

منها: إنّ اتّخاذ الوسيلة المأذون بها من قِبله تعالي مقتضاه أنّ مقام الإقبال والارتياد للقرب لا يُطوي إلّابالوسيلة؛ لأنّ الوسيلة هي ما يُتوسّل به ويُعالج به لبلوغ غاية. فإذاً كان القصد إليه تعالي والتوجّه إليه كمنتهي الغايات يتوقّف علي الوسيلة، مع أنّ الباري تعالي أقرب إلينا من حبل الوريد من جانبه، لكنّه ليس قرباً مكانياً كقرب جسم من جسم يستلزم قرب أحد الطرفين قرب الطرف الآخر، بل قربه تعالي منّا قرب قدرة وهيمنة وقيمومة، وهو كمال سيطرته وقاهريته علي عباده.

وأمّا من طرف العباد، فمسيرهم إلي شاهق الساحة الربوبية ذو مسافة بعيدة؛ لبعدهم وقصورهم عن الكمال المطلق، فلا يتسنّي لكلّ وارد أن يهتك الحجب.

ومنه يظهر أنّ الآية في بيان سنّة إلهية دائمة دائبة في كلّ المخلوقات للتوجّه إلي الحضرة الإلهية.

ومنها: إنّ الآيات وسيلة لمعرفة الربّ عند القلب والعقل؛ فإنّ الباري تعالي من عظمته لا يُكتنه ولا يُكتنف ولا يُحاط به، كما لا يملس ولا يجبه ولا يمسّ ولا يجسّ؛ إذ ليس هو بجسم وليس بروح وليس بعقل، فلا يجسّم ولا يشبّه بأحد من خلقه، إلّاأنّ نفي التشبيه بمراتبه لا يستلزم التعطيل، بل إنّ فعله دالّ عليه، ولا سيما عظائم خلقه وهي آياته الكبري، ومنها يتعرّف العقل ويهتدي إليه تعالي وإلي عظيم صفاته، كما هو محرّر مبسوط في مباحث المعرفة التوحيدية.

فبين نفي التشبيه ونفي التعطيل إقامة التوحيد، تتحقّق بدلالة الآيات، كما

أشارت إلي ذلك الصدّيقة الزهراء فاطمة عليها السلام في مستهل خطبتها، حيث قالت:

«وأحمد اللَّه الذي لعظمته ونوره يبتغي من في السموات والأرض إليه الوسيلة، ونحن

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 156

وسيلته في خلقه، ونحن خاصّته ومحلّ قدسه، ونحن حجّته في غيبه» «1»

.فتعلّل سلام اللَّه عليها- ضرورة الوسيلة وابتغاءها بشدّة عظمة اللَّه، وحيث إنّ التعطيل مفروغ من بطلانه، فتحتّمت ضرورة الوسيلة فالبرهان المتقدّم مستفاد من كلامها عليها السلام.

ويُستفاد البرهان المتقدّم أيضاً من قول أمير المؤمنين عليه السلام: «اللَّه عزّ وجلّ حامل العرش والسماوات والأرض … «أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا» «2»

… وبعظمته ونوره ابتغي من في السماوات والأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة..» «3»

ومثلها عن الإمام أبي الحسن موسي عليه السلام «4».

فاذا كانت معرفة العقل هي بوسيلة الآيات والتوجّه إليها والتدبّر فيها يحصل التوجّه مآلا إليه تعالي، ومعرفة العقل والقلب هي الإيمان وهي عبادة العقل والقلب؛ لأنّ الإيمان إخبات وتسليم وإذعان وخضوع وانقياد وهو معني العبادة، ومن ثمّ أُشير في تفسير قوله تعالي: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإْنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» «5»

، أي (ليعرفون) ففُسّرت العبادة بالمعرفة، كما في النصوص المستفيضة وتفاسير الفريقين؛ لأنّ المعرفة والإيمان من العقل، يعني عدم إباءه وعدم جحوده وعدم تمرّده وطوعانيته وخضوعه للحقّ، وهو حقيقة العبادة المتصوّرة من جوهر العقل، فإذا كانت معرفة التوحيد والعبادة التوحيدية في العقل لا تقام إلّابالتوسّل

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 157

بالآيات والتوجّه إليها وقصدها ليحصل إليه تعالي فهي بابه الأعظم الذي منه يُؤتي، فبماذا يلهج هؤلاء السلفية وأنّي يُصرفون عن التوجّه إلي الوسيلة ويزعمون أنّهم يتوجّهون مباشرة إليه تعالي؟ وهل وجدوا من أنفسهم أنّهم أقرب الخلق إليه تعالي، وإذا كان هذا حال

العقل فكيف بمن دونه؟

فالعبادة لا تقتصر علي بدن الإنسان وحركاته، ولا علي النفس وأفعالها الجانحية من النية والقصد، بل يعمّ عبادة أفعال العقل والقلب والروح، وإذا كانت هذه الثلاثة التي هي أقرب إلي اللَّه تعالي تحتاج في عبادتها بل مطلق قصدها وتوجّهها إلي اللَّه تعالي إلي التوجّه إلي الآيات وقصدها، فكيف بما دونها، وإذا كان للآيات أخطر دور في علاقة العبد بالباري وهو مقام المعرفة وأنّ معرفتها معرفته تعالي والتوجّه إليها توجّه إليه تعالي، يتّضح أنّ آياته الكبري هي بابه الأعظم الذي منه يُؤتي ومنه الوفاد إلي الحضرة الإلهية.

وبذلك يتّضح ما ورد «بنا عُبد اللَّه وبنا عُرف» «1».

ومنها: تعاضد دلالة آية الوسيلة مع السابقة الدالّة علي كون الآيات مفتاح أبواب السماء ومفتاح دخول الجنّة، حيث دلّت علي أنّ الآيات الإلهية ممّا يتوجّه بها إليه تعالي، وأنّها مفتاح التوجّه والسير إليه عزّ شأنه، والآية هي العلامة الدالّة، فيتطابق معناها مع الاسم؛ لأنّ الاسم من الوسم وهو العلامة أيضاً.

فتكون الآيات الإلهية هي أسماءه الحُسني التي قال عنها تعالي: «وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَي فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» «2»

فأتي في الآية بلفظ الجمع، ممّا يدلّ علي كثرتها، مع أنّ اللَّه هو الواحد الأحد، فالأسماء كثرة لكن المسمّي هو الواحد الأحد، فهي دوال عليه.

وهذه الدلالة هي حقيقة الآيات؛ إذ العبادة للمسمّي الواحد الأحد، لا للكثرة ولا للأسماء ولا للآيات الدالّة عليه، كما يستفاد هذا البيان العقلي من قول الإمام الصادق عليه السلام، من صحيحة هشام بن الحكم أنّه سأل أبا عبد اللَّه عليه السلام عن أسماء اللَّه

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 158

واشتقاقها: «اللَّه ممّا هو مشتقّ؟ فقال: يا هشام، اللَّه مشتقّ من إله وإله يقتضي

مألوهاً، والاسم غير المسمّي، فمن عبد الاسم دون المعني فقد كفر ولم يعبد شيئاً، ومن عبد الاسم والمعني فقد أشرك وعبد اثنين، ومن عبد المعني دون الاسم فذاك التوحيد، أفهمت ياهشام؟

قال: قلت: زدني. قال: للَّه تسع وتسعون اسماً، فلو كان الاسم هو المسمّي لكان كلّ اسم منها إلهاً، ولكن اللَّه معني يدلّ عليه بهذه الأسماء وكلها غيره. يا هشام، الخبز اسم للمأكول، والماء اسم للمشروب، والثوب اسم للملبوس، والنار اسم للمحرق، أفهمت يا هشام فهماً تدفع به وتناضل به أعدائنا المتّخذين مع اللَّه غيره؟ قلت: نعم. فقال: نفعك اللَّه به وثبّتك يا هشام.

قال: فواللَّه ما قهرني أحد في التوحيد حتّي قمت مقامي هذا» «1».

فإذاً، تبيّن أنّ الأسماء الحُسني التي يُدعي بها الربّ ويُتوجّه إليها وبها إليه، وهي الأبواب التي منها يُقصد وهي الآيات الكبري التي أُمر العباد بتصديقها والخضوع لها والتوجّه بها، وأُنذروا عن التكذيب بها والاستكبار عنها، وهي حججه المصطفين، وهي كلماته التامّات.

كما أُطلق لفظ الآية والكلمة علي عيسي، في قوله تعالي: «وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا» «2»

وكما في قوله تعالي في وصف يحيي أنّه مصدّق بعيسي، خطاباً لزكريا: «أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَي مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ» «3»

، فأطلق علي عيسي أنّه الكلمة التي يُصدق بها، نظير الأمر بتصديق آيات اللَّه وعدم التكذيب بها، كما ورد في وصف مريم: «وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ» «4»

،

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 159

فغاير بين الكلمات والكتب، فجعلت الكلمات مقابل الكتب، وأنّها عليها السلام صدّقت بالكلمات.

فيظهر من ذلك: إنّ الكلمات التي يُصدّق بها وكذا الآيات التي لا يصدق بها ولا يكذّب بها، لأنّ التكذيب والتصديق للخبر، فالآية التي توصف بذلك هي ذات مؤدّي خبري وهو الحجّة المنصوب من

قبله تعالي يخبر عنه، فالحجج المصطفون هم الآيات التي لا يُكذّب بها ولا يُستكبر عنها، كما قد أطلقت علي النبيّ عيسي ليتبين أنّ المراد بها هم الحجج الذين اصطفاهم اللَّه، كما أنّهم هم الأسماء الحسني التي يُتوسّل بها ويتوجّه، ويُدعي الربّ بها، بعد ما تبين تطابق معني الاسم والآية والكلمة في أصل المعني لغةً بمعني العلامة الدالّة.

ثمّ إنّ الآية الأُولي، وهي قوله تعالي: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا» «1»

، دالّة علي القاعدة الثانية والثالثة، ولا تقتصر دلالتها علي القاعدة الأُولي.

إنحصار إجابة الدعاء بطلب النبيّ صلي الله عليه و آله منه تعالي: … ص: 159

وذلك لأنّه إذا كان التوسّل والتوجّه بالنبيّ شرط في التوبة لكلّ من أذنب من هذه الأُمّة، بل اشترط علاوة علي ذلك في قبول التوبة تشفّع وشفاعة الرسول ووساطته، والتوبة من العبد هي الأوبة والإياب والرجوع إلي الساحة الإلهية بتوطين النفس علي الطاعة والانقياد وترك التمرّد والإعراض، فماهية التوبة ذاتياً الخضوع العبادي والانقياد القربي، وبالتالي فهذان الشرطان، وهما: التوجّه بالنبيّ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 160

وشفاعة النبيّ صلي الله عليه و آله دخيلان في قبول هذه العبادة؛ إذ توبة اللَّه علي العبد التي هي معني (لوجدوا اللَّه تواباً رحيماً) هو قبول الباري لهذه العبادة وإقباله علي العبد بالرحمة وفيض الكمالات والعطاء بالمنح والهبات والفضل العميم والمنّ الكثير.

والأوبة من العبد في حقيقتها هي حالة وصفة الانقياد السارية في حقيقة كلّ العبادات؛ لأنّ كلّ عبادة هي نمط من الانقياد والخضوع وقوامها بذلك، فإذا كانت السنّة الإلهية في الانقياد هي اشتراطه بالتوجّه والتوسّل بالنبيّ صلي الله عليه و آله وليس مجرّد ذلك فقط، بل لابدّ من قيام النبيّ صلي الله عليه و آله بالشفاعة والتشفّع لدي اللَّه في قبول عبادات أُمّته كي

يقبلها الباري.

فلا يكفي الحُسن الذاتي لعبادة العبد وهو ما يعرف بالحسن الفعلي- ولا يكفي ضمّ الحُسن الفاعلي أيضاً وهو انقياد العبد إلي اللَّه وإلي نبيه بالتوجّه إليهما والتوسّل برسوله- بل لابدّ من ضمّ وساطة الرسول وشفاعته وتشفّعه لدي اللَّه في قبول عبادات أُمّته، والعبادات أعظم أعمال الأُمّة، ولابدّ من تشفّعه صلي الله عليه و آله لدي الباري كي يقبل عبادات وأعمال الأُمّة، وهذا وجه قوله تعالي: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» «1»

.فوصف تعالي نبيه بالرحمة الواسعة العظيمة الشاملة لكلّ العالمين والعوالم؛ إذ العالم هو اسم جمع، فكيف بجمع الجمع؟ وكيف مع دخول (ال) للاستغراق؟

فمن ثمّ كان صاحب الشفاعة الكبري والوسيلة العظمي، كما ورد في روايات الفريقين.

وهو وجه قوله تعالي: «وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ» «2»

، وصلاته علي الأُمّة دعاءه وتشفّعه لدي اللَّه في حق أمته ومثله قوله تعالي: «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 161

أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ» «1»

، فخلع تعالي عليه خلعة ربانية عظيمة، وهي وصفين من الأسماء الحُسني: الرؤوف والرحيم «2»، وقال تعالي في وصفه صلي الله عليه و آله: «أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ» «3»

.فكرّر تعالي في وصفه صلي الله عليه و آله بأنّه: الرحمة الإلهية والأمان للمؤمنين. وقال: «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ» «4»

، فاشترط تعالي لحصول محبّته لعباده اتّباع نبيّه.

حقيقة التوسّل والتوجّه بالنبيّ صلي الله عليه و آله تقديمه أمام التوجّه والطلب من اللَّه تعالي، وهو معني الوفادة به علي اللَّه: … ص: 161

فيُعلم من ذلك أنّ الأُمّة في وفودها علي باريها بعباداتها وأعمالها لابدّ عليها من أن تأتي إلي باب اللَّه الأعظم الذي منه يُؤتي، وهو سيّد أنبياءه، ومع كلّ ذلك لابدّ لكي يعود الربّ تعالي بالرحمة علي هذه الأُمّة، ولكي يقبل وفادتها إليه، أن

تفد بنبيّها وتقدّمه بين يدي اللَّه، وبعبارة أُخري: إنّ التوجّه بالشي ء لغةً عبارة عن جعله وجهاً وأماما وإماماً، فالتوجّه بالنبيّ عبارة عن جعله الوجه المتقدّم للوفود علي

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 162

الساحة الربوبية، وكذلك معني التوسّل بالنبيّ صلي الله عليه و آله لغةً فان معني الوسيلة هو بالتوجّه إليها أوّلًا ليمهّد ويوطّد ويهيّئ له الوصول إلي الشي ء الآخر، وليس معني التوسّل بالوسيلة الإعراض عن التوجّه إليها بالتوجّه مباشرة إلي الغاية والمنتهي؛ فإنّ هذا ترك للأخذ بالوسيلة.

ولابدّ في كلّ ذلك من أن يشفع لهم النبيّ صلي الله عليه و آله لدي الباري تعالي، ويطلب منه ويسأله في قضاء حوائجهم، وشفاعته وبابيته ووساطته لا تقتصر علي محو ذنوب الأُمّة، بل وكذلك تشمل في نيل الدرجات والمقامات، بل لا يقتصر ذلك علي هذه الأُمّة، بل تعم جميع الأُمم من الأوّلين والآخرين.

وساطة النبيّ وشفاعته في نيل جميع الأنبياء والمرسلين للنبوّة والمقامات: … ص: 162

بل تعم جميع الأنبياء والمرسلين، كيف لا؟ ولم يعطِ الباري تعالي نبوّة لنبيّ من الأنبياء إلّابعد تسليمهم لولاية النبيّ وطاعته والخضوع له، وأخذ في ذلك عليهم العهد المغلظ الشديد، ولم يكتفِ بذلك، بل أشهدهم علي ذلك، وأشهد عليهم ذاته الأزلية، وهذا مفاد قوله تعالي: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَي ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» «1»

، فالميثاق الذي أخذه اللَّه علي النبيّين هو علي ولما أتاهم من نبوّة وحكمة، وفي مقابل ذلك شرط عليهم وأخذ العهد علي أن يؤمنوا ويتدينوا بنبوّة سيد الرسل، وبأن يلتزموا بمناصرته وطاعته وموالاته، ثمّ أخذ تعالي بعد ذلك الميثاق، أخذ الإقرار والالتزام والتعهّد منهم بتلك المشارطة والمعاوضة، ثمّ في المرتبة الثالثة شدّد

عليهم عهده، وغلّظ، وبيّن عظمته، ثمّ في المرتبة الرابعة أشهد عليهم.

فلم يستحصل الأنبياء علي النبوّة والكتاب والحكمة فضلًا عن بقية المقامات الغيبية إلّابالموالاة والطاعة والخضوع لسيد الأنبياء، والتوجّه به إلي اللَّه، فشفاعته صلي الله عليه و آله يضطرّ إليها جميع الأنبياء والمرسلين فضلًا عن جميع الأُمم، فنيل

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 163

كلّ مقام للأصفياء المصطفين لا يتمّ لهم إلّابالتوجّه إلي باب اللَّه الأعظم، وهو سيد الأنبياء.

ويشير إلي توسّل الأُمم السابقة بسيد الأنبياء ما في قوله تعالي: «وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَي الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَي الْكَافِرِينَ» «1»

، والآية نازلة في اليهود، حيث كانوا يؤمنون بمجي ء خاتم الأنبياء من قبل، وكانوا في حروبهم مع الكفّار يستفتحون بالنبيّ ويتوسّلون به إلي اللَّه؛ لكي ينزل النصر عليهم، فلمّا جاءهم النبيّ صلي الله عليه و آله الذي يعرفونه وكانوا يتوسّلون به كفروا به، فمفاد الآية أنّ مقتضي الإيمان بخاتم الأنبياء هو الاستفتاح به.

والاستفتاح هو طلب الفتح لكلّ باب من أبواب البركة والنصر والخير والسعادة والنعيم والنصر، وكلّ فوز عظيم وغنم جزيل، فالاستفتاح ينطوي علي معني طلب الفتح والمفتاح، وقد تقدّم قوله تعالي: «إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَاتُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّي يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ» «2»

، حيث بينت هذه الآية أنّ الإيمان بآيات اللَّه والتصديق والإقبال والتوجّه إليها وتعظيمها هو المفتاح الذي تُفتح به أبواب السموات، أي أنّه الباب الذي يفتح منه كلّ باب، فهو باب الأبواب وباب اللَّه الأعظم، وقد أقرّ الباري تعالي استفتاح أهل الكتاب بالنبيّ، وأنّ ذلك من تشريع اللَّه لهم في

الديانة التي بعث بها أنبيائهم في جميع الشرائع السماوية السابقة، أي أنّ التوسّل والتوجّه بسيد الرسل صلي الله عليه و آله كان من الدين الواحد المتّفق الذي بُعث به جميع الأنبياء علي اختلاف شرائعهم.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 164

كيف لا يكون سيد الأنبياء استفتاح لكلّ شي ء بعد اسم اللَّه مع أنّ كلّ شي ء يستفتح ب (بسم اللَّه الرحمن الرحيم)، إلّاأنّ فتح هذا الاستفتاح لابدّ أن يقرن باسم الحبيب المصطفي، فهو صلي الله عليه و آله استفتاح لكلّ خير ولنيل كلّ مقام وفضل وكمال وإسعاد، كيف لا يكون ذلك وقد تقدّم قوله تعالي: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ..» «1»

، إن جميع الأنبياء استأهلوا النبوّة بشرف الإقرار بولاية النبيّ صلي الله عليه و آله وولاية عليّ عليه السلام كما سيأتي.

وقد روي الفريقان: أنّ آدم لمّا اقترف الخطيئة ما كان اللَّه ليغفر له لولا توسّله وتوجّهه إليه تعالي بسيد الأنبياء وأهل بيته «2»، وهي الكلمات التي تلقّاها في قوله تعالي: «فَتَلَقَّي ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ» «3»

، بل ورد أنّ هذه الكلمات هي الكلمات التي امتحن بها إبراهيم فأُعطي مقام الإمامة، كما في قوله تعالي: «وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ..» «4»

، ويُشاهد أنّ التعبير ورد (بكلمات) لا بكلمه، أي بصيغة الجمع.

وقد تقدّم أنّ الكلمة أُطلقت علي النبيّ عيسي، وتصديق مريم بالكلمات أُطلقت علي أولياء اللَّه الحجج في مقابل التصديق بكتبه، وأنّ (الكلمة) متطابقة مع (الآية)، وقد أطلقت (الآية) علي النبيّ عيسي. فظاهر التعبير بالجمع في الكلمات التي تلقّاها آدم، والتي قد رويت في طرق أهل سنّة الجماعة أنّه النبيّ صلي الله عليه و آله-

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 165

والجمع يقتضي أنّه سيد الأنبياء، وكذا أهل بيته الذين قُرنوا

معه في آية التطهير وأُشركوا معه في إرادة الربّ بتطهيرهم، كما قُرنوا معه صلي الله عليه و آله في احتجاج اللَّه بهم علي أهل الكتاب، أي أنّهم حجّة للَّه علي أهل الكتاب والأُمم إلي يوم القيامة، كما شهد لهم القرآن بأنّهم يعلمون الكتاب المكنون في اللوح المحفوظ الذي لا يمسّه إلّا المطهّرون كما ورد في سورة الواقعة- فهم أصحاب وصف التطهير في هذه الأمة بتخصيص القرآن.

كما يعطي امتحان إبراهيم بتلك الكلمات أنّ أُولئك الحجج الذين امتُحن بهم النبيّ إبراهيم هم ممّن نال مقام الإمامة بالتوجه بهم إلي اللَّه والتصديق والإقرار والتسليم بولايتهم.

وقد مرّت دلالة آية الميثاق علي النبيّين أنّهم لم ينالوا مقام النبوّة إلّابالتصديق والتسليم لولاية سيد الأنبياء، كما قد تقدّم في المقالات السابقة من هذا الفصل أنّ جملة من الآيات القرآنية في السور المتعدّدة دلّت علي أخذ ولاية عليّ عليه السلام في أُصول الدين الواحد، وهو الإسلام الذي بُعث به جميع الأنبياء من آدم إلي النبيّ عيسي، وإن اختلفت شرائعهم.

ومنها: قوله تعالي: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» «1»

وهذه الآية وإن خصّها جمع من مفسّري الفريقين في الشأن العام السياسي، ولكنّ الصحيح كما بسطنا الكلام فيه في ما تقدّم- أنّها في مطلق شؤون الدين؛ إذ طاعة اللَّه لا تُحدّ بحدود، بل هي بسعة الدين كلّه، فكذلك طاعة الرسول وأُولي الأمر، لا سيما أنّ الأمر المراد منه هو الأمر المتنزّل في ليلة القدر، كما في سورة القدر والدخان والنحل وغافر، وغيرها من السور.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 166

معني شرطية الولاية في صحّة العبادات: … ص: 166

فالأمر في (أولي الأمر) عالم الأمر من الملكوت، وكما في سورة الشوري:

«رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا» «1»

، فأصحاب وأولياء الأمر هم أصحاب روح القدس الأمري، هؤلاء طاعتهم بتبع طاعة الرسول،

وطاعته صلي الله عليه و آله بتبع طاعة اللَّه تعالي، وهي في كلّ دائرة الدين، ومنها أبواب العبادات، فكما يتعلّق الأمر الإلهي بالعبادات كالصلاة وغيرها، فكذلك الأمر النبوّي والأمر الولوي قد تعلّق برسم حدود العبادات وأجزاءها وشرائطها، ولذلك فقد اشتملت العبادات علي فرائض إلهية وسنن نبوية وسنن ولوية، والقرب العبادي للَّه تعالي في العبادة وإن لم يذكر في علم أُصول الفقه لا يتمّ إلّابطاعة الأصناف الثلاثة من الأوامر في العبادات، فالطاعات الثلاث هي التي تحقّق القرب العبادي للَّه تعالي، وهذا بيان آخر لكون التوجّه بهم يحقّق القرب إلي الباري تعالي وبدونه لا يتحقق.

وبعبارة أُخري، أنّه قد حُرّر في مبحث التعبّدي والتوصّلي في علم أُصول الفقه: قوام العبادية في العبادات بنية القربي، وأنّ نية القربي هي قصد للمسبّب لا تحصل إلّابنية وقصد السبب، وهو قصد امتثال الأمر الإلهي المتعلّق بالصلاة والصوم والحجّ وغيرها من العبادات، حيث إنّ قصد المكلّف كونه ماثلًا أمام الإرادة الإلهية وخاضعاً وطائعاً للأمر الإلهي، يوجب الزلفي والاقتراب من الساحة الإلهية.

وما ذكره علماء الأُصول وإن كان متيناً، إلّاأنّهم لم يستوفوا تمام أطراف البحث، فإنّ العبادات كما قد تعلّق بها الأمر الإلهي ك: (أقيموا الصلاة) و (آتوا الزكاة) و (كتب عليكم الصيام) و (قاتلوا في سبيل اللَّه) وغيرها من الأوامر الإلهية

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 167

المتعلّقة بالعبادات، فكذلك قد تعلّق الأمر النبويّ بتلك العبادات؛ فإنّ جملة عديدة من أجزاء العبادات إنّما هي سنن نبويّة بأمر منه صلي الله عليه و آله، نظير السبع الركعات التي أمر بها صلي الله عليه و آله في الفرائض، كما روي ذلك الفريقان، ومن الواضح حينئذٍ، أنّ صحّة الصلاة اليومية مثلًا متوقّفة علي امتثال أمر الرسول صلي الله عليه و آله أيضاً.

فقصد

امتثال الأمر يعمّ كلّ من أمر اللَّه تعالي وأمر رسوله في العبادات، والامتثال والطاعة هي شاملة لكلّ من امتثال وطاعة أمر اللَّه وأمر رسوله.

وكذلك الحال لأُولي الأمر المتنزّل في ليلة القدر، فإنّ جملة غفيرة من الشرائط والموانع وتفاصيل الأجزاء إنّما هي بأوامر أئمّة أهل البيت عليه السلام ومنهاجهم وهديهم، فالعبادة والصلاة والصوم والزكاة وغيرها لابدّ أن يؤتي بها علي صورة منهاجهم وهديهم وطريقتهم، وذلك بامتثال أوامرهم المتعلّقة بالعبادات.

فيتّضح بذلك أنّ قصد الأمر المحقّق لنية القربي في العبادات الذي ذكره علماء الفقه والأُصول لابدّ أن يعمّ الأوامر الثلاثة، وأنّ الامتثال والطاعة في عبادية العبادة هي لكلّ من أمر اللَّه وأمر رسوله وأمر أولياء أمره.

وبذلك تتحقّق العبادة الخالصة للَّه تعالي وحده من دون استكبار النفس، وهو الذي أخفق فيه إبليس اللعين حينما ترك التوجّه بآدم في العبادة. ويتّضح عموم آية الطاعة للعبادات ولدائرة الدين، وأنّ هذا المعني قراءة جديدة لمعني أخذ ولايتهم عليهم السلام في صحّة العبادات.

ثمّ إنّه قد اتّفقت كلمات فقهاء الإمامية علي رجحان دعاء التوجّه قبل تكبيرة الإحرام في الصلاة، بل جملة كلمات المتقدّمين والمتأخّرين علي رجحانه بعد تكبيرة الإحرام قبل قراءة الحمد، وهي فتوي بالنصّ المأثور «وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، علي ملّة إبراهيم ودين محمّد صلي الله عليه و آله ومنهاج عليّ، حنيفاً مسلماً

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 168

وما أنا من المشركين» «1»

.وفي النصّ الآخر بعد ومنهاج عليّ «والائتمام بآل محمّد حنيفاً مسلماً» «2»

.وفي بعض النصوص «وهدي عليّ أمير المؤمنين عليه السلام» «3»

.وفي مصباح المتهجّد للشيخ الطوسي: «اللهمّ ربّ هذه الدعوة التامّة والصلاة القائمة بلّغ محمّداً صلي الله عليه و آله الدرجة والوسيلة والفضل والفضيلة، باللَّه استفتح وباللَّه أستنجح، وبمحمّد رسول اللَّه صلي الله

عليه و آله أتوجّه، اللهم صلّي علي محمّد وآل محمّد، واجعلني بهم عندك وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقرّبين» «4».

وقد اتّفقت أيضاً- كلمة جمهور مذاهب المسلمين علي رجحان التسليم علي النبيّ صلي الله عليه و آله بلفظ: «السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته» وذلك قبل التسليم المُخرِج من الصلاة، أي أنّ التسليم علي النبيّ صلي الله عليه و آله يأتي به المصلّي ولمّا يخرج بعد من الصلاة.

ومؤدّي هذا التسليم من المصلّي وهو في صلاته أنّه زيارة من المصلّي إلي النبيّ صلي الله عليه و آله من كلّ الأُمّة، من كلّ مؤمن ومسلم، في اليوم خمس مرّات، بل في كلّ صلاة يأتي بها، كما أنّ هذه الزيارة والتسليم للنبيّ ينطوي علي مخاطبة النبيّ ب (كاف) الخطاب، كما ينطوي علي نداء النبيّ ومخاطبته صلي الله عليه و آله ب (ياء) النداء القريب:

«أيّها».

وهذا كلّه من التسليم والزيارة للنبيّ صلي الله عليه و آله ومخاطبته بالنداء القريب والمصلّي في صلاته ونجواه لربّه وخطابه مع بارئه، ففي محضر الوفادة الربانية والضيافة

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 169

الإلهية يتوجّه المصلّي بالالتفات لنبيّه؛ إذ هو باب اللَّه الأعظم، فكما بدأ صلاته بالإقرار بالرسالة للنبيّ صلي الله عليه و آله بعد الإقرار بالتوحيد في الأذان والإقامة وتوجّه به في بدو الصلاة، عاود التوجّه إليه وبه إلي اللَّه، فهذه الصلاة التي هي عمود الدين ومعراج المؤمن إلي ربّه ونجواه مع خالقه يزدلف إلي ربّه بالولاية لنبيّه والتعظيم له وتوقيره.

«الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإْنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ

الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «1»

، وقال تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَاتَشْعُرُونَ* إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَي لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ* إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَايَعْقِلُونَ» «2»

.فتري ما أوجب تعالي من التعظيم والمهابة لنبيّه أن افترض عدّة من السنن والآداب والخضوع في محضر النبيّ، جعل جزاء الإختلال بها ولو كرفع الصوت- حبط جميع الأعمال، وأنّ تعظيم النبيّ وإجلاله هو من تقوي القلوب، وأنّ الذين يستخفّون بمقام النبيّ ليس لهم شعور ولا عقل، أي من زمرة البهائم.

وكلّ هذا التعظيم الإلهي بمراسم ورسوم في سنن الآداب الإلهية لنبيّه لم يرد في حقّ نبيّ من الأنبياء، فهذا المحلّ من القدس من الباري هداية منه تعالي إلي الباب الذي منه يُؤتي، وجعل تعالي الصدّ عن هذا الباب الأعظم وعن الالتجاء إليه

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 170

من صفات المنافقين، حيث قال: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ» «1»

.كما قرن تعالي رضاه برضي رسوله، فقال: «يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ» «2»

، فجعل باب رضاه رضي رسوله، كما قرن حبّه بحبّ رسوله، فقال: «قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّي يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَايَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ» «3»

، فجعل محبّة الرسول باب لمحبّته، فلم يقتصر تعالي

علي حبّ العبد له، ولا علي مجرّد حبّ الأعمال الصالحة، بل اشترط أن يُقرن بحبّ الرسول، كما اشترط في الهجرة إلي اللَّه الهجرة إلي الرسول، فقال تعالي: «وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَي اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَي اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا» «4»

، فجعل باب الهجرة إليه تعالي بابها الهجرة إلي الرسول والهجرة سفر وقصد وتوجّه.

والتوجّه بالنبيّ صلي الله عليه و آله شرط زائد علي شرطية الإيمان به، كما مرّ في قوله تعالي:

«إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا …» «5»

، هو الإقرار بولاية النبيّ والإخبات والخضوع لها، إذ الولاية مجموع كلّ من التصديق والطاعة، حيث تضمن الميثاق علي النبيّين، «لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ» «6»

، وقد عُبّر عن الاستفتاح به صلي الله عليه و آله أيضاً بقوله تعالي: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» «7»

أي أنّه صلي الله عليه و آله يستمطر به كلّ رحمة لكلّ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 171

عالم من العوالم والنشآت، فهو باب اللَّه الأعظم الذي تجري منه الرحمة الإلهية، وقد قرن اللَّه تعالي ولايته بولايته، فقيّد جلّ آيات الأمر بطاعة اللَّه بطاعة النبيّ صلي الله عليه و آله، فجعل التمرّد علي ولاية النبيّ صلي الله عليه و آله عين التمرّد علي ولاية اللَّه وطاعته.

كما قرن طاعته وطاعة رسوله بطاعة أُولي الأمر، حيث قال تعالي: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» «1»

، فجعل باب النبيّ هو أهل بيته، وباب طاعة النبيّ طاعة أهل بيته، وباب حبّ النبيّ صلي الله عليه و آله حبّ أهل بيته، وباب الهجرة إلي النبيّ الهجرة إلي أهل بيته، وباب رضا النبيّ رضا أهل بيته، وقد أوضح أصحاب هذا الأمر أنّهم الذين يتنزّل عليهم الأمر في

ليلة القدر في كلّ عام إلي يوم القيامة، حيث قال تعالي: «تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» «2»

وقال تعالي: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ* رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» «3»

، وقال تعالي: «يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ» «4»

.فالأمر هذا هو روح القدس، وأصحابه هم الذين يتنزّل عليهم هذا الروح في ليلة القدر، كما سيأتي تفصيله في الفصل السابع. وأنّهم أصحاب علم الكتاب المطهّرون في هذه الأُمّة بشهادة آية التطهير وهم أهل البيت عليهم السلام.

فقرن طاعتهم عليهم السلام بطاعته صلي الله عليه و آله، وولايتهم عليهم السلام بولايته صلي الله عليه و آله، يقتضي إرادتهم من لفظ الآيات في قوله تعالي: «إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَاتُفَتَّحُ لَهُمْ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 172

أَبْوَابُ السَّمَاءِ …» «1»

.تبيّن ممّا مرّ أنّ التصديق بالآيات والتوجّه والخضوع لها عبارة عن التسليم لولايتهم؛ لأنّ مقتضي كلّ من كون التسليم لولاية الآيات مفتاح أبواب السماء، مع جعل النبيّ استفتاحاً في شرائع الأنبياء يُستفتح به، وإطلاق الآية علي النبيّ عيسي هذه الأُمور الثلاثة وغيرها من الشواهد المتقدمة نظير ما مرّ من أن الآية التي يصدق بها هو صاحب المنصب إلالهي الذي يخبر عن اللَّه تعالي، لا الآية التكوينية فإنّه التعبير عنها ورد وهم عنها غافلون، وكذا ما تقدّم من اطلاق الكلمات علي النبيّ وأهل بيته، كلّ ذلك يقتضي إرادة سيد الأنبياء من تلك الآيات وولاية أهل بيته الذين قرنت ولايتهم بولايته، وأنّ أهل البيت هم الباب لسيد الأنبياء.

وقد ورد في أحاديث الفريقين أنّ عليّاً باب مدينة الرسول: «أنا مدينة العلم

وعليّ بابها» «2»

، وقد نزّلت آية المباهلة عليّاً بمنزلة نفس النبيّ صلي الله عليه و آله، ذلك في قوله تعالي: «وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ» «3»

.فحقيقة الطاعة للرسول وأُولي الأمر الخضوع والتسليم والانقياد والتعظيم له ولهم سلام اللَّه عليهم، وقد تقدّم أنّ الكلمات التي تلقّاها آدم من نصوص الفريقين منها اسم النبيّ صلي الله عليه و آله.

فيتبيّن من ذلك أنّ هناك أسماء أُخري توجّه بها آدم ليتوب اللَّه بها عليه، كذلك في الكلمات التي امتحن بها إبراهيم لنيل مقام الإمامة، الامتحان كان بكلمات، لا بكلمة واحدة، وأنّ هناك جناس في لفظ (الكلمات) في قصّة آدم وإبراهيم عليهما السلام، فهناك أسماء مقرونة مع اسم النبيّ، وولايتها مقرونة بولاية النبيّ صلي الله عليه و آله، فعسي من تكون تلك الأسماء غير أهل بيته الذين قُرنوا به في جملة المقامات الإلهية، كآية

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 173

الطاعة والولاية، وآية التطهير، وآية الاحتجاج في المباهلة، وآية شهادة الأعمال في قوله تعالي: «هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَي النَّاسِ» «1»

، فهؤلاء الشهداء علي جميع الناس هم من نسل إبراهيم وعلي ملّة أبيهم إبراهيم، وقُرنوا مع النبيّ في الشهادة، إلّاأنّ النبيّ شاهد عليهم.

وهم الذرّية كما دعا إبراهيم ربّه أن تكون الإمامة في ذرّيته: «إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَايَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» «2»

، فهم المقصودون من قوله تعالي: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» «3»

، فيتوجّه بهم إلي رسول اللَّه وإلي اللَّه تعالي، كما يتوجّه بالرسول إلي اللَّه، وقد قال تعالي: «قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي» «4»

، وقال

تعالي: «قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ» «5»

، وقال تعالي: «قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَي رَبِّهِ سَبِيلًا» «6»

.فبيّن تعالي أنّ مودّتهم وتولّيهم وولايتهم نفعها عائد إلي الأُمّة نفسها؛ وذلك لأنّ مودّة وولاية أهل البيت السبيل والوسيلة إلي اللَّه تعالي، فهذه الآيات بمنزلة مفاد آية الوسيلة مع تعيين لهوية الوسيلة، ومن ثمّ ورد في الزيارة الجامعة: «ومن وحّده قبل عنكم، ومن قصده توجّه بكم» «7»

وهذه الفقرة إشارة إلي القواعد الثلاثة.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 175

بقاء جميع الكتب السماوية بهم عليهم السلام دعاته تعالي إلي كتبه … ص: 175

إنّ إحدي مقاماتهم عليهم السلام في الديانة الإلهية هو كونهم دعاة اللَّه إلي جميع كتبه وصحفه السماوية المُنزّلة، وهم حفظة تلك الودائع؛ إذ قد تبيّن من المقالة السابقة «1»: إنّ الدين عند اللَّه واحد وهو الإسلام «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإْسْلَامُ» «2»

، وهو الذي بُعث به جميع الأنبياء والرسل من آدم عليه السلام إلي النبيّ الخاتم صلي الله عليه و آله، وإنّ الاختلاف بين بعثات الأنبياء إنّما هو في الشرائع، حيث قال تعالي: «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا» «3».

والدين عبارة عن مجموعة من العقائد الحقّة وأركان الفروع وأُصول الواجبات والمحرّمات. وأمّا الشريعة، فهي تفاصيل التشريعات الفرعية. وإذا تبيّنت هذه النقطة تبيّن لك أنّ الصحف والكتب السماوية المنزّلة بما أنّ جملة وعمدة ما اشتملت عليه هو في العقائد وأركان الفروع وشطر يسير منها في الشريعة وتفاصيل الفروع.

فيتبيّن من ذلك أنّ الجملة الغالبة ممّا اشتملت عليه تلك الكتب غير منسوخ بل ثابت وماضٍ إلي يوم القيامة؛ لأنّه لا نسخ في الدين ودائرته وهو الإسلام، وإنّما

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 176

النسخ في شرائع الأنبياء السابقين، وبالتالي يلزم الإيمان والتصديق بتلك الكتب والتقيّد بما فيها ممّا كان من دائرة

الدين، لا من دائرة الشريعة المنسوخة، كما قال تعالي: «آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَانُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ» «1»

، قال تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَي رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا» «2».

لكن لا النُّسَخ المحرّفة عند أتباع وأُمم الأنبياء، بل النُّسَخ المصونة عن التحريف المُودعة كمواريث عند الأوصياء وهم أهل بيت النبوّة عليهم السلام، كما سيتبيّن من الآيات الآتية، ومن ثمّ يتجلّي بقاء قدسية الكتب والصحف السماوية غير المحرّفة لوحدة الدين عند أصحاب الكتب، وهم الأنبياء والرسل المبعوثون بها.

غاية الأمر أنّ بين الكتب السماوية تمايز من جهة أُخري، وهو أنّ المعارف العقائدية في كلّ كتاب دائرتها بحسب مقام ودرجة ذلك النبيّ، قال تعالي: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَي بَعْضٍ» «3»

، وقال تعالي: «وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَي بَعْضٍ» «4»

، وقال تعالي: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ» «5»

، فالعقائد والمعارف الواردة في الكتب الإلهية وإن لم يكن فيها تبدّل أو تغيير، ولا هي قابلة للنسخ، إلّاأنّ كلّ نبيّ وكلّ كتاب يُبعث به يمتاز عن الآخر في سعة ما يُنبئَهُ وضيقه وعمقه وتوسّطه، بحسب مقام ذلك النبيّ ودرجة كتابه الذي تلقّاه عن اللَّه تعالي.

فخاتم الأنبياء حيث كان سيدهم كان كتابه أُمّ الكتب الإلهية والجامع لما فيها

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 177

والمهيمن عليها، إلّاأنّ كلّ ذلك لا يسلب ولا يفقد الكتب الإلهية غير المحرّفة الأُخري قدسيتها وحقانيتها ولا درجات مواقعها التي هي فيها، ومن ثمّ نجد إشادة القرآن الكريم ومديحه لها، كما قال

تعالي: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّي* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّي* بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَي* إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَي* صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَي» «1»

، وقال تعالي: «وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ* إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًي وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ» «2»

، وقال تعالي في سياق ما سبق: «وَقَفَّيْنَا عَلَي آثَارِهِمْ بِعِيسَي ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإْنْجِيلَ فِيهِ هُدًي وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًي وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ* وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإْنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ* وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا» «3»

، وقال تعالي: «وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإْنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ …» «4»

، «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَي شَيْ ءٍ حَتَّي تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإْنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» «5»

، وقال تعالي: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإْنْجِيلِ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 178

وَالْقُرْآنِ» «1»

… وغيرها من الآيات.

ومع هذه الموقعية للكتب والصحف المنزلة السابقة، وتأكيد الباري تعالي علي الإيمان بها، فلا يمكن أن تذهب

سدي أدراج الرياح، بل لابدَّ أن تكون محفوظة مودعة عند من أودع علم القرآن عندهم، حيث إنّ الكتب والصحف المنزلة السابقة كلّها كأجزاء متنزّلة من الكتاب المبين الذي هو أصل حقيقة القرآن، وقد أسند القرآن الكريم علم الكتاب كلّه والكتاب المبين إلي أهل البيت المطهّرين.

فها هنا نقطتان لابدّ من بيانهما:

الأُولي: كون الكتب والصحف المنزلة السابقة هي أبعاض وأجزاء متنزّلة من الكتاب المبين المكنون، فقد قال تعالي في شأن موسي عليه السلام: «وَإِذْ ءاتَيْنَا مُوسَي الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» «2»

، وقال تعالي في شأن عيسي عليه السلام: «وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإْنْجِيلَ» «3»

، وقال تعالي في شأن عموم الأنبياء: «مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ» «4»

، فجعل الكتاب مقابل الفرقان والتوراة والإنجيل، وكذلك في مقابل الحُكْم والنبوّة، مع أنّ عنوان الكتاب قد أُطلق علي التوراة والإنجيل وغيرها من الكتب المنزلة، كما قال تعالي: «ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَي الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَي الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ» «5»

، وقال تعالي:

«ولقد آتينا موسي الكتاب فاختلف فيه» «6».

ولقد أُطلق علي أتباع موسي وعيسي عنوان أهل الكتاب وعنوان الذين أُوتوا

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 179

الكتاب كراراً في مواضع كثيرة في السور القرآنية، والذي أوتوه هو التوراة والإنجيل، فأُطلق اسم الكتاب عليهما، نظير ذلك قوله تعالي: «وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ» «1»

، وفي مواضع أُخري من القرآن قد وصف الفرقان أو التوراة أو الإنجيل بأنّه بعض الكتاب لا كلّه، كما في قوله تعالي: «أَلَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا» «2».

وكرّر هذا التعبير في

سورة النساء مرّتين «3»، ووصفت التوراة في قوله تعالي:

«وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «4»

، فلم يكتب فيها كلّ شي ء، بل من كلّ شي ء، وقال تعالي عن وصي سليمان آصف بن برخيا: «قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ» «5»

، فوصف علمه الذي ورثه من سليمان بأنّه علم من بعض الكتاب.

وقال تعالي في شأن الإنجيل وعيسي عليه السلام: «قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ» «6»

، أنّ فيه بيان بعض ما يختلف فيه بنو إسرائيل، لا بيان كلّ ما يختلفون فيه، مع أنّ القرآن قد وصف بأنّه بيان لكلّ شي ء، فقال تعالي:

«وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً وَبُشْرَي لِلْمُسْلِمِينَ» «7».

فتحصّل أنّ الكتب والصحف المتنزّلة السابقة وإن كانت هي من الكتاب، إلّا أنّها أبعاض وأجزاء له لاتمامه، بخلاف القرآن الكريم حيث يقول الباري:

«وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ»، وقال تعالي: «وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَارَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 180

الْعَالَمِينَ» «1».

والكتاب والكتاب المبين والكتاب المكنون هو وجود علوي غيبي قد وصف بأوصاف عديدة، كما في قوله: «حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ» «2»

، فالقرآن النازل هو تنزيل للكتاب المبين، وقال تعالي: «حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ» «3»

، فالقرآن المتنزّل في الصورة العربية هو إنزال للكتاب المبين، والقرآن له وجود علوي الذي هو أُمّ الكتاب.

قال تعالي: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ» «4»

،

فوصف القرآن بوجود علوي في الكتاب المكنون، وأنّ القرآن النازل هو تنزيل لذلك الوجود العلوي، وقال تعالي: «طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ» «5»

، وقال تعالي: «الرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ» «6»

، وقال تعالي: «… وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «7»

، وقال تعالي: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «8».

النقطة الثانية: بيّن تعالي في القرآن الكريم أنّ أهل البيت عليهم السلام يمسُّون الكتاب المكنون كما مرّ في الآية في سورة الواقعة؛ إذ هم أهل آية التطهير المطهّرون دون سائر الأُمّة، وفرقٌ بين المطهّر ذاتاً وخلقةً والمتطهّر بالوضوء

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 181

والغسل. وكذا أشار إليه تعالي في سورة الرعد: «كَفَي بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ» «1»

، وهي السورة المكّية التي نزلت في عليّ، وكذا قوله تعالي:

«بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» «2»

، وقال تعالي: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» «3»

، فبيّن تعالي أنّ في هذه الأُمّة ثلّة تعلم تأويل الكتاب كلّه؛ لعلمهم بمحكمات الكتاب التي هي أُمّ الكتاب، فيعلمون أُمّ الكتاب فضلًا عن الكتاب المبين، والقرآن بتمامه آيات بيّنات في صدورهم، فلا يشكل عليهم شي ء منه، ولا يكون شي ء منه متشابهاً عليهم، ولأجل ذلك يعلمون الذي تشابه علي

غيرهم من الكتاب، وهو لديهم بيّن.

وقد دلّلت سور الرعد والأحزاب والواقعة علي أنّ أهل بيت النبوّة هم المطهّرون الذين يمسّون الكتاب المكنون الذي هو حقيقة القرآن العلوية، وهو الكتاب المبين، فمن ثمّ لديهم علم الكتاب كلّه لا علم بعض من الكتاب، كما أشارت إلي ذلك سورة الرعد النازلة في علي عليه السلام، وغيرها.

وإذا تبيّنت هاتان النقطتان، يتبيّن أنّ أهل بيت النبوّة حيث يحيطون بالكتاب والكتاب المبين علماً، فهم يحيطون علماً بكلّ الكتب والصحف المنزلة السابقة، وهم حفظتها، فهم الدعاة إلي كتب اللَّه المنزلة، كما جاء في الزيارة الجامعة التي رواها ابن طاووس في مصباح الزائر: «أشهدُ أنكم أبواب اللَّه ومفاتيح رحمته ومقاليد مغفرته وسحائب رضوانه ومصابيح جنانه وحملة فرقانه وخزنة علمه وحفظة سرّه

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 182

ومهبط وحيه، وعندكم أمانات النبوّة وودائع الرسالة، أنتم أُمناء اللَّه وأحبّاؤه وعباده وأصفياءه، وأنصار توحيده، وأركان تمجيده، ودعاته إلي كتبه، وحرسة خلائقه وحفظة ودائعه».

وفي زيارة الإمام الكاظم عليه السلام: «… وحامل التوراة والإنجيل …».

وقال أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة في صفة آل محمّد: «هم موضع سرّه ولجأ أمره وعيبة علمه وموئل حكمه وكهف كتبه وجبال دينه».

وفي صحيح هشام بن الحكم في حديث بريه: «أنّه لمّا جاء معه إلي أبي عبداللَّه عليه السلام فلقي أبا الحسن موسي بن جعفر عليه السلام، فحكي له هشام الحكاية، فلمّا فرغ قال أبو الحسن عليه السلام لبريه: يا بريه كيف علمك بكتاب اللَّه؟ قال: أنا به عالم. ثمّ قال: كيف ثقتك بتأويله؟ قال: ما أوثقني بعلمي فيه. قال: فابتدأ أبو الحسن عليه السلام يقرأ الإنجيل. فقال بريه:

إياك كنت أطلب منذ خمسين سنة أو مثلك … قال أبو عبداللَّه عليه السلام: ذرّية بعضها

من بعض واللَّه سميع عليم. فقال بريه: أنّي لكم التوراة والإنجيل وكتب الأنبياء؟ قال: هي عندنا وراثة من عندهم نقرؤها كما قرؤوها ونقولها كما قالوا، إنّ اللَّه لا يجعل حجّة في أرضه يُسئل عن شي ء فيقول لا أعلم» «1».

وينبّهنا إلي ما تقدّم من الآيات ونسق الارتباط في دلالتها الموصل إلي تلك النتيجة ما رواه الشيخ المفيد في الاختصاص، من مسائل عبداللَّه بن سلام للنبيّ صلي الله عليه و آله: «… صدقت يا محمّد فاخبرني إلي ما تدعو؟ قال: إلي الإسلام والإيمان باللَّه.

قال: وما الإسلام؟ قال: شهادة أن لا إله إلّااللَّه وحده لا شريك له … قال: وما دين اللَّه؟ قال:

الإسلام. قال: وبه دان النبيّون من قبلك؟ قال: نعم. قال: فالشرائع؟ قال: كانت مختلفة وقد مضت سنّة الأوّلين. قال: صدقت» «2».

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 183

والرواية صريحة بأنّ الدين واحد، من آدم عليه السلام إلي النبيّ الخاتم صلي الله عليه و آله، وأنّما التغاير في الشرائع والمنهاج وهي تفاصيل الفروع، كما أنّها تشير إلي أنّ الشهادتين هما من أُمّهات أُصول الديانة الإسلامية التي بُعث بها الأنبياء، وأنّ الإقرار بخاتم النبيّين يتلو التوحيد في أُصول الديانة الواحدة بين النبيّين، والترتيب في أُصول الدين لا يختلف ولا يتخلّف بين نبيّ وآخر؛ لأنّ الدين واحد كمااتّضح.

وأُصول المعرفة الدينية ليست إلّاحقائق واقعية يؤمن بها الإنسان، بل يجب أن يؤمن بها؛ فسلسلة مراتب أُصول الديانة تنبّئ عن موقعية كلّ أصل وأهمّيته وخطورته في الدين الواحد. فمن ثمّ الترتيب في أُصول دين الإسلام الذي بُعث به خاتم النبيّين هو بعينه قد بُعث به جميع الأنبياء والمرسلين، ومن ثمّ فسيادة خاتم النبيّين علي الرسل أصل إيماني في الدين الواحد قد أُخذ الإقرار به في

الدين الذي بُعث به جميع الأنبياء، كما يشير إلي هذه الحقيقة قوله تعالي: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَي ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» «1».

وفي رواية عبد الحميد بن أبي الديلم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «أوصي موسي عليه السلام إلي يوشع بن نون، وأوصي يوشع بن نون إلي ولد هارون، ولم يوصِ إلي ولده، ولا إلي ولد موسي؛ إنّ اللَّه تعالي له الخيرة يختار من يشاء ممّن يشاء. وبشّر موسي ويوشع بالمسيح عليهم السلام.

فلمّا أن بعث اللَّه عزّوجلّ المسيح عليه السلام قال المسيح لهم: إنّه سوف يأتي من بعدي نبيّ اسمه أحمد، من ولد إسماعيل عليه السلام، يجي ء بتصديقي وتصديقكم وعذري وعذركم،

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 184

وجرت من بعده في الحواريين في المستحفظين، وإنّما سمّاهم اللَّه المستحفظين؛ لأنّهم استحفظوا الاسم الأكبر، وهو الكتاب الذي يُعلم به علم كلّ شي ء، الذي كان مع الأنبياء صلوات اللَّه عليهم، يقول اللَّه تعالي: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ …» «1»، «… وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ» «2».

الكتاب: الاسم الأكبر، وإنّما عُرف ممّا يُدعي الكتاب التوراة والإنجيل والفرقان، فيها كتاب نوح وفيها كتاب صالح وشعيب وإبراهيم عليهم السلام، فأخبر اللَّه عزّوجلّ: «إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَي* صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَي» «3»

، فأين صحف إبراهيم؟ إنّما صحف إبراهيم الاسم الأكبر، وصحف موسي الاسم الأكبر، فلم تزل الوصية في عالم بعد عالم حتّي دفعوها إلي محمّد صلي الله عليه و آله..» «4».

وفي الرواية دلالة واضحة علي أنّ الكتاب العلوي ذا الوجود الغيبي الذي هو الاسم الأكبر، يتوفّر علي جميع الكتب السماوية

المنزلة، وأنّها متنزّلة منه، غاية الأمر أنّ إحاطة كلّ نبي وأوصيائه تختلف عن إحاطة النبيّ الآخر وأوصيائه، ومن ثمّ اختلفت الكتب المنزلة عليهم، وحيث كانت إحاطة الرسول الخاتم صلي الله عليه و آله أتمّ إحاطة بالكتاب المبين والكتاب المكنون، كان الكتاب المنزل علي النبيّ صلي الله عليه و آله هو الكتاب المهيمن علي جميع الكتب، ففي جملة من الروايات عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ عيسي بن مريم عليه السلام أُعطي حرفين كان يعمل بهما، وأُعطي موسي أربعة أحرف، وأُعطي إبراهيم ثمانية أحرف، وأُعطي نوح خمسة عشر حرفاً، وأُعطي آدم عليه السلام خمسة وعشرين حرفاً، وإنّ اللَّه تعالي جمع ذلك كلّه لمحمّد صلي الله عليه و آله، وإنّ اسم اللَّه الأعظم ثلاثة وسبعون حرفاً، أُعطي لمحمّد صلي الله عليه و آله اثنين وسبعين حرفاً وحُجب عنه حرف

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 185

واحد» «1».

ومن كلّ ما تقدّم يظهر: شطط ما قيل: «كان مذهب جماهير السلف والأئمّة أنّ شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، ومن حكم بالشرع المنسوخ فلم يحكم بما أنزل اللَّه في القرآن وفيه الناسخ والمنسوخ، فهكذا القول في جنس الكتب، قال تعالي: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ … مُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا» «2»» «3».

حيث لم يفرّق بين دائرة الدين الواحد الذي بُعث به جميع الأنبياء والذي لا نسخ فيه بل تكامل وزيادة بيان، وبين الشريعة والمنهاج الذي هو محلّ النسخ، وتخيل أنّ ما تضمّنته الكتب السماوية المنزلة يقتصر علي الشريعة، فهل التوحيد الذي تضمّنته الكتب السماوية قابل للنسخ؟ وكيف حال المعاد كذلك، وكذلك نبوّة الأنبياء؟ مضافاً

إلي ما بشّرت به بنبوّة الخاتم صلي الله عليه و آله، وما أنبئت به من الآخرة والجنّة والنار والعوالم ومطلق المعارف الاعتقادية، هل هو قابل للنسخ؟!

لكن لا عجب في الوقوع في مثل هذا الخلط لمن ترك التمسّك بالثقلين اللذين أمر بهما النبيّ صلي الله عليه و آله، ولا يخفي أنّ هذا القائل قد أسقط في استشهاده تمام الآية؛ لأنّه مناقض لدعواه، إذ لفظها: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا»، فأسقط وصف «مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ»، وليس في الآية لكلّ منكم جعلنا ديناً، بل قال تعالي: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإْسْلَامُ» «4»

، فلاحظ ما تقدّم في صدر المقالة.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 187

العصمة النوعية الولاية والإمامة النوعية … ص: 187

اشارة

المعروف لدي مذاهب الصوفية القول بالإمامة النوعية، سواء علي صعيد المقام الباطني وهي الإمامة الملكوتية، أو علي صعيد الإمامة في مقام الظاهر وهي الإمامة السياسية، ويستدلّون لكون الولاية المطلقة نوعية لعموم أفراد الحقيقة الإنسانية، وكون الباب مفتوحاً لكلّ سالك واصل، أنّه يؤهّل لمقام الخلافة العظمي الإلهية إذا طوي منازل السائرين إلي اللَّه، ويستدلّون لذلك بوجوه نقلية وعقلية وكشفية:

أمّا النقلية فبالعمومات الواردة في الكتاب والسنّة، مثل قوله تعالي: «وَاتَّقُوا اللَّهَ ويُعلّمُكُمُ اللَّهُ» «1»

، وقوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا» «2»

، وقوله تعالي: «وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا» «3»

، وقوله تعالي: «وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُمحْسِنِينَ» «4»

، وقوله تعالي: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» «5».

ومن السنّة قوله صلي الله عليه و آله: «اتّقوا فراسة المؤمن؛ فإنّه ينظر بنور اللَّه»

«6»

. وما ورد في الحديث: «إنّ اللَّه جلّ جلاله قال: ما يتقرّب إليّ عبد من عبادي بشي ء أحبّ إليّ ممّا

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 188

افترضتُ عليه، وأنّه ليتقرّب إليّ بالنافلة حتّي أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته» «1».

وكذلك حديث قرب الفرائض..

وكذلك قوله صلي الله عليه و آله: «من أخلص للَّه أربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه علي لسانه» «2».

فكلّ هذه الآيات والأحاديث دالّة علي أنّ أبواب السلوك والسير والمقامات مفتوحة لجميع أفراد البشرية، كمقام الإحسان ومقام التقوي وباب الحكمة والعلم والفرقان، وغيرها من أبواب ولاية اللَّه، فمن أدّي الفرائض وأقامها بحدّها كان عين اللَّه وسمع اللَّه وجنب اللَّه ولسان اللَّه … فضلًا عن مقام قرب النوافل، بل يستطيع الوصول إلي مقام الخلافة الإلهية العظمي فيكون خليفة اللَّه في أرضه وصاحب الولاية المطلقة.

أمّا الدليل العقلي: فلأنّ العقل لا يحيل وقوع الكمالات الممكنة للماهية الإنسانية في أيّ فرد من أفرادها بعد إمكان توفّر الشرائط الحاصلة بالإرادة الاختيارية، وأنّ فيض الذات الأزلية علي استواء مع الذوات القابلة الإمكانية.

أمّا دليل الكشف فيُقرّر بوجوه:

منها: فلأنّ الأسماء الإلهية تطلب الظهور من خلال مظاهر ومجالي، وقد قُرّر في محلّه أنّ مجمع الأسماء هو الحقيقة الإنسانية، وهو مظهر الاسم الجامع وصراط الحقيقة الإنسانية، هو السبيل لظهور جميع الكمالات الأسمائية، ومن ثمّ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 189

استحقّ أن يكون خليفة دون بقية الممكنات.

ومنها: إنّ كلّ موجود له إضافة من الجهة التي تلي الربّ، كما قيل إنّ الطرق إلي اللَّه بعدد أنفاس الخلائق، فكلّ ممكن وإن كان في سلسلة التجلّيات والظهورات والصدور والإفاضة يتوسّط بينه وبين الذات

الربوبية الوسائط الإمكانية، إلّاأنّ هذا من الجهة التي تلي الخلق، لا من الجهة التي تلي الربّ، فلكلّ موجود ظهر وبطن، وظهره وإن كان محجوباً بوسائط إلّاأنّ بطنه لا حجاب بينه وبين الواجب.

وأمّا مذهب الإمامية فإنّ عقيدتهم أنّ الإمامة محصورة في العدد الاثني عشر، والولاية المطلقة محصورة بهم بعد خاتم النبيّين، وكذلك الخلافة الإلهية، استدلّوا علي ذلك بالنصوص المتظافرة القرآنية والأحاديث النبوية، وملأوا في ذلك أسفاراً من الكتب.

إلّا أنّنا نذكر نبذة ممّا له صلة خاصّة في المقام ممّا نُصّ فيه علي أنّ هذه المقامات الخاصّة الإلهية ليست كسبية في دار الدنيا وغيرها من النشآت، بل هي وهبية اصطفائية في هذه الدار، وأنّها محصورة بذلك العدد.

أمّا الدليل النقلي، كقوله تعالي: «وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَايَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» «1»

، فدلّت الآية كما بسّط ذلك علماء الإمامية في كتب التفسير والكلام- أنّ الذي تقع منه المعصية ظالم لنفسه في بدء كتابة التكليف عليه أو في طول عمره ونهايته، لا يتأهّل لإعطاء الإمامة ولا تكون له قابلية لنيل هذا العهد الإلهي، فلابدّ أن تكون ذاته مطهّرة معصومة من البدو إلي الختم، وهذه القابلية في الذات لا تكون كسبية.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 190

وكقوله تعالي: «مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ» «1»

، فتنفي الآية قابلية الفرد البشري لحمل النبوة أو الإمامة أو الحجّية علي الخلق إذا لم تكن ذاته مأمونة عن الوقوع في الزيغ والانحراف. فالتعبير في الآية الكريمة ليس ما كان ليؤتيه النبوّة، أي ليست في صدد نفي السنّة الإلهية والإفاضة منه تعالي، بل التعبير في صدد نفي

الإمكانية والقابلية (ما كان لبشر).

وكذلك هنا طائفة من الآيات تُدلّل علي أنّ الإمامة في نسل إبراهيم وذرّيته وعقبه باقية إلي يوم القيامة، كقوله تعالي: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَي آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَي الْعَالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» «2»

، وقوله تعالي: «وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَايَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ* وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّي وَعَهِدْنَا إِلَي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ* وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الَّثمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَي عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ* وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ* إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ* وَوَصَّي بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَي لَكُمُ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 191

الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ* أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» «1».

فمجموع هذه الآيات تدلّ علي دعاء إبراهيم في أن تكون الإمامة في ذرّيته، وعلي استجابة ذلك الدعاء، وبقاء أُمّة مسلمة في ذرّيته

لم تنجسّهم الجاهلية بأنجاسها وأرجاسها، ولم تلبسهم من مدلهمات ثيابها، وأنّ إمامتهم هي وصية إبراهيم في بنيه وهي اصطفاء اللَّه لهم.

وممّا يشير إلي توارث الإمامة بالإرث الإلهي في خصوص نسل وعقب إبراهيم في هذه الأُمّة دون غيرهم قوله تعالي: «وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَي النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاة وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَي وَنِعْمَ النَّصِيرُ» «2»

، فتشير الآية إلي أنّ من نسل إبراهيم عليه السلام أُمّة تكون شهداء علي الناس والرسول عليهم شهيداً، ومقام الشهادة علي الناس أجمعين لا يمكن أن يرقي إليه إلّامن تحلّي بالعصمة علماً وعملًا؛ وإلّا فغير المعصوم من الزلل والخطل والجهل والضلال حقيقٌ أن يُشهد عليه لا أن يشهد علي الناس.

فهذه الأُمّة المسلمة الموحّدة المعصومة الشاهدة علي الناس، أبوها إبراهيم وهي من ذرّيته، وهي المشار إليها في قوله تعالي: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» «3»

، أي أُخرجت من عقب إبراهيم عليه السلام،

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 192

وكذلك قوله تعالي: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَي النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا» «1».

وليس المراد بالأُمّة الوسط الأُمّة الإسلامية جمعاء؛ فإنّ فيها من لا تُقبل شهادته علي بقلة خضار، فكيف يشهد علي جميع أعمال الناس يوم يقوم الأشهاد؟ ومن أين له العلم والإحاطة بأعمال الناس كي يقوم بأداء الشهادة يوم الحساب؟ فهذه الأُمّة الوسط هي التي أُشير إليها في آخر سورة الحجّ في قوله تعالي: «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ

عَلَي النَّاسِ» «2»

، وهي الذرّية التي دعي إبراهيم بأن تكون مسلمة في قوله:

«رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً» «3»

، والتي دعي ربّه أن يجعل الإمامة فيها في قوله تعالي: «قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي» «4»

، وهي التي دعي إليها إبراهيم في قوله تعالي: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ* رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الُمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاة فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الَّثمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ* رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَي عَلَي اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ* الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَي الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ* رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاة وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ» «5»

، وهذه الذرّية هي التي سلّم اللَّه عليها في قوله تعالي: «سَلَامٌ عَلَي إِلْ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 193

يَاسِينَ» «1»

، أي آل محمّد صلي الله عليه و آله؛ لأنّ ياسين اسم للنبيّ صلي الله عليه و آله سمّاه به القرآن الكريم في سورة يس، وهم الذين نزلت فيهم آية التطهير في قوله تعالي: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً» «2».

وقوله تعالي: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ* وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ» «3»

، والآية باتّفاق جمهور المفسّرين ونصوص الفريقين «4» نزلت في عليّ عليه السلام، وهي نصّ في حصر الولاية المطلقة في اللَّه تعالي، ثمّ الرسول صلي

الله عليه و آله، ثمّ عليّ عليه السلام.

وهذا ينافي أو يتنافي مع نظرية الصوفية من دعوي الولاية والإمامة النوعية، فإنّه علي وفق تلك النظرية لا وجه للحصر في أيّ زمن من الأزمان، حتّي زمن النبيّ صلي الله عليه و آله والزمن الذي يليه. وبعبارة أُخري: إنّه علي نظرية الإمامة النوعية لا حصر لها علي صعيد النظرية والتنظير، وإن كان القطب أو قطب الأقطاب ذو الولاية العامّة يتعاقب علي هذا المقام واحد تلو آخر، وأمّا علي صعيد الإمكان والتنظير أو التعاقب الزمني فلا حصر بل هو شرعة لكلّ وارد، واحد بعد آخر.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 194

وكذلك قوله تعالي: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَي وَالْيَتَامَي وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَي عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَي الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَي كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ» «1».

وكذا قوله تعالي: «مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَي رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَي فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَي وَالْيَتَامَي وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَايَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ» «2».

فإنّ تخصيص الفي ء وضريبة الخمس بذوي القربي أي ملكية التدبير والتصرّف لهم؛ لموضع اللام في الآية، حيث أُضيفت إلي اللَّه ورسوله وذوي القربي دون الموارد الثلاثة الأُخري؛ لبيان أنّ ملكية ولاية التدبير لهم عليهم السلام خاصّة إلي يوم الإشهاد، وأنّ الموارد الثلاثة الأخيرية موارد للصرف، وهذا الحكم ثابت إلي يوم القيامة. ولا يخفي أنّ ذلك يعني أنّ القدرة المالية المطلقة في دين الإسلام وأُمّة المسلمين إلي يوم القيامة هي لذوي القربي؛ لأنّ الفي ء كما مرّ هو مطلق المنابع المالية والخمس الذي يعني 20% من مجموع أموال المسلمين، كلّ ذلك يشكّل سلطة وأُسطول مالي لا نظير له، وقد علّل هذه الصلاحية

لهم عليهم السلام؛ لأجل إرساء العدالة في الأُمّة الإسلامية «كَيْ لَايَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ»؛ لأنّ سلطة المال يتمكّن بها من إرساء العدالة، ليس فقط في المجال المالي، بل كذلك في المجال السياسي والقضائي والحقوقي والأمني، وغيرها من الحقول.

الوجه النقلي في الأحاديث النبويّة: … ص: 194

هم الذين قال فيهم النبيّ صلي الله عليه و آله في الحديث المتواتر: «إنّي تارك فيكم الثقلين:

كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً؛ فإنّهما لن يفترقا

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 195

حتّي يردا عليّ الحوض» «1»

، فبيّن صلي الله عليه و آله بهذا الحديث أنّ وراثة حقيقة القرآن إلي يوم القيامة والإمامة هي في العترة دون غيرها.

ومثله حديث السفينة: «مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجي، ومن تخلّف عنها هلك» «2»

، ومفاده حصر النجاة بولايتهم، كما كان حصر طريق النجاة من الطوفان منحصراً بركوب سفينة نوح.

وكذلك قول النبيّ صلي الله عليه و آله في الحديث المتواتر: «لن يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً ظاهراً علي من ناواه حتّي يملك اثني عشر كلّهم من قريش» «3»

، وكذا قوله صلي الله عليه و آله:

«النجوم أمان لأهل السماء، فإذا ذهبت ذهبوا، وأهل بيتي أمان للأرض، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض» «4».

وهذا الحديث مفاده انحصار النجاة والولاية العامّة بأهل البيت عليهم السلام، كما أنّ الحديث يشير إلي تأبيد حصر الأمان بهم إلي يوم القيامة؛ لمكان تشبيههم بالنجوم لأهل السماء، فإنّ أمان أهل السماء دوامه بدوام النجوم، وهذا موضع آخر لوجه التشبيه.

وكذا قوله صلي الله عليه و آله في حديث النور الذي تقدّم: «كنت أنا وعليّ نوراً بين يدي اللَّه تعالي من قبل أن يُخلق الخلق بأربعة عشر ألف عام، فلمّا خلق اللَّه تعالي

آدم سلك ذلك

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 196

النور في صلبه، فلم يزل اللَّه تعالي ينقله من صلب إلي صلب حتّي أقرّه في صلب عبد المطّلب، ثمّ أخرجه من صلب عبد المطّلب فقسّمه قسمين، فجعل نوري في صلب عبد اللَّه، ونور عليّ في صلب أبي طالب، فعليّ منّي وأنا منه، لحمه لحمي ودمه دمي، فمن أحبّه فيحبّني أحبّه فمن أبغضه فيبغضني أبغضه» «1»

والحديث الشريف يدلّ علي تخصيص الولاية العامّة والإمامة بالذوات النورية المخلوقة بخلق النبيّ صلي الله عليه و آله، وهم أهل بيت النبيّ صلي الله عليه و آله، وأنّ هذا المقام لابدّ أن يسبقه اصطفاء في العوالم السابقة من عالم النور والميثاق والذرّ والأصلاب والأرحام، فليس يُنال بالكسب الدنيوي المجرّد.

وكذا قوله صلي الله عليه و آله: «أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد المدينة فليقصد الباب» «2».

الحديث السابع في قوله صلي الله عليه و آله ضمن حديث تبليغ سورة البراءة: «لا يؤدّي عنّي إلّا أنا أو عليّ» «3»

، وتقريب الدلالة في مفاد هذا الحديث والحديث الذي سبقه هو ما تقدّم في آية حصر الولاية: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 197

الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ» «1»

من حصر هذه المقامات بعليّ والعترة، ولا ينسجم مع الولاية والإمامة النوعية في جميع الأزمان.

أمّا الدليل العقلي والكشفي:

فنقول:

إنّ مسألة كون العصمة وهبية إلهية أو كسبية اختيارية أو جبرية هي من المسائل والقواعد المعرفية الحسّاسة الهامّة، إلّاأنّه بعد إلقاء الضوء علي هذه المسألة يتّضح عدم كون العصمة المعهودة للمقامات المتقدّمة ممّا يمكن أن تُكتسب في دار الدنيا، فلا تكون كسبية دنيوية.

وتوضيح ذلك: إنّ العصمة لها جهات اختيارية وإن كان لها أيضاً جهات غير اختيارية. فمن تلك الجهات

الاختيارية الأفعال الصادرة عن العصمة، فإنّها اختيارية؛ حيث إنّها تصدر عن علم وقدرة؛ إذ العلم اللدني الخاصّ الاصطفائي والقدرة المتولّدة منه تستتبع صدور الأفعال عنها، وكلّ فعل يصدر عن علم وقدرة فهو اختياري.

ومن الجهات الاختيارية في العصمة هي أصل العصمة كملكة أو جوهر نوراني من سنخ العلم في الذوات المطهّرة، ومعني الاختيارية في أصل العصمة ليس بمعني إمكان اكتسابها في دار الدنيا بعد أن لم تكن، بل بمعانٍ أُخري:

منها: ما أُشير إليه في صدر دعاء الندبة الشريف، عند قوله عليه السلام: «اللّهمّ لك الحمد علي ما جري به قضاؤك في أوليائك الذين استخلصتهم لنفسك ودينك، إذ اخترت لهم جزيل ما عندك من النعيم المقيم الذي لا زوالَ له ولا اضمحلال، بعد أن شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنية وزخرفها وزبرجها، فشرطوا لك ذلك، وعلمت منهم

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 198

الوفاء فقبلتهم وقرّبتهم وقدّمت لهم الذكر العليّ والثناء الجليّ، وأهبطت عليهم ملائكتك وكرّمتهم بوحيك ورفدتهم بعلمك، وجعلتهم الذريعة إليك والوسيلة إلي رضوانك» «1».

فبيّن عليه السلام أنّ العصمة المعطاة لهم والتي عبّر عنها عليه السلام بقوله: «فقبلتهم..

وجعلتهم»، أي إهباط الوحي والملائكة عليهم، والإرفاد بالوحي اللدني وتقديم الذكر العلي، وغيرها من شؤون العصمة الوهبية، إنّما أعطاها الباري لهم منذ بدو نشأتهم؛ لعلمه تعالي بخصوصية في ذواتهم، وهي اشتراطهم وتعهّدهم بطاعة اللَّه من بدو تولّدهم إلي منتهي عمرهم في دار الدنيا، وزهدهم في كلّ درجات الدنيا وزخرفها وزبرجها.

وهذا نظير المعلّم الذي يتفرّس في بعض تلاميذه النبوغ والأهلية والقابلية والجدّ والاجتهاد منذ أوائل حقبة التعليم، فيولّيه عناية خاصّة تزيد علي بقية الطلاب؛ لاستحقاق ذلك التلميذ وتأهّله بقابلية تفوق البقية، فيكون من الحكمة والجود أن يولّي المعلّم مزيد اهتمام ورعاية

وتفقّد وتعليم لذلك التلميذ دون الآخرين، وذلك مثل الزارع إذا كانت له أنواع من قطع الأرضين، فواحدة خصبة حيّة منتعشة طيبة، وأُخري متوسّطة معتادة الأوصاف، وثالثة سبخة أقرب إلي الميتة، فإنّه والحال هذه يخصّ الأرض الخصبة بالبذر الثمين المنتج والمثمر ويولّيها مزيد من الخصائص، كالماء العذب وتقليب التربة ونحو ذلك، دون القطعتين الأُخرتين، بل الثالثة لا يُزرع فيها إلّاالعشب وما تقتاده الحيوانات.

ومنها: من الجهات الاختيارية في أصل وجود صفة العصمة ما أُشير إليه في خطبة الصدّيقة وزيارتها عليها السلام:

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 199

«… وأشهد أنّ أبي محمّداً عبده ورسوله، اختاره قبل أن يجتبله، واصطفاه قبل أن يبتعثه، وسمّاه قبل أن ينتجبه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة وبستر الأهاويل مصونة وبنهاية العدم مقرونة، علماً منه بمآل الأُمور وإحاطة بحوادث الدهور ومعرفة منه بمواقع المقدور، وابتعثه إتماماً لعلمه وعزيمة علي إمضاء حكمه وإنفاذاً لمقادير حقّه» «1».

وكذلك ما ورد في زيارتها: «يا ممتحنة امتحنك اللَّه الذي خلقكِ قبل أن يخلقكِ، فوجدكِ لما امتحنكِ صابرة» «2»

، فإنّ الامتحان في رتبة العلم الربوبي والاصطفاء والاختيار والانتجاب في أُفق العلم الإلهي قبل خلق النبيّ صلي الله عليه و آله وقبل خلق الزهراء عليها السلام، يدلّ علي وقوع العلم الإلهي علي خصوصية في تلك الذوات المطهّرة التي حباها اللَّه بختم النبوّة والحجّية علي الخلق.

ونظير ذلك ما يصنعه الزارع، فإنّه يرجع في انتخاب البذر والزرع إلي علمه بخصائص البذور وأنواع ثمارها وصالحها من طالحها، ثمّ يختار أَنفَسها جودةً وطيبة، ويُسمّي هذا بالامتحان في مقام العلم قبل الإيجاد والوجود الخارجي.

ومنها: ما وقع من امتحانات في العوالم السابقة، كعالم الذرّ المشار إليه بقوله تعالي: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَي أَنْفُسِهِمْ

أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَي شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ» «3»

، ومثله: عالم الميثاق، وخلق الطينة، وعالم الأصلاب والأرحام والنطفة، وغيرها من العوالم السابقة علي نشأة الإنسان في دار الدنيا، فإن في تلك العوالم سنخ امتحان واختبار يختلف عن سنخ الامتحان والاختبار في دار الدنيا، ولا يُؤهّل للمقام الخاصّ من

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 200

النبوّة والإمامة والحجّية علي الخلق إلّامن قد فاز في تلك الامتحانات وانتُجب واصطُفي هاهناك. فمن ثمّ لا تكون كسبية في دار الدنيا.

ومنها: لا يمكن أن تتحقّق فيمن يفترض فيه إمكان الزلل، أي فيمن يفترض فيه عدم الأمان من الوقوع في المعصية، ولأجل خفاء تلك الامتحانات في تلك العوالم عن الخلق وخفاء قابليات البشر وخفاء معادنهم وطينتهم، كان من الضروري في البديهة التكوينية والعقلية أن يكون تعين صاحب مقام النبوّة أو الرسالة أوالإمامة والولاية المطلقة والحجّية علي الخلق هو باطّلاع اللَّه تعالي معرفة ذلك بالنصّ الإلهي الوحياني والمعجزة، وإلي ذلك يشير تعالي: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَي عَمَّا يُشْرِكُونَ* وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ» «1».

ولأجل ذلك، أطبقت الإمامية علي ضرورة المعجزة والنصّ الإلهي علي صاحب الإمامة والولاية المطلقة والحجّية علي الخلق، وأنّها تستحيل أن تكون كسبية في دار الدنيا. وهذا بخلاف نظرية الصوفية وبعض العرفاء؛ حيث زعموا أنّ مقام الولاية المطلقة مفتوح بابه لكلّ وارد وسالك للطريقة، ويتحقّق بالحقيقة.

وقد عرفت أنّ الوجوه التي تشبثّوا بها من الآيات والأحاديث غاية مفادها هو إمكان الوصول إلي المقامات المعنوية العامّة، كمقام استجابة الدعوة بنحوٍ محدود، أو نيل شي ء من الحكمة وبعض درجات التقي والصدق والإحسان والعبودية وغيرها، لا بنحو الاستيفاء التامّ بكلّ درجاتها

لتبلغ المقامات الخاصّة كالولاية المطلقة والإمامة والحجّية علي الخلق.

ومن ثمّ لم يتجرّوا علي دعوي بلوغ النبوّة التشريعية أو مقام إبلاغ الرسالة

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 201

الإلهية، مع أنّ التفرقة لا وجه لها، إلّاقاعدة الاصطفاء والاختيار الإلهي التي هي مفاد نظرية النصّ الإلهي علي أصحاب هذه المقامات الخاصّة، من دون فارق بين النبوّة والرسالة والإمامة والولاية المطلقة والحجّية علي الخلق والخلافة الإلهية الكبري.

وخير شاهد علي بطلان زعمهم: ما يلاحظه المتتبّع المدقّق المحقّق في كتبهم وكلمات روادهم في تفسير الآيات والمعارف، وباب التأويل للآيات التنزيلية والتكوينية، وباب الآداب والسنن، وغيرها من أبواب المعارف … فيلاحظ كم لهم من رأي ونظر قد تبيّن- في التحقيقات العلمية والحكمية والمشاهدات- بطلانها وقصورها عن الإحاطة بتمام الواقع، وضحالة نابعة من البيئة العلمية والمذهبية التي ترعرع ونشأ فيها ذلك الصوفي والعارف.

فبون بين ما يفسّرونه من معارف وتأويلات، وبين ما يشاهده المحقّق الحكيم السالك في المعارف المأثورة عن بيت النبوّة، وأين الثري من الثريا؟

حتّي أنّ بعض الأكابر من الصوفية يعتقد بالهيئة البطليميوسية ويرتّب عليها مزاعم من المكاشفات، أو تراه يبني علي الجبر الأشعري والمسلك الأشعري في الحسن والقبح، أو يقول أنّ الولي وإن كان تابعاً في علم التشريع والأحكام للنبيّ، إلّا أنّ النبيّ قد يكون تابعاً له في المعارف والعلوم الحقيقية، ثمّ اعتمد في ذلك علي قصّة أُساري بدر المُختلَقة، وحديث تأبيرالنخيل الموضوع.

وقد ردّ عليه السيد حيدر الآملي بقوله: فكيف يخطئ فيها من هو موصوف بأنّه «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَي* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَي» «1»

، وكذلك من هو موصف ب:

«مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَي» «2»

. فالشيخ ابن عربي والشارح

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 202

الكاشاني لو كانا عالمين بأُصول أهل البيت عليهم السلام

لما قالا هذا، ولما نسبا الرسول المعصوم من الخطأ إلي الخطأ، ولما نسبا غيره إلي الصواب «1».

ثمّ قال: فنسبة مثل هذا من الشيخ الحاتمي إلي النبيّ والشراح- سوء أدب وإهمال من جانبه صلي الله عليه و آله.

وأما الشارح الثالث، وهو داود القيصري وكان تلميذ لعبد الرزّاق الكاشاني المذكور فهو قد أخذ بطرف النقيض والتعصّب وقال:.. وأمثال هذه المهملات من غير تمسّك إلّابقول الشيخ- لا يُعتد بها. ثمّ نقل قول ابن عربي في كون علماء الظاهر من الأئمّة الأربعة لهم الوراثة في التشريع، وأنّ الوراثة لباطن الشرع مخصوصة لعلماء الباطن العالمين بأسرار الحقيقة.

فردّ عليه السيد حيدر بقوله: وقط ما التفت في ذلك إلي ذكر أهل البيت عليهم السلام وعترة النبيّ صلي الله عليه و آله وأمير المؤمنين والمهدي عليهم السلام، الذين هم ورثته حقيقةً من غير خلاف كما سبق ذكره من قول اللَّه وقول النبيّ، والحال أنّ الأئمّة الأربعة ليسوا بقائلين لأنفسهم العلوم الإرثية بل الاجتهادية الكسبية، كما أشار إليه الشيخ (الحاتمي) أيضاً. وبناءً علي هذا كيف يصدق اسم الإرث علي الكسب، وبالعكس؟

هذا بحسب العلوم الظاهرة ونسبتها إلي الأئمّة الأربعة. وأمّا بحسب العلوم الباطنة ونسبتها إلي العارفين، فهم أهل البيت عليهم السلام أولي وأقدم وأليق وأنسب كما بيّنا انتساب جميع العلوم إليهم قبل هذا، وكذلك المشايخ والعارفون فإنّهم بأسرهم- منسوبون إليهم صورةً ومعني. وبالجملة، فكل من يكون علمه حاصلًا بالكسب من الأُستاذ والشيخ بطريق التعليم والتعلّم فليس بإرثٍ أصلًا، وكلّ من

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 203

يكون علمه حاصلًا بالكشف والشهود.

والعجب كلّ العجب أنّ أمثال هؤلاء يدّعون الكشف والعرفان ويحصل منهم مثل هذا الكلام. أمّا القيصري فقد عرفت خبطه ومهملاته، وأمّا الشيخ (الحاتمي) فإنّه حيث كان يعرف أنّ

عيسي عليه السلام ينزل في آخر الزمان ويحضر عند المهدي، ويكون تابعاً له ولجدّه في النبوّة والولاية، فنقول: كيف حكم أنّه خاتم الولاية المطلقة مع وجود عليّ عليه السلام بما ثبت (أي الذي ثبت) له استحقاق هذه الصورة نقلًا وعقلًا وكشفاً وبقوله أيضاً؟ وحيث كان عارفاً بحال المهدي عليه السلام إلي هذه الغاية التي ذكرها وخصّ به الختمية للولاية المقيّدة المحمّدية، كيف كان ينسبها إلي نفسه ويجزم بذلك بعقله. والعجب أنّه يثبت هذا المقام لنفسه بحكم النوم، وقد ثبت هذا لغيره بحكم اليقظة بمساعدة النقل والعقل والكشف، وأين النوم من اليقظة، و (أين) القياس من الدلائل العقلية والشواهد النقلية التي تطابق الكشف الصحيح «1»؟!

وقال السيد حيدر في الكتاب المتقدّم في معرض الردّ علي دعوي بعض العُرفاء بأنّه خاتم الولاية المطلقة-: وهذا أمر جليل وشأن عظيم لا يستحقّه إلّا الخاتم للولاية المطلقة الذي هو عليّ بن أبي طالب صلوات اللَّه عليه فلينظر العاقل إلي هذا المنصب الرفيع ويحكم بما يري فيه، والحقّ جلّ ذكره ما اكتفي بهذا حتّي قال: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» «2»

؛ لأنّ «أُولِي الْأَمْرِ» في الدين لا يجوز (إلّا) أن يكون (من) الأولياء قائماً بأوامر دين اللَّه وإجراء أحكام نبيّه شريعةً وطريقةً وحقيقةً، ولا يجوز أن يكون (مثل هذا الولي) إلّا معصوماً في نفسه منصوصاً (عليه) من عند اللَّه؛ لأنّ متابعته ومطاوعته كمطاوعة

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 204

اللَّه تعالي ومطاوعة رسوله، ومطاوعتهما واجبة شرعاً وعقلًا، فتكون مطاوعة أولي الأمر كذلك، وكلّ من يأمر الحقّ بمطاوعته علي سبيل الوجوب لو لم يكن في نفسه معصوماً ومنصوصاً (عليه) من عند اللَّه سبحانه يلزم أن يكون هو سبحانه آمراً بمطاوعة من يكون جائز الخطأ،

وهذا غير جائز عقلًا؛ لأنّ الأمر بالقبيح قبيح «1».

وقال: فلم يبق إلّاأن يكون المراد (بأولي الأمر) الإمام المعصوم الذي لا تصدر عنه صغيرة ولا كبيرة من الصغر إلي الكبر؛ لئلّا يلزم الإخلال منه تعالي بالواجب ومن نبيّه صلي الله عليه و آله. ومع ذلك، فمعنا تقسيم عقلي وقانون كليّ نرجع إليهما.

ثمّ استدلّ علي لزوم كونه معصوماً معلوماً معيناً أي منصوصاً عليه. «2» وقال:

وأعظم الدليل علي ذلك علمه (أي المهدي) بالقرآن علي ما هو عليه، وليس للشيخ (ابن عربي) ولا لغيره هذا، حتّي قالوا (إنّه) لا يقرأ القرآن علي ما هو عليه إلّا المهدي إذا ظهر، وقوله صلي الله عليه و آله: «كتاب اللَّه وعترتي» يشهد بذلك، لأنّه جعلهما توأمين، وقال: «لا يفترقا حتّي يردا عليّ الحوض»، وقال بعبارة أُخري: «إنّ أولي الناس بكتاب اللَّه: أنا وأهل بيتي من عترتي»، وعند التحقيق: «وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» «3»

إشارة إليه (أي إلي المهدي عليه السلام) وإلي أجداده المعصومين عليهم السلام.

وقول النبيّ صلي الله عليه و آله: «من أراد علوم الأوّلين والآخرين فعليه بالقرآن» يشهد بصدق هذا كلّه، وليس الشيخ (ابن العربي) وإن كان عالماً عارفاً في هذا المقام، أعني بأن يكون له الاطّلاع علي أسرار القرآن علي ما هو عليه في نفس الأمر، وإن قال أنا

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 205

القرآن والسبع المثاني وروح الروح لا روح الأواني «1».

وقال بعض العلماء في قوله تعالي: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ» «2»

الآية، فالظالم هاهنا من العباد هو الذي ما أعطي حقّ كتاب اللَّه تعالي وما حكم به، والمقتصد هو الذي أعطي حقّه وأقرّ به وقام

بما فيه بقدر وسعه، والسابق بالخيرات هو الإمام المعصوم المنصوص (عليه) المخصوص بهذا المقام، فافهم جيداً واسمع قوله جلّ ذكره: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» «3»

، ومن جملة ما أنزل اللَّه قوله تعالي: «قُلْ لَاأَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي» «4»

، وأنت لا تعطي عوض المودّة إلّاالمبَغَضَة، فكيف حكمت بالقرآن؟ وأقلّ المبغضة أنّك تنسب مرتبتهم وإمامتهم إلي الغير بغير حقّ، لا جرم صرت مستحقّ أن يُقال فيك:

«وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» «5»

، وأن يقال: «أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَي الظَّالِمِينَ» «6»

، ويقال: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ* خَالِدِينَ فِيهَا لَايُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ» «7»

، هذا مضي وتلك شقشقة هدرت ثمّ قرّت «8» أمراً.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 207

القراءة الجديدة الثالثة في حديث الغدير ولايتهم السياسية المدنية … ص: 207

قال تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأوِيلًا* أَلَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَي الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا» «1».

فبيّن تعالي أن الانقياد والطاعة والتبعية السياسية في النظام الاجتماعي السياسي لا تجوز ولا تحلّ لغير الرسول صلي الله عليه و آله وأولي الأمر المعصومين عليهم السلام، وكلّ مُطاع ومُنقاد له في النظام السياسي دونهم- بحيث لا يؤول إليهم- فهو طاغوت أُمر بالكفر به، وإن كانت الآية غير خاصّة بالنظام السياسي، بل تعمّه وغيره كما مرّ أنّه الصحيح من عموم مفاد الآية.

فالانتماء السياسي إلي أيّ جهة لا تنتسب إليهم

عليهم السلام، يُعد ذلك انتماءً إلي الطاغوت، فعلي صعيد الولاء السياسي واتّخاذ الهوية في الانتساب إلي أي نظام سياسي دونهم عليهم السلام غير منتسب إليهم، يُعدّ ذلك الانتماء ركون إلي حاكم الجور وتحاكم إلي الطاغوت، وقد قال تعالي: «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 208

اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَي» «1».

وإلي ذلك يشير قوله تعالي: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ» «2»

، فإنّ الولوج في الانتماء السياسي إلي غير جماعة الحقّ التابعين لولاء اللَّه تعالي وولاء رسوله وولاء المؤمنين وهم أولي الأمر الذين أُمرنا بطاعتهم أصحاب الأمر المتنزّل ليلة القدر، وهم الذي يرون أعمال العباد ويشهدونها كما في قوله تعالي: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» «3»

، وهذه الآية قد ذُكرت في سياق نفس الآية في سورة البراءة. ومن الظاهر أنّهم ليسوا عموم المؤمنين، بل خصوص أئمّة المؤمنين.

ومن ثمّ قُرّر في النصوص المستفيضة والمتواترة الواردة في الفقه وكذا في الفتوي باباً بعنوان البغي والبغاة، المستمد من التشريع القرآني والسنّة القطعية، وعُنون في الفقه لدي كافّة المذاهب، فهو من الأبواب المتأصّلة في الفروع، وقد اتّفقوا علي تعريفه بأنّه: الخروج عن طاعة الإمام العادل وهذه مرتبة من مراتب ولاية إمام الحقّ.

وقد روي الفريقان بطرق عديدة: «إن من مات ولم يبايع إمام زمانه مات ميتةً جاهلية»، وفي بعض الروايات «من مات وليس في عنقه بيعة إمام مات ميتةً جاهلية»، وقد روي بألفاظ أُخري أيضاً.

ولا ريب أنّ مفاده لا ينطبق إلّاعلي إمام الأصل وهو المعصوم علماً وعملًا؛ لأنّه لا يُتصوّر أن يكون شخصاً غير المعصوم له من الطاعة السياسية وغيرها

ذات هذا

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 209

الشأن بحيث لا يموت المسلم والمؤمن علي صفة الإسلام ويكون موته ميتةً جاهلية، فطاعته هي الحدّ الفاصل بين الإسلام والكفر بلحاظ الأثر الأخروي، فهذا الشأن لا يكون إلّالمن اصطفاه اللَّه وطهّره من الأرجاس والذنوب، لا من يكون في معرض اقتراف المعاصي والكبائر ولا يؤمن من الوقوع في سخط اللَّه وغضبه.

فمفاد الحديث النبويّ يقرّر أنّ تولّي الإمام سياسياً وطاعته في الحكم والانتماء إليه في الهوية السياسية دخيل في الإيمان وصحّته والخروج عن حدّ الكفر القلبي الأُخروي، هذا فضلًا عن معرفة ذلك الإمام والاعتقاد والإيمان بإمامته فالطاعة والولاء لحاكميته هي بهذا الشأن، فأيّ انتماء وتحرّك وحركة وهوية سياسية لا تستند إلي إذن الإمام وأمره يكون خروج عن طاعته وتدبيره وبغياً علي ولايته السياسية. وهذا المفاد للحديث النبويّ يطابق مفاد الآية السابقة من لزوم إطاعة أُولي الأمر وحرمة التحاكم إلي غيرهم من الطواغيت.

وقد وردت الروايات المستفيضة بهذا المضمون، الدالّة علي أنّ المسلم والمؤمن يجب عليه أن ينتمي ويعيش في ظلّ النظام السياسي المدبَّر من قبل المعصوم، سواء كان ذلك النظام السياسي بصورة الحكومة المعلنة رسمياً، كما في عهده صلي الله عليه و آله وعهد وصيّه عليه السلام وسبطه المجتبي عليه السلام، أو بصورة الحكومة غير الرسمية في ظل النظام الإيماني، وهو نظام الطائفة الإمامية الاثني عشرية الاجتماعي الذي بُني بيدهم عليه السلام.

ويندرج في هذا المقام عدّة أبواب في النظام السياسي، كباب الجهاد من:

حرمة الجهاد مع إمام لا يُؤمّن علي الحكم ولا ينفذ في الفي ء أمر اللَّه عزّوجلّ، وكباب القضاء من: حرمة التحاكم إلي حكام الجور، وهو كلّ حاكم لم يستمد صلاحية قضائه من المعصوم، وكباب الفتوي أيضاً؛ وذلك لأنّ التقاضي والقضاء وصلاحية بيان

القوانين الشرعية هما من شُعب سلطات النظام السياسي، واللازم

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 210

فيه هو الانتظام في المنظومة التابعة والمنقادة للمعصوم وتدبيره، وبالتالي يتحقّق العيش في ظلّ حكومته وحاكميته ولو بصورة نظام اجتماعي للطائفة والمذهب، وإن لم يكن بصورة نظام الدولة الرسمية.

وحينئذٍ يكون ذلك تمسّكاً وأخذاً بحجزتهم وعيشاً في كنفهم ومكثاً في ظلّهم السياسي وتأديةً لحقوقهم، ومن ثمّ أشارت الآية السابقة إلي التناقض والتهافت بين دعوي الإيمان بما أنزل اللَّه، وبين العيش والانتماء السياسي في ظلّ الكيانات الجائرة التي لا تستمدّ مشروعيتها من اللَّه ورسوله صلي الله عليه و آله.

وكذلك قوله تعالي: «أَلَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَي الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ» «1»

، وقوله تعالي: «أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» «2»

، وقوله تعالي: «فَلَا وَرَبِّكَ لَايُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَايَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا» «3»

، وهذه الآية في ذيل الآية الأُولي.

فتبين الآيات الكريمة أنّ الإيمان لا يتمّ إلّابالولاء السياسي في كلّ شعبه، من القضاء والتشريع والتدبير إلي من أعطت السماء له الصلاحية، ولا يكفي مجرّد المعرفة والإقرار بالقلب.

وهذا مقامٌ خطير من مقامات ولاية اللَّه وولاية رسوله وأُولي الأمر المطهّرين الذين أُمرنا بطاعتهم. ويتّضح بذلك أنّه يحتمل في قوله تعالي في آية الغدير:

«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإْسْلَامَ دِينًا» «4»

أنّ إكمال الدين حصل بالبيعة السياسية لأمير المؤمنين عليه السلام في غدير خمّ؛ وإلّا ففرض

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 211

الإقرار بإمامته ومعرفته بالإمامة وأخذ ذلك في حصول الإيمان القلبي قد حصل في يوم الدار عند نزول هذه الآية: «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ

أَلْأَقْرَبِينَ» «1»

المعروف بحديث الدار في الآيات والسور المكّية «2» فضلًا عن المدنية. فالتدرّج هو في بيان رسول اللَّه صلي الله عليه و آله لشعب الولاية ومراتبها؛ وإلّا فأصل الولاية قد أُخذ ركناً في الإيمان والدين منذ أوائل البعثة، كما في سورة الشعراء، وجعل آدم خليفة أي إماماً، ومقام الإمامة في السور المكّية.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 213

تلوّن الفقه بولايتهم عليهم السلام موقعية الإمامة في بقية أركان الدين … ص: 213

اشارة

قراءة جديدة في حديث:

«من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهلية»

قد روي الفريقان بنحوٍ مستفيض أو متواتر حديث النبي صلي الله عليه و آله: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» «1»

. وألفاظ الحديث في بعض الطرق:

«من مات وليس في عنقه بيعة لإمام مات ميتة جاهلية» «2».

والمتبادر من فقه هذا الحديث وجود أئمّة في هذه الأُمّة ولهذا الدين، بهم يتقوّم الإيمان، وبمعرفتهم النجاة، وأنّ معرفتهم علي حدّ معرفة بقية أُصول الدين في كونها موجبة لحصول حقيقة الدين والديانة، وعدم تلك المعرفة موجب الخروج من حدّ الإيمان وحقيقة الإسلام إلي حدّ الكفر الأُخروي.

وأمّا مفاد الحديث علي اللفظ الآخر وهو البيعة والتي بمعني الطاعة السياسية، فله معني يتناول المعني السابق وزيادة، حيث يبيّن الحديث علي اللفظ الثاني (البيعة): أنّ الطاعة السياسية والقانونية للإمام دخيلة في تحقّق الإيمان، ومن ثمّ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 214

ينفتح مسار آخر لقراءة الحديث بنحو أعمق، ألا وهو البحث في العلاقة بين الإمامة وبقية أركان الدين، ولك أن تعبّر موقعية الإمامة في الأبواب الفقهية وفصول التشريع، كي نلاحظ ونتتبّع لون الولاء السياسي والقانوني للمعصوم عليه السلام.

فلو أراد الباحث تصفّح التشريع في الأبواب:

فأوّلًا: في باب الاجتهاد والتقليد، فإنّ منصب الإفتاء والفُتيا للمجتهد والفقيه منشعبة صلاحيته من إذن وتخويل الإمام المعصوم، ويرشد إلي هذه الحقيقة أنّ الفُتيا

ليست مجرّد إخبار محض كما هو الحال في نقل الراوي للرواية، بل هي سلطة تشريعية لا بمعني الصلاحية في تشريع الأحكام، بل بمعني أنّ الفهم التخصّصي لاستنباط واستنتاج الأحكام هو قدرة في معرفة الأحكام وبيانها، وبالتالي فهي قدرة في الخطاب القانوني المؤثّر في المجتمع.

ومن ثمّ اعتُبرت السلطة القانونية إحدي سلطات الحكم السياسي الاجتماعي، ذات نفوذ وامتداد في المجتمع. ومن ثمّ كان منصب الفتوي والذي هو أحد المناصب المرجعية الدينية- هو مسند ولاية نيابية ينوب فيها الفقيه والمجتهد عن المعصوم، ضمن مجال محدود بالقياس إلي علم المعصوم اللدني، ويشير إلي ذلك قوله تعالي: «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» «1»

، حيث جعلت الآية موقعية الفقيه في طول بنيابته عن المعصوم في حدود ما يتلقّاه عنه، فلا يُعقل إسناد هذا المنصب لغير المؤمن وغير العادل، وليس هو وزان الرواية حيث يُقبل فيها خبر الموثّق وإن لم يكن عادلًا، وبعبارة أُخري لا يستنيب الإمام المعصوم من لا يأتمّ به ولا يعتمد إمامته في هذا الدور من المنصب الخطير

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 215

في الدين.

وكذلك الحال في منصب القضاء والمناصب الأُخري التي يقوم بها نيابة عن المعصوم في ضمن مجال محدود، بالقياس إلي صلاحيات المعصوم بسبب العصمة العلمية والعملية، كما يشير إلي ذلك قوله تعالي: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًي وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ» «1»

، حيث جعل الأحبار وهم العلماء، في طول الربانيين وهم

الأوصياء المستحفظون ينوبون عنهم في بعض حدود الصلاحيات.

فيُعلم من ذلك أنّ صلاحيات نيابة الفقيه أو المجتهد كلّها منشعبة ومتعلّقة بالمعصوم وإمامته، فهذا الباب مرتبط عضوياً بشؤون الإمام المعصوم، فمن الغفلة بمكان بتر صلة هذا الباب الذي هو باب الفتوي والقضاء وباب الحكم وباب الحدود ونحوها، عن الصلة بشؤون المعصوم، بدعوي أنّ الفتوي إخبار محض.

أو أنّ القضاء ليس بتنصيب نيابي بل هو عبارة عن قاضي التحكيم، أي بتراضٍ من الخصمين، وأنّ صلاحية نفوذ القضاء ناشئة من التزام وتوافق طرفي النزاع في الخصومة، أو أنّه ناشٍ من قاعدة الحسبة التي مؤدّاها استكشاف الجواز وإن لم يكن إذناً ولائياً ونيابة، بل هو جواز تكليفي محض وليس مؤدّيً حقوقياً، وبالتالي يكون التمسّك بقاعدة الحسبة تجاوز علي ضرورة امتداد ولاية المعصوم إلي هذه المواقع، والحدّ من أياديه وشؤون تصرّفه وصلاحيات تصرّفه.

وكذلك ما يقال من تفسير صلاحية الحكم للفقيه والمجتهد الناشئة من

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 216

انتخاب الأُمّة بمقتضي قاعدة الشوري بالمعني المقلوب لها، بمعني سلطة الأكثرية؛ لأنّ المعني الأوّل الصحيح لها هو بمعني المداولة الفكرية والاطّلاع والفحص المعلوماتي، واتّباع منهج الفحص العلمي الخبروي والفرق الاستشارية التخصّصية في كلّ مجال، وكذلك ما يقال من تفسير صلاحية الفقيه والحاكم من أنّها ناشئة من العقد والتعاقد بين الأُمّة والحاكم المسمّي بالبيعة. وكلّ هذه المباني تصبّ في بتر الصلة مع المعصوم، وتحديد صلاحياته وولايته أو تجميدها، وبالتالي هذه التنظيرات الفقهية تؤول إلي حسر المعصوم عن ولايته الفعلية وتجميدها، وتصوير المبني علي تصوّر خاطئ، وهو عدم التصدّي الفعلي من قبل المعصوم للأمور، وبالتالي يؤول الأمر إلي تصوّرات اعتقادية خاطئة خطيرة في معرفة الإمام والإمامة، وإن كان هذا التلازم بين هذا التنظير الفقهي وهذه اللوازم الأُخري هو

تلازم نظري خفي مغفول عنه.

وقال الشيخ المفيد في المقنعة «1» في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

(فأمّا إقامة الحدود: فهو إلي سلطان الإسلام المنصوب من قبل اللَّه تعالي، وهم أئمّة الهدي من آل محمّد عليهم السلام، ومن نصّبوه لذلك من الأمراء والحكّام، وقد فوّضوا النظر فيه إلي فقهاء شيعتهم مع الإمكان، فمن تمكّن من إقامتها … ويجب علي إخوانه من المؤمنين معونته علي ذلك إذا استعان بهم، ما لم يتجاوز حدّاً من حدود الإيمان، أو يكون مطيعاً في معصية اللَّه تعالي به، لم يجز لأحد من المؤمنين معونته فيه، وجاز لهم معونته بما يكون به مطيعاً للَّه تعالي من إقامة حدّ وإنفاذ حكم علي حسب ما تقتضيه الشريعة، دون ما خالفها من أحكام أهل الضلال … وليس لأحد من فقهاء الحقّ ولا من نصّبه سلطان الجور منهم للحكم أن

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 217

يقضي في الناس، بخلاف الحكم الثابت من آل محمّد عليهم السلام، إلّاأن يضطرّ لذلك للتقية والخوف علي الدين والنفس … ومن لم يصلح للولاية علي الناس لجهلٍ بالأحكام أو عجز عن القيام بما يُسند إليه من أُمور الناس، فلا يحلّ له التعرّض لذلك والتكلّف، فإن تكلّفه فهو عاصٍ غير مأذون له من جهة صاحب الأمر الذي إليه الولايات، ومهما فعله في تلك الولاية فإنّه مأخوذ به محاسب عليه ومطالب فيه بما جناه، إلّاأن يتّفق له عفو من اللَّه تعالي، وصفح عمّا ارتكبه من الخلاف له، وغفران لما أتاه). انتهي.

ثانياً: في باب العبادات، فإنّ مشهور علماء الإمامية بنوا علي شرطية الإيمان والمعرفة بالأئمّة في صحّة العبادات، وقد ساقوا في ذلك أدلّة قرآنية وروائية «1»، وهي الآيات التي تدلّ علي حبط العمل من دون الإيمان، نظير

ما وقع في قصّة إبليس اللعين، حيث حبطت عبادته الطويلة الأمد بتركه ولاية وليّ اللَّه وخليفته.

وكذا قوله تعالي: «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَي» «2»

، وقوله تعالي: «وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإْيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ» «3»

، وقوله تعالي: «وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» «4»

، وقوله تعالي في وصف حال الذين في قلوبهم مرض: «ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ» «5»

، وقد فسّر الباري المرض في القلوب بالضغينة حينما قال: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ» «6»

، وهي في قبال مودّة القربي المفترضة، إلّاأنّ بعض متأخّري هذا العصر احتملوا أنّ غاية مفاد تلك الأدلّة هي نفي القبول والثواب

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 218

الأُخروي، لا صحّة العمل بلحاظ سقوط العقوبة، وإن لم يعتمدوا علي مجرّد هذا الاحتمال في صحّة نيابة غير المؤمن في العبادة

ولا يخفي أنّ هذا البحث شامل للاعتقاديات أيضاً، من الأيمان بالتوحيد والنبوّة والمعاد، كما أشرنا إليه في مقالة سابقة.

فيتأتّي القولان في ذلك أيضاً، وإن كان في تسمية الاحتمال الثاني قولًا مسامحةً، فعلي قول المشهور لا يكون ذلك الاعتقاد بأُصول الدين من دون الولاية لخليفة اللَّه سالماً صحيحاً، بل منطوياً علي نمط من الشرك والكفر، كالذي حصل لإبليس مع إقراره بالربوبية والمعاد، حيث طلب الإنظار إلي يوم البعث، وكذلك كان مقرّاً بنبوّة آدم وتفضيله عليه إلّاأنّه حيث كان غير منقاد لولاية خليفة اللَّه، لم يكن إيمانه صحيحاً، ولم ينجه من مصير الخلود في النار.

وأمّا علي القول الآخر، فيكون الإقرار متحقّقاً، ولا يُعاقب علي التوحيد والنبوّة والمعاد، وإن عوقب علي ترك الإقرار والإيمان بالولاية، لكنّه لا يُثاب علي ما قد أقرّ به من التوحيد والنبوّة والمعاد من

أُصول الدين.

ومحصّل الفرق بين القولين: إنّه علي قول المشهور يبطل جميع أعمال التارك للولاية والإيمان، سواء البدنية أو القلبية الاعتقادية، فيعاقب علي تركها، لأنّه قد أتي بها بنحو فاسد خاطئ، وبالعكس علي القول الآخر، فإنّه لا يعاقب علي ما أقرّ به من أُصول الدين، بل غايته أنّه لا يثاب عليها، وغاية ما يعاقب عليه علي هذا القول يقتصر علي ترك ولاية وليّ اللَّه.

فبين القولين جهات من الفرق واضحة، فعلي القول الثاني تضعف شدّة لون ولاية الإمام في الأعمال، بخلافه علي القول الأوّل؛ فإنّ التركيز فيه واضح، وباب العبادات أحد الأقسام الأربعة لمجموع الفقه.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 219

الضريبة المالية: … ص: 219

ثالثاً: الخمس، وهو وإن كان من العبادات، إلّاأنّ الكلام فيه من حيثية أُخري، وهي جواز التصرّف فيه بإيصاله إلي المصارف الشرعية. وقد اختلفت التخريجات في ذلك، فمن تخريج أنّه من باب مجهول المالك، ومن ثمّ يحتاط بالتصدّق به عنه (عج) عند صرفها في المصارف الشرعية.

فيكون مستند جواز التصرّف حكم مجهول المالك، لا المأذونية المنشعبة من ولاية الإمام عليه السلام.

وقيل: بجواز التصرّف والإيصال إلي المصارف الشرعية من باب أنّ الخمس هو لمقام الحاكم والحكومة، وإن كان بعض مصارفه الذرّية من بني هاشم زادهم اللَّه شرفاً- وعلي ذلك فكلّ من يتصدّي للحكم الشرعي يسوغ له التصرّف، وإن كانت صلاحية حكمه قد انبثقت من ولاية الأُمّة علي نفسها، وبالتالي فلا يكون التصرّف في الخمس بأذنٍ منه عليه السلام، بل ولا تكون ولايته علي الخمس فعلية حينئذٍ.

وقيل: تخريج الجواز المزبور من باب الحسبة؛ إذ الأصل عدم ثبوت ولاية نيابية للمجتهد من قبل المعصوم. إلي غيرها من التخريجات التي تبتني علي عدم استفادة الجواز من المأذونية منه (عج) باعتبار ولايته علي الخمس.

فهي إمّا

تعطّل ذات الولاية التي له (عج)، أو تعطّل آثار الولاية، مع أنّ جعل الخمس بنصّ الآية وكذلك الفي ء هو لذي القربي المعصومين؛ لمكان التعليل في آية الفي ء بإقامة العدالة المالية في المجتمع، قال تعالي: «كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم» «1»

حيث إن إرساء العدالة يتوقّف علي العلم اللدني التامّ المحيط بنظم المال والنقد والاقتصاد، وغيرها من المنابع والحقول المالية وموارد البيئة

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 220

الأُخري لتداول المال، كما يتوقّف علي علوم الإدارة والتدبير الثاقبة، وعلي الأمانة البالغة لدرجة العصمة العملية.

فالولاية للخمس والفي ء خاصّة به (عج)، وولايته فعلية غير معطّلة إلي أن يرث اللَّه الأرض ومن عليها، وكلّ صلاحية ومأذونية يجب أن تكون من قبل شخصه الشريف، نظير التوقيع الشريف: «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلي رواة حديثنا»، ونحو ذلك مما يستشفّ منه المأذونية.

وقد يُظنّ أنّ قاعدة الحسبة أوفق بالاحتياط، حيث إنّها مبتنية علي عدم ثبوت النيابة للمجتهد من قبل المعصوم، وإنّ ما يتصدي له المجتهد من الأُمور العامّة إنّما هو من باب الجواز التكليفي المحض، لا المأذونية النيابية، وفي الحقيقة فإنّ قاعدة الحسبة في أصلها مبنية- كما هي لدي جمهور أهل سنّة الجماعة- علي عدم وجود المنصوب للولاية العامّة بالنصّ الإلهي، فيتمسّك لجواز التصرّف بتقرير مقدّمات الحسبة، فمؤدّي الحسبة في الحقيقة مبنية علي عدم لزوم تولّد الجواز من قبل إذنه (عج)، وبالتالي عدم انحصار انشعاب المأذونية من ولايته.

السلطة في النظام العالمي: … ص: 220

رابعاً: الجهاد الابتدائي فإنّه قد أطبقت الإمامية علي اختصاص هذا المقام بالإمام المعصوم عليه السلام، حيث إنّ الجهاد الابتدائي في لغة القانون الوضعي الحديث يوازي ويعادل الوصاية علي المجتمعات البشرية، والنظام المدني العالمي الموحّد لإرساء العدالة العالمية في جميع أرجاء الكرة الأرضية، في نظام موحّد عالمي،

ويكون بيده القرار الأوّل في مصير البشرية. وهذا مقام حسّاس خطير لا يتأهّل له غير المعصوم، فمن الغريب بعد ذلك التمسّك بذيل قاعدة الحسبة وتقرير مقدّمات لتصوير جواز التصدّي لغير المعصوم لهذا الشأن والمقام الخطير.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 221

النظام الإيماني في النظام المدني: … ص: 221

خامساً: باب النكاح مع أهل الخلاف. فقد ذهب كثير من المتقدّمين إلي عدم جواز نكاح المؤمنة من غير المؤمن لا سيما غير المستضعف، كالمعاند. وذهب المتأخّرون إلي الكراهة أو إلي تقيّد المنع إذا خِيف علي إيمانها، وفي بعض ما ورد في ألسن الروايات كراهة تزويج المؤمن بغير المستضعفة، ونظير ذلك ورد في باب الذبائح من التفصيل بين ذبيحة المستضعف وبين ذبيحة المعاند.

المشاركة في الأنظمة الوضعية: … ص: 221

سادساً: باب الولايات في الأنظمة الوضعية. فقد ورد أنّ تسلّم أحد المناصب في الأنظمة المزبورة مشروط إمّا بالإكراه، وإمّا بغرض خدمة المؤمنين وقضاء حوائجهم.

وفي الحقيقة أنّ هذا الجواز ليس تكليفاً محضاً، وأنّما هو مأذونية منه عليه السلام وبماله من الولاية.

الإمامة والنظام المالي: … ص: 221

ونظير ذلك باب إحياء الموات، من أحيا أرضاً فهي له، فإنّ الجواز هنا مأذونية منهم عليهم السلام لولايتهم. وكذلك باب التعامل المالي في أشكاله المختلفة من المداولات المالية مع الأنظمة الوضعية، كما في شراء المقاسمات والخراج وإجارة الأراضي وقبول المنح، وغيرها، فهو إذن تسهيلي منهم عليهم السلام؛ لكونهم الحكّام الأصليين في الحقيقة، وبيدهم شرعاً زمام الأمور، فلا يكون من مجهول المالك ونحو ذلك. كما ورد عنهم عليهم السلام «لك المهنا وعليهم الوزر»، ومن ثمّ قال الشيخ المفيد في المقنعة: (.. ومن تأمّر علي الناس من أهل الحقّ بتمكين ظالم له

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 222

وكان أميراً من قبله في ظاهر الحال، فإنّما هو أمير في الحقيقة من قبل صاحب الأمر الذي سوّغه ذلك وأذن له فيه، دون المتغلّب من أهل الضلال) «1».

وقد تقدّم أنّ الصلاحية في باب القضاء وإقامة الحدود والقصاص وغيرها من أبواب إقامة الحكم، هي نيابية لا بالأصالة، ناشئة من المأذونية منه (عج)، لا من تراضي المتنازعين في باب الخصومات، ولا من تولية الناس والأُمّة، ولا من باب قاعدة الحسبة التي مؤدّاها جواز التكليف المحض وتطاول علي ولايته في هذه الأبواب من الحكم والحكومة، كما ورد قول أمير المؤمنين لشريح القاضي: «قد جلست مجلساً لا يجلسه إلّانبيّ أو وصيّ نبيّ أو شقي» «2».

والمراد من الحصر في كلامه عليه السلام: الحصر في مقام الصلاحية التي هي بالأصالة، فلا تنافي الصلاحية التي هي بالنيابة بالإذن من

قبلهم عليهم السلام، حيث يكون فيها الفقيه تابعاً لنظام القضاء عندهم عليهم السلام.

والحاصل، إنّ أزمّة وزمام عقال الأبواب الفقهية تتناهي إلي ولايتهم عليهم السلام، التي هي تابعة إلي ولاية الرسول، وبالتالي إلي ولاية اللَّه، والتركيز علي هذا اللون والحيثية والجهة في الأبواب الفقهية، يضبط سلامة النتائج في التفاصيل؛ بسبب استقامة البنية الأصلية في قواعد الأبواب المحكّمة فيها.

هذا فضلًا عن حجّية أقوال وفعل وتقرير المعصوم عليه السلام كمصدر في الأدلّة الشرعية الأصلية، فالحجّية في إبلاغ الشريعة والأخذ بالأحكام الشرعية عنهم عليهم السلام؛ لدورهم وصلاحيتهم التشريعية التابعة لسنن النبي صلي الله عليه و آله التابعة لفرائض اللَّه تعالي، حيثية تغاير حيثية ولايتهم عليهم السلام في نظام القانون والفقه بما هم ولاة أمر

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 223

وحكّام من قبل الرسول صلي الله عليه و آله، ومن قبله تعالي عزّ اسمه، فلا يكفي في البحث الفقهي الالتفات إلي إحدي الحيثيتين وهي الحجّية مع الغفلة عن الحيثية الأُخري وهي ولايتهم في الحكم والحكومة، بل اللازم الالتفات إلي تمام الحيثيات التي لهم عليهم السلام في الأبواب الفقهية، لا الاقتصار علي الاثنتين فضلًا عن الاقتصار علي الواحدة منهما.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 225

حرمة طاعة حكام الجور والطواغيت … ص: 225

قال بعض: إنّ مثل معاوية ويزيد والحجّاج طاعتهم لازمة، وتولّي الجائرين واجب بالعنوان الثانوي، ويستدلّ علي ذلك بضرورة حفظ النظام وأنّه لابدّ للناس من أمير برّ أو فاجر، والدليل أجنبي عمّا يتديّن به القائل من طاعة حكّام الجور وتولّيهم، وبيان ذلك بوجوه:

الأوّل: إنّ ضرورة الفعل وهو النظم لا تدلّ علي مشروعية فاعلية الفاعل، نظير السجّان الذي يسقي المحبوس لديه المشرف علي الهلاك ماءً غصبياً لا يدلّ علي إباحة الماء؛ لأنّ شرب الماء للسجين المظلوم لا يوجب حسناً فاعلياً للفاعل، بل

يوجب سوءً في فاعلية الفاعل. ولهذا الأمر أمثلة عديدة ذكرها علماء الأُصول، نظير من يتوسّط الدار الغصبية فإن خروجه ضرورة بحكم العقل، ولكنّ ذلك لا يعني عدم العقاب للفاعل علي الخروج مع كونه بضرورة العقل. ونظير ذلك قوله تعالي: «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ» «1»

، فإنّه تعالي أحلّ الميتة عند الضرورة لأكلها، واستثني من يتعمّد إلقاء نفسه في الهلكة، كأن يسلك طريقاً صحراوياً من دون مؤونة فيضطرّ إلي أكل الميتة، فإنّ مثل هذا الشخص الذي يوقع نفسه في هذا الاضطرار أكله ضروري بحكم العقل، ولكن تلك الضرورة لا ترفع عنه العقاب وسوء فاعليته.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 226

وكذلك من يذهب بنفسه إلي مجلس يعلم بأنّه سيُكره علي الفعل الحرام كالزنا والفاحشة وشرب الخمر، فإنّه بعد ذهابه إلي ذلك المجلس يكون إتيانه للفعل ضرورة؛ لوقوعه في الإكراه، ولكنّ ذلك لا يكون عنواناً ثانوياً رافعاً لحرمة الفعل.

ومن ثمّ قال علماء الأُصول: إنّ التسبّب للوقوع في الاضطرار للضرورات لا يرفع الحرمة، وإن كان رافعاً لفاعلية (خطاب الحكم) ومحرّكية حرمة الفعل المسمّاة بخطاب الحرمة.

الثاني: إنّه بمقتضي تمسّكه بوجوب حفظ النظام المدني من الأموال والأعراض والنفوس، يجب تولّي الحاكم الكافر والاستعمار الأجنبي علي حسب كلام هذا القائل- وإطاعته، ويلزم مشروعية حكومته؛ للضرورة المزبورة حسب ذلك الزعم.

الثالث: إنّ ضرورة حفظ النظام أيّ علاقة لها مع مشروعية حكم الحاكم الجائر ومشروعية تولّيه والركون إليه قلباً وقالباً، بل غاية لزوم حفظ النظام هو لزوم الكفّ عمّا يسبّب المزيد من الفساد والهرج والمرج إذا كان أهل الحقّ لا قدرة لهم علي إزالة الجائر، ولزوم إعتماد جانب التقية (سياسة الأمن)، لا الموالاة للظالم الجائر، وكم البون بعيد بين الأمرين.

الرابع: إنّ حفظ النظام هو الذي يوجب

إزالة النظام الجائر في جملة من الصور والموارد، كما إنّ حفظ النظام يقتضي دوام إنكار المنكر، وهو علي درجات: بدءاً من القلب وهو لا يسقط بحال، ثمّ اللسان (المعارضة الإعلامية)، فاليد (المعارضة التغييرية)؛ وذلك لأنّ الجور يتعدّي علي أوّليات الحقوق الأوّلية في النظام الاجتماعي، فكيف يُتوهّم أنّ حفظ النظام يقتضي ترك إنكار المنكر فضلًا عن اقتضائه التولّي والذوبان في الجور وولاء الظلم.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 227

الخامس: قوله تعالي: «وَلَا تَرْكَنُوا إِلَي الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ» «1»

و:

«يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَي الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ» «2»

و: «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَي لَاانْفِصَامَ لَهَا» «3»

، تبين هذه الآيات حرمة الركون إلي الظالم الجائر والطاغوت بل يجب الكفر به والتمرّد عليه، كما قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «من رأي سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرام أو تاركاً لعهد اللَّه ومخالفاً لسنّة رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، فعمل في عباد اللَّه بالإثم والعدوان، ثمّ لم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً علي اللَّه أن يدخله مدخله» «4».

السادس: إنّ ملف سيرة الغاصبين لخلافة أهل البيت عليهم السلام، وبدعهم وضلالاتهم، يبرهن إمتناع مشروعية خلافتهم تظلّ مع منكر أفعالهم؟ فهل مع هذا الملف من الضلالات تبقي مشروعية خلافتهم تحت عنوان ضرورة حفظ النظام؟

وهل ضرورة حفظ النظام تستلزم الضلالات والبدعة والظلم في الحكم؟

السابع: إنّ العنوان الثانوي كما حُرّر في علم الأُصول لا يرفع واقع الحكم وملاكه من المصلحة أو المفسدة في الفعل، وإنّما يرفع العقوبة والمؤاخذة، بشرط أن لا يكون الإقدام علي الاضطرار بسوء الاختيار، وإلّا فلا ترتفع العقوبة أيضاً.

الثامن: ما قام به أمير المؤمنين عليه السلام من الامتناع علي أصحاب السقيفة في

الامامة الالهية(5)،

ج 2، ص: 228

مؤامرتهم، وكذلك مواجهة الصدّيقة الزهراء لأبي بكر، وكذلك مقاطعة الحسن لمعاوية ومواجهة الحسين عليه السلام ليزيد، وهم أهل بيت التطهير الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وهم الثقل الثاني الذين أُمرنا بالتمسّك بهم، بل كلّ أئمّة أهل البيت من الحسن المجتبي والسجّاد وبقية الأئمّة عليهم السلام، كانوا علي حرب مقاطعة مع سلطات بني أُمية وبني العبّاس، ومجانبة للحكم الجائر، ولذلك قُتلوا وسُبوا وشُرّدوا عن أوطانهم.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 229

أبواب المعرفة

الفصل السادس: أقسام الصلاحيات المفوّضة لهم عليهم السلام … ص: 229

اشارة

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 231

أقسام الصلاحيات المفوَّضة لهم عليهم السلام

والغرض من الخوض في بحث التفويض (الصلاحيات المفوّضة) ليس بسط الكلام فيه ولا استعراض أدلّة وجوه البطلان في أقسامه أو الصحيحة منه، بل الغاية من ذلك التنبيه علي تعدّد أقسامه وتكثّرها وتباينها عن بعضها البعض، وأنّ جملة من أقسام الصلاحيات المفوّضة ليست تفويضاً عُزْلياً بعزل قدرة وهيمنة الباري تعالي، كما يتوهّمه غير المتضلّع في علوم المعارف، بل هي من باب إقداره تعالي، وهو أقدر فيما أقدر غيره علي ذلك الشي ء.

الأقوال في التفويض: … ص: 231

قال الشيخ المفيد قدس سره: (التفويض: هو القول برفع الحظر عن الخلق في الأفعال والإباحة بما شاؤا من الأعمال، وهذا قول الزنادقة وأصحاب الإباحات، والواسطة بين هذين القولين أنّ اللَّه أقدر الخلق علي أفعالهم، ومكّنهم من أعمالهم، وحدّ لهم الحدود في ذلك، ورسم لهم الرسوم، ونهاهم عن القبائح بالزجر والتخويف والوعد والوعيد، فلم يكن بتمكينهم من الأعمال مجبراً لهم عليها، ولم يفوّض لهم الأعمال لمنعهم من أكثرها، ووضع الحدود لهم فيها وأمرهم بحسنها ونهاهم

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 232

عن قبيحها، فهذا هو الفصل بين الجبر والتفويض) «1».

قال المجلسي في البحار: (وأمّا التفويض: فيطلق علي معاني بعضها منفي عنهم عليهما السلام وبعضها مثبّت لهم.

فالأوّل: التفويض في الخلق والرزق والتربية والإماتة والإحياء، فإنّ قوماً قالوا إنّ اللَّه تعالي خلقهم وفوّض إليهم أمر الخلق فهم يخلقون ويرزقون ويميتون ويحيون …

ثمّ ذكر لهذا القول وجهين، حكم بأنّ أحدهما كفر صريح، والآخر دلّت الأخبار علي المنع عنه، ثمّ قال:

الثاني: التفويض في أمر الدين وهذا أيضاً يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون اللَّه فوّض إلي النبيّ والأئمّة عليهم السلام عموماً أن يحلّوا ما شاؤا ويحرّموا ما شاؤا من غير وحي وإلهام، أو يغيّروا ما أُوحي

إليهم بآرائهم، وهذا باطل لا يقول به عاقل؛ فإنّ النبيّ صلي الله عليه و آله كان ينتظر الوحي أياماً كثيرة لجواب سائل ولا يجيبه من عنده وقد قال تعالي: «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَي* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَي» «2».

وثانيهما: أنّه تعالي لمّا أكمل نبيّه صلي الله عليه و آله بحيث لم يكن يختار من الأُمور شيئاً إلّا ما يوافق الحقّ والصواب ولا يحلّ بباله ما يخالف مشيئته تعالي في كلّ باب، فوّض إليه تعيين بعض الأُمور، كالزيادة في الصلاة، وتعيين بعض النوافل في الصلاة والصوم وطعمة الجدّ، وغير ذلك ممّا مضي، وسيأتي إظهاراً لشرفه وكرامته عنده، ولم يكن أصل التعيين إلّابالوحي، ولم يكن الاختيار إلّابالإلهام،

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 233

ثمّ كان يؤكّد ما اختاره صلي الله عليه و آله بالوحي، ولا فساد في ذلك عقلًا، وقد دلّت النصوص المستفيضة عليه ممّا تقدّم في هذا الباب وفي أبواب فضائل نبيّنا صلي الله عليه و آله.

ولعلّ الصدوق إنّما نفي المعني الأوّل حيث قال في الفقيه: وقد فوّض اللَّه عزّوجلّ إلي نبيه صلي الله عليه و آله أمر دينه ولم يفوّض إليه تعدّي حدوده وأيضاً هو رحمه اللَّه قد روي كثيراً من أخبار التفويض في كتبه ولم يتعرّض لتأويلها.

الثالث: تفويض أُمور الخلق إليهم من سياستهم وتأديبهم وتكميلهم وتعليمهم، وأمر الخلق بإطاعتهم فيما أحبّوا وكرهوا وفيما علموا جهة المصلحة فيه وما يعلموا، وهذا حقّ لقوله تعالي: «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» «1»

وغير ذلك من الآيات والأخبار، وعليه يحمل قولهم عليهم السلام: «نحن المحلّلون حلاله والمحرّمون حرامه»، أي بيانهما علينا ويجب علي الناس الرجوع فيهما إلينا، وبهذا الوجه ورد خبر أبي إسحاق والميثمي.

الرابع: تفويض بيان العلوم والأحكام بما

رأوا المصلحة فيها بسبب اختلاف عقولهم أي عقول الناس- أو بسبب التقية، فيفتون بعض الناس بالواقع من الأحكام وبعضهم بالتقية، ويبيّنون تفسير الآيات وتأويلها، وبيان المعارف بحسب ما يحتمل عقل كلّ سائل، ولهم أن يبيّنوا ولهم أن يسكتوا، كما ورد في أخبار كثيرة «عليكم المسألة وليس علينا الجواب»، كلّ ذلك بحسب ما يريهم اللَّه من مصالح الوقت، كما ورد في خبر ابن أشيم «2» وغيره.

وهو أحد معاني خبر محمّد بن سنان في تأويل قوله تعالي: «لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ» «3»

، ولعلّ تخصيصه بالنبيّ صلي الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام لعدم تيسّر هذه التوسعة لسائر الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، بل كانوا مكلّفين بعدم التقية في بعض الموارد، وإن

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 234

أصابهم الضرر والتفويض بهذا المعني أيضاً ثابت وحقّ بالأخبار المستفيضة.

الخامس: الاختيار في أن يحكموا بظاهر الشريعة أو بعلمهم وبما يلهمهم اللَّه من الواقع ومخّ الحقّ في كلّ واقعة، وهذا أظهر محامل خبر ابن سنان، وعليه أيضاً دلّت الأخبار.

السادس: التفويض في العطاء فإن اللَّه تعالي خلق لهم الأرض وما فيها وجعل لهم الأنفال والخمس والصفايا وغيرها، فلهم أن يعطوا ما شاؤوا ويمنعوا ما شاؤوا كما مرّ في خبر الثمالي وسيأتي في مواضعه. وإذا أحطت خبراً بما ذكرنا من معاني التفويض سهل عليك فهم الأخبار الواردة فيه وعرفت ضعف قول من نفي التفويض مطلقاً ولمّا يحط بمعانيه. «1»

وقال الحكيم الفقيه الشاه آبادي في كتابه رشحات البحار:

(المطلب الثالث عشر في الولاية التشريعية، وهي قسمان:

الأوّل: معرفة النبيّ والوليّ بأنّهم المقرّبون الواقعون في مرتبة الإطلاق والمشيئة، بحيث لم يكن بينهم وبين اللَّه أحد، وهي من العقائد اللازمة في الشريعة، ومعرفتهم بالنورانية؛ لأنّهم أولياء النعم، حيث إنّ

نعمة الوجود وكمالاته تحصل بمشيئته وهم صاروا مشيئته، والفرق بينهم وبين الوجود المطلق هو المشيئة، إنّ النقطة قد أخذت القرب من غير اختيار وهم أخذوها.. بالاختيار والامتحان وليست الحقيقة الإطلاقية إلّاأمراً واحداً، والأفراد عين الطبيعة المطلقة، فتدبّر فيه.

الثاني: الاعتقاد بأنّهم ولاة الأمر وأنّهم أولي بالأنفس، كما قال صلي الله عليه و آله في الغدير:

«ألست أولي بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلي. فقال صلي الله عليه و آله: من كنت مولاه فهذا علي مولاه»، كما

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 235

رواه العامّة في أزيد من ثمانين طريقاً، والخاصّة أزيد من أربعين طريقاً واصلًا إلي النبيّ صلي الله عليه و آله، بداهة أنّ الوليّ في المقام لا يمكن أن يكون معناه إلّاالسيد والأولي بالأمر؛ لعدم مناسبة سائر المعاني من استنطاقه صلي الله عليه و آله وإقرارهم له صلي الله عليه و آله بأولويّته علي الأنفس، كما لا يخفي علي المنصف غير المتعصّب.

مضافاً إلي أن هذه الولاية والأولويّة من توابع الولاية الأوّلية فالتشريع علي طبق التكوين، يعني فكما أنّهم توابع لهم وجوداً وتحقّقاً في الواقع، وهم تحت لوائهم ذاتاً واصلًا، فلابدَّ وأن يكونوا لهم طوعاً وتبعاً في الظاهر حتّي يطابق الظاهر الباطن، اللّهمّ اجعلنا ممّن اعتقد بولايتهم ظاهراً وباطناً وممّن يواليهم ظاهراً وباطناً..) انتهي كلامه قدس سره.

أقسام التفويض: … ص: 235

ولنبسّط الكلام في أقسام صلاحياتهم وما خُوّل إليهم في شؤون الدين الحنيف بترتيب آخر، سواء في التبليغ أو التشريع أو إقامة الشرع الحنيف:

القسم الأوّل: في كونه صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام هم الباب والدلائل علي شرع اللَّه تعالي، وهو ما يعبّر عنه في علم القانون الحديث بالناطق الرسمي لإمضاء ونفوذ القانون، فلا يؤدّي عن اللَّه تعالي إلّاهو صلي الله عليه

و آله، وأهل بيته عليهم السلام عنه.

وبعبارة أُخري: إنّ التشريع في مرحلته الإنشائية لا يكون نافذاً ولا مدوّناً وثابتاً في منظومة التشريع إلّابعد أن يُصوّب انفاذه، فما لم يبرز إنشاء التشريع عبر القناة المخوّلة لذلك لا يكون ذلك التشريع إلّافي مرحلة الأطوار البدائية للحكم غير الواصل إلي مرحلة البلوغ التامّ. وهذه المراحل في الحكم الإنشائي وأطواره مغايرة لمرحلة تطبيق التشريع في الخارج علي الموضوعات، أي ما يسمي بالحكم الفعلي الجزئي.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 236

فقناة التبليغ والمبلّغ لهما تمام الموضوعية في رسمية القانون والتشريع المبرم المحكم، وفي الحقيقة مقتضي ما حُقّق في علم الأُصول من أنّه ليس هناك إنشاء محض خالي عن الإخبار، بل كلّ من الإنشاء والإخبار ممتزج ومتداخل مع الآخر غاية الأمر أحدهما بالمطابقة والآخر بالدلالة الالتزامية. ففي الإخبار المُخبِر وإن لم يكن يُنشئ المخبر به بل يحكيه ويدلّ عليه، إلّاأنّ الحكاية والدلالة أمر ينشأ فيُوجد، فالمخبر به وإن لم يكن إنشائياً إلّاأنّ الإخبار نفسه كفعل أمر إنشائي بضرب من ضروب الإنشاء، بل هناك دلالة إنشائية أُخري في الإخبار أيضاً وهي إنشاء المخبر للشهادة بمضمون الإخبار، ويتعهّد ويلتزم بصدق ما يخبر به هذا في الإخبار.

أما في الإنشاء فهو وإن كان بالمطابقة إيجاد اعتباري للمعني المُنشأ، إلّاأنّ فيه مداليل خبرية أيضاً، منها: إخبار عن وجود إرادة جدّية له بمضمون الإنشاء. ومنها:

الإخبار عن وجود مصلحة أو مفسدة فيما يأمر به أو ينهي عنه في موارد إنشاء الطلب والتشريع والتقنين. ومنها: الإخبار عن وجود داعي للإنشاء، وهذا في جميع الأقسام الثمانية أو التسعة من أبواب الإنشاء، وغير ذلك من المداليل الأُخري.

وإذا اتّضحت هذه المقدّمة، يتبيّن عدم وجود إخبار محض في بيان الأحكام عن اللَّه تعالي، بل هو

مندمج ومشوب بضرب من الإنشاء، ومن ثمّ كان النطق الرسمي في القنوات الوضعية في الأنظمة السياسية في الدول إنشاء تفعيلي للتشريع، فإبراز وإيصال الأحكام من قبل الناطق عن السماء منصبٌ تشريعيّ يرسم فعلية التشريع، ومن ذلك يتبين الغفلة السطحية في حسبان أنّ الائمّة عليهم السلام قناة تبليغية معتادة كالرواة، أو عملية خبروية معتادة كالفقهاء والقانونيين في إيصال الأحكام.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 237

وفي ظلّ هذا القسم يتبيّن دخالة موقعية الرسول صلي الله عليه و آله في التشريعات الصادرة من الباري تعالي، عطية منه لنبيّه صلي الله عليه و آله، فالمخبر بالقرآن والمبلّغ لكلّ ما فيه عن اللَّه إنّما هو النبيّ صلي الله عليه و آله. وكذلك الحال في بقية فرائض اللَّه في الأحاديث القدسية، وهذه المرتبة الخطيرة في شؤون التشريع من المصادقة علي تشريعات السماء، فضيلة منه تعالي حباها لنبيّه صلي الله عليه و آله، وهذا الموقع في شؤون الدين ثابت في الجملة للأئمّة عليهم السلام فيما يبلّغونه عن الرسول عن اللَّه تعالي، في تلك الموارد التي لم يتلقّاها الناس عن النبيّ صلي الله عليه و آله وإنّما أدّاها النبيّ صلي الله عليه و آله ولا زال يؤدّيها إلي خاصّة عترته، بحسب ما لديه ولديهم من ارتباط لدني غير مقصور علي حال الحياة.

ومن أمثلة هذا القسم: تبليغ سورة البراءة، ويشير إلي هذا القسم قوله تعالي:

«وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» «1»

، وقوله تعالي: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ» «2»

، وغيرها من الآيات المتضافرة في هذا الشأن له صلي الله عليه و آله.

وأما الآيات المتعرّضة لإثبات هذا الشأن لهم

عليهم السلام، فقوله تعالي: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً وَبُشْرَي لِلْمُسْلِمِينَ» «3»

، بضميمة قوله الآخر:

«وَمَا كُنْتَ تَتْلُواْ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ* بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ» «4»

، فدلّت الآيتان علي وجود مجموعة في هذه الأُمّة قد أُودعوا الكتاب مُبيّناً كله في صدورهم، ومع دوام وأبدية حاجة الناس إلي الكتاب الذي لا تنفذ كلماته وبحور

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 238

علومه فتدوم الحاجة لوجود هذه المجموعة الذين شهد لهم القرآن بالقدرة علي بيان الكتاب كلّه إلي يوم القيامة، ونظيره قوله تعالي: «فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ* وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ* إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ» «1»

، بضميمة قوله تعالي: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً» «2»

وغيرها من الآيات التي سنستعرضها في الأبحاث اللاحقة.

أما الروايات فهي ما رواه الفريقان عن النبيّ صلي الله عليه و آله أنّه قال: «لا يبلّغ عنّي إلّاأنا أو رجل منّي أو قال من أهل بيتي» «3»

، وهذا الحديث النبويّ أصله حديث قدسيّ جاء به جبرئيل للنبيّ صلي الله عليه و آله: «لا يبلّغ عنك إلّاأنت أو رجل منك»، ونقل أيضاً في حديث..

قال ثمّ بعث أبا بكر بسورة التوبة فبعث عليّاً عليه السلام خلفه فأخذها منه، قال: «لا يذهب بها إلّارجل منّي وأنا منه» «4».

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 239

والظاهر أنّ مفاد صدور هذا الحديث في عدّة مواطن، منها: إبلاغ سورة البراءة كما تقدّم، ومنها: في عام حجّة الوداع حيث قال صلي الله عليه و آله: «إنّ عليّاً منّي وأنا من علي، وهو وليّ كلّ مؤمن

بعدي، لا يؤدّي عنّي إلّاأنا أو عليّ» «1».

ومفاد هذا الحديث وحديث البراءة وإن كان سيأتي بسط دراية معناه لاحقاً، إلّا أنّه تجدر الإشارة إلي المعني الظريف في مفاده، وهو تعبيره تعالي: «لا يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك»، لا يخلو من ظرافة بلاغية ومعرفية استعمل فيها التجريد، حيث افترض في الحديث القدسيّ والنبويّ أداء النبيّ صلي الله عليه و آله عن نفسه، وهو لا يتمّ تصوّره إلّابتجريد مرتبة ومقام عالي للنبيّ صلي الله عليه و آله يؤدّي عنه، أي عن تلك المرتبة منه تؤدّي المرتبة النازلة منه، أي يؤدّي المرتبة الجسمانية النفسانية منه عن المرتبة النورية منه القلبية، وهذا يقتضي أنّ علياً عليه السلام يتحمّل عن المرتبة النورية من النبيّ صلي الله عليه و آله ويبلّغ عنه بلحاظ ذلك المقام النوري، لا عن الجسماني فقط، لا سيّما وأن أحد مواطن صدور الحديث هو في إبلاغ سورة من القرآن إلي أسماع

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 240

البشرية تبليغاً عن السماء في أوّل نطق رسمي بهذه السورة.

القسم الثاني: التفويض في بيان تأويل الكتاب وبطونه قال تعالي: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الْأَلْبَابِ» «1»

، فأجزاء الشريعة جلّها في بطون الكتاب وتأويله، وإن كانت أُصولها في ظاهر الكتاب، سواء ذلك في المعارف والأُصول الاعتقادية، أو في الأحكام والفروع، ومن ثمّ كان بطون الكتاب سبعين بطناً وظاهره واحد، مع أنّ السبعين كناية عن الكثرة التي لا تُحصي، كقوله تعالي: «إِنْ تَسْتَغْفِرْ

لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ» «2».

وكذلك الحال في التأويل فإن التأويل للكتاب لا يقف علي موارد النزول، بل يدور مدار العصور والدهور، بل يعمّ النشأتين والنشآت وما فوقها من العالم الربوبي، وقد قال تعالي: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» «3»

، وقال تعالي: «وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ» «4»

، وقال تعالي:

«لَاتُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ» «5»

، وقال تعالي: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً وَبُشْرَي لِلْمُسْلِمِينَ» «6»

، وقال تعالي: «بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» «7».

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 241

أمّا الروايات «1» فقد عقد في ملحقات إحقاق الحقّ «2» باباً بعنوان: أنّ عليّاً يقاتل علي تأويل القرآن كما قاتل رسول اللَّه صلي الله عليه و آله علي تنزيله، وأورد في الباب ما يقرب من ستّة أحاديث وأخرج لكلّ حديث عدّة طرق من مصادر العامة.

منها: ما رواه الحافظ أحمد بن حنبل في مسنده «3»، قال: «حدّثنا عبد اللَّه، حدّثني أبي، حدّثني وكيع، حدّثني قطر عن إسماعيل بن رجاء، عن أبيه، عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: إنّ منكم من يقاتل علي تأويله كما قاتلت علي تنزيله قال: فقام أبو بكر وعمر «4»، فقال: لا، ولكن خاصف النعل، وعليّ يخصف نعله».

ومنها: ما رواه النسائي في الخصائص بسنده إلي أبي سعيد الخدري، قال:

«كنّا جلوساً ننتظر رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، فخرج إلينا قد انقطع شسع نعله، فرمي به إلي عليّ عليه السلام فقال: «إنّ منكم رجلًا يقاتل علي تأويل القرآن كما قاتلت علي تنزيله.

قال أبو بكر: أنا. قال: لا. قال عمر: أنا. قال: لا. ولكن خاصف النعل» «5».

ومنها: ورواه الحاكم النيسابوري في المستدرك «6» «ألا أنّ منكم من يقاتل علي تأويل القرآن كما قاتلت علي تنزيله. واستشرف لها القوم وفيهم أبو بكر وعمر … الخ».

وبسط الكلام في هذا القسم من مقاماتهم عليهم السلام، وإن كان سيأتي لاحقاً في الأبواب القادمة، إلّاأنّه ينبغي التنويه بذكر نبذة من ذلك، وهو أنّه لابدّ من تبيّن

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 242

وبيان لتأويل الكتاب العزيز، كما تقدّم ذلك في مفاد الآيات، وقد عُيّن هذا الدور الخطير بعد الرسول صلي الله عليه و آله وأُوكل إلي عليّ ووولده عليهم السلام، كما صرّحت بذلك الآيات، كآية التطهير ومسّ المطهّرين للكتاب المكنون.

وكذلك نصّت علي ذلك الأحاديث النبويّة، نظير الحديث المتقدّم: «تقاتل علي تأويل القرآن كما قاتل رسول اللَّه صلي الله عليه و آله علي تنزيله»، وهذا ممّا يقتضي إسناد مقام إلهي إلي عليّ وأهل البيت عليهم السلام مؤازراً لمقام النبوّة. وإنّ علم تأويل الكتاب كلّه لدي عليّ وأهل بيته عليهم السلام وراثةً عن النبيّ صلي الله عليه و آله بوراثة لدّنية لا كسبية.

فتبيّن: أنّ عليّاً وولده هم الراسخون في العلم الذين يعلمون تأويل القرآن، وأنّ الأُمّة إلي يوم القيامة مضطرّة ومحتاجة إليهم ما بقيت الأُمّة محتاجة إلي الكتاب العزيز، وما بقي دين الإسلام خالداً للبشر، لكلّ البيئات والعصور المختلفة.

والجدير بالإشارة أنّه قد قُرن في مفاد الروايات بين دور الرسول صلي الله عليه و آله وبين دور أمير المؤمنين عليه السلام، وأنّ الدور الثاني عدل للأوّل، نظير ما في حديث الثقلين من عدلية أهل البيت عليهم السلام للكتاب، إلّاأنّ هاهنا قد جُعلت القيمومة علي تنزيل القرآن للنبيّ صلي

الله عليه و آله، والقيمومة علي تأويله مهمّة علي عاتق أمير المؤمنين وولده المعصومين عليهم السلام وراثة من قيمومة النبيّ صلي الله عليه و آله علي التأويل.

وكما أنّ دور النبيّ صلي الله عليه و آله في التنزيل هو انتداب من الغيب إلي الشهادة، فكذلك الحال في دورهم في التأويل، فالحديث يدلّ علي المشاطرة بين التنزيل والتأويل في اكتمال بيان حقيقة القرآن، وبالتالي مشاطرتهما في تأليف مجموع الشريعة ومشاركتهما في مجموع أبواب الدين.

القسم الثالث: صلاحيته صلي الله عليه و آله في سنّ الأحكام والتشريعات المتنزّلة من أُصول تشريعية قد شرّعها اللَّه عزّوجلّ، وهذا ما يعبّر عنه في علم القانون بالتشريعات المستمدّة من الأُصول القانونية، والظاهر أنّ كلّ تشريعات الرسول هي من هذا

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 243

القبيل، وقد أُطلق عليها في الشريعة عنوان واسم السنّة (أي السنّة النبوية) «1»، في مقابل الفريضة.

وقد أُشير إليه في متواتر الروايات الآتية «2» نظير صحيحة الفضيل بن يسار قال:

«سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول لبعض أصحاب قيس الماصر: إنّ اللَّه عزّوجلّ أدّب نبيّه فأحسن أدبه، فلمّا أكمل له الأدب قال: «وَإِنَّكَ لَعَلَي خُلُقٍ عَظِيمٍ» «3»

، ثمّ فوّض إليه أمر الدين والأُمّة؛ ليسوس عباده، فقال عزّ وجلّ: «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» «4»

، وأنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله كان مسدَّداً موفَّقاً مؤيَّداً بروح القدس، لا يزلّ ولا يخطأ في شي ء ممّا يسوس به الخلق» «5»

ثمّ ذكر عليه السلام جملة من سنن النبيّ صلي الله عليه و آله المضافة إلي فرائض اللَّه تعالي وستأتي تتمّة الحديث في المقالات اللاحقة.

وظاهر الروايات أنّ كلّ تشريعات الرسول صلي الله عليه و آله التي بمعني إنشاء الحكم الجديد هي من هذا

القبيل، وكذا الحال في تشريعاتهم عليهم السلام فإنّها في طول الأُصول القانونية القرآنية والنبويّة.

ولابدَّ من الالتفات إلي أنّ الأُصول التشريعية القانونية ليست علي مرتبة واحدة، فبعضها فوقاني جدّاً يُعدّ في الصدارة والمرتبة الأُولي من التشريعات الأديانية، نظير المراتب في المواد الدستورية، وبعضها متوسّطات، وبعضها الآخر

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 244

مراتب منشعبة، والتنظير بين منظومة التشريعات في الدين ومنظومة التشريعات الدستورية ليس من كلّ وجه؛ لأنّ مجموعة القوانين الدستورية هي لنظام الدولة الذي هو أحد الأبواب العديدة في التشريع الديني، وإنّما التشبيه هو من جهة عموم بحث مراتب التشريع وكيفية ترامي المراتب نزولًا وصعوداً.

وبعبارة أُخري: كما للمجالس النيابية دور تشريع في طول وتبع للأُصول والمواد الدستورية إلّاأنّ هذه التبعية لا تلغي ما لتلك المجالس من دور وصلاحية تشريع، كما أنّ تلك الولاية والسلطة المفوّضة للتشريع لتلك المجالس النيابية لا يُنفي تبعيتها لأُصول الدستور، وكذلك الحال في التشريعات الوزارية فإنّها تبع لتشريعات المجالس النيابية من دون تنافي بين التبعية و تفويض صلاحية التشريع، وهذا المثال لبيان ظاهرة تنزّل التشريعات والاشتقاق القانوني والاستخراج الذي هو ليس عملية تطبيق محض كالكلّي والفرد، بل استخراج وانشعاب وتنزّل وتولّد، نظير تولّد نظام النقد العادل من أجل إرساء العدالة الاجتماعية، وهذه الظاهرة القانونية بديهية في علم القانون.

وعلي ضوء هذه القاعدة في أُصول التشريع يتّضح أنّ الأُصول التشريعية النبويّة حيث إنّها تنزيل وتنزّل للأُصول التشريعية من قبله تعالي، يتّضح المراد من فوقية الأُصول التشريعية الإلهية علي الأُصول التشريعية النبويّة، بمعني ضرورة نُشوء الأصل التشريعي النبويّ من أصل تشريعي إلهي، لا بمعني فوقية مجموع الأُصول التشريعية الأُولي علي الأصل التشريعي الثاني. فقد يكون الأصل النبويّ هو فوق أصل تشريعي إلهي آخر، وفي الحقيقة أنّ الأصل

التشريعي الأوّل الذي استمدّ منه الأصل التشريعي النبويّ هو فوق الأصل التشريعي الآخر، ومن ثمّ يعرض متشابه القرآن علي محكم كلّ من القرآن والسنّة النبويّة، كما يعرض متشابه السنّة علي محكم كلّ منهما.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 245

القسم الرابع: صلاحية الخيار لهم في البيان والعمل بين الحكم الواقعي والظاهري، بل يمتدّ هذا الخيار في درجات الحكم الواقعي نفسه، حيث بيّن القرآن الكريم أنّ للحكم الواقعي وللحقّ مراتب، إذ قال تعالي: «وَدَاوُدَ وَسُلَيَمانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ* فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيَمانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا» «1»

، فقرّر تعالي أنّ كلّاً من الحكمين حقّ مع اختلافهما.

وكذلك ما قصّه القرآن الكريم عن النبيّ موسي والخضر عليهما السلام، وقد استعرضت سورة الكهف ثلاث قضايا وهي بالتأمّل ليس من قبيل الحكم الواقعي والظاهري، بل من قبيل الحكمين الواقعيين، أحدهما واقعي أوّلي والآخر تأويلي.

وكذا ما يشير إليه القرآن الكريم من مراتب الهداية، كقوله تعالي: «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًي وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ» «2»

، وقوله تعالي: «وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًي» «3»

، وقوله تعالي: «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَي» «4»

، وقوله تعالي: «إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًي» «5»

، وقوله تعالي: «نُورُهُمْ يَسْعَي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا» «6»

، فتقرّر هذه الآيات أن الهداية إلي الحقّ ذات مراتب مختلفة، ممّا يقتضي أنّ للحقّ مراتب ومدارج وأبدال علي الخيار لهم عليهم السلام، وقد أشاروا إلي ذلك في قوله تعالي: «هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ» «7»

، فتقرّر الآية أنّ العطايا اللدنية الإلهية يخيّر فيها المعصوم بين البذل لكلّ مرتبة من تلك المراتب وبين

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 246

الإمساك، ويشير إلي ذلك

جملة من الروايات سيتمّ استعراضها لاحقاً «1».

القسم الخامس: صلاحية بيان المعارف والعلوم المختلفة، فقد قال تعالي:

«لَاتُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ» «2»

، وقوله تعالي: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» «3»

، وقوله تعالي: «لِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» «4»

، وغيرها من الآيات الدالّة علي أنّ بيان القرآن هي من مسؤوليات الشرع، ومن الواضح أنّ القرآن مصدر خالد وهداية للبشرية إلي يوم القيامة، وبالتالي فإنّ الحوادث تستجدّ وتتشابه، فيحتاج لهداية القرآن وحكمه الصائب العدل في تلك الحوادث المستجدّة في كلّ ما ينتاب البشرية. ومن الواضح أنّ استخراج ذلك من القرآن وتبيانه بعيداً عن الخطأ والجهالة والزلل والظنّ هو السبب في عدم تفويض اللَّه لتلك المسؤولية إلي المسلمين، وجعلها مسؤولية خاصّة لذاته المقدّسة، أي بتوسّط رسوله صلي الله عليه و آله، وبعد الرسول لابدَّ من قيام أشخاص بتلك المهمّة يحذون حذوه صلي الله عليه و آله إلي يوم القيامة.

وبعبارة أُخري: إنّ جعل اللَّه تعالي بيان القرآن وظيفة خاصّة به تعالي وبرسوله صلي الله عليه و آله يحمل في طياته أنّ الإحاطة بتمام معاني القرآن الكريم وحقائقه التي بها تحصل هداية الأجيال البشرية جيلًا بعد جيل- لا سبيل لأحد إليها، بل هي خاصّة به تعالي وبمن يطلعه من أصفياء خلقه، ولا محال أنّ ذلك يستلزم وجود من يخلف رسول اللَّه صلي الله عليه و آله في هذا الدور التشريعي..

وهذه الإحاطة التامّة اللدنية بكافّة العلوم كذلك؛ فإن الاحاطة بكافّة مسائل علم الرياضيات مثلًا، أو الطبيعيات كالفيزياء أو الكيمياء أو الأحياء وغيرها، لا يتسنّي

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 247

ولا يتأتّي لروّاد العلوم، بل كمية المجهولات التي لم يهتدوا إليها ويقرّون

بعجزهم عن معرفتها- هي أكثر بكثير من المسائل المعلومة، وهذا دليل علي ضرورة وجود من يحيط بهذا العلم بإحاطة لدنية تامّة، فضلًا عن القرآن الكريم الجامع لكلّ العلوم.

القسم السادس: ولايتهم في تأديب وتزكية وتعليم الخلق ومطلق السياسات التربوية، وقد يوازي هذا القسم التشريعات في ظلّ الحكم السياسي، سواء علي نطاق الأُمور العامّة أو علي نطاق الأحوال الشخصية، وسواء كانت في جانب الأُمور التنفيذية أو في الجنائيات والعقوبات، وغيرها من أمور التدبير العام، قال تعالي: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ» «1»

، وقال تعالي: «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ» «2».

ولا يخفي أنّ هذه الآيات قد تعرّضت إلي عدّة أقسام من مهام الرسول صلي الله عليه و آله، ورتبه ومواقعه البنيوية الأصلية في الدين، حيث إنّ قوله تعالي: «يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ» إشارة إلي القسم الأوّل وهو النطق والإدلاء بالتنزيل بالقرآن، وقوله تعالي:

«يُزَكِّيهِمْ» بيان لهذا القسم السادس وللصلاحية المفوّضة للحكم السياسي وتدبير نظام المجتمع، وقوله تعالي: «وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ» بيان لصلاحية القسم الثالث، وهو بيان التأويل والبطون، وقوله تعالي: «الْحِكْمَةَ» بيان للقسم الثاني، كما يشمل القسم السادس.

وقال تعالي: «وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَي الرَّسُولِ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 248

وَإِلَي أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا» «1»

، وهي تدلّ علي أنّ المصدر والمفزع في الأُمور هو الرسول وأُولي الأمر، وأنّ الواجب علي المسلمين إذا انتابهم أمر يمسّ حياتهم في

النظام الاجتماعي هو الرجوع والردّ للبتّ في شأنه إلي الرسول صلي الله عليه و آله وإلي أولي الأمر؛ وذلك لإحاطة تلك الثلّة باستنباط واستخراج، العلم بما هو الحقّ في تدبير ما ألمّ بهم من أمر، لا الظنّ بالحقّ؛ لكون التعبير في الآية (لَعَلِمَه) لا (ظنّه)، ولذلك حصر نجاة الأُمّة عن اتّباع الشيطان، بردّ الأُمور إلي الرسول صلي الله عليه و آله وأُولي الأمر، ممّا يدلّ علي أنّ الرجوع إلي الرسول صلي الله عليه و آله وإلي أُولي الأمر عاصم للأُمّة عن اتّباع الشيطان.

فالآية دالّة علي أنّ تدبير الرسول صلي الله عليه و آله وأُولي الأمر ليس اجتهادياً ولا ظنّياً كما ذهب إليه العامّة، بل هو تدبير عن علم وإحاطة بالأُمور بإقدار من اللَّه عزّ وجلّ، فهذا الاستنباط هو استخراج صراح الحقّ، وليس إعمال الموازين الظاهرية التي قد تخطأ أو تصيب، كما لا مجال للخطأ في استخدام الموازين الآلية في تدبير الأُمور العامّة من قبل الرسول صلي الله عليه و آله وأُولي الأمر. نعم، قد يوهم إسناد الخطأ إلي الرسول وأُولي الأمر من ناحيتين:

الأُولي: الجسم البشري في الجهاز الحاكم في حكومة الرسول وأُولي الأمر عليهم السلام، هذا الكمّ والحشد البشري غير معصوم، وقد يرتكبون الأخطاء والمعاصي، فينسب بعضهم ذلك إلي الرسول وأُولي الأمر. لكن هذا الإسناد ليس في الحقيقة متّصلًا بالرسول صلي الله عليه و آله، بل يسند ويُنسب إلي أعضاء حكومته.

نظير ما ارتكبه خالد بن الوليد يوم فتح مكّة حيث غدر ببني الأجلح، فتبرّأ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 249

النبيّ صلي الله عليه و آله من فعله بقوله صلي الله عليه و آله: «اللهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا فعله خالد»، فقد كان معيّناً من قبل النبيّ صلي الله

عليه و آله علي إحدي الفرق العسكرية، ثمّ انتدب رسول اللَّه صلي الله عليه و آله عليّاً عليه السلام ليسترضيهم ويعطي الدية عن من قتل منهم. وكذا ما ارتكبه أُسامة بن زيد من قتل من أظهر الإسلام اشتباهاً منه في أنّ إظهار الشهادتين لا يحقن الدم مع الريبة عندما كان يقود سرية.

الثانية: إنّ الميزان الظاهري الشرعي في الموضوعات الخارجية، لا في استكشافه ومعرفته، وقد خلط العامّة بين الميزان الظاهري في الموضوعات، وعمّموا ذلك لمعرفة الأحكام في حقّ النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام، وهو من الخلط بين المقامين، مع أنّ النبيّ صلي الله عليه و آله في مقام العمل والتطبيق والتنفيذ ليس غالب، أدواته بموازين ظاهرية في الموضوعات، وهذا الذي وظّف اللَّه تعالي نبيّه وولاة الأمر عليهم السلام بالعمل به، هو من جملة الموازين الموظّفة شرعاً، فبعضها موازين ظاهرية بضميمة الموازين الواقعية.

وحيث كان بعضها ظاهرياً فالميزان قد يخطي وقد يصيب، نظير البيّنة والحلف في القضاء، كما في قوله صلي الله عليه و آله: «إنّما أقضي بينكم بالبينات والإيمان، وبعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيما رجلٍ قطعت له من مال أخيه شيئاً فكأنّما قطعت له قطعةً من النار» «1».

فتحصّل: إنّ تدبيره صلي الله عليه و آله وأمره في الحكم السياسي بمقتضي مفاد الآية الشريفة هو العصمة عن الزلل والخطأ، وإنّه إن شوهد ما يوهم ذلك في سيرته صلي الله عليه و آله، فإنّ ذلك عند التدبّر راجع إلي أعضاء جهازه الحكومي من الولاة والأُمراء وغيرهم، أو إلي كون الميزان الشرعي في الموضوعات الموظّف العمل به في التدبير ظاهرياً،

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 250

فقد لا يصيب الواقع في بعض موارده.

ثمّ إنّ هذه الآية دالّة

علي وجود ثلّة في هذه الأُمّة هم ولاة الأمر، مقرونة ولايتهم بولاية الرسول صلي الله عليه و آله، وأنّ لهم عصمة في التدبير، والعصمة في التدبير متقوّمة بالعصمة العلمية والعملية، وأنّ هذه الثلّة باقية ما بقيت الأُمّة وما بقي القرآن الكريم؛ لأنّ الآية خطاب إلي كلّ المكلّفين إلي يوم القيامة، وأنّ الواجب عليهم ردّ وإيكال ما ينوبهم ويعتريهم في أُمورهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها بإيكاله وردّه إلي أُولي الأمر العالمين بحكمه؛ لقدرتهم علي استنباط واستخراج الحقّ والرأي الصائب فيه.

ومن البيّن أنّ هذا الاستنباط الموصل إلي العلم بحقائق الأُمور مستقاة من الكتاب الكريم، لا بلحاظ ما فيه من تشريع فقط، فإنّ ذلك لا يوجب بمفرده العصمة في التطبيق والتدبير، بل لابدّ بالإضافة إلي ذلك معرفة ما في الكتاب من استطار كلّ شي ء فيه من كلّ غائبة في الأرض أو في السماء أو رطب أو يابس، في رتبة حقائقه العالية من الكتاب المكنون، الذي هو الكتاب المبين، والذي لا يمسّه إلّا المطهرون، وهو وصف أُولي الأمر المعصومين.

القسم السابع: صلاحيتهم في بيان النسخ؛ وذلك بأن يُودع رسول اللَّه صلي الله عليه و آله الناسخ لديهم إلي حين أوانه فيبرزوه ناسخاً. وقد أثبت هذا القسم جملة من أعلام الإمامية كما سيأتي في الأبواب تفصيل أقوالهم.

وحقيقة هذا البيان للنسخ، لا يخفي أنّه ليس إخبار محض كما هو الحال في القسم الأوّل الذي مضي بيانه مفصّلًا، وأنّه بمثابة الناطق الرسمي القانوني عن السماء، أي في أصل أداء الأحكام عن اللَّه، حيث قد مرّ أنّه لا يخلو هذا البيان عن ماهية الإنشاء، فكيف بإبراز النسخ الذي هو إنهاء لفعلية تشريع ثابت وتفعيل وتشريع جديد، فهو أوغل في إنشائية التشريع.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص:

251

ويندرج في هذا القسم نسخ القرآن بالسنّة القطعية النبويّة، وقد قال بذلك أغلب الخاصّة والعامّة إلّامن شذَّ، ومن أمثلته «1» تبليغه عليه السلام سورة البراءة، حيث إنّ مفاد سورة البراءة قد نسخ بعض الأحكام السياسية مع المشركين المذكورة في السور السابقة، مع أنّ المبلّغ للنسوخ إلي البشرية هو أمير المؤمنين عليه السلام، وسيأتي بيانه لاحقاً.

القسم الثامن: صلاحية تفويض القضاء والحكم فيه، وقد قال تعالي: «فَلَاوَرَبِّكَ لَايُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَايَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيًما» «2»

، وقوله تعالي: «وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ» «3»

، وقوله تعالي: «إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ» «4»

، وقوله تعالي: «مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَامُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَي اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» «5».

وقد استظهر من قوله تعالي: «لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ» تخيّره صلي الله عليه و آله في الحكم بحسب الموازين الشرعية بين الظاهرية والواقعية، بحسب واقع الأمور التي يريها اللَّه له صلي الله عليه و آله، كما قد استفيد من مجموع هذه الآيات وغيرها، وتخيّره صلي الله عليه و آله في الحكم بين مراتب الحكم الواقعي. قال الشيخ المفيد رحمه الله: (للإمام أن يحكم بعلمه كما يحكم بظاهر الشهادات، ومتي عرف من المشهود عليه ضدّ ما تضمّنته الشهادة أبطل بذلك شهادة من شهد عليه وحكم عليه بما أعلمه اللَّه) «6».

القسم التاسع: من الصلاحيات المفوّضة ولاية الإمامة السياسية والخلافة،

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 252

وإقامة الحكم السياسي والدولة، وإدارة النظام الاجتماعي والسياسي، وقد كتب في هذا المضمار علماء الإمامية أسفاراً جمّة، وأشبعوا البحث درايةً وبياناً وتفصيلًا» «1».

القسم العاشر: من الصلاحيات المفوّضة لهم: كونهم

الفيصل والمصدر العلمي الشرعي المهيمن عند الاختلاف في معاني ومؤدّيات الأدلّة والأحكام الشرعية، فضلًا عن المتشابه في المعارف والاعتقادات. سواء كان الاختلاف أو التشابه في ظواهر أدلّة القرآن والسنّة النبويّة هو بنحو التعارض أو الإجمال والإيهام، أو تزاحم المقتضيات وغيرها من أقسام الاختلاف، فلزوم الرجوع إليهم عليهم السلام كما هو في الابتداء، كما مرّ في الأقسام السابقة، كذلك في المآل عند وقوع الاختلاف في جميع أقسامه، فهم عليهم السلام بلحاظ هذا القسم بمثابة المحكمة الدستورية لكلّ الدين، لا لخصوص نظام الدولة الذي هو شعبة من فروع الدين، فهم الفيصل عند الاختلاف في تفسير الدين والشريعة وقراءة النصوص، ويشير إلي هذا القسم قوله تعالي: «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَي الرَّسُولِ وَإِلَي أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا» «2»

، و «الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ» بمعني يستخرجون حقيقة الواقع كما هو معني الاستنباط لغةً، لا المعني المتداول عند الفقهاء بمعني الاستظهار الظنّي، هم الرسول صلي الله عليه و آله وأُولي الأمر من قرباه أهل آية التطهير والمباهلة، كما مرّ بيانه.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 253

صلاحية التشريع مبدأ وماهية ومنتهي … ص: 253

تقديم:

إنّ البحث في صلاحية التشريع أو الولاية التشريعية للرسول صلي الله عليه و آله والأئمّة من بعده بعد وضوح أنّ الشارع الأوّل والمهيمن هو الباري تعالي، إلّاأنّه وقع الكلام في ثبوت هذه الصلاحية والمقام له صلي الله عليه و آله ولهم عليهم السلام في مدار محدود تابع لتشريع اللَّه تعالي، وفي ظلّ التشريعات الإلهية، كما قد وقع الكلام في حقيقة وساطته صلي الله عليه و آله بين الباري والناس، أي في حقيقة التبليغ عن اللَّه، وكذلك في حقيقة وساطة الأئمّة عليهم السلام عن اللَّه ورسوله، أي في حقيقة

تبليغ الأئمّة عن الرسول صلي الله عليه و آله، وفي ماهية الطرق والمنابع التي يأخذ منها الرسول والأئمّة صلوات اللَّه عليهم أجمعين.

فلابدّ من إقامة البحث في ذلك ليتبين لنا حقيقة صلاحية جعل القوانين وسنّ الأحكام وحقيقة التبليغ، وهل هي علي وزان دور سائر الناس في عملية التبليغ والإبلاغ، كما هو الحال في الرواة الذين يكونون وسائط في مجرّد نقل محض اللفظ من دون أن يكون لهم بالضرورة دراية تامّة محيطة بتمام معاني التشريعات وحقائقه؟ وهذه النظرية والنظرة له صلي الله عليه و آله ولهم عليهم السلام يترتّب عليها آثار خطيرة:

منها: عدم اشتراط العصمة في الرسول والإمام لأداء مهمّة التبليغ، بل يكفي الصدق بدرجة العدالة في ذلك، حيث إنّ هذه النظرة مسخ لماهية التبليغ النبويّ

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 254

والتبليغ الولوي «1»، وأنّ درجته لا تتطلّب أكثر من ذلك.

ومنها: تساوي النبيّ صلي الله عليه و آله والإمام عليه السلام مع جملة من الأفراد الآخرين الذين يعرفون جملة من ما أُثر عن الرسول صلي الله عليه و آله وعنهم عليهم السلام.

بل قد يكون الأفراد الآخرون في بعض الأحيان والعياذ باللَّه تعالي- أفقه منهم صلوات اللَّه عليهم؛ إذ علي هذه النظرية من حقيقة تبليغهم تجري قاعدة ربّ حامل فقه إلي من هو أفقه منه (والعياذ باللَّه)، وهذه النظرة والنظرية هي التي كانت لدي بعض الصحابة «2»، ولأجل ذلك كان يُكثر من المشاققة والاعتراض علي النبيّ صلي الله عليه و آله، يعارضه في القول والفعل، حتّي نزلت الآية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» «3».

ومنها: إطلاق الرواة عليهم، وقد ارتكبه جملة في الأعصار المتأخّرة، وبالتالي فعلمهم صلوات اللَّه عليهم منحصر

في التنزيل دون التأويل، وبالمحكم دون المتشابه، فقال بعضهم حول صلاحية التشريع وحول ما دلّ من الآيات والروايات علي كون النبيّ صلي الله عليه و آله والإمام أولي بالمؤمنين من أنفسهم (وأما ما كان من الأحكام المتعلّقة بالأشخاص بسبب خاصّ من زواج وقرابة ونحوهما، فلا ريب في عدم عموم الولاية له، وأن يكون أولي بالإرث من القريب وأولي بالأزواج من أزواجهم، وآية: «النبيّ أولي بالمؤمنين» إنّما يدلّ علي أولويته فيما لهم أي الأشخاص- الاختيار، لا فيما لهم من الأحكام تعبّداً وبلا اختيار).

وقال آخر: (أي: فوّض إليهم أن يحلّلوا ما شاؤوا ويحرّموا أيضاً ما شاؤوا،

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 255

وهذا أيضاً ضروري البطلان؛ فإنّ النبيّ صلي الله عليه و آله ليس شارعاً للأحكام، بل مبين وناقل له، وليس شأنه في المقام إلّاشأن ناقل الفتوي بالنسبة للمقلّدين).

وقال بعضهم: إنّ وصول المعصوم إلي الحكم الشرعي يتمّ في جملة من الأحيان بواسطة مراجعة المعصوم إلي الكتب التي ورثها عن رسول اللَّه، والفحص في أبوابها، وملاحظة المطلق والمقيد والعامّ والخاصّ والناسخ والمنسوخ والمجمل والمبين، تماماً كما يمارس ذلك الفقيه، غاية الأمر الفرق بينهما أنّ المعصوم مسدّد عن الخطاء.

وأمّا قول العامّة باجتهاد الرسول والعياذ باللَّه- فهو إفك جاء به عصبتهم الأوائل، لتبرير معارضة وعصيان الرسول، وتلقّاه أواخرهم بألسنتهم وحسبوه هيناً وهو عند اللَّه بهتان عظيم.

وقد تفشّت هذه المقولة واتّبعت هذه الخطوات في بعض الأقلام المنتحلة..

فأطلقوا التعبير باجتهاد أئمّة أهل البيت، وأنّ هذا فهمهم، وأنّهم رواة عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، وأنّ علمهم قائم بالكتب المدوّنة المنفصلة عن أرواحهم، إلي غير ذلك من الأقاويل التي يطلقونها.

وكلّ ذلك ناشئ عن قصور وتقصير في معرفة الرسول صلي الله عليه و آله والأئمّة

عليهم السلام، وموقعية وساطتهم في الدين الحنيف والشريعة الغرّاء، وعن الجهل بمصادر علومهم وضروب العلم لديهم وأبوابها، وحقيقة مراحل التشريع والشريعة، وأنّ الإحاطة الواقعية بتفاصيل الأُمور وحقائقها لا يتمّ إلّابالعلم الجمعي اللدني بأُمّهات أُصول الشريعة، فمن ثمّ استدعي البحث في دورهم ومقامهم في منابع علومهم عليهم السلام التي هي مصادر الشريعة.

قال العلّامة الطباطبائي: (إنّهم يقيسون نفوس الأنبياء في تلقّيهم المعارف الإلهية ومصدريتهم للأُمور الخارقة بنفوسهم العادية.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 256

ثمّ ذكر خلطهم من إرادة النبيّ إبراهيم عليه السلام عملية الإحياء بين جانبها الملكوتي وجانبها الحسّي الظاهري … إلي أن قال.

لكنّ هؤلاء لإهمالهم أمر الحقائق وقعوا فيما وقعوا فيه من أمر الفساد، وكلّما أمعنوا في البحث زادوا بعداً عن الحقّ) «1».

وقال في موضع آخر: (ومنشأ هذه الشبهة ونظائرها من هؤلاء الباحثين، أنّهم يظنّون أنّ دعوة إبراهيم عليه السلام للطيور في إحيائها، وقول عيسي عليه السلام لميت عند إحيائه:

قم بإذن اللَّه، وجريان الريح بأمر سليمان، وغيرها ممّا يشتمل عليه الكتاب والسنّة، إنّما هو لأثر وضعه اللَّه تعالي في ألفاظهم المؤلّفة من حروف الهجاء، أو في إدراكهم التخيلي الذي تدلّ عليه ألفاظهم، نظير النسبة التي بين ألفاظنا العادية ومعانيها، وقد خفي عليهم أنّ ذلك أنّما هو عن اتّصال باطني بقوّة إلهية غير مغلوبة، وقدرة غير متناهية هي المؤثّرة الفاعلة بالحقيقة) «2».

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 257

منابع علومهم عليهم السلام هي مصادر ومتون الشريعة … ص: 257

أقسام الوحي: … ص: 257

«مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَي»

قال تعالي: «وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَي* مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَي* وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَي* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَي* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَي» «1».

والبحث في هذه الآيات هو أحد أُمّهات البحوث في معرفة النبوّة، وقد استدلّ بها فريق المثبتين لصلاحيته صلي الله عليه و آله لدور التشريع التابع

لتشريع اللَّه، كما استدلّ بها النافون لهذا الدور والمقام.

وقد استدلّ بها كثير من العامّة لحصر عصمة النبوّة في التبليغ دون بقية الأفعال والشؤون، وهذه الدعوي منهم مبنية علي التفكيك بين شخصية النبوّة فيه صلي الله عليه و آله، وشخصية شؤونه الأُخري، وعلي تعدّد حيثيات شخصيته صلي الله عليه و آله، ومن ثمّ تعدّد حيثيات شؤونه، وبالتالي انقسام أقواله وأفعاله إلي ما يرتبط بالشريعة، وإلي ما لا صلة له بالشريعة، وهذه النظرة إلي شخصيّة النبيّ صلي الله عليه و آله قد أصبحت عندهم من المسلّمات «2»، وهي بعيدة تمام البعد عن حقيقة شخصيّة النبيّ؛ فإنّ حقيقة تكوين

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 258

وتركيب شخصيّته ليست بنحوٍ يتصوّر انفكاك فطرته الغريزية وفطرته الإنسانية والعقلانية عن فطرته الوحيانية، وبالتالي هيمنة الفطرة الوحيانية علي تمام درجات فطره الأُخري، وذوبانها فيها، وتبعيتها وانقيادها لها، وانصباغها وتلوّنها بها، فلا مجال للتفكيك والتفكّك، ولا للانفصال والفصل، بل كلّ حركاته وسكناته خوضه وامساكه قوله وفعله حلّه وترحاله مسيره وخطواته، كلّ ذلك متن وحياني ونموذج أمثل ركّبته يد القدرة الإلهية؛ ليحتذي به النبيّون والمرسلون والأوصياء والمصطفون، فضلًا عن سائر البشرية.

فالتفكيك في شخصيّته بين الشؤون الشرعية وأُمور الحياة الاعتيادية نظرية خاطئة متفشّية في بحوث المعرفة والعلوم الدينية، ولأجل الوقوف علي مفاد الآيات الكريمة السابقة لابدّ من تحرّي المراد من كلّ من العناوين الواردة فيها، من الوحي والنطق والهوي والضلال والغواية.

أمّا العنوان الأوّل: فالوحي، الذي هو مصدر نطق النبيّ صلي الله عليه و آله، كما أنّه علّة بثلاث قضايا الأخبار في الآيات، حيث قد سبق الأخبار عن حصر مصدر النبيّ ومعتمده علي الوحي: «إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَي»، قد سبقه ثلاثة إخبارات: الأوّل: «مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ»، الثاني: «وَمَا

غَوَي»، الثالث: «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَي»، فجاء الإخبار الرابع: «إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَي» في مقابل الإخبارات الثلاثة، أي في مقابل المنفي في الإخبارات الثلاثة، فهو بمنزلة العلة للنفي فيها، فليس هو تعليل للنفي في الإخبار الثالث فقط كما شاع في كلمات جملة من المفسّرين وأبحاث العلوم الإسلامية، بل هو تعليل للنفي في كلّها.

وعلي ذلك، فالضمير في الإخبار الرابع «إِنْ هُوَ إِلَّا …» لا يعود إلي النطق، بل

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 259

يعود إلي شخص النبيّ صلي الله عليه و آله وهويته والإخبار عن هويته وشخصيّته بأنّها وحيٌ يوحي، وهو من قبيل زيدٌ عدلٌ، أي لبيان استغراق زيد في العدالة في أفعاله وأقواله ومواقفه وإحجامه وإقدامه، فكذلك الحال في الإخبار عن هويته صلي الله عليه و آله بأنّه وحيٌ يوحي للدلالة علي أنّ شخصيّته صلي الله عليه و آله في تمام أبعادها هي بتركيب وتصوير وهيئة وحيانية.

بل إنّ في الإخبار الرابع عناية فائقة في تأكيد ذلك بأداة الحصر، أي بحصر هويته في الوحي، أي ليس هويته بشي ء من الأشياء إلّاوحيٌ يوحي. وهذا مفاد ما مرّ من أنّ الفطرة والغريزة فيه صلي الله عليه و آله، والفطرة الإنسانية والفطرة العقلانية لا استقلال لها مقابل الفطرة الوحيانية التي له صلي الله عليه و آله، فكلّ تلك الفطر قد انقادت وتبعت الفطرة الوحيانية.

بل في الآية تأكيد آخر، وهو أنّه لم يُجعل الخبر عن هويته صلي الله عليه و آله الوحي بمفرده، بل جُعل مؤكّداً بنفس العنوان بصيغة الفعل المضارع المستمر؛ للدلالة علي التأكيد والتأبيد والاستمرار والشمولية لكلّ شؤونه صلي الله عليه و آله.

وقد أُكّد هذا المضمون في الآية بالقسم الإلهي: «وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَي»، ولا يخفي أنّ القسم الإلهي وقع

علي مجموع الإخبارات الأربعة وما بعدها، وهو ممّا يؤكّد أنّ الضمير في «إِنْ هُوَ إِلَّا» غير راجع لخصوص النطق، بل هو إلي حقيقة وهوية وشخصيّة النبيّ صلي الله عليه و آله، وممّا يؤكّد هذا المفاد أيضاً الإخبار الخامس في الآيات، وهو: «عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَي»، فإنّ الضمير في (علّمه) راجع إلي النبيّ صلي الله عليه و آله، متّحد السياق مع ضمير (هو)، مع أنّ التعليم شامل لكلّ شؤون النبيّ لا لخصوص القرآن.

وإلي هذا التقرير من مفاد الآية يشير الإمام أمير المؤمنين عليه السلام «1»: «ولقد قرن اللَّه

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 260

به صلّي اللَّه عليه وآله من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يَسلُكُ به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهارهُ».

وفي صحيح الفضيل بن يسار عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: «إنّ اللَّه عزّوجلّ أدّب نبيّه فأحسن أدبه، فلمّا أكمل له الأدب قال: «وَإِنَّكَ لَعَلَي خُلُقٍ عَظِيمٍ» «1»

، ثمّ فوّض إليه أمر الدين والأُمّة ليسوس عباده، فقال عزّ وجلّ: «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»، وإنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله كان مسدّداً موفّقاً مؤيّداً بروح القدس، لايزلّ ولايخطي ء في شي ء ممّا يسوس به الخلق، فتأدّب بآداب اللَّه» «2».

وما في ذيل الرواية قد يشير إليه الإخبار الخامس في الآيات: «عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَي»، فإذا تبين أنّ مرجع الضمير ليس هو النطق والكلام النبويّ بل هو كلّ سلوكيات النبيّ صلي الله عليه و آله وسيرته وهديه وبسطه وقبضه، ظهر أنّ الوحي في الآيات الكريمة السابقة ليس هو خصوص الوحي التشريعي، بل يعمّ الوحي التسديدي، والتأييدي والإلهامي والتوفيقي، وغيرها.

ولكلّ من هذه الأقسام معنيً وسنخ ونمط يختلف عن الآخر، أو وضحت في محالها.

وقد أُشير إلي

الوحي التسديدي وغيره في مواطن عديدة من القرآن الكريم، نحو قوله تعالي: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاة وَإِيتَاءَ الزَّكَوةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ» «3».

حيث إنّ الوحي في الآية ليس هو الوحي التشريعي الذي هو عبارة عن الأمر والنهي الإنشائي؛ لأنّ متعلّق الوحي قد جُعل نفس فعل الخيرات، أي أنّها كانت

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 261

تصدر عنهم بوحي مقارن بصدور الفعل، كما أشار إلي ذلك العلّامة الطباطبائي في الميزان، فالآية تشير إلي أنّ الموصوفين بجعلهم أئمّة من قبله تعالي مؤيدون بحقيقة أمرية من عالم الأمر، وهو روح القدس الطاهرة، ومسدّدون بقوّة ربانية ينبعث منهم بتوسّطها فعل الخيرات.

والقرينة الأُخري علي إرادة الوحي التسديدي في الآية المزبورة: «وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ»، أنّه لو أُريد الوحي التشريعي لفُصل بين كلمة الوحي وكلمة فعل الخيرات بأنّ ونحوها، كما هو الشائع في الاستعمال القرآني واللغوي.

وممّا يعضد استعمال الوحي في الأعمّ من الوحي التشريعي (الأنبائي) والتسديدي قوله تعالي: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ» «1»

، فإنّ الإيحاء بالروح الأمري (أي من عالم الأمر) المراد به تسديده صلي الله عليه و آله بذلك الروح لا صرف الأنباء، بقرينة ذكر كلّ من الكتاب والإيمان، فإنّ الإيمان فعل تسديدي نظير: «وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ»، مضافاً إلي أنّه جعل متعلّق الوحي في قوله تعالي: «أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا» هو نفس الروح، ممّا يدلّل علي إرساله ليلتحم بروح النبيّ صلي الله عليه و آله.

فيتحصّل في مفاد الآية تعليل هدي النبيّ صلي الله عليه و آله ورشاده صلي الله عليه و آله ونور نطقه بأنّ الباري اصطنعه بيد القدرة الربانية، كما في قوله تعالي: «وَلِتُصْنَعَ عَلَي عَيْنِي»

«2»

، وقوله تعالي في شأن النبيّ موسي: «وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي» «3»

، بنحوٍ يكون جميع شؤونه وحيانيةً. ومن ثمّ فرض الباري علي البشرية لزوم التأسّي برسوله في جميع شؤونه، حيث قال: «لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» «4»

، وأطلق تعالي الأمر بالأخذ بجميع ما يأتي به النبيّ صلي الله عليه و آله والانتهاء عمّا ينهي عنه، فقال: «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا».

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 262

وما اشتهر في كلمات المفسّرين وجملة من المتكلّمين وعلماء الأُصول، وكثير من بحوث المعرفة الدينية، من تقييد هذه الآية وآية «مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَي» وآية (التأسّي) بالشرعيات والأحكام دون العاديات وأُمور المعاش، فقال بعضهم:

(ويحتجّ بهذه الآية من لا يري الاجتهاد للأنبياء، ويُجاب: بأنّ اللَّه تعالي إذ سوّغ لهم الاجتهاد كان الاجتهاد وما يستند إليه كلّه وحياً لا نطق عن الهوي) «1»، فمبنيّ علي النظرية التي سبق تخطئتها من التفكيك في شخصيّة النبيّ صلي الله عليه و آله بين الفطرة الغريزية والنفسانية والفطرة العقلانية والفطرة الوحيانية. وقد سبق عدم تعقّل خروج درجات النفس النبويّة عن هيمنة الفطرة الوحيانية، ومن ثمّ وصفه الباري بقوله: «وَإِنَّكَ لَعَلَي خُلُقٍ عَظِيمٍ» «2»

، وقال تعالي: «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ» «3».

وقال تعالي: «إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* عَلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» «4»

، ووصفه تعالي بالرؤوف الرحيم، مع أنّها من أسمائه الحسني، فقال تعالي: «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ» «5».

ووصفه تعالي بأنّه رحمة للعالمين، فقال تعالي: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» «6»

، وبيّن تعالي استغراق عنايته بنبيّه في كلّ أحواله ومقاماته بقوله تعالي: «وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا» «7».

كما أنّ نظرية التفكيك مبنية علي التفكيك في سياق الآيات في سورة النجم،

مع أنّه قد اتّضحت المقابلة في الآيات بين الضلال والغي والهوي من جهة، والتسديد الوحياني من جهة أُخري.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 263

ومن ثمّ تري مفسّري العامّة حيث لا يقولون بالعصمة المطلقة للأنبياء يرتكبون التمحّل في الآيات الأُولي في سورة النجم بنحوٍ ممجوج، فيقيدون متعلّق الضلال بموارد خاصّة، مع أنّ الآية تنفي مطلق الضلال عن النبيّ صلي الله عليه و آله في كلّ شؤونه، وتثبت الهدي والهداية في كلّ مقاماته. وكذلك تمحّلوا في نفي الغواية عنه صلي الله عليه و آله بتقييدها بموارد خاصّة أيضاً، مع أنّ الآية تنفي الغواية في كلّ سلوكه وتثبت الرشاد في كلّ سيره ومسيرته. ولم يكتفوا بذلك، بل تمحّلوا التقييد في الآية الثالثة، فقالوا: إنّه لا ينطق عن الهوي في تبليغه للقرآن خاصّة.

وبعضهم قال في تبليغ الشريعة والشرائع خاصّة دون تدبيره في الأُمور العامّة فضلًا عن أُموره الخاصّة، مع أنّ الآية تنفي مطلق النطق عن الهوي، ولم يُقيد متعلّقها بشي ء، كما أنّهم ارتكبوا التمحّل مرّةً رابعة في مرجع الضمير (إن هو إلّا وحي)، فجعلوه القرآن خاصّة تارة، أو قوله في التبليغ خاصّة وكذلك جعلوا هذه الآية الرابعة في مقابل الثانية فقط، مع أنّه قد مرّ بوضوح أنّ الضمير راجع إلي شخصه صلي الله عليه و آله، والمقابلة هي مع الآيات الثلاث السابقة.

ومن ثمّ يتبيّن وجهان آخران في الآيات، دالّان علي كون مفادها هو تقرير العصمة المطلقة للنبيّ صلي الله عليه و آله:

الأوّل: إنّ في الآيات حصر عقلي، حيث تعرّضت لنفي الضلال والغواية والهوي، وهي مناشئ الخطأ والزلل والزيغ في فعل الإنسان وشؤونه. والضلال:

النقص في الجانب العلمي، والغواية: النقص في صفات النفس العملية الموجبة للمعصية، والهوي: فلتان النفس عن السيطرة عليها.

وبعبارة أُخري:

الضلال هو القصور العلمي والزلل بسبب ذلك، وأمّا الغواية فهو الزيغ عن عمدٍ لصفة عملية رذيلية للشخص، كما في إبليس اللعين للاستكبار والعناد واللجاج والعصبية والحميّة، وفي قبالهما الزيغ بسبب ميل الهوي.

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 264

وبهذا التقريب يتبين أنّ الآية الرابعة «إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ..» هي في مقابل الآيات الثلاثة السابقة، أي أنّ علم النبيّ صلي الله عليه و آله الشامل لكلّ الموارد منبعه الوحي التسديدي والتأييدي والإلهامي والتوفيقي الوفاقي، وغيرها من أقسام الوحي اللدني، كما أنّ فعل النبيّ صلي الله عليه و آله وسلوكه وإراداته النفسانية منبعها الوحي، وهو ذلك الوحي التأييدي والتسديدي وغيرهما، وكذلك نطقه صلي الله عليه و آله سواء فيما يخبر عنه أو يأمر به وينهي عنه، علي صعيد التشريع أو التدبير في الأُمور الكلّية أو الجزئية، فكلّ نطقه وأقواله صلي الله عليه و آله نابعة من ذلك الوحي الذي أُويّد وسُدّد به ويشير إلي محصّل ذلك قوله تعالي:

«وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ* صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَي اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ» «1».

فلم يجعل أثر الروح الأمري درايته صلي الله عليه و آله للكتاب فقط، بل كمال الإيمان ونور الهداية، ممّا يؤكّد كون هذا الروح الذي أويّد به رسول اللَّه ليس للأنباء والدراية فقط، بل للتسديد في العمل والسلوك أيضاً، ومن ثمّ فرّع عليه تعالي «وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»، كما قال في حقّ عيسي: «إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ» «2»

، وقال تعالي: «وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» «3».

فكيف بسيد الرسل وقد تقدم؟ ويأتي أيضاً اختلاف

درجات التأييد الإلهي بروح القدس للأنبياء بحسب اختلاف درجاتهم، ويشير إلي هذا المعني في الآية قول الإمام الصادق عليه السلام في صحيحة أبي بصير عندما سأله عن معني الآية؟ قال عليه السلام:

«خلق من خلق اللَّه عزّوجلّ أعظم من جبرائيل وميكائيل، كان مع رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يخبره

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 265

ويسدّده، وهو مع الأئمّة من بعده» «1».

وفي رواية أُخري، قال: «سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن العلم، أهو علم يتعلّمه العالم من أفواه الرجال، أم الكتاب عندكم تقرأونه فتعلمون منه؟ قال: الأمر أعظم من ذلك وأوجب، أما سمعت قول اللَّه عزّ وجلّ: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» «2»» «3».

وفي رواية سعد الاسكاف قال: «أتي رجل أمير المؤمنين عليه السلام يسأله عن الروح أليس هو جبرئيل؟ فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: جبرئيل من الملائكة، والروح غير جبرئيل. فكرّر ذلك علي الرجل، فقال له: لقد قلت عظيماً من القول، ما أحد يزعم أنّ الروح غير جبرئيل! فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: إنّك ضالّ تروي عن أهل الضلال، يقول اللَّه تعالي لنبيّه عليه السلام: «أَتَي أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَي عَمَّا يُشْرِكُونَ* يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ» «4»

، والروح غير الملائكة صلوات اللَّه عليهم» «5».

الثانية: إنّ الآيات المتقدّمة من سورة النجم لم تكتفِ بنفي الضلال والغواية عن النبيّ صلي الله عليه و آله، بل أثبتت وحصرت هويته بالدرجة الوحيانية، وهذا يقتضي العصمة اللدنية من لدن الوحي التأييدي والتسديدي.

وبيان ذلك: إنّ بين نفي الضلالة والغواية والهوي وبين الذات الوحيانية هناك درجات أُخري،

كالهدي والرشد والنطق العقلي والعقلاني أو العرفي الأدبي ونحو ذلك من الدرجات، فلأجل ذلك لم يكتفِ الباري تعالي بنفي الأُمور الثلاثة، بل أثبت منشأ سلوك وسيرة ونطق النبيّ صلي الله عليه و آله أي مجموع أفعاله- هي من الوحي

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 266

التأييدي اللدني، بل حصرها في ذلك.

وبعبارة أُخري: عندما يقال ما ينطق عن الهوي فقد يقال ينطق عن العقل أو السنن العرفية المحمودة، وكذا عندما يقال: ما ضلّ فقد يقال هدي عند أحلام البشر، وكذا عندما يقال: ما غوي فقد يقال رشد في تحسين أهل المحامد، بخلاف ما إذا ضمّ إليه منشأية الوحي التأييدي، بل حصر المنشأ في ذلك.

فتحصّل: إنّ الآية في بيان العصمة المطلقة في كلّ أفعاله وأقواله، وأنّها متن الوحي والشريعة، وغاية الأمر الوحي أعمّ من الوحي الإنبائي، أو الوحي التأييدي والتسديدي وإلالهامي والتوفيقي وإلايتائي واللذاني والبسط في العلم والإلقائي، وغيرها من العناوين الواردة في السور والآيات القرآنية الشارحة لأنواع الوحي.

ومن ثمّ نقف علي حقيقة هامّة.

حقيقة التشريع النبويّ: … ص: 266

وهي: إنّ التشريع منه ما يكون بفرض من اللَّه وإنباء لنبيّه صلي الله عليه و آله بتوسّط الوحي الإنبائي، ومنه ما يكون من فعل النبيّ وسيرته وقوله وسننه، وهو قسم آخر من الوحي ليس من قبيل الوحي والإنباء وإرسال الملك، بل هو من الوحي المؤيّد المسدّد به النبيّ بتوسّط روح القدس والروح الأمري، وهو الذي أشار إليه أمير المؤمنين في معني مجموع الآيات المتقدّمة: أن قد قرن بنبيّه صلي الله عليه و آله أعظم ملائكته من لدن أن كان فطيماً، فلمّا أكمل له الأدب قال له: «إِنَّكَ لَعَلَي خُلُقٍ عَظِيمٍ»، ثمّ فوّض إليه أمر دينه فقال: «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» «1»

، «لَقَدْ كَانَ

لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا» «2»

. أي أنّ كلّ حركات وسكنات وأفعال وسيرة وهدي الرسول صلي الله عليه و آله هو

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 267

علي وفق القالب للأدب الإلهي النموذج الذي صاغته اليد الربانية، فيمتنع أن يوجد في هذا القالب النموذجي أي تفاوت أو فطور، فارجع البصر ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير.

ثمّ إنّ من ذهب من علماء العامّة إلي اجتهاد النبيّ وعمله بالظنّ تشبّث بوجوه واهية من التمسّك بأحاديث مدسوسة بيّن عليها علائم الوضع من خلال قرائن لا تخفي علي البصير، مع أنّه نوع من التمسّك بالمتشابه الوهمي في مقابل المحكم القطعي.

ويجدر في نهاية هذه المقالة أن نشير إلي وهن بعض الأقاويل المتقدّمة:

منها: ما تقدّم من أنّ اجتهاد النبيّ والعياذ باللَّه إذا كان بأمر من الوحي فهو كلّه وحيٌ لا نطق عن الهوي.

ويُجاب: أوّلًا: فإنّه وفق هذه المقولة والنظرية تكون اجتهادات الفقهاء وحي يوحي.

ثانياً: إنّ عدم النطق عن الهوي بالاستناد إلي موازين الاجتهاد الظنّية لا يستلزم صدق الوحي علي الحكم الظنّي.

وثالثاً: إنّ لازم تسويغ الاجتهاد من النبيّ صلي الله عليه و آله هو جواز معارضته وعصيانه والاعتراض عليه لمن قطع علي خلاف الحكم الظنّي الذي يحكم به النبيّ صلي الله عليه و آله، كما اجترأ علي ذلك أبو بكر وعمر في صلح الحديبية، ويوم التخلّف عن جيش أُسامة، وغير ذلك من الموارد «1».

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 268

بل إنّ مغزي القائلين باجتهاد النبيّ صلي الله عليه و آله وهدفهم هو فتح باب الاعتراض والردّ علي النبيّ، ونبذ طاعته وتبرير ما وقع من جمع من الصحابة من الاجتراء علي عصيان الرسول ومشاققته والردّ عليه.

ومنها: وصف النبيّ

أو وصف الأئمّة من عترته بأنّهم مجرّد نقلة الأحكام الإلهية.

فيُردّ عليه مضافاً إلي ما تقدّم:

أوّلًا: إنّ لازم ذلك احتمال أعلمية المنقول إليه من الناقل؛ إذ رواية العلم غير درايته ووعايته؛ فربّ حامل فقه إلي من هو أفقه منه، مع أنّ الباري تعالي قال:

«وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» «1»

، وقال تعالي: «وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ» «2»

، وقال تعالي: «لَاتُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ» «3»

، وقال تعالي: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ» «4»

. وغيرها من الآيات الدالّة علي أنّ بيان القرآن كلّه تنزيله وتأويله عمومه وخصوصه ناسخه ومنسوخه ظاهره وباطنه هو علي عهدة النبيّ، مع أنّ الكتاب والكتاب المبين يستطرّ فيه كلّ شي ء، وكلّ غائبة في السماء والأرض.

وكلمات اللَّه تعالي لا تنفذ ولو كان ما في الأرض من شجر أقلام والبحر مداداً ومن بعده سبعة أبحر، ما نفذت كلمات اللَّه تعالي في كتابه، فالنبيّ صلي الله عليه و آله الذي يكون علي عهده تبيان كلّ ذلك ولو بتوسّط تعليمه جملة ذلك لأهل بيته ليبينّوا علي مرّ العصور والدهور إلي يوم القيامة للأُمّة ما تحتاجه من الكتاب هل يعقل تطرّق

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 269

الظنّ والجهل إلي ساحته المطهّرة بالنور الإلهي؟

هذا مع أنّ روح القدس يتنزّل عليه ليلة القدر وكلّ ليلة كما سيأتي في الفصل السابع بالقضاء والقدر لكلّ شي ء، فكيف تخفي عليه صغيرة وكبيرة وذرّة إلي مجرّة؛ وكيف لا يكون علمه الوحياني لدني يؤيّده ويسدّده؟ وكيف لا يكون سيره وسيرته وكلّ

نطقه هداية ورشاد وحياني، وقد جعل اللَّه علي عهدته تزكية الأُمّة جمعاً؟ وكيف يعزب عنه باب من الحكمة وقد جعل الباري علي عهدته تعليم الكتاب كلّه والحكمة للبشرية أجمع؟

ونظير هذه المقامات قد أسندها الباري إلي عترته المطهّرة فقال تعالي: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ» «1»

، وقال تعالي: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» «2»

، وقال تعالي:

«وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «3»

، وقال تعالي: «بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» «4».

وقد روي العامّة، كابن حنبل في مسنده عن عبد اللَّه بن عمر، قال: «كنت أكتب كلّ شي ء عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أريد حفظه، فنهتني قريش فقالوا: إنّك تكتب كلّ شي ء تسمعه من رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، ورسول اللَّه صلي الله عليه و آله بشر يتكلّم في الغضب، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله فقال: اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج منّي شي ء إلّا الحقّ» «5».

الامامة الالهية(5)، ج 2، ص: 270

ورووا عنه وزعموا أنّه قال صلي الله عليه و آله: «ما أخبرتكم أنّه من عند اللَّه فهو الذي لا شكّ فيه» «1»

، وهذه الرواية متدافعة مع الرواية السابقة.

وعن أبي هريرة، عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أنّه قال: «لا أقول إلّاحقّاً. قال بعض أصحابه:

فإنّك تداعبنا يارسول اللَّه؟ قال: إنّي لا أقول إلّاحقاً» «2».

والملاحظ في رواية عبد اللَّه بن عمر تصريحه بأنّ الذين كانوا يتبنّون

عدم عصمة النبيّ المطلقة هم قريش دون الأنصار، ويُظهر دوافع قريش من ذلك، وأنّ سياستهم في تبني هذه النظرية هو لفتح باب الردّ علي النبيّ ومعارضته، وتقليب الأُمور في جانب التشريع والحكم، فيفتح الطريق أمام إحكام قبضتهم علي مجمل الأُمور.

وأمّا الرواية الثانية، فلا يخفي تدافعها مع الرواية الأُولي، ويد قريش في وضعها لائح بيّن؛ إذ هي سياستهم في تبنّي نظرية التفصيل في عصمة النبيّ صلي الله عليه و آله.

وأمّا الرواية الثالثة، فهي متطابقة مع الرواية الأُولي، ومتطابقة مع مفاد آيات سورة النجم التي مرّ أنّ ظاهرها هو وحيانية كلّ شخصيّة النبيّ صلي الله عليه و آله وهويته، وأنّ كلّ سلوكه وسيره وسيرته وكلّ نطقه وأقواله وجميع شؤونه حقّاً وحيانياً، إمّا بالوحي التأييدي التسديدي وغيرهما، أو الوحي الإنبائي.

إلي هنا تم الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث بإذن اللَّه تعالي وهو المستعان وله المنّة والفضل والحمد للَّه أوّلًا وآخرا.

الجزء (3)

الفصل السابع: ليلة القدر حقيقة الإمامة (أُس المعرفة) … ص: 273

اشارة

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 275

ليلة القدر في أقوال أهل سنة الجماعة … ص: 275

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الفخر الرازي في تفسير قوله تعالي: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ»: (أجمع المفسّرون علي أنّ المراد إنّا أنزلنا القرآن في ليلة القدر، ولكنّه تعالي ترك التصريح بالذكر؛ لأنّ هذا التركيب يدلّ علي عظم القرآن.

للقرآن نزولان: … ص: 275

إن قيل: ما معني إنّه أُنزل في ليلة القدر مع العلم بأنّه أُنزل نجوماً؟ قلنا فيه وجوهاً:

أحدهما: قال الشعبي: إبتدأ بإنزاله ليلة القدر؛ لأنّ البعث كان في رمضان.

والثاني: قال ابن عبّاس: أُنزل إلي سماء الدنيا جملةً ليلة القدر، ثمّ إلي الأرض نجوماً.

معني القدر: … ص: 275

اختلفوا في أنّه لِم سُمِّيت هذه الليلة ليلة القدر علي وجوه:

أحدها: إنّها ليلة تقدير الأُمور والأحكام. قال عطاء عن ابن عبّاس: إنّ اللَّه قدّر ما يكون في تلك السنة من مطر ورزق وإحياء وإماتة إلي مثل هذه الليلة من السنة الآتية، ونظيره قوله تعالي: «فيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حْكيمٍ»، واعلم أنّ تقدير اللَّه لا

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 276

يحدث في تلك الليلة؛ فإنّه تعالي قدّر المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض في الأزل «1»، بل المراد إظهار تلك المقادير للملائكة في تلك الليلة، بأن يكتبها في اللوح المحفوظ «2».

بقاء ليلة القدر في كلّ عام: … ص: 276

وهذا القول اختيار عامّة العلماء.. هذه الليلة هل هي باقية؟

قال الخليل: من قال إنّ فضلها لنزول القرآن فيها يقول انقطعت وكانت مرّة، والجمهور علي أنّها باقية.

وعلي هذا، هل هي مختصّة برمضان أم لا؟ روي عن ابن مسعود أنّه قال: من يقم الحول يصيبها، وفسّرها عِكرمة بليلة البراءة في قوله: «إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ» «3»

، والجمهور علي أنّها مختصّة برمضان، واحتجّوا عليه بقوله تعالي:

«شَهْرُ رَمَضانُ الَّذي انْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ»، وقال: «إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ»، فوجب أن تكون ليلة القدر في رمضان، لئلّا يلزم التناقض.

ليلة القدر عوض للنبيّ من غصب بني أُميّة الخلافة: … ص: 276

وقال في تفسير الآية «4» بوجوه:

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 277

منها: روي القاسم بن فضل عن عيسي بن مازن، قال:

«قلت للحسن بن عليّ عليه السلام: يا مسوّد وجوه المؤمنين، عمدت إلي هذا الرجل فبايعت له، يعني معاوية، فقال: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم رأي في منامه بني أُمية يطؤون منبره واحداً بعد واحد، وفي رواية ينزون علي منبره نزو القردة، فشقّ ذلك عليه، فأنزل اللَّه تعالي: «إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ» إلي قوله: «خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ»، يعني ملك بني أُمية. قال القاسم فحسبنا ملك بني أمية فإذا هو ألف شهر».

طعن القاضي في هذه الوجوه، فقال: ما ذُكر من «ألْفِ شَهْرٍ» في أيّام بني أُمية بعيد؛ لأنّه تعالي لا يذكر فضلها بذكر ألف شهر مذمومة، وأيّام بني أُمية كانت مذمومة.

واعلم أنّ هذا الطعن ضعيف؛ وذلك لأنّ أيّام بني أُمية كانت أيّاماً عظيمة بحسب السعادات الدنيوية، فلا يمتنع أن يقول اللَّه: إنّي أعطيتك ليلة هي في السعادات الدينية أفضل من تلك السعادات الدنيوية.

تنزّل الملائكة علي أرواح البشر: … ص: 277

قال في تفسير قوله تعالي: «تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ وَالرُّوحُ فيها»: إعلم أنّ نظر الملائكة علي الأرواح، ونظر البشر علي الأشباح.. فكذا الملائكة لمّا رأوا في روحك الصورة الحسنة وهي معرفة اللَّه وطاعته أحبّوك، فنزلوا إليك معتذرين عمّا قالوه أوّلًا، فهذا هو المراد من قوله «تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ»، فإذا نزلوا إليك رأوا روحك في ظلمة ليل البدن وظلمة القوي الجسمانية..

إنّ قوله تعالي: «تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ» يقتضي ظاهره نزول كلّ الملائكة، ثمّ إنّ الملائكة لهم كثرة عظيمة.. والمروي أنّهم ينزلون فوجاً فوجاً، فمن نازل وصاعد كأهل الحجّ، فإنّهم علي كثرتهم يدخلون الكعبة بالكلّية، لكنّ الناس بين داخل

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 278

وخارج، ولهذا السبب مدّه إلي غاية طلوع

الفجر، فلذلك ذكر بلفظ «تَنَزَّلُ» الذي يفيد المرّة بعد المرّة.

والقول الثاني: وهو اختيار الأكثرين، أنّهم ينزلون إلي الأرض، وهو الأوجه؛ لأنّ الغرض هو الترغيب في إحياء هذه الليلة؛ ولأنّه دلّت الأحاديث علي أنّ الملائكة ينزلون في سائر الأيام إلي مجالس الذكر والدين، فلأن يحصل ذلك في هذه الليلة مع علوّ شأنها أولي؛ ولأنّه روي عن عليّ عليه السلام: «أنّهم ينزلون ليسلّموا علينا وليشفعوا لنا، فمن أصابته التسليمة غُفِرَ له ذنبه».

من الروح النازل ليلة القدر؟ … ص: 278

وقال: ذكروا في الروح أقوالًا:

أحدها: أنّه ملك عظيم لو التقمَ السماوات والأرضين كان له ذلك لقمة واحدة.

وثانيها: طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلّافي ليلة القدر …

وثالثها: خَلْق من خلق اللَّه يأكلون ويلبسون، ليسوا من الملائكة ولا من الإنس، ولعلّهم خدم أهل الجنّة.

ورابعها: يُحتمل أنّه عيسي عليه السلام؛ لأنّه اسمه، ثم إنّه ينزل في مواقفه الملائكة ليطّلع علي أُمّة محمّد صلي الله عليه و آله.

وخامسها: إنّه القرآن «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» «1».

وسادسها: الرحمة، قُرئ: «لا تَيْأَسُوا مِنْ رُوحِ اللَّهِ» بالرفع، كأنّه تعالي يقول: الملائكة ينزلون رحمتي تنزل في أثرهم، فيجدون سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 279

وسابعها: الروح أشرف الملائكة.

وثامنها: عن أبي نجيح: الروح هم الحفظة والكرام الكاتبون، فصاحب اليمين يكتب إتيانه بالواجب، وصاحب الشمال يكتب تركه للقبيح.

والأصحّ أنّ الروح هاهنا جبرئيل، وتخصيصه بالذكر لزيادة شرفه، كأنّه تعالي يقول: الملائكة في كفّة والروح في كفّة.

أقول: إذا كان النازل هو جبرئيل عليه السلام كلّ عام، فعلي من يتنزّل جبرئيل عليه السلام بعد النبيّ صلي الله عليه و آله إلي يومنا هذا وإلي يوم القيامة؟!!

ما هي الأُمور التي تتنزّل بها الروح والملائكة؟ … ص: 279

وقال: وأمّا قوله تعالي: «مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» فمعناه تنزّل الملائكة والروح فيها من أجل كلّ أمر، والمعني: إنّ كلّ واحد منهم إنّما نزل لمهمّ آخر ما. ثمّ ذكروا فيه وجوهاً:

أحدها: إنّهم كانوا في أشغال كثيرة، فبعضهم للركوع وبعضهم للسجود وبعضهم بالدعاء، وكذا القول في التفكير والتعليم وإبلاغ الوحي، وبعضهم لإدراك فضيلة الليلة، أو ليسلّموا علي المؤمنين.

وثانيها: وهو قول الأكثرين- من أجل كلّ أمرٍ قُدّر في تلك السنة من خير أو شرّ، وفيه إشارة إلي أنّ نزولهم إنّما كان عبادة، فكأنّهم قالوا: ما نزلنا إلي الأرض لهوي أنفسنا، لكن لأجل

أمر فيه مصلحة المكلّفين، وعمّ لفظ الأمر ليعمّ خير الدنيا والآخرة؛ بياناً منه أنّهم ينزلون بما هو صلاح المكلّف في دينه ودنياه، كأنّ السائل يقول: من أين جئت؟ فيقول: ما لك وهذا الفضول؟ ولكن قُل: لأي أمرٍ جئت؛ لأنّه حظّك.

وثالثها: قرأ بعضهم «مِنْ كُلِّ أَمْرٍ»، أي من أجل كلّ إنسان، وروي أنّهم لا

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 280

يلقون مؤمناً ولا مؤمنة إلّاسلّموا عليه، قيل أليس أنّه قد رُوي أنّه تقسّم الآجال والأرزاق ليلة النصف من شعبان، والآن تقولون أنّ ذلك يكون ليلة القدر؟ قلنا:

عن النبيّ صلي الله عليه و آله أنّه قال: «إنّ اللَّه يقدّر المقادير في ليلة البراءة، فإذا كان ليلة القدر يسلّمها إلي أربابها»، وقيل: يقدّر ليلة البراءة الآجال والأرزاق، وليلة القدر يقدّر الأُمور التي فيها الخير والبركة والسلامة، وقيل: يقدّر في ليلة القدر ما يتعلّق به إعزاز الدين وما فيه النفع العظيم للمسلمين، وأمّا ليلة البراءة فيكتب فيها أسماء من يموت ويسلّم إلي ملك الموت).

وقال في سورة الشوري في ذيل قوله تعالي «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» «1»

: والمراد به القرآن، وسمّاه روحاً لأنّه يفيد الحياة من موت الجهل أو الكفر.

وقال في سورة الدخان في ذيل قوله تعالي «إنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ» «2»

، اختلفوا في هذه الليلة المباركة، فقال الأكثرون: إنّها ليلة القدر، وقال عكرمة وطائفة آخرون: إنّها ليلة البراءة.

وإنّه تعالي قال في صفة ليلة القدر: «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فيها بِإذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ»، وقال أيضاً هاهنا: «فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حْكيمٍ»، وهذا مناسب لقوله: «تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ وَالرُّوحُ فِيها»، وهاهنا: «أَمْراً مِنْ عِنْدِنا»، وقال في تلك الآية «بِإذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ»، وقال هاهنا: «رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ»، وقال في

تلك الآية: «سَلامٌ هِيَ».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 281

اشتمال مراتب القرآن علي المقدّرات الحادثة في كلّ عام: … ص: 281

وقال (المسألة الثامنة) في تفسير مفردات هذه الألفاظ: أمّا قوله تعالي: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ» «1»

فقد قيل فيه: إنّه تعالي أنزل كلّية القرآن، يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة، ويقع الفراغ في ليلة القدر، فتُدفع نسخة الأرزاق إلي ميكائيل ونسخة الحروب إلي جبرائيل، وكذلك الزلازل والصواعق والخسف، ونسخة الأعمال إلي إسماعيل صاحب سماء الدنيا، وهو ملك عظيم، ونسخة المصائب إلي ملك الموت، انتهي كلامه.

وقال القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن: (في تفسير قوله تعالي: «إنّا أَنْزَلْناهُ» يعني القرآن، وإن لم يجرِ له ذكر في هذه السورة؛ لأنّ المعني معلوم، والقرآن كلّه كالسورة الواحدة، وقد قال: «شَهْرُ رَمَضانُ الَّذي انْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ»، وقال: «حم وَالْكِتابِ الْمُبينِ إنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ» «2»

يريد: في ليلة القدر.

وقال الشعبي: المعني إنّا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقيل: بل نزل به جبريل عليه السلام جملة واحدة في ليلة القدر، من اللوح المحفوظ، إلي سماء الدنيا، إلي بيت العزّة، وأملاه جبريل علي السفرة، ثمّ كان جبريل ينزّله علي النبيّ صلي الله عليه و آله نجوماً نجوماً، وكان بين أوّله وآخره ثلاث وعشرون سنة، قاله ابن عبّاس، وقد تقدّم في سورة البقرة. وحكي الماوردي عن ابن عبّاس قال: نزل القرآن في شهر رمضان وفي ليلة القدر، في ليلة مباركة جملة واحدة من عند اللَّه، من اللوح المحفوظ إلي السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا، فنجّمته السفرة الكرام الكاتبون علي جبريل عشرين سنة، ونجّمه جبريل علي النبيّ صلي الله عليه و آله عشرين سنة.

قال ابن العربي: وهذا باطل؛ ليس بين جبريل وبين اللَّه واسطة، ولا بين جبريل

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص:

282

ومحمّد عليهما السلام واسطة.

قوله تعالي: «في لَيْلَةِ الْقَدْرِ»، قال مجاهد: في ليلة الحكم. «وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ»، قال ليلة الحكم، والمعني ليلة التقدير، سمّيت بذلك لأنّ اللَّه تعالي يقدّر فيها ما يشاء من أمره، إلي مثلها من السنة القابلة، من أمر الموت والأجل والزرق وغيره، ويسلّمه إلي مدبّرات الأُمور، وهم أربعة من الملائكة: إسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل، وجبريل عليهم السلام.

أُمّ الكتاب في القرآن متضمّنة لتقدير كلّ شي ء: … ص: 282

وقال: وعن ابن عبّاس قال: يكتب من أمّ الكتاب ما يكون في السنة من رزق ومطر وحياة وموت، حتّي الحاجّ. قال عكرمة: يكتب حجّاج بيت اللَّه تعالي في ليلة القدر بأسمائهم وأسماء آبائهم، ما يغادر منهم أحد ولا يزاد فيهم.

وقاله سعيد بن جُبير، وقد مضي في أوّل سورة الدخان هذا المعني. وعن ابن عبّاس أيضاً: إنّ اللَّه تعالي يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان، ويسلّمها إلي أربابها في ليلة القدر. وقيل: إنّما سمّيت بذلك لعظمها وقدرها وشرفها، من قولهم:

لفلان قدر، أي شرف ومنزلة) «1».

ليلة القدر عوض للنبي صلي الله عليه و آله وآله عليهم السلام عن غصب الخلافة: … ص: 282

ليلة القدر عوض للنبي صلي الله عليه و آله وآله عليهم السلام عن غصب الخلافة:

وقال: (وفي الترمذي عن الحسن بن علي رضي اللَّه عنهما: أنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أري بني أُمية علي منبره فساءه ذلك، فنزلت «إنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ»، يعني نهراً في الجنّة، ونزلت «إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 283

أَلْفِ شَهْرٍ»، يملكها بعدك بنو أُمية. قال القاسم بن الفضل الحدّاني: فعددناها فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوماً ولا تنقص يوماً. قال: حديث غريب.

قوله تعالي: «تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ» أي تهبط من كلّ سماء، ومن سدرة المنتهي، ومسكن جبريل علي وسطها، فينزلون إلي الأرض ويؤمّنون علي دعاء الناس إلي وقت طلوع الفجر، فذاك قوله تعالي «تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ».

حقيقة الروح النازل ليلة القدر: … ص: 283

وقال: «وَالرُّوحُ فِيها بِإذْنِ رَبِّهِمْ» «1»

أي جبرئيل عليه السلام، وحكي القُشيري: أنّ الروح صنف من الملائكة جُعلوا حفظة علي سائرهم، وأنّ الملائكة لا يرونهم كما لا نري نحن الملائكة. وقال مقاتل: هم أشرف الملائكة وأقربهم من اللَّه تعالي.

وقيل: إنّهم جند من جند اللَّه عزّوجلّ من غير الملائكة، رواه مجاهد عن ابن عبّاس مرفوعاً، ذكره الماوردي، وحكي القُشيري: قيل هم صنف من خلق اللَّه يأكلون الطعام ولهم أيدٍ وأرجل وليسوا ملائكة.

وقيل: (الروح) خلق عظيم يقوم صفّاً، والملائكة كلّهم صفّاً. وقيل: (الروح) الرحمة ينزل بها جبريل عليه السلام مع الملائكة في هذه الليلة علي أهلها، دليله «يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ» «2»

، أي بالرحمة، «فِيها» أي في ليلة القدر، «بِإذْنِ رَبِّهِمْ» أي بأمره، «مِن كُلِّ أَمْرٍ» «3»

أمر بكلّ أمر قدّره اللَّه وقضاه في تلك السنة إلي قابل.

وقيل عنه: إنّها رُفعت يعني

ليلة القدر- وإنّها إنّما كانت مرّة واحدة.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 284

بقاء ليلة القدر في كلّ عام: … ص: 284

وقال: (والصحيح أنّها باقية.. والجمهور علي أنّها من كلّ عام من رمضان.. وقال الفرّاء: لا يقدّر اللَّه في ليلة القدر إلّاالسعادة والنعم ويقدّر في غيرها البلايا والنقم) «1».

وقال الطبري في تفسيره في ذيل سورة البروج: «فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ» بسنده إلي مجاهد في لوح قال: (في أُمّ الكتاب) «2».

وقال ابن كثير في تفسيره، بعد ما نقل جملة ممّا ذكره عنه الرازي والقرطبي، والذي مرّ نقله، قال: (اختلف العلماء هل كانت ليلة القدر في الأُمم السالفة، أم هي من خصائص هذه الأُمّة؟ فقال الزهري.. وهذا الذي قاله مالك يقتضي تخصيص هذه الأُمّة بليلة القدر. وقيل: إنّها كانت في الأُمم الماضين كما هي في أُمّتنا، ثمّ هي باقية إلي يوم القيامة وفي رمضان خاصّة) «3».

وقال الزمخشري في الكشّاف بعد ما ذكره جملة ممّا ذكره عنه الرازي والقرطبي، في ذيل قوله تعالي «وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ» «4»

قال: (وسبب ارتقاء فضلها إلي هذه الغاية ما يوجد فيها من المصالح الدينية التي ذكرها من تنزّل الملائكة والروح، وفصل كلّ أمر حكيم.

وقال في ذيل قوله تعالي «مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» «5»

، أي تتنزّل من أجل كلّ أمر قضاه اللَّه لتلك السنة إلي قابل.. وروي عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «من قرأ سورة القدر أُعطي من الأجر كمن صام رمضان وأحيي ليلة القدر»، وذكر في هامش المطبوع أنّ الحديث أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بسندهم إلي أُبَيّ ابن كعب.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 285

ليلة القدر عوض له صلي الله عليه و آله عن غصب بني أُمية خلافته وتعدد مصادر الحديث لديهم … ص: 285

وقال الآلوسي في روح المعاني: (ويستدلّ لكونها مدنية بما أخرجه الترمذي والحاكم عن الحسن ابن عليّ (رضي اللَّه تعالي عنهما): «أنّ النبي صلي الله عليه و آله اري بني أُمية علي منبره فساءه ذلك، فنزلت «إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ

الْكَوْثَرَ» «1»

، ونزلت: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» «2»

.. الحديث». وهو كما قال المزني: حديث منكر، انتهي.

وقد أخرج الجلال هذا الحديث في الدرّ المنثور عن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل أيضاً، من رواية يوسف ابن سعد، وذكر فيه: أنّ الترمذي «3» أخرجه وضعّفه، وأنّ الخطيب أخرج عن ابن عبّاس نحوه، وكذا عن ابن نسيب بلفظٍ: قال نبي اللَّه: «أُريتُ بني أُمية يصعدون منبري، فشقّ ذلك عليّ فأنزلت «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ»»، ففي قول المزني هو منكر تردّد عندي.

وقد ورد في روايات أهل البيت عليهم السلام ما رواه الكافي بسنده إلي أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: «أُري رسول اللَّه صلي الله عليه و آله في منامه بني أُمية يصعدون علي منبره من بعده ويضلّون الناس عن الصراط القهقري، فأصبح كئيباً حزيناً، قال: فهبط عليه جبرئيل فقال:

يا رسول اللَّه مالي أراك كئيباً حزيناً؟ قال: يا جبرئيل إنّي رأيت بني أُمية في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي يضلّون الناس عن الصراط القهقري. فقال: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً إنّي ما اطّلعت عليه. فعرّج إلي السماء فلم يلبث أن نزل بآي من القرآن يُؤنسه بها، قال: «أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ* ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ* مَا أَغْنَي عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ» «4»

، وأُنزل عليه: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ»، جعل اللَّه ليلة القدر لنبيه صلي الله عليه و آله

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 286

خيراً من ألف شهر ملك بني أُمية) «1».

وروي الكليني عن علي بن عيسي القمّاط عن عمّه، قال: «سمعت أبا عبد اللَّه يقول: هبط جبرئيل عليه السلام علي رسول اللَّه صلي الله عليه

و آله ورسول اللَّه كئيب حزين، فقال: رأيت بني أُمية يصعدون المنابر وينزلون منها. قال: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً، ما علمت بشي ء من هذا. وصعد جبرئيل إلي السماء، ثمّ أهبطه اللَّه جلّ ذكره بآي من القرآن يعزّيه بها قوله: «أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ* ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ* مَا أَغْنَي عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ» «2».

وأنزل اللَّه جلّ ذكره: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» للقوم، فجعل اللَّه ليلة القدر (لرسوله) خير، من ألف شهر) «3».

وفي سند الصحيفة السجادية، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: «إنّ أبي حدّثني عن أبيه عن جدّه عن عليّ عليه السلام: إنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أخذته نعسة وهو علي منبره، فرأي في منامه رجالًا ينزون علي منبره نزو القردة، يردّون الناس علي أعقابهم القهقري، فاستوي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله جالساً والحزن يعرف في وجهه، فأتاه جبرئيل عليه السلام بهذه الآية «وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا»، يعني بني أُمية. قال: يا جبرئيل علي عهدي يكونون وفي زمني؟

قال: لا، ولكن تدور رحي الإسلام من مُهاجرك فتلبث بذلك عشراً، ثمّ تدور رحي الإسلام علي رأس خمسة وثلاثين من مهاجِرَك فتلبث بذلك خمساً، ثمّ لابدّ من رحي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 287

ضلاله هي قائمة علي قطبها ثمّ ملك الفراعنة. قال: وأنزل اللَّه تعالي في ذلك: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» يملكها بنو أُمية. فيها ليلة القدر.

قال: فأطلع اللَّه عزّ وجلّ نبيّه صلي الله عليه و

آله أنّ بني أُمية تملك سلطان هذه الأُمّة وملكها طول هذه المدّة، فلو طاولتهم الجبال لطالوا عليها حتّي يأذن اللَّه تعالي بزوال ملكهم، وهم في ذلك يستشعرون عداوتنا أهل البيت وبغضنا. أخبر اللَّه نبيّه بما يلقي أهل بيت محمّد وأهل مودّتهم وشيعتهم منهم في أيامهم وملكهم» «1».

وفي تأويل الآيات: «روي عن أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: قوله عزّ وجلّ: «خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ» هو سلطان بني أُمية.

وقال: ليلة من إمام عادل خير من ألف شهر ملك بني أُمية.

وقال: «تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» أيّ من عند ربّهم علي محمّد وآل محمّد بكلّ أمر سلام» «2».

وفي تفسير القمّي: بسنده في معني سورة «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» فهو القرآن.. قوله: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ».

أقول: تكثير الروايات في غصب الخلافة من بني أُمية، وتأذّي النبيّ صلي الله عليه و آله وتعويضه بليلة القدر، وسيأتي معني تعويضه بليلة القدر، وتسالم كثير من علماء الجمهور بهذه الروايات، هذا الأمر أحد الأدلّة علي أنّ الخلافة في الشريعة الإلهية هي منصب أهل بيت النبيّ صلي الله عليه و آله فتدبّر تبصر.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 288

حقيقة النازل الذي نزل في ليلة القدر: … ص: 288

وقال في ذيل قوله تعالي «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ»: الضمير عند الجمهور للقرآن، وادّعي الإمام فيه إجماع المفسّرين، وكأنّه لم يعتقد بقول من قال منهم برجوعه لجبرئيل عليه السلام أو غيره؛ لضعفه. قالوا: وفي التعبير عنه بضمير الغائب مع عدم تقدّم ذكره تعظيم له، أي تعظيم لما أنّه يشعر بأنّه لعلوّ شأنه كأنّه حاضر عند كلّ أحد.

جهل الخلق بحقيقة ليلة القدر: … ص: 288

وقال في ذيل قوله تعالي «وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ» «1»

: لما فيه من الدلالة علي أنّ علوّها خارج عن دائرة دراية الخلق، لا يُعلم ذلك، ولا يعلم به إلّاعلّام الغيوب.

حقيقة نزول القرآن جملة واحدة: … ص: 288

ثمّ ذكر جملة في تعدّد نزول القرآن جملةً واحدةً ونجوماً، وذكر في ضمنها هذه الرواية عن ابن عبّاس: «أُنزل القرآن جملةً واحدة حتّي وضع في بيت العزّة في السماء الدنيا، ونزل به جبريل عليه السلام علي محمّد صلي الله عليه و آله بجواب كلام العباد وأعمالهم».. ثمّ نقل الاختلاف بين المفسّرين عندهم في قوله تعالي: «أَنْزَلْنَاهُ» من جهة نزول القرآن جملةً واحدة، فهل تضمّن القرآن النازل جملةً واحدة هذه العبارة أم لا؟

فلابدّ من ارتكاب المجاز في الإسناد؛ لأنّه إخبار عمّا وقع فيما مضي، فكيف يكون هذا اللفظ في ضمنه؟

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 289

فذكر قولًا للرازي في حلّ الإشكال، وللقرطبي وابن كثير، وضعّف قولهم، ونقل عن ابن حجر في شرح البخاري أنّه أُنزل جملةً واحدة من اللوح المحفوظ إلي بيت العزّة في السماء الدنيا، بل حكي بعضهم الإجماع عليه، ثمّ نقل جواباً لحلّ الإشكال عن السيد عيسي الصفوي، ثمّ الاختلاف بين الدواني وغيره، وأنّه ألّف رسالة في ذلك في الجواب عن مسألة الحذر الأصمّ.

ثمّ نقل عن الاتقان قول أبي شامة: فإن قلت «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ» إن لم يكن من جملة القرآن الذي نزل جملة فما نزل جملة، وإن كان من الجملة فما وجه هذه العبارة؟

قلت: لها وجهان:

أحدهما: أن يكون المعني إنّا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر، وقضينا به وقدّرناه في الأزل.

والثاني: أنّ لفظ «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ» ماضٍ ومعناه علي الاستقبال، أي تنزّله جملة في ليلة القدر.

ثمّ ذكر عدم ارتضائه لهذا القول وعدم حسنه.

ثمّ نقل أقوالًا أُخر، ثمّ

قال: والمراد بالإنزال إظهار القرآن من عالم الغيب إلي عالم الشهادة، أو إثباته لدي السفرة هناك، أو نحو ذلك ممّا لا يشكل نسبته إلي القرآن.

تقدير الأُمور في ليلة القدر علي من تُنزّل؟ … ص: 289

وقال في معني ليلة القدر: إنّها ليلة التقدير، وسبب تسميتها بذلك؛ لتقدير ما يكون في تلك السنة من أُمور. قال: المراد إظهار تقديره ذلك للملائكة عليهم السلام المأمورين بالحوادث الكونية. ثمّ نقل عن بعض تفسير ذلك: هاهنا ثلاثة أشياء:

الأوّل: نفس تقدير الأُمور، أي تعيين مقاديرها وأوقاتها، وذلك في الأزل.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 290

الثاني: إظهار تلك المقادير للملائكة عليهم السلام بأن تكتب في اللوح المحفوظ، وذاك في ليلة النصف من شعبان.

الثالث: إثبات تلك المقادير في نسخ وتسليمها إلي أربابها من المدبّرات، فتدفع نسخة الأرزاق والنباتات والأمطار إلي ميكائيل عليه السلام، ونسخة الحروب والرياح والجنود والزلازل والصواعق والخسف إلي جبرئيل عليه السلام، ونسخة الأعمال إلي إسرافيل عليه السلام، ونسخة المصائب إلي ملك الموت، وذلك في ليلة القدر.

وقيل: يقدّر في ليلة النصف الآجال والأرزاق، وفي ليلة القدر الأُمور التي فيها الخير والبركة والسلامة. وقيل: يقدّر في هذه ما يتعلّق به إعزاز الدين وما فيه النفع العظيم للمسلمين، وفي ليلة النصف يكتب أسماء من يموت ويسلّم إلي ملك الموت، واللَّه تعالي أعلم بحقيقة الحال.

أقول: إنّ المكتوب في ليلة القدر ويقدّر يُفترض أنّ كتابته وتقديره إنّما يُكتب ويقدّر لتسليمه إلي من يوكّل إليه تدبير الأُمور بإذن اللَّه، كالملائكة الموكّلين، فالتنزّل بكلّ هذه التقديرات والكتابة إلي الأرض إلي من يسلّم؟ ومن هو الذي يطّلع علي ذلك من أهل الأرض؟ وما هو التناسب بين نزول ما فيه إعزاز الدين والأُمّة، والحديث النبويّ: «إنّ الإسلام لا يزال عزيزاً إلي اثني عشر خليفة … كلّهم من قريش» «1».

أقوال علماء سنّة الجماعة في عوضية الليلة له عن غصب الخلافة: … ص: 290

قال في تفسير (ألف شهر): وقد سمعت إلي ما يدلّ أنّ الألف إشارة إلي مُلك بني أُميّة، وكان علي ما قال القاسم بن الفضل: ألف شهر،

لا يزيد يوماً ولا ينقص

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 291

يوماً، علي ما قيل ثمانين سنة، وهي ألف شهر تقريباً؛ لأنّها ثلاثة وثمانون سنة وأربعة أشهر، ولا يعكّر علي ذلك ملكهم في جزيرة الأندلس بعد؛ لأنّه ملك يسير في بعض أطراف الأرض وآخر عمارة العرب، ولذا لا يعدّ من مَلَكَ منهم هناك من خلفائهم، وقالوا بانقراضهم بهلاك مروان الحمار.

وطعن القاضي عبد الجبّار في كون الآية إشارة لما ذكر بأنّ أيام بني أُمية كانت مذمومة أي باعتبار الغالب، فيبعد أن يقال في شأن تلك الليلة إنّها خير من ألف شهر مذمومة:

ألم ترَ أنّ السيف ينقص قدره إذا قيل إنّ السيف خيرٌ من العصا

وأُجيب: إنّ تلك الأيام كانت عظيمة بحسب السعادات الدنيوية، فلا يبعد أن يقول اللَّه تعالي: أعطيتك ليلة في السعادات الدينية أفضل من تلك في السعادات الدنيوية، فلا تبقي فائدة.

ليلة القدر مع الأنبياء في ما مضي فهي مع من في ما بقي: … ص: 291

الروح النازل في ليلة القدر قناة غيبية كانت مع الأنبياء، فهي مع من بعد النبيّ الخاتم؟

قال: وما أشير إليه من خصائص هذه الأُمّة هو الذي يقتضيه أكثر الأخبار الواردة في سبب النزول، وصرّح به الهيثمي وغيره. وقال القسطلاني: إنّه معترض بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: «يا رسول اللَّه، أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رُفعت. قال: بل هي باقية». ثمّ ذكر أنّ عمدة القائلين بذلك الخبر الذي قدّمناه في سبب النزول من رؤيته صلي الله عليه و آله تقاصر أعمار أُمّته عن أعمار الأُمم، وتعقّبه بقوله هذا محتمل للتأويل، فلا يدفع الصريح في حديث أبي ذر كما قاله الحافظان ابن كثير في تفسيره، وابن حجر في فتح الباري.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 292

وقد اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافاً كثيراً، وتحصّل لنا من مذاهبهم في ذلك

أكثر من أربعين قولًا، كما وقع لنا نظير ذلك في ساعة الجمعة، وقد اشتركنا في إخفاء كلّ منهما ليقع الحدّ في طلبهما:

القول الأوّل: إنّها رُفعت أصلًا ورأساً، حكاه المتولّي في التتمّة عن الروافض، والفاكهاني في شرح العمدة عن الحنفية، وكأنّه خطأ منه، والذي حكاه السروجي أنّه قول الشيعة.

أقول: بل الشيعة الإمامية هم المذهب الوحيد علي وجه الأرض القائلون ببقاء الاتّصال بين الأرض والسماء، وأنّ هناك سبب متّصل هو الإمام من عترة النبيّ صلي الله عليه و آله، وإن لم يكن هذا الاتّصال وحياً نبويّاً، وهو الذي يتنزّل عليه الروح الأعظم والملائكة كلّ عام بعد النبيّ صلي الله عليه و آله، بينما المذاهب الإسلامية كلّها حتّي الزيدية، وإن قالوا باستمرار الإمامة السياسية وعدم حصرها بالأئمّة المنصوص عليهم وأنّ الإمامة هي لكلّ من قام بالثورة علي الظلم ولا يشترط فيها العصمة، إلّا أنّهم قائلون بانقطاع الاتّصال أيضاً بين الغيب والشهادة، وانقطاع الاتّصال ذهبت إليه اليهود بعد النبيّ موسي عليه السلام، كما ذهبت إليه النصاري بعد النبيّ عيسي عليه السلام.

وقال: وقد روي عبد الرزّاق من طريق داود بن أبي عاصم، عن عبد اللَّه بن يخنس: قلت لأبي هريرة: زعموا أنّ ليلة القدر رُفعت، قال: كذّب من قال ذلك.

ومن طريق عبد اللَّه بن شُريك قال: ذكر الحجاج ليلة القدر فكأنّه أنكرها، فأراد زر بن حُبيش أن يحصبه فمنعه قوم.

الثاني: إنّها خاصّة بسنة واحدة وقعت في زمن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، حكاه الفاكهاني أيضاً.

الثالث: إنّها خاصّة بهذه الأُمّة، ولم تكن في الأُمم قبلهم، جزم به ابن حبيب وغيره من المالكية ونقله الجمهور، وحكاه صاحب العدّة من الشافعية ورجّحه،

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 293

وهو معترض بحديث أبي ذر عند

النسائي، حيث قال فيه: قلت: يا رسول اللَّه صلي الله عليه و آله تقاصر أعمار أمّته عن أعمار الأُمم الماضية، فأعطاه اللَّه ليلة القدر، وهذا يحتمل التأويل، فلا يدفع التصريح في حديث أبي ذر. «1»

ليلة القدر يفصل فيها المقدّرات لأحداث كلّ السنة: … ص: 293

وقال الآلوسي في روح المعاني في تفسير قوله تعالي «مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» «2»

: أي من أجل كلّ أمر تعلّق به التقدير في تلك السنة إلي قابل وأظهره سبحانه وتعالي لهم، قاله غير واحد. ف (من) بمعني اللام التعليلية متعلّقة بتنزّل، وقال أبوحاتم:

(من) بمعني الباء، أي تنزّل بكلّ أمر، فقيل: أي من الخير والبركة، وقيل: من الخير والشرّ وجعلت الباء عليه للسببية.

والظاهر علي ما قالوا إنّ المراد بالملائكة المدبّرات؛ إذ غيرهم لا تعلّق له بالأُمور التي تعلّق بها التقدير ليتنزّلوا لأجلها علي المعني السابق، وهو خلاف ما تدلّ عليه الآثار من عدم اختصاصهم بالمدبّرات. «3»

ليلة القدر يتحقّقها وتتنزّل علي من شاء اللَّه تعالي من عباده: … ص: 293

جاء في شرح صحيح مسلم للنووي قوله: (إعلم أنّ ليلة القدر موجودة، وأنّها تُري ويتحققّها من شاء اللَّه تعالي من بني آدم كلّ سنة في رمضان، كما تظاهرت عليه الأحاديث وأخبار الصالحين بها، ورؤيتهم لها أكثر من أن تُحصي. وأمّا قول القاضي عياض عن المهلّب بن أبي صُفرة: لا يمكن رؤيتها حقيقةً، فغلط فاحش

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 294

نبهتُ عليه لئلّا يُغترّ به) «1».

وقال في ذيل سورة الدخان في قوله تعالي «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ» «2»

: أي الكتاب المبين الذي هو القرآن علي القول المعوّل عليه في «لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ» هي ليلة القدر، علي ما روي عن ابن عبّاس وقتادة.

وفي تحفة المحتاج لابن حجر الهيثمي: «ليس لرائيها كتمها، ولا ينال فضلها أي كمالها إلّامن أطلعه اللَّه عليها»، انتهي. والظاهر أنّه عني برؤيتها رؤية ما يحصل به العلم له بها ممّا خُصّت به من الأنوار وتنزّل الملائكة عليهم السلام، أي نحوٍ من الكشف ممّا لا يعرف حقيقته إلّاأهله، وهو كالنصّ في أنّها يراها من شاء اللَّه تعالي من عباده. ثمّ حكي عن ابن

شاهين: إنّه لا يراها أحد من الأوّلين والآخرين إلّا نبيّنا صلي الله عليه و آله.

ثمّ قال: وفي بعض الأخبار ما يدلّ علي أنّ رؤيتها مناماً وقعت لغيره صلي الله عليه و آله، ففي صحيح مسلم وغيره عن ابن عمر: «إنّ رجالًا من أصحاب النبيّ صلي الله عليه و آله أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال صلي الله عليه و آله: أري رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحرّياً فليتحرَّها في السبع الأواخر» «3».

وحكي نحو قول ابن شاهين عن غيره أيضاً وغلط، ففي شرح صحيح مسلم وابن جُبير ومجاهد وابن زيد والحسن، وعليه أكثر المفسّرين والظواهر معهم..

والمراد بإنزاله في تلك الليلة إنزاله فيها جملةً إلي السماء الدنيا من اللوح، فالإنزال المنجّم في ثلاث وعشرين سنة أو أقل كان من السماء الدنيا، وروي هذا عن ابن جرير وغيره، وذكر أنّ المحلّ الذي أُنزل فيه من تلك السماء البيت المعمور، وهو

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 295

مسامت للكعبة، بحيث لو نزل لنزل عليها.

وأخرج سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي أنّه قال: أُنزل القرآن جملةً علي جبرئيل عليه السلام وكان جبرئيل عليه السلام يجي ء به بعدُ إلي النبيّ صلي الله عليه و آله.

ليلة القدر في سورة الشوري والنزول الأول للقرآن: … ص: 295

وقال في ذيل قوله تعالي: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ..» «1»

: وهو ما أُوحي إليه عليه الصلاة والسلام، أو القرآن الذي هو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان حيث يحييها حياة أبدية. وقيل: أي ومثل الإيحاء المشهود لغيرك، أوحينا أبو القاسم إليك. وقيل: أي مثل ذلك الإيحاء المفصّل، أوحينا إليك، إذ كان عليه الصلاة والسلام اجتمعت له الطرق الثلاث، سواء فُسّر الوحي بالإلقاء، أم فُسّر بالكلام الشفاهي.

وقد ذُكر أنّه

عليه الصلاة والسلام قد أُلقي إليه في المنام كما أُلقي إلي إبراهيم عليه السلام، وأُلقي إليه عليه الصلاة والسلام في اليقظة علي نحو إلقاء الزبور إلي داود عليه السلام. ففي «الكبريت الأحمر» للشعراني نقلًا عن الباب الثاني من «الفتوحات المكّية»: أنّه صلي الله عليه و آله أُعطي القرآن مجملًا قبل جبرئيل عليه السلام، من غير تفصيل الآيات والسور. وعن ابن عبّاس تفسير الروح بالنبوّة. وقال الربيع: هو جبرئيل عليه السلام.

وعليه، فأوحينا مضمّن معني أرسلنا، والمعني: أرسلناه بالوحي إليك؛ لأنّه لا يقال: أوحي الملك بل أرسله.

ونقل الطبرسي عن أبي جعفر وأبي عبداللَّه رضي اللَّه تعالي عنهما: أنّ المراد بهذا الروح ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ولم يصعد

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 296

إلي السماء. وهذا القول في غاية الغرابة، ولعلّه لا يصحّ عن هذين الإمامين.

وتنوين (روحاً) للتعظيم، أي روحاً عظيماً «1».. وقال في ذيل قوله تعالي «وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ» أي الروح الذي أوحيناه إليك. وقال ابن عطية: الضمير للكتاب، وقيل للإيمان ورجّح بالقرب، وقيل للكتاب والإيمان ووحّد؛ لأنّ مقصدهما واحد فهو نظير «وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ» «2».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 297

ليلة القدر في روايات أهل سنّة الخلافة … ص: 297

دوام ليلة القدر في كلّ عام إلي يوم القيامة: … ص: 297

1- فقد روي عبد الرزّاق الصنعاني في (المصنّف)، بسنده عن مولي معاوية، قال: (قلت لأبي هريرة: زعموا أنّ ليلة القدر قد رُفعت، قال: كذّب من قال كذلك، قلت: فهي كلّ شهر رمضان استقبله؟ قال: نعم.. الحديث) «1»، ورواه عنه بطريق آخر «2»، ورواه كنز العمّال أيضاً «3».

2- وروي عبد الرزّاق الصنعاني في المصنّف بسنده عن ابن عبّاس، قال: «ليلة في كلّ رمضان يأتي، قال: وحدّثني يزيد بن عبداللَّه بن الهاد: إنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله

سُئِل عن ليلة القدر، فقيل له: كانت مع النبيّين ثم رُفعت حين قُبضوا، أو هي في كلّ سنة؟ قال: بل هي في كلّ سنة، بل هي في كلّ سنة» «4».

3- وروي عن ابن جرير، قال: «حُدّثت: أنّ شيخاً من أهل المدينة سأل أباذر بمني، فقال: رُفعت ليلة القدر أم هي في كلّ رمضان؟ فقال أبوذر: سألت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله فقلت: يا رسول اللَّه رُفعت ليلة القدر؟ قال: بل هي كلّ رمضان» «5».

4- وروي ابن أبي شيبة الكوفي في المصنّف في باب ليلة القدر، بسنده إلي ابن

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 298

أبي مرثد عن أبيه، قال: «كنت مع أبي ذر عند الجمرة الوسطي، فسألته عن ليلة القدر، فقال: كان أسأل الناس عنها رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: ليلة القدر كانت تكون علي عهد الأنبياء فإذا ذهبوا رُفعت؟ قال: لا ولكن تكون إلي يوم القيامة» «1».

5- أخرج السيوطي في الدرّ المنثور: «عن محمّد بن نصر، عن سعيد بن المسيب أنّه سُئل عن ليلة القدر، أهي شي ء كان فذهب، أم هي في كلّ عام؟ فقال: بل هي لأُمّة محمّد ما بقي منهم اثنان» «2».

أقول وفي هذه الرواية وإن كانت مقطوعة دلالة علي أن لو بقي في الأرض رجلٌ واحد لكان الثاني هو الحجّة وخليفة اللَّه في الأرض، الذي تنزّل عليه ليلة القدر بمقادير الأُمور، وأنّ ليلة القدر هي من حقائق وخصائص روح الحجّة في الأرض.

6- وروي الطبري بسنده عن ربيعة بن كلثوم، قال: «قال رجل للحسن وأنا أسمع:

أرأيت ليلة القدر في كلّ رمضان هي؟ قال: نعم، واللَّه الذي لا إله إلّاهو أنّها لفي كلّ رمضان، وأنّها ليلة القدر فيها يُفرق كلّ أمر حكيم،

فيها يقضي اللَّه كلّ أجل وعمل ورزق إلي مثلها» «3».

النزول في ليلة القدر وحي للأنبياء، واستمراره بعد الأنبياء: … ص: 298

قال ابن خزيمة في صحيحه «4»: باب ذكر أبواب ليلة القدر والتأليف بين الأخبار المأثورة عن النبيّ صلي الله عليه و آله، فيها ما يحسب كثيراً من حملة العلم ممّن لا يفهم صناعة العلم أنّها متهاترة متنافية وليس كذلك، هي عندنا بحمد اللَّه ونعمته، بل هي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 299

مختلفة الألفاظ متّفقة المعني علي ما سأبيّنه إن شاء اللَّه.

قال أيضاً: باب ذكر دوام ليلة القدر في كلّ رمضان إلي قيام الساعة، ونفي انقطاعها بنفي الأنبياء.

7- وروي بسنده إلي أبي مرثد، قال: «قال: لقينا أباذر وهو عند الجمرة الوسطي فسألته عن ليلة القدر، فقال: ما كان أحد بأسأل لها منّي، قلت: يارسول اللَّه ليلة القدر أُنزلت علي الأنبياء بوحي إليهم فيها ثمّ ترجع؟ فقال: بل هي إلي يوم القيامة..

الحديث» «1»

، ورواه بطريق آخر أيضا في باب أنّ ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان «2».

8- وروي النسائي، والقسطلاني، والهيثمي، وابن حجر في فتح الباري، وابن كثير في تفسيره حديث أبي ذر في ليلة القدر قال: «يا رسول اللَّه أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رُفعت؟ قال: بل هي باقية».

9- وروي أحمد بن محمّد بن سلمة في شرح معاني الآثار، في باب الرجل يقول لامرأته أنت طالق ليلة القدر، متي يقع الطلاق؟ بسنده إلي مالك ابن مرثد عن أبيه، قال: «سألت أباذر فقلت: أسألت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله عن ليلة القدر؟ قال: نعم، كنت أسأل الناس عنها، قال عكرمة: يعني أشبع سؤلًا، قلت: يا رسول اللَّه، ليلة القدر أفي رمضان هي أم في غيره؟ قال صلي الله عليه و آله: في رمضان. قلت: وتكون مع

الأنبياء ما كانوا فإذا رُفعوا رُفعت؟ قال: بل هي إلي يوم القيامة» «3».

10- وفي صحيح ابن حبان، قال في باب ذكر البيان بأنّ ليلة القدر تكون في العشر الأواخر كلّ سنة إلي أن تقوم الساعة، ثمّ روي بسند متّصل رواية أبي ذر

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 300

المتقّدمة واللفظ فيها.. «تكون في زمان الأنبياء ينزل عليهم الوحي، فإذا قُبضوا رُفعت؟

فقال صلي الله عليه و آله: بل هي إلي يوم القيامة» «1».

وروي البيهقي في فضائل الأوقات رواية أبي ذر المتقدّمة بإسناده «2»، وقال قبل تلك الرواية: وليلة القدر التي ورد القرآن بفضيلتها إلي يوم القيامة وهي في كلّ رمضان … ثمّ نقل الخبر المزبور. وروي الهيثمي في موارد الظمآن رواية أبي ذر بسنده «3».

11- وروي أحمد بن محمّد بن سلمة في معاني الآثار، في باب الرجل يقول لامرأته أنت طالق ليلة القدر، متي يقع الطلاق؟ بسنده إلي سعيد بن جبير عن ابن عمر، قال: «سُئل رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وأنا أسمع عن ليلة القدر؟ فقال: في كلّ رمضان». ففي هذا الحديث أنّها في كلّ رمضان، فقال قوم هذا دليل علي أنّها تكون في أوّله وفي وسطه، كما قد تكون في آخره. وقد يحتمل قوله صلي الله عليه و آله في كلّ رمضان هذا المعني، ويحتمل أنّها في كلّ رمضان إلي يوم القيامة «4»، ورواه بطرق اخري غير مرفوعة.

أقول: هذه الروايات عند العامّة مطابقة لما يأتي من الروايات عند أهل البيت عليهم السلام، من عدّة وجوه، أهمّها:

أوّلًا: ليلة القدر كانت من لَدُن آدم عليه السلام، واستمرّت إلي النبيّ الخاتم صلي الله عليه و آله، وهي مستمرّة إلي يوم القيامة نزولًا علي خلفاء النبيّ الاثني عشر.

وثانياً: إنّ

هذا الروح النازل في ليلة القدر هو قناة ارتباط الأنبياء والأوصياء مع الغيب.

وثالثاً: ممّا يدلّل علي عموم الخلافة الإلهية: «إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 301

خَلِيفَةً» «1»

من لدن آدم وفي أوصياء كلّ نبيّ حتّي أوصياء النبيّ الخاتم، وأنّ هذه السفارة الإلهية لم تزل متّصلة ما استمرّ بنو آدم في العيش علي الأرض.

استمرار نزول باطن القرآن في ليلة القدر إلي يوم القيامة: … ص: 301

12- وروي الطبراني في المعجم الكبير بسنده: (حدّثنا أحمد بن رشدين، ثنا أبوصالح الحراني سنة ثلاثة وعشرين ومئتين، حدّثنا حيان بن عبيداللَّه بن زهير المصري أبو زهير منذ ستّين سنة، قال: سألت الضحاك بن مزاحم عن قوله: «مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَي اللَّهِ يَسِيرٌ» «2»

، وعن قوله: «إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» «3»

، وعن قوله:

«إِنَا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ» «4»

، فقال: قال ابن عبّاس: إنّ اللَّه عزّوجلّ خلق العرش فاستوي عليه، ثم خلق القلم فأمره ليجري بإذنه، وعُظمَ القلم ما بين السماء والأرض، فقال القلم: بم يا ربّ أجري، قال: بما أنا خالق وكائن في خلقي من مطر أو نبات أو نفس أو أثر، يعني به العمل أو الرزق أو الأجل، فجري القلم بما هو كائن إلي يوم القيامة فأثبته اللَّه في الكتاب المكنون عنده تحت العرش. وأمّا قوله «إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» فإنّ اللَّه وكّل ملائكته يستنسخون من ذلك الكتاب كلّ عام في رمضان ليلة القدر ما يكون في الأرض من حدث إلي مثلها من السنة المقبلة، فيعارضون به حفظة اللَّه علي العباد كلّ عشية خميس، فيجدون ما رفع الحفظة موافق لما في كتابهم ذلك، ليس فيه زيادة ولا نقصان) «5».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص:

302

أقول: في تفسير ابن عبّاس لهذه الآيات عدّة أُمور:

الأوّل: كلّ ما كان وما يكون وما هو كائن فهو مستطرّ مكتوب في الكتاب المكنون، الذي هو الوجود الغيبي للقرآن الكريم.

والثاني: إنّه يتنزّل منه ليلة القدر ما يتعلّق بكلّ سنة، وهذا يقتضي احتواء القرآن الكريم، وكذا ما ينزل منه ليلة القدر لكلّ تقدير في الخلق، وقدر كلّ كائن وتكوين.

والثالث: إنّ ما يتنزّل ليلة في كلّ عام هو ما وراء لفظ التنزيل، فلا تقتصر حقيقة القرآن وباطنه وتأويله علي ظاهر لفظ المصحف.

والرابع: إنّ عشية كلّ خميس أي ليلة الجمعة هناك معارضة الكتبة الحفظة علي العباد من أعمال، وبين ما نزل من الكتاب المكنون من القرآن في ليلة القدر.

وهذه الأُمور الأربعة أُشير إليها بنحوٍ مستفيض في روايات أهل البيت عليهم السلام كما سيأتي، ولا غرو في ذلك؛ لأنّ ابن عبّاس قد نهل من أمير المؤمنين والحسنين عليهم السلام فعرف منهم هذا المقدار، وإن خفي عليه ما هو أعظم.

فيتحصّل من كلامه:

الخامس: اشتمال القرآن لكلّ علم وجميع العلوم.

السادس: إنّ ما ينزل في ليلة القدر من كلّ عام إلي يوم القيامة هو من باطن القرآن.

السابع: فباطن القرآن لا زال يتنزّل في كلّ عام إلي يوم القيامة، وقد ذُكر كلّ ذلك في روايات أهل البيت عليهم السلام.

الثامن: إنّه يتمّ معارضة أي مطابقة ما ينزل منه ليلة القدر في كلّ أُسبوع، كما قد حصل للنبيّ صلي الله عليه و آله معارضة ظاهرة التنزيل كلّ عام مع جبرئيل عليه السلام.

13- وروي البيهقي في فضائل الأوقات بسند متّصل إلي أبي نظير، قال: يفرّق

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 303

أمر السنة كلّها في ليلة القدر، بلائها ورخائها ومعاشها إلي مثلها من السنة «1».

تباين حقيقة النازل من القرآن في المرتين تكرّر نزول جملة القرآن مرّتين بل أكثر إلي يوم القيامة: … ص: 303

14- روي الطبراني في المعجم الكبير،

بسند متّصل إلي ابن عبّاس في قوله تعالي: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ»، قال: أُنزل القرآن جملة واحدة حتّي وضع في بيت العزّة في السماء الدنيا، ونزّله جبرئيل علي محمّد صلي الله عليه و آله بجواب كلام العباد وأعمالهم «2».

15- وروي ابن أبي شيبة الكوفي في المصنّف في باب القرآن متي نزل، بسند متّصل عن ابن عبّاس في قوله «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ»، قال: رفع إلي جبرئيل في ليلة القدر جملة، فرفع إلي بيت العزّة، جعل ينزل تنزيلًا «3».

16- وروي النسائي في السنن الكبري بسند متّصل عن ابن عبّاس، قال: نزل القرآن في رمضان في ليلة القدر إلي السماء الدنيا، فكان إذا أراد اللَّه أن يحدث شيئاً نزل، فكان بين أوّله إلي آخره عشرين.

وروي مثله بخمسة طرق أُخري كلّها عن ابن عبّاس، وزاد في بعضها، قال: «وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا» «4»

، وقرأ:

«وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَي النَّاسِ عَلَي مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا» «5».

وفي طريق آخر منها زاد، وذلك «فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ» «6». «7»

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 304

17- وروي الطبراني في المعجم الأوسط، قال: روي نزول القرآن في ليلة القدر في شهر رمضان إلي السماء الدنيا جملة ثمّ أُنزل نجوماً، ورواه بطرق أُخري متعدّدة «1».

ومقتضي هذه الروايات، أنّ الذي نزل به جبرئيل علي النبيّ من القرآن أنّما هو النزول الثاني، أي النزول نجوماً من السماء الدنيا من بيت العزّة إلي النبيّ صلي الله عليه و آله، دون النزول الأوّل الذي هو جملة واحدة، ودون النزول المستمرّ في كلّ عام في ليلة القدر، ويقتضيه ظاهر آية سورة الشوري وسورة القدر، كما سيأتي بيانه مفصّلًا، وأنّ النازل بجملة القرآن وفي ليلة القدر من كلّ

عام إلي يوم القيامة هو روح القدس، والذي أُطلق عليه في القرآن «رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا»، وجُعل في سورة القدر مقابل للملائكة «يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ» «2».

ومن ذلك يُعلم الاختلاف النوعي في حقيقة التنزيلين، وأنّ النوعية الأُولي من النزول وهي نزول القرآن جملة- هو المستمرّ في ليلة القدر إلي يوم القيامة، وهو يرتبط بتأويل الكتاب، وتقدير كلّ شي ء يقع من المقادير في الخلق.

نزول القرآن ليلة القدر علي آل محمّد عوض غصب الخلافة: … ص: 304

18- وروي البيهقي في كتاب فضائل الأوقات بسند متّصل إلي يوسف بن مازن، قال: «قام رجل إلي الحسن بن عليّ رضي الله عنه فقال: يا مسوّد وجه المؤمنين. قال الحسن بن عليّ رضي الله عنه: لا تؤنّبني رحمك اللَّه؛ فإنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قد رأي بني أُميّة يخطبون علي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 305

منبره رجلًا فرجلًا فساءه ذلك، فنزلت «إنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ» «1»

نهر في الجنّة، ونزلت «إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» «2»

تملكه بنو أُمية، فحسبنا ذلك … فإذا هو لا يزيد ولا ينقص» «3».

19- وروي ابن أبي الحديد، قال: «وقد جاء في الأخبار الشائعة المستفيضة في كتب المحدّثين، أنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أُخبر أنّ بني أُمية تملك الخلافة بعده مع ذمّ منه صلي الله عليه و آله لهم. نحو ما روي عنه في تفسير قوله تعالي: «وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ» «4»

، فإنّ المفسّرين قالوا: إنّه رأي بني أُمية ينزون علي منبره نزو القردة، هذا لفظ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله الذي فسّر لهم الآية به، فساءه ذلك، ثمّ قال: الشجرة الملعونة بني أُمية وبني المغيرة. ونحوه

قوله صلي الله عليه و آله: إذا بلغ بنو العاص ثلاثون رجلًا اتّخذوا مال اللَّه دولًا وعباده خولًا. ونحوه قوله صلي الله عليه و آله في تفسير قوله تعالي: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» «5»

قال: ألف شهر يملك بها بنو أُمية».

وورد عنه صلي الله عليه و آله في ذمّهم الكثير المشهور نحوه.. وروي المدائني عن دخول سفيان بن أبي ليلي النهدي، رواية عن الحسن بن عليّ عليه السلام في تفسير الآية، وهي التي قد تقدّم ذكرها «6».

20- وروي الطبري في سورة القدر بسنده المتّصل عن عيسي بن مازن، قال:

«قلت للحسن بن عليّ رضي الله عنه: يا مسوّد وجوه المؤمنين، عمدت إلي هذا الرجل فبايعت له يعني معاوية بن أبي سفيان فقال: إنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أُري في منامه بني أُمية يعلون منبره خليفة خليفة فشقّ ذلك عليه، فأنزل اللَّه: «إنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ»، و «إنّا أنْزَلْناهُ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 306

في لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ»، يعني ملك بني أُمية». قال القاسم: حسبنا ملك بني أُمية فإذا هو ألف شهر».

21- وروي الترمذي في سننه، والحاكم بسند متّصل إلي الحسن بن عليّ عليه السلام:

«إنّ النبيّ صلي الله عليه و آله أُري بني أُمية علي منبره فساءه ذلك، فنزلت «إنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ»، ونزلت «إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ».. الحديث» «1».

ورواه السيوطي في الدرّ المنثور عن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من رواية يوسف بن سعد، وأخرج الخطيب عن ابن عبّاس نحوه، وكذا عن ابن نسيب، عنه صلي الله عليه و آله: «أُريت بني أُمية يصعدون منبري فشقّ ذلك عليّ، فانزلت «إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ

الْقَدْرِ»».

أقول: ومقتضي هذه الروايات أنّ اللَّه تعالي قد عوّض النبيّ وأهل بيته عن غصب الخلافة الظاهرية بإعطائهم ليلة القدر، أن تكون معهم كما كانت مع الأنبياء السابقين؛ إذ مقتضي جواب الإمام الحسن بن عليّ عليه السلام عن غصب معاوية الخلافة منه، هو أنّ اللَّه تعالي قد عوّض النبيّ وأهل بيته أصحاب الكساء والأئمّة الاثني عشر سلام اللَّه عليهم بنزول الروح عليهم والملائكة في ليلة القدر ينبّئونهم بكلّ أمر، وإلّا لما صحّ جواب الإمام الحسن بن علي عليه السلام في قبال اعتراض السائل، بل ولما كان تعويض للنبيّ صلي الله عليه و آله، فإنّ مساءة النبيّ من نزو بني أُمية علي خلافته وغصبهم لها ليس في زمانه، وإنّما بعد رحيله صلي الله عليه و آله حيث وقعت الفتنة بنصّ الآية الكريمة: «وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ» «2»

، وبنصّ الروايات الواردة في ذيل الآية عن النبيّ من طريقهم فضلًا من طرقنا، فهذه الروايات المستفيضة عندهم وعندنا في ذيل الآية مع نفس

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 307

مضمون الآية هي أحد ملامح الأدلّة علي إمامة أهل البيت عليهم السلام وغصب أهل السقيفة وبنو أُمية للخلافة.

كما أنّها دالّة علي أنّ ليلة القدر وما يتنزّل فيها والروح النازل، كلّ ذلك يرتبط ارتباطاً وثيقاً بحقيقة إمامتهم التكوينية الإلهية.

وسيأتي لاحقاً في هذا الفصل والذي يُعدّ أيضاً ارتباط حقيقة ليلة القدر بحكومتهم السياسية الخفية في النظام الاجتماعي السياسي، ولكن بنمو تكويني منظومي.

وهذا النازل في ليلة القدر ليس وحي شريعة، وإنّما هو علم في الإدارة والتدبير والقيادة والإمامة الإلهية، ومحلّ تقدير وتدبير لكلّ شي ء في القضاء والقدر الإلهي إلي السنة المقبلة.

حقيقة القرآن هي الروح النازل ليلة القدر: … ص: 307

22- وروي السيوطي في ذيل سورة النحل قوله

تعالي: «يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ» «1»

، قال: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله تعالي:

«يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ»، قال: بالوحي.

23- وكذلك روي السيوطي في الموضع السابق عن جملة من المصادر، عن قتادة في قوله: «يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ»، قال: بالوحي والرحمة. وأخرج عن جملة، عن الضحّاك في قوله تعالي: «يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ»، قال: القرآن «2».

وروي الطبري بسنده عن قتادة مثله.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 308

24- وروي السيوطي في الدرّ المنثور في سورة الشوري في ذيل قوله تعالي:

«وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ» «1»

، قال: أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس (رضي اللَّه عنهما) في قوله: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا»، قال: القرآن «2».

حقيقة الوحي هو نزول الروح كما في ليلة القدر ومستمرّ إلي يوم القيامة: … ص: 308

أقول: ويُستفاد من مجموع هذه الطائفة من الروايات: أنّ حقيقة القرآن هي الروح الذي يتنزّل في كلّ ليلة قدر، وأنّ نزوله في كلّ ليلة قدر نزول للوحي الإلهي، بل إنّ الوحي ليس إلّانزول الروح والملائكة علي من يشاء من العباد المصطفون، من الأنبياء والأوصياء، ومن ثمّ عبّر في سورة الشوري في قوله تعالي: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ» عن إرسال الروح الأمري بأنّه وحيٌ، فالوحي هو إنزال الروح وإنزال الروح هو وحي، فتصريح القرآن الكريم في سورة القدر بتنزيل الروح كلّ عام، هو تصريح باستمرار الوحي بعد سيد الأنبياء، غاية الأمر الذي يتنزّل هو من غيب القرآن الذي قد ورّثه النبيّ صلي الله عليه و آله لأوصيائه.

عقيدة البداء وحقيقة ليلة القدر: … ص: 308

25- وروي الطبري في سورة الرعد في ذيل قوله تعالي: «يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» «3»

بسنده المتّصل عن مجاهد قول اللَّه: «يَمْحُواْ اللَّهُ مَا

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 309

يَشَاءُ وَيُثْبِتُ»، قالت قريش حين أُنزل: «وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ»: ما نراك يا محمّد تملك من شي ء، ولقد فُرغ من الأمر، فأُنزلت هذه الآية تخويفاً ووعيداً لهم أنّا إن شئنا أحدثنا من أمرنا ما شئنا، ونُحدث في كلّ رمضان فنمحو ونثبت ما نشاء من أرزاق الناس ومصائبهم، وما نعطيهم وما نقسّم لهم «1».

أقول: وفي هذه الرواية والروايات التي رويت في ذيل الآية والتي رواها أهل سنّة جماعة الخلافة والسلطان، دالّة علي عقيدة البداء التي هي نوع من النسخ التكويني الواردة في روايات أهل البيت، كما تدلّ هذه الروايات علي أنّ ما في أمّ الكتاب الذي هو أصل القرآن وحقيقته العلوية الغيبية، متضمّن لكلّ قضاء وقدر، وليس هو

مجرّد ظاهر التنزيل، وهذه الحقيقة للقرآن لا ينالها إلّاالمعصوم الذي ينزّل عليه الروح في ليلة القدر، ولا يطمع في نيلها غير المعصوم؛ إذ ليس الأمر بالأماني والتمنّي، هيهات. وما سيأتي ومضي من رواياتهم لا يخفي تضمّنه لمعني النسخ والبداء.

26- وروي الطبري في سورة الدخان، بسنده عن ابن زيد في قوله عزّوجلّ:

«إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ» «2»

، قال: تلك الليلة ليلة القدر، أنزل اللَّه هذا القرآن من أُمّ الكتاب في ليلة القدر، ثمّ أنزله علي الأنبياء في الليالي والأيام، وفي غير ليلة القدر «3».

أقول: هذه الرواية دالّة علي أنّ الذي يتنزّل من أُمّ الكتاب الذي هو أصل القرآن وحقيقته الغيبية العلوية، والذي يتنزّل منه، ليس ظاهر التنزيل، بل كلّ المقادير وقضاء الحوادث الكونية وأنّ ذلك التنزّل مستمرّ ليس في خصوص ليلة القدر،

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 310

بل علي مرّ الليالي والأيام والآناء واللحظات، وأنّه لا زال يتنزّل بعد ذهاب الأنبياء، يتنزّل علي الأوصياء خلفاء النبيّ- الاثني عشر من قريش سلام اللَّه عليهم، وهذا المضمون قد ورد في روايات أهل البيت عليهم السلام.

27- وروي الطبري في سورة الرعد، بسند متّصل عن قتادة قوله تعالي:

«وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ»، قال: جملة الكتاب وأصله.

28- وروي الطبري في الموضع المذكور بسنده إلي الضحّاك في قوله:

«وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ»، قال: كتاب عند ربّ العالمين.

29- وروي الطبري عن الضحّاك أيضاً في الموضع المزبور «وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ»، قال: جملة الكتاب وعلمه، يعني ما بذلك ما ينسخ منه وما يثبت.

وروي نظيره بسند متّصل عن ابن عبّاس «كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا» «1».

أقول: مقتضي التعبير بلفظ جملة الكتاب عنده تعالي، أنّ ظاهر التنزيل ليس كلّ درجات حقيقة الكتاب، وأنّ جملته مجموع ما فيه من التأويل والحقائق

وكلّ قضاء وقدر، وكلّ ما كان ويكون فهو في أُمّ الكتاب، وهو الذي ينزل منه كلّ عام في ليلة القدر بتوسّط الروح، وأنّه لازال ينزل من باطن الكتاب وتأويل كلّ عام في ليلة القدر إلي يوم القيامة، بل في كلّ ليلة، وأنّه كما مرّ في بعض الروايات المتقدّمة.

وكلّ هذا المضمون قد ورد في روايات أهل البيت كما ستأتي الإشارة إليه، فللكتاب جملة يستطرّ فيها كلّ شي ء، ما من غائبة في السماء والأرض، ولا رطب ولا يابس إلّافي كتاب مبين، فظاهر التنزيل الذي بين الدفّتين وهو المصحف الشريف، لا يحيط ولا يحتوي بما في أُمّ الكتاب، وإنّما هو ظهر يوقف عليه

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 311

للوصول إلي البطون والتأويلات والحقائق، بهداية الراسخين في العلم الذين هم أهل آية التطهير الذين يمسّون الكتاب المكنون، كما دلّت علي ذلك الآيات الكريمة في السور المختلفة.

بل إنّ من تصريح الآيات بأنّ أهل البيت المطهّرين الذين يمسّون الكتاب المكنون، يُعلم بالتلازم أنّ أهل البيت هم الذين يتنزّل عليهم روح القدس في ليلة القدر، بما في أُمّ الكتاب من القضاء والقدر لكلّ سنة، كما أنّ من التلازم في حديث الثقلين من العترة والكتاب وعدم افتراقهما، يُعلم تلازمهما في كلّ ما ينزل من الكتاب في كلّ سنة.

كما أنّ من التعبير بأنّ عنده أُمّ الكتاب الذي هو جملة مجموعه، وأصله وحقيقته التعبير بأنّ هذه الجملة والحقيقة عند اللَّه للدلالة علي القرب المعنوي بحسب نشأة عوالم الخلقة، فمكانته الوجودية غيبية مكنونة في لوح محفوظ ذات مجد كوني وتكويني، وهي الروح الأعظم كما سيأتي في الروايات.

30- وروي بسنده عن ابن عبّاس أنّه سأل كعب عن أُمّ الكتاب، قال: علم اللَّه ما هو خالق ما خلقه عاملون، فقال

لعلمه: كن كتاباً فكان كتاباً.. وقال الطبري بعد ذلك: وأولي الأقوال بذلك بالصواب قول من قال وعنده أصل الكتاب وجملته؛ وذلك أنّه تعالي ذِكره أخبر أنّه يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، ثم عقّب بذلك بقوله: «وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ»، فكان بيّناً أنّ معناه عنده أصل المثبت منه والمحو، وجملته في كتاب لديه.

31- وروي الطبري في سورة الدخان بسند متّصل عن ابن زيد في قوله عزّوجلّ: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ» «1»

، قال: تلك الليلة ليلة القدر،

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 312

وأنزل اللَّه هذا القرآن من أُمّ الكتاب في ليلة القدر، ثمّ أنزله علي الأنبياء في الليالي والأيام وفي غير ليلة القدر.

32- وروي الطبري في ذيل سورة الدخان بسنده عن عمر مولي غفرة، قال:

يقال: ينسخ لملك الموت من يموت في ليلة القدر إلي مثلها؛ وذلك لأنّ اللَّه عزّوجلّ يقول: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ»، وقال: «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» «1»

، قال: فتجد الرجل ينكح النساء ويغرس الغرس واسمه في الأموات.

أقول: ومقتضي هاتين الروايتين أنّ القرآن النازل في ليلة القدر- وهي الليلة المباركة- يُسمّي بحسب حقيقته الغيبية بعدّة أسماء، وهي بحسب مراتبه الغيبية:

الكتاب المبين، وأُمّ الكتاب، والكتاب المكنون. كما أنّ مقتضي الرواية الأخيرة هيمنة القرآن والروح النازل في ليلة القدر علي وظائف ملك الموت، وأنّه تابع منقاد للروح، وكذلك ميكائيل الموكّل بالأرزاق، وإسرافيل الموكّل بالأحياء، وجبرئيل الموكّل بالعلم والبطش.

وقال الطبري في ذيل سورة الدخان: وقوله: «إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» «2»

، يقول تعالي ذكره: «إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» رسولنا محمّد صلي الله عليه و آله إلي عبادنا «رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» «3».

وقال: وقوله: «أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» «4»

، يقول تعالي ذكره: في

هذه

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 313

الليلة المباركة يُفرق كلّ أمر حكيم أمراً من عندنا.

أقول: إنّ الإرسال في الآيات الكريمة في سورة الدخان مرتبط بإنزال الروح ليلة القدر بتقادير الحوادث كلّها، وهذا الإرسال في كلّ ليلة قدر من كلّ عام إلي يوم القيامة وإن لم يكن إرسال نبوّة ورسالة، بل هو تزويد لخليفة اللَّه في الأرض، واطّلاعه بإرادات اللَّه ومشيئاته للقيام بالمسؤوليات الإلهية الخطيرة التي تعهد إليه من الباري تعالي، والتي تتوقّف علي هذا الكمّ الهائل من العلم بالمقدّرات الإلهية المستقبلية.

دوام ليلة القدر من الروايات الحاثّة علي فضيلتها في الصحاح: … ص: 313

قد عقد البخاري ومسلم كلّ منهما باباً بعد كتاب الصوم أُدرج فيه خمسة أبواب:

الأوّل: في فضل ليلة القدر.

الثاني: التماس ليلة القدر في السبع الأواخر.

الثالث: تحرّي ليلة القدر في الوتر من العشر. وأورد فيها البخاري روايات عن النبيّ صلي الله عليه و آله كلّها آمره بالتماس وتحرّي ليلة القدر، أي طلبها كلّ عام، ممّا يقضي بدوام ليلة القدر إلي يوم القيامة.

وممّا أورده في تلك الروايات بسنده عن ابن عمر أنّ رجالًا من أصحاب النبيّ صلي الله عليه و آله أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال صلي الله عليه و آله: أري رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحرّيها فليتحرّها في السبع الأواخر.

أقول: مقتضي هذه الرواية أنّ ليلة القدر حقيقة قد يري بعضُ آياتها، وبعض لمعانها وأنوارها بعضُ البشر. ومثله في صحيح مسلم.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 315

شهر رمضان إعداد لليلة القدر هي باب عظيم لمعرفة الإمام عليه السلام … ص: 315

اشارة

فكما أن هناك صلة بين شهر رمضان وليلة القدر، فهناك صلة وثيقة بينهما وبين حقيقة الإمام عليه السلام، وكما أنّ شهر رجب وشهر شعبان يوطّئان ويمهّدان لشهر رمضان، فكذلك شهر رمضان يوطئ لليلة القدر، وليلة القدر بدورها توطئ لنزول الروح والملائكة الذي هو نزول لحقيقة القرآن، والروح أنّما ينزل بكلّ أمر علي من يصطفيه اللَّه من عباده في كلّ عام وهو الإمام، وتعظيم شهر رمضان أنّما هو لما فيه من ليلة القدر، وعظمة ليلة القدر أنّما هي لما فيها من نزول الروح ونزول القرآن، وهو أنما ينزل علي من يشاء من عباد اللَّه، مَنْ اصطُفي لذلك.

فشهر رمضان بيئة نورية لليلة القدر، وليلة القدر بيئة أشدّ نوراً لنزول الروح، ونزول الروح أشدّ نوراً بأضعاف عند من يتنزّل عليه الروح.

فالانشداد إلي شهر رمضان انشداد إلي ليلة القدر،

والانشداد إلي ليلة القدر انشداد إلي الإمام الذي يتنزّل عليه الروح. وإدراك ليلة القدر هو بمعرفة حقيقة القدر وهي نزول الروح علي من يشاء اللَّه من عباده المصطفين بكلّ أمر يقدّره من حوادث السنةّ، فمعرفة ليلة القدر معرفة لحقيقة النبوّة والإمامة وإدراكها هو بهذه المعرفة.

روي الكليني عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «.. فضل إيمان المؤمن بجملة «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ» وتفسيرها علي من ليس مثله في الإيمان بها، كفضل الإنسان علي البهائم،

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 316

وإنّ اللَّه عزّوجلّ ليدفع بالمؤمنين بها عن الجاحدين لها في الدنيا لكمال عذاب الآخرة لمن علم أنّه لا يتوب منهم- ما يدفع بالمجاهدين عن القاعدين»، الحديث «1».

بيئة ليلة القدر شهر رمضان: … ص: 316

إنّ الناظر في خصائص شهر رمضان وما أحيط به من هالة معنوية وزخم روحي كبير وتركيز مكثّف هو تمهيد لليلة القدر، وإنّ ذلك لا يقتصر علي شهر رمضان بل يبدأ من شهر رجب ومن بعده شهر شعبان إلي أن يصل شهر رمضان، شهر اللَّه الذي عُظّم من اللَّه عزّوجلّ، حيث نُسب إليه تعالي وجُعلت فيه ليلة القدر.

وكذلك كونه شهر ضيافة اللَّه عزّوجلّ وأنّه أُنزل فيه القرآن العظيم، حيث قال تعالي: «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًي لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَي وَالْفُرْقَانِ» «2».

وكلّ هذا التعظيم حلقات مترابطة لتصل إلي ما في شهر رمضان من أوج العظمة وهي ليلة القدر، حيث إنّ فضائل شهر رمضان في جانب وفضائل ليلة القدر في جانب آخر، فإنّ كلّ ما حفّ به شهر رجب الأصبّ الذي تصبّ فيه الرحمة صبّاً، وشهر شعبان الذي تتشعّب فيه طرق الخير، كلّ ذلك قد تضاعف أضعافاً في خصائص شهر رمضان، وتضاعف ما في شهر رمضان من خصائص إلي ثلاثين ألف ضعف في ليلة

القدر.

فليلة القدر هي أوج عظمة الضيافة الإلهية والحفاوة الربّانية، فأوج نصيب حظّ العباد إدراك ليلة القدر، إلّاأنّ هذا الإدراك للّيلة العظيمة ليس بمجرّد الكمّ الكبير من العبادات والأدعية والابتهال والتنفّل؛ فإنّ كلّ ذلك إعداد ضروري لما وراءه من

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 317

إدراك آخر لحقيقة ليلة القدر وهو معرفة هذه الليلة، ومعرفتها هو بمعرفة حقيقتها المتّصلة بحقيقة الإمام والإمامة.

فمن ثمّ كان شهر رمضان شهر اللَّه الأغرّ وشهر معرفة الإمام خليفة اللَّه في أرضه، فكما أنّ شهر رمضان نفخ بالحياة للدين القويم، فإنّ ليلة القدر هي القلب النابض في هذا الشهر؛ لما لها من صلة بالإمام وتنزّل الروح الأعظم عليه.

فشهر رمضان بوابة لمعرفة ليلة القدر، وليلة القدر بوابة لمعرفة الإمام والارتباط به والانشداد إليه، فجُعل شهر رمضان سيد الشهور كما جاء في روايات الفريقين، وجُعلت ليلة القدر قلب شهر رمضان كما ورد في الحديث.

وقد جُعل شهر رمضان أعظم حرمة من الأشهر الحُرُم الأربعة، وهذه العظمة لشهر رمضان أنّما هو لما فيه من تلك الليلة العظيمة، فهو كالجسم وهي كالروح له، مع أنّ شهر رمضان هو كالروح للأشهر الحُرُم الأربعة التي منها شهر رجب.

وكلّ ذلك يرسم مدي العظمة التي تحتلّها ليلة القدر، وقد بيّن الغاية من الصيام في شهر رمضان في قوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» «1».

والصيام علي درجات كما كان في الشرائع السابقة، فلا يقتصر علي الإمساك البدني بل يرتبط بالدرجات الاعتقادية كالإمساك عن الكذب علي اللَّه ورسوله، فصيام علي مستوي الجانب البدني وصيام الجوانح وصيام علي مستوي الحالات النفسية والخواطر، وهناك صيام علي مستوي الحالات القلبية وحالاته وخواطره.

وأعظم المراتب علي مستوي الاعتقاد، كما يشير

إليه قول الإمام الصادق عليه السلام

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 318

في رواية جراح المدائني «1»، فبيّن عليه السلام صوم الصمت كما هو صوم زكريا ومريم، وعُرف بصوم الصمت الداخل، أي الإمساك بحسب كلّ مراتب النفس الباطنية.

فشهر رمضان بيئة عظيمة لليلة القدر، وقد وصف هذا الشهر كما في خطبة النبيّ صلي الله عليه و آله التي رواها الصدوق بسند معتبر عن الرضا عليه السلام، عن أمير المؤمنين عليه السلام:

«شهر اللَّه ذي البركة والرحمة والمغفرة، شهر، هو عند اللَّه أفضل الشهور وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دُعيتم به إلي ضيافة اللَّه وجُعلتم به من أهل كرامة اللَّه، أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة وعملكم فيه مقبول ودعاؤكم فيه مستجاب.. هذا الشهر العظيم.. ومن تلي فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور. أيّها الناس، إنّ أبواب الجنان في هذا الشهر مفتّحة فسلوا ربّكم أن لا يغلقها عليكم، وأبواب النيران مغلّقة فسلوا ربّكم أن لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولة فسلوا ربّكم أن لا يسلّطها عليكم».

فهذا الشهر قد عظّمه الباري وكرّمه وشرّفه وفضّله علي الشهور، وافترض صيامه علي العباد، وأنزل فيه القرآن هدي للناس وبيّنات من الهدي والفرقان، وجعل فيه ليلة القدر وجعلها خيراً من ألف شهر.

أوصاف ليلة القدر: … ص: 318

إلّا أنّ كلّ هذه الأوصاف لشهر رمضان بالقياس إلي أوصاف ليلة القدر منه هي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 319

دون الأوصاف التي وصفت بها تلك الليلة؛ فإنّ تلك الأوصاف قد ذكرت لليلة القدر بنحو مضاعف أضعافاً، وكأنّ الشهر توطئة وإعداد للولوج في تلك الليلة، حتّي أنّ أغلب أدعية ذلك الشهر المأثورة تركّز علي الدعاء والطلب لإدراك تلك الليلة، ولطلب حسن ما يقضي

ويقدّر من الأمر المحتوم وما يفرق من الأمر الحكيم في تلك الليلة من القضاء الذي لا يردّ ولا يبدّل.

ومن تلك الأوصاف، أنّها أوّل السنة المعنوية بلحاظ لوح القضاء والقدر. فقد روي الكُليني عن رفاعة عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «ليلة القدر هي أوّل السنة وهي آخرها» «1».

وروي الشيخ في التهذيب بعدّة أسانيد إلي مولانا الصادق عليه السلام أنّه قال: «إذا سلم شهر رمضان سلمت السنة، وقال: رأس السنة شهر رمضان» «2».

وروي الكُليني بسنده إلي أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: «الشهور عند اللَّه اثنا عشر شهراً في كتاب اللَّه يوم خلق السماوات والأرض، فغرّة الشهور شهر اللَّه عزّوجلّ وهو شهر رمضان، وقلب شهر رمضان ليلة القدر» «3».

وروي ابن طاووس في الإقبال بإسناده إلي علي بن فضّال من كتاب الصيام، بإسناده إلي ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: «شهر رمضان رأس السنة» «4».

وقال أيضاً في كتاب إقبال الأعمال بعد ذكر جملة للروايات المتضمّنة لهذا المضمون: (واعلم أنّني وجدت الروايات مختلفات، هل أنّ أوّل السنة محرّم أو شهر رمضان؟ لكنّني رأيت من عمل من أدركته من علماء أصحابنا المعتبرين

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 320

وكثيراً من تصانيف علمائهم الماضين، أنّ أوّل السنة شهر رمضان علي التعيين، ولعلّ شهر الصيام أوّل العام في عبادات الإسلام، والمحرّم أوّل السنة في غير ذلك من التواريخ ومهام الأنام؛ لأنّه جلّ جلاله عظّم شهر رمضان، فقال جلّ جلاله:

«شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًي لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَي وَالْفُرْقَانِ» «1»

فلسان حال هذا التعظيم كالشاهد لشهر رمضان بالتقديم؛ ولأنّه لم يجر لشهر من شهور السنة ذكر باسمه في القرآن وتعظيم أمره إلّالهذا الشهر شهر الصيام، وهذا

الاختصاص بذكره كأنه ينبّه- واللَّه أعلم- علي تقديم أمره؛ ولأنّه إذا كان أوّل السنة شهر الصيام وفيه ما قد اختصّ به من العبادات التي ليست في غيره من الشهور والأيام، فكأنّ الإنسان قد استقبل أوّل السنة؛ ولأنّ فيه ليلة القدر التي يُكتب فيها مقدار الآجال وإطلاق الآمال، وذلك منبّه علي أنّ شهر الصيام أوّل السنة) «2».

قال المجلسي قدس سره: قال الوالد العلّامة: (الظاهر أنّ الأوّلية باعتبار التقدير، أي أوّل السنة التي تقدّر فيها الأُمور لليلة القدر، والآخرية باعتبار المجاورة، فإنّ ما قدّر في السنة الماضية انتهي إليها، كما ورد أنّ أوّل السنة التي يحلّ فيها الأكل والشرب يوم الفطر، أو أنّ عملها يُكتب في آخر السنة الأُولي وأوّل السنة الثانية كصلاة الصبح في أوّل الوقت، أو يكون أوّل السنة باعتبار تقدير ما يكون في السنة الآتية وآخر سنة المقدّر فيها الأُمور) «3».

ومنها: ما رواه الطبرسي في مجمع البيان، والاستربادي في تأويل الآيات. عن ابن عبّاس عن النبيّ صلي الله عليه و آله أنّه قال: «إذا كانت ليلة القدر تنزّل الملائكة الذين هم سكان سدرة المنتهي وفيهم جبرئيل، ومعهم ألوية فينصب لواء منها علي قبري ولواء منها

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 321

في المسجد الحرام ولواء منها علي طور سيناء، ولا يدع مؤمن ولا مؤمنة إلّاويسلّم عليه، إلّامدمن خمر وآكل لحم خنزير والمتضمّخ بالزعفران» «1»

. ونظيره ما روي في كتاب جعفر بن محمد الدورستري.

ومنها: يفرق فيها كلّ أمر حكيم، وأنّها مباركة ببركة خاصّة مضاعفة مُمتازة عن بركة شهر رمضان كلّه، حيث قال تعالي: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» «2»

، وقوله تعالي: «وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ

أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» «3».

ومنها: أنّها موصوفة بالسلامة، حيث قال تعالي: «سَلَامٌ هِيَ حَتَّي مَطْلَعِ الْفَجْرِ» «4»

، مع أنّ شهر رمضان كما تقدّم- تُصفد فيه الشياطين وتُفتح فيه أبواب السماء وأبواب الجنان وتُغلق أبواب النيران، إلّاأنّ في ليلة القدر يزداد هذا الفتح لأبواب والغلق لأبواب أُخري.

ومنها: يُضاعف العمل ثلاثين ألف ضعف، كما قال تعالي: «خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ». إلي غير ذلك من الخصائص التي امتازت بها ليلة القدر، إلّاأنّ كلّ ذلك هو تمهيد وتوطئة وإعداد لأكبر امتياز وخاصّية امتازت بها ليلة القدر، وهو نزول القرآن والروح والملائكة فيها في كلّ عام.

وروي في مجمع البيان عن النبيّ صلي الله عليه و آله قال: «إنّ الشيطان لا يخرج في هذه الليلة حتّي يضي ء فجرها، ولا يستطيع فيها أن ينال أحداً بخبل أو داء أو ضرب من ضروب الفساد، ولا ينفذ فيه سحر ساحر» «5».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 322

ليلة القدر بيئة لنزول القرآن كلّ عام: … ص: 322

فكلّ الإعداد السابق للمسلم والمؤمن في بيئة شهر رمضان المباركة ومحيط أجواء النور في ليلة القدر وعبادة المؤمن وأعماله في هذه الليلة المتضاعفة أضعافاً، تبلغ أجر العمل في هذه الليلة من كلّ عام ما يزيد علي عمر الإنسان لو قدّر تطاوله إلي ما يزيد علي ثلاث وثمانين عاماً.

كلّ هذا الإعداد والرقي الروحي للمؤمن يُكتب له لأجل أن يدرك ليلة القدر، وإدراكها بدراية (ما ليلة القدر) حيث قال تعالي: «وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ» «1»

وهو تحضيض وترغيب وحثّ علي دراية ومعرفة ليلة القدر؛ ف «وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ» أي ما أعلمك بليلة القدر، فإدراكها بدرايتها.

وليست درايتها ومعرفتها هي بمعرفة وقتها الزماني ليتخيّل أنّ إدراكها هو بتحديد أي ليلة هي من الليالي لتوقع

الأعمال العبادية فيها، بل هذا أدني درجات الإدراك، ومعدّ إلي درجات أُخري لإدراكها بدرايتها ومعرفة الإرهاصات التي تقع فيها، ومن ثمّ قال تعالي عقيب قوله «وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ» بقوله تعالي بخيرّيتها من ألف شهر، وأوج معرفتها بتنزّل الملائكة والروح فيها من كلّ أمر، فالعمدة في درك ودراية هذه الليلة بمعرفة نزول الروح والملائكة فيها من كلّ عام.

ويواجه الباحث هنا عدّة تساؤلات:

الأوّل: ما هي العلاقة بين نزول القرآن في ليلة القدر ونزول الروح؟ وما هذه الصلة التي يجدها ملحوظة في سورة القدر؟ حيث إنّ الضمير في «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» يعود إلي القرآن، كما أنّ الضمير في سورة الدخان «حم* وَالْكِتَابِ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 323

الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ» يعود إلي الكتاب المبين، وقوله تعالي «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًي لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَي وَالْفُرْقَانِ» «1».

الثاني: هل النزول للقرآن يستمرّ باستمرار نزول الروح في ليلة القدر من كلّ عام؟

الثالث: ما هي الصلة بين الكتاب المبين والقرآن الذي أُنزل في الليلة المباركة ليلة القدر؟ كما في سورة الدخان التي تقدّمت، وفي سورة الزخرف من قوله تعالي: «حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ» «2».

وقد وصفت الآيات المحكمات بأنّهن أُمّ الكتاب في سورة آل عمران في قوله تعالي: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ» «3».

الرابع: ما هي الصلة بين نزول القرآن ونزول الروح والملائكة، وتقدير كلّ أمر من الحوادث والآجال والأرزاق، وكلّ صغيرة وكبيرة تقع علي كلّ شخص وكلّ مجتمع بل كلّ نبات وحيوان وجماد وكون ومكان ودول وجماعات وأحزاب ومنظمات إقليمية وقطرية ومذاهب وطوائف وحرب وسلم وغلاء

ورخص وأمن وخوف ومواليد وأموات؟

وتدبير كلّ شي ء من عظائم الأُمور وصغائرها، وأحلاف سياسية وعسكرية وأمنية، ومخطّطات ومشاريع، وظواهر اجتماعية واقتصادية، وظواهر فكرية اعتقادية، وانتشار الأمراض والأوبئة المهدّدة للصحّة العالمية البشرية، والسياسات المتبنّاة في كلّ إقليم، وتوازن القوي الاجتماعية والإقليمية والدولية،

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 324

وسقوط دول وبروز أُخري، وتبدّل أعراف ونشوء أُخري قانونية واجتماعية وأخلاقية، وما سيدور في الدوائر الأمنية والسياسية والمخابراتية الدولية والقطرية من خلف الكواليس؟ حيث قال تعالي في سورة الدخان: «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» «1»

، وقال في سورة القدر: «تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» «2»

، وقوله تعالي: «يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» «3»

، وقوله تعالي: «يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ» «4»

، وقوله تعالي:

«وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً» «5».

وروي الكُليني عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «كان عليّ عليه السلام كثيراً ما يقول: ما اجتمع التيمي والعدوي عند رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وهو يقرأ إنّا أنزلناه بتخشّع وبكاء، فيقولان: ما أشدّ رقّتك لهذه السورة؟ فيقول رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: لِما رأت عيني ووعي قلبي، ولِما يري قلبُ هذا من بعدي. فيقولان فما الذي رأيت وما الذي يري. قال: فيكتب صلي الله عليه و آله لهما في التراب «تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ». قال: ثمّ يقول: هل بقي شي ء بعد قوله عزّوجلّ: (كلّ أمر) فيقولان: لا..» الحديث «6».

وروي الكُليني صحيح محمّد بن مسلم، عن أحدهما، قال: «.. وسُئل عن ليلة القدر فقال: تنزّل فيها الملائكة والكتبة إلي السماء الدنيا، فيكتبون ما يكون في أمر السنة وما يصيب العباد،

وأمره عنده موقوف له وفيه المشيئة، فيقدّم منه ما يشاء ويؤخّر منه ما يشاء» «7».

وروي في صحيح الفضلاء في حديث، في قوله عزّوجلّ «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 325

حَكِيمٍ» قال: يقدّر في ليلة القدر كلّ شي ء يكون في تلك السنة إلي مثلها من قابل خير وشر وطاعة ومعصية ومولود وأجل أو رزق، فما قدّر في تلك السنة وقضي فهو المحتوم وللَّه عزّوجلّ فيه المشيّة «1».

الخامس: من هو الذي ينزل عليه الروح والملائكة بعد النبيّ صلي الله عليه و آله في هذه الأُمّة إلي يوم القيامة؟ حيث إنّ نزول الملائكة والروح بحسب سورة القدر وسورة الدخان كان قطعاً علي النبيّ صلي الله عليه و آله، حيث إنّ نزول الروح والملائكة كان إنزالًا للقرآن علي النبيّ صلي الله عليه و آله، فلم يكن نزولًا بلا مقصد ينتهي إليه النزول، وكذا قوله في سورة الدخان: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» «2»

فالآية تصرّح أنّ مورد النزول هو من يشاء اللَّه من عباده، أي يصطفيهم لذلك ليكونوا منذرين، وكذلك سورة غافر في قوله تعالي:

«يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ» «3».

السادس: هل هذا المتنزّل من الكمّ الهائل من المعلومات عن كلّ ما يحدث في الأرض والذي ينزل علي من اصطفاه اللَّه لذلك وشاء له ذلك بنصّ سورة النحل وغافر والتي هي نظم ومنظومات معلوماتية بالغة الخطورة عن المستقبل في كلّ الحقول ونظم الاجتماع السياسي والاقتصادي والأمني، فهل نزولها للترف العلمي ومجرّد اطّلاع من يشاء اللَّه من عباده، أم أنّ ذلك ليقوم بمهام وأدوار خطيرة في البشرية في كافّة أرجاء الأرض؟

وعلي كلّ تقدير،

فإنّ ظاهر سورة القدر «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» هو نزول القرآن في ليلة القدر، كما هو ظاهر قوله تعالي: «شَهْرُ رَمَضَانَ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 326

الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًي لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَي وَالْفُرْقَانِ» «1»

، فإنّ مفادهما كما اعترف بذلك جملة كثيرة من المفسّرين من الفريقين، هو نزول القرآن جملة واحدة في شهر رمضان، وظاهر الضمير في سورة القدر عائد إلي القرآن، كما أنّ لفظ الآية في سورة البقرة كذلك «الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ»، حيث إنّ ظاهر (ال) في المجموع، وكذلك هو مفاد قوله تعالي في سورة الدخان: «حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ»، فإنّ الضمير عائد إلي الكتاب المبين برمّته. هذا مضافاً إلي أنّ بعثة الرسالة النبويّة هي في شهر رجب وهو مبدأ نزول القرآن نجوماً وأنّ أوّل سورة نزلت هي سورة العلق وغيرها من السور، فمن ثمّ حُمل ذلك علي استظهار أنّ للقرآن نزولان:

النزول الأوّل: بجملة القرآن.

والنزول الثاني: هو نزول مفصّل تدريجي نجومي بحسب الوقائع والأحداث.

وقد تفطّن إلي ذلك في دلالة الآيات ببركة ما ورد من روايات أهل البيت عليهم السلام وانتشر من حديثهم، فتبنّاها جملة من طبقات التابعين أخذاً عنهم وإن لم يسندوها إليهم، فقد ورد عنهم عليهم السلام كما في صحيحة حمران أنّه سأل أباجعفر عليه السلام عن قول اللَّه عزّوجلّ: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ»؟ قال: «نعم، ليلة القدر، وهي في كلّ سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر، فلم ينزل القرآن إلّافي ليلة القدر..» «2».

وقال علي بن إبراهيم في تفسيره في معني «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ»: فهو القرآن نزل إلي البيت المعمور في ليلة القدر جملة واحدة، وعلي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله

في طول ثلاث وعشرين سنة «وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ». ومعني ليلة القدر أنّ اللَّه

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 327

تعالي يقدّر فيها الآجال والأرزاق، وكلّ أمر يحدث من موت أو حياة أو خصب أو جدب أو خير أو شرّ، كما قال اللَّه تعالي: «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» «1»

إلي سنة، قوله: «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» قال: تنزّل الملائكة وروح القدس علي إمام الزمان، ويدفعون إليه ما قد كتبوه من هذه الأُمور) «2».

وروي الكُليني بسنده عن الحسن بن عبّاس بن جريش، عن أبي جعفر الثاني عليه السلام، قال: «قال اللَّه عزّوجلّ في ليلة القدر: «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» يقول:

ينزل فيها كلّ أمر حكيم، والمحكم ليس بشيئين إنّما هو شي ء واحد، فمن حكم بما ليس فيه اختلاف فحكمه من حكم اللَّه عزّوجلّ» «3»

. الحديث.

وروي الكُليني بسنده إلي أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: «نزل القرآن جملةً واحدة في شهر رمضان إلي البيت المعمور، ثمّ نزل في طول عشرين سنة. ثمّ قال: قال النبيّ عليه السلام أُنزل القرآن في ثلاث وعشرين من شهر رمضان» «4».

وروي الكُليني بسنده عن أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: «نزلت التوراة في ستّ مضت في شهر رمضان، ونزل الإنجيل في اثنتي عشرة ليلة مضت من شهر رمضان، ونزل الزبور ثماني عشرة من شهر رمضان، ونزل القرآن في ليلة القدر» «5».

مكان نزول القرآن: … ص: 327

ومن ثمّ كان للقرآن نزولان، وكان ما يتلقّاه النبيّ صلي الله عليه و آله في النزول الأوّل هو حقيقة القرآن التكوينية، وفي النزول الثاني هو معاني القرآن وألفاظه. فالنزول الأوّل: هو نزول جملة القرآن وحقيقته التي في نشأة الملكوت

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 328

التي هي الكتاب المبين، وقد أطلق عليها

الروح في القرآن الكريم، أي أنّه وجود حيّ شاعر عاقل أعظم خلقاً من الملائكة، كما أشارت إليه الآيات والروايات.

والنزول الثاني: هو نزول معاني وألفاظ القرآن، وهو نزول القرآن نجوماً علي النبيّ صلي الله عليه و آله، والذي سُمّي القرآن فرقاناً بلحاظه.

وقد ذهب إلي تنوّع النزول أكثر المفسّرين والمحدّثين، ويشير إلي النمط الأوّل من النزول قوله تعالي: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ» «1»

، وقوله تعالي: «نَزَلَ بِهِ أَلرُّوحُ أَلْأَمِينُ* عَلَي قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ أَلْمُنْذِرِينَ» «2»

، وقوله تعالي: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ» «3»

، وقوله تعالي: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» «4»

، وقوله تعالي: «شَهْرُ رَمَضانُ الَّذي انْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ» «5»

. ومن ثمّ اختلف توقيته، توقيت النزول الجملي للقرآن عن بدء البعثة في رجب التي هي مبدأ لأوّل ما نزل بنحو نجومي متفرّق فرقاني، أو الذي هو من النمط الثاني.

ويشير أيضاً إلي: النمط الأوّل من النزول جملة من الروايات:

منها: ما رواه العياشي عن إبراهيم، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: «سألته عن قوله تبارك وتعالي: «شَهْرُ رَمَضانُ الَّذي انْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ» «6»

، كيف أُنزل فيه القرآن وإنّما أُنزل القرآن في عشرين سنة من أوّله إلي آخره، فقال عليه السلام: نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلي البيت المعمور، ثمّ أُنزل من البيت المعمور في طول عشرين سنة» «7».

وفي اعتقادات الصدوق، قال في نزول القرآن: اعتقادنا في ذلك أنّ القرآن نزل

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 329

في شهر رمضان في ليلة القدر جملة واحدة إلي البيت المعمور، ثمّ نزل من البيت المعمور في مدّة عشرين سنة، وأنّ اللَّه تبارك وتعالي أعطي نبيّه العلم

جملة واحدة، ثمّ قال له: «وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَي إِلَيْكَ وَحْيُهُ» «1»

وقال عزّوجلّ: «لَاتُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ» «2». «3»

وما ذكره مضمون جملة من الأخبار والروايات، وفي بعض الزيارات تضمّن الخطاب «أيها البيت المعمور». «4»

وفي تفسير القمّي: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ» يعني القرآن، «فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ» وهي ليلة القدر أنزل اللَّه القرآن فيها إلي البيت المعمور جملة واحدة، ثمّ نزل من البيت المعمور علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله في طول عشرين سنة.. الحديث «5». وبنفس هذه الرواية والألفاظ رواها عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير سورة القدر.

في دلائل الإمامة للطبري بسنده إلي الإمام الصادق عليه السلام في حديث أنّه قال عليه السلام:

«ونحن البيت المعمور الذي من دخله كان آمناً» «6».

وروي الصدوق في الأمالي صحيحة حفص، قال: قلت للصادق عليه السلام:

«أخبرني عن قول اللَّه عزّ وجلّ: «شَهْرُ رَمَضانُ الَّذي انْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ» كيف أُنزل القرآن في شهر رمضان وإنّما أُنزل القرأن في مدّة عشرين سنة أوّله وآخره؟ فقال عليه السلام:

أُنزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلي البيت المعمور، ثم أُنزل من البيت

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 330

المعمور في مدّة عشرين سنة»، وروي مثله في كتاب فضائل الأشهر الثلاثة «1».

وفي دلائل الإمامة للطبري بسنده عن الصادق عليه السلام في حديث، قلت: «والبيت المعمور أهو رسول اللَّه؟ قال: نعم، المملي رسول اللَّه والكاتب عليّ» «2».

وغيرها من الآيات والروايات التي تشير إلي النمط الأوّل من النزول، الذي هو عبارة عن نزول حقيقة القرآن الملكوتية لا المعاني والألفاظ، والتي تقدم أنّها روح القدس، وهي خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل.

الروح النازل في ليلة القدر هو القرآن: … ص: 330

وفي جملة من الروايات

المتضمّنة لنزول القرآن في ليلة القدر الظاهر منها أنّ القرآن النازل في ليلة القدر هو الروح الأعظم الذي ينزل في ليلة القدر ويُنزّل به الملائكة.

فقد روي في الكافي والفقيه بإسنادهما عن حمران أنّه سأل أباجعفر عليه السلام عن قول اللَّه تعالي: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ»؟ قال: «هي ليلة القدر، وهي في كلّ سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر، ولم ينزّل القرآن إلّافي ليلة القدر، قال تعالي: «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» «3»

..» الحديث «4».

وبإسنادهما عن يعقوب قال: «سمعت رجلًا يسأل أبا عبداللَّه عليه السلام عن ليلة القدر، فقال: أخبرني عن ليلة القدر كانت أو تكون في كلّ عام؟ فقال أبا عبد اللَّه عليه السلام: لو رُفعت ليلة القدر لرُفع القرآن» «5».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 331

وبهذا المضمون جملة مستفيضة من الروايات في ذيل سورة القدر وسورة الدخان، ومقتضاها: أنّ قوله تعالي: «تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا» عطف بيان أو بدل عن الضمير في قوله تعالي «أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ»، أو أنّ الفعل (تنزّل) الملائكة والروح بدل عن فعل (أنزلناه)، والنتيجة متّحدة مع الاحتمال السابق.

ثمّ إنّ تفسير البيت المعمور بقلب النبيّ صلي الله عليه و آله كما أشارت إليه الروايات السابقة- لا ينافي تفسير البيت المعمور في جملة أُخري من الروايات بالبيت الظراح المبني في السماء الرابعة التي تطوف به الملائكة كلّ يوم، فإنّه من تعدّد معاني التأويل، وقد اطلق البيت في التعبير القرآني بهذا المعني، كما في قوله تعالي: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* رِجَالٌ لَاتُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ» «1»

، فرجال عطف بدل علي بيوت.

أمّا النمط الثاني من النزول وهو النزول التدريجي والنجومي أي نزول المعاني

والألفاظ، فيشير إليه جملة من الآيات والروايات، كما في قوله تعالي: «لَاتُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ» «2»

، وقوله تعالي: «وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَي إِلَيْكَ وَحْيُهُ» «3»

، وكذا الآيات التي تشير إلي حدث زماني بخصوصه، نظير قوله تعالي: «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَي اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ» «4»

، ومثلها قوله تعالي: «وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا» «5»

، وغيرها من الآيات والسور النازلة بحسب أسباب النزول الحادثة حالًا بحال، فضلًا عن تدريجية نزول الآيات والسوركما في أوّل ما نزل من السور، كما في قوله تعالي:

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 332

«اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الإْنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ» «1»

، وغيرها من السور النازلة بحسب سنوات البعثة وسنوات الهجرة الذي عُرف بآخر السور نزولًا.

وبعبارة أُخري: أنّ ظاهر قوله تعالي «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًي لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَي وَالْفُرْقَانِ» «2»

، وقوله تعالي: «حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ» «3»

، وقوله تعالي: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» «4»

، هو نزول القرآن جملة واحدة، أي نزول جملي لحقيقة واحدة غير مفصّل، ثمّ فُصّل تنزيله بحسب موارد نزول السور والآيات المختلفة، ولذلك كان نزول القرآن بنحو مفصّل في بداية البعثة النبويّة الشريفة في آخر شهر رجب بقوله تعالي: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ..»، وكذا بقية السور الأوائل نزولًا، وليس المراد من نزوله في ليلة القدر من شهر رمضان هو ابتداء نزوله.

مما يشير إلي وجود نمطين من النزول للقرآن الكريم: نزول جملي لحقيقة واحدة، ونزول مفصّل، قال تعالي:

«لَاتُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ» «5»

وظاهر مفاد الآية يقتضي أنّ مرحلة جمع مفصّل القرآن وتفصيله غير مرحلة الوحي والقرآن جملة، فهو صلي الله عليه و آله كان عالماً بالقرآن إلّاأنّه نُهي عن الاستعجال به قبل تنزيل قرآنه ونزول الوحي به، ويشير إلي ذلك قوله تعالي: «وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَي إِلَيْكَ وَحْيُهُ» «6»

، حيث (يُقضي) إمّا بمعني يتمّ أو بمعني يصل، وعلي كلا التقديرين فظاهر الآية دالّ علي علمه بالقرآن قبل إنزاله بالوحي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 333

بنحو التفصيل نجوماً، أمّا علي كون (يُقضي) بمعني (يصل) فملائمته ظاهرة للمفاد المزبور، وأمّا علي كونها بمعني يتمّ فقيل إنّه بمعني قراءته للقرآن قبل أن ينتهي جبرئيل من الوحي بتحريك لسانه، ولكنّه خلاف الظاهر؛ حيث إنّه يستلزم الاستخدام في الضمير، ويكون المعني علي هذا التقدير لا تعجل ببعض القرآن من قبل أن يتمّ إليك وحي الباقي منه.

وحمل الكلام علي الاستخدام يتوقّف علي القرينة الخاصّة، بخلاف الحال ما لو جعلنا مرجع الضمير متّحد بلا استخدام، فإنّ تقدير المعني يكون حينئذٍ: لا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقضي إليك وحيه مرّة أُخري، أي وحي الإنزال والتنزيل من النمط الثاني وهو نزول القرآن تفصيلًا ونجوماً، فيدلّ علي علمه صلي الله عليه و آله به من قبل أن يتمّ الوحي من النمط الثاني.

وممّا يدلّ علي تعدّد نزول القرآن أيضاً قوله تعالي: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ» «1»

، فإنّ المطهّرون وهم النبيّ وأهل بيته عليهم السلام عالمون بالكتاب المكنون بمسّ وصول يختلف عن تنزيل القرآن المفصّل، فالكتاب المكنون قد تقدّم أنّه الوجود

المجموعي للقرآن بنحو الإحكام والوجود الجملي، وهو الحقيقة الواحدة وهي الروح الأمري الذي يتجدّد نزوله في كلّ ليلة قدر في كلّ عام، وتتنزّل الملائكة به وهو روح أعظم من جبرئيل وميكائيل.

وممّا يشير إلي اختلاف النزولين أيضاً قوله تعالي: «كَفَي بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ» «2»

، وقد ثبت في تفسير الآية بحسب نزولها المكّي وبحسب وحدة سياق السورة مع الآيات السابقة عليها وبحسب توسّم

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 334

قريش في بني هاشم جملة من الصفات والحالات غير المعتادة لدي قدرات البشر وبحسب نصوص الفريقين وبحسب النصوص الواردة في ذيلها، أنّ المراد بمن عنده علم الكتاب هو عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

والآية مع كونها مكّية ولمّا يستتم نزول القرآن التفصيلي المكّي فضلًا عن المدني- تدلّ علي علم الوصيّ فضلًا عن علم النبيّ بالكتاب كلّه؛ إذ هذا التعبير يفترق عن قوله تعالي: «قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ» «1»

، بأنّ التعبير الأوّل يدلّ علي العلم المحيط بكلّ الكتاب، فالآية ظاهرة بوضوح في حصول العلم بجملة الكتاب لدي المطهّرين، وهم النبيّ ووصيه عليهم السلام منذ البداية، وذلك بتوسّط نزول حقيقة القرآن جملة في الوحي من النمط الأوّل.

وممّا يدلّ علي ذلك قوله تعالي: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» «2»

، فتدلّ الآية علي درايته صلي الله عليه و آله بالكتاب كلّه، مع أنّ سورة الشوري مكّية، وكذا قوله تعالي: «إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ» «3»

، وقوله تعالي: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ» «4»

، وجملة من الآيات التي تضمّنت إنزال الكتاب عليه

صلي الله عليه و آله بناءً علي ظهور (ال) في الاستغراق أو الجنسية لجملة الحقيقة بجملة الآيات السابقة الدالّة علي علمه صلي الله عليه و آله بجملة الكتاب المبين والمكنون وأُمّ الكتاب واللوح المحفوظ، وكذلك الأئمّة من أهل بيته تلقّوا ذلك عنه، إلّاأنّه صلي الله عليه و آله كان مأموراً باتّباع ما ينزل عليه من الوحي التفصيلي والتنزيل النجومي فيتّبع قرآنه.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 335

وأمّا اشتمال القرآن الكريم علي قوله تعالي: «الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا» «1»

، وقوله تعالي: «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ» «2»

، وقوله تعالي:

«قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَي اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا» «3»

، وغيره كثير ممّا يشير إلي تدريجية نزول القرآن حسب سلسلة أحداث زمانية ومكانية طوال البعثة والرسالة الشريفة، فلا يتنافي مع نزول الكتاب جملةً علي الرسول صلي الله عليه و آله قبل ذلك.

اختلاف صفات القرآن في النزولين: … ص: 335

لأنّ الكتاب بعد تنزيله بالنمط التدريجي تطرأ عليه أوصاف أُخري أشار إليها القرآن الكريم، كقوله تعالي: «إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» «4»

، وقوله تعالي: «كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» «5»

، وقوله تعالي:

«وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ» «6»

، وقوله تعالي: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ» «7»

، وقوله تعالي: «مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا» «8»

، وغيرها من الآيات التي تشير إلي اتّصاف القرآن بأوصاف طرأت عليه عند نزوله، كالتفصيل والعربية وكونه تصديق الذي بين يديه وتشابه بعض آياته والناسخ والمنسوخ والظاهر والباطن والتنزيل والتأويل والجمع والتفريق، وغيرها من الأوصاف الطارئة،

فإنّها أوصاف له بعد نزوله نجوماً.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 336

وليست أوصافاً له بحسب موقعه في الكتاب المكنون واللوح المحفوظ والكتاب المبين، وكذلك الحال بالنسبة إلي صورة الألفاظ وما يتبع ذلك من أوصاف، وهي العربية والخطابية والإنشاء والإخبار والبلاغة والفصاحة وغيرها، فهذه ليست أوصافاً له بحسب موقعه المكنون باللوح المحفوظ، وأنّما هي حادثة له بعد النزول، أمّا جملة معارفه وحقائقه وأحكامه فلا يطرأ عليها مثل تلك الأوصاف.

وبكلمة جامعة: إنّ القرآن بمجموع وجوداته اللفظية وتراكيب جمله والمعاني المدلول عليها في الظهور الأوّلي في ظاهر الكتاب هي من نزول القرآن من النمط الثاني؛ إذ النمط الأوّل كما تقدّم- هو من سنخ الحقائق التكوينية والوجودات العينية، وإن لم ينحصر النمط الأوّل بذلك بل يشمل ما يكون من سنخ معاني التأويل.

النمط الثالث للنزول: … ص: 336

وقد تُعدّ درجات بطون القرآن ومعانيه التأويلية من سنخ ونمط تنزّل ثالث سيأتي بسط الحديث عنه في مقالات لاحقة.

هذا مضافاً إلي متواتر الروايات المتضمّنة للإشارة إلي موارد النزول وتأليف آيات وسور القرآن بوجوده اللفظي. ثمّ إنّ المعاني المتنزّلة من حقيقة القرآن الكلّية وحقائقه الجملية ليست محيطة بها؛ فإنّ المعاني والمفاهيم مهما كانت في السعة والشمول ليست إلّالمعات يسيرة من أنواع تلك الحقائق، هذا فضلًا عن الألفاظ المشيرة إلي تلك المعاني التي هي تنزّل لفظي لها؛ فإنّ الألفاظ ليست إلّا علامات ودوالّ إشارية علي مجمل بحور المعاني، وليست بتلك التي تحيط بها، والنسبة بين الألفاظ والمعاني كالنسبة بين المعاني والحقائق.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 337

فالألفاظ مفتاح وأبواب للمعاني، والمعاني لا تتناهي درجاتها وبطونها وهي بوابات لشعب الحقائق من دون أن تكتنه المعاني، فما يحمله صلي الله عليه و آله من حقائق وحقيقة القرآن لا يمكن أن تسعه المعاني، كما أنّ المعاني التي

تنزّلت من تلك الحقائق لا يمكن أن تسعها الألفاظ.

حقيقة وراثة الأوصياء للنبيّ صلي الله عليه و آله: … ص: 337

ومن ثمّ ورد أنّه صلي الله عليه و آله لم يكلّم أحداً بكنه عقله قطّ، وكذلك الحال فيما تحمّله الوصيّ عليه السلام وولده الأوصياء عن النبيّ صلي الله عليه و آله، عمدته ليس من الألفاظ والمعاني من قبيل الحديث والرواية، بل عمدة ما تحمله عن النبيّ صلي الله عليه و آله هو حقيقة القرآن التي هي الروح الأعظم، وهو أعظم أنماء التحمّل؛ لأنّه اكتناه حضوري للحقائق لا يغيب عنه شي ء منها، بخلاف تحمّل المعاني فضلًا عن تحمّل الألفاظ.

ففرق بين الوصاية والفقاهة والرواية، حيث دلّت سورة القدر ونحوها من السور علي بقاء تنزّل ذلك الروح كلّ عام علي من يشاء من عباده، قال تعالي:

«إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ* سَلَامٌ هِيَ حَتَّي مَطْلَعِ الْفَجْرِ» «1»

، وقال تعالي: «يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ» «2»

، وقال تعالي: «يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ» «3»

، فكما أنّ تنزّل الروح الأعظم في ليلة القدر دائم دائب في كلّ سنة بالضرورة، فكذلك ليلة القدر تعني وراثة وليّ اللَّه تعالي لمقام النبيّ صلي الله عليه و آله في تنزّل الروح عليه.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 338

وقد تقدم في هذه المقالة أنّ ذلك الروح هو حقيقة القرآن، وأنّه عطف بيان وبدل علي الضمير في (أنزلناه) ولو من باب بدل الجملة من جملة، ومن ثمّ قال تعالي: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» «1»

، والمطهّرون بصيغة الجمع وهم أهل آية التطهير، حيث قال تعالي: «إِنَّمَا

يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً» «2».

وتقدّم أنّ الكتاب المكنون ليس لوحاً ونقش صور الألفاظ، بل هو الروح (الذي هو حقيقة القرآن التكوينية)، كما أشار إلي ذلك قوله تعالي: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا» «3»

، فالروح الأمري هو الكتاب، والذي يمسّ الكتاب هو الذي يتلقّي تنزّل الروح الأمري كلّ عام في ليلة القدر، والمطهّرون الذين يمسّون الكتاب المكنون هم الأئمّة عليهم السلام الذين يتوارثون الكتاب وهو الروح الأمري، حيث قال تعالي: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا» «4»

، فالهداية الأمرية هي بالروح الأمري.

وكذلك في قوله تعالي: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا» «5»

، والذين اصطفاهم وأصفاههم أهل آية التطهير، فهذه الآيات تتشاهد لبعضها البعض لتدلّ علي أنّ الأئمّة المطهّرون المصفّون الذين يمسّون الكتاب ويرثوه يتلقّون حقيقة الكتاب، وهو الروح الأمري والذي يتنزّل في ليلة القدر في كلّ عام علي من يشاء اللَّه من عباده، وقد ذُكر عنوان ورثة الكتاب والذين يمسّونه بصيغة

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 339

الجمع؛ للتدليل علي أنّهم مجموعة ممتدّة طوال عمر هذا الدين وما بقي القرآن.

قراءة جديدة في حديث الثقلين وأنّ الأئمّة عليهم السلام هم الثقل الأكبر: … ص: 339

ولكي نبرهن علي ذلك لابدّ من توضيح جملة من الأُمور:

الأوّل: إنّهم عين حقيقة القرآن، وهذا معني عدم افتراق القرآن عن العترة، أي عدم افتراق حقيقة القرآن التكوينية وهو الكتاب المكنون وهو الروح الأعظم- عن ذوات العترة المطهّرة، بل هو أحد أرواحهم الذي يسدّدهم.

قراءة جديدة في آية … ص: 339

«وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ»:

وهذا معني تنزيل نفس عليّ عليه السلام منزلة نفس النبي صلي الله عليه و آله في قوله تعالي: «فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ» «1»

، كيف لا والروح الأمري الذي هو الروح الأعظم والذي هو حقيقة القرآن وهو الكتاب المبين الذي نُزّل علي قلب النبيّ صلي الله عليه و آله وأُوحي إليه- قد ورثه الوصيّ ويتنزّل عليه وعلي ذرّيته الأوصياء عليهم السلام.

وفي صحيح أبي بصير قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن قول اللَّه تبارك وتعالي: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ» «2»؟ قال:

خلق من خلق اللَّه عزّ وجلّ أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يخبره ويسدّده، وهو مع الأئمّة من بعده» «3».

وفي صحيحه الآخر قال: «سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن قول اللَّه عزّوجلّ «وَيَسْأَلُونَكَ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 340

عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» «1»

؟ قال: خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، وهو مع الأئمّة، وهو من الملكوت» «2».

وفي صحيح ثالث لأبي بصير بعد وصفه للروح بما تقدّم-: «لم يكن مع أحد ممّن مضي غير محمّد صلي الله عليه و آله، وهو مع الأئمّة يسدّدهم» «3».

وفي موثّق علي بن اسباط عن أبيه أسباط بن سالم زيادة قوله عليه السلام: «منذ أنزل اللَّه عزّوجلّ

ذلك الروح علي محمّد صلي الله عليه و آله ما صعد إلي السماء، وإنّه لفينا» «4».

وفي رواية أبي حمزة قال: «سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن العلم، أهو علم يتعلّمه العالم من أفواه الرجال، أم في الكتاب عندكم تقرؤونه فتعلمون منه؟ قال: الأمر أعظم من ذلك وأوجب، أما سمعت قول اللَّه عزّوجلّ: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ..» «5»

..» الحديث «6». وهذا المعني الذي يشير إليه عليه السلام هو ما تقدّم ذكره من أنّ الأوصياء في تحمّلهم عن النبيّ صلي الله عليه و آله ليس هو تحمّل رواية ألفاظ، ولا مجرّد فهم معاني، بل حقيقة تحمّلهم وعمدته هو تحمّل حقيقة القرآن التي هي روح القدس.

فعمدة ما يتلقّونه بقلوبهم وأرواحهم عليهم السلام هو عن قلب وروح النبيّ صلي الله عليه و آله، وليس العمدة هو عن مجرّد لسانه الشريف وآذانهم الطاهرة، ولا عمدته من كتب يقرأونها كالجامعة ونحوها، فهم بدورهم فيما يبلغونه من ألفاظ مؤدّية إلي طبقات المعاني الموصلة إلي بعض الحقائق التي تلقّوها.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 341

قراءة جديدة في حفظ وبقاء الذكر والقرآن المنزّل: … ص: 341

فمن ثمّ يكون دورهم متمّم ومكمّل لدور النبيّ صلي الله عليه و آله في هداية البشرية، وإلي ذلك يشير قوله تعالي في آية الغدير: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ» «1»

، لبيان خطورة وشدّة دورهم عليهم السلام المتمّم لدور النبيّ صلي الله عليه و آله في تبليغ الرسالة، وأنّه الأمر الذي يجب أن يُبلّغ لامتداد الرسالة وبقاء القرآن، أي بقاء حقيقيته النازلة والمتنزّلة منها درجات في كلّ عام في ليلة القدر لابقاء المصحف المنقوش بالخط.

وإلّا لو كان دورهم هو مجرّد النقل السماعي اللفظي

عن الرسول كقناة لإيصال الألفاظ والصوت لما كان لسان الآية بهذا اللحن الشديد والخطب البليغ، كما ان تعليق وتبليغ الرسالة برمّتها علي شخص يخلف النبيّ عليهم السلام وهو أمير المؤمنين عليه السلام لابدّ أن يكون في تحمّله عن النبيّ صلي الله عليه و آله خصوصية لا يشترك معه فيها أحد وإلّا لشاركه آخرون في القيام بذلك الدور ولَمّا انحصر تبليغ الرسالة بعد النبيّ صلي الله عليه و آله به.

وليست هذه الخصوصية وليدة عن كثرة سماع الوصي لكمية كثيرة من الأحاديث أو لقوّة حافظة عليّ عليه السلام لما يسمعه من الحديث علي النمط المألوف، ولا لمجرّد أكثرية ملازمته وإلّا لشاركه الآخرون في ذلك ولو بدرجة نازلة. وان تفسير خصوصية عليّ والعترة الطاهرة بمجرّد هذه المزايا لا يحسم جدلية السؤال عن وجه تخصيص الدور بهم دون بقية الصحابة والتابعين وسائر فقهاء وعلماء الأُمّة بل لكانت هذه المزايا نظير الترجيع بين الفقهاء في مسند الفتيا والقضاء وليست عملية إصفاء إلهي بل لما كان في تقديم المفضول علي الفاضل ذلك القبح الشديد المستنكر بل للزم احتياج العترة إلي مشاركة الصحابة والتابعين معهم في

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 342

القيام بهذا الدور.

بل خصوصية الإصطفاء الإلهي لهم دون غيرهم هو لحملهم حقيقة القرآن التي هي الروح الأمري والتي قد تقدّم بيان صفاتها في الآيات والسور والروايات التي تقدّمت، وتبين أنّ لديهم عليهم السلام علم حقيقة القرآن كلّه، فضلًا عن درجات معانيه غير المتناهية وألفاظه، وهذا التراث والوراثة التكوينية لا يشاركهم فيها غيرهم بأدني مشاركة، وهذا معني انحصار باب مدينة علم النبيّ صلي الله عليه و آله بعليّ عليه السلام، بل ليس لغيرهم مهما بلغت درجته من العلم سوي الوقوف علي حدود المعاني الظاهرة

وبعض درجاتها التي توصّل إليها بواسطة الألفاظ.

وحيث إنّ الحاجة وبقاء الرسالة قائم بحقيقة القرآن لا بسطوح المعاني المنزّلة من تلك الحقيقة، ولأجل ذلك كان مقدار ما تنزّل من القرآن من المعاني الظاهرة والألفاظ لا يسدّ الحاجة لهداية البشرية إلّابضميمة التأويل، كما أشار إلي ذلك قوله تعالي: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» «1»

، فالتأويل باب مفتوح …

درجات وطبقات المعاني المتنزّلة من الحقائق.

الوجودات الأربعة للقرآن: … ص: 342

ولتوضيح أقسام وجود القرآن ينبغي الالتفات إلي التقسيم الذي ذُكر في علم المنطق من أنّ لكلّ شي ء أربعة وجودات:

الأوّل: الوجود الكتبي للشي ء، وهو نقش اسم الشي ء علي الورق أو نقش رسم

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 343

صورته فيما لو كان جسمانياً- كلفظ زيد أو صورته، ويُسمّي الوجود الكتبي لزيد ونقش اسمه.

الثاني: الوجود الصوتي لاسم زيد أو صوته، ويُسمّي بالوجود اللفظي الصوتي لزيد.

وهذان الوجودان يقال عنهما الوجودان التنزيليان لزيد أو الوضعيان، أي أنّهما قرّرا وجودين لزيد أو للشي ء بحكم الاعتبار الأدبي، فلولا تباني البشر وأهل اللسان عن التعبير عن معني زيد أو عن وجوده بذلك اللفظ أو بذلك الرسم والنقش من الكتابة، لما كان لهما دلالة علي معني زيد أو وجوده، ولما كان له صلة بحقيقة زيد ولا بمعناه، ومن ثمّ يعبّر عنهما وجودان تنزيليان لزيد، فلفظ زيد الصوتي تنزيل لحقيقة زيد، وكذلك نقش كتابة لفظ زيد تنزيل لحقيقة زيد.

الثالث: معني زيد في الذهن والصورة التي له في الذهن، أي التي تنتقش تكويناً في ذهن الإنسان وفكره، ويُقال عنه الوجود المعنوي لزيد، وهذا الوجود تكويني وليس من قبيل

الأوّلَين، أي ليس وجوداً تنزيلًا اعتباراً، بل هو وجود تكويني لزيد، ولكن لا لحقيقة وجوده بل لحقيقة معناه.

وقد يُطلق عليه تنزيل تكويني لا اعتباري لحقيقة وجود زيد، فهو ليس عين حقيقة الوجود ولكنّه عين حقيقة المعني، وبين ذات معني زيد وذات وجوده فرق فارق، بل إنّ لمعني زيد مراتب: منها صورة بدنه في الذهن، ومنها معني روحه ونفسه وعقله، أو ماهيته وذاته العقلية.

الرابع: حقيقة وجود زيد وهو وجوده العيني الخارجي، وهو وجود تكويني لزيد، كما أنّه الأصل في أقسام وجودات زيد، فليس هو وجود تنزيلي اعتباري أدبي كالأوّلَين، ولا وجود تكويني كالقسم الثالث، بل هو حقيقة وعين وجود زيد وهذا القسم بدوره أيضاً يشتمل علي مراتب: منها الوجود البدني لزيد، ووجود

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 344

نفسه وروحه.

فتبيّن أنّ الوجود التكويني هو القسمان الأخيران، وكلّ منهما ذو مراتب، وهذا التقسيم يعمّ جميع الأشياء؛ فإنّ لكلّ شي ء من الأشياء وجود لفظي صوتي وكتبي نقشي، ووجودان تكوينان، وهو وجود معانيها في الذهن ووجود عيني خارجي.

فإذا تبيّن ذلك يتبيّن أنّ للقرآن الكريم هذه الوجودات الأربعة، فالتنزيل الذي في المصحف هو وجود كتبي ونقش للوجود اللفظي للقرآن، كما أنّ صوت قراءة القرآن هو وجود لفظي صوتي للقرآن.

ولكلّ من هذين الوجودين أحكام، فإنّه يُحرم لمس خطّ كتابته من دون طهارة، كما أنّ وجود المصحف الشريف المقدّس حرز وأمان، كما أنّه يُستحبّ النظر إليه، والقراءة منه أفضل وأكثر فضيلة من القراءة عن ظهر قلب، كما أنّ قراءة القرآن وهو الوجود الصوتي- يدخل النور في البيت ويطرد الشياطين ويُكثر البركة والرزق، ويُستحب تحسين الصوت وتجويده، كما يُستحب قراءته بخشوع وحزن.

وأمّا معاني القرآن فهو الوجود الذهني للقرآن ومعانيه وهو مصدر الهداية والبصيرة.

ومن أحكامه: لزوم التدبّر،

كما قال تعالي: «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَي قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا» «1»

، فالتدبّر سرح للنظر في المعاني والسير في مدارجها بالتفكّر، قال تعالي: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» «2»

. فلا يقتصر وجود القرآن علي النقش الكتبي ولا علي حركة ولقلقة اللسان وبديع التجويد وتحسين الصوت، بل كلّ ذلك إلي غاية أهمّ وهو وجود القرآن في أُفق المعني، والاستضاءة بنور هدايته

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 345

من خلال وجوده في أُفق المعني ورحاب بصيرة تلك المعاني، ومنه تحصل معرفة الدين والشريعة والشرائع. وينقسم إلي معني ظاهري ومعني تأويلي، وإلي العلوم جمّة، علوم الحكمة والآداب والأخلاق، وأسرار الفقه والقانون، وحقائق التكوين والمعارف، وعلوم التربية الإنسانية، وبالجملة العلوم العقلية والظواهر الطبيعية، وغيرها من منظومات العلوم.

حقيقة القرآن ووجوده: … ص: 345

والوجود الرابع للقرآن العيني الخارجي هو الذي يشير إليه قوله تعالي:

«وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» «1»

فربط تعالي بين إنزال الروح الأمري وإحيائها وإرسالها، ومعرفة النبيّ صلي الله عليه و آله بالكتاب كلّه، وقد عبّر عن ذلك بالإيحاء وهو الإرسال الخفي، وتشير الآية إلي معرفة النبيّ صلي الله عليه و آله بجملة الكتاب دفعةً.

ونفس هذا الترابط بين الروح الأمري وبين نزول جملة الكتاب نجده في سورة القدر، حيث قال تعالي: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ..» «2»

، نلاحظ أنّ نزول القرآن والروح الأمري مترابطان، وكذلك في سورة الدّخان، قوله تعالي: «حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ

أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» «3»

، والضمير عائد علي الكتاب

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 346

المبين جملة وإرسال الروح الأمري.

فيستخلص من جملة هذه الآيات أنّ نزول القرآن جملة هو نزول حقيقته وهو الروح الأمري، وهذا هو حقيقة الفرق بين تنزيل القرآن نجوماً الذي هو الوجود اللفظي للقرآن، وبين نزوله دفعة.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 347

الأمر الثاني إنّ للقرآن درجات ومدارج … ص: 347

اشارة

هناك حقيقة ثابتة مسلّمة بين المسلمين، وهي حقيقة قرآنية من كون القرآن المنزّل ذا تأويل، كما قال تعالي: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» «1»

، فللقرآن تأويل وبطون، وقال تعالي: «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ» «2»

، وقال تعالي: «بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ» «3»

، فالتأويل والبطون سوي ظاهره المنزّل، بل وتلك البطون التي لا تنفذ من بحور حقائق القرآن تترقّي وتتّصل بأصل حقيقة القرآن الغيبية التي يُطلق عليها: الكتاب المكنون، والكتاب المبين، أو اللوح المحفوظ، أو أُمّ الكتاب.

وعلي ضوء ذلك، فليست الشريعة والدين تقتصران وتنحصران في الظاهر المنزّل، بل هما يشملان تلك البطون، فلا ينحصر تبليغ وأداء الشريعة بأداء الظاهر المنزّل وإبلاغ آيات التنزيل، بل يعمّ تلك البواطن.

ولم يقف علي تلك البواطن وأُمّ الكتاب إلّاالنبيّ صلي الله عليه و آله وعترته الذين ورثوه بوراثة الاصطفاء، فسنخ ونمط تحمّل النبيّ صلي الله عليه و آله وتبليغه وتحمّل أهل بيته عليهم السلام عنه وتبليغهم ليس سنخ نمط تحمّل وتبليغ الرواة للأخبار الحسّية المسموعة لفظاً التي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 348

تحمّلوها ليؤدّوها إلي غيرهم، كي يكون الحال في هذا التبليغ (رُبّ حامل لا يفقه ما حُمّل أو رُبّ حامل فقه إلي من هو أفقه منه)، لأن ما تحمّله النبيّ صلي الله عليه و

آله عن اللَّه تعالي وتحمّله أهل بيته عليهم السلام عنه هو تحمّل للحقائق المهيمنة والمحيطة بالمعاني

حقيقة تبليغ النبي صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام: … ص: 348

المنزّلة في آفاق درجات المعاني الباطنة والظاهرة والألفاظ المقروءة.

فمن ثمّ سُمّي هذا التبليغ والإبلاغ (إنزالًا) و (تنزيلًا)، بينما سُمّي تبليغ الرواة إلي غيرهم (نقلًا) وإيصالًا في خطّ أُفقي، ونقلًا للحديث الملفوظ وإسماع الكلام المسموع (ورواية) للخبر المعلوم بالحواسّ الظاهرة، فالذي تحمّلوه هو ألفاظ مسموعة وطبقة من المعاني الظاهرة لأفهامهم من وراء حجاب اللفظ، فهذا النمط والنوع من التحمّل والتبليغ يتحرّك في سير أُفقي، ومن ثمّ قد يصعد المنقول إليه ويتصاعد إلي بعض درجات المعاني وغورها، علي عكس الناقل الذي ربّما يكون واقفاً علي الألفاظ والدرجة الأُولي لمعانيها، فيكون المنقول والمحمول إليه الخبر أكثر إحاطةً من الناقل والحامل.

وهذا لا يُتصوّر في التحمّل الوحياني والتبليغ النبويّ، وتحمّل الإمام عن النبيّ وتبليغه لا يكون إلّاعن إحاطة بالحقائق الوجودية، فضلًا عن الإحاطة بكل آفاق المعاني التي هي صور منعكسة متنزّلة عن تلك الحقائق، وأشعة ولمعات يسيره من وهج نور الحقيقة، كيف لا، وتلك الحقائق لا يشذّ عنها رطب ولا يابس ولا غائبة في السماوات والأرض، ولا ما كان ولا ما يكون وكلّ شي ء مستطرّ، وتحيط بكلّ هدي ونور وكلّ فلاح وصلاح وكل سعادة ونجاح، وتبيان لكلّ شي ء.

ففيما يبلّغه النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام لا تقف الرعية بما فيها من الفقهاء والعلماء والحكماء والعارفين- إلّاعلي الألفاظ المتنزّلة والمعاني الظاهرة، وقد

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 349

يترقّي الحال في بعضهم للوصول إلي بعض درجات المعاني أو لمح بعض لمعان أنوار الحقائق، من دون التحقّق بعينية تلك الحقائق فضلًا عن اكتناهها، ولا الإحاطة بجميع مدارج المعاني.

من ثمّ تدوم وتظلّ حاجة الرعية والبشرية قائمة ومستمرّة

إلي تواصل بيانات النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام وهدايتهم وتبليغهم، ويشير إلي ذلك قوله تعالي: «مَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» «1»

، وقوله تعالي: «بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» «2».

وكذلك يشير قول الإمام الصادق عليه السلام في رواية إسحاق بن عمار، قال: «إنّما مثل عليّ عليه السلام ومثلنا من بعده من هذه الأُمّة كمثل موسي عليه السلام والعالم حين لقيه واستنطقه وسأله الصحبة، فكان من أمرهما ما اقتصّه اللَّه لنبيه صلي الله عليه و آله في كتابه، وذلك أنّ اللَّه قال لموسي: «إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَي النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ» «3»

، ثم قال: «وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «4»

، وقد كان عند العالم علم لم يكتب لموسي في الألواح، وكان موسي يظنّ أنّ جميع الأشياء التي يحتاج إليها في تابوته وجميع العلم قد كتب له في الألواح، كما يظنّ هؤلاء الذين يدّعون أنّهم فقهاء وعلماء وأنّهم قد أثبتوا جميع العلم والفقه في الدين ممّا تحتاج هذه الأُمّة إليه وصحّ لهم عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وعلموه وحفظوه، وليس كلّ علم رسول اللَّه صلي الله عليه و آله علموه ولا صار إليهم عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ولا عرفوه، وذلك أنّ الشي ء من الحلال والحرام والأحكام يرد عليهم فيُسألون عنه، ولا يكون عندهم فيه أثر عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ويستحون أن ينسبهم الناس إلي الجهل

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 350

ويكرهون أن يُسألوا فلا يجيبوا فيطلب الناس العلم من معدنه، فلذلك استعملوا الرأي والقياس في دين اللَّه

وتركوا الآثار ودانوا اللَّه بالبدع، وقد قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: كلّ بدعة ضلالة، فلو أنّهم إذا سُئلوا عن شي ء من دين اللَّه فلم يكن عندهم منه أثر عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ردّوه إلي اللَّه وإلي الرسول وإلي أُولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم من آل محمّد، والذي منعهم منّا العداوة والحسد لنا.

لا واللَّه ما حسد موسي عليه السلام العالم، وموسي نبيّ اللَّه يُوحي اللَّه إليه حيث لقيه واستنطقه وعرّفه بالعلم، ولم يحسده كما حسدتنا هذه الأُمّة بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله علي علمنا وما ورثنا عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، ولم يرغبوا إلينا في علمنا كما رغب موسي عليه السلام إلي العالم وسأله الصحبة ليتعلّم منه ويرشده، فلمّا أن سأل العالم ذلك علَم العالم أنّ موسي عليه السلام لا يستطيع صحبته ولا يحتمل علمه ولا يصير معه، فعند ذلك قال العالم: «وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَي مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا» «1»

؟ فقال موسي عليه السلام له وهو خاضع له يستعطفه علي نفسه كي يقبله: «سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا» «2»

، وقد كان العالم يعلم أنّ موسي عليه السلام لايصبر علي علمه، فكذلك واللَّه- ياإسحاق بن عمار- حال قضاة هؤلاء وفقهائهم وجماعتهم اليوم، لايحتملون واللَّه علمنا ولا يقبلونه ولا يطيقونه ولا يأخذون به ولا يصبرون عليه، كما لم يصبر موسي عليه السلام علي علم العالم حين صحبه ورأي ما رأي من علمه، وكان ذلك عند موسي عليه السلام مكروهاً وكان عند اللَّه رضاً وهو الحقّ، وكذلك علمنا عند الجهلة مكروه لا يؤخذ وهو عند اللَّه الحق» «3».

فإذا التفتّ

بنحو الإجمال إلي سنخ تحمّل وتبليغ النبيّ صلي الله عليه و آله عن اللَّه تعالي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 351

وتحمّل وتبليغ أهل بيته عليهم السلام عنه، يجدر بالمقام الالتفات إلي كون القرآن ذا حقيقة عينية غيبية، والتي هي الكتاب المبين وأُمّ الكتاب واللوح المحفوظ والكتاب المكنون، كما في قوله تعالي: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ» «1»

، حيث يشير إلي وجود كينونة للقرآن علوية تُدعي بالكتاب المكنون، أي المحفوظة من أن يصل إليها إلّاالمطهرون من الذنوب والرجس، وأنّ ما بين الدفّتين من القرآن تنزيل ونزول من ذلك المقام العلوي له.

ومثل هذه الإشارة نجدها في قوله تعالي: «بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ» «2»

، فوصف القرآن بالمجد والعظمة لكينونته العلوية، أي أنّ المجد والعظمة وصف لذلك الوجود، ولا يغرق الباري تعالي في وصف موجود بالعظمة إلّالخطورة موقعيته في عالم الأمر والخلقة، وتلك الكينونة هي المسمّاة باللوح المحفوظ، والوصف بلفظ المحفوظ مع لفظ المكنون مترادف.

وكذلك نجد الإشارة نفسها في قوله تعالي: «حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ» «3»

، فوصف القرآن بأنّ له كينونة في أُمّ الكتاب وهي وجود علوي لدني عنديَّ لدي الباري تعالي، وهذا الوجود موصوف بالعلوّ والإحكام في قبال التفصيل الذي طرأ علي القرآن حين النزول، كما يشير إليه قوله تعالي: «وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَي عِلْمٍ هُدًي وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» «4».

وكذلك قوله تعالي: «الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 352

خَبِيرٍ» «1»

، وكذلك قوله تعالي: «وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَارَيْبَ

فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ» «2»

، فالقرآن النازل تفصيل ونجوم للكتاب العلوي، ويشير إلي الوجود العلوي للقرآن قوله تعالي: «حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ» «3»

، أي أنّ القرآن متنزّل من الكتاب المبين، وقد وصِفَ الكتاب المبين بعدّة أوصاف:

منها: قوله تعالي: «وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «4»

، وقال تعالي: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَايَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «5»

، وقوله تعالي: «.. وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «6»

، وقوله تعالي: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَي اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «7».

ثمّ إنّ هناك تعدّداً أيضاً بين مقام وموقع القرآن الكريم بحسب الكتاب المبين واللوح المحفوظ وأُمّ الكتاب، وبين إنزاله جملةً واحدة، وبين تنزيله مفصّلًا مفرّقاً بحسب الزمان، فهناك ثلاثة مقامات ومواقع ومراحل رئيسية للقرآن الكريم لا يسع المقام الخوض في تفصيلها، إلّاأنّ المحصَّل ممّا مرّ أنّه صلي الله عليه و آله عالم بالكتاب المبين واللوح المحفوظ.

وكذلك أهل بيته المطهّرون، كما أنّه صلي الله عليه و آله قد أُنزل إليه القرآن جملة وهي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 353

المرحلة الثانية، كما تنزّل عليه القرآن نجوماً مفصّلًا أو تفصيلًا وهي المرحلة الثالثة، كما تبيّن أنّ حقائق القرآن العينية موجودة بوجود علوي، وأنّ المعاني وطبقاتها متنزّلة من تلك الحقائق معاكسة وحاكية لها، وأنّ ألفاظ التنزيل ثوب وصورة.

قراءة في معني إكمال الدين بعليّ: … ص: 353

للمعاني المتنزّلة ودرجاتها إلي درجة المعني الظاهر.

فالكتاب لا يقتصر علي

التنزيل والظاهر، بل له بطون لا تُحصي من المعاني، ولبطونه بطون هي حقائق مهيمنة، وأنّه لا يحيط بكلّ ذلك إلّاالنبيّ صلي الله عليه و آله بما أوحاه اللَّه إليه، ومن بعده أهل بيته عليهم السلام عنه، وبالتالي لا يمكن الاقتصار علي التنزيل والظهور في الوصول إلي معرفة الدين القويم ونيل الهداية الإلهية من دون وجود الشخص المبين لتلك البطون والكاشف عن حقائق التنزيل؛ لحاجة البشرية إلي الكتاب كلّه ولكلّ درجاته علي نحو التدريج بحسب مرّ الزمان والعصور.

فمن ثمّ اتّفقت الإمامية أتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام- علي أنّ الدين لم يكمل بالتنزيل إلّابعد أن نصّب اللَّه عليّاً إماماً وهادياً لدينه وكتابه من بعد الرسول صلي الله عليه و آله، كما ينادي بذلك قوله تعالي: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإْسْلَامَ دِينًا» «1»

، فإكمال الدين وإتمام النعمة لم يحصل بمجرّد التنزيل، بل بنصب قيّم بعد النبيّ صلي الله عليه و آله مبيناً لبطون القرآن وحقائقه، ومن بعد عليّ أولاده المعصومين، وفي هذا الزمان ولده الحجّة الإمام المنتظر سلام اللَّه عليه.

وقد روي الكليني بسنده إلي الحسن بن العباسي بن الحريش عن أبي جعفر

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 354

الثاني عليه السلام قال: «قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: بينا أبي عليه السلام يطوف بالكعبة إذا رجل معتجر قد قيض له في حديث مسائلة الياس النبيّ عليه السلام للباقر عليه السلام- وما قاله له: اخبرني عن هذه العلم الذي ليس فيه اختلاف من يعلمه؟

قال أبو جعفر عليه السلام: أما جملة العلم فعند اللَّه جلّ ذكره، وأمّا ما لابدّ للعباد منه فعند الأوصياء. ففتح الرجل عجيرته واستوي جالساً وتهلّل وجهه وقال: هذه أردت ولها أتيت زعمت أنّ

علم ما لا اختلاف فيه من العلم عند الأوصياء، فكيف يعلمونه؟

قال: كما كان رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يعلمه، إلّاأنّهم لا يرون ما كان رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يري؛ لأنّه كان نبيّاً وهم محدَّثون بالفتح- وأنّه كان يفد إلي اللَّه عزّوجلّ فيسمع الوحي وهم لا يسمعون. فقال صدقت يابن رسول اللَّه …

فإن قالوا لك: فإنّ علم رسول اللَّه صلي الله عليه و آله كان من القرآن فقل: «حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» «1».

فإن قالوا لك لا يرسل اللَّه عزّوجلّ إلّاإلي نبيّ فقل: هذا الأمر الحكيم الذي يفرق فيه هو من الملائكة والروح التي تنزّل من سماء إلي سماء أو من سماء إلي أرض.

فإن قالوا: من سماء إلي السماء، فليس في السماء أحد يرجع من طاعة إلي معصية.

فإن قالوا من سماء إلي أرض وأهل الأرض أحوج الخلق إلي ذلك فقل: فهل لهم بد من سيد يتحاكمون إليه؟

فإن قالوا: فإنّ الخليفة هو حكمهم فقل: «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَي النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَي الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» «2»

لعمري ما في الأرض ولا في

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 355

السماء ولي للَّه عزّ ذكره إلّاوهو مؤيد، ومن أيد لم يخطّ وما في الأرض عدوّ للَّه عزّ ذكره إلّا وهو مخذول، ومن خذل لم يصب، كما إنّ الأمر لابدّ من تنزيله من السماء يحكم به أهل الأرض كذلك لابدّ من وال. فإن قالوا: لا نعرف هذا فقل: (لهم) قولوا ما أحببتم، أبي اللَّه عزّوجلّ بعد محمّد صلي الله عليه و

آله أن يترك العباد ولا حجّة عليهم» «1».

ويتبيّن من ذلك أنّ إنكار أحد أئمّة أهل البيت عليهم السلام أي إنكار اتّصال سلسلة إمامتهم أعظم كفراً من إنكار أحد المرسلين السابقين، أي من إنكار سلسلة اتّصال رسالات المرسلين السابقين؛ وذلك لأنّ إنكار سلسلة اتّصال إمامة أهل البيت تعني إنكار بقاء حجّية القرآن، للقول بتعطيل الكتاب بتعطيل نزول تأويله في كلّ عام.

وإنكار القرآن أعظم جحوداً من إنكار أحد الكتب المنزّلة السابقة، وقد عرفت أنّ ليلة القدر قد كانت منذ أوّل نبيّ بعثه اللَّه عزّوجلّ واستمرّت مع جميع الأنبياء إلي قائم الأنبياء إلي خاتم الأنبياء، وكانت مع أوصياء الأنبياء، وهي مع الأوصياء من أهل البيت عليهم السلام بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وذلك لأنّها من أبرز قنوات الاتّصال مع الغيب، وبتوسّطها ينزل تأويل الكتب السماوية في من سبق، وتأويل القرآن علي النبيّ صلي الله عليه و آله وعلي أهل بيته من بعده.

ومن ثمّ ورد أنّه لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن كما مرّت الإشارة إليه، فليلة القدر تمثّل وحدة السبب الاتّصالي بين الأرض والسماء، وأنّ إنكارها بإنكار أحد الأئمّة من أهل البيت هو في الحقيقة إنكار لطبيعة هذا الاتّصال الواحد الموحّد لدي السفراء الإلهين، كما يشير إلي ذلك قوله تعالي: «قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَي وَعِيسَي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 356

وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَانُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» «1»

، وقوله تعالي: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإْنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ

عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «2»

، فلم يكتفِ الباري عزّوجلّ في الإيمان بالرسول صلي الله عليه و آله فقط، وإنّما قرن معه بالنور النازل معه والذي هو الروح الأمري روح القدس، الذي هو حقيقة الكتاب الذي وصف بالنور بأنّه مع من اصطفاه اللَّه من العباد بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وذلك لقوله تعالي: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا» «3».

وروي الكليني بسند معتبر عن أبي جعفر عليه السلام قال: «لقد خلق اللَّه عزّوجلّ ذكره ليلة القدر أوّل ما خلق الدنيا، ولقد خلق فيها أوّل نبيّ وصيّ يكون، ولقد قضي أن يكون في كلّ سنة ليلة يهبط فيها بتفسير الأُمور إلي مثلها من السنة المقبلة من حجّة ذلك، فقد ردّ علي اللَّه عزّوجلّ علمه لأنّه لا يقوم الأنبياء والرسل والمحدّثون أيضاً بأنّهم جبرئيل أو غيره من الملائكة عليهم السلام.

قال: أمّا الأنبياء والرسل صلي الله عليه و آله فلا شكّ ولابدّ لمن سواهم من أوّل يوم خلقت فيه الأرض إلي آخر فناء الدنيا أن تكون علي أهل الأرض حجّة ينزل ذلك في تلك الليلة إلي من أحبّ من عباده.

وأيم اللَّه لقد نزل الروح والملائكة بالأمر في ليلة القدر علي آدم وأيم اللَّه ما

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 357

مات آدم إلّاوله وصيّ وكلّ من بعد آدم من الأنبياء قد أتاه الأمر فيها ووضع لوصيه من بعده، وأيم اللَّه إن كان النبيّ ليؤمر فيها يأتيه من الأمر في تلك الليلة من آدم عليه السلام إلي محمّد صلي الله عليه و آله أن

أُوحي إلي فلان، ولقد قال اللَّه عزّوجلّ في كتابه للولاة من بعده محمّد صلي الله عليه و آله خاصّة «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَي لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَايُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» «1»

يقول: «استخلفكم لعلمي وديني وعبادتي بعد نبيّكم، كما استخلف وصاة آدم من بعده حتّي يُبعث النبيّ الذي يليه، يعبدونني بإيمان لا نبيّ بعد محمّد صلي الله عليه و آله، فمن قال غير ذلك فأولئك هم الفاسقون، فقد مكّن ولاة الأمر بعد محمّد بالعلم ونحن هم، فاسألونا فإن صدّقناكم فأقرّوا وما أنتم بفاعلين، أمّا علمنا فظاهر، وأمّا إبان أجلنا الذي يظهر فيه الدين منّا حتّي لا يكون بين الناس اختلاف، فإنّ له أجلًا من ممرّ الليالي والأيام، إذ أتي ظهر وكان الأمر واحداً.

وأيم اللَّه لقد قُضي الأمر أن لا يكون بين المؤمنين اختلاف، ولذلك جعلهم شهداء علي الناس ليشهد محمّد صلي الله عليه و آله علينا، ولنشهد علي شيعتنا ولتشهد شيعتنا علي الناس. أبي اللَّه عزّوجلّ أن يكون في حكمه اختلاف، أو بين أهل علمه تناقض.

ثمّ قال أبو جعفر عليه السلام: فضل إيمان المؤمن بجملة (إنّا أنزلناه) وبتفسيرها علي من ليس مثله في الإيمان بها كفضل الإنسان علي البهائم، وإنّ اللَّه عزّوجلّ ليدفع بالمؤمنين بها …» «2».

وقد ورد من طرق الفريقين عنه صلي الله عليه و آله قوله لعليّ عليه السلام: «أنا أقاتل علي التنزيل وعليّ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 358

يقاتل علي التأويل» «1»

، ومنه ظهر أنّ سنخ تبليغ النبيّ صلي الله عليه و آله عن اللَّه وأهل بيته عليهم السلام

عنه لا يقف علي حدّ التنزيل والألفاظ، بل يتّسع إلي ما لا يُحصي من مدارج المعاني وبيان الحقائق، فالحاجة إلي تبليغهم وأدائهم عن اللَّه ووساطتهم بين اللَّه وخلقه تمتدّ إلي يوم القيامة في دار التكليف ونشأة الامتحان، ما دام البشر يحتاجون في كل بيئة إلي رؤية كونية عقائدية أعمق للحقائق والمعارف، ويحتاجون إلي هداية من الشريعة إلي أطوار نظامهم الاجتماعي السياسي وحقوله.

فتلخّص، أنّ ما تسالم عليه المسلمون من وجود الظهور والبطون في الكتاب العزيز وكون علومه وحقائقه وكلماته لا تتناهي، يستلزم دوام الحاجة إلي تبليغ النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام من بعده، وعدم سدّ الحاجة بخصوص الظاهر بعد كون الإيمان بباطن القرآن علي حذو الإيمان بظاهره.

ويشير إلي ذلك أيضاً قوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ» «2»

، فإنّ توقّف تبليغ مجمل الرسالة علي نصب عليّ عليه السلام في الغدير بحيث لو لم يُنصّب لم تُبلّغ الرسالة من رأس وهذا المفاد في الآية، مؤشّر واضح علي أنّ ما حمل النبيّ صلي الله عليه و آله من الرسالة بالوحي مُعظَمه لا يقتصر علي التنزيل، بل جُلّه في البطون وحقيقته العلوية التي لا يشذّ عنها شي ء، وهذا لم يؤدِّه النبيّ إلّا

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 359

لعليّ وأهل بيته خاصّة، وتأديته صلي الله عليه و آله لأهل بيته لم تقتصر علي النمط الحسّي ولا هو عمده الطريق لتلقّيهم عليه السلام عنه صلي الله عليه و آله.

فمن ثمّ كان إبلاغ النبيّ صلي الله عليه و آله التنزيل للناس من دون نصب عليّ نفي لإبلاغ وبلاغ جلّ الرسالة،

وأنّ ما عند الناس من الدين والشريعة والرسالة هو أقلّ من قليل، إلّاباتّباعهم لأهل بيت النبيّ صلي الله عليه و آله وأخذهم عنهم ما أدّاه النبيّ إلي أهل بيته من حقائق القرآن والشريعة، ويشير إلي ذلك ما روته العامّة في الصحاح وغيرها كما ذكره السيوطي في تاريخ الخلفاء «1»: «لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلي اثني عشر خليفة كلّهم من قريش».

وفي رواية: «إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتّي يمضي له فيهم اثني عشر خليفة كلّهم من قريش» «2»

، وفي رواية عن أبي داود: «لا يزال هذا قائماً حتّي يكون لكم إثني عشر خليفة» «3»

. فإنّ التعبير بأنّ الدين قائم بهم أي أنّه ينقضي بزوالهم ويزول بمضيهم، وأنّ عمر هذا الدين وصلاحه مرهون عند اللَّه عزّوجلّ بالخلفاء الاثني عشر.

وهذا المفاد للحديث النبويّ المستفيض يقتضي بأنّ ما وصل بأيدي الناس من ظاهر التنزيل من المصحف الشريف وروايات السنّة النبويّة بمجرّده لا يكفي في بقاء الدين، ممّا يدلّ علي أنّ معظم الدين وقوامه موجود لدي الاثني عشر سلام اللَّه عليهم دون غيرهم، وكذا لا يمكن الاكتفاء بظاهر التنزيل والروايات المأثورة عن أهل البيت عليهم السلام والاستغناء عن المهدي (عج).

حيث قال تعالي: «قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 360

كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا» «1»

، وقال تعالي: «وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» «2»

، ليس المراد من الكلمات التي لا تنفذ الألفاظ الصوتية أو المنقوشة المدوّنة أو المعاني المفهومة المتصوّرة؛ إذ إطلاق الكلمة والكلمات علي هذين الموردين إطلاق مجازي عند العقل، إذ الكلمة هي

الشي ء الدالّ بذاته تكويناً علي أمر آخر، ومن ثمّ يُطلق علي وجودات الأشياء المخلوقة لا سيّما الشريفة- أنّها كلمات اللَّه؛ لدلالتها علي صفات الباري تعالي.

ومنه يُعرف الترادف عند العقل بين الكلمة الحقيقية والآية، ومن ثمّ ورد إطلاق كلّ منهما علي النبيّ عيسي عليه السلام، وقال تعالي في بشارة الملائكة لمريم: «إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ» «3»

، فجعل تعالي وجود نبيّه كلمة منه تعالي وتكلّمٌ منه، وجعل عنوان المسيح عيسي ابن مريم اسم للكلمة، كما أطلق تعالي الآية علي عيسي ابن مريم حيث قال: «وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا» «4».

فهذه الكلمات الوجودية والتي قد تعرّضت جملة من الآيات لنعوتها وصفاتها والتي لا تنفذ، كلّها مجموعة في الكتاب المبين؛ إذ الكتاب هو ما يتألّف من كلمات، فالكتاب المبين متكوّن من وجود جملي لكافّة الكلمات الوجودية بالوجود الملكوتي، ومن ثمّ نعت الكتاب المبين بأنّه مفاتح الغيب كما في الآية المتقدّمة: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَايَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 361

مُبِينٍ» «1».

تلقي النبي صلي الله عليه و آله وأهل بيته للكلمات والكلام الإلهي بوجوده التكويني لا الاعتباري: … ص: 361

إنّ ما يتلقّاه النبيّ صلي الله عليه و آله من وحي لا ينحصر في الوحي الإنبائي، كما أنّ سنخ الوحي الإنبائي لا ينحصر في إلقاء المعاني أو الأصوات، بل إنّ عمدة أنواع وأنماط الوحي هو ما يكون من قبيل تلقّي حقائق الأشياء بحقيقتها التكوينية بكينونة تفوق الكون المادّي، وهو ما يعبّر عنه بنشأة الملكوت في القرآن الكريم، قال تعالي: «فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» «2».

وقد أشار القرآن الكريم إلي وجود كينونة للأشياء في نشأة الملكوت فقال

تعالي: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَايَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «3»

، وقال تعالي: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْ ءٍ ثُمَّ إِلَي رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ» «4»

، وقال تعالي: «وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «5»

، وقال تعالي: «إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَي وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ» «6»

، وغيرها من الآيات التي تدلّ علي أنّ في نشأة الكتاب المبين وهي نشأة تحيط بغيب السماوات والأرض يستطرّ فيها كلّ شي ء بحسب ملكوته، قال تعالي: «وَكَذَلِكَ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 362

نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» «1»

، فأثبت تعالي للسماوات والأرض ملكوت، فإحاطة وهيمنة الملكوت علي كلّ الأشياء وصف مقرّر للكتاب المبين، وتقرّر الأشياء بحسب ملكوتها فيه ليس تقرّر معانيها ومفاهيمها، بل تقرّر كينونة وجودية ملكوتية، بل أنّ هناك أوصافاً ونعوتاً قرآنية أُخري للكتاب المبين تفوق ذلك.

والقرآن جملة وهو جملة حقيقية، فحقيقة القرآن ليست بلفظ عربي أو أعجمي كما أنّه ليس بمعني بل هو الروح الأعظم، حيث عبّر عنه في سورة النحل قوله تعالي: «قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًي وَبُشْرَي لِلْمُسْلِمِينَ» «2»

، والآية الكريمة في نفس السورة التي صدرها: «يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ» «3»

، فبين الآيتين في السورة الواحدة ارتباط، وأنّ ذلك الروح الذي ينزل به الملائكة هو روح القدس، وهو الروح النازل في ليلة القدر بجملة الكتاب،

ويعضد هذا الارتباط بين الآيتين في سورة النحل توسّط آية أُخري في السورة وهي قوله تعالي: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً وَبُشْرَي لِلْمُسْلِمِينَ» «4»

، ومن الواضح في هذه الآية إرادة جملة الكتاب وحقيقته، لا

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 363

النزول النجومي ولا تنزيل القرآن بوجوده اللفظي؛ لأنّ الذي فيه تبيان كلّ شي ء هو حقيقة القرآن الذي يعبّر عنه بالكتاب المبين والمكنون واللوح المحفوظ، إلي غيرها من الأوصاف الآتي استعراضها لهذا الوجود الرابع.

وكذلك سيأتي استعراض روايات أهل البيت عليهم السلام الكاشفة لتفسير كلّ ذلك من ظاهر ألفاظ الآيات الكريمة. وتقدّم الكلام في أنّ القرآن اسم حقيقة لروح القدس، النازل علي النبيّ جملة في النزول الدفعي الجملي للقرآن كما في آخر سورة الشوري، وأنّه ملتحم مع روح النبيّ صلي الله عليه و آله ومن بعده مع أرواح الأوصياء من أهل بيته صلي الله عليه و آله.

ولا يخفي أنّ لفظة الكتاب شأنها في أقسام الوجود شأن ما تقدّم من الوجودات الأربعة لكلّ شي ء، فإنّ الكتاب يُطلق علي وجود النقش والرسوم المكتوبة، وهو الذي يُستعمل فيه كثيراً، كما يُطلق الكتاب أيضاً علي أصوات الألفاظ المجموعة فيقال قراءة الكتاب، ويُطلق علي وجود المعاني فيقال حفظتُ كتاباً كاملًا، ويُطلق علي الوجود العيني الخارجي الجامع للكلمات التكوينية.

وبعبارة أُخري: إنّ الكتاب الذي هو مجموع الكلمات والكلمة بدورها له أربع وجودات:

الأوّل: الكلمة المكتوبة المنقوشة.

الثاني: الكلمة الملفوظة المصوّتة.

الثالث: الوجود الذهني في الفكر للكلمة.

الرابع: الوجود العيني الخارجي لشي ء دالّ علي شي ء آخر.

كما أطلق تعالي القرآن علي عيسي عليه السلام في قوله تعالي: «إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ» «1»

، وقوله تعالي: «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ» «2»

، وهذا

الإطلاق ليس مجازياً، بل حقيقياً؛ لكون الأصل في معني الكلمة هو الشي ء الموجود لأجل الدلالة علي المعني الخفي، وأي دلالة أعظم علي صفات اللَّه من أنبيائه ورسله والأوصياء والحجج، والكلمة مقاربة في

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 364

معناها لمعني الآية، حيث إنّ معناها العلامة الدالّة علي معني ومدلول ما، وقد أُطلق لفظ الآية علي الوجودات التكوينية في كثرة كاثرة من الموارد في القرآن الكريم.

منها: قوله تعالي: «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً» «1»

، وقوله تعالي: «وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا» «2»

، وقوله تعالي: «فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ» «3»

، فأطلق علي النبيّ عيسي عليه السلام كلّاً من (الكلمة والآية)، ويقرب لفظ (الاسم) من هذا المعني من لفظ (الكلمة والآية) وإطلاقهما علي الوجود التكويني، حيث إنّ معناه من السمة وهو العلامة أيضاً الدالّة علي شي ء أو معني ما. فهذه الألفاظ الثلاثة هي بدورها أيضاً- لها أربع وجودات، الأُوليان اعتباريان وهما الصوت الملفوظ والنقش المرسوم علي الورق، والأُخريان تكوينيان:

الثالث: وجودها في أُفق المعني والفكر والذهن ومدارج المعاني.

الرابع: الوجودات العينية.

وعلي ضوء ذلك، فالكتاب الذي هو مجموع الكلمات أيضاً هو بدوره له أربع وجودات، اثنان اعتباريان وهما المنقوش والملفوظ، واثنان تكوينيان وهما الوجود في أُفق الفكر والذهن والوجود العيني الخارجي.

وإذا كان عيسي بن مريم عليه السلام بما له من روح نبويّة كلمة من هذا الكتاب وآية من آياته، فكيف بك في بقية الكلمات والآيات؟ بل ما هو الحال في جملة الكتاب مع أنّه تعالي يقول في عيسي بن مريم عليه السلام- الذي هو كلمة من هذا الكتاب- «وَآتَيْنَا

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 365

عِيسَي ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» «1»

، فعبّر تعالي بتأييده بروح القدس، ممّا يفهم

أنّ روح القدس أعظم من روح النبيّ عيسي عليه السلام؛ حيث قال تعالي في عيسي عليه السلام: «وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَي مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ» «2»

، وقال تعالي: «اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَي وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ» «3»

، ومن ثمّ لم يكن للنبيّ عيسي العلم بالكتاب كلّه كما كان لسيد الأنبياء صلي الله عليه و آله؛ لقوله تعالي في عيسي: «قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ» «4»

، تبيّن الآية أنّه عليه السلام يبيّن بعض اختلاف بني إسرائيل لا كلّه.

وكذلك الحال في موسي عليه السلام حيث قال تعالي: «وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «5»

فما كُتب لموسي ليس كلّ شي ء وإنّما من كلّ شي ء، بخلاف القرآن الكريم حيث وصف بالمهيمن وأنّه تبيان كلّ شي ء.

فهذا الارتباط بين كون عيسي كلمة وآية وبين كونه مؤيد بروح القدس، لا أنّ عيسي هو روح القدس.

كما أنّ الارتباط والصلة التي تشير إليها سورة القدر والدخان والشوري والنحل وغافر كما تقدّم استعراض آيات السور- بين الروح الأمري وروح القدس وبين نزول الكتاب المبين، يدلّ بوضوح أنّ الكتاب المبين حقيقته هو روح القدس، والذي يعبّر عنه في بعض الروايات بالروح الأعظم، فهذا الروح الذي هو حقيقة وجود الكتاب المبين هو الذي أُوحي به إلي النبيّ صلي الله عليه و آله في قوله تعالي: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ..» «6»

، فدراية الكتاب كلّه هو بإرسال هذا الروح إلي روح النبيّ، ومقتضي دراية النبيّ صلي الله عليه و آله بالكتاب كلّه هو

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 366

التحام الروح في ضمن روحه صلي الله عليه و آله، وكذلك تنزّل هذا الروح في الليلة المباركة

وهي ليلة القدر والذي هو تنزّل لحقيقة الكتاب عليه صلي الله عليه و آله.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 367

نعوت حقيقة الكتاب وهي روح القدس … ص: 367

اشارة

منها: قوله تعالي: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَي بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا» «1»

، فوصف القرآن بأنّه يسيّر به الجبال وتقطّع به الأرض ويُحيي به الموتي، ومن الواضح أنّ هذه الخواص ليست للكتابة المنقوشة التي هي بين الدفّتين للمصحف المقدّس، بل هي لحقيقة القرآن الموجودة في الغيب وهي روح القدس.

ومنها: قوله تعالي: «يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» «2»

، ومن الواضح أنّ لوح المحو والإثبات وما فوقه من أُمّ الكتاب ليس في المصحف الورقي، بل هو في نشأة الغيب.

ومنها: قوله تعالي: «لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَي جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» «3»

، ومن الواضح أنّ المصحف المقدّس المنقوش بين الدفّتين لو وُضع علي جبل ما رأيناه ينهدّ متصدّعاً، إذن، المراد بذلك هو نزول روح القدس علي ملكوت الجبل؛ لأنّ لكلّ شي ء ملكوت كما قال تعالي: «فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ» «4»

،

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 368

فملكوت الجبل ليست له تلك القابلية والظرفية لنزول روح القدس عليه، بل لم تكن تلك القابلية في الأنبياء أُولي العزم كما تقدّمت الإشارة إليه، بل هي خاصّة بالنبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته المطهّرين، كما سيأتي بيان ذلك.

ومنها: قوله تعالي: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً وَبُشْرَي لِلْمُسْلِمِينَ» «1»

، ومن الواضح أنّ تبيان كلّ شي ء ليس في ظاهر المصحف المنزّل، وإنّما في الكتاب المبين في النشأة الغيبية أي روح القدس، ومن ثمّ تكرّر التعيير المشابه للوصف في سورة النحل وفي

سورة الشوري، ونظير هذا الوصف في قوله تعالي: «وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «2»

، فذكر أنّ فيه كلّ مغيّبات السماء والأرض وتقدير الحوادث، كما ذكر ذلك في سورة القدر والدخان، ونظيره قوله تعالي: «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَي اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «3»

، وقوله تعالي: «وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «4»

، وقوله تعالي: «عَالِمِ الْغَيْبِ لَايَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «5»

، وكذلك قوله تعالي: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْ ءٍ» «6»

، وقوله تعالي: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَايَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبينٍ» «7».

ومن الظاهر أنّ هذه الإحاطة بتفاصيل كلّ الأشياء ليست في تفاصيل ظاهر

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 369

التنزيل، وأنّما هو نعت للنشأة الغيبية لحقيقة الكتاب، ومن ثمّ هذا الوصف بيّن ظرفه في أرواح الذين أوتوا العلم في قوله تعالي: «بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» «1»

، وهذا ممّا يدلّ علي التحام روح القدس مع من يتنزّل الروح عليه ليلة القدر، وهم الذين يؤتون علم الكتاب كلّه.

ونعوت الوجود التنزيلي للقرآن وصفت في الآيات العديدة أنّه بلسان عربي مبين، كما في قوله تعالي: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ» «2»

، فالتشابه وصف لظاهر التنزيل، بينما المبين كلّه وصف للكتاب المكنون؛ وإلّا لو حُملت

النعوت علي مرتبة واحدة من وجود القرآن وهو ظاهر التنزيل لتناقض الوصفان، فكيف يكون فيه متشابه ويكون مبيناً كلّه وتبياناً لكلّ شي ء؟

ومنها: وصفه بالكنّ والمجد، كقوله تعالي: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ» «3»

، وقوله تعالي: «بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ» «4»

، فوصف الكرامة قريب من وصف المجد، ووصف المكنون قريب من وصف المحفوظ، ومعني اللوح قريب من الكتاب.

ومن ثمّ وصف أيضاً «لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» «5»

أي لا يصل إليه إلّامن طهّره اللَّه، لا المتطهّر بالوضوء والغسل. ومن ثمّ وصف أيضاً بتنزيل من ربّ العالمين أي له وجود علوي.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 370

الثقل الأكبر هو القرآن الناطق: … ص: 370

إذا تبينت الأُمور الثلاثة المتقدّمة من أنّ حقيقة القرآن هي روح القدس وتلك الحقيقة هي عين ذواتهم عليهم السلام، وأنّ للقرآن مدارج ودرجات، وأنّ المصحف هو أنزل درجات، فهو القرآن النازل وهو تنزيل القرآن، وأمّا الدرجات العليا فهي حقيقة القرآن وهي أكثر عظمة وقدسية وبهاءً وسموّاً، وأنّ تلك الحقائق هي الثقل الأكبر، إذ كيف يكون الوجود النازل وهو المصحف أكبر من أُمّ الكتاب ومن الكتاب المبين الذي يستطرّ فيه كلّ شي ء، ومن اللوح المحفوظ والكتاب المكنون الذي لا يمسّه إلّاالمطهرون.

وتلك الحقائق الغيبية التي هي روح القدس مرتبطة وملتحمة مع أرواح الأئمّة عليهم السلام حقيقةً لا تنزيلًا واعتباراً، فالارتباط الحي الحيوي بروح القدس هو ذات الإمام عليه السلام، فالثقل الباقي بعد النبيّ صلي الله عليه و آله الأكبر لا محالة يكون الإمام والمصحف هو الأصغر، وعلي ذلك جملة من الشواهد:

الأوّل: ما ورد بنحو مستفيض ومتواتر أنّهم عليهم السلام القرآن الناطق والمصحف هو القرآن الصامت، ولا ريب أنّ القرآن الناطق هو الثقل الأكبر؛ إذ الناطق أعظم شرافة من الصامت، بل أنّ ملحمة صفّين

الكبري تُسطّر ملحمة عقائدية للأئمّة أنّ القرآن الناطق هو عليّ عليه السلام، وأنّ المصحف قرآن صامت.

كما أنّ تلك الروايات المستفيضة في كونهم القرآن الناطق دلالة واضحة علي هيمنة حجّيتهم علي حجّية المصحف الشريف، أي حجّية ذواتهم الناطقة لا كلامهم المروي في الكتب الذي هو إمام صامت.

وفي الكافي روي فيما هو كالموثق عن مسعدة عن أبي عبد اللَّه عليه السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث: «ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق لكم أخبركم عنه ان فيه علم ما مضي وعلم ما يأتي إلي يوم القيامة وحكم ما بينكم وبيان ما أصبحتم فيه

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 371

تختلفون فلو سألتموني عنه لعلمتكم» «1».

الثاني: ما رواه الشريف الرضي في كتابه خصائص الأئمّة بسند صحيح عن أبي موسي الضرير البجلي وهو عيسي ابن المستفاد وهو وإن ضُعّف من النجاشي إلّا أنّه مستند في ذلك إلي تضعيف ابن الغضائري المتسرّع، والحال أنّ مضامين رواياته عالية المعارف. عن أبي الحسن عليه السلام في خطبة الرسول صلي الله عليه و آله التي خطبها في مرضه، قال: «يا معاشر المهاجرين والأنصار ومن حضر في يومي هذا وساعتي هذه من الأنس والجنّ، ليبلغ شاهدكم غائبكم، ألا وأنّي قد خلّفت فيكم كتاب اللَّه فيه النور والهدي والبيان لما فرض اللَّه تبارك وتعالي من شي ء حجّة اللَّه عليكم وحجّتي وحجّة وليّي، وخلّفت فيكم العلم الأكبر علم الدين ونور الهدي وضياءه وهو عليّ بن أبي طالب، ألا وهو حبل اللَّه «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَي شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» «2».

أيّها الناس، هذا

عليّ، من أحبّه وتولّاه اليوم وبعد اليوم فقد أوفي بما عاهد عليه اللَّه، ومن عاداه وأبغضه اليوم وبعد اليوم جاء يوم القيامة أصمّ وأعمي لا حجّة له عند اللَّه..

وكلّ سُنّة وحديث وكلام خالف القرآن فهو زور وباطل، القرآن إمام هادٍ، وله قائد يهدي به ويدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة وهو عليّ بن أبي طالب عليه السلام» «3».

ودلالة الرواية علي أنّهم الثقل الأكبر في مواضع:

منها: وصف النبيّ صلي الله عليه و آله لعليّ عليه السلام بأنّه العلم الأكبر، علم الدين في مقابل المصحف الشريف، مع تكراره صلي الله عليه و آله للأوصاف التي ذكرها لنعت القرآن كأوصاف

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 372

لعليّ أيضاً.

ومنها: تخصيصه صلي الله عليه و آله حبل اللَّه بعليّ مع أنّ المصحف الشريف حبل اللَّه، كما في الأحاديث الأُخري إلّاأنّ هذا التخصيص في هذه الرواية للتدليل علي أنّه الحبل الأكبر.

ومنها: وصفه الكتاب بأنّه حجّة اللَّه علي الناس وحجّة الرسول وحجّة الوصيّ، فجعل المصحف الشريف حجّة لما هو مقام أعظم وهو مقام اللَّه ورسوله ووليه.

ومنها: وصف عليّ عليه السلام بأنّه قائد للقرآن وأنّه الهادي به، مع أنّ القرآن إمام وهاد، فجُعلت القيمومة لعليّ علي المصحف.

الثالث: إنّ المقابلة ليست بين كلام اللَّه تعالي وكلام المعصوم؛ إذ لا ريب أنّ كلام الخالق فوق كلام المخلوق، بل هي بين كلامَي الخالق، أي الكلام النازل وهو تنزيل الكتاب وكلامه تعالي في الكتاب المكنون واللوح المحفوظ وأُمّ الكتاب.

ولك أن تقول: إنّ المقارنة ليست بين المصحف وكتب الحديث وروايات السنّة النبويّة وسنّة المعصومين؛ إذ لا ريب في عظمة المصحف علي كتب الحديث فالحديث يُعرض علي الكتاب، وإن كان متشابه المصحف يُعرض علي محكمات كلّ من الكتاب والسنّة، فمتشابه السنّة يُعرض علي

محكمات الكتاب والسنّة، وكذلك الحال في متشابهات العقل في القضايا النظرية تُعرض علي محكمات الكتاب والسنّة وبديهيات العقل.

فليس المقارنة بين الكتاب والمصحف العزيز وكتاب الحديث، وإنّما المقارنة هي بين المصحف وذات الإمام المعصوم نفسه عليه السلام، وقد وصف المصحف العزيز بأنّه القرآن الصامت أي الذي لا ينطق بنفسه في مقام التطبيق وتفاصيل الوقائع ولا متشابه الأُمور، بخلاف ذات المعصوم فإنّها وصفت بالقرآن الناطق؛ لأن ذات

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 373

المعصوم تلتحم بذات الكتاب وأُمّ الكتاب والكتاب المبين.

فدرجات القرآن العليا التي هي جزء ذات المعصوم قرآن ينطق، فيرفع المتشابه في الأُمور، ويكون تلاوة للكتاب حقّ تلاوته، أي يتلو الآية ويطبّقها وينزل تطبيقها في حقّ المورد التي يجب أن تطبّق فيه.

وكذلك الحال في المقارنة بين ذات الإمام وكتب الحديث، فإنّ ذات الإمام إمام ناطق وكتب الحديث إمام صامت، ومن ثمّ لا يُستغني بتراث حديث النبيّ وأهل بيته عليهم السلام عن وجود الإمام المهدي (عج).

وبهذا يتّضح أنّ المقارنة ليس بين كلام اللَّه وكلام المعصوم، بل المقارنة بين كلامَي اللَّه، فإنّ ذات المعصوم هو كلام اللَّه حقيقة، ألا تري الإشارة في قوله تعالي:

«إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ» «1»

، وقوله تعالي: «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ..» «2».

فأطلق علي عيسي عليه السلام أنّه كلمة اللَّه. وأيضاً لاحظ التعبير في قوله تعالي لزكريا:

«أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَي مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ» «3»

، أي مصدّقاً بعيسي بن مريم، والتعبير في قوله تعالي في شأن مريم: «وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ» «4»

، فقوبل هنا بين الكلمات والكتب.

رابعاً: قد يُعترض علي جعل أهل البيت الثقل الأكبر في مقابل المصحف الكريم، بأنّه مخالف للحديث النبويّ المستفيض وهو الوصية

بالتمسّك بالثقلين، فإنّ الحديث وإن كان متواتراً إلّاأنّ ما ورد فيه بلفظ الأكبر والأصغر هو في جلّ الطرق لا كلّها.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 374

منها: ما رواه الشيخ المفيد في المجالس بسنده عن أبي جعفر عليه السلام، عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «يا أيّها الناس، إنّي تارك فيكم الثقلين.. سببٌ طرفه بيد اللَّه وطرف بأيديكم تعملون فيه.. ألا وهو القرآن والثقل الأصغر أهل بيتي. ثمّ قال: وأيم اللَّه إنّي لأقول لكم هذا ورجالٌ في أصلاب أهل الشرك أرجي عندي من كثير منكم» «1».

وروي في البحار أيضاً عن تفسير القمّي وغيره قول النبيّ صلي الله عليه و آله: «أما وأنّي سائلكم عن الثقلين كتاب اللَّه الثقل الأكبر، طرفٌ بيد اللَّه وطرفٌ بأيديكم فتمسّكوا به» «2».

وروي أيضاً في البحار عن تفسير العياشي: «قال صلي الله عليه و آله: الثقل الأكبر كتاب اللَّه سبب بيد اللَّه وسبب بأيديكم فتمسّكوا به لن تهلكوا أو تضلّوا، والآخر عترتي، وأنّه قد نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتّي يردا عليّ الحوض» «3».

وروي في البحار أيضاً عن كتاب النشر والطي، عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «أيّها الناس، إنّي تارك فيكم الثقلين: الثقل الأكبر كتاب اللَّه عزّوجلّ طرفٌ بيد اللَّه تعالي وطرفٌ بأيديكم فتمسّكوا به، والثقل الأصغر عترتي أهل بيتي؛ فإنّه قد نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتّي يردا عليّ الحوض، كاصبعي هاتين وجمع بين سبابتيه ولا أقول كهاتين وجمع بين سبابته والوسطي- فتفضل هذه علي هذه» «4».

وروي في بصائر الدرجات عن النبيّ صلي الله عليه و آله، قال: «الثقل الأكبر كتاب اللَّه سببٌ طرفه بيد اللَّه وسببٌ طرفه بأيديكم» «5».

وروي في الخصال عنه صلي الله عليه

و آله قوله: «أمّا الثقل الأكبر فكتاب اللَّه عزّوجلّ سببٌ ممدود

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 375

من اللَّه ومنّي في أيديكم، طرفه بيد اللَّه والطرف الآخر بأيديكم، فيه علم ما مضي وما بقي إلي أن تقوم الساعة، وأمّا الثقل الأصغر فهو حليف القرآن وهو عليّ بن أبي طالب وعترته، وأنّهما لن يفترقا حتّي يردا عليّ الحوض» «1».

وتوضيح دفع الاعتراض:

أوّلًا: إنّ كلّ هذه الروايات قد وصفت الكتاب أو القرآن بالثقل الأكبر، فلم تأت بلفظ المصحف والكتاب، القرآن كما يطلق علي المصحف يطلق علي أُمّ الكتاب وعلي الكتاب المبين وعلي اللوح المحفوظ وعلي روح القدس، كما تقدّم ذلك مفصّلًا في استعمالات آيات السور والاستعمال الروائي، فالكتاب أو القرآن ذو درجات ومقامات متعدّدة.

ثانياً: القرينة علي إرادة تلك المقامات العالية من لفظ الكتاب والقرآن في طرق حديث الثقلين الموصوف بالثقل الأكبر، وأنّه ليس المراد به مجرّد المصحف الشريف، وصف صلي الله عليه و آله القرآن بأنّه سببٌ أحد طرفيه بيد اللَّه والطرف الآخر بيد الناس، ومثله توصيفه بأنّه حبل ممدود من السماء إلي الأرض، ممّا يدلّل علي أنّ الموصوف بالثقل الأكبر هو الدرجات الغيبية، كروح القدس وأُمّ الكتاب، وهي الطرف الذي بيد اللَّه، فتكرار هذا الوصف بأنّ له طرفان تأكيد علي كون أنّ وصف الأكبرية هي بلحاظ الطرف الذي بيد اللَّه.

ثالثاً: إنّه ورد في عدّة طرق من ألفاظ الحديث الشريف أنّهما لن يفترقا كاصبعي هاتين وجمع صلي الله عليه و آله بين سبابتيه، وليس كهاتين وجمع صلي الله عليه و آله بين سبابته والوسطي، وعلّل صلي الله عليه و آله ذلك لئلّا يفضل أحدهما علي الآخر ممّا يقضي بالتساوي، وأنّ الأكبرية هي بلحاظ الطرف الذي بيد اللَّه.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 376

رابعاً:

إنّه قد ورد في ألفاظ الحديث وصف مجموع الثقلين بأنّه حبل اللَّه الممدود بينه وبين خلقه، ممّا يقضي بأنّ مجموع الثقلين هما حبل واحد باطنهما متّحد كحبل نوري واحد.

وقد تقدّم دلالة الآيات المتعرّضة لحقيقة ليلة القدر وإنزال روح القدس علي العترة المطهّرة وتأييد أرواحهم به، كما في قوله تعالي: «يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ» «1»

، وغيرها من الآيات.

ففي ما رواه النعماني في الغيبة من قوله صلي الله عليه و آله: «ألا وأنّي مخلّف فيكم الثقلين: الثقل الأكبر القرآن، والثقل الأصغر عترتي أهل بيتي، هما حبل اللَّه ممدود بينكم وبين اللَّه عزّوجلّ، ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا، سببٌ منه بيد اللَّه وسببٌ بأيديكم، إنّ اللطيف الخبير قد نبّأني أنّهما لن يفترقا حتّي يردا عليّ الحوض كاصبعي هاتين- وجمع بين سبابتيه- ولا أقول كهاتين وجمع بين سبابته والوسطي فتفضل هذه علي هذه» «2»

وصفٌ في لفظ هذا الطريق لكلٍّ من الثقلين بأنّهما حبل اللَّه الممدود، كما وصف صلي الله عليه و آله أنّ كلّاً من الثقلين طرف منه بيد اللَّه وطرف منه بيد الناس، كما أنّه صلي الله عليه و آله قرنهما بجمع السبابتين لا بجمع السبابة والوسطي؛ لئلّا تفضل هذه علي هذه.

فكلّ ذلك يؤكّد أنّ الأكبرية هي بلحاظ الطرف الغيبي في كلّ من المصحف والعترة ممّا ينتهي إلي يد اللَّه وقدرته، ويزيدك وضوحاً في هذا المعني أنّه قد ورد مستفيضاً وصف عليّ والعترة بأنّهم حبل اللَّه، نظير ما رواه النعماني أيضاً وبسنده عن عليّ بن الحسين عليهما السلام قال: «كان رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ذات يوم جالساً ومعه أصحابه في المسجد، فقال: يطلع عليكم من هذا الباب رجل من

أهل الجنّة يسأل عمّا يعني. فطلع رجل طوال يشبه برجال مضر، فتقدّم وسلم علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، فقال: يا رسول اللَّه، إنّي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 377

سمعت اللَّه عزّوجلّ صلي الله عليه و آله يقول فيما أنزل: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا» «1»

، فما هذا الحبل الذي أمرنا اللَّه بالاعتصام به وأن لا نتفرّق عنه؟ فأطرق رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ملياً ثمّ رفع رأسه وأشار بيده إلي عليّ بن أبي طالب عليه السلام وقال: هذا حبل اللَّه الذي من تمسّك به عُصم في دنياه ولن يضلّ به في آخرته. فوثب الرجل إلي عليّ عليه السلام فاحتضنه من وراء ظهره وهو يقول: اعتصمت بحبل اللَّه وحبل رسوله، ثمّ قام فولّي وخرج» «2»

.وقد عقد النعماني باباً خاصّاً «3» في ذلك، كما روي غيره من المحدّثين من الخاصّة والعامّة مثل ذلك. «4»

وهذه الأحاديث المستفيضة أو المتواترة شاهدة علي أنّ وصف الحبل في حديث الثقلين هو لمجموع الثقلين، والحبل كناية أنّ الثقلين لهما امتداد ممدود من عند اللَّه في النشأة الغيبية إلي أن يصل ممتدّاً إلي ما هو ظاهر بين يدي الناس وهو المصحف والعترة، كما أنّ توصيف جملة من الأحاديث في الثقل الأصغر كالذي رواه في العدد القوية من قوله صلي الله عليه و آله: «معاشر الناس، أنّ عليّاً والطيبين من ولده هو الثقل الأصغر، والقرآن هو الثقل الأكبر» «5».

ومثل ما رواه ابن طاوس في اليقين عن عليّ عليه السلام قوله: «يا ابن عبّاس، ويلٌ لمن ظلمني ودفع حقّي وأذهب عنّي عظيم منزلتي، أين كانوا أولئك وأنا أُصلّي مع رسول اللَّه صلي الله عليه و آله صغيراً لم يكتب عليّ صلاة،

وهم عبدة الأوثان وعصاة الرحمن ولهم يوقد

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 378

النيران؟! فلمّا قرب إصعار الخدود واتعاس الجدود أسلموا كرهاً وأبطنوا غير ما أظهروا؛ طمعاً في أن يطفئوا نور اللَّه بأفواههم، وتربّصوا انقضاء أمر رسول اللَّه وفناء مدّته، لمّا أطمعوا أنفسهم في قتله ومشورتهم في دار ندوتهم قال اللَّه عزّوجلّ: «وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ» «1»

و: «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَي اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» «2».

ولولا اتّقائي علي الثقل الأصغر أن يُبيد فينقطع شجرة العلم وزهرة الدنيا وحبل اللَّه المتين وحصنه الأمين ولد رسول ربّ العالمين …» الحديث «3».

وروي ابن طاوس في التحصين بسنده.. قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «يا معاشر الناس، أمرني جبرئيل عليه السلام عن اللَّه تعالي.. أن أعلمكم أنّ القرآن الثقل الأكبر، وأنّ وصييّ هذا وابناي ومن خلفهم من أصلابهم حاملًا وصاياهم الثقل الأصغر، يشهد الثقل الأكبر للثقل الأصغر، ويشهد الثقل الأصغر للثقل الأكبر، كلّ واحد منهم ملازم للآخر..» «4».

وأخرج في البحار عن … بسنده عن الكاظم، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليه السلام، عن النبيّ صلي الله عليه و آله في حال مرضه، قال: «… أصحاب الكساء الخمسة، أنا سيدهم ولا فخر، عترتي أهل بيتي السابقون المقرّبون يسعد من اتّبعهم … اسودّت وجوه قوم وردوا ظماء مظمّئين إلي نار جهنّم، مزّقوا الثقل الأوّل الأعظم وأخّروا الثقل الأصغر، حسابهم علي اللَّه» «5».

وما روي المجلسي في البحار «… قال أمير المؤمنين: يا كميل نحن الثقل الأصغر والقرآن الثقل الأكبر وقد أسمعهم رسول اللَّه..» «6».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 379

وكذلك روي المجلسي في البحار: «ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر وأترك فيكم الثقل الأصغر وركزت فيكم الإيمان؟»

«1».

وهذا النمط من ألفاظ حديث الثقلين هو الآخر فيه جملة من القرائن الدالّة علي أنّ نعت الأكبر أو الأعظم هو ليس مقتصر علي المصحف الشريف، بل هو نعت للكتاب والقرآن، وهو اسمان كما تقدّم- صادقان في الدرجة الأولي علي الوجود الغيبي للقرآن، وهو أُمّ الكتاب والكتاب المبين واللوح المحفوظ وروح القدس، ومن مراتبه النازلة المصحف الشريف، وهذه المراتب العالية كما هي متنزّلة في ألفاظ المصحف الشريف بنحو الوجود اللفظي وفي معانيه بطور عالم المعاني، فهو متنزّل أيضاً أي روح القدس- بحقيقته ووجود التكويني لا الاعتباري علي العترة كما تقدّم مبسوطاً في دلالة الآيات والروايات من الفريقين علي ذلك.

وهذا التنزّل يجعل من العترة قرآناً ناطقاً، بينما المصحف الشريف قرآناً صامتاً يستنطق أي في مقام التطبيق للإرادات الإلهية في الموارد والحوادث الواقعة حين بعد حين إلي يوم القيامة، وهو أحد معاني التأويل، ويكون تطبيق العترة بنطق قرآني وإشراف من روح القدس الذي هو حقيقة القرآن، بخلاف المصحف الشريف فإنّ أخذ الأُمّة به لتطبيقه من دون العترة استنطاق منهم ظنّي، وتطبيق ظنّي أيضاً.

فنعت الأكبر صفة للحبل الممدود من اللَّه، طرفه بيده وتنزّله منشعب إلي المصحف والعترة الطاهرة. ومن القرائن التي تقدّمت من الروايات أيضاً أنّ أمير المؤمنين مع وصفه للعترة بالثقل الأصغر إلّاأنّه وصفهم أيضاً بشجرة العلم وحبل

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 380

اللَّه المتين، وهو تأكيد علي أنّ التسمية بالثقل الأصغر هو في مقابل الكتاب في درجاته العالية، كأُمّ الكتاب واللوح المحفوظ وروح القدس، ولأجل تنزّله عليهم وراثةً عن رسول اللَّه وصفوا بأوصاف الثقل الأكبر، وهو كونهم حبل اللَّه المتين، مع أنّ الحبل ذو طرفين كما مرّ. وكذلك وصفهم بشجرة العلم فإنّه للدلالة علي الامتداد من الأرض إلي سماء

الغيب، فالنعت بالأصغر بلحاظ أنّهم أوعية لنزول القرآن، وهم قرآن ناطق بلحاظ أنّ النازل عليهم هو الأكبر.

ومن القرائن أيضاً: أنّ الثقل الأوّل الأعظم الذي مزّق ليس المراد منه مجرّد المصحف الشريف، إنّما يُراد منه عدم العمل بالكتاب، وقد تقدّم أنّ التطبيق الوحياني للكتاب إنّما يحصل بتوسّط العترة بتنزّل روح القدس. نعم، يبقي لتطبيق المصحف بحدود دائرة المحكمات في حال كون الموارد والحوادث بيّنة الوجه أنّه تطبيق يقيني.

روي العياشي عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: «إنّما مثل عليّ عليه السلام ومثلنا من بعده من هذه الأُمّة كمثل موسي عليه السلام والعالم حين لقيه واستنطقه وسأله الصحبة، فكان من أمرهما ما اقتصّه اللَّه لنبيّه صلي الله عليه و آله في كتابه، ذلك أنّ اللَّه قال لموسي: «إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَي النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ» «1»

، ثمّ قال: «وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «2»

، وقد كان عند العالم علم لم يُكتب لموسي في الألواح، وكان موسي يظنّ أنّ جميع الأشياء التي يحتاج إليها في تابوته وجميع العلم قد كُتب له في الألواح، كما يظنّ هؤلاء الذين يدّعون أنّهم فقهاء وعلماء وأنّهم قد أثبتوا جميع العلم والفقه في الدين ممّا تحتاج هذه الأُمّة إليه وصحّ لهم عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وعلموه وحفظوه.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 381

وليس كلّ علم رسول اللَّه صلي الله عليه و آله علموه ولا صار إليهم عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ولا عرفوه؛ وذلك أنّ الشي ء من الحلال والحرام والأحكام يرد عليهم فيُسألون عنه ولا يكون عندهم فيه أثر عن رسول اللَّه صلي الله

عليه و آله، ويستحون أن ينسبهم الناس إلي الجهل، ويكرهون أن يُسألوا فلا يجيبوا فيطلب الناس العلم من معدنه.

فلذلك استعملوا الرأي والقياس في دين اللَّه، وتركوا الآثار ودانوا اللَّه بالبدع، وقد قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: كلّ بدعة ضلالة، فلو أنّهم إذا سُئلوا عن شي ء من دين اللَّه فلم يكن عندهم منه أثر عن رسول اللَّه ردّوه إلي اللَّه وإلي الرسول وإلي أُولي الأمر منهم، لعلمه الذين يستنبطونه منهم من آل محمّد صلي الله عليه و آله.

والذي منعهم من طلب العلم منّا العداوة والحسد لنا. لا واللَّه ما حسد موسي عليه السلام العالم، وموسي نبيّ اللَّه يوحي اللَّه إليه حيث لقيه واستنطقه وعرفه بالعلم، ولم يحسده كما حسدتنا هذه الأُمّة بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله علي ما علمناه وما ورثناه عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، ولم يرغبوا إلينا في علمنا كما رغب موسي عليه السلام إلي العالم وسأله الصحبة ليتعلّم منه ويرشده، فلمّا أن سأل العالم ذلك علم العالم أنّ موسي عليه السلام لا يستطيع صحبته ولا يحتمل علمه ولا يصير معه، فعند ذلك قال العالم: «كَيْفَ تَصْبِرُ عَلَي مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا» «1».

فقال موسي عليه السلام له وهو خاضع له يستعطفه علي نفسه كي يقبله «سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا» «2»

، وقد كان العالم يعلم أنّ موسي عليه السلام لا يصبر علي علمه، فكذلك واللَّه يا إسحاق بن عمّار حال قضاة هؤلاء وفقهائهم وجماعتهم اليوم لا يحتملون واللَّه علمنا، لا يقبلوه ولا يطيقونه ولا يأخذون به ولا يصبرون عليه كما لم يصبر موسي عليه السلام علي علم العالم حين صحبه

ورأي ما رأي من علمه، وكان ذلك عند

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 382

موسي عليه السلام مكروهاً وكان عند اللَّه رضاً وهو الحقّ، وكذلك علمنا عند الجهلة مكروه لا يؤخذ وهو عند اللَّه الحقّ» «1».

يشير الإمام عليه السلام في هذه الرواية إلي أنّ العلم بالكتاب المبين ليس هو مجرّد العلم بالمصحف الشريف كي يظنّ من ألمّ بالمصحف الشريف أنّه قد استغني عن علم أهل البيت عليهم السلام، مع أنّ الإحاطة بكلّ المصحف ومحتملاته وتناسبات الآيات مجموعها ضمن منظومة مترامية لا تقف عند حدٍّ مفاداً وعدداً.

وبعبارة أُخري: أنّه وصف القرآن في أُمّ الكتاب وفي اللوح المحفوظ والكتاب المبين وروح القدس بأوصافٍ تختلف عن أوصاف المصحف الشريف، ومن ذلك يتبيّن أنّ نعت الأكبرية للثقل إنّما هي بلحاظ الكتاب المبين وأُمّ الكتاب واللوح المحفوظ، لا بلحاظ مجرّد المصحف الشريف.

ومن الواضح أنّه لا سبيل للناس في الوصول إلي ما في الكتاب المبين وأُمّ الكتاب واللوح المحفوظ إلّاعن طريق أهل البيت الذين يحيطون بذلك ويمسّونه، لا الاقتصار علي مجرّد المصحف الشريف، وقد ذكر في المصحف الشريف أوصاف الكتاب المبين كما ذكر نعت من يحيط به علماً.

أمّا النعت الأوّل كقوله تعالي: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْ ءٍ» «2»

، ممّا يدلّ علي إحاطة الكتاب بكلّ شي ء، وهذا وصف القرآن بالكتاب المبين. وكذلك قوله تعالي: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَايَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبينٍ» «3»

، وقوله تعالي: «وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 383

السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «1».

وقوله تعالي:

«يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» «2»

، وقوله تعالي:

«وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً» «3»

، وقوله تعالي: «وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «4»

، وقوله تعالي: «لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَي جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» «5»

، وأثر التصدع إنّما هو نعت لذلك الوجود من القرآن الكريم، وقوله تعالي: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَي» «6»

، فنعت قدرة تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتي وصف للقرآن بلحاظ ذلك الوجود، ومن الواضح أنّ نعت الأكبر مناسب وأنسب لهذا المقام من القرآن، وأنّ المصحف الشريف والعترة الطاهرة هما السبب الذي بيد الناس من الحبل المتين الممدود، والطرف الآخر من هذا الحبل الذي بيد اللَّه هو أُمّ الكتاب والكتاب المبين واللوح المحفوظ وروح القدس، والنعت بالأكبر هو بلحاظ الطرف الذي بيد اللَّه، وبالأصغر الطرف الذي بيد الناس، ومن المعلوم تنزّل هذا الأكبر بنحوٍ ينطق في الحوادث، ويكون نزولًا وتنزيلًا لكلّ مورد وحدث بنحو وحياني لدني لا يحتمل الخطأ والزلل، إنّما هو بتوسّط العترة، وإن كانت محكمات المصحف باقية علي وصف أنّها تنزّل لأُمّ الكتاب.

أمّا النعت الثاني وهو ورود القرآن بنعت من يحيط بأُمّ الكتاب والكتاب المبين واللوح المحفوظ وروح القدس، كما في قوله تعالي: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 384

مَكْنُونٍ* لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ» «1»

، والمطهّرون الذين شهد لهم القرآن بالطهارة وهم أهل آية التطهير «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً» «2»

، وعرّفهم تعالي في آية أُخري حيث قال:

«بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» «3».

وهذه الآية تفسّر

قوله تعالي المتقدّم: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «4»

، حيث إنّ الآية الكريمة تصرّح بأنّ الكتاب بجملته آيات بينات في صدورهم، مع أنّ المصحف الشريف نعت بأنّ منه آيات محكمات وأُخر متشابهات، بينما وصف الكتاب الذي في صدورهم بأنّه بتمامه آيات بينات.

وروي الكليني بسند معتبر عن الحسن بن العبّاس بن الحريش، عن أبي جعفر الثاني عليه السلام، قال: «قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: بينا أبي عليه السلام يطوف بالكعبة إذ رجل معتجر قد قيض له».

ثمّ ذكر مسائلة إلياس النبيّ للإمام الباقر عليه السلام عن حقيقة علم سيد الأنبياء وعلم أوصياءه، وحقيقة العلم المتنزّل ليلة القدر من أُمّ الكتاب والكتاب المبين، وأنّه يتنزّل علي الوصيّ حجّة اللَّه في أرضه، حيث قال الباقر عليه السلام: «أبي اللَّه عزّوجلّ بعد محمّد صلي الله عليه و آله أن يُترك العباد ولا حجّة عليهم، قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: ثمّ وقف فقال:ها هنا يا ابن

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 385

رسول اللَّه بابٌ غامضٌ، أرأيت إن قالوا: حجّة اللَّه القرآن؟ أي المصحف قال: إذن أقول لهم إنّ القرآن ليس بناطق يأمر وينهي، ولكن للقرآن أهلٌ يأمرون وينهون، وأقول: قد عرضت لبعض أهل الأرض مصيبة ما هي في السنّة والحكم الذي ليس فيه اختلاف وليست في القرآن- أي المصحف- أبي اللَّه لعلمه بتلك الفتنة أن تظهر في الأرض وليس في حكمه رادّ لها ومفرّج عن أهلها، فقال:ها هنا تفلجون يا ابن رسول اللَّه الفتنة أن تظهر في الأرض … أشهد أنّ اللَّه عزّ ذكره قد علم بما يصيب الخلق من مصيبة أو في أنفسهم من الدين أو غيره فوضع القرآن دليلًا قال فقال الرجل هل تدري يا ابن رسول اللَّه

دليل ما هو قال أبو جعفر عليه السلام نعم فيه جمل الحدود وتفسيرها عند الحكم فقال أبي اللَّه أن يصيب عبداً بمصيبة في دينه أو في نفسه أو في ماله ليس في أرضه من حكمه قاض بالصواب في تلك المصيبة قال فقال الرجل أما في هذا الباب فقد فلجتهم بحجة الا أن يفتري خصمكم علي اللَّه فيقول ليس للَّه جلّ ذكره حجة» «1».

فبين عليه السلام أنّ حجّية المعصوم الناطق مهيمنة رتبةً علي حجّية المصحف.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 387

علي مَنْ يتنزّل الروح والملائكة في ليلة القدر؟ … ص: 387

اشارة

لا ريب أنّ ليلة القدر كانت تتنزّل علي خاتم الأنبياء، كما هو نصّ القرآن الكريم في قوله تعالي: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» «1»

، أي أنزلنا القرآن، وكذا سورة الدخان من قوله تعالي: «حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ» «2»

، وقوله تعالي: «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًي لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَي وَالْفُرْقَانِ» «3»

، وهو النزول لجملة القرآن وحقيقته كما تقدّم بيانه، والذي هو الروح النازل ليلة القدر روح القدس، كما أنّه بمقتضي روايات الفريقين التي مرّ استعراضها كانت تتنزّل علي الأنبياء السابقين منذ آدم عليه السلام إلي نبيّنا صلي الله عليه و آله، وهو مقتضي الأدلّة العقلية، حيث إنّ عالم ولوح القضاء والقدر وإمضائه في عالم الدنيا ونشأة الأرض وعالم المادّة الغليظة لابدّ أن يطوي هذه المراحل، فهذه السلسلة التكوينية من العوالم كما هو محرّر في مباحث الحكمة الإلهية لا يختصّ بزمان دون آخر، بل هو من السنن الإلهية في عوالم الخلقة، فمقتضاها الاستمرار من بدء الخلقة البشرية إلي يوم القيامة، فهذا الدليل العقلي يقضي باستمرار وجود من تتنزّل عليه ليلة القدر إلي يوم القيامة بعد سيد الأنبياء، وهذا المعني هو الذي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص:

388

نشاهده بوضوح من دلالة النصّ والسور القرآنية العديدة كحقيقة قرآنية بيّنة، وكذلك في روايات الفريقين كما مرّت الإشارة إلي ذلك.

أمّا الآيات القرآنية الدالّة علي الاستمرار، فمضافاً إلي الضرورة بين المسلمين علي استمرار ليلة القدر، يقع الكلام في معرفة من تتنزّل ليلة القدر عليه بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله؟ فهنا جانبان من البحث:

الأوّل: في استمرار ليلة القدر.

الثاني: علي من تتنزّل ليلة القدر بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله؟

والآيات تفيد كلا الجانبين، كقوله تعالي: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» «1»

، فالتعبير بتنزّل- جملة فعلية بالفعل المضارع الدالّة علي الاستمرار، وكذا قوله في سورة الدخان: «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» «2»

، بنفس التقريب المتقدّم، فإنّه قد وصف الليلة المباركة التي يتنزّل فيها بالجملة الفعلية بالفعل المضارع، وإنّ شأن هذه الليلة علي الدوام أن يُفرق فيها كل أمر حكيم، وأن يُرسل فيها الروح إلي من يصطفيه اللَّه من عباده في الأرض.

نزول الروح وحيٌ رباني: … ص: 388

وأمّا الثاني: كما أنّ نزول الروح والملائكة من كلّ أمر أي بكلّ أمر يقتضي وجود من تُرسل إليه تقادير الأُمور، إذ لا يعقل إرسال من دون مرسل إليه بعد تصريح سورة الدخان وغيرها بإنّه إرسال كما هو إنزال، وتصريحها بالمرسل به

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 389

والمرسل، فلابدّ من وجود مرسل إليه، مع أنّ الآيات الأُخري صرّحت بالمرسل إليه.

وبعبارة أُخري: إنّ نزول الروح في استعمال القرآن هو نمط من الوحي الإلهي في القرآن الكريم ومصطلح قرآني دالّ علي الوحي، وإن كانت أقسام الوحي الإلهي في القرآن الكريم غير منحصرة

بالوحيّ النبوي، كما في مورد مريم وأُمّ موسي وذي القرنين وطالوت وصاحب موسي الخضر- وغيرها من الموارد، ويشير إلي ذلك قوله تعالي: «وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ» «1»

، فلم يخصّص التكليم الإلهي بالأنبياء والرُسل، بل عمّم إلي المصطفَين والحجج من البشر، كما هو الحال في مريم وأُمّ موسي، وقد عبّر عن الوحي بنزول الروح في قوله تعالي:

«قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ» «2»

، وقوله تعالي: «نَزَلَ بِهِ أَلرُّوحُ أَلْأَمِينُ* عَلَي قَلْبِكَ» «3»

، وإن كانت هذه الآية تشير إلي النزول الثاني للقرآن وهو تنزيل المعاني والألفاظ، لكنّه تعبير عن الوحي، وكذا قوله تعالي: «قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَي قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ» «4»

، فنزول الروح اصطلاح قرآني للوحي وإن لم يكن وحياً نبوياً.

وهذا يعني أنّ في ليلة القدر من كلّ عام يقع هذا الوحي الإلهي والنزول، ومن ثمّ عبّر تعالي في سورة الدخان: «حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» «5»

بالإرسال، أي أنّ هذا الروح الأمري مرسل من قبله تعالي إلي مُرسَل إليه من

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 390

البشر، كما في ذيل آية الشوري من قوله تعالي: «أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ» «1»

، فسورة الدخان أيضاً تدلّ علي أنّ في ليلة القدر هناك وحي إلهي عبّرت عنه بالقول: «إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ»، وكذلك في قوله تعالي في سورة النحل: «يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ» «2»

،

فصرّحت الآية الكريمة بأنّ نزول الروح هو علي من يشاء اللَّه أي من يصطفيه لذلك من العباد من دون التقييد بالنبوّة.

فهذا النزول للروح هو وحي وهو نازل علي من يشاء ويصطفيه من عباده، وكذا قوله تعالي في سورة غافر: «ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ» «3»

، وإلقاء الروح الأمري عبارة عن نزوله وإرساله، نظير التعبير بقوله تعالي: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا» «4»

وجعل في الآية الملقي إليه الروح هو من يشاء ويصطفي من عباده من دون التقييد بعنوان النبوّة والرسالة والاصطفاء، فقد تعلّق بمريم، كما تعلّق بطالوت الإمام غير النبيّ في سورة البقرة في قوله تعالي: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ» «5».

قوله تعالي: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا» «6»

الضمير في (جعلناه نوراً) الظاهر عوده إلي الروح الأمري؛ إذ لو كان يعود إلي الروح الذي هو مبتدء الكلام في الآية ويكون المراد أنّ الروح الأمري يجعله اللَّه نوراً ويوحي ويهدي به من يشاء من عباده ويصطفيهم لذلك فيحصل لهم العلم ودراية الكتاب والإيمان.

والحاصل: أنّ تعميمه تعالي إلي من يوحي إليه الروح الأمري غير النبيّ صلي الله عليه و آله

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 391

يدلّ علي عموم ظرف الإيحاء للحجج المصطفين من العباد الإيحاء والوحي به، وقد قرّر في روايات الفريقين كما هو ظاهر سورة القدر والدخان أنّ هذا الوحي غير مرتبط بوحي النبوّة والرسالة، وإنّما هو وحي إلهي مرتبط بتقدير الأُمور وقضائها وإبرامها الذي هو من تأويل الكتاب، وقد عبّر في سورة النحل بأنّ هذا النزول والوحي الإلهي غير النبويّ هو علي من يشاء من

عباده، فعبّر بلفظ عباده ولم يؤت بلفظ أنبيائه أو رسله؛ للدلالة علي العموم عموم المصطفَين الذين اختارتهم المشيئة الإلهية لذلك.

ومقتضي ذلك وجود ثلّة في هذه الأُمّة بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله تتنزّل عليهم الروح ليلة القدر، وقد أُشير إليهم في سورة الواقعة والأحزاب حيث قال تعالي: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ» «1»

، فأخبر أنّ القرآن الذي في الكنّ محفوظ كما في سورة البروج من قوله تعالي: «بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ» «2»

، فأخبر تعالي أنّ القرآن الذي في اللوح المحفوظ والكتاب المكنون لا يمسّه ولا يصل إليه إلّاالمطهّرون، لا المتطهّرون بالوضوء والغسل بل المطهّرون من قبله تعالي بنصّ آية التطهير في سورة الأحزاب: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً» «3».

فيتبيّن من ضمّ الآيات بعضها إلي بعض أنّ من يتنزّل عليه الروح الأمري من يشاء اللَّه ويصطفيه من عباده كما في سورة النحل وهم أهل آية التطهير، فإنّهم يمسّون الكتاب في ليلة القدر في الليلة المباركة.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 392

نسب النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته هو سورة القدر: … ص: 392

حيث يتبيّن ممّا مضي أنّ روح القدس الذي هو القرآن الكريم كما هو ملتحم بروح النبيّ صلي الله عليه و آله كذلك ملتحم بروح أوصياء النبيّ صلي الله عليه و آله من بعده واحد بعد آخر، حيث يتنزّل عليهم الروح ليلة القدر، بل أنّ ظاهر سورة النحل عدم اختصاص التنزّل عليهم بليلة القدر، وقد أشارت إلي ذلك جملة من الروايات عنهم عليهم السلام، فهذا النزول والوحي بهذا الروح لهم هو المعرّف لهويتهم ونسبهم الروحي لشخصية ذواتهم ونسب مقام ذاتهم عليهم السلام.

في صحيحة ابن أُذينة التي رواها الكافي عن أبي

عبداللَّه عليه السلام في صلاة النبيّ صلي الله عليه و آله في السماء في حديث الإسراء، قال عليه السلام: «ثمّ أوحي اللَّه عزّوجلّ إليه: إقرأ يا محمّد نسبة ربّك تبارك وتعالي: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* أَللَّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ» «1»

، وهذا في الركعة الأُولي … ثمّ أوحي اللَّه عزّوجلّ إليه إقرأ بالحمد للَّه، فقرأها مثل ما قرأ أوّلًا، ثمّ أوحي اللَّه عزّوجلّ إليه إقرأ «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ» فإنّها نسبتك ونسبة أهل بيتك إلي يوم القيامة» «2»

، وروي مثله في علل الشرائع، وغيرها من الروايات.

فهذا التعريف لهوية النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام هو نظير تعريف الإنسان بالنطق الذي هو الروح العاقل، أي تمييز وتعريف الشخص بالمراتب العالية الوجودية من ذاته، ونظير ذلك تعريف القرآن النبيّ عيسي عليه السلام بأنّه كلمة اللَّه وأنّه آية، لكن لا يخفي أنّ في آيات خلقة النور في سورة النور و روايات خلق النور يظهر أن أُصول ذواتهم خلقا ما هو أرفع من روح القدس.

وفي رواية بصائر الدرجات عن محمّد بن سليمان الديلمي، عن أبيه، عن أبي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 393

عبداللَّه عليه السلام في حديث عن ولادة الإمام عليه السلام وما يرافق ذلك من مراسم ملكوتية وأنّ الإمام عليه السلام يقول بعد ذلك: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» «1»

، فإذا قالها أعطاه العلم الأوّل والعلم الآخر، واستحقّ زيادة الروح في ليلة القدر «2».

وروي عن الحسن بن عبّاس بن حريش، قال: «قال أبوعبداللَّه عليه السلام: إنّ القلب الذي يعاين ما ينزل في ليلة القدر لعظيم الشأن. قلت: وكيف ذاك يا أبا

عبد اللَّه؟ قال: يُشق واللَّه بطن ذلك الرجل ثمّ يؤخذ ويكتب عليه بمداد النور ذلك العلم، ثمّ يكون القلب مصحفاً للبصر، ويكون الأذن واعيةً للبصر، ويكون اللسان مترجماً للأذن، إذا أراد ذلك الرجل علم شي ء نظر ببصره وقلبه فكأنّه ينظر في كتاب».. الحديث «3».

والمراد من شقّ البطن أي انفتاح نوافذ الروح، وقريب من ذلك ما روي في معاني الأخبار بسنده إلي الأصبغ بن نباتة، قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «يا علي، أتدري ما معني ليلة القدر؟ فقلت: لا يا رسول اللَّه، فقال: إنّ اللَّه تبارك وتعالي قدّر فيها ما هو كائن إلي يوم القيامة، وكان فيما قدّر عزّوجلّ ولايتك وولاية الأئمّة من ولدك إلي يوم القيامة» «4»

. وروي مثلها بإسناده المتّصل عن المفضّل بن عمر عنه عليه السلام.

فكون الروح النازل وهو روح القدس وهو أحد أرواحهم عليهم السلام يبيّن هوية ولايتهم والتي هي الكتاب المبين، وقد تقدّم نعوت الكتاب المبين وآثار القدرة والولاية التكوينية له، ووصفه بالمجد في سورة البروج والكرامة في سورة الواقعة، إشارة إلي آثار القدرة لحقيقة الكتاب التي هي روح القدس.

وفي صحيحة جابر الجعفي، قال: قال أبوعبداللَّه عليه السلام في حديث عن أصناف

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 394

الخلق: «فالسابقون هم رسول اللَّه وخاصّة اللَّه من خلقه، جعل فيهم خمسة أرواح: أيدهم بروح القدس فبه عرفوا الأشياء، وأيدهم بروح الإيمان فبه خافوا اللَّه عزّوجلّ، وأيدهم بروح القوّة فبه قدروا علي طاعة اللَّه، وأيدهم بروح الشهوة فبه اشتهوا طاعة اللَّه عزّوجلّ وكرهوا معصيته، وجعل فيهم روح المدرج الذي به يذهب الناس ويجيئون» «1».

وفي رواية أُخري لجابر عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: «سألته عن علم العالم؟ فقال لي: يا جابر، إنّ

في الأنبياء والأوصياء خمسة أرواح: روح القدس وروح الإيمان وروح الحياة وروح القوة وروح الشهوة، فبروح القدس يا جابر عرفوا ما تحت العرش إلي ما تحت الثري. ثمّ قال: يا جابر، إنّ هذه الأربعة أرواح يصيبها الحدثان إلّاروح القدس فإنّها لا تلهو ولا تلعب» «2».

وفي رواية المفضّل بن عمر عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «سألته عن علم الإمام بما في أقطار الأرض وهو في بيته مرخي عليه ستره؟ فقال: يا مفضّل، إنّ اللَّه تبارك وتعالي جعل في النبيّ صلي الله عليه و آله خمسة أرواح: … وروح القدس فبه حمل النبوّة فإذا قُبض النبيّ صلي الله عليه و آله انتقل روح القدس فصار إلي الإمام، وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يزهو والأربعة الأرواح تنام وتغفل وتزهو وتلهو، وروح القدس كان يُري به» «3».

وهذه النعوت لروح القدس المذكورة فيهم وهو النازل عليهم ليلة القدر، بل وفي غيرها أيضاً كما هو مقتضي سورة النحل «4» وسورة غافر «5»، حيث لم يقيّد إنزاله بوقت خاصّ، وروح القدس النازل الملتحم بأرواحهم المتّصل بها كما هو

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 395

معني الوحي في الحكمة والعلوم العقلية، قد عرّف وطوبق في سورة الدخان بالكتاب المبين: «حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» «1»

، فجُعل الكتاب المبين هو الروح النازل في ليلة القدر.

وقد تقدّم وصف الكتاب المبين بأنّه يُستطرّ فيه كلّ شي ء وكلّ غائبة في السماوات والأرض وكلّ صغيرة وكبيرة، وهو القرآن الكريم في الكتاب المكنون والقرآن المجيد في اللوح المحفوظ، وهذا معني قوله عليه السلام: «فبه حمل النبوة»، وقوله عليه السلام: «كان يُري

به»، أي ما في أقطار الأرض وما في عنان السماء وما دون العرش وما تحت الثري، وقوله عليه السلام: «فبه عرفوا الأشياء».

روح القدس وراثتهم عليه السلام للكتاب وعلوم النبيّ صلي الله عليه و آله: … ص: 395

فقوله عليه السلام في الرواية السابقة للمفضّل عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «إذا قُبض النبيّ صلي الله عليه و آله انتقل روح القدس فصار إلي الإمام»، هو معني وراثتهم عليهم السلام للكتاب أي لحقيقة الكتاب الذي هو مكنون ولوح محفوظ، لا للمصحف الشريف الذي هو الوجود المنقوش للقرآن الكريم، فقوله تعالي: «وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ* ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» «2»

يشير إلي الوراثة التكوينية لحقيقة الكتاب بوجوده الوحياني في عالم الوحي، لا الكتاب بوجوده المنقوش في المصحف، من هنا فإنّ تخصيص الوراثة بالمصطفَين من العباد، فإنّ الإصطفاء هو الطهارة الروحية الخاصّة اللدنية

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 396

التي يتأهّل بها المصطفون من العباد للوحي الإلهي الأعمّ من الوحي النبويّ وغيره، كما في تأهّل مريم لمحادثة الملائكة لها ووحي اللَّه لها مباشرة، كما في سورة آل عمران.

ومن ثمّ تري نسق التعبير والتركيب في الآية الكريمة علي نسق التعبير في سورة النحل: «يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ» «1»

، فالتعبير فيها علي من يشاء من عباده أي من يختار ويصطفي، فوراثة الكتاب نزول الروح وهي وحي حقيقة الكتاب، كما في سورة الشوري: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ» «2»

، وكذلك يتناغم التعبير بين كلّ من آية فاطر وآية النحل وآية الدخان وآية

غافر حيث ذكر مع نزول الكتاب المبين ونزول روح القدس في ليلة القدر وغيرها حصول الإنذار والإرسال، وقد أسند فعل الإنذار إلي غير الأنبياء وغير الأوصياء ممّن يجوز عليهم الخطأ في موارد من القرآن الكريم، كما في آية التفقّه في سورة البراءة «3»، فكيف يستبعد إطلاقه علي كلام الأوصياء.

فإرسال الروح وحصول الإنذار لا يختصّ بالوحي النبويّ، بل يعمّ الوحي غير النبويّ وراثة بعد الأنبياء، كما تعلّق البعث الإلهي بطالوت الإمام مع عدم كونه نبيّاً في قوله تعالي علي لسان نبيّ من بني إسرائيل: «قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا» «4».

وأمّا التعبير بالآية: «فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ» «5»

فالضمير ليس عائد إلي الذين اصطفينا بل إلي عبادنا، أي أنّ عبادنا بعضٌ ظالم

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 397

لنفسه وبعضٌ مقتصد وبعضٌ سابق بالخيرات، كما أنّ الذين اصطفيناهم بعضٌ من عبادنا، فلفظ (من) التي تكرّرت أربع مرّات في الآية بمعني بعض؛ وإلّا كيف يصطفي اللَّه الظالم لنفسه؟

ومنه يُعرف أنّ المراد من السابق بالخيرات هم الذين اصطُفوا من العباد، وأنّهم الأئمّة، وأنّ الإمامة وهي وراثة الكتاب هي الفضل الكبير، والتعبير بالسابق بالخيرات بإذن اللَّه يقرب من التعبير في سورة الأنبياء في قوله تعالي:

«وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ» «1»

، فكما جعل في آية فاطر السبق بإذن اللَّه اصطفائي لدني، فكذلك في آية الأنبياء جعل إبراهيم وإسحاق ويعقوب أئمّة يهدون بأمر اللَّه، وأنّ فعل الخيرات منهم بوحي تسديدي من اللَّه، وأنّ هذا الأمر ليس أمراً إنشائياً بل هو أمر تكويني الذي أُشير إليه في سورة النحل بقوله تعالي: «يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ» «2».

وكذلك في سورة القدر

قوله تعالي: «تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» «3»

وكذلك في سورة الشوري قوله تعالي: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ» «4»

، وهذا ممّا يشير أنّ روح القدس من عالم الأمر الملكوتي الابداعي.

وقد ذُكر عالم الأمر في قوله تعالي «أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ» «5»

، وقوله تعالي: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» «6»

،

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 398

وقوله تعالي: «وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» «1»

، أي أنّه من عالم الإبداع لا الخلق التقديري، ومن ثمّ ورد أنّ تقدير السماوات والأرض أي عالم الملك والمادة أي ما يشمل عالم الدنيا وعالم البرزخ- كلّ ذلك قد قُدّر في ليلة القدر.

وقد مرّ في الروايات أنّ تقدير ولاية أمير المؤمنين عليه السلام في مقامها التكويني قد قدّر في ليلة القدر، فقد روي الصدوق في معاني الأخبار بإسناده إلي المفضّل بن عمر، قال: «ذكر عند أبي عبد اللَّه عليه السلام إنا أنزلناه في ليلة القدر، قال: ما أبين فضلها علي السور. قال: قلت: وأي شي ء فضلها؟ قال: نزلت ولاية أمير المؤمنين عليه السلام فيها. قلت: في ليلة القدر التي نرتجيها؟ قال: نعم، هي ليلة قدّرت فيها السماوات والأرض، وقدّرت ولاية أمير المؤمنين عليه السلام فيها».

ولا يخفي التعريض في كلامه عليه السلام بين تقدير السماوات والأرض وتقدير ولاية أمير المؤمنين من الناحية الكونية التكوينية، ودور روح القدس، وتناسب سجود الملائكة كلّهم أجمعين، أي طاعتهم لخليفة اللَّه في الأرض كما في سورة البقرة وغيرها من السور، سواء ملائكة الأرض أو ملائكة السماوات أو ملائكة الجنّة والنار.

وقد ورد أيضاً أنّ روح القدس أعظم خلقاً، ففي صحيح أبي بصير،

قال:

«سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن قول اللَّه تبارك وتعالي: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ» «2»

؟ قال: خلق من خلق اللَّه عزّوجلّ أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يخبره ويسدّده، وهو مع الأئمّة من بعده» «3».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 399

وفي صحيحه الآخر قال: «سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن قول اللَّه عزّوجلّ «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» «1»

؟ قال: خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وهو مع الأئمّة وهو من الملكوت» «2».

وفي معتبر أسباط بن سالم عنه عليه السلام: «منذ أنزل اللَّه عزّوجلّ ذلك الروح علي محمّد صلي الله عليه و آله ما صعد إلي السماء وإنّه لفينا» «3».

وفي صحيح سعد الإسكافي، قال: «أتي رجلٌ أميرَ المؤمنين عليه السلام يسأله عن الروح أليس هو جبرئيل؟ فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: جبرئيل عليه السلام من الملائكة والروح غير جبرئيل، فكرّر ذلك علي الرجل، فقال له: لقد قلتَ عظيماً من القول ما أحد يزعم أنّ الروح غير جبرئيل، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: إنّك ضالّ تروي عن أهل الضلال، يقول اللَّه تعالي لنبيّه صلي الله عليه و آله: «أَتَي أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَي عَمَّا يُشْرِكُونَ* يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ» «4»

، والروح غير الملائكة صلوات اللَّه عليهم» «5».

وحيث كانت ليلة القدر وراثة الكتاب بنزول روح القدس الذي هو حقيقة الكتاب، ورد عن أبي جعفر عليه السلام قال: «يا معشر الشيعة خاصموا بسورة «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ» تفلحوا؛ فواللَّه إنّها لحجّة اللَّه تبارك وتعالي علي الخلق بعد رسول اللَّه صلي

الله عليه و آله، وأنّها لسيدة دينكم وأنّها لغاية علمنا، يا معشر الشيعة خاصموا ب «حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ» «6»

، فإنّها لولاة الأمر خاصّة بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله» «7».

ولا يخفي أنّ في كلامه عليه السلام محطّات للتدبير والغور، منها: وصفه لسورة القدر

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 400

أنّها سيدة دينكم إي حقيقتها مرتبطة بإلامامة الالهية، وفيه إشارة لكون الامام الناطق ثقل أكبر مهيمن علي حجّته المصحف.

ومنها: قوله (وأنّها لغاية علمناه) أي أنّ عمده ما ورثوه من العلم عن النبيّ صلي الله عليه و آله هو بتوسّط روح القدس، لا الطرق السماعية والرواية.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 401

حاضر المعرفة

الفصل الثامن: معتقدات الإمامة والمهدي (عج) … ص: 401

اشارة

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 403

المقالة الاولي العلم اللدني والولاية الشريعة بحسب الظاهر وسنن النظام الكوني … ص: 403

العلم اللدني المقوّم لماهية الإمامة: … ص: 403

وقبل الخوض في ذلك يجدر الإلفات إلي النقاط التالية:

1- البحث يرتبط بصلة وثيقة بالفصول السابقة من الجزء الأوّل من كتاب الإمامة.

2- غالب البحث سيكون ذا طابع قرآني، وذلك بعد التنبّه إلي نكات الظهور بتوسّط روايات أهل البيت عليهم السلام.

3- تذكير بنقاط مستخلصة ممّا سبق:

أ- تعريف الإمامة: والذي تقدّم مفصّلًا في الفصل الثالث من الجزء الأوّل- باختصار: إنّ ما ذكره باقتضاب واختزال المتكلّمون- حتّي الشيعة منهم في تعريف الإمامة- موهم أنّ مقام الإمامة عبارة عن الزعامة والرئاسة الاعتبارية الاجتماعية فقط؛ لخلوّه من التنويه إلي ارتباط المعصوم بمقام الغيب، ومن ثمّ أوهم التعريف المزبور أنّ الإمام كأيّ عالم آخر، سوي أنّه في درجة متقدّمة، ممّا أوقع الكثير في شبهات حول الإمامة..

وذكرنا في الفصول السابقة المفهوم الذي اخترناه لمعني الإمامة، وأنّ ما ذكره المتكلّمون وبعض الحكماء من الإمامية في تعريف الإمامة لا يستوعب جميع

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 404

جوانب الإمام. فالمتكلّمون اقتصروا علي الرئاسة الدينية والدنيوية، وهذا قصر للإمامة علي الزعامة السياسية والولاية التشريعية، بل إنّ البعض اقتصر علي حفظ الدين، ومن الواضح أنّ هذا التعريف وأمثاله أهمل الإشارة إلي مقام الإمام ومنبع علمه هل هو القناة الحسيّة أم أُخري غيبية يمتاز بها عن بقية البشر، وهذا الإهمال وقصر حقيقة الإمامة علي الشأن الدنيوي هو الذي أوقع كثير من المتأخّرين في العديد من الإشكالات التي لم يجدوا لها جواباً شافياً علي هذا التفسير للإمامة.

ومن هنا حدّدنا في الفصول السابقة الأركان والمحاور الأساسية التي تبتني عليها حقيقة الإمامة وماهيتها، وهي:

1- الهداية الإرائية: ويقصد بها التبليغ والتشريع وإراءة الطريق للمؤمنين، وهذه تعتمد علي أنّ للإمام علم لدني وقناة غيبية يستقي منها علومه، وهي ليست من سنخ

النبوّة، بل هي وحي بالمعني الأعمّ، كما ورد عنهم عليهم السلام في الزيارات ما مضمونه: «إنّ الإمامة سفارة إلهية».

2- الهداية الإيصالية: وهي حيثية ولائية مولوية وقدرة، وقد عرّفها العلّامة الطباطبائي في الميزان في ذيل آية «وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ» «1»

، «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا» «2».

قيادة المعصوم للنفوس وإيصالها إلي المنازل المعنوية الكمالية، وهاتان النقطتان من المحاور الأساسية في حقيقة الإمامة، وقد مثّلنا لهما بقوّة العقل النظري والعملي في الإنسان الصغير، وبمقتضي التطابق بين الإنسان الصغير والكبير يمكن معرفة كثير من خصائص الإمامة في مقام الهداية الإرائية والإيصالية.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 405

فالهداية الإرائية تتمّ عبر قناة التبليغ، وعبر قناة الاتّصال …

والهداية الإيصالية للمعصوم تتمّ كما في قوّة العقل العملي «1» من دون إلجاء وإجبار، حيث يشوّق ويحثّ ويجذب من دون قهر لقوي الإنسان الأخري، فالهداية الإيصالية تتمّ من دون أن يكون هناك سلب للإرادة والاختيار.

3- إنّ الأصل الاشتقاقي للإمامة هو من أمّ يؤمّ، وهي تتضمّن خاصّية المتابعة من المأموم للإمام، وهي تتضمّن استمرارية السير والحركة الشعورية الدائمة، وعدم التوقّف والجمود، فلا يكون صرف الإراءة محقّقاً للإئتمام، بل هي والإيصالية.

4- لابدّ للسير والحركة من غاية، وبدون هذه الغاية لا تتحقّق ماهية الإمامة.

وكلّ هذا ممّا حدا بالمحدّثين والمفسّرين والفلاسفة لدفع الإيهام في تعريف المتكلّمين بالإلفات إلي أنّ الإمامة سفارة إلهية..

ومن ثمّ ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: «أنا سفير السفراء» «2»

، وكذا عبّر الإمام الهادي عليه السلام في زيارته لجدّه أمير المؤمنين عليه السلام يوم الغدير: «يا أمين اللَّه في أرضه

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 406

وسفيره في خلقه»، وفي زيارته عليه السلام ليلة المبعث ويومه أوردها المفيد وابن طاووس والشهيد: «وعيبة علم اللَّه وسفير اللَّه في خلقه»، وفي البحار:

«سفير السفراء»، وفي زيارة الإمام الحسين عليه السلام الرجبية: «السلام عليك يا سفير اللَّه وابن سفيره»، رواه المفيد وابن طاووس والشهيد.

فإنّها عبارة عن: الهداية الإرائية والإيصالية.

ومنبع الإرائية: الوحي والغيب، ولكنّه بالمعني الأعمّ، وليس علي حدّ النبوّة..

ومنبع الإيصالية: القدرة والولاية، كما ذكر ذلك الطباطبائي في ذيل آية: «إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا» «1»

، و «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً» «2»

، أنّه: قيادة المعصوم للنفوس وإيصالها إلي المنازل المعنوية والكمالية..

علماً أنّه اقتصر علي هذا البعد في تعريفها، مع أنّ الصحيح أنّها هداية إرائية أيضاً؛ استناداً إلي مجموعة أدلّة سبقت الإشارة إليها.

وقال المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية في تعريف الإمامة: الرئاسة المعنوية الكبري في الدين والدنيا المنبعثة عن كمال نفسه المقدّسة التي من شؤونها الروحانية وساطتها للفيض وكونها مجري الفيض النازل من سماء عالم الربوبية، وعليه ينطبق كمال الانطباق قولهم: «مجاري الأُمور بيد العلماء باللَّه» دون الفقيه الذي هو بما هو فقيه- عالم بأحكام اللَّه لا باللَّه «3».

وجعل قدس سره هذا التعريف من الرئاسة المعنوية، أي الروحية والتكوينية في قبال الرئاسة الاعتبارية المجعولة تشريعاً من اللَّه تعالي في أُمور الدنيا والدين، وأنّها من المناصب المجعولة الاعتبارية «4»، بخلاف المعني الأوّل، فإنّه من المعاني

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 407

التكوينية. وجعل التقابل بين هذين المعنيين نظير التقابل بين معني النبوّة، فإنّ المعني التكويني لها عبارة عن:

أوّلًا: إنّها من الصفات الواقعية ومرتبته عالية من الكمالات النفسانية، وهو تلقّي المعارف الإلهية والأحكام الدينية من المبادئ العالية بلا توسّط بشر، وصيرورة نفسه المقدّسة مجلي المعارف والأحكام معني بلوغها درجة النبوّة.

ثانياً: إنّها معني إعتباري من المناصب المجعولة، بمعني جعله مخبراً ومبلّغاً عن اللَّه تعالي وسفيراً تشريعاً- إلي خلقه «1».

هذا ويلاحظ علي تعريفه قدس سره إنّما جعله منشأ الرئاسة التكوينية، كمال

نفسه المقدّسة ووساطته للفيض علي النفوس والأرواح ومجاري الأُمور هو الأولي أن يجعل أصلًا في التعريف، وبجعل رئاسته التكوينية وقدرة تصرّفه في الخارج شأن من شؤون حقيقة الإمامة فضلًا عن الرئاسة الاعتبارية القانونية في الدين والدنيا، كما أشار هو قدس سره إلي خطأ جعل الرئاسة الاعتبارية هي الأصل في تعريف الإمامة. كما أنّ هناك فارقاً آخر بين الإمام المعصوم والفقيه مضافاً إلي ما ذكره من الفارق الأول هو أنّ الفقيه لا يحيط بأحكام اللَّه تعالي في اللوح المحفوظ بتمامها، كما أنّ علمه بأحكام اللَّه هو من وراء حجاب عالم دلالات الألفاظ وبتوسط تركيب الدلالة وتناسباتها، ومن ثمّ قد يصيب في تأليف الدلالة باستكشاف الواقع وقد يخطئ، بل في جملة من المواضع يغيب عنه شطر واسع من النصوص اللفظية، فهو لا يحيط بالأحكام الظاهرية فضلًا عن منظومة الأحكام الواقعية، بل قد يكون ما قد توصّل إليه حكماً تخيّلياً لا ظاهرياً كما نبّه علي ذلك علماء الأُصول في مبحث الأجزاء، إلي غير ذلك من الفوارق.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 408

هذا وسيأتي في كلام البياضي في (الصراط المستقيم) وهو من علماء القرن التاسع ما يظهر منه التفطّن إلي هذه الجهات في تعريف الإمامة الإلهية.

وقد مثّلنا هاتين الهدايتين بالعقل النظري والعلمي، فالإمام هو العقل النظري للإنسان الكبير وعالم التكوين، وهو العقل العملي كذلك..

وكلّما تدبّرنا في خصوصيات العقلين نجدها في الإمام، بما في ذلك أنّهما لا يقهران الإرادة ولا يسلبان الاختيار، كذلك الإمام لا يقهر الإرادة ولا يسلب الاختيار، وإنما يُعلِّم ويشوّق فقط..

بل إنّ العقل مرتبط بالعلم الحصولي والإنسان يمتلك علماً آخر وهو العلم الحضوري، والذي ذكرت له مراتب تبدأ بالقلب فالسرّ والخفي والأخفي..

كذلك الإمام هو هادي في رتبة العلم الحضوري

أيضاً، علماً أنّ الهدايتين في هذه المرتبة تندّكان بوجود واحد بسيط..

وعندما نرجع إلي اللغة حيث إنّ الأصل الاشتقاقي للإمامة هو من أمّ يأمُ نلاحظ أنّ الإمامة في الوقت الذي تستبطن الخصوصيتين (الإراءة والإيصال)، تستبطن الحركة والسير والمتابعة للإمام نحو غاية ما عن شعور واختيار..

ومن ثمّ لم يكن صرف الإراءة محقّقاً للإئتمام، وصرف الإيصال كذلك؛ لأنّه سيكون لا عن شعور..

ب- البطون والتأويل في تعريف جديد: إنّ السائد في فهم البطون وتفسيره: أنّه التأويل الذي لا يمكن الوصول إليه عبر منصّة الظاهر ومن خلال موازين الظهور..

إلّا أنّ الاتّجاه المعاصر أخذ ينحو منحيً آخر في فهم وتعريف البطون تبعاً للآيات وكثير من الروايات، وهو: المعني الذي لا يمكن للذهن العادي غير المعصوم الوصول إليه بنفسه عبر منصّة الظهور.. أي أنّ البطون هو قسم من

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 409

الظهور لكن لا يهتدي بغير المعصوم إلي تأليف موازين اللفظ والدلالة من مختلف القرائن والمناسبات ونضد المقدّمات الدقيقة لتحصيل مفاده من منصّة الظهور الأوّلي.

وهو يعني أنّه ليس هناك باطن غير ظاهر، سوي أن استنطاقه من النصّ غير متاح لكلّ أحد، وإنّما هو خاصّ بالمعصوم..

وعلي ضوء هذا يفهم قول الصادق عليه السلام: «قد ولدني رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وأنا أعلم كتاب اللَّه وفيه بدء الخلق وما هو كائن إلي يوم القيامة وفيه خبر السماء وخبر الأرض وخبر الجنّة وخبر النار وخبر ما كان وخبر ما هو كائن أعلم ذلك كما أنظر إلي كفي ان اللَّه يقول: «تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «1»» «2».

ويفهم حثّه عليه السلام أصحابه كما في موثق أبي الجارود قال: قال أبو جعفر عليه السلام: «إذا حدّثتكم بشي ء فاسألوني من كتاب اللَّه، ثمّ قال في بعض حديثه: إنّ

رسول اللَّه صلي الله عليه و آله نهي عن القيل والقال وفساد المال وكثرة السؤال، فقيل له: يا ابن رسول اللَّه أين هذا من كتاب اللَّه؟ قال: إنّ اللَّه عزّوجلّ يقول: «لَاخَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ» «3»

وقال: «وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً» «4»

وقال: «لَاتَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ» «5»

» الحديث «6».

وهذا طبيعي بعد أن كان مصحف الكتاب العزيز نسخة من لوح التكوين وتنزيلًا له..

فيوجد تعريفان للباطن:

أحدهما: هو الذي يعتبر من التأويل الذي لا يمكن الوصول إليه عبر منصّة

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 410

الظاهر وموازينه، وهذا هو التعريف المشهور علي ألسنة الكثير من المحقّقين.

والثاني: هو نحو من الظهور الذي لا يمكن للأذهان العادية الوصول إليه إلّا عبر تعليم المعصوم، فهو ليس في قبال الظاهر، بل هو قسم من الظاهر، وهو غير ممتنع علي أحد بل هو مفتوح، إلّاأنّ الوصول إليه يتمّ عبر مناسبات وتأليف للمقدّمات الدقيقة العميقة التي لا تهتدي الأذهان العادية إلي الوصول إليها، وهذا لا يجعله خفياً بل يكون حاله حال علم الرياضيات الذي يعتمد علي الأوّليات البديهية ومع ذلك ما زالت ما لا تحصي من المسائل الرياضية متعسّرٌ علي الذهن العادي حلّها، وهو لا يخرجها عن حدود علم الرياضيات.

والذي نختاره هو المعني الثاني؛ لأنّا نراه أقرب إلي مسلك الأئمّة عليهم السلام، حيث كانوا يحثّون أصحابهم علي استنطاق القرآن الكريم بإرشادهم إلي أوجه الدلالة، وترغيبهم في السؤال عن مصدر الحكم، والإشارة إلي المناسبات المتعدّدة والقرائن التي تكون محفوفة بالآيات، وتجميع الآيات المتفرّقة بنحو برهاني، وما استدلال الإمام بالقرآن علي روايات الطينة إلّامن هذا القبيل. وبناءً علي هذا نقول:

أ- إنّ

روايات الأئمّة عليهم السلام في ذيل الآيات لا تكون أمراً مستقلّاً عن الآيات ومخالفة للظاهر، بل يجب اعتمادها كملاحق وتبصرات للأُصول القانونية ولأُسس المعارف، وهذا من الناحية العلمية له فوائد جمّة.

ب- إنّ التعامل مع الروايات الواردة في تفسير الآيات لا يكون علي أساس مجرّد التعبّد فقط، بل يكون علي أساس الإرشاد والإشارة أيضاً إلي كيفية سلوك موازين الظاهر، وإيجاد المناسبات للوصول إلي البطون. وهذا التفسير في كلّ آية آية لا يمكن للعقول الاهتداء إليه إلّابهداية المعصوم، ومن ثمّ التنبّه إلي إعمال الموازين الدلالية في الوصول إليه.

وهذه الطريقة هي التي يجب اتّباعها في استخلاص هذه البطون، وسوف

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 411

تكون مرتبة من مراتب الظهور، وسوف يكون هذا المنهج برهاناً دلالياً لمذهب أهل البيت عليهم السلام، وقد ورد عنهم عليهم السلام: «من أخذ دينه من كتاب اللَّه وسنّة نبيّه صلي الله عليه و آله زالت الجبال قبل أن يزول» «1».

د- إنّ الطريقة التي نريد تطبيقها في فهم الآيات القرآنية تعتمد علي الظهورات الابتدائية للآيات، وتكون نقطة الانطلاق في أيّ فهم آخر.

ه- إنّ الإعتماد علي القرائن العقلية يكون تامّاً بشرط أن تعتمد علي العقل البيّن، وكلّما أمكن تقليل الاعتماد علي العقل النظري يكون أجدر وأصحّ.

وهذا لا يعني أنّه علي التفسير الأوّل للباطن يتمّ التسليم بتهمة الباطنية أو عدم وجوب الإيمان به؛ لأنّه ليس من الظاهر؛ وذلك لأنّ الإيمان بالظاهر دون الباطن الذي هو الغيب والتأويل- كفر، والإيمان بالباطن دون الظاهر هو كفر أيضاً، بل يجب الإيمان بهما معاً. وعليه، فإنّ الذي يقع مورد الثواب والعقاب هو الشريعة الظاهرة ومدي العمل بواجباتها ومحرّماتها، وعدم الالتزام بها والالتفات إلي الباطن فقط زيغ. ومن الجهة الثانية أيضاً إن الاقتصار علي

الظاهر فقط يكون تركاً للتأويل الحقّ الذي هو الباطن الخفي، ويصبح من الشاذّ والنادر مع مرور الزمن، فلذا يجب الالتزام بهما معاً، والدمج بينهما.

ومن ثمّ تجد أنّ المعصوم عليه السلام في أخبار الطينة الغامضة يستنطقون فيها ألفاظ القرآن، وبالتأمّل نلحظ أنّ القرآن ظاهر في ذلك لنكات كانت خفية علينا، لا أنّه من باب الجري وذكر المصداق..

بل ظاهرة البطون أي المعاني الغامضة المعقّدة الخفية- ليست خاصّة بالمعارف الدينية، بل نجد ذلك في مثل علم الرياضيات، فإنّه في حين كونه

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 412

بديهياً وتقلّ إن لم تنعدم- فيه الفرضيات، إلّاأنّه ما زالت هناك مجهولات لم يوفّق لحلّها كبار العلماء مع قبولهم وجود الحلّ في داخل البديهيات الرياضية، سوي أنّهم لم يتمكّنوا من التفطّن لكيفية تنظيم المعادلات بحيث يتوصّل بها لحلّ المجهول «1»، وكذلك نجدها في مسابقات الأدب، فإن مهرة الأدب يخوضون في التحليل الأدبي إلي درجات عميقة في النصّ يعجز كثير من أبناء اللغة بل بقية

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 413

الأدباء في الوصول إليها، نظير ترسيم شخصّية صاحب النصّ وبيئته وخلفيته العلمية وخلقه وتاريخه، إلي غير ذلك من العوامل والبيئات التي ترتبط بصاحب النصّ، كلّ ذلك من خلال مقطوعة لفظية يدرسها ويحلّلها الأديب البارع. ولقد كانت المسابقات الأدبية معهودة عند عرب الجاهلية حيث كانوا يتعاطون في سوق عكاظ حول القصائد الشعرية والمقطوعات النثرية عند من برز نجمه في الأدب.

والنتيجة: أنّ الروايات التفسيرية ليست مجرّد تعبّدية إجمالية محضة، بل مدلّلة مُبيّنة علي التفسير الثاني للبطون التأويلي الخفي لأنّ فيها إرشاداً إلي كيفية الاستفادة من الظهور القرآني، بخلافه علي المعني الأوّل؛ فإنّها لا تعدو التعبّد بمعني الذي لا نعرف موازينه ولم نتعرّف عليها..

في حين أنّها علي الفهم الثاني للبطون

ستكون شرحاً وتفصيلًا للقرآن الذي هو بمثابة الدستور كما ذكر السيد البروجردي تبعاً لمنهج العلّامة المجلسي في البحار.

وبهذا الفهم يتمّ القضاء علي الشبهة الموجّهة للشيعة الإمامية بأنّها فرقة باطنية غنوصيّة لا تعلن عن أفكارها ومتبنياتها؛ إذ عرفت أنّ الشيعة لا تعتقد ولا تتبنّي فكرة إلّاوهي ظاهرة مآلًا من القرآن والسنّة «1».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 414

وعلي أساس هذا الفهم يمكن الدعوة إلي تأسيس تفسير جديد يعتمد الكشف عن خفايا الظهور ومعادلاته وتناسباته بتوسّط روايات أهل البيت عليهم السلام بإضافة الاعتماد علي العقل البديهي، وإن كانت نقطة الانطلاق هي من الظهورات الابتدائية للآيات.

وستظهر النتيجة في واحدة من صورها بالشكل التالي: «من عرف حقّنا من الكتاب زالت الجبال ولم يزل إيمانه».

ج- وغاية البحث في هذا الرافد: أنّ القرآن ينوّه ويشير إلي حجج غير الأنبياء والرسل، وأنّهم يقومون بدورهم في الأرض بتوسّط وبركة العلم اللدني كالأنبياء والرسل، مع بيان لحدود هذا العلم بحيث يفرزه عن علم النبوّة والرسالة.

د- (منهج البحث) خطوط البحث: سيتمّ الحديث فيما سيأتي ضمن التسلسل التالي: بعد التذكير أنّ سمة الحديث ستكون قرآنية:

1- استعراض الآيات المستعرضة لنماذج الإمامة والأئمّة الذين قاموا بدورهم

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 415

الملقي علي عاتقهم في الأرض بعلمهم اللدني.

2- إرسال الرسول يؤدّي إلي ثمرة وهي الإمامة، وأنّ القرآن يثبت أنّ الغاية هي الإمامة الثابتة لجملة من الرسل وأبنائهم؛ فإنّ جملة من الأنبياء كانوا أئمّة أيضاً:

«وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ» «1»

، وقوله تعالي:

«إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا..» «2»

، وكذلك الحال في سيد الرسل، بل هو صلي الله عليه و آله إمام الأئمّة.

3- استعراض الآيات المبينة للسيرة النبويّة في إمامة المجتمع البشري، أو السيرة الإلهية التي أمر اللَّه تعالي نبيّه بها في الحكم

وقيادة الناس وأنّها تقتضي مقام الإمامة له صلي الله عليه و آله، وهو يغاير مقام النبوّة.

4- الشرح القرآني لماهيات المناصب الإلهية وأقسام الحجج الإلهية.

5- بيان القرآن للمعاد والسير إلي اللَّه واستلزامه لوجود منصب الإمامة.

ه- (فوارق النبوّة والإمامة): قبل الدخول في صلب البحث، لابدّ من الوقوف علي حقيقة العلم اللدني المقوّم لماهية الإمامة وما ينتج عن هذا من معرفة حقيقة الشريعة في مقابل ظاهر الشريعة، وهو ما قد يعبّر عنه بالشريعة التكوينية والسنّة الإلهية الكونية، كما ذُكر في قصّة الخضر عليه السلام مع موسي عليه السلام في سورة الكهف، وكقضاء داود من غير بيّنة، وكحكومة سليمان وذي القرنين عليه السلام بتوسّط الأسباب اللدنية.

وقد يعبّر عن الشريعة التكوينية والسنّة الإلهية الكونية بالولاية الشاملة للطريقة والحقيقة، كما جاء في تفسير قوله تعالي: «وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَي الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 416

مَاءً غَدَقًا» «1»

بأنّ الطريقة هي ولاية أمير المؤمنين عليه السلام، وعن الشريعة الظاهرة بالنبوّة، وإن كان سيد الأنبياء صلي الله عليه و آله قد جمع أعظم مقامات الولاية والنبوّة.

ولابدّ من الالتفات إلي أنّ الشريعة واحدة حدوداً وموازيناً، إلّاأنّ الفرق هو آلة التطبيق، ولا يخفي أنّ البطون والباطن يطلق علي عدّة معانٍ كالتأويل والغيب، وفي مقابل ذلك قد يطلق علي التخليط والخبط والنزوع الروحي والنفساني والإيحائي، أو الغرائب مع عدم التقيّد بالموازين والأدلّة والحجج ونحو ذلك. وقد يطلق علي المعاني الغامضة الخفية أو الحقائق المستورة، والمراد في المقام ما يقرب من المعنيين الأخيرين، والتفرقة بينه وبين العلم المقوّم لماهية النبوّة (الوحي)، وما ينتج عنه من الشريعة الظاهرة.. فوارق مع التنبيه علي أنّ النبيّ صلي الله عليه و آله هو إمام الأئمّة أيضاً إلّاأنّ الكلام في بيان الفارق بين

مقامه من حيث النبوّة ومقامه من حيث الإمامة- في تميّز المراد من العلم اللدني.

من الأُمور المهمّة التي يجب تسليط الضوء عليها قبل الشروع في بيان أصل البحث، هو المائز بين العلم اللدني والعلم النبوّي، أو ما يمكن تسميته الفرق بين الشريعة الظاهرة والشريعة التكوينية (أي السنّة الإلهية الكونية)، ويمكن إيجاز الفرق في أُمور:

1- إنّ تطبيق وتنفيذ أحكام العلم النبويّ هو من سنخ الاعتبارات الكلّية الإنشائية القانونية تُبني علي العلم الحصولي، بينما في العلم اللدني هي من سنخ تكويني وتعتمد علي العلم الحضوري.

ومن الأمثلة علي ذلك: أنّ القرآن الكريم والروايات تثبت أنّ للملائكة أوامر

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 417

إلهية متوجّهة إليهم وهم لا يعصونه، وهذه الأوامر هي ليست من سنخ الاعتبارات والأحكام الظاهرية، فهي من سنخ آخر مع المحافظة علي أنّها موجودات شاعرة مختارة، فهذه الأوامر إرادات إلهية تكوينية من سنخ الشريعة التكوينية والسنّة الإلهية الكونية، حيث إنّ الملك مزوّد بالعلم اللدني، وتصوير الأوامر والإرادات التكوينية لا ينافي إختيارية الملك.

2- إنّ الأحكام الواقعية في الشريعة الظاهرة نابعة من أغراض وملاكات، وتحقيق الأحكام لهذه الأغراض يكون غالبياً لا دائمياً، أمّا في العلم اللدني فالإصابة تكون دائمية كلّية ولا تحتمل الخطأ.

3- إنّ الشريعة الظاهرة لها موازين خاصّة بها، حيث إنّها تعتمد في تطبيقها علي العلم الحسّي الحصولي، بخلاف الشريعة التكوينية والسنّة الإلهية الكونية، فهي لها موازين خاصّة من حيث اعتمادها علي علم القضاء والقدر.

ويجب التنبّه إلي عدم الخلط بين الموازين، فاستخدام موازين الشريعة التكوينية والسنن الإلهية الكونية في الشريعة الظاهرة قد تؤدّي إلي الخروج عن الدين، أو العكس بأن يستخدم موازين الشريعة الظاهرة في الشريعة التكوينية والسنّة الإلهية الكونية، وكثير من الإشكالات والشبهات تنشأ من الجهل والغفلة بين هذه

الموازين، حيث يستخدم موازين الظاهر في فهم مفادات هي من سنخ الشريعة والسنّة الإلهية الكونية.

ولهذا السبب وبسبب الغفلة والخلط نشأت الفرق المنحرفة عن خطّ أهل البيت، فهي من هذا القبيل، حيث إنّهم أَسْرَوا وعمّموا أحكام الشريعة والسنّة الإلهية الكونية التي اطّلعوا عليها علي الشريعة الظاهرة التي هم مخاطبون بها أيضاً، فيجب التنبّه إلي وضع هذا الحاجز بين الموازين في كلا الدرجتين من الشريعة، درجة الظاهر ودرجة السنّة الإلهية الكونية.

ومن صور الخلط الذي يحصل: إلغاء الشريعة الظاهرة بحجّة الوصول إلي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 418

أهداف وأغراض الشريعة بدعوي السفارة والنيابة، الأخبار والرواية عنه مع انقطاع الطريق الرسمي بيننا وبينه (عج).

وإحدي التفسيرات لما ورد من أنّ صاحب الأمر عليه السلام عند ظهوره سوف يأتي بدين جديد أنّه سوف تقترن موازين الشريعة الظاهرة بالسنن الإلهية الكونية، وهو ليس من باب النسخ، بل هو من باب أنّ الشريعة هي الظاهرة إلّاأنّ تطبيقها سوف يكون بموازين الشريعة والسنّة الإلهية الكونية.

وليتنبّه إلي أنّ عموم الناس غير مكلّفين إلّابالشريعة الظاهرة، ولا يمكن لهم العمل بالدرجة الخفية، كما أنّه ليس هناك شريعتان، بل شريعة واحدة لا تختلف وإنّما تطبيقها تارةً بموازين الظاهر وأُخري بآليات تصيب الواقع ولا تخطئه، وهي موازين خفية باطنة، وسيأتي بيان حقيقة الشريعة بحسب السنن الإلهية الكونية.

ومن هنا نعرف كيف يتمّ الملائمة بين معرفة الإمام بأنّه سوف يُقتل علي يد ابن ملجم، وأنّ الإمام الحسين عليه السلام يعلم أنّه مقتول لا محالة، وذلك عن طريق العلم اللدني طبقاً لموازين الشريعة والسنّة الكونية، لا بتوسّط العلم من الأسباب العادية طبقاً لموازين الشريعة بحسب الدرجة الظاهرة. بل إنّ موازين الظاهر في باب التزاحمات تطبّق علي الأحكام الفعلية، أمّا في الشريعة والسنّة الإلهية الكونية

فإنّها تلاحظ بما لها من لوازم ومصالح حتّي في الحقب التاريخية التالية، فلا يقصر الحدث علي أهمّيته في حقبة زمنية معينة، بل يلاحظ عموم التاريخ، ومن هنا فإنّ أثر شهادة الحسين عليه السلام علي حفظ الدين والشريعة والتزام الناس علي مرّ الزمان، وعدم الرضوخ للظلم والطغيان، وسنّ هذه السنّة هي إحدي الملاكات التي نشأت من شهادته عليه السلام، والتي ما كان لها أن تظهر لو قصرنا النظر في حادثة الاستشهاد علي الفترة الزمنية الخاصّة.

ويمكن بيان الفوارق كالتالي:

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 419

الفارق الأوّل: إنّ النبوّة لإبلاغ الأحكام الإعتبارية الإنشائية القانونية، بما يشمل الآداب والعلوم الحصولية كالمعارف، في حين أنّ نفس تلك الشريعة للإمام من سنخ تكويني لا اعتباري ومعلومة حضوراً لا حصولًا، وشاملة كالأولي، ومن الأمثلة علي ذلك أنّ القرآن الكريم والروايات تثبت أنّ للملائكة أوامر إلهية متوجّهة إليهم وهم لا يعصونه.

الفارق الثاني: إنّ إصابة الشريعة الظاهرة أي الأحكام الاعتبارية القانونية الواقعية للواقع أي الملاكات والمصالح والمفاسد وللأغراض- غالبية لا كلّية دائمية، نظير الحكم الظاهري الأُصولي بالنسبة للحكم الواقعي، وإن كان بين النسبتين فرق جلي، كما أنّ هناك فرق في المعني بين الشريعة الظاهرة والحكم الظاهري، بينما الإصابة في الشريعة بحسب الدرجة الواقعية والسنّة الكونية دائمية كلّية.

الفارق الثالث: إنّ تطبيق الشريعة الظاهرة يرتكز علي العلم الحسّي وموازين هذه النشأة، نشأة الظاهر «يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» «1»

، وتطبيق الشريعة بحسب السنّة الكونية الإلهية يرتكز علي علم القضاء والقدر والمشيئة والإرادة وآثار الأفعال بحسب النشآت الأُخروية.

علماً بأنّ الكثير من الخلط والشبهات والجهالات نشأت نتيجة الخلط بين نحوين من مفادات القرآن والسنّة، حيث إنّ قسماً منها مفاده الأوّل، والآخر الثاني.

وواحدة من عوامل الانحراف في هذا المضمار: وزن الظاهر

بموازين السنن الكونية أو العكس، فالخطابية والمغيرية حكّمت موازين السنن الإلهية الكونية علي الظاهر، وقد مرّ أن إحدي التفسيرات لما ورد من أنّ صاحب الأمر المهدي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 420

(عج) يأتي بدين جديد أنّه سوف تقترن موازين الشريعة بحسب الدرجة الظاهرة بالسنّة الكونية، وهو ليس من باب النسخ، بل هو من باب تطبيق الشريعة الظاهرة بموازين الشريعة التكوينية «1».

فالتساؤل المتوهّم حول الشجاعة في مبيت عليّ عليه السلام في فراش النبيّ صلي الله عليه و آله، هل هي مع علمه أنّه لا يقتل؟ ثمّ كيفية كونها منقبة عظيمة مدحه بها القرآن المجيد، وكيف يقدم الإمام عليه السلام علي الصلاة في جامع الكوفة أو دخول الإمام الحسين عليه السلام في معركة كربلاء مع علمه بقتله؟ يرجع التساؤل إلي معالجة التكوين بموازين الظاهر، بل إنّ موازين الظاهر في باب التزاحمات تطبّق علي الأحكام الفعلية، أمّا في الشريعة بحسب السنّة الكونية الإلهية- فإنّها تلاحظ بما لها من لوازم ومصالح

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 421

حتّي في الحقب التاريخية التالية، فلا يقصر الحدث علي أهميته في حقبة زمنية معينة، بل يلاحظ بحسب عموم التاريخ.

ومن هنا فإنّ أثر شهادة الحسين عليه السلام علي حفظ الدين والشريعة إلتزام الناس علي مرّ الزمان وعدم الرضوخ للظلم والطغيان، وقد سنّ (صلوات اللَّه عليه) هذه السنّة في الدين التي هي إحدي الملاكات المتولّدة من شهادته عليه السلام، والتي ما كان لها أن تظهر لو قصرنا النظر علي زمن الحادثة والاستشهاد في تلك الفترة الزمنية الخاصّة، وكذلك الحال في جملة سيرة الرسول صلي الله عليه و آله وسيرة أمير المؤمنين عليه السلام.

الفارق الرابع: النسخ في الشريعة بحسب الدرجة الظاهرة اعتباري، علاوة علي وجود مرتبة الظاهر الكاشف عن الدرجة

الظاهرة التي هي واقعية بحسبها، وظاهرة التقييد بالمعني العامّ من تخصيص وحكومة وورود- وتقييد الأدلّة والدلالة علي الشريعة الظاهرة لا في متنها.. بينما النسخ في الولاية والشريعة بحسب السنن والنظام الكوني تكويني وهو المعروف بالبداء، وبمعرفة الناسخ تتفاوت مراتب الأولياء والحجج..

الفارق الخامس: لم يُستثن أحد من التكليف بالشريعة الظاهرة، فالتدين بها في عهدة الجميع من جنّ وإنس بما في ذلك الأولياء والحجج، أمّا في الشريعة الكونية فهي وظيفة خاصّة بحجج اللَّه وملائكته.

ومن ثمّ ينبثق سؤال: إنّ ما عدا المذكورين- وهم غير المعصوم- قد يصلون بالرياضات الشرعية إلي مقامات عالية حيث تتفتّح قلوبهم علي عوالم الغيب، فلم لا يكونون مكلّفين بالولاية وبالشريعة الكونية الإلهية بعد أن تمّ وصولهم إلي أسافل تلك المنازل؟

الجواب: إنّ رقيهم هذا محمود حيث يزيد من علمهم وإيمانهم، ولكنّهم لم يُكلّفوا إلّابالشريعة الظاهرة؛ لعدم حجّية ما يتلقّونه بقنواتهم الروحية لعدم

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 422

عصمتهم.

الفارق السادس: (حقيقة الشريعة الإلهية الكونية). إنّ أحكام الشريعة الكونية بحسب الدرجة الواقعية والتكوينية لا تعدو كونها إلّاتطبيقاً للشريعة الظاهرة وسوي أنّه تطبيق بعلم لدني لا بوسيلة الحسّ والعلم الحصولي؛ لأنّ الشريعة واحدة لا تختلف بحسب الظاهر الواقعي ولا الكوني ولا حدودها وأحكامها، كما استعرض القرآن الكريم لنا قصّة الخضر مع موسي التي كانت يُتراءي فيها في بادئ الأمر الخلاف، ثمّ آل الأمر إلي الوفاق بعد وضوح رجوع التأويل إلي تطبيق خفي لظاهر الشارع، وهذا التعريف أضبط وأصلح التعريفات للشريعة الإلهية في النظام الكوني.

وتوضيح ذلك يتمّ بالالتفات إلي هذه الزاوية: أشرنا في الفصول السابقة إلي أنّ أصل الولاية للَّه تعالي «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» «1»

و «هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ» «2»

أعمّ من التشريع والحكم القضائي والحكم التنفيذي، وعندما نطالع القرآن نجد أنّه

يلفت إلي الأصل المذكور وتفاصيله، بل في الآيات المرتبطة بالمسائل العامّة الحكومية كآيات الجهاد والأنفال وأمثالها، هي تشريعية بلحاظ تنظيرها الكلّي، وحكم تنفيذي ولوي بلحاظ مواردها التطبيقية الجزئية، وهذه قراءة ثانية لأسباب النزول، لا يقرّ بها ولا يتفطّن إليها أهل سنّة الخلافة وجماعة السلطان، لعدم تصويرهم لولاية اللَّه تعالي السياسية في الأحكام التنفيذية الجزئية زيادة علي ولايته تعالي في التشريع الكلّي.

وكذلك في القضاء كما يلحظ ذلك بوضوح في حكومة الرسول صلي الله عليه و آله التي يستعرض لنا القرآن الكريم سيرتها، فإنّ في المنعطفات الخطيرة في الأحداث

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 423

السياسية أو القضائية أو العسكرية والمالية نري في الآيات أنّ الحاكم الأوّل هو الباري تعالي في تلك الأحداث، والحاكم الثاني هو الرسول صلي الله عليه و آله، وأهل سنّة الخلافة وجماعة السلطان يخشون هذا التصوير لحاكمية اللَّه تعالي السياسية علي البشر؛ لأنّهم لا يمكنهم تصوير ذلك بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله علي ما ذهبوا إليه من انقطاع الاتّصال بالغيب وعدم إمكان إستعلام الإرادة الإلهية الجزئية في الأحداث.

ومن ثمّ فالولاية في هذا المضمار للرسول صلي الله عليه و آله ومن بعده للمعصومين عليهم السلام هي في طول ولاية اللَّه تعالي وبإذنه، وليست مستقلّة، خلافاً لإطروحة المعتزلة وغيرهم من المذاهب الأُخري، ومن قبل اليهود حيث قصروا ولاية اللَّه تعالي علي التشريع دون مباشرة القضاء وسلطة التنفيذ حينما قالوا: «يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ..» «1»

.فالرئيس والحاكم السياسي الأوّل والمشرّع الأصلي والقاضي الفعلي هو اللَّه سبحانه وتعالي، ومَن ثبتت له الولاية وهو الرسول صلي الله عليه و آله والإمام، فهي في ظلّ تلك الدولة والولاية المباشرة للَّه تعالي لا بالاستقلال عنها، فكلّ ما يصدر عنهم فهو يصدر عن اللَّه

حقيقة.

بل تلك الحاكمية تجلّت بوضوح في القرآن الكريم بمعني الحكم المسند إليه تعالي خاصّة من دون نسبته إلي الرسول صلي الله عليه و آله أو الإمام «2» علي صعيد التنفيذ والفصل القضائي والحكم التنفيذي، وبالتالي يصحّ القول بأنّ حكم وحاكمية اللَّه تعالي ليست بالقوّة في عهد حكومة المعصومين عليهم السلام، بل هي حكومة فعلية للَّه تعالي في الجوانب الثلاثة. أمّا أمثلة التشريع الصادرة مباشرة منه تعالي فكثيرة، وهكذا في القضاء فينشئ تعالي حكماً فاصلًا للنزاع كما في قصّة البقرة في بني

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 424

إسرائيل، وموارد أُخري استعرضها القرآن الكريم في الحكم الولوي (التنفيذي)، نظير أوامر الجهاد النازلة في موارد معينة وإن استفيد منها تشريعاً كلّياً أيضاً، وكحكمه تعالي بزواج النبيّ صلي الله عليه و آله من زينب وزواج عليّ عليه السلام من فاطمة عليها السلام، إذ حكمه تعالي الولوي شامل للوظائف العامّة للدولة والأُمور الخاصّة للبشر.

وهذا النمط ثابت طولًا للمعصومين عليهم السلام، وهذا أحد تفاسير قوله تعالي: «.. أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ..» «1»

، وهذا معني كون حكومة المعصوم إلهية أي لا يقتصر في أحكامها وتشريعاتها علي كلّيات الأحكام في الدين، بل إنّ الحاكمية بالفعل في الجوانب الثلاثة هي للَّه سبحانه، وهذا غير متوفّر في غير حكومة المعصوم وإن كانت بالرسم الديني، وسيأتي توضيحه مبسوطاً في سيرة الرسول علي صعيد الدولة في القرآن الكريم.

وبضمّ هذا الفرض إلي ما ذكرناه في الأُصول والفصول السابقة من أنّ الحكم التنفيذي تطبيق للحكم التشريعي فهو حكم جزئي وذلك كلّي يتبلور: أنّ أحكام الشريعة الكونية الإلهية بحسب الدرجة الواقعية التكوينية ليست إلّاأحكاماً تطبيقية للشريعة الظاهرة بعلم لدني علي حدّ الحكم الولوي «2»، وأنّ الولاية إقامة وتحقيق وإنجاز لأغراض النبوّة.

الفارق السابع: إنّ منظومة إقامة

أحكام الشريعة بحسب المنظومة الظاهرة تخضع للأسباب الطبيعية الظاهرية، وفي باب ومقام الولاية والواقع الخفي الباطن، وشريعة السنّة الإلهية الكونية تخضع للَّه تعالي وتتسلسل تبياناً وبلاغاً

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 425

وتطبيقاً وتنفيذاً وإقامةً وتشييداً إلي الأوصياء والملائكة، وقد يستعان بغير المعصوم بشكل قسري لا جبري.

ويمكن بيان الفوارق الأخيرة بصياغة أُخري:

*- إنّ العلم اللدني والشريعة الكونية خاصّة بأولياء اللَّه- حججه وملائكته- وليست هي وظيفة عموم البشر الآخرين مهما بلغوا من العلم، وحتّي لو استطاعوا الوصول إلي نفحة ورشحة يسيرة من بحار محيطات العلوم والشريعة.

*- يوجد في الشريعة الظاهرة نسخ هو نسخ اعتباري وهو المبحوث عنه في الأُصول، بينما في الشريعة الكونية الإلهية يوجد نسخ تكويني وهو البداء المعروف، وتختلف مراتب أصحاب العلم اللدني في ذلك، فبعضهم له علم بالمنسوخ فقط وبعضهم له علم بالناسخ والمنسوخ.

*- ذكرنا في الفصل الثاني أنّ الولاية المطلقة للَّه سبحانه وتعالي، ومنها تتفرّع إلي النبيّ الخاتم ومن ثمّ للمعصومين من ولده، فولايتهم في التشريع والقضاء والتنفيذ هي متشعّبة عنه جلّ وعلا، إلّاأنّ هذا لا يعني عدم تدخّله المباشر في صياغة كلّ منها في بعض الأحيان. وبالتالي لابدّ من القول إنّ حكومة اللَّه ليست بالقوّة الشأنية في زمن حكومة المعصومين، بل هي حكومة فعلية للَّه تعالي، فهو يكون مشرّعاً ويكون حاكماً، ويكون مصدراً للحكم الولوي (التنفيذي) في زمن حكومة المعصومين، وهذا يجعل حكومته فعلية.

ومن أمثلة التشريع كثير، إذ في كثير من الأحيان يصدر التشريع منه مباشرة، ولا يكون الاعتبار صادراً من الرسول الأكرم صلي الله عليه و آله، وهكذا في القضاء إذ يحكم هو كما في قصّة البقرة. وموارد أُخري يكون الحكم والفصل فيها للَّه سبحانه، وفي الحكم الولوي كذلك كما في آيات الجهاد، وزواج النبيّ من زينب

وزواج عليّ من الزهراء سلام اللَّه عليهما، ويفترق الحكم الولوي هنا عن غيره بأنّه ليس في

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 426

وظائف الدولة العامّة بل في الأُمور الخاصّة، وهذا النمط ثابت للَّه والمعصومين دون النوّاب من الفقهاء.

فالحقّ تعالي يتصرّف مباشرةً في التطبيق بموازين العلم الإلهي، أي تطبيق الشريعة الظاهرية بما له من موازين العلم الإلهي، ولن يكون التطبيق بموازين ظنّية حسّية، والعلم اللدني يختلف درجاته، وبالنسبة للَّه المحيط له أعلي الدرجات، فهو: «أَصْدَقُ قِيْلًا»، وهو «أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ»، فعندما يقال إنّ حكومة المعصوم إلهية لا يعني أنّ أحكامها وتشريعاتها دينية فقط، بل يعني أنّ الحاكمية هي للَّه سبحانه بالفعل، وهذا غير متوفّر في حكومة غيرهم وإن كانت دينية. وبناءً عليه نقول: إنّ الشريعة الكونية الإلهية هي عبارة عن تطبيق للشريعة الظاهرة بعلم لدني، فتطبيق اللَّه تعالي دوماً يكون بالعلم اللدني، أمّا في تطبيق المعصوم فهو في الجملة لا بالجملة بحسب الوظيفة المأمور بها.

أمّا الشريعة الظاهرة فهي التنظير في الأُمور الكلّية، والتطبيق يكون بالشريعة الكونية «1».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 427

*- إنّ منظومة الشريعة الظاهرة والارتباطات بين حلقاتها خاضع لآليات النشأة الدنيوية أي الأسباب الظاهرية، أمّا في منظومة الشريعة الباطنة من اللَّه عزّوجلّ والنبيّ والرسل والأوصياء، فهم مزودون بالعلم اللدني، وقد يستعان بغير المعصوم كما في تسخير الآخرين ويكون الفاعل بالقسر والفاعل بالجبر، وآلياته تكون غير ظاهرية، وقد تكون ظاهرية.

بعد استعراض هذه المقدّمات ندخل في صلب البحث وذلك باستعراض مجموعة من النماذج القرآنية:

1- استعراض الآيات المرتبطة بالحجج الذين قاموا بدورهم الملقي علي عاتقهم في الأرض بالعلم اللدني.

2- بيان غاية إرسال الرسل، وسنري أنّ القرآن يثبت أنّ الغاية هي الإمامة.

3- استعراض الآيات المبينة للسيرة النبويّة، أو السيرة الإلهية التي أمر اللَّه تعالي بها.

4- الشرح

القرآني لماهيات المناصب الإلهية.

5- بيان القرآن للمعاد والسير إلي اللَّه.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 429

الأمر الأول استعراض نماذج الإمامة في القرآن … ص: 429
اشارة

ونستعرض فيها قائمة لأولياء اللَّه الحجج، وكيفية توفّرهم علي العلم اللدني وتصرّفهم علي طبقه، ومنه سوف ينكشف لنا جوانب هذا العلم.

النموذج الأوّل: قصّة الخضر وموسي … ص: 429

والتي تناولها القرآن الكريم في سورة الكهف من الآية 60 وحتّي الآية 82.

وقبل استعراض الآيات يجب أن نلقي الضوء علي الجوّ العامّ الحاكم علي سورة الكهف، فالآيات التي ابتدأت بها السورة تستعرض حرص الرسول الكريم صلي الله عليه و آله علي قومه لعدم استجابتهم وأسفه عليهم لعنادهم، حيث قال تعالي:

«فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَي آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا» «1»

، فنزلت هذه السورة لتسلية فؤاده صلي الله عليه و آله من خلال استعراض ثلاث وقائع هي: أصحاب الكهف، الخضر وموسي، ذو القرنين، وكأنّها تسلّي قلب النبيّ الخاتم صلي الله عليه و آله بأنّ الإرادة الإلهية لا تتخلّف، وأنّ الهداية الإيصالية تتحقّق، وأنّ هناك منظومة من رجال الغيب الذين يقومون بحماية الشريعة من الانحراف والأخذ بيد الناس في أحلك الظروف والمحن بتدبير النظام العامّ بنحوٍ خفي.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 430

استعراض تفصيلي للآيات: … ص: 430
اشارة

«وَإِذْ قَالَ مُوسَي …» «1»

أي واذكر أيضاً قصّة موسي، ممّا يدلّل علي ما ذكرناه من أنّ القصص الثلاث أتت في سياق واحد ومن أجل هدف واحد.

وفي أسباب النزول: أنّ موسي عندما أنزل اللَّه عليه الألواح رجع إلي بني إسرائيل وصعد المنبر وأخبرهم أنّ اللَّه قد أنزل عليه التوراة وكلّمه، فقال في نفسه:

ما خلق اللَّه خلقاً أعلم منّي، فأوحي اللَّه إلي جبرئيل أدرك موسي فقد هلك، واعلمه أنّ عند ملتقي البحرين عند الصخرة رجلًا أعلم منك، فسر إليه وتعلّم منه.

أي أنّ للخضر علم مغاير لعلم موسي، وهذا مع التسالم علي أنّ موسي أفضل من جميع من سواه في عصره.

«لَاأَبْرَحُ …» «2»

ظاهر في وجود أمر بالمجي ء إلي هذا المكان وبالتالي وجوده فيه ضرورة.

«ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ» «3»

يدلّ علي تحديد المكان بالعلامة. والآيات اللاحقة تبين أنّ موسي قد

لقي الخضر نائماً ولم يلتفت إلي أنّه هو الذي يجب أن يتبعه فسار قليلًا، فارتدّا علي آثارهما بعد أن التفتا إلي ذلك.

«فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا» «4»

، وهذه الآية تبين لنا صفات الخضر:

أ- الإضافة التشريفية للَّه جلّ وعلا، حيث عبّر عنه أنّه من عبادنا، ممّا يدلّ علي الحظوة والانتساب.

ب- إنّ التتبّع في استخدامات (عبادنا) يفيد أنّه لم يُستخدم إلّافي الأنبياء

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 431

والمرسلين والأولياء، ولم يستخدم هذا التعبير لجميع العباد.

ج- إنّه مشمول بالرحمة الخاصّة.

د- إنّه متّصل بالغيب من خلال العلم الذي أوتي من الذات المقدّسة، وإنّ هذا العلم من لدن العليم الخبير، ففيه إشارة إلي عدم كون علمه كسبياً بل إفاضياً، وأنّه علم يفاض من لدن الذات.

«قَالَ لَهُ مُوسَي هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَي أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا» «1»

، يذكر الشهيد الثاني في منية المريد جملة دلالات في هذه الفقرة علي التواضع، إنّ في هذه الجملة الوجيزة اثني عشر فائدة من فوائد الآداب، منها: التواضع في الطلب، فقوله: (هل) تفيد الاستيذان منه قبل الالتحاق به، والتعبير ب (أتّبعك) ولم يقل أرافقك أو أماشيك، ممّا يفيد معني التبعية وما فيه من معني المتابعة المطلقة، وهي الإتيان بمثل فعل الغير لأنّه فعله، لا لوجه آخر، ولا يخفي ما فيها من الخضوع للخضر، وهو في هذه المتابعة مأمور بالكون معه، وفي هذه كمال التواضع والتفخيم للخضر، والتعبير (علي أن تعلّمني) أي لا يشترط أن تعلّمني، فيدلّ علي الرجاء، والتعبير بتعلّمني ولم يقل أعلم، والتعبير (ممّا علمت)، أي ليس هو كلّ ما عُلّمت وهو تفخيم ودليل أنّه تعليم إلهي.

وهذا خضوع وتواضع من قبل النبيّ موسي للخضر عليه السلام مع أنّه من أولي العزم

ومن الأئمّة، حيث إنّ بعض الأنبياء من غير أولي العزم وصفوا بأنّهم أئمّة، فكيف بأولي العزم، مضافاً إلي أنّه كان حاكماً علي بني إسرائيل، والحكومة من شؤون الإمامة لا من شؤون النبوّة، لكنّ الإمامة لها درجات مختلفة في الكمال والفضيلة الكونية كاختلاف النبوّة في الدرجات.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 432

كما أنّ هذا التواضع ليس من باب الخلق الحسن، بل هو من باب ما يقتضيه حقيقة العلم الذي يمتلكه الخضر والذي امتاز به عن النبيّ موسي.

الواضح من هذه الآيات أنّ العلم الذي كان لدي الخضر هو من الشريعة الكونية والسنن الإلهية في نظام التكوين؛ وذلك لأنّه لو كانت من الظاهرة لعلم بها موسي، وإنّما سميت شريعة لأنّ فيها أوامر وإرادة إلهية كونية، وعدم تزويد موسي بها دليل علي أنّها خاصّة بالبعض.

والعامّة لجمودهم وابتعادهم عن بيت الوحي والعصمة تراهم وقعوا في حيص وبيص في كيفية تصوير اختلاف العلم الذي لدي الخضر مع العلم الذي لدي نبيّ اللَّه، وهل هو من سنخ النبوّة أم غير ذلك؟ وما ذلك إلّالأنّهم لم يذعنوا بالإمامة والعلم اللدني ولم يعترفوا بمقام الولاية الذي يطّلع علي المشيئة الإلهية والإرادات الإلهية، والذي يعرّف الشريعة بحسب السنن الإلهية التكوينية، وجمدوا علي منصّة الشريعة الظاهرة.

«قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا» «1»

، دلالة علي أنّ الصبر يتصوّر مع العلم، وأنّ العلم التشريعي والنبوّة لم يُحيطا إحاطة تامّة، وأنّه لابدّ أن يزوّد الحجّة بالعلم اللدني والشريعة الكونية وهي الولاية؛ إذ لو كانت ظاهرة لما افتقدها موسي عليه السلام وشريعته عامّة، وهو وإن كان إماماً أيضاً إلّاأنّ الإمامة درجات، وكذلك اختلاف العلم اللدني الذي يزوّد به الإمام.

ويدلّ هذا المقطع علي اختصاص الشريعة بحسب الدرجة الواقعية الكونية بالأولياء المصطفين المعصومين، حيث

لم يزوّد بها بتمامها حتّي موسي عليه السلام فضلًا عن عموم المكلّفين.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 433

«قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا» «1»

، إشارة إلي نظير وما فعلته عن أمري، الدالّ علي أنّه أمر إلهي وارادة كونية، إلّاأنّه ليس من الشريعة الظاهرة، وهو إشارة إلي ما يأتي من قول الخضر.

«قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْ ءٍ حَتَّي أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا» «2»

ففيه أيضاً- إشارة إلي تأدّب الخضر مع النبيّ، فلم يأمره بالاتّباع بل علّقه علي مشيئته وإرادته، كما أنّ الاستعلام العلمي عن حكمة فعل من الأفعال لا ينافي الائتمام؛ وذلك لأنّ التبعية ليست معلّلة أو موقوفة علي حكمة الفعل.

إنّ هذه الآداب بين الحجج تشير إلي مطلب مهم وهو اعتقادهم بالمناصب الإلهية لكلّ منهما، وقد ورد في حديث المعراج: أنّ النبيّ في أحد المواقف تقدّم علي الأنبياء وأمّهم للصلاة، ولم يكن لديه خشية وخوف مع إذعان جميع الأنبياء لهذا التقدّم.

وقد أثار علماء المعارف مدي الارتباط بين الفروع والعقائد، وأنّ الأفعال لها مناشئ وعلل خلقية، ففي قوس النزول نري أنّ العقيدة تولّد صفات وهي تكون مصدراً لعدد من الأفعال، بينما في قوس الصعود الأفعال تولّد صفات وهي تولّد ملكات جوهرية أي عقائد.

كما يدلّ هذا المقطع علي أنّ المأموم تابع لإمامه إمامةً تعبّدية، فلا يحقّ له تعليق تبعيته علي معرفة الحكمة والمصلحة في أوامر إمامه، نعم، له الحقّ أن يسأل إمامه عن وجه الحكمة، ولكن كما ذكرنا أنّ منشأ المتابعة ليس معرفة الحكمة وإنّما الإمامة، فالآداب المتبادلة بين الخضر وموسي ذات منشأ وبذر عقائدي.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 434

«لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا» «1»

، اعتراض من موسي بحسب الشريعة الظاهرة؛ لأنّ خرق السفينة تصرّف في ملك الغير.

«قَالَ

لَاتُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا» «2»

، ليس المقصود من النسيان المعني المصطلح وهو المنفي عن مقام العصمة للنبيّ، كما سيتّضح ذلك في الآيات القادمة، بل إنّ عدم اعتراض موسي سوف يكون نقصاناً في علمه النبويّ، وإنّ من الكمال لموسي هو الاعتراض، فالمعني المراد من النسيان هاهنا ضرب من المعني لا ينافي العصمة، نظير المعني المجازي في قوله تعالي: «نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ» «3»

، إذ النسيان هو بحسب مقام الولاية الذي كان عند الخضر المطّلع علي الشريعة بحسب الواقع الكوني، وهو لا ينافي عصمة موسي بحسب الشريعة الظاهرة، كيف والنسيان ليس أسوأ من عدم علمه بما يعلمه الخضر، ومع ذلك لم ينافِ عصمته.

والمفاد المطابقي لكلام النبيّ موسي عليه السلام ليس كلاماً واستفهاماً وإنّما هو اعتراض بمقتضي الشريعة الظاهرة واستنكار للفعل. نعم، يقتضي بالتلازم العقلي الدفاع والجواب من الخضر، فمحور التجاذب في الكلام هو عمّا لم يطلع عليه موسي، ومن ثمّ كانت إجابة الخضر: «قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا» «4»

، وهو يشير إلي ما قاله لموسي في بدء لقائهما: «وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَي مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا» «5»

، أي ما لم تعلمه، ومن ثمّ لم يقل له إنّك لم تفِ بما تعهّدت به، فالموازين بحسب الشريعة الظاهرة هي السبب في اعتراضه الموجب لترك الشرط فيما بينهما، إذ الشرط لا يغير الحكم الأوّلي عمّا هو عليه.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 435

«فَانْطَلَقَا حَتَّي إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا» «1»

، وهذه هي الحادثة الأولي، والتي رأي فيها موسي تصرّفاً في ملك الغير وتعريض الآخرين للغرق، كما يُلاحظ أنّ موسي استخدم تعبير (إمراً) أي مستقبح، بينما في قتل الغلام

كما ستري- يستخدم نكراً وهي أشدّ من الأولي؛ لشدّة قباحة الفعل ظاهراً.

«فَانْطَلَقَا حَتَّي إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا» «2»

، وهو قتل الخضر للطفل الصغير الذي لم يبلغ الحلم، وفي هذا تعدّيان في نظر موسي: أحدهما هو القتل من دون سبب مجوّز له، والآخر أنّه ما زال صغيراً ولا يؤاخذ بما يفعل فضلًا عمّا لم يأت به.

«فَانْطَلَقَا حَتَّي إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا» «3»

، فالفعل هنا ليس كسابقه؛ إذ ليس فيه تعدّي، بل عمل تبرّعي محض لمصلحة الآخرين، كما يظهر أنّ إقامة الجدار قام بها الخضر بنفسه من دون موسي، وأنّه كان دفعياً بنحو التصرّف التكويني لا تدريجياً، لذا كان اعتراض موسي عليه بعد انتهاء العمل.

«قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا» «4».

إنّ هذه الآية الكريمة توضّح لنا أنّ للخضر نوع من العلم الذي ليس لدي النبيّ موسي؛ وذلك لأنّ العلم النبويّ هو العلم بإرادات اللَّه التشريعية، وهذا بخلاف العلم اللدني الذي يكون لدي أولياء اللَّه الحجج، ونحن في نفس الوقت نثبت أنّ كلّ نبيّ من حيث نبوّته قد يكون مطّلعاً علي العلم اللدني من بعض جوانبه.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 436

ومن امتيازات الشريعة في تطبيقها بدرجتها في سنن نظام الكون والعلم اللدني، أنّ الواجبات والأحكام يمكن تطبيقها في دائرة واسعة زمنية، أي يقع التزاحم بين الفعلي والمستقبلي حيث يعلم به، وكذا تشخّص الأهمّية في الملاك بعد ملاحظة تداعياته وما يترتّب عليه. وهذا هو سرّ الفرق بين حكومة المعصوم عليه السلام وحاكميته بتوسّط ما يتنزّل عليه

كلّ عام في ليلة القدر من مقدّرات كلّ شي ء، وبين حكومة غير المعصوم وحاكميته حيث يجهل كلّ ذلك، بل في حكومة المعصوم يُتفادي ذات التزاحم نفسه، لما فيه من التفريط ببعض المصالح الشرعية، بخلاف حكومة غير المعصوم فإنّه لعدم إحاطته بتداعيات الأحداث والحوادث يفرط وينفرط عليه زمام الحفظ للملاكات والحدود الشرعية، ويقع في سلسة من التفويت للأغراض الشرعية تحت ضغط ظروف التزاحم المفاجئ والتدافع التي تفرض عليه بسبب عدم قدرته علي الإحاطة بخفايا الأُمور الراهنة والمستقبلية.

وعلي ضوء ذلك تتبلور فظاعة الطغيان والكفر، كما في مَن أحيا نفساً فقد أحيا الناس جميعاً، كما ورد عن الصادق عليه السلام: «ذلك تأويلها الأعظم» «1»

الإحياء بالمعرفة..

وهو قد ينطبق ويلتئم مع تداعيات الفعل في سلسلة ممتدّة، كما في إعزاء كلّ ذنوب الأُمّة إلي الأوّل والثاني.

وهناك مقولة تقول: إنّ الفقه بمعني الكلمة- مَنْ يتوصّل إلي أغراض الشرع بدون تزاحم، ومن بعد الدرجة اللاحقة مَنْ يصل إليها بالتزاحم، ولا تصل النوبة إلي التعارض، ومن بعد مَنْ يتوصّل إليها بالجمع العرفي، فالتعارض هو الخيار الأخير لمن يعجز عن الإحاطة بالدرجات السابقة.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 437

وهذه المقولة تؤشّر علي أنّ كثيراً من التزاحمات المتصوّرة هي وهم تزاحم لا حقيقة، ومع تحقّقه فلا طريق إلّاالتعامل مع الملاك بشكل مقطعي، وهذا ليس إلّا لفقدان الوسيلة، لا لاختلاف التزاحم بين الشريعة بحسب درجة تطبيقها في النظام الكوني والظاهرة.

نعم، لا يحيط غير المعصوم بالإرادات الكلّية حضوراً، وإنّما هو مختصّ بمن له الهداية في الإراءة، كما أنّه لا قياس ولا مقارنة بين علم المعصوم بالشريعة الظاهرة وما يتوصّل إليه الفقيه بالظنّ القاصر عن الإحاطة بكلّ الشريعة الظاهرة، بل القاصر عن الوصول إلي متن الشريعة، بل من وراء حجاب دلالة

الألفاظ مع عدم إحاطته أيضاً بكلّ الدلالة ولا بكلّ تناسباتها، فمن ثمّ يقع الخطأ حتّي في هذا المقدار المحدود من النزر اليسير، فضلًا عن عدم إحاطته بتنزّلات الإرادات الكلّية ومنظوماتها.

وبالجملة لا محلّ لقياس الثري من الثريا والتراب من فلك عالم الإمكان، وقد روي العياشي عن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: «إنّما مثل عليّ عليه السلام ومثلنا من بعده من هذه الأُمّة كمثل موسي عليه السلام والعالم حين لقيه واستنطقه وسأله الصحبة، فكان من أمرهما ما اقتصّه اللَّه لنبيّه صلي الله عليه و آله في كتابه، وذلك أنّ اللَّه قال لموسي: «إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَي النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ» «1»

، ثمّ قال: «وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ» «2»

، وقد كان عند العالم علم لم يُكتب لموسي في الألواح وكان موسي يظنّ أن جميع الأشياء التي يحتاج إليها في تابوته وجميع العلم قد كتب له في الألواح، كما يظنّ هؤلاء الذين يدّعون أنّهم فقهاء وعلماء وأنّهم قد أثبتوا جميع العلم والفقه في الدين ممّا تحتاج هذه الأُمّة إليه وصحّ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 438

لهم عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وعلموه وحفظوه، وليس كلّ علم رسول اللَّه صلي الله عليه و آله علموه ولا صار إليهم عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ولا عرفوه، وذلك أنّ الشي ء من الحلال والحرام والأحكام يرد عليهم فيُسألون عنه ولا يكون عندهم فيه أثر عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، ويستحيون أن ينسبهم الناس إلي الجهل، ويكرهون أن يُسألوا فلا يجيبوا فيطلب الناس العلم من معدنه، فلذلك استعملوا الرأي والقياس في دين اللَّه، وتركوا الآثار

ودانوا اللَّه بالبدع وقد قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: كلّ بدعة ضلالة.

فلو أنّهم إذا سُئلوا عن شي ء من دين اللَّه فلم يكن عندهم منه أثر عن رسول اللَّه ردّوه إلي اللَّه وإلي الرسول وإلي أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم من آل محمّد صلي الله عليه و آله، والذي منعهم من طلب العلم منّا العداوة والحسد لنا، لا واللَّه ما حسد موسي عليه السلام العالم وموسي نبيّ اللَّه يوحي اللَّه إليه، حيث لقيه واستنطقه وعرفه بالعلم، ولم يحسده كما حسدتنا هذه الأُمّة بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله علي ما علمنا وما ورثنا عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، ولم يرغبوا إلينا في علمنا كما رغب موسي عليه السلام إلي العالم وسأله الصحبة ليتعلّم منه ويرشده، فلمّا أن سأل العالم ذلك علم العالم أنّ موسي عليه السلام لا يستطيع صحبته ولا يحتمل علمه ولا يصير معه، فعند ذلك قال العالم: «وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَي مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا» «1»

، فقال موسي عليه السلام له وهو خاضع له يستعطفه علي نفسه كي يقبله: «سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا» «2».

وقد كان العالم يعلم أنّ موسي عليه السلام لا يصبر علي علمه فكذلك- واللَّه يا إسحاق بن عمار- حال قضاة هؤلاء وفقهائهم وجماعتهم اليوم لا يحتملون واللَّه- علمنا ولا يقبلونه ولا يطيقونه ولا يأخذون به ولا يصبرون عليه، كما لم يصبر موسي عليه السلام علي علم العالم حين صحبه ورأي ما رأي من علمه وكان ذلك عند موسي عليه السلام مكروهاً وكان عند

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 439

اللَّه رضاً وهو الحقّ، وكذلك علمنا عند الجهلة مكروه ولا

يؤخذ وهو عند اللَّه الحقّ» «1».

والهداية الإيصالية شي ء وراء الوساطة في الفيض في قوس الصعود أو هي، ومع كونها هي هل هي مختصّة بالمؤمن أو تعمّ الكافر حيث إنّ الوساطة لم يُستثن منها أحد؟

بل هي مع خصوصيات تذكر في محلّها، والوساطة لم يُستثن منها أحد سوي أنّ الكافر لا فيض إليه وإنّما حرمان، فالوساطة وساطة في الحرمان من تحصيله علي كمالات، والواسطة في مثل هؤلاء أئمّة الشرّ والضلال كإبليس والجبت والطاغوت.

وباختصار: إنّ السورة المباركة (الكهف) في صدد بيان قصّة الإمامة، وإنّها ظاهرة مستمرّة لا تنقطع، وإنّ إكمال الدين ليس بالنبوّة المجرّدة عن الولاية والإمامة، فإنّها ليست الغرض الأقصي، وإنّما التمام بالهداية الإيصالية، والمتمثّلة بإمام له الولاية وإدارة جماعة خفية مهمّتهم حفظ أغراض الشريعة الظاهرة بتحقيقها سواء المرتبطة بنظام المجتمع أم المرتبطة بالفرد.

ثمّ إنّ الظاهر أفضلية موسي علي الخضر من بعض الجهات؛ بقرينة تبعية الثاني لشريعة الأوّل، المستفاد من بيانه لشرعية أفعاله بموازين شريعة التوراة، وإن كان يمتاز علي موسي بالعلم اللدني للوصول إلي أغراض الشريعة.

وبيانه بشكل مفصّل يعتمد الالتفات إلي هاتين النقطتين:

النقطة الأولي: يذكر في علم أصول الفقه أنّ القضية الشرعية الحقيقية التي ينشأها الشارع ويعتبرها، لها بعد تكويني وهو الإرادة التشريعية، وحقيقة هذه الإرادة تكوينية تتعلّق باعتبار الحكم الذي هو فعل الشارع.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 440

والإرادة التكوينية هذه كلّية من جهة أنّ متعلّقها هو الاعتبار الكلّي. بل العراقي ومن قبل النهاوندي افترضا أنّ حقيقة الحكم هي هذه الإرادات والإنشاء والاعتبار مجرّد وسيلة تخبر عن حكم اللَّه الذي هو الإرادة.

ومن ثمّ سواء قلنا إنّ حقيقة الحكم الاعتبار والإرادة مبدأه كما هو الحقّ، أم قلنا إنّ حقيقته الإرادة والاعتبار مبرز وكاشف ومخبر، فالنتيجة المتوخاة واحدة، وهي

أنّ التكوين ذو صلة بالاعتبار، وأنّ غطاء الاعتبار أو محكيه هو الإرادات الإلهية التكوينية الكلّية، وهذه الإرادات بحكم نظام الوسائط تتنزّل حتّي تنتهي بنفس الوحي ومن قبل النبيّ.

هذا ويذكر في علم الأُصول أيضاً أنّ الحكم الكلّي ينحلّ عقلًا إلي أحكام جزئية شرعية اعتبارية، وكذا الإرادات الكلّية تنحلّ إلي إرادات جزئية تكوينية، وقد نبّه إلي ذلك العرفاء أيضاً، وهو الحقّ.

النقطة الثانية: إنّ تنزّل الأمر والشأن منه تعالي علي عالم مثل الدنيا يتمّ عبر مراحل ولوائح تكوينية ونشآت متعدّدة، وكلّما كان العالم والنشأة أكثر علوية كلّما كانت المتنزّلات أكثر بساطة، وكلّما توغّل في التنزّل كلّما كان أكثر تقديراً ومحدودية وتضيّقاً.

وعلي هذا الأساس نقول: إنّ النبيّ الحامل لشريعة الظاهر تتلقّي نفسه الشريفة التشريع في لوائح عالية في النشآت الغيبية، فهو يعلم بالاعتبارات وموجبها وهي الإرادات الكلّية التكوينية.

وأمّا حامل الولاية والشريعة في السنن الكونية فيتلقّي الإرادات الإلهية التكوينية الجزئية في نشآتها النازلة، كما يتلقّي الإحاطة بالإرادات الكلّية عن المقام الروحي للنبيّ عن مقامه الغيبي ومن ذلك يظهر استحالة النبوّة مجرّدة عن الولاية كاستحالة تجرّد الحكم الاعتباري الشرعي وانفكاكه عن الإرادة الشرعية،

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 441

فكما أنّ الحكم الشرعي من دون إرادة إلهية مستبطنة خلفه محال، فكذلك استحالة النبوّة والرسالة من دون تعقّبها بما يليها في المقام الغيبي وهي الولاية والإمامة.

ومنه يتّضح أنّ الشريعة لو اقتصر فيها علي سطح العلم الظاهر من فقه المعارف والأحكام وهو العلم الحصولي الكسبي بالشريعة الظاهرة من دون عمق العلم اللدني بالحقائق والإرادات الإلهية التكوينية وهو الولاية والإمامة الإلهية، لكان ذلك من قيام الاعتبار من دون نشأة الحقيقة التكوينية، وكان خيال وسراب محض، ولكن مثل الخضر عليه السلام من أقسام الولي الحجّة، وكذا مريم عليها

السلام.

كما تقدّم له الهداية الإراءية فهو محيط بالإرادات الكلّية حضوراً فكيف كان موسي أفضل منه؟ فهو باعتبار أنّ الولي الحجّة مع النبيّ صلي الله عليه و آله المتبوع له يتلقّي في القنوات الروحية عن ذلك النبيّ يتبعه، فالزهراء عليها السلام تتلقّي في الباطن الروحي عن المقام الروحي لسيد الأنبياء صلي الله عليه و آله. وعلي أساس هذا الفرق يتبين أكملية النبيّ حامل الشريعة الظاهرة علي التابع له الولي الحجّة الحامل للولاية وللشريعة بحسب الدرجة في النظام الكوني.

ثمّ إنّنا نلحظ في قضية الخضر أدباً إلهياً بعد الالتفات إلي أنّه أسند الأفعال تارةً إلي نفسه في: «أَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا» لا إلي اللَّه تعالي، وأُخري إلي اللَّه في: «فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا» «1»

، وسرّ الاختلاف كما تبينه الرواية عن الصادق عليه السلام أنّ في القول الأوّل حيث كان الفعل معبّراً عن نقص فلم ينسب إليه تعالي تأدّباً، بخلاف الثاني، فلمّا لم يكن إلّاأمراً خيرياً نسب إلي اللَّه تعالي.

وبهذا يمكن أن نفهم الفرق بين موسي والخضر وأكملية الأوّل علي الثاني من

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 442

بعض الجهات.

كما يمكن علي هذا الأساس أن نسجّل تعريفاً دقيقاً لكلّ من شريعة الظاهر ونظام التكوين، فالأُولي هي الإرادات الكلّية التكوينية الإلهية المتعلّقة بأفعال المختار بتوسّط تعلّقها بفعل الشارع، وهو الأمر والإنشاء والاعتبار، والثانية هي الإرادات الجزئية المنحلّة من الإرادات الكلّية.

وهذه القصّة في واقعها أحد أوجه الفرق بين العلم النبويّ والعلم اللدني والتي سبق أن أشرنا إليها، وهي أنّ العلم اللدني له مجال أوسع؛ إذ يشمل أولياء اللَّه الحجج وهو نوع من الاصطفاء، ويكون مقاماً أعمّ من الإمامة وأعمّ من النبوّة، فيشمل الزهراء عليها السلام ومريم عليها السلام التي لها نوع من الولاية، وبقية أولياء اللَّه

الحجج التي تشير إليهم الآيات القرآنية، لذا فهو يشمل النبيّ والإمام والحجّة الولي.

أمّا العلم النبويّ فإنّه يختصّ بالأنبياء، وهذا لا يعني التقاطع بينهما، بل إنّ النبوّة تلازم وجود شعبة من العلم اللدني للنبيّ دون العكس، ومن هنا قيل إنّ كلّ نبيّ وليّ وليس كلّ وليّ نبيّ؛ إذ لا يمكن للنبيّ أن يصل لنبوّته من دون أن تكون له شعبة من شعب العلم اللدني، ومن هنا قيل إنّ ولاية النبيّ أرفع من نبوّة نفس ذلك النبيّ، ويدلّلون في علوم المعارف أنّ الولاية هي غيبية دائماً وتكوينية، والنبوّة وإن لم تكن ظاهرية تماماً، إلّاأنّها بالإضافة إلي ولاية ذلك النبيّ تعتبر ظاهراً.

وبتعبير آخر: أنّ النبيّ بولايته يتلقّي من الباري ويعلم بالإرادات التكوينية ثمّ في تنزّلها تكون ظاهراً ورسالة، وهذا العلم اللدني هو المنشأ للظاهر ولا يشمل كلّ الإرادات التكوينية، كما يأتي الإشارة مفصّلًا في حقيقة التشريع.

أمّا التأويل الوارد ذكره في الآية الكريمة؛ فإنّ التأويل عموماً ورد في القرآن بعدّة استعمالات:

1- في سورة يوسف، تأويل الأحاديث والرؤيا، وأنّه لديه علم التأويل، وهذا

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 443

لا يخصّ الرؤيا كما قد يبدو لأوّل وهلة، بل يعمّ كلّ ما يرتبط بالنشأة ما قبل الدنيا.

2- في قوله تعالي: «يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ» «1»

بلحاظ نفس الوجود الخارجي لحقيقة القرآن.

3- التأويل بلحاظ الوجودات والنشآت المختلفة، ومنه ما ورد أنّ الآخرة تأويل للدنيا.

4- التأويل الوارد في آية المحكم والمتشابه.

5- التأويل الوارد في هذه السورة، وهو تأويل ببيان الشريعة بحسب السنن الكونية الإلهية.

والتأويل مأخوذ من الأول والأوب وهو الرجوع والانتهاء، والغاية تأويل المغيا، وغاية الغاية تأويل الغاية، وهذا هو المعني الجامع بين هذه المعاني، وهو ما يعني تعاقب النشآت لبعضها البعض وجعل التالية غاية للسابقة، فما قبل

النشأة الدنيا غايتها النشأة الدنيوية، والبرزخ والآخرة هي غاية للدنيا، وعليه لا تكون التأويلات محصورة بل تتعدّد بتعدّد النشآت، وقد يحظي الأولياء الحجج ببعض أو كلّ هذه التأويلات حسب مقاماتهم.

في تفسير الخضر أفعاله لموسي، وقبل ذلك نعرض لنقطتين:

النقطة الأولي: علي صعيد التعليلات التي ذكرها الخضر لموسي يجب التوجّه إلي:

أ- إنّ مقام التعليل الغرض منه هو إقناع الطرف الآخر، ولذا يجب أن يذكر فيه علّة مشتركة علي مبني المتكلّم والسامع.

ب- إنّ فعل الخضر كان علي أساس مقام الولاية من الشريعة بحسب السنن

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 444

الإلهية الكونية، واعتراض موسي كان علي أساس الشريعة الظاهرة من مقام النبوّة، ممّا يعني وجود مشترك بين درجتي الشريعة بحسب الظاهر ونظام التكوين؛ وإلّا لما كان تعليل الخضر مفهوماً لموسي، مع أنّا نلحظ أنّ موسي اقتنع بل انجلي له فظاعة ما تقدّم.

ج- يستنتج من هاتين النقطتين أنّ ما علّل به الخضر هو القاسم المشترك بين الشريعة الظاهرة والشريعة في السنّة الإلهية الكونية.

د- إنّ موسي اقتنع بما ذكر له الخضر وانجلي له صحّة الأفعال التي قام بها الخضر حتّي علي مستوي الشريعة الظاهرة.

ه- ومن هنا نستنتج حقيقة مهمّة في النسبة بين درجتي الشريعة، وهي أنّ السنّة الإلهية الكونية تطبيق للظاهرة، وأنّ النظام الكوني لا يلغي الظاهر بل هما متلاحمان، وأنّ الولاية إنجاز لأغراض النبوّة.

ومن هذه النتيجة يمكن أن نؤشّر علي ظواهر انحرافية هي تلك التي ألغت الظاهر بالنظام الكوني الإلهي، أو افترضت أنّ السنن الكونية لا تفهم بالظاهر أبداً ولو بتوسّط المعصوم، أو أنكرت العلاقة بينهما وأنّها مفترضة أجنبية ومغايرة، بل ناسخية الشريعة الكونية للظاهرة، وأنّ الولاية في الإمامة ناسخة للنبوّة بتوهّم أنّها نبوّة أُخري، وأنّ كلّ مقام غيبي فهو نبوّة.

النقطة الثانية:

من القواعد المهمّة التي تحكم الشريعة الظاهرة والتي تحتاج من الفقيه إلي تدبّر وتمعّن في الموازنة بين الأحكام الظاهرية، هي حالة التصادم بين الأحكام المختلفة وأي حكم يجب تقديمه في هذا المقام، وهو المعروف بين الفقهاء بالتزاحم، وقد ذكرنا مفصّلًا في بحث علم أصول الفقه التزاحم في الملاكات وفي مقام الامتثال والضوابط التي يجب مراعاتها في تقديم أي الملاكين، وقد أشرنا هناك إلي أنّ ما ذهب إليه العامّة من بحث المصالح المرسلة

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 445

وسدّ الذرائع ما هو إلّانوع من التطبيق لمبدأ التزاحم، واختلافنا معهم في كيفية استكشاف الملاكات وفي طريقة التقديم، فهم قد اكتفوا بالملاكات الظنّية والتقديم الظنّي أو جعلوا ذلك ضابطة للتشريع الثابت.

وسوف نلاحظ أنّ الأفعال التي قام بها الخضر هي من باب التزاحم والسعي إلي حفظ الملاكات الواقعية التي خفيت عن النبيّ موسي، والتي لو كان قد علم بها لما اعترض عليه:

أوّلًا: خرق السفينة … ص: 445

وهاهنا سؤالان:

الأول: كيف ينسجم التعليل مع موازين الظاهر؟

الثاني: مع الانسجام ما هو الواقع في السنن الإلهية الكونية الذي اختصّ به الخضر؟

ففي هذا الفعل كان هناك ملاكاً مهمّاً سعي الخضر إلي المحافظة عليه؛ وهو حفظ مال المساكين من سطوة الحاكم الظالم، وهذا لم يكن موسي علي علم به، ثمّ في مقام التطبيق كان الأمر يدور بين عطب السفينة وبين تعييبها؛ إذ في كلاهما يتحقّق الغرض، ومن الواضح أنّ المحافظة علي الكلّ أولي من المحافظة علي البعض، فالخضر عمل بقاعدة التزاحم وهذا من موازين الظاهر أيضاً، لكنّه اختصّ بعلم وجود مصاديق التزاحم من اغتصاب الملك الظالم لكلّ سفينة.

ثمّ في كيفية التصرّف الذي قام به الخضر من دون إذن أصحابها، فيمكن القول فيه: إنّ التصرّف العقدي يحتاج إلي إذن صريح ورضا بالإنشاء،

أمّا التصرّف المجرّد غير العقدي كالأكل والشرب- فلا يحتاج إلي ذلك بل يكتفي فيه بالعلم بطيب النفس وإن لم يكن المالك ملتفتاً، ومن هنا تظهر النكتة في أنّ إذن الفحوي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 446

لا يحتاج إلي إبراز إنشائي، ومن الواضح أنّ المالك لو خير بين تلف العين أو صفة العين فإنّه سوف يختار الثاني.

فنلاحظ أنّ الخضر بالعلم اللدني علم أنّ الملك سوف يأخذ كلّ سفينة غصباً، فهو إعمال للعلم اللدني في تطبيق الشريعة الظاهرة، وهذا هو الحدّ الذي تعطيه الآية في العلقة بين الشريعتين، أو بتعبير أدق بين درجتي الشريعة، أي أنّ الشريعة بحسب السنّة الإلهية الكونية ومقام الولاية تسعي إلي التحفّظ علي الملاكات في الشريعة الظاهرة ومقام النبوّة بنحوٍ لا يقبل الخطأ، وتكون مصيبة دائماً.

ثانياً: قتل الغلام … ص: 446

والإشكال فيه كما ذكرنا سابقاً من جهة الاقتصاص قبل الجريمة، وكونه غلاماً لم يبلغ الحلم.

والجواب عنه نقضاً وحلّاً:

أمّا النقض فبوجود موارد يوجد فيها جواز للقتل من دون جرم، كما في حالات تترّس الكفّار بالمسلمين في الحرب فيجوز عند استهداف الكفّار للقتل حينئذٍ قتل المسلمين. وكما في حالات الدوران- علي بعض الأقوال الفقهية وإن لم يكن تامّاً عند المشهور المنصور من الرأي الفقهي- بين حفظ النفس ونفس أُخري أهمّ ملاكاً من الأُولي، فيرفع اليد عن وجوب حفظ أحد النفسين، ويحافظ علي النفس الأهمّ.

أمّا الحلّ: إنّ قوانين التزاحم التي تحكم الشريعة الظاهرة هي مختصّة في الحكمين الفعليين، أمّا في شريعة السنن الإلهية الكونية فإنّ التزاحم يطبّق حتّي في موارد الشي ء الفعلي والآخر المستقبلي، وهذا ما يحدث في العلم اللدني حيث يري أنّ الملاك الأهمّ بمراتب وإن كان ليس بفعلي يتصادم مع الملاك

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 447

الفعلي، وهذا وإن لم يكن ميزاناً

في ظاهر الشريعة لعدم حصول العلم بالشي ء المستقبلي لاسيما إذا كان متمادياً في طول الزمان.

والروايات تشير إلي أنّ اللَّه أبدلهما ببنت تزوّج منها نبيّ من أنبياء اللَّه وتسلسل منه سبعون نبيّاً، فلو بقي هذا الغلام لكان سبباً في كفر الأب، وبالتالي انقطاع النسل النبويّ، وهذا لا يمكن استعلامه بالشريعة الظاهرة، بل يتمكن منه من أُوتي العلم اللدني.

ثالثاً: الجدار … ص: 447

إنّ إشكال موسي هنا لم يكن في مؤاخذة إلزامية، بل كان لترك ما هو الأولي والأرجح.

ويلاحظ من التعليل الوارد في هذه الآية الشريفة أمران:

أ- إنّ الإرادة الإلهية ليست من سنخ إرادة اللَّه (كن فيكون)، بل إرادة في واقعها تتحقّق بالاختيار البشري، وبتوسّط البشر لا بتوسّط الملك أو مخلوقات أُخري.

ب- إنّ الملاك الأهمّ الذي أراد اللَّه عزّوجلّ حفظه هو ملاك ندبي، وهو كون أبيهما صالحاً، فأراد الحقّ تعالي إكراماً لهذا الأب الصالح أن يحفظ بصلاحه ذرّيته.

وهنا ننتقل للقول بأنّ الإرادة الإلهية كان لها هذا الدور من خلال هذه المنظومة في حفظ هذه الأغراض التي ليس لها تلك الأهمّية الإلزامية وتتّصف بالشخصية، فكيف بتلك الأغراض الجادّة المهمّة التي تؤدّي إلي انعطافات مهمّة في الدين والشريعة، فهذا يدلّنا علي وجود مجموعة من الأولياء ورجال الغيب الذين لهم تلك الخصوصية من الاطلاع علي العلم اللدني وتكون وظائفهم حفظ الأغراض التي يوليها الشارع تلك العناية، وأنّ الحقّ تعالي لا يوكل الأمر إلي مجموع

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 448

الاختيار البشري، بل إنّ هذه المجموعة هي التي تسعي بالمجموع للوصول إلي مقاصد الشريعة.

والأمر المهمّ الذي نستفيده من هذه التعليلات أنّ الشريعة الكونية والسنن الإلهية التكوينية تطبيق للشريعة الظاهرة، وأنّ الهداية الإيصالية في الشريعة الكونية هي إقامة خفية للشريعة الظاهرية، فلا يُكتفي بالهداية الإرائية، بل تكون إلي

جنبها الهداية الإيصالية، وأن لا تترك الأُمور إلي الصدف، بل تكون هناك يد غيبية لأجل المحافظة علي تحقيق الأهداف والأغراض.

وقوله تعالي «عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا»، يؤكّد أنّ الخضر ليس وحيد سنخه، وإنّما هنالك منظومة من الأبدال والأوتاد والأولياء قد زوّدوا بالعلم اللدني، وأنّ من جملة وظائفهم تحقيق الأغراض التي هي الملاكات وغايات الشريعة الظاهرة.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 449

فوائدالفائدة الأُولي: حقيقة التشريع … ص: 449
اشارة

إنّ قضية الخضر مع النبيّ موسي وما اختصّ به كلّ منهما من الكمالات يستدعي التعمّق قليلًا في بيان حقيقة التشريع السماوي الذي أوتيه النبيّ موسي عليه السلام وحقيقة العلم الذي أوتيه الخضر، وأنّ هذه القصّة لا تدلّ علي أفضلية الخضر علي النبيّ موسي من كلّ جهة، بل هو تابع له في شريعته السماوية.

لقد سعي الأصوليون خلال سنين متعدّدة إلي تركيز النظر في حقيقة الحكم الشرعي والمراحل التي يمرّ بها، وإذا كان تسليط الضوء علي أحكامه في الفترة التي تعقب صدوره من الناحية المقدّسة عن طريق الرسول صلي الله عليه و آله، فإنّ المراحل التي تسبق مرحلة الإنشاء كانت أيضاً محلّ بحث وتأمّل بين العلماء، وكان السؤال الذي دار في أذهانهم ما هو الارتباط بين عالم الاعتبار وعالم التكوين؟ وهل هما منفصلان بعد المفروغية من أنّ الاعتبار يستتبعه التكوين والفعل الخارجي لكنّ الكلام في المرحلة السابقة؟

* فذهب جمهرة من الأصوليين إلي أنّ الإرادة الإلهية التكوينية هي الأساس لهذا التشريع والاعتبار، بمعني أنّ وراء الاعتبار إرادات تكوينية متعلّقها ليس الفعل الخارجي، بل متعلّقها إنشاء الحكم واعتباره، وهي بالتأكيد تسبق الاعتبار والحكم التشريعي، وكلّيتها متعلّقها هو الاعتبار والإنشاء أو جعل حكم كلّي.

وذهب المحقّق النهاوندي في تشريح الأصول إلي أنّ الأحكام الشرعية ليست

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 450

أحكاماً اعتبارية، بل هي إرادات تكوينية

تشريعية، ومتعلّقة بفعل المكلّف، وتبعه المحقّق العراقي. وأنّ الأحكام الشرعية التكليفية إرادات تكوينية سابقة علي النشأة الأرضية، والإنشاء مجرّد وسيلة تخبر عن حكم اللَّه الذي هو الإرادة.

وعلي كلّ حال، فسواء جعلنا الإرادة التكوينية هي منشأ الشريعة الظاهرة أو أنّها هي، فإنّ هذه الإرادات ليست حالة في الذات، بل هذه الإرادات بحكم نظام الوسائط تتنزّل من اللوح والقلم. حتّي تصل إلي نفس النبيّ أو الوصيّ أو الوليّ الحجّة، وأن إراداتهم هي إرادة اللَّه ومشيئاتهم مشيئات اللَّه.

* نبّه الأصوليون إلي أنّ الأحكام قسمان: الشرعية الاعتبارية والأحكام التكوينية. فالأُولي تكون علي صيغة القضايا الحقيقية، وهي تنحلّ إلي قضايا جزئية في موارد عديدة، وبالمقابل في الأحكام التكوينية، أي أنّ الأحكام التكوينية الكلّية تنحلّ إلي أحكام تكوينية جزئية تكون وراء كلّ حكم شرعي جزئي، وقد نبّه أهل المعرفة علي ذلك.

* وقد أشارت الروايات وفسّرها أهل المعرفة والحكمة- إلي أنّ الأمر والشأن من اللَّه في تنزّله إلي العوالم السفلية يتمّ عبر مراحل، ويعبّرون أنّها تتمّ عبر لوائح تكوينية وأقلام تكوينية، وكلّما كانت النشأة أكثر علوية كانت الإرادات الإلهية فيها كلّية، وكلّما تنزّلت هذه الأوامر الإلهية في اللوائح النازلة كلّما ضيّقت وقدّر وصارت ليلة القدر أي ليلة التحديد.

* إذا التفتنا إلي النكات السابقة نستطيع معرفة الفارق المحوري بين الشريعة في الدرجة الظاهرة والكونية ونظام التكوين، وبين مقام صاحب الشريعة بالدرجة الظاهرة، وبين مقام صاحب شريعة السنن الكونية الإلهية.

فإنّ النفس النبويّة تتلقّي الإرادات الكلّية التشريعية الإلهية في لوائح ونشآت عالية، ويكون لها علم بتلك الإرادات التكوينية الكلّية، أمّا صاحب النفس الولوية

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 451

والشريعة الكونية فإنّه يتلقّي الإرادات الإلهية الجزئية التكوينية في اللوائح والنشآت النازلة.

وبناءً عليه نري أنّ الذي يطّلع علي تلك

الإرادات الكلّية يكون أفضل مقاماً من الذي يطّلع علي الإرادات الجزئية فقط، ولا يكون له اطّلاع علي تلك الكلّيات إلّا من خلال الإرادات التشريعية الواردة عن طريق النفس النبويّة، ومن هنا نقول إنّ هؤلاء الأولياء الحجج يكونون تابعين لصاحب الشريعة النبيّ الذي في زمانهم؛ وذلك لأنّ تلك الإرادات الكلّية تكون عن طريق تلك النفس النبويّة في عهده.

ومن ثمّ إنّ النبيّ الخاتم صلي الله عليه و آله يكون واسطة في تلقّي الأئمّة عن طريق الملكوت والأرواح التي هي مرتبطة بعالم الأمر والملكوت، لا عن طريق الحسّ والظاهر.

وبتفاوت النبوات وأفضليتها تتفاوت مقامات التابعين والأولياء، ويمكن أن نفهم الفرق بين موسي والخضر وأكملية الأوّل علي الثاني، مع عدم علم موسي ببعض ما عند الخضر.

كما يظهر تعريف آخر للشريعة الظاهرة: أنّها الإرادات الكلّية الإلهية ومتعلّقها أفعال المكلّفين المختارين بتوسّط تعلّقها بفعل الشارع وهو الأمر والإنشاء والاعتبار. والشريعة في السنن الإلهية الكونية: أنّها الإرادات الجزئية المنحلّة من تلك الإرادات الكلّية «1».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 452

كما يعلم الحال في غير المعصومين وأنّ فقهاء الشريعة إنّما يصلون إلي الحكم الظاهري في الشريعة الظاهرة عن طريق الطرق والإمارات الشرعية، بينما النبيّ يكون له اطّلاع مباشر علي الإرادات التكوينية الكلّية، أمّا الفقيه فلا يحيط بذلك فضلًا عن الاطّلاع علي الإرادات الجزئية، ويفهم من ذلك أنّ مجرّد الحصول علي الملكة الكسبية لا يعني الاطّلاع والوصول إلي تلك الإرادات الكلّية ولا الجزئية، فلابدّ أن يكون تابعاً إلي صاحب الولاية.

الفائدة الثانية: … ص: 452

وتتضمّن تحليل أدبي لغوي فلسفي لأدب من الآداب الإلهية، أشار إليه الإمام الصادق عليه السلام في رواية ذكرها صاحب نور الثقلين، وهي تتعلّق بملاحظة طريقة تفسير الخضر لأفعاله واختلاف نسبة الأفعال في الوقائع الثلاث، ففي قصّة السفينة

قال: «فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا»، وفي قضية القتل قال: «فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا* فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا» «1»

، وفي واقعة الجدار قال: «فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا …».

فنلاحظ أنّه تارةً يسنده إلي نفسه، وتارةً للمجموع، وثالثةً للَّه عزّوجلّ، والملاحظ أنّه في الأفعال الخيرة يسند الفعل للَّه عزّوجلّ، وفي الأفعال التي ظاهرها النقص يسندها إلي نفسه أو إلي من هو مثله. فالإعابة والقتل والخشية من أفعال الآدميين، والإرادة والإبدال هي من أفعال اللَّه عزّوجلّ، فمع أنّ الكلّ من عند اللَّه عزّوجلّ إلّاأنّه في مقام التأدّب معه تعالي لا يسند ما ظاهره النقص له

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 453

تعالي.

أمّا المجموع في (فخشينا) فلا يمكن أن يريد الخضر نفسه، والجمع بلحاظ التفخيم؛ وذلك لأنّ الخضر لا يفخّم نفسه في قبال اللَّه تعالي، ولا أيضاً في قبال موسي، مضافاً إلي أنّه في الشريعة للسنن الكونية الإلهية يُراعي دقّة الحقائق لا المجازات، وإذا أخذنا في عين الاعتبار ما ورد في صدر القصّة من عبادنا، فنعلم أنّ المراد من الخشية هنا هو مجموع رجال الغيب، وهي مجموعة تسالمت المذاهب المختلفة علي وجودها وإن اختلفت تسميتها من الأبدال والأوتاد والسياح والأركان، وأنّ هذا العلم لا يختصّ بالخضر بل إنّ تلك العلوم يزوّد بها رجال هذه المنظومة، فهم وإن كانوا غير موكّلين كلّهم بهذه المهمّة إلّاأنّ العلم بهذا العلم يولد خشية لدي الجميع، وإن كان التنفيذ مختصّاً بواحد منهم، وكأنّه ينوب عنهم في تأدية هذا الفعل.

إنّ هذا الأدب الإلهي الذي أشرنا إليه فيما مضي أيضاً في طلب موسي من الخضر وإجابة الخضر له، إنّما يدلّ علي جذر عقائدي يدعم ويولّد تلك المعرفة التي يكون تلفّظ الإنسان بها وخطابه مع الذات المقدسة بما يتلاءم مع مقام الذات

وتنزّهها عن المعايب والنواقص، وقد أشار علماء المعرفة إلي هذه النكتة في موارد عدّة، مثلًا في صفة الكرم يرجعونها إلي أنّ الاعتقاد بحسب الفطرة بأنّ فيض وجود اللَّه عزّوجلّ وكمالاته غير متناهية، فالرزق والعطاء لا يكون محدوداً، ومنه ينشأ صفة الكرم.

وهكذا صفة الشجاعة فهي تعود إلي مقام توحيدي بالاعتقاد بأنّ القدرة الحقيقية كلّها ترجع إليه سبحانه، وبالتالي لا يكون هناك أحد مالكاً للقدرة إلّا بإقدار منه، فينشأ من هذا الاعتقاد عدم خشية الإنسان من أحد، وإذا شاهدنا أمثال هذه الصفات من أحد فإنّها تنمّ عن مقدار من التوحيد بنحو الإجمال البسيط في

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 454

فطرته، بل ما ورد في سورة البلد يدلّ علي أنّ الصفات الحميدة دالّة علي الإيمان:

«فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ* فَكُّ رَقَبَةٍ* أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ* يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ* أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ* ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ» «1».

ولا يخفي أنّ هذا الأدب ليس مجرّد مجاملات شكلية، وإنّما يعتمد أساساً علي قاعدة تمّ مراعاتها من قبل الخضر، وهو ما أشار إليه القرآن من نسبة السيئة إلي العبد ونسبة الحسنة إلي اللَّه مع كون كلّ منهما من عند اللَّه.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 455

المقالة الثانية التصدّي الفعلي الخفيّ للإمام في عصر الغيبة لإدارة وتدبير النظام الاجتماعي البشري … ص: 455
اشارة

وهذا التصدّي الفعلي الخفي السريّ المستتر ليس خاصّاً بعصر الغيبة وليس خاصّاً بالإمام المهدي (عج)، بل هو من لدن إمامة آدم عليه السلام وأوصيائه، وإمامة نوح وإبراهيم إلي إمامة سيد الأنبياء صلي الله عليه و آله قبل بعثته وأثناء حكومته الظاهرية، وأمير المؤمنين عليه السلام قبل حكومته الظاهرية وأثناءها أيضاً، وكلّ الأئمّة عليهم السلام إلي عهد إمامة المهدي (عج) في عصر غيبته، ونلحظ هذه الحقيقة في شؤون الإمامة الإلهية من خلال

نموذج الخضر.

فنلحظ أنّ الخضر قد نسب ثالثة الفعل إلي المجموع في قوله (فخشينا، فأردنا)، وهو ينسجم مع قوله: «عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا» الظاهر في أنّ الخضر واحد من مجموعة قد زوّدوا بالعلم اللدني وكُلّفوا للمحافظة علي أغراض الشريعة الظاهرة بتطبيقها، فالخشية هي خشية المجموع، وإرادة الجميع تدلّ علي أنّ ما قام به الخضر واجب كفائي قد انبري الخضر لأدائه.

بعد كلّ هذا. يمكن أن يسجل هذا السؤال معترضاً علي فكرة الولاية و (النزعة الملكوتية والخفاء) في الإمامة، وفكرة الجماعة المزوّدة بالعلم اللدني الموظّفة بما ذكرناه والتي يديرها الإمام عليه السلام، وفكرة أنّ قوام الإمامة المقوّم لها هو الهداية الإيصالية.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 456

والسؤال: إنّ ما ذكر لا يظهر من الكتاب والسنّة المستفيضة، وهو لا يعدو تنظير الصوفية، والذي خلاصته: تشابك الأرواح والنفوس علي شكل منظومة هرمية تستبطن عدة خلايا ترتبط جميعها بالإمام، والذي اختلفت تعبيراتهم عنه بين القطب والغوث والإمام.

وقد جاء ما يوازي هذا الفهم في تعبير الفلاسفة والذي برهنوه عقلًا- بسلسلة الارتباط العلي الوجودي.

ومعه لا يمكن أن تأخذ هذه الأُطروحة مجالها في الفكر الشيعي ما لم تصبغ بصبغة دينية وتكون ذات غطاء قرآني روائي، وهو مفقود.

ومن ثمّ لابدّ من الاقتصار علي أنّ الإمامة منصب إلهي يعني المرجعية الدينية (الهداية الإرائية) والزعامة السياسية، مع قبول ارتباطه بالغيب وتزويده بالعلم اللدني؛ فإنّ هذا القدر هو الظاهر من القرآن والسنّة.

والجواب: إنّ الموجود عند الصوفية لا يتجاوز بذوره ومبدأ نشأته القرن الثالث، بل بلورته كنظرية جاءت في أواخر القرن السابع وبدايات القرن الثامن، مع أنّ الروايات في هذا المجال أسبق بكثير من هذا التاريخ فضلًا عما في القرآن وكلمات الرسول صلي الله عليه و آله والأمير عليه السلام وبقية الأئمّة

عليهم السلام بل إنّ معظم ما لدي الفرق الصوفية والعرفاء هو طفيل ووليد عن فرق الغلاة الشيعية التي ظهرت في النصف الثاني من القرن الأوّل وفي القرن الثاني والثالث الهجري، بينما فرق الصوفية متأخّرة زمناً عن فرق الغلاة، بل إنّ سلسلة مشايخ الصوفية جلّها تنتهي إلي غلاة الشيعة وجملة من هؤلاء الغلاة لا كلّهم- كانوا أصحاب سرّ في المعارف لدي أئمّة أهل البيت عليهم السلام- غاية الأمر لم يحالفهم الحظ أن يبقوا علي الاستقامة، كما حصل مع بلعم بن باعورا حيث آتاه الباري تعالي بعض حروف الاسم الأعظم: «آتَيْنَاهُ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 457

آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا» «1».

فلم يكن خلاف الحكمة الإلهية إعطاءه الآيات من الاسم الأعظم مع علم الباري في الغابر أنّه لن يستقيم، ولكن الإعطاء الغيبي من الباري لبلعم بن باعورا حجّة عليه بعد استحقاقه في ظرف الاستقامة للعطية الغيبية الإلهية، وفي ذلك حكم أُخري منه تعالي، مثل تنبيه البشر علي أنّ من يتّق اللَّه يجعل له فرقاناً، واتّقوا اللَّه يعلمكم، أي تنبيههم علي وجود علوم غيبية ليست في متناولهم.

وأنّ نشأة الغيب نشأة لا تنزف ولا تنفذ كما ورد في الحديث القدسي:

«لأعطين الحكمة من زهد في الدنيا، فأمّا المؤمن فهي حجّة له، وأمّا الكافر فهي حجّة عليه» «2».

هذا وغيره هو وجه الحكمة في تربية أهل البيت عليهم السلام بعض أصحاب السرّ أيام الاستقامة مع علمهم بما سيؤول حال أُولئك الأصحاب، هذا مع أنّ جملة كثيرة أُخري من أصحاب السرّ بقوا علي الاستقامة، كسلمان الفارسي وكميل بن زياد النخعي وميثم التمّار ورشيد الهجري وحبيب بن مظاهر وجابر بن يزيد الجعفي ويونس بن عبد الرحمن وذريح المحاربي، وغيرهم.

وعلي أي تقدير، فما عند الصوفية من سمن إذا فصل

عن الغثّ، أو صواب أسرار المعرفة فإنّما تلقوا وأخذوا جذوره من فرق الشيعة، ومن ثمّ قالت أهل سنّة الخلافة وجماعة السلطان عن الصوفية والتصوّف إنّه قنطرة التشيع.

وبالإضافة إلي أنّ الصوفية لا يعدون ذلك من مبتدعاتهم أو ما ثبت لهم بالمكاشفة فقط، وإنّما ينسبون ذلك إلي أمير المؤمنين عليه السلام.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 458

وبالتالي فما ذكرناه لا يمثّل اختراقات الفكر الصوفي السنّي للفكر الشيعي، وإنّما هو تأثيرات الفكر الشيعي علي الفكر السنّي المتمثّل بهذه الطبقة.

ومن ثمّ نفهم الحسّاسية البالغة عند فقهاء السنّة ومحدّثيهم من صوفيتهم، حيث تجرّ أطروحة الصوفيين الفكر السنّي إلي الفكر الشيعي، وتجعل من مبدأ الإمامة الشيعي ضرورة، فحاولوا الطعن عليهم بأنّهم متأثّرون بالاتّجاه الباطني وهو الشيعة، مستهدفين بذلك تجريد الأُطروحة من الدليل والشرعية.

فقد جاءت الباطنية في كلماتهم في سياق الذمّ وأنّها منقصة، ومن ثمّ نسبوها إلي أئمّة أهل البيت، حتّي قال بعضهم: إنّ نسبة الباطنية إلي عليّ عليه السلام لها وجه، وأمّا نسبتها إلي جعفر بن محمّد فلا ريب فيها.

وقد غفل هؤلاء عن أنّ ما ذكر مديح للأمامية بأنّهم يؤمنون بالغيب، وأنّ فكرة الباطنية بمعني الاعتقاد بعالم ونشأة الغيب والارتباط به واشرافه علي عالم الشهادة من دون التنكّر لعالم الغيب، كما هو مذاق المادّيين الحسّيين، هي أطروحة الشيعة لا من مستورداتهم، سوي أنّ هذه الفكرة قبلتها الشيعة بالشكل الذي مرّ، وهو حفظ التوازن بين البطون والظهور وعدم تغليب أحدهما علي حساب الآخر، وبين التأويل كحقيقة قرآنية بيد الراسخين في العلم وهم أهل آية التطهير وبين ظهور الكتاب وبين تنزيل الكتاب في المصحف الشريف بين الدفّتين وبين القرآن المجيد في نشأة اللوح المحفوظ والكتاب المكنون الذي لا يمسّه إلّا المطهّرون والكتاب المبين الذي يستطرّ

فيه كلّ شي ء الذي هو حقيقة قرآنية يجب الإيمان بها علي حدّ الإيمان بالمصحف بين الدفّتين، وإلّا لكان من الإيمان ببعض الكتاب والكفر بالبعض الآخر.

فالباطن والبطون هو الغيب الذي ليس منالًا لكلّ أحد كما يدّعيه الصوفية، بل هو في موقعه القطبي المركزي خاصّ بعترة النبيّ المطهّرة، فالإيمان بالظاهر دون الباطن كالإيمان بعالم الشهادة والكفر بعالم الغيب ومن الإيمان بالحسّ والإنكار

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 459

بما وراء الحسّ كما يصنع أصحاب مدرسة الحسّ والمادّة، غاية الأمر أنّ البطون وورود هذه العوالم الغيبية لا تتسنّي إلّالمن شهد له القرآن بالقدرة علي ذلك، وهم المطهّرون أهل آية التطهير، وأمّا غيرهم فلابدّ من إقامة البرهان وميزان الدلالة في الوصول إلي بعض المعاني المحدودة اليسيرة من التأويل.

وأمّا دلالة الكتاب والسنّة علي ما ذكر من معني الإمامة الإلهية مضافاً إلي ما تقدم في الفصل الثالث من الجزء الأوّل من شواهد قرآنية من الكتاب والسنّة القطعية والأدلّة العقلية والفطرية، نشير إلي شواهد أُخري علي هذا التوسّع والإضافة في معني الإمامة الإلهية الذي نحن بصدده في هذا الفصل.

الشاهد الأوّل: قوله تعالي: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ …» «1»

، فإنّ الخليفة عنوان من عناوين الإمام المدبّر المتصرّف في الأرض وبجعل تكويني إلهي، كما تقدّم في الفصل الثالث شرح هذه الآيات مبسوطاً. وموضع الاستشهاد في المقام يتبين عبر النقاط التالية:

الأولي: هو أنّ أوّل تعريف ذكره الباري للخليفة هو ذكر اعتراض الملائكة (الافساد في الأرض، وسفك الدماء) بمثابة الجنس والفصل لتعريف الخليفة، فما هي الصلة الوثيقة بين تعريف الخليفة والإمام في الأرض وبين هذين الاعتراضين؟ فلابدّ ثمّة من ارتباط وثيق بينهما أراد أن ينبّه الباري

تعالي عليه حيث إنّ القرآن الكريم في مقام تعريف الخليفة والإمام.

الثانية: إنّ اعتراض الملائكة بالإفساد في الأرض وسفك الدماء لابدّ أن يراد منه المقدار الغالب من الافساد وسفك الدماء بمقدار أكثري؛ وذلك لأنّ الفساد الأقلّ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 460

في مقابل الإصلاح والصلاح الأكثر ليس مذموماً بل راجح، كما أنّ سفك الدماء القليل بالقياس إلي مجموع عدد البشرية الكبير وبنحو مانع عن انقراض النسل ليس قبيحاً، بل حسن، فلابدّ أن يكون مصب الاعتراض هو بالفساد الكثير وسفك الدماء الأكثر، أي الشرّ الكثير في مقابل الخير القليل، لا الاعتراض بالشرور القليلة في مقابل الخيرات الكثيرة، فهذا المعني هو الذي اعترض به الملائكة علي جعل الخليفة.

الثالثة: إنّ من الواضح أنّ المجي ء بالاعتراض الملائكي والمحذور الذي تخوّف منه الملائكة في أصل سياق تعريف خليفة اللَّه في الأرض هو لبيان أنّ هذا الخليفة من أبرز خواصه ومهامه وآثاره أنّه بوجوده دارئ ممانع عن وقوع هذا المحذور، وذلك عبر عملية استخلافه وتصرّفه من قبل اللَّه أي قيامه بالتدبير فيما استخلف فيه، فبتدبيره وتصرّفه في الأُمور يحول دون انفراط النظام الفطري الإلهي للنظام الاجتماعي البشري، وبذلك يحول دون وقوع الفساد والإفساد في الأرض في كلّ المجالات، سواء البيئي والصحّي والزراعي والاقتصادي والأخلاقي والأمني والعسكري والتجاري، وكذلك يحول دون وقوع سفك الدماء الغالب المبيد للنسل البشري.

فهو بتدبيره في النظام العام يقوم بمهمّة الاستخلاف وهي حكومة النظام العالمي البشري في ضمن حكومة موحّدة تدفع بالنظم البشرية في البلدان إلي تقارب نظام عالمي موحّد علي أساس الفطرة البشرية والرعاية الإلهية والعناية السماوية، ومن ذلك يظهر سرّ نزول كلّ ملفّات التقدير والقضاء سنوياً في ليلة القدر علي صاحب الأمر، والذي قد تقدّم مفصّلًا بيانه في الرافد

الخامس، فإنّ هذا الكم المعلوماتي الهائل عن وضع البشرية السنوي في كل عام الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّاأحصاها في جدول إحصائي لسياسات الحكومة الإلهية يقوم

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 461

برئاستها ولي الأمر في ليلة القدر.

من ذلك يتّضح أنّ الملف القرآني لليلة القدر بمجموع السور والآيات المتعرّضة لحدث ليلة القدر في كلّ عام وما يتنزّل فيها هو دليل مستقلّ برأسه علي هذه المهمّة الخطيرة الموكلة لوليّ الأمر الإمام المعصوم عبر الاستخلاف الإلهي، إذ إرسال هذا الحجم الخطير من المعلومات الحسّاسة عن الوضع البشري في كلّ شؤونه لكلّ سنة مستقبلة في ليلة القدر هو عمل من الاستراتيجيات الأوّلية في الحكم والحكومة للنظام البشري، وبنية ضرورية أساسية من أركان الحكومة في منظومة الاجتماع البشري.

وبتوسّط ذلك الملف من المعلومات وعبر المنظومة الخفية لجهاز الحكم يتمّ إنجاز وإنقاذ السياسات الإلهية في حكم والحكومة علي النظام البشري بحيث يحول دون وقوع الفساد والإفساد الغالب في شتّي مجالات النظم البشرية.

وربما يُطرح في المقام تساؤلان:

الأوّل: إنّنا نري ونشاهد في طيلة التاريخ البشري مظاهر وأنظمة من الفساد والافساد في الأرض وأنواع الظلم العاتي والحروب المبيدة للنسل البشري، وفي عصرنا الراهن البشرية في شتّي البلدان قابعة تحت أنظمة الظلم والجور والعدوان، إضافة إلي تحريف الأديان وابتداع المذاهب والسنن الباطلة، وتفشّي الزيغ والأهواء، فأين هذا الحائل، وأين الطامس لآثار الزيغ والعدوان وأين المبيد للظلمة وأين صاحب راية الهدي؟

الثاني: إنّه علي ضوء وجود مثل هذا التصدّي من قبله (عج) لتدبير أُمور البشرية فما الفرق بين التدبير الخفي في الغيبة وبين حكومته المباركة بعد الظهور، لاسيما أنّ ظهوره بعد أن تُملئ الأرض ظلماً وجوراً، وذلك يعني وقوع المحذور الذي تخوّفت منه الملائكة ولو في برهة من الزمن؟

كما أنّه مع وجود هذا التدبير

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 462

الخفي من قبل جميع الأئمّة عليهم السلام فأي معني لإزوائهم عن سدّة الحكم والتصرّف في الأُمور؟ ولماذا لم يستطيعوا بهذا التدبير الخفي إرجاع الأُمور إلي نصابها؟

والجواب: إنّما يُلاحظ في تاريخ البشرية إلي عصرنا الحاضر رغم كلّ سلسلة الطغيان وسفك الدماء والعدوان والجور في المجالات العديدة والبقاع المختلفة، إلّا أنّه لم يكن بطابع الحالة المستمرّة، بل نري الإصلاح ينقض عليه وإن كان نسبياً فلا يبقيه، كما لا يدع له مجالًا لأن يكون غالباً، وكذلك الحروب التي اصطلت بها البشرية ما كانت تتمادي لتفني النسل البشري.

بل إنّ سلسلة وقافلة ومسار الرقي الفطري البشري وحاكمية القيم الفطرية علي العقل والوعي البشري آخذة في الازدياد جيلًا بعد جيل، وإن كانت ممارسة أصحاب القدرة والحكومات الوضعية يزداد بها المارد الشيطاني عتوّاً وفساداً ويعيثون في الأرض عدواناً وفجوراً، وبذلك نلحظ أنّ الفساد ليس هو الأغلب؛ فقد مرّت البشرية في عصور مظلمة مدلهمة لكن لا يتمّ لها الإصلاح والتطوّر الشامل الكامل والمدينة الفاضلة المثالية إلّابتسلّم خليفة اللَّه في أرضه زمام كافّة مقاليد القدرة والإدارة في كلّ مراتبها وشؤونها ولا تقتصر علي المرتبة الخفية، وستأتي الإشارة في الروايات المروية من الفريقين إلي ذلك وتتمّة إيضاح لهذا الأمر.

الشاهد الثاني: مجموع السور والآيات التي سبق استعراضها في الفصل السابق حول ما ينزل في ليلة القدر، والتي ينزل فيها ملفّات تدبير للنظام البشري وصلة ذلك في التدبير الخفي لولي الأمر في النظام البشري الذي تتنزل عليه الروح والملائكة كلّ عام، كما ألمحنا إلي ذلك في الشاهد الأوّل.

الشاهد الثالث: قوله تعالي للنبيّ إبراهيم عليه السلام: «وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 463

فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ

إِمَامًا» «1»

، وصريح الآية هو أنّ الجعل فعلي منه تعالي للإمامة الفعلية لإبراهيم، مع أنّه في الظاهر المعلن من التاريخ لم يتقلّد النبي إبراهيم حكومة معلنة وسلطة رسمية في بلد من البلدان، فهذه الإمامة للبشر لابدّ أن يكون تدبيرها الفعلي للنظام البشري لا يقتصر علي السلطة الرسمية المعلنة، بل يشمل التدبير السياسي الاجتماعي الخفي، مضافاً إلي هداية الأرواح والنفوس لإيصالها إلي المنازل المعنوية في الكمال، وكذلك قوله تعالي: «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ* وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاة وَإِيتَاءَ الزَّكَوةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ» «2»

، وقوله تعالي: «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ» «3».

فهذا الوصف للجعل الإلهي الفعلي لإمامتهم بالفعل إمامة إسحاق ويعقوب- مع أنّهم لم يتقلّدوا زمام أي سلطة رسمية في التاريخ، وقد ورد في روايات الفريقين حول حياة النبيّ إبراهيم من لقائه أولياء اللَّه في شتّي أقطار الأرض، وأنّه كان علي اتّصال وارتباط معهم.

هذا مضافاً إلي النقلة الحضارية التي أحدثها النبيّ إبراهيم في الخطّ الأدياني والقانوني للبشر في العراق وبلاد الشام وأرض الحجاز ومصر، كما هو الحال في دور أئمّة أهل البيت عليهم السلام في إرساء رحي عقائد الإيمان ومعالم الدين وما نشروه

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 464

وشيدوه من معارف وأحكام الدين والتي كانت مجهولة لدي المسلمين في عصر النبيّ صلي الله عليه و آله، حيث لم يتلقّها عن النبيّ إلّاالعترة بالعلم اللدني لا مجرّد السماع الحسي.

الشاهد الرابع: قصّة الخضر في سورة الكهف والتي تقدّم بيان جملة من شؤونها، وتأتي تتمّة ذلك.

الشاهد الخامس: جملة النماذج القرآنية الأُخر التي سيتمّ استعراضها لاحقاً، وموضع الاستشهاد فيها من إحدي زواياها المبينة لنحو التدبير الخفي لنماذج الإمامة

في النظام البشري وتأثيرهم في المنعطفات الحضارية في المسار البشري.

أمّا الشواهد الروائية فنذكر نبذة من الروايات يتفطّن منها المتتبّع للوقوف علي جملة وافرة متكاثرة متضمّنة لنفس المعني:

منها: ما ورد في دعاء رجب الذي رواه الشيخ الطوسي، من التوقيع من الناحية المقدّسة علي يد الشيخ الكبير أبي جعفر محمّد بن عثمان أبي سعيد (رضوان اللَّه تعالي عليه)، حيث فيه: «صلّي علي محمّد وآله وعبادك المنتجبين وبشرك المحتَجِبين وملائكتك المقرّبين والبهم الصافين الحافين..» «1»

، فوصف أنّ هناك جماعة من البشر مُحتَجبين ومستترين عن الأنظار، بمعني أنّ الناس لا تعرفهم.

ومنها: ما رواه الشيخ في المصباح في دعاء أُمّ داود: «صلّ علي الأبدال والأوتاد والسياح والعباد والمخلَصين» «2».

ومنها: ما ورد في زيارته (عج) في سرداب الغيبة: «اللّهمّ صلّي عليه وعلي خدّامه وأعوانه علي غيبته، ونأيه واستره ستراً عزيزاً، واجعل له معقلًا حريزاً» «3».

ومنها: ما ورد في دعاء زيارة العسكريين عليهما السلام في زيارة الإمام أبي محمّد الحسن العسكري في الدعاء عقبها، حيث فيه: «وأتوسّل إليك يا ربي بإمامنا ومحقّق

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 465

زماننا اليوم الموعود والشاهد المشهود والنور الأزهر والضياء الأنور المنصور بالرعب والمظفر بالسعادة … اللّهمّ واحشرنا في زمرته واحفظنا علي طاعته واحرسنا بدولته وأتحفنا بولايته وانصرنا علي أعدائنا بعزّته» «1».

فيشير الدعاء إلي طلب الحراسة الفعلية منه تعالي من قبل كلّ مؤمن وذلك بتوسّط الدولة الفعلية الخفية له (عج)، وطلب النصرة علي الأعداء بتوسّط عزّته، أي بطلب قدرته الفعلية.

ومنها: الدعاء المعروف للحجّة (عج): «اللّهمّ كن لوليك الحجّة بن الحسن العسكري صلواتك عليه وعلي آبائه في هذه الساعة وفي كلّ ساعة، وليّاً وحافظاً وقائداً وناصراً ودليلًا وعيناً، حتّي تسكنه أرضك طوعاً وتمكّنه فيها طويلًا» «2»

. فإنّ الدعاء بالنصرة في

هذه الساعة الفعلية وطوال فترة الغيبة حتّي الظهور يقضي بوجود كيان فعلي يتجاذب مع القوي الراهنة في الأنظمة البشرية، وكذلك الدعاء بالقيادة الإلهية يقضي بوجود حركة فعلية تحتاج إلي الدلالة الإلهية.

ومنها: ما رواه المجلسي في البحار عن مؤلّفات أصحابنا، بسنده عن المفضل بن عمر في حديث قال: قال الصادق عليه السلام: «أحسنت يا مفضل فمن أين قلت برجعتنا؟

ومقصرة شيعتنا تقول معني الرجعة أن يردّ اللَّه إلينا ملك الدنيا وأن يجعله للمهدي (عج)، ويحهم متي سُلبنا الملك حتّي يردّ علينا.

قال المفضل: لا واللَّه وما سلبتموه ولا تسلبونه لأنّه ملك النبوّة والرسالة والوصية والإمامة» «3».

ومنها: ما رواه في البحار من زيارة طويلة لأئمّة البقيع وفيها: «اللهمّ صلِّ علي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 466

الإمام الوصيّ والسيد الرضي والعابد الأمين، عليّ بن الحسين زين العابدين إمام المؤمنين ووارث علم النبيين، اللهم اخصصه بما خصصت به أوليائك … وسلك بالأُمّة طريق هداك، وقضي ما كان عليه من حقّك في دولته، وأدّي ما وجب عليه في ولايته، حتّي انقضت أيّامه وكان لشيعته رؤوفاً وبرعيته رحيماً» «1».

ومنها: ما رواه الصدوق في الفقيه في استحباب الجماع ليلة الجمعة من الحديث النبويّ: «وإن جامعتها في ليلة الجمعة بعد العشاء الآخرة فإنّه يرجي أن يكون الولد من الأبدال إن شاء اللَّه تعالي» «2».

ومنها: ما رواه الصدوق في عيون أخبار الرضا بسنده عن عمر بن واقد في حديث استشهاد الإمام موسي بن جعفر عليه السلام ووصيته للمسيب بن زهير ومجي ء الإمام الرضا عليه السلام لتغسيل والده من المدينة إلي بغداد بطيّ الأرض، قال: «فواللَّه لقد رأيتهم بعيني وهم يظنّون أنّهم يغسلونه أي السندي بن شاهك وجماعته من جلاوزة النظام العباسي- فلا تصل أيديهم إليه، ويظنّون أنّهم يحنّطونه

ويكفّنونه وأراهم لا يصنعون به شيئاً، ورأيت ذلك الشخص أي الإمام الرضا عليه السلام- يتولّي غسله وتكفينه وتحنيطه وهو يظهر المعاونة لهم وهم لا يعرفونه، فلمّا فرغ من أمره قال لي ذلك الشخص: يا مسيب مهما شككت فيه فلا تشكنّ فيّ؛ فإنّي إمامك ومولاك وحجّة اللَّه عليك بعد أبي، يا مسيب مثلي مثل يوسف الصديق عليه السلام ومثلهم مثل أخوته حين دخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون. ثم حُمِل عليه السلام حتّي دفن في مقابر قريش» «3».

ونظير ذلك ورد في الإمام المهدي (عج) أنّه يقوم بدوره في تدبير الأُمّة

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 467

والبشرية كما كان يقوم يوسف عليه السلام بذلك من حيث لا يعرفونه، ممّا يدلّل علي وجود التدبير الخفي عند الأئمّة عليهم السلام، وأنّ هذا التدبير مصيري في بقاء نظام الملّة والدين والأُمّة، فقد روي النعماني بسند قريب من الاعتبار عن سدير الصيرفي، قال: سمعت أبا عبد اللَّه الصادق عليه السلام يقول: «إنّ في صاحب هذا الأمر لشبهاً من يوسف 7. فقلت: إنّك لتخبرنا بغيبة أو حيرة؟ فقال: ما ينكر هذا الخلق الملعون أشباه الخنازير من ذلك أنّ أُخوة يوسف كانوا عقلاء ألبّاء أسباط أولاد أنبياء، دخلوا عليه فكلّموه وخاطبوه وتاجروه وراودوه، وكانوا أخوته وهو أخوهم لم يعرفوه حتّي عرّفهم نفسه وقال لهم: أنا يوسف، فعرفوه حينئذٍ.

فما تنكر هذه الأُمّة المتحيّرة أن يكون اللَّه جلّ وعزّ يريد في وقت من الأوقات أن يستر حجّته عنهم؟ لقد كان يوسف إليه ملك مصر وكان بينه وبين أبيه مسير ثمانية عشر يوماً، فلو أراد أن يعلّمه بمكانه لقدر علي ذلك، واللَّه لقد سار يعقوب وولده عند البشارة تسعة أيام من بدوهم إلي مصر، فما تنكر هذه الأُمّة

أن يكون اللَّه يفعل بحجّته ما فعل يوسف، وأن يكون صاحبكم المظلوم المجحود حقّه صاحب هذا الأمر يتردّد بينهم ويمشي في أسواقهم ويطأ فرشهم ولا يعرفونه حتّي يأذن اللَّه له أن يعرّفهم نفسه، كما أذن ليوسف حين قال له أخوته: إنّك لآت يوسف؟ قال: أنا يوسف» «1».

ومنها: ما روي في قصّة شقيق البلخي المعروفة مع الإمام موسي بن جعفر عليه السلام، حيث شاهد منه العجائب فلمّا رأي منه ذلك قال: «إنّ هذا الفتي لمن الأبدال، لقد تكلّم علي سرّي مرّتين» «2».

وهذا يدلّل علي أنّ مقولة الأبدال والأوتاد حقيقة مسلّمة في أذهان المسلمين،

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 468

مصدرها الأحاديث النبويّة، وقد أطلق عنوان الأبدال والأوتاد في الروايات علي الأئمّة المعصومين عليهم السلام، ولكن الإطلاق بمعني آخر، بمعني أنّهم عليهم السلام بدل الأنبياء إذ رفع الأنبياء وختمهم محمّد صلي الله عليه و آله، كما جاء في الحديث عن الرضا عليه السلام، روي في الاحتجاج عن خالد بن الهيثم الفارسي، قال: «قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: إنّ الناس يزعمون أنّ في الأرض أبدال، فمن هم هؤلاء الأبدال؟ قال: صدقوا، الأبدال هم الأوصياء جعلهم اللَّه في الأرض بدل الأنبياء، إذ رفع الأنبياء وختمهم محمّد صلي الله عليه و آله» «1».

وعلّق عليها المجلسي رحمه اللَّه بأنّه يظهر من دعاء أُمّ داود في النصف من رجب مغايرة الأبدال للأئمّة عليهم السلام، وقال: ليس بصريح فيها فيمكن حمله علي التأكيد، ويحتمل أن يكون المراد به في الدعاء خواصّ أصحاب الأئمّة عليهم السلام، والظاهر من الخبر نفي ما تفتريه الصوفية من العامّة كما لا يخفي علي المتتبّع العارف بمقاصدهم عليهم السلام «2».

ويشير قدس سره إلي اقتباس الصوفية هذا المعني ممّا ورد في أئمّة

أهل البيت عليهم السلام وزعمهم هذه المقامات لأنفسهم، كيف لا وهم متأخّرين عن أهل البيت عليهم السلام ورواياتهم بقرون.

ومنها: قال الشيخ الكفعمي رحمه اللَّه في هامش جنّته عند ذكر دعاء أُمّ داود:

قيل إنّ الأرض لا يخلو من القطب وأربعة أوتاد وأربعين أبدالًا وسبعين نجيباً وثلاثمائة وستّين صالحاً. فالقطب هو المهديّ عليه السلام، ولا يكون الأوتاد أقلّ من أربعة؛ لأنّ الدنيا كالخيمة والمهدي كالعمود وتلك الأربعة أطنابها، وقد يكون الأوتاد أكثر من أربعة والأبدال أكثر من أربعين والنجباء أكثر من سبعين والصلحاء أكثر من ثلاثمائة وستّين، والظاهر أنّ الخضر والياس من الأوتاد؛ فهما ملاصقان

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 469

لدائرة القطب.

وأمّا صفة الأوتاد فهم قوم لا يغفلون عن ربّهم طرفة عين، ولا يجمعون من الدنيا إلّاالبلوغ، ولا تصدر منهم هفوات الشرّ، ولا يشترط فيهم العصمة من السهو والنسيان بل في فعل القبيح، ويشترط ذلك في القطب، وأمّا الأبدال فدون هؤلاء من المراقبة، وقد تصدر منهم الغفلة فيتداركونها بالتذكّر، ولا يتعمّدون ذنباً.

وأمّا النجباء فهم دون الأبدال، وأمّا الصلحاء فهم المتّقون الموفون بالعدالة، وقد يصدر منهم الذنب فيتداركونه بالاستغفار والندم، قال اللَّه تعالي: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ» «1»

، جعلنا اللَّه من القسم الأخير؛ لأنّا لسنا من الأقسام الأُول، لكن ندين اللَّه بحبّهم وولايتهم، ومن أحبّ قوماً حشر معهم.

وقيل: إذا نقص أحد من الأوتاد الأربعة وضع بدله من الأربعين، وإذا نقص أحد من الأربعين وضع بدله من السبعين، وإذا نقص أحد من السبعين وضع بدله من الثلاثمائة وستّين، وإذا نقص أحد من الثلاثمائة وستّين وضع بدله من سائر الناس «2».

ومنها: ما رواه ابن شهرآشوب في المناقب بسند عن علي بن أبي حمزة، قال:

كان

يتقدّم الرشيد إلي خدمه إذا خرج موسي بن جعفر من عنده أن يقتلوه، فكانوا يهمّون به فيتداخلهم من الهيبة والزمّع «3». فلمّا طال ذلك أمر بتمثال من خشب وجعل له وجهاً مثل وجه موسي بن جعفر، وكانوا إذا سكروا أمرهم أن يذبحوها بالسكاكين، وكانوا يفعلون ذلك أبداً، فلمّا كان في الأيام جمعهم في الموضع وهم

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 470

سكاري وأخرج سيدي إليهم، فلمّا بصروا به همّوا به علي رسم الصورة، فلمّا علم منهم ما يريدون كلّمهم بالخزرية والتركية، فرموا من أيديهم السكاكين ووثبوا إلي قدميه فقبّلوهما وتضرّعوا إليه وتبعوه إلي أن شيّعوه إلي المنزل الذي كان ينزل فيه، فسألهم الترجمان عن حالهم، فقالوا: إنّ هذا الرجل يصير إلينا في كلّ عام فيقضي أحكامنا ويرضي بعضنا من بعض ونستسقي به إذا قحط بلدنا وإذا نزلت بنا نازلة فزعنا إليه، فعاهدهم أنّه لا يأمرهم بذلك فرجعوا «1».

ومنها: ما رواه العامّة بطرق مستفيضة أو متواترة، وهو الحديث النبويّ قوله صلي الله عليه و آله: «لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلي اثني عشر خليفة كلّهم من قريش وفي ألفاظ الحديث الأُخري- لا يزال هذا الأمر عزيزاً، يُنصَرون علي من ناواه … وفي الأحاديث: لا يزال أمر أُمّتي قائماً حتّي يمضي اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش … وفي البعض الآخر: لا يزال هذه الأُمّة مستقيماً أمرها ظاهرة علي عدوّها حتّي يمضي منهم اثني عشر خليفة كلّهم من قريش … وفي بعضها: لا يزال أمر الناس ماضياً. وبعضها: لا يضرّهم عداوة من عاداهم» «2».

والملاحظ في هذا الحديث النبويّ المتواتر أنّه مضافاً إلي تحديد خلافته صلي الله عليه و آله بالاثني عشر وأنّهم كلّهم من قريش بل في بعضها من

بني هاشم، ولا ينطبق إلّا علي العترة المطهّرة، فإنّ في دلالتها مقطع آخر هامّ جدّاً وهو آثار خلافة هؤلاء الاثني العشر، فقد ذكر في الحديث بطرقه المختلفة والظاهر تكرّره من النبيّ صلي الله عليه و آله في مواضع شتّي بتعدّد الرواة والمشاهد:

الأوّل: إنّ دين الإسلام والذي هو ميراث جميع الأنبياء والمرسلين لاسيما

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 471

سيدهم خاتم النبيّين صلي الله عليه و آله لا يتمّ حفظه عن الاندراس والزوال والصيانة عن التحريف إلّابهؤلاء الاثني عشر ومن الواضح أنّ هذا الحفظ لا يتمّ إلّابأسباب علمية وعملية، أمّا العلمية فلكون علمهم لدنيا كما مرّ- لا ينزف، يحيطون باللوح المحفوظ والكتاب المبين والكتاب المكنون، وأمّا الأسباب العملية فلا ريب أنّه بتوسّط الأسباب والمسببات سواء من عالم الملك والملكوت وهو يستبطن التدبير الخفي.

الثاني: إنّ عزّة الأُمّة الإسلامية بتوسّط خلافة الاثني عشر، أي قيادتهم وإمامتهم لنظام الأُمّة، ومن الواضح أنّ ذلك لم يكن إلّابالإدارة الخفية بتوسّط منظومات بشرية متستّرة، وإن كان حفظ العزّة لهذه الأُمّة أمر نسبي لا يصل إلي كماله إلّابظهور المهدي وقيام دوله الرجعة للأئمّة عليهم السلام.

الثالث: حفظ أمر نظام عموم الناس والبشرية بهم عليهم السلام وهو أيضاً لا يتمّ إلّا بالتدبير والإدارة الخفية بتوسّط مجموعات بشرية مخترقة للأنظمة المعلنة الظاهرية، ومفاد ألفاظ الحديث يقارب ما استظهرناه من قوله تعالي: «إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» «1»

كما مرّ، ولفظ الحديث «أمر الناس»، وليس (أمر الأُمّة) ممّا يقتضي التعميم ويعضد إرادة العموم ما تكرّر في الأحاديث أن لولا الاثني عشر لكان الهرج والمرج، وهو عامّ في جميع البشرية؛ إذ هو اصطلاح في الحديث مِن قبيل قيام الساعة لجميع أهل الأرض.

والحاصل: إنّ هذا الحديث النبويّ المتواتر دالّ بالتدبّر والتأمّل علي آثار

وجود الخلفاء الاثني عشر، وهي لا تتحقّق إلّابتصرّفهم عليه السلام من مقام صلاحية خلافتهم في الأرض، وتدبيرهم بما أوتوا من أسباب لدنية وعلوماً من لدنه تعالي. روي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 472

الشيخ الطوسي بسنده إلي جابر الجعفي، قال: قال أبوجعفر عليه السلام: «يبايع القائم بين الركن والمقام ثلاثمائة ونيف عدّة أهل بدر، فيهم النجباء من أهل مصر، والأبدال من أهل الشام، والأخيار من أهل العراق، فيقيم ما شاء اللَّه أن يقيم» «1»

، ورواه في الاختصاص، إلّا أنّ فيه و (عصائب العراق) «2».

وروي الشيخ المفيد بسنده إلي محمّد بن سويد إلي جعفر بن محمّد عليه السلام، قال له: «كيف الحديث الذي حدّثتني عن أبي الطفيل- رحمه اللَّه- في الأبدال؟ فقال فطر «3»:

سمعت أبا الطفيل يقول: سمعت عليّاً أمير المؤمنين عليه السلام يقول: الأبدال من أهل الشام والنجباء من أهل الكوفة يجمعهم اللَّه لشرّ يوم لعدوّنا» «4».

في النهاية لابن الأثير في مادّة (بدل).. في حديث عليّ رضي الله عنه: «الأبدال بالشام هم الأولياء والعباد، الواحد بدل كحمل وأحمال، وبدل كجمل، سُمّوا بذلك لأنّهم كلمّا مات واحد أُبدِل بآخر» «5».

وروي ابن الفتّال في روضة الواعظين عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قال: «إنّ اللَّه تبارك وتعالي اختار من كلّ شي ء أربعة … واختار من أُمّة محمّد أربعة أصناف: العلماء والزهّاد والأبدال والغزاة» «6».

وقال البياضي في الصراط المستقيم: (غاية طعن المنكرين لولادته متعلّقة بنفي مشاهدته. قلنا قد أسلفنا مشاهدة قوم من أوليائه، علي أنّ نفي رؤيته لا يدلّ علي نفي وجوده، ولا يقدح فيه قول المنحرف عنه بجحوده، إذ ليس طرق العلم محصورة في المشاهدة، فإذا دلّت البراهين علي إمامته ووجوده لم تكن غيبته عن الأبصار مانعة عن

تولّده، وأكثر المواليد إنّما تثبت بالشياع وهي حاصلة هنا من

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 473

الشيعة، وكيف ينكر وجوده لعدم مشاهدته؟ والأبدال موجودون ولا يشاهدون.

قال [ابن] ميثم في شرحه للنهج: قد نقل أنّهم سبعون رجلًا، منهم أربعون بالشام وثلاثون في سائر البلاد. وفي الحديث عن عليّ عليه السلام: الأبدال بالشام والنجباء بمصر والعصائب بالعراق يجتمعون فيكون بينهم حرب..) «1».

ومنها: ما روي في التفسير المنسوب للإمام العسكري عليه السلام، عن أبي محمّد الحسن بن عليّ عليه السلام في حديث عن فتح مكّة «2» «.. فلما حُتم قضاء اللَّه بفتح مكّة واستوسقت له- [أي للنبيّ]- أمّر عليهم عتاب بن أسيد، فلمّا اتّصل بهم خبره قالوا: إنّ محمّداً لا يزال يستخف بنا حتّي ولّي علينا غلاماً حدث السنّ بن ثماني عشرة سنة، ونحن مشايخ ذوي الأسنان وجيران حرم اللَّه الآمن وخير بقعة علي وجه الأرض.

وكتب رسول اللَّه صلي الله عليه و آله لعتاب بن أسيد عهداً علي مكّة، وكتب في أوّله: من محمّد رسول اللَّه إلي جيران بيت اللَّه الحرام وسكّان حرم اللَّه، أمّا بعد، فمن كان منكم باللَّه مؤمن وبمحمّد رسوله في أقواله مصدّقاً وفي أفعاله مصوّباً ولعليّ أخي محمّد رسوله نبيه، صفيّه ووصيّه وخير خلق اللَّه بعده موالياً، فهو منّا وإلينا. ومن كان لذلك أو لشي ء منه مخالفاً فسحقاً وبعداً لأصحاب السعير، لا يقبل اللَّه شيئاً من أعماله وإن عظم وكبر، يصليه نار جهنّم خالداً مخلّداً أبداً.

وقد قلّد محمّد رسول عتّاب بن أسيد أحكامكم ومصالحكم، وقد فوّض إليه تنبيه غافلكم وتعليم جاهلكم وتقويم أود مضطربكم وتأديب من زال عن أدب اللَّه منكم؛ لما علم من فضله عليكم من موالات محمّد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ومن

رجحانه في التعصّب لعليّ وليّ اللَّه، فهو لنا خادم وفي اللَّه أخ ولأوليائنا موالياً ولأعدائنا معادٍ، وهو لكم سماء

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 474

ظليلة وأرض زكية وشمس مضيئة، قد فضّله اللَّه علي كافّتكم بفضل موالاته ومحبّته لمحمّد وعليّ والطيبين من آلهما، وحكّمه عليكم يعمل بما يريد اللَّه فلم يخلّيه من توفيقه، كما أكمل من موالاة محمّد وعليّ شرفه وحظّه، لا يؤامر رسول اللَّه ولا يطالعه بل هو السديد الأمين، فليطمع المطيع منكم بحسن معاملته شريف الجزاء وعظيم الحياء، وليتوقّ المخالف له شديد العذاب وغضب الملك العزيز الغلّاب، ولا يحتجّ محتجّ منكم في مخالفته بصغر سنّه؛ فليس الأكبر هو الأفضل، بل الأفضل هو الأكبر، وهو الأكبر في موالاتنا وموالاة أوليائنا ومعادات أعدائنا، فلذلك جعلناه الأمير عليكم والرئيس عليكم، فمن أطاعه فمرحباً به، ومن خالفه فلا يبعد اللَّه غيره.

قال: فلمّا وصل إليهم عتاب وقرأ عهده ووقف فيهم موقفاً ظاهراً نادي في جماعتهم حتّي حضروه، وقال لهم: معاشر أهل مكّة، إنّ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله رماني بكم شهاباً محرقاً لمنافقكم، ورحمة وبركة علي مؤمنكم، وإنّي أعلم الناس بكم وبمنافقكم.. ففعل واللَّه كما قال وأعدل وأنصف وأنفذ الأحكام مهتدياً بهدي اللَّه غير محتاج إلي مؤامرة ولا مراجعة» «1».

وفي الرواية مواضع للإستشهاد:

قوله صلي الله عليه و آله: «يعمل بما يريد اللَّه فلم يخلّيه من توفيقه، كما أكمل من موالاة محمّد صلي الله عليه و آله وعلي عليه السلام شرفه وحظّه، لا يؤامر رسول اللَّه ولا يطالعه بل هو السديد الأمين»، فإنّه دالّ علي أنّ تصرّفات عتاب بن أسيد لم تكن عن طريق توصيات ووصايا قولية وأوامر لفظية من رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، بل كانت عبر

تسديد الإلهام من النبيّ صلي الله عليه و آله، كما هو الحال في الأبدال والأوتاد، وكما ورد نظير ذلك في النوّاب الأربعة في الغيبة

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 475

الصغري، حيث إنّهم كانوا سفراء لا رواة، وكما ورد نظير ذلك في أصحاب الإمام المهدي الثلاثمائة والثلاثة عشر في كيفية تلقّيهم برامج وأنشطة الحكم الذي يزاولونه.

ويعضد هذا المفاد قوله في آخر الرواية: «ففعل واللَّه كما قال وأعدل وأنصف وأنفذ الأحكام مهتدياً بهدي اللَّه غير محتاج إلي مؤامرة ولا مراجعة»، وهذا تكرار في التصريح أنّ إنفاذه للأحكام لم يكن بأوامر لفظية ولا مراجعة قولية سماعية، وهذا من خواصّ منظومة الحكومة الخفية، حكومة الأبدال والأوتاد والنقباء والأركان، وقد بيّن صلي الله عليه و آله أنّ وصول عتاب لهذا المقام هو بسبب الدرجة الخاصّة التي وصل إليها من موالاة ومحبّة النبيّ ووصيّه وآلهما عليهم السلام، ومعادات أعدائهم، وأنّه فاق في ذلك كلّ أهل مكّة آنذاك، ومن ثمّ حظي بهذا المقام الخاصّ كما ورد نظيره في النواب الأربعة. وعتاب مع صغر سنّه خاطب أهل مكّة كما حكي عليه السلام قوله تقريراً له: «وأنّي أعلم الناس بكم وبمنافقكم».

ونموذج عتاب بن أسيد يدلّل علي أنّ الحكومة الخفية السرّية تظلّ قائمة موجودة في ضمن الحكومة المعلنة، بل إنّ عتاب بقي أميراً علي مكّة في عهد خلافة أبي بكر، ممّا يشير إلي اختراق الحكومة الخفية للأنظمة الأُخري.

ومنها: ما رواه الصدوق في الأمالي بسنده عن الأعمش، عن الصادق عليه السلام، قال:

«لم تخل الأرض منذ خلق اللَّه آدم من حجّة للَّه فيها، ظاهر مشهور أو غائب مستور، ولا تخلو إلي أن تقوم الساعة من حجّة للَّه فيها، ولولا ذلك لم يُعبد اللَّه.

قال سليمان: فقلت للصادق عليه السلام: فكيف ينتفع الناس

بالحجّة الغائب المستور؟ قال:

كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب» «1».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 476

ولا يخفي دلالة الرواية علي أنّ الغيبة بمعني التستّر والخفاء والسرّية، لا الزوال والذهاب والابتعاد والإقصاء، كما أنّ التشبيه بالشمس إذا سترها السحاب صريح في ذلك في أنّه يقوم بكلّ أدواره إلّاأنّه بنحو متستّر خفي.

ونظير هذه الرواية ما رواه الصدوق في إكمال الدين، والطبرسي في الاحتجاج عن الكليني عن إسحاق بن يعقوب أنّه ورد من الناحية المقدّسة علي يد محمّد بن عثمان: «.. وأمّا وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيّبها عن الأبصار السحاب..» «1».

ونظير ما رواه الصدوق في إكمال الدين أيضاً بإسناده عن جابر بن عبداللَّه الأنصاري، عن النبيّ صلي الله عليه و آله في حديث عن الأئمّة الاثني عشر عليهم السلام وأنّ آخرهم المهدي ويغيب عن شيعته وأولياءه: «.. قال جابر يا رسول اللَّه فهل ينتفع الشيعة به في غيبته؟ فقال صلي الله عليه و آله: اي والذي بعثني بالنبوّة أنّهم يستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن جلّلها السحاب» «2».

ومنها: ما ورد في التوقيع الشريف من الناحية المقدّسة للشيخ المفيد الذي رواه الطبرسي في الاحتجاج: «.. فإنّا نحيط علماً بأنبائكم ولا يعزب عنّا شي ء من أخباركم، ومعرفتنا بالذلّ (بالزلل) (بالإذلال) الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلي ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً، ونبذوا العهد المأخوذ منهم وراء ظهورهم، كأنّهم لا يعلمون.

إنّا غير مهملين لمراعاتكم ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء، فاتّقوا اللَّه جلّ جلاله وظاهرونا علي انتياشكم من فتنة قد أنافت

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 477

عليكم، يهلك فيها من حمّ أجله، ويُحمي عنها من أدرك أمله، وهي إمارة لأزوف حركتنا

ومباثّتكم بأمرنا ونهينا، واللَّه متمّ نوره ولو كره المشركون، اعتصموا بالتقية..» «1»

ثمّ ذكر الحجّة (عج) سلسلة من الأحداث المستقبلية وكيفية التدبير فيها.

ومفاد التوقيع الشريف ناصّ علي تصدّيه (عج) لتدبير الأُمور بنحو خفي، وتمام مراقبته للأحداث صغيرها وكبيرها والبرامج المتّخذة فيها، وأنّه لولا هذه الإدارة والتدبير الخفي لاستأصل الأعداء كيان المؤمنين.

وفي التوقيع الثاني ابتدأ نسخته: «من عبد اللَّه المرابط في سبيله إلي مُلهَم الحقّ ودليله»، وقد تضمّن قوله (عج): «.. ويأتيك نبأ منّا بما يتجدّد لنا من حال، فتعرف بذلك ما نعتمده من الزلفة إلينا..»، ثمّ ذكر (عج) جملة من الحوادث وكيفية التدبير فيها، وقال: «وآية حركتنا من هذه اللوثة حادث بالحرم المعظّم من رجس منافق مذمّم مستحلّ للدم المحرّم، يعمد بكيده أهل الإيمان ولا يبلغ بذلك غرضه من الظلم لهم والعدوان؛ لأنّنا من وراء حفظهم بالدعاء الذي لا يحجب عن ملك الأرض والسماء، فليطمئنّ بذلك من أوليائنا القلوب، وليثقّوا بالكفاية منه وإن راعتهم بهم الخطوب، والعاقبة بجميل صنع اللَّه سبحانه تكون حميدة لهم ما اجتنبوا المنهي عنه من الذنوب.. ولو أنّ أشياعنا وفّقهم اللَّه لطاعته علي اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخّر عنهم اليمن بلقائنا» «2».

ومفاد التوقيع الشريف نظير سابقه في رصده (عج) للأحداث وتدبيرها قبل وقوعها، ولا سيما صدر التوقيع حيث عبّر (عج) عن نفسه الشريفة بالمرابط في سبيل اللَّه الدالّ علي قيامه (عج) الشريف في رأس الهرم للتصدّي لتدبير

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 478

الأحداث، إذ الرباط هو الجهاد في سبيل اللَّه لحفظ الثغور عن أن ينفذ منها الأعداء.

وفي حديث رواه النعماني في غيبته بسنده عن أبي جعفر محمّد بن علي، عن أبيه عليّ بن الحسين عليهم السلام في تفسير هذه الآية:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا» «1»

، قال عليه السلام: «سيكون ذلك ذرّية من نسلنا المرابط..» الحديث «2».

ومنها: صحيحة معاوية بن وهب، قال: «سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: إنّ عند كلّ بدعة تكون من بعدي يكاد بها الإيمان ولياً من أهل بيتي موكّلًا به يذبّ عنه، ينطق بإلهام من اللَّه ويعلن الحقّ وينوّره، ويردّ كيد الكائدين، يُعبّر عن الضعفاء، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وتوكّلوا علي اللَّه» «3».

ومنها: ما ذكره الوحيد البهبهاني في تعليقته علي منهج المقال في ترجمة علي بن المسيب عن بعض الكتب المعتمدة، أنّه أُخذ من المدينة مع الكاظم عليه السلام وحبس معه في بغداد وبعد ما طال حبسه واشتدّ شوقه إلي عياله قال عليه السلام له:

«اغتسل فاغتسل، فقال: غمّض فغمّض، فقال: افتح ففتح فرآه عند قبر الحسين عليه السلام فصلّيا عنده وزارا، ثمّ قال: غمّض وقال افتح فرآه معه عند قبر الرسول صلي الله عليه و آله، فقال: هذا بيتك فاذهب إلي عيالك وجدّد العهد وارجع إليّ، ففعل فقال: غمّض وافتح، قال فرآه معه فوق جبل قاف وكان هناك من أولياء اللَّه أربعون رجلًا، فصلّي وصلّوا مقتدين به، ثمّ قال غمّض وقال افتح، ففتح فرآه معه في السجن» «4»

. وهذه الرواية تشير وتعزّز أنّ الحكومة الخفية كانت لدي جميع المعصومين يديرونها.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 479

وهناك إشكال أثارته العديد من مدارس المعرفة الحديثة ضدّ أبناء الإمامية حول تعريف الإمامة الإلهية، وهو يوجّه إلي وجود مثل هذه المنظومات الغيبية التي تقوم بالهداية الإيصالية في مراتبها المختلفة، وحاصله أنّ هذا البيان لحقيقة الإمامة ولهذه المنظومة يقترب من عقائد الصوفية والعرفاء، حيث إنّهم يعتقدون بوجود سلسلة

من المراتب المترتّبة علي هيئة هرم له مركز في الأعلي هو القطب، وقد يقال له الغوث أو الإمام، وإنّ عالم الأرواح والنفوس متشابك ومترابط وجوداً علي هذه الهيئة الهرمية.

وبعبارة أُخري: يهدف المستشكل إلي القول بأنّ هذا الاعتقاد بحقيقة الإمامة هو من تأثير الصوفية.

والجواب: إنّ الموجود عن الصوفية لا يتجاوز بذوره عن القرن الثالث، بل إنّ بلورته كنظرية جاءت في أواخر القرن السابع وبدايات القرن الثامن، والروايات الواردة في ما نذكره بل الآيات في هذا المجال أسبق بكثير من هذا التأريخ، وقد أشرنا إلي أنّ حقيقة الإمامة إنّما نهتدي إليها من الآيات والروايات، فلا يكون من التأثير الصوفي علي الفكر الشيعي، بل هو من تأثير الحكمة الشيعية علي الفكر الصوفي كما تقدّم.

هذا وعندما نتأمّل في كتاب الإحياء للغزالي الذي تأثّر به كثيراً ابن عربي، نلاحظ ذلك أنّه بالروايات المنقولة عن أهل البيت عليهم السلام من مصادر الحديثية للشيعة، وأنّ في جملة المباحث يحاول أن يستقي ويبني نظرياته علي ضوء ما يستظهره من تلك الروايات المفصلية في بحوثهم، هي روايات أهل البيت، وأنّهم علي أساس هذا خالفوا الجمهور في الكثير من متبنياتهم الكلامية..

بالإضافة إلي كلّ ما تقدّم: وجود الروايات المتواترة وبألسنة متعدّدة وطوائف متنوّعة- كما ذكر العلّامة في مقالات تأسيسية- تثبت الهداية الإيصالية

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 480

للإمام عليه السلام، من قبيل ما ورد في ذيل آية: «فَسَيَرَي اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» «1».

ومن ثمّ نفهم الحسّاسية البالغة عند فقهاء السنّة ومحدّثيهم من صوفيتهم حيث تجرّ أُطروحاتهم إلي الفكر الشيعي وتقترب منه، وتجعل من مبدأ الإمامة الشيعي ضرورة، فحاولوا الطعن عليهم بأنّهم متأثّرون بالاتّجاه الباطني وهو الشيعة، مستهدفين بذلك تجريد الأُطروحة من الدليل والشرعية.

فقد جاءت الباطنية في كلماتهم في

سياق الذمّ وأنّها منقصة، ومن ثمّ نسبوها إلي الأئمّة، حتّي قال بعضهم: إنّ نسبة الباطنية إلي عليّ عليه السلام محتملة، وأمّا نسبتها إلي جعفر بن محمّد عليه السلام فلا ريب فيه.

وقد غفل هؤلاء عن أنّ ما ذُكر إقرار بأصالة الفكرة لدي الإمامية وإنّ فكرة الخفاء والباطنية هي أُطروحة الشيعة لا من مستورداتهم، سوي أنّ هذه الفكرة قبلتها الشيعة بالشكل الذي مرّ، وهو حفظ التوازن بين البطون والظهور وعدم تغليب أحدهما علي حساب الآخر.

وعندما نتأمّل كلمات الغزالي وابن عربي نلحظ أنّ المقاطع المفصلية في بحوثهما مأخوذة من روايات أهل البيت عليهم السلام، وقد يستعملان نفس العبائر في كثير من الأحيان، ولذا خالفا الجمهور في التنظير لمتبنّياتهما الكلامية مع وجود تحفّظات علي كثير ممّا ذهبا إليه.

كما ذكر العلّامة في مقالات تأسيسية في إثبات الهداية الإيصالية للإمام في كثير من الآيات، من قبيل: «فَسَيَرَي اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» «2»

من أنّ الإمام يشهد أعمال أُمّته وهو واضح في الهداية الإيصالية، بل تدلّ علي وجود المنظومة

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 481

الهرمية، ومن قبيل «إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ» «1»

الدالّ علي أنّ دور الهادي هو الهداية الإيصالية، ومن قبيل الروايات الدالّة علي أنّ الإمام يحضر علي الصراط في الحشر والنشر.

ويوافق هذا اضطراب الأُطروحة الصوفية في الإمامة والولاية، مع ضمور ما انتهوا إليه بالقياس إلي ما ورد في الروايات ممّا يشفّ عن أنّهم ليسوا أصحاب النظرية.

ولابدّ من التنبّه إلي أنّ واحدة من ألوان الاختراق الفكري هي مسخ المفاهيم عن حقيقتها واستبدالها بمحتوي آخر، ويأخذ هذا اللون من الاختراق طابع الثبات في الذهنية العامّة في بعض حالاته، فتقع الأُمّة في شرك التحريف من دون أن تشعر؛ وذلك لأنّ عملية المسخ لم تأت معلنة

وإنّما متلبّسة بصورة الحقّ، حيث استغلّ القائمون بهذه المهمّة فكر العلاقات بين المعاني والمعاني وبين ألفاظها مع المعاني كذلك أو وحدها، بعد التفاتهم إلي أنّ اللفظ يكتسب حسناً من معناه الحسن نتيجة العلقة الوطيدة بين اللفظ والمعني، والكناية والاستعارة والمجاز العقلي مرتبط كلّه بهذا المجال الذي ذكرناه، وهو معبّر عن بعد إيجابي في اللغة.

ولكن البعض قد يستفيد من لفظ محبّب إلي القلوب أو ذي قداسة وحرمة لمحبوبيّة أو حرمة محتواه، بتفريغه من محتواه واستبدال المعاني بمعاني أُخر، فضلًا عن تقنيع المعاني بألفاظ أُخري ووضع محتوي جديد له لا يمتّ إلي الدين بصلة، كاستعمال العدالة في الظلم الخاصّ، ومن ثمّ قيل: من أجل تحريف الدين يكفي مسخ المعاني دون التلاعب بالألفاظ «2».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 482

كما يمكن أن يكون ذلك واحدة من حِكَم ومبرّرات حرمة التعرّب بعد الهجرة، وهو يشمل استيطان بلاد الكفر وما يسمّي بالمهجر مطلقاً، وهو الوقوع في عملية مسخ في محتوي الدين. وعلي هذا الأساس كانت أوّل مهمّة لابدّ أن ينجزها الباحث هي التأكّد من ضبط معني اللفظ قبل أن يدخل في التفاصيل.

وواحدة من الألفاظ التي تعرّضت لهذا النوع من المسخ للمعني كلمة الباطن و (الغيب)، حيث أصبحت تعبّر عن اتّجاه منحرف فاقد للشرعية، فوصمت اللفظتين بهذا الطابع السلبي، ومن هنا فإنّ فكرة البطن في الفكر الشيعي وإن كانت حقيقة لكون أئمّة أهل البيت هم المطّلعين علي اللوح المحفوظ والكتاب المبين والكتاب المكنون، ولكن بالمعني الذي مرّ، تحديده مع العلاقة التي ألفتنا إليها بين البطن والظهر.

الفائدة الرابعة: … ص: 482

إنّ القضايا التي تعرّض لها موسي مع الخضر قد وقعت بنفسها له من قبل، فوضع أُمّه له في اليم يشبه خرق السفينة من جهة تعرّضها للغرق ولم

تغرق..

وقتله للقبطي وهو لم يكن مقصوداً يشبه قتل الخضر للغلام، واستسقائه لبنات شعيب وعدم أخذه الأجرة مع جوعه وضناه الشديد علي ذلك كإصلاح الحائط

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 483

من دون أخذ الأجرة مع جوعهما. فهذه الأُمور الثلاثة التي حصلت للخضر كانت قد حصلت له مثيلاتها ممّا يكشف عن موازاة بين ما وقع لكلّ منهما.

وهذا مصداق لما قيل في بحوث المعرفة من أنّ كلّ إنسان في كلّ حادثة تقع له تكون مورداً لاستغرابه قد وقعت له حادثة شبيهة لها من قبل ولم يستغرب منها؛ لأنّه كان عارفاً بأسبابها آنذاك، ولكنّه غفل عنها عند الاستغراب الآن، بل كلّ ما سيقع للإنسان في مستقبل أيامه وفي البرزخ وعرصات يوم القيامة كلّها يندرج في قوله تعالي: «هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا» «1».

وقد ظهرت تفسيرات متعددة لهذه الموازاة:

أوّلها: تفسير أهل المعني والذوق: أن يُري اللَّه تعالي عباده أنّ سرّ القدرة هو تكرّر ما يجري في السابق علي أساس وحكمة.

وثانيها: تفسير المفسّرين: لأجل إعلام موسي أنّ علمه محدود وأنّ الإحاطة الكلّية محجوبة عنه. وهذا التفسير مقبول علي شرط أن لا يتنافي مع العصمة.

ولكن كلا التفسيرين ناقصان، ومن ثمّ نقدّم تفسيراً ثالثاً مقتبساً من القرآن متمّماً لهما وهو:

إنّ هناك تطابقاً بين عالم القضاء والقدر والإرادات التكوينية، أي بين السنن الكونية الإلهية، وبين الشريعة بحسب الظاهر، وأنّهما جميعاً تسعيان لغاية واحدة ولا تتخلّف في الجميع.

ومن ثمّ يفهم قوله تعالي: «يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ» «2»

وقوله تعالي: «وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ» «3»

،

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 484

ورتّب علي ذلك ما في قوله تعالي: «لَايَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّي ءُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» «1»

. إذ يتصوّر هؤلاء أنّهم نقضوا إقامة الشريعة

الظاهرة بمكرهم ودسائسهم، فأجابهم القرآن بأنّ عملهم هذا وإن كان رأس فتنة الشرّ ومكرهم تكاد تزول الجبال منه كما هو الحال في شر إبليس، إلّاأنّه في مجموع نظام الخلقة يصبّ في تحقيق أغراض الشريعة الظاهرة من دون أن يشعروا، إذ الإرادات التكوينية تأخذ مجالها نحو غايتها، وهي في نفسها غاية الشريعة بحسب الدرجتين، وهذا لا يعني نفي شرّية عملهم ولا نفي شرّية إبليس ولا مشروعيته، إلّاأنّ الباري تعالي يوظّفه في منظومة الخير كما هو الحال في العقرب والأفعي والذئب.

وهذا العالم هو عالم القضاء القدر والإرادات التكوينية قد يعبّر عنه بعالم الملائكة كما في لغة القرآن، وقد يعبّر عنه بعالم العقول والنفوس الكلّية كما في لغة الاصطلاح الفلسفي، حيث جعل العقل الأخير والعقول التي قبله تعبيراً عن القضاء، والنفس الكلّية تعبيراً عن لوح القدر، وقد يعبّر عنه بعالم الأنوار والأرواح والنفوس، مع مغايرة الثالث للثاني بأنّه أدني درجة، كما استقرّ عليه الاصطلاح عند أهل المعرفة، أخذاً له من الشرع وهو عالم الولاية.

وهذا العالم ذو درجات متسلسلة تكويناً وقد عبّر عنه الفلاسفة بالنظام العليّ والعلمي ونظام الوجوب والعلم، مع استثناء لوح القدر حيث لا يكون مبرماً.

وقد لوحظ علي الحكماء بأنّ فهمهم وإحاطتهم بهذه العوالم محدودة، ومن ثمّ لم يعكسوا لنا إلّاصورة نظام جامد يفتقد الحياة، ومن ثمّ لم يتفاعل الناس معهم كما تفاعل مع الأنبياء والأوصياء ومن بعدهم أهل المعني، حيث قدّموا صورة مفعمة بالحياة لتلك العوالم، وأعطوا صورة عنها بأنّها موجودات حية مختارة، مع

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 485

حفظ الفارق أيضاً بين تصوير العرفان والدين، في حين لم يتمكّن الحكماء إلّا بتقديم كلّيات تؤمن حالة من المعرفة من بعيد لا أكثر.

والمتكلّم اعتمد علي الحسن والقبح وفيه حيوية

العقل العملي، ومن ثمّ كان واحداً من امتيازاته.

وبعبارة أُخري: إنّ الفلاسفة وإن قبلوا أنّ الملائكة موجودات حيّة مختارة، ولكنّهم في الوقت نفسه قالوا بأنّها أسباب تكوينية لا تتخلّف، مع تركيزهم علي هذه الزاوية في عموم كلماتهم، ومن ثمّ فسّروا الأمر في: «لَايَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ» «1»

و «هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ» «2»

والأمر بالسجود لآدم، بأنّها ليست أمراً اصطلاحياً، وإنّما بالأسباب التكوينية التي لا تتخلّف، وهي لفتة صحيحة وغير صحيحة بمعني آخر:

فهي صحيحة: من جهة أنّه ليس هناك أوامر اعتبارية وإنشاءات وشريعة ظاهرة.

وهي غير صحيحة: من جهة أنّها أوامر حقيقية، فلا مبرّر لتأويلها بالسبب الموهم لانعدام الاختيار وإن كان الفلاسفة لا ينفون الاختيار، وإنّما هي شريعة كونية في الإرادات الإلهية التكوينية، وقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «إنّ حكم اللَّه في أهل السماء والأرض واحد» «3»

، فهم مختارون حقيقة، وإمكان المخالفة موجودة وباب التكامل مفتوح، فقد ورد أنّهم يزدادون بعبادتهم لربّهم علماً.

نعم: المخالفة لا تكون بالمعصية؛ فإنّ القرآن صريح في أنّهم لا يعصون، كما أنّهم لم يتوفّروا علي داعي المعصية- كما جاء في الحديث الشهير- وهي الشهوة

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 486

والغرائز الحيوانية، وإنّما تتحقّق المخالفة بترك الأولي الناشئ من محدودية العلم بسبب محدودية وجودهم، فيقعون في مخالفة الواقع الأوّلي.

وتصوير إمكان المخالفة في عالم النفوس الكليّة أوضح، حيث إنّها تحتاج إلي تأمّل وروية في أخذ قرار العلم، بالإضافة إلي محدودية الوجود واختلافها في درجة العلم مع الملائكة التي من سنخ العقول.

وبهذا العرض يمكن أن نفهم اعتراضهم (أتجعل فيها)، وقضية فطرس وعشرات الروايات التي يظهر منها تخلّف الملائكة عن الصواب، لكن بنحو ترك الأولي لا المعصية، بل إنّ الموجود كلّما تجرّد كلّما كان أقوي وجوداً وصفة ومنها الاختيار

والحياة، فالملائكة أشدّ اختياراً وحياةً، ومع تصوير القدرة البشرية لابدّ أن تكون هذه القدرة موجودة هناك وبنحوٍ أرقي وأشدّ.

وبعد كلّ هذا يتّضح أنّ فكرة الأمر والنهي متصوّرة في عالم الملائكة بشقّيه العقلي والنفسي، فلا داعي للتأمّل، بل بهذا العرض يتبين الوساطة في الفيض، وفي قوس النزول أيضاً علّة اختيارية، ما به الوجود لا ما منه الوجود؛ فإنّه خاصّ به تعالي. وقد قرّر ذلك في مباحث الفلسفة أيضاً، إلّاأنّ نمط البحث العقلي النظري لا يترقّي في تصويره إلي بيان أنّ نظام الأسباب في حين كونه نظام وجوب؛ فهو بأفعال اختيارية تنفيذاً للأمر الإلهي.

ويتّضح أنّ المطلب الذي أوقع البحث العقلي في التقريب الناقص للموضوع وإلي حدّ قد ينعكس منه الجبر وأنّ القضية ذات نظام ذاتي لا يمكن الخروج عنه، نظير ما قالته اليهود من أنّ يد اللَّه مغلولة، هو اعتمادهم علي لغة العقل وحده منفصلًا عن النقل.

والمؤسف أنّ البعض لم يرض بالنقلة الإيجابية التي خطاها صدر المتألّهين في حكمته حيث طعّمها بالقرآن والسنّة، آخذاً عليه أنّه خروج عن منهج البحث

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 487

الفلسفي الذي يتطلّب التمحّض في العقليات.

ولا نقصد بذلك التفكيك في العمل بالنقل بمعزل عن العقل، وأنّما الغرض هو التنبيه علي عدم الجمود علي القواعد الفلسفية والعرفانية والكلامية مع ضرورة الخوض فيها، وأنّها بدونها تكون عملية التفقّه في العقائد سطحية، لكن اللازم الترقّي بالتوغّل أكثر في روايات أهل البيت لاكتشاف المعارف التي قصرت المناهج عن الوصول إليها، مع أنّها مدلّلة بنكات بينة في الروايات، لكن لم يحصل التنبّه إليها في العلوم العقلية، بل جملة كثيرة مترامية من المسائل لم تعنون في البحوث العقلية.

وبعد كلّ هذا، اتّضح نظام عالم الملائكة وأنّه مختار ومتكامل ومعصوم، ووقوع المخالفة

لإرادة المولي بنحو ترك الأولي بسبب الجهل الممكن تلافيه، ومن ثمّ أمكن تعقّل الأمر والنهي الحقيقيين فيه، وأنّه لا يختلف عن البشر إلّافي قضية الشهوة والغرائز، ويشترك معه في باقي الخصوصيات. وهذا ما يستفاد من كلام أمير المؤمنين عليه السلام في بيان أمراللَّه الملائكة بالسجود لآدم وإباء ابليس: «فمن ذا بعد إبليس يَسلَمُ علي اللَّه بمثل معصيته؟ كلّا، ما كان اللَّه سبحانه ليدخل الجنّة بشراً بأمر أخرج به منها ملكاً، إنّ حُكمَه في أهل السماء وأهل الأرض لواحد، وما بين اللَّه وبين أحد من خلقه هوادة في إباحة حِميً حرّمه علي العالمين» «1» فصريح كلامه عليه السلام أنّ الأحكام الإلهية بحسب دائرة الدين واحدة لأهل النشأة الأرضية والنشآت الأُخري، فدين اللَّه واحد في العوامل وليس يخصّص بدار الدنيا، وكلامه عليه السلام يشير إلي قوله تعالي: «أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا» «2».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 488

ومن ثمّ نقول: إنّ هذا النظام الملائكي قد كلّف بشريعة مطابقة لشريعة السنن الإلهية الكونية والظاهرة، بعد التذكير بأنّنا قد انتهينا من تصوير الشريعتين الظاهرة والكونية في نظام التكوين، بأنّها شريعة واحدة والوسيلة في التلقّي والتطبيق مختلفة، بيان ذلك:

إنّ الشريعة الظاهرة عبارة عن صفحة نازلة قد دوّن فيها كلّ ما في عالم التكوين في قوس الصعود والنزول ونشأة الدنيا وهي الواقعة بين القوسين، نهاية الأوّل وبداية الثاني، وبهذا التصوير يفهم قوله تعالي: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «1»

، فإنّه يدلّ بوضوح علي عدم وجود شرعة أجنبية عن شرعة الظاهر.

وبهذا نصل إلي نتيجة وهي: إنّ القضايا التكوينية التي واجهها موسي قبل لقائه بالخضر المشابهة للقضايا التي شاهدها مع الخضر، أيضاً مطابقة لشريعة الظاهر بنفس

البيان، سوي أنّ القضايا التي واجهها موسي أوّلًا حديث ضمن المسار التكويني، والتي واجهها ثانياً مع الخضر حدثت علي أساس الشريعة الكونية.

الفائدة الخامسة: … ص: 488

إنّ الأئمّة عليهم السلام يطبّقون الشريعة الكونية في السنّة الإلهية التكوينية ويعملون بموازينها جنباً إلي جنب عملهم بالشريعة بدرجة الظاهرة.

وبتعبير آخر: إنّ الأئمّة في تطبيقهم للشريعة الظاهرة يستخدمون كلتا الوسيلتين: العلم اللدني والعلم الحسّي، ويشهد لذلك تعليلهم لبعض القضايا بعلم القضاء والقدر، مثل: «شاء اللَّه أن يراهنّ سبايا».

وشاهد آخر: إقدامهم علي ما يعلمون، كالإقدام علي القتل، فإنّ تفسيره

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 489

الصحيح هو العلم اللدني، حيث كان استشهادهم بعد إجراء قانون التزاحم بين الملاكات الكاملة أولي «1».

وظهر أيضاً: أنّ مهمّة الهداية الإيصالية لا تخصّ الملائكة- كما يظهر ذلك من العامّة- بل تعمّ قسماً من البشر الذين يتمتّعون بمواصفات خاصّة، بل يظهر من القرآن أنّهم أكمل من الملائكة..

وظهر كذلك أنّ الإمامة غاية النبوة وأنّ الهداية الإيصالية غاية الهداية الإرائية.

وهذه النكتة هي المحور الأصلي في القصّة، بقرينة أسي النبي الذي ورد في أوّل السورة: «لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَي آثَارِهِمْ» «2»

، فكانت قصّة الخضر وغيرها لتطمين النبيّ صلي الله عليه و آله بأنّ الهداية الإيصالية موجودة وبواسطتها ستتحقّق الأغراض المجموعية والفردية للشريعة الظاهرة.

فإنّ الإرادة الإلهية لمّا كانت تعني بالتحفّظ علي أغراض الشريعة الكلّية في الجزئيات التفصيلية بالنسبة إلي عموم المجتمع، وبالأغراض التي تعدّ استراتيجية بالنسبة إلي الشريعة الظاهرة، كما نلحظ ذلك في قضية الخضر، فإنّه يدلّ بالأولوية

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 490

علي أنّ الإرادة الإلهية والهداية الإيصالية لا تهمل ما كان بالغ الأهمّية في الشريعة الظاهرة كالشؤون المرتبطة بالدولة والحكم وهداية المجموع.

الخلاصة: استعراض لأهمّ المحاور التي وردت في هذه الآيات الكريمة:

المحور الأوّل: وجود تشكيلة من أولياء اللَّه

الذين اختارهم اللَّه حججاً علي عباده يقومون بدور وظّفوا له ومن وراء الستار، وقد جاء في سورة الكهف «1» ذكر مواصفاتهم.

المحور الثاني: إنّ الإمامة غاية النبوّة، وقد جاءت القصّة لتؤكّد هذا الأمر وطمأنة للنبيّ صلي الله عليه و آله بأنّ الهداية الإيصالية ستتكفّل تحقيق أغراض الشريعة الظاهرة والهداية الإرائية التي قام بها الرسول الأعظم علي أكمل وجه.

المحور الثالث: هناك قسم آخر من الحجج وراء الرسالة والنبوّة والإمامة، والذي تمثّله الزهراء عليها السلام ومريم عليها السلام والخضر عليه السلام مع حفظ الفارق، وقد أشارت الروايات «2» إلي هذا القسم.

المحور الرابع: وجود شريعتين ظاهرة وكونية في الإرادات ومن دون بينونة بينهما.

المحور الخامس: الملاك والحكم في الشريعتين أو درجتي الشريعة واحد، إنّما الاختلاف في وسيلة الإحراز والإنفاذ.

المحور السادس: التزاحم الملاكي ظاهرة غالبة في الشريعة الكونية، وحلّه هو ترجيح أحد الملاكين الأهم، يتمّ بواسطة العلم اللدني بعد مقايسة بين الملاكين ولكن لا بحدود ضيقة مقطعية.

المحور السابع: إنّ الملائكة في قوس النزول مخاطبون ومكلّفون بالدين

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 491

والشريعة في السنن والإرادات الإلهية الكونية، بعد أن كانت لهم إرادة واختيار وتكامل ممّا يمكن به تعقّل التكليف والطاعة والمخالفة، مع قبول عصمتهم وأنهم لا يعصون اللَّه ما أمرهم، مع الالتفات إلي تبعيتهم في الدين للأنبياء والرسل الذين لهم مقام الإمامة وخلافة اللَّه في الأرض، كما أسجدهم الباري تعالي لآدم والذي يهدف إلي خضوعهم وتبعيتهم لخليفة اللَّه في أرضه، هذا بعد أن كانت شرائع الأنبياء مشتملة علي قوس النزول والصعود والفروع. وبعبارة أُخري: أنّ الشرائع التي بُعث بها الأنبياء وإن كانت مختصّة بأهل الأرض من الإنس والجنّ لكنّ الدين المتّحد بين الأنبياء فهو عامّ لأهل السماء والملائكة، كما أنّه عامّ لكلّ النشآت

والخلائق.

المحور الثامن: ولاية كلّ نبيّ ورسول مقام أرفع من نبوّته وإمامته، ولكنّ النبيّ أرفع مقاماً من الوليّ الحجّة المعاصر له؛ حيث كان الأوّل محيطاً بالإرادات الكلّية والثاني بالجزئية، فهو تابع للأوّل.

المحور التاسع: إلفتنا لأقسام التأويل وفرق الباطن عن الظاهر وفرق الشريعة الكونية عن الظاهر، ولمّا كان الأوّل مأخوذاً فيه الانتهاء والرجوع أمكن أن نضع إصبعنا علي الجامع بين الأقسام: إنّ كلّ عالم سابق له تأويله في اللاحق.

ونضيف: أنّ هناك عكس التأويل، فعالم الذرّ والميثاق يفسّران العديد من الظواهر التي تجري لأشخاص في النشأة، وبتعبير أوضح: كما أنّ النشأة اللاحقة تأويل للسابقة، كذا السابقة لها نوع تفسير للّاحقة، وهذا هو الذي أشارت له أخبار الطينة: «لو علم الناس كيف خلق اللَّه تبارك وتعالي هذا الخلق لم يلم أحدٌ أحداً …» «1»

وكذا روايات الذرّ والميثاق.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 492

المحور العاشر: إنّ الهداية الإيصالية هداية المجموع والجميع؛ فإنّها كما تعني بالأغراض المرتبطة بالمجموع البشري كذا تعني بأغراض كلّ فرد بل حتّي الواسطة.

النموذج الثاني القرآني: قصّة ذي القرنين … ص: 492

سيتمّ الإلفات إلي المحاور التالية:

1- مرتبة ذي القرنين.

2- القوّة التي مُنحت له.

3- التدبير الإلهي لجزئيات وتفاصيل المجتمع البشري في قصّة ذي القرنين.

4- ربط القصّة بالمحور الأصلي في سورة الكهف.

«وَيَسْأَلُونَكَ»، ظاهر في أنّ قصّة ذي القرنين شائعة لدي الأقوام، وأنّ الرجل وقصّته حقيقة تاريخية عاشتها البشرية.

«سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا»، ظاهر في أنّ القرآن لا يروي كلّ تفاصيل القصّة، وإنّما يقتصر علي بعض ملامحها.

«إِنَّا مَكَّنَّا» تعريف بشخصيّة الرجل كما في قصّة الخضر حيث ابتدأت بالتعريف به، وهذا التمكين هبة وأنّ التمكين هاهنا تمكين لدني.

والتمكين لا يطلق علي الملك اليسير وإنّما علي الملك الواسع العظيم، ومن ثمّ ذكر ذلك في سورة يوسف والآيات الواردة في نشأة المهدي عليه السلام

في جانب الخير، وفي عاد ونمرود في جانب الشرّ.

«وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ سَبَبًا».

لا سبب كلّ شي ء، ولكن مع كون (من) تبعيضية إلّاأنّها دخلت علي (كلّ شي ء)، ومن ثمّ شكّل هذا الإعطاء ميزة وخصوصية لذي القرنين؛ لأنّ (كلّ) تفيد

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 493

العموم، ومدخولها في غاية الإبهام والعمومية.

«سَبَبًا» لم يستعمل القرآن في غير ذي القرنين، نعم ذكرت منفية عن غيره، «فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ» «1»

، «لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ» «2»

، «وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ» «3»

. والسبب في اللغة: كلّ شي ء يقتدر به علي شي ء آخر، سوي أنّه في القرآن استعمل في الوسيلة غير المتعارفة.

وهذا الإعطاء حبوة إلهية ومنحة وهي القدرة اللدنية، بقرينة أنّه لم يذكر لغيره، وأنّه أردف الإتيان بالسبب، وأنّ ذا القرنين من الأولياء الحجج كما سيأتي، وأنّه قد استعملت فيه نفس التعبيرات المستعملة في سليمان.

ثمّ إنّ المراد من السبب في عالمنا- كما يظهر من الروايات وجاء في كلمات الحكماء والمتكلّمين- المعدّ، لا سيما في عالم المادّة، لا الفاعل ومعطي الوجود؛ فإنّه منحصر به تعالي، فهو ما منه الوجود وغيره ما به الوجود.

ويترتّب علي ذلك أنّ كلّ المعادلات والقوانين في هذا العالم لا ضرورة بتّية فيها بعد أن لم تكن الظواهر من الأسباب سوي معدّات تعدّ القابل وتهيئه لاستقبال الفيض الإلهي، بل ليس معدّات عالم الطبيعة هي تمام المعدّات، بل توجد معدّات أُخري ملكوتية فضلًا عن الأسباب الفاعلية، لا سيما أنّ بعض الأسماء الإلهية تقتضي بعض المعدّات التي لا نعلم بها.

وبه يمكن تفسير جملة من التخلّفات مثل: «قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَي إِبْرَاهِيمَ» «4»

، «وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ..».

والواو فيها استئنافية، فيكون المفاد أنّه بالإضافة إلي تمكينه- الذي قيد (في

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 494

الأرض)- الإيتاء وهو المنسجم

مع عمومية التعبير الذي سبقت الإشارة إليه، وهو الظاهر من الروايات حيث ذكرت أنّها من أسباب السماوات والأرض، بل الظاهر من الروايات أنّه أوتي ملكوت السماوات والأرض، حيث جاء التعبير ب «كشط له».

«فَأَتْبَعَ سَبَبًا» من تلك الأسباب.

«حَتَّي إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ» سار بالأسباب التي زوّد بها، وقد ذكرت الروايات أنّه كان يسير في فتوحاته بالزئير. (مغرب الشمس) إشارة إلي أقاصي الأرض، وقد يقال بأنّ رحلته فضائية في السماء كما مرّ إشارة الروايات إلي أنّ الأسباب التي أوتيها سماوية وأرضية وأنّه «كشط له».

«قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ»، خطاب مباشر منه تعالي لذي القرنين، ومن ثمّ قيل إنّه نبيّ، ولكنّه خلاف ظاهر القرآن حيث لم يصفه بالنبوّة ولا بالبعثة والرسالة، مع أنّه في مقام الإجابة عن التساؤل عن الغموض في حال ذي القرنين.

وهذا هو الظاهر من الروايات أنّه محدّث، كما يلاحظ ذلك في أجوبة الأئمّة عليهم السلام عندما كانوا يُسألون عن علمهم فكانت الإجابة أنّه كصاحب موسي وذي القرنين، أي ليست علومهم بنبوّة، ولكنّه علم لدني معصوم، والوحي المباشر لا يعني النبوّة وإنّما التشريف والحظوة في الاصطفاء، نظير: «يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ وَجيِهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ* وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا مِنَ الصَّالِحِينَ* قَالَتْ رَبِّ أَنَّي يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَي أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» «1».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 495

«إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا»، تدلّ علي أنّ الحاكمية- القيادة السياسية والقوّة التنفيذية- أوّلًا وبالذات هي للَّه تعالي، وكلّ حاكم عداه سواء كان نبياً أو وصياً أم غيرهما من الحجج المصطفين، فحاكميته في طول حاكمية اللَّه تعالي.

حيث يظهر من الآية

أنّ هذا التخيير الإجرائي والتدبير السياسي التفصيلي منحه اللَّه لذي القرنين، ممّا يدلّل علي أنّ الحكومة السياسية التنفيذية بيده تعالي، ولم تفوّض للبشر بمعزل عن اللَّه كما عليه أهل سنّة الخلافة وجماعة السلطان. والقيادة السياسية شعبة من شعب الهداية الإيصالية كما سيأتي توضيحه.

«حَتَّي إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ»، والحديث الحديث، مع دلالتها علي أنّ ذا القرنين كان معنياً بتدبير عدّة مجتمعات وفي مجالات متعدّدة.

«لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا»، ممّا يكشف أنّهم كانوا في تخلّف مدني حتّي علي مستوي الضروريات والأولويات، وقد كُلّف ذو القرنين برفع هذا التخلّف.

والروايات أيضاً تدلّ علي أنّ من مهام الإمام والولي الحجّة هو رفع هذا النمط من التخلّف، كما في تصدّي الإمام الباقر عليه السلام في حساب المسافة في قضية البريد وصكّ النقود، وتصدّي أئمّة أهل البيت لتأسيس جملة من العلوم، كما هو شأن الأنبياء السابقين حيث جاءوا للبشرية بأُسس العلوم «1»، وهذا مقتضي العناية الإلهية بعد أن كانت لضروريات العيش مدخلية في التكامل الروحي للأُمّة.

«كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا» يدلّ علي إحاطة الربّ تعالي بتفاصيل ما يجري وأنّها محور عنايته واهتمامه، فكان كلّ ما يجري تحت نظره.

وبعد اتّضاح الصورة في ملامح ذي القرنين يمكن أن نخرج ببعض النتائج التالية، وهي:

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 496

أوّلًا: إنّ تمكينه في الأرض لأجل استصلاح المجتمعات البشرية وإيصالها إلي الكمال المنشود ببناء حضارتهم ومدنيتهم بالقدر اللازم، وإرساء العدل وإفشاء الصلاح ورفع الظلم عنه، كما يبدو ذلك من النماذج التي تعرّض لها القرآن من حياته.

والقرآن كما ذكرنا سابقاً يتناول التعريف بالحياة الشخصية للرجالات والأُمم السابقة كسنن إلهية، ويركّز علي المحاور ذات العبرة التي تساهم في رسم العقيدة والشريعة، والروايات حدّثتنا عن جملة من الأبعاد الشخصية

لهؤلاء.

وما ذكر من ملك ذي القرنين الذي مُكّن منه مع النماذج التدبيرية التي قام بها، تلحظ أنّها وثيقة الصلة في سورة الكهف بالمحور الأصلي وهي طمأنينة الرسول بأنّ الهداية الإيصالية وهي مقام الإمامة وأنّها هي التي ستحقّق أهداف الرسالة والهداية الإرائية التي هي مقام النبوّة.

«لَايَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا»، تخلّفهم أكثر من القوم الذين التقي بهم سابقاً.

ثانياً: «فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ»، مع أنّ ذا القرنين أوتي كلّ ما سبق وأنّه منصوب من قبل اللَّه تعالي وفي الوقت الذي زوّد بتلك القدرة اللدنية وقد ملك فيها الدنيا، إلّا أنّه يطلب الإعانة، ممّا يعني أنّ الغرض الإلهي لا يتحقّق بالإلجاء، وإنّما لابدّ للأُمّة أن تنهض بمسؤوليتها، في الوقت الذي منّ اللَّه عليها بالهداية الإيصالية أي بنصب الإمام لهم.

ومن هنا أمكن أن نفهم توجيه الخطاب بالحكم ووظائف الدولة للأُمّة، وأنّه لا يعني أنّ الولاية بيد الأُمّة كما فهمه البعض، كما لا يعني أنّ الأُمّة مرفوع عنها المسؤولية تماماً في هذا المجال، وإنّما تعني أنّ هناك مسؤولية ملقاة علي عاتق الأُمّة تجاه الحكم والوالي، وهي الإعانة والتجاوب والطاعة، حيث لم تكن سنة اللَّه الإلجاء وكن فيكون في نشأة الدنيا، وبالتالي اليد الواحدة- يد الوالي- لا

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 497

تصفّق كما في المثل، فنصب الإمام من اللَّه للناس لا يعني إسقاط التكليف عن الأُمّة بنصرته وتمكينه وإقداره من قبلهم، فهناك تكليف مُلقي علي عاتق الإمام كما أنّ هناك تكليف مُلقي علي عاتق المأمومين وهم الأُمّة.

ثمّ تستعرض الآيات تفصيل بناء السدّ للدلالة علي أنّ الأولياء يعملون بالأسباب الظاهرية، علي العكس من توقّع الناس أن يكون سيرة ولي اللَّه فيهم كلّها بالإعجاز وخرق الأسباب.

«رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي» في حال أنّ بناء السدّ كان من خلال الأسباب الطبيعية،

ولكن لم تكن تلك الأسباب مكتشفة آنذاك، ومن ثمّ كان رحمة، حيث اطّلعوا علي بعض أسرار الطبيعة.

فتلخّص: أوّلًا: إنّ هناك قدرة لدنية، زوّد بها ذو القرنين، وملكاً عريضاً، ربما كان أوسع من ملك سليمان.

وثانياً: وكان برنامجه استصلاح الأقوام البشرية المغلوبة والمتخلّفة والمتناحرة، فأفشي العدل في قوم، وهيّأ ضروريات المدنية لآخرين، وبني السدّ لثالث.

وثالثاً: وبأسباب طبيعية كشفت لهم.

ورابعاً: مع نفي الإلجاء وحفظ دور الأُمّة ومسؤوليتها.

وقد ألفت القرآن إلي كلّ هذا في حياة هذا الولي؛ لرفع أسي النبيّ صلي الله عليه و آله وطمأنته بأنّ الأغراض التي علي أساسها كان التشريع ستحقّق من خلال الهداية الأمرية في إمامة الأُمّة، كما قال تعالي: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاة» «1».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 498

النموذج الثالث القرآني: قصة أصحاب الكهف … ص: 498

وهذه السورة متميزة ببحث الإمامة بنحو مركّز جدّاً، ولو سمّيت بسورة الإمامة لكان حرياً، لا سيما وأنّه ذكر نموذج رابع فيها وهو استخلاف آدم كخليفة للَّه في الأرض وإطواع جميع الملائكة له، وهذه الواقعة برمتها عنوان كبير لمعتقد الإمامة، فسلسلة البحث في كلّ هذه السورة يدور حول الوصول إلي أهداف الرسالة وغاياتها بتوسّط الإمامة، وأصحاب الكهف وإن لم يكونوا حججاً مصطفين، إلّاأنّ الحديث عنهم له صلة بالإمامة من جهة صلة هدايتهم بالهداية الإيصالية، وهي الإمامة عبر قناة الروح لا عبر قناة الهداية الإرائية وهي النبوّة الظاهرة والسماع بالحسّ.

«إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَي الْأَرْضِ»، بيان أنّ عالمنا عالم الإمتحان، فلا إلجاء ولا جبر كما في قوله تعالي: «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» «1»

، وإنّما اختيار واختبار، كما في قوله تعالي: «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ» «2».

وقد توسّطت هذه الآية بين آية «لَعَلَّكَ بَاخِعٌ..» وقصّة الكهف؛ للتنويه علي أنّ الهداية

الإيصالية وإن كانت متحقّقة في إمامة الإمام إلّاأنّ المسؤولية ما زالت قائمة علي الأُمّة، ولابدّ أن تخطو باختيارها نحو الكمال ومن اللَّه التسديد والتأييد.

ثمّ إنّ سورة أهل الكهف مكّية نزلت إثر محاولة قريش إحراج النبيّ صلي الله عليه و آله عندما استعانت بثلاثة أرسلتهم إلي نجران للتوفّر علي مسائل معقّدة يعجز عن الإجابة عليها، فكانت أهل الكهف وصاحب موسي وذو القرنين. وقد قال علماء نصاري ويهود نجران: إنّ محمّداً إن أجاب عنها فهو نبيّ وإلّا فلا، ثمّ طلبوا سؤاله برابعة إن

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 499

أجاب عنها فهو ليس بنبيّ، وهو: عن الساعة ومتي هي؟

وتذكر الرواية أنّ الرسول أوعد بالإجابة غداً من دون تعليق وعده علي المشيئة الإلهية فحُبس عنه الوحي أربعون يوماً، فاغتمّ وحزن كثيراً، وكذا حزن عمّه أبوطالب عليه السلام حتّي نزل الوحي بالإجابة.

والملفت للنظر ترابط هذه القصص الثلاث في فكرة الهداية الإيصالية التي هي حقيقة الإمامة، مع أنّ اليهود اختاروها علي أساس من المسائل الصعبة لا أكثر.

«أَمْ حَسِبْتَ»، لا دلالة في السورة علي أنّ أصحاب الكهف أولياء وحجج، وإنّما هم من القسم الخامس وهو الأولياء غير الحجج، وقد شُرّفوا بمقام أوجب ذكرهم.

«الرَّقِيم» في الروايات أنّ أسماءهم مرقومة في لوح من رصاص، رقّمها الملك الكافر الذي كان يريد قتلهم، أو الذي عرفهم بعد إفاقتهم فرقّم أسماءهم علي هذا اللوح ووضعه علي قبورهم بعد موتهم.

«أَمْ حَسِبْتَ» تدلّ علي أمرين:

الأوّل: البعث والمعاد كما سنبين.

والثاني: إنّ الغلبة للَّه تعالي، وإن أغراضه ستتحقّق، فهؤلاء مجموعة غلبت علي أمرها من رواد الباطل وعلي رأسهم الملك آنذاك، إلّاأنّ الدائرة دارت عليهم فانقرضوا وبقيت تلك المجموعة المستضعفة خالدة تشكّل نبراساً للحقّ.

وارتباط هذا البعد بالمحور الأصلي واضح، وأنّه مهما حصل وفعل أهل الباطل،

ومهما قويت شوكتهم فلن يعيق تحقّق الغرض الإلهي، فإنّ المغلوب ظاهراً غالب باطناً، أي في الخفاء والمآل.

ومن ثمّ يفهم السرّ في ترديد الرأس الشريف المقطوع للحسين عليه السلام المشال علي رأس الرمح لهذه الآية المباركة وهو يُطاف به في بلدان أُمّة الإسلام.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 500

والروايات تشير إلي هذا المضمون.

«الْفِتْيَة» أشرنا ويأتي تفصيل أنّ هؤلاء ليسوا من الأولياء الحجج، وقصّتهم معجزة.

ومن ثمّ نفهم أنّ المعجزة ذات طابع الرحمة تكشف عن شرف من تقوم فيهم وعلوّ مقامهم.

هذا في المعجزة الرحمة، والعكس بالعكس، فالمعجزة العذاب كالقمل والضفادع والدم تعبّر عن ذلّة من قامت فيه المعجزة وخسّتهم.

كما أشرنا إلي أنّ هؤلاء الفتية صاروا عظة وعبرة وقدوة للبشرية، ممّا يؤكّد أنّ مقامهم وإن لم يصل حدّ الحجّية إلّاأنّه مقام رفيع ومكانة مرموقة في مجال التكامل المعنوي، ومن هنا جاء في الدعاء: «اللهم إنّي أسألك بكلّ عبد امتدحته فيه»، أي في القرآن.

ولم يقتصر القرآن في ذكر هذا النمط من البشر علي أصحاب الكهف، وإنّما ذكر آخرين كمؤمن آل فرعون.

«إِذْ أَوَي»، ظاهر في نوع الإلجاء والاستجارة، ويؤكّد ذلك طلبهم الرحمة الخاصّة من اللَّه تعالي، ممّا يكشف عن عمق محنتهم.

«أَيُّ الْحِزْبَيْنِ»، عبّرت عن كلا الطرفين بالحزب، مع أنّ أهل الكهف قلّة جدّاً، ممّا يدلّ علي التفخيم، وأنّهم يمثّلون خطّاً هو خطّ الهداية.

«ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ»، النوم نوع من التوفّي كما أشار إليه القرآن الكريم، ونظير البعث الإيقاظ من النوم للتعريف بالأطول بقاءً، والتدليل علي أنّ الهداية الإيصالية لا تتخلّف، وهذا هو البعد المرتبط بالمحور الأصلي.

وفي الروايات بيّن هدف بعثة أصحاب الكهف من رقدتهم بأنّه: دحض دعوي الكافرين حيث كانوا ينكرون المعاد، كما يشير إليه قوله تعالي: «لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 501

اللَّهِ حَقٌّ

وَأَنَّ السَّاعَةَ لَارَيْبَ فِيهَا» «1».

«إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ»، هذه الآية تتعرّض لمجمل عقائدهم التوحيدية الرفيعة وحكمتهم العملية، من دون أن توجد دلالة في الآيات علي تعريفهم بواحدة من الديانات المعروفة، ممّا يعني أنّ إيمانهم هذا بدافع من فطرتهم السليمة.

«وَزِدْنَاهُمْ هُدًي»، وهي هداية خاصّة مُنحوا إياها علاوة علي إيمانهم، ممّا يدلّ علي رفعة مكانتهم.

«فَأْوُواْ إِلَي الْكَهْفِ» بداية لإنشاء مجتمع توحيدي منفصل ومستقلّ عن مجتمع الكفّار؛ لوجود التقاطع بين المجتمعين، ممّا يفرض وجود دارين: الإيمان والكفر.

«وَتَرَي الشَّمْسَ..»، النوم وما جري عليهم في أثنائه أُمور غير اختيارية إلّاأنّها ممزوجة باختيارهم، وبها كانوا آية من آيات اللَّه تعالي.

«مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ..»، لباب القصّة وحلقة الوصل مع المحور الأصلي في السورة، والهداية من دون قرينة يقصد منها الإيصالية في قبال النذارة، وذيل الآية قرينة علي الإيصالية؛ لظهور الولاية في ذلك، والإرشاد وإن كان إراءة إلّاأنّه ليس إراءة كلّية كما في نذارة النبوّة، بل هداية تفصيلية متولّدة من الإرادة الكلّية النبويّة في التشريع، ومن ثمّ لم يستعمل نعت الإرشاد للنبيّ صلي الله عليه و آله من جهة مقام النبوّة.

ومرّة أُخري نلفت إلي أنّ محور الخلاف مع العامّة هو أنّهم اقتصروا علي ضرورة الإراءة والتنظير من دون الإيصال إلي المطلوب.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 502

«لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا»، عناية إضافية حفظاً لهم عن التلف.

«وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا..»، واحدة من الأدلّة القرآنية علي مشروعية التقية.

«وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ..»، واحدة من الغايات، وهي- علي الظاهر- نصر المؤمنين في الدين وقدرة الباري تعالي علي بعث الأموات.

«وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَارَيْبَ فِيهَا»، غاية أُخري: وهي المعاد وهو امتداد الهداية الإيصالية، فإنّه يعني السير إلي اللَّه تعالي واللقاء به،

وهو لا يتمّ إلّابواسطة الهداية الإيصالية والإيصال إلي المطلوب.

ومن ثمّ كان المعاد واحداً من الأدلّة علي الإمامة، فالآية تدلّ علي أنّ الهداية الإيصالية تحقّق وتوفّر بلوغ الغاية في الدنيا والآخرة.

«لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا..»، فيه تقرير لجواز اتّخاذ المساجد علي القبور، وجعله مكاناً إذا كان موجباً للعبرة كأصحاب الكهف، والقرينة علي ذلك هي تذكير القرآن بهذا الاقتراح من بين الاقتراحات المطروحة من القوم حول أهل الكهف الذين فارقوا الحياة.

«وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا..»، مرتبط بما ذكرناه في سبب نزول السورة ووعد النبيّ صلي الله عليه و آله إجابة الأسئلة من دون تعليق ذلك علي المشيئة.

«اللَّهُ أَعْلَمُ..»، لعلّه ظاهر في أنّ سنّة اللَّه أن يُبقي الولاية والهداية الإيصالية محاطة بشي ء من الغموض و الخفاء، فلا تكون معروفة في حينها للجميع، كما لا يتمّ التعريف بكلّ جنباتها، خاصّة النوع الأوّل والثاني المتمثّل في أصحاب الكهف والخضر.

«مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ..»، فهو الذي يتولّي البشر ويهديهم، والولاية مفهوم قد استبطن فيه القدرة، فالإمامة هي نافذية حكم اللَّه من دون إشراك..

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 503

«أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ..» للدلالة علي بالغية إحاطة اللَّه تعالي بمجريات الأُمور ومقدّراتها علي صعيد الأفراد والمجموع البشري.

وبهذا ينتهي الحديث في هذه القصّة، وأهمّ ما جاء فيها:

1- وجود هداية إرائية وإيصالية حتّي فيمن لم يتوفّر علي هداية الرسول الظاهر.

2- وجود قسم من الأولياء وذوي الشأن وراء الوليّ الحجّة، وقد وصل بعضهم إلي مقام ضرب المثل والآيتية والقدرة، كما في أصحاب الكهف، ولعلّ نظيرهم: «جَاءَ مِنْ أَقْصَي الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَي» «1».

3- إنّ المأخوذ في ماهية الهداية الإيصالية نوع من القدرة والتصرّف التكويني، ولكن من دون إلجاء، بقرينة مرشداً التي تعني الهداية الإرائية والتبعية.

4- إنّ النصرة والظفر

في الدنيا من سنن اللَّه التكوينية، ومن ثمّ يستتبّ الأمر أخيراً لحزب اللَّه النجباء.

5- وجود ارتباط وثيق بين الإمامة وبين المعاد، وعلي أساسه يمكن فهم فكرة الشفاعة، الحضور عند الاحتضار، شهادة الأعمال، قسيم الجنّة والنار.

6- حكمة اللَّه اقتضت كتمان بعض زوايا الهداية الإيصالية، ومن ثمّ قد توجب نوعاً من الاستغراب والتعجّب عند من لم يطّلع علي الأُمور ويتعامل معها بشكل سطحي، وإلي حدّ قد تصل الحالة إلي تفسير بعض الظواهر بالعبث.

7- «وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا»، يدلّ علي أنّ الذي يحقّق الأغراض هو تعالي، فلا تنحصر القضية حينئذٍ بالهداية الإرائية.

8- مقتضيات الفطرة هي البنية التحتية للأُصول والفروع.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 504

والآيات اللاحقة تحوم حول هذه الأفكار:

أ- غايات اللَّه لا مبدّل لها، فلابدّ أنّ تتحقّق: «وَاتْلُ مَا أُوحِيَ..».

ب- الدعوة للتمسّك بالهداية الإرائية والتي هي الخطوة الأُولي في السير والاهتداء بالهداية الإيصالية: «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ..».

ج- أعمال الكفّار هباء وأعمال المؤمن مثمرة وإن استقلّتها الأعين:

«وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا».

د- كلّ سير وسلوك تحت قدرة اللَّه جلّ وعلا: «مَثَلُ الْجَنَّةِ».

ه- سلسلة المنظومة الطبيعية ذات غايات: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا».

و- عدم النظرة المقطعية ودعوة إلي نظرة طولية: «الْمَالُ وَالْبَنُونَ».

«وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ..»، أذكر أيها الرسول استخلاف آدم وقد تقدّم تبيانه في الفصول السابقة وأنّ ظاهر ألفاظ آياتها كما هو مفاد الروايات هو لأجل تبيان الإمامة، واتّضح فيها أنّ رائد منظومة الهداة في الإيصال إلي المطلوب هو الإنسان الكامل، وأنّ التدبير في هذا المجال لا يختصّ بالملائكة كما يتوهّم ذلك أهل سنّة الخلافة وجماعة السلطان. هذا وأنّ سورة الكهف اقتصرت علي هذا المقطع من القصّة وهو ذو الارتباط بالمحور الأصلي في القصّة.

سورة الكهف سورة الإمامة: … ص: 504

إلفاتة: وبعد كلّ ما تقدّم من قصّة أصحاب الكهف، بعد عرض كلّ من قصّتي

موسي مع الخضر، وذي القرنين، أصبح من المناسب الإلفات إلي زاوية التناسب بين القصص الثلاث:

حيث يطالعنا القرآن في سورة الكهف في القصّة الأُولي علي نموذج لم يكن نصيبهم من الهداية الإرائية أكثر من قضاء الفطرة وحكم العقل، وكأنّهم كانوا في

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 505

زمن الفترة بين الرسل فلم يوَفّقوا لمعرفة الإمام والوصي الخفي آنذاك، ولكن لم يمنعهم ذلك من الاستجابة لفطرتهم وعقولهم، وإن كانت محدودة بالعمومات والأُسس العامّة الفطرية الأوّلية الإجمالية، فلم يحرموا من الهداية الإيصالية بالقدر الموازي لما عرفوه.

في حين نلحظ في القصّة اللاحقة أنّ دائرة ورقعة الهداية الإرائية أوسع من العقلية حيث اقترنت معها هداية تشريعية، فالخضر كان تابعاً لموسي ومتديناً بشريعته، سوي أنّ الهداية الإيصالية كانت خفية وبشكل غير رسمي.

في الوقت الذي نلحظ أنّ ذا القرنين زُوّد بالهداية الإيصالية الكاملة:

«وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ».

فالأنواع والدرجات التي أَلفتَ إليها القرآن في الهداية الإرائية الثلاث، وبما أنّ اللَّه بالغ أمره في من اتّبعها، فتكون الهداية الإيصالية لكلّ درجة متناسبة معها.

وعندما ندرس خطوات الأنبياء نلحظ أنّها متدرّجة بالشكل الذي سلسلته سورة الكهف، حيث إنّ أوّل خطوة يخطوها الرسول في طريق الدعوة إلي اللَّه بإراءة الأُمور الكلّية الفطرية ثمّ التشريعية في مرتبة ترافقها الهداية الإيصالية ذات الطابع السرّي غير المعلن، ثمّ تصل الذروة كما نشهده في قصّة موسي حيث أقام الدولة، وكذا سليمان والنبيّ صلي الله عليه و آله في بقعة من الأرض، وتُختم جميعاً بدولة المهدي عليه السلام «لِيُظْهِرَهُ عَلَي الدِّينِ كُلِّهِ»، والذي كان نموذج ذي القرنين مثالًا له.

ولم يكتف القرآن بذلك كي ينبّهنا أنّ المجتمع البشري دوماً في حالة تقلّب وتغيّر في هذه الأدوار الثلاثة.

ثمّ إنّ الآيات لا تشير إلي انتماء أهل الكهف إلي شريعة

خاصّة، وكما في قوله تعالي: «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيَما اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 506

بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ» «1»

، علي الفترة لا يعني خلوّ الأرض من حجّة كما قد يتوهّم خصوصاً من تعبيره بالفاء في الآية الدالّة علي التراخي، وإنّما في كلّ عصر يوجد شريعة وهداية إيصالية، سوي أنّ هناك فترات يكون فيها المعصوم مخفياً، وإلّا فبم نفسّر نبوّة آدم وكيف نكيفها مع الفترة مع الانسياق للتوهّم؟

وهناك روايات «2» تدلّ علي أنّ الهداية الإرائية موجودة ومتوفّرة، وهي ما يحكم به العقل والفطرة العقلية في الإنسان وأنّه منجّز وأنّ الإنسان يؤاخذ عليها ويحتجّ بها عليه.

وقصّة أهل الكهف شاهد من بين شواهد كثيرة علي أنّ التجاوب مع هذه الهداية الإرائية يوصل إلي الهداية الإيصالية، فلا يحرم التسديد الإلهي في الوصول إلي الكمالات المنشودة والأغراض التي أراد اللَّه من عبيده تحقيقها.

وللتذكير والإيقاظ: نلفت إلي أنّ أحكام العقل لا تغني عن الشرع؛ لمحدوديتها وعموميتها ممّا يجعلها بحاجة إلي الشرع في تنزّلها وتفصّلها، ومن ثمّ لا نلحظ في ما حدّثنا القرآن عن معارف أولئك الفتية والتزامهم أكثر من الأُسس العامّة التي وفّرها الرسول الباطن لهم، كالتوحيد وبعض الفروع الواضحة التي لا تخفي علي العقل كقبح الكذب، كما أنّ القرآن لم يحدّثنا عن توفّرهم علي الهداية الإيصالية أوسع مدي من هدايتهم الإرائية.

النموذج الرابع القرآني: قصّة طالوت … ص: 506

وتبدأ من آية 246 البقرة وتنتهي بآية 253.

في البداية نذكّر مرّة أُخري: إنّ منهجنا في التفسير يعتمد علي الروايات التي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 507

وردت في ذيل الآيات مفسّرة لها، والتي يصنّف قسم كبير منها في حقل التأويل،

والآخر لمعالجة الظهور الابتدائي.

وبما أنّ التأويل له صلة بمنصّة الظهور وقد أَلفتَتَ الكثير من الروايات إلي كيفية ذلك- صرنا في صدد التعرّف علي الظهور الثاني بتوسّط الظهور الأوّل ببركة الروايات.

وهناك رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام تلفت إلي أنّ قصّة طالوت التي قصّها القرآن هي لضرب المثل للإمامة، وأنّها فيمن ولمن وممّن تكون.

ونبدأ الحديث بعرض سردي لقصّة طالوت وتجميع مفرداتها ثمّ ننتقل إلي دراستها محورياً.

«أَلَمْ تَرَ إِلَي الْمَلَإِ..»، الملأ لغة: وجوه القوم وأعيانهم، فإنّه بهم تملأ العين، أو مجلس البلد وندوته.

«مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَي..»، في الروايات بعده خمسمائة سنة.

«نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ..»، جالوت القبطي كما في الروايات وما يأتي في الآيات، حيث كان مستعمِراً لبعض أراضي بيت المقدس، ويبدو من الآية أنّهم كانوا يفتقدون الملك القوي المدبّر.

«لِنَبِيٍّ لَهُمُ..» ظاهر في أنّه رسول؛ حيث يفترق النبيّ عن الرسول فيما إذا كان قد نبّأ لنفسه أو لأهله، وأمّا إذا كان مبعوثاً لأُمّة فهو رسول، هكذا ورد في الروايات، ومثله في الآيات: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ» «1»

، نعم ليس شرطاً في الرسول أن يكون صاحب شريعة؛ إذ يمكن أن يكون تابعاً لشريعة رسول قبله، والاصطلاح القرآني في جملة من استعمالاته

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 508

في القرية والمدينة ليس بالعمران والحضارة المادّية وإنّما المدنية والتحضّر بالمعرفة الأديانية.

«ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا..»، ظاهره في أنّه مغاير للنبوّة، حيث طلبوه من النبيّ، وأنّه غير انتخابي، وإنّما مجعول من اللَّه تعالي، وأنّه أرفع منزلة من ذلك النبيّ؛ وإلّا لما أمكن أن يحكم المفضول الفاضل.

ثمّ إنّنا نؤكّد مرّة أُخري علي أنّ الإمامة وإن كانت تستبطن الإيصال وأنّ لطف اللَّه تعالي بالبشر ونعمته عليهم يتمّ بها فهي ضرورة، إلّاأنّها ليست بالإلجاء

الإعجازي التكويني، ومن ثمّ كان علي المجتمع- كما ذكرنا في قصّة ذي القرنين- أن يبادر ويتحرّك تحت راية الإمام من أجل تحقيق الأغراض الإلهية المرتبطة بعموم المجتمع.

«إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا..»، فهذا الملك عهد إلهي خاصّ، وعبّر عنه القرآن الكريم ببعثة إلهية، فالإمامة بعثة إلهية أيضاً؛ لما تشمل من مقام غيبي لدني، والمبعوث من اللَّه تعالي إماماً بالتالي يكون سفيراً وله سفارة إلهية تغاير سفارة النبوّة والرسالة.

فكون الإمامة سفارة إلهية وبعثة أصل قرآني، وليس بالانتخاب والتعيين من البشر، وطالوت من سلالة بنيامين أخ يوسف عليه السلام ومن ثمّ كان محور اعتراضهم؛ حيث كانوا يرون أنّ الملك منحصر فيهم وهم أبناء لاوا الأخ الأكبر ليوسف، وقد صاغ القرآن اعتراضهم: «أَنَّي يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ»، وكان جواب النبيّ لهم: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ..» فالأمر بيده تعالي، لا أنّه يخضع للمقاييس العادية التي يتصوّرونها هم، وإنّما هو نصب إلهي لا ملك دنيوي، ومن ثمّ ستذكر الآيات اللاحقة معجزة هذا الملك، والآية والمعجز دليل علي أنّ النصب تشريعي إلهي، فلابدّ أن يستجيب له البشر

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 509

باختيارهم؛ وإلّا حقّ عليهم العذاب.

«وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ»، يدلّ علي أنّ المشيئة التكوينية أيضاً اقتضت أن يكون طالوت ملكاً، وكلتا المشيئتين مرتبطتان بالهداية الإيصالية، والتدبير الإلهي للأُمور الإجتماعية العامّة.

«قَالُوا أَنَّي يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ..»، إخبار السماء لنبيّنا صلي الله عليه و آله باعتراض اليهود علي نصب السماء شخصاً فكيف بنصب شخص ليس منهم، لبيان واحدة من أسرار عداء اليهود للإسلام، كما في الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام.

«وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ …»، تبين الآية المباركة ضرورة المعجزة في الإمامة-

مع الالتفات إلي أنّ القرآن لم يعبّر عن المعجز إلّابالآية والبينة ونحوهما، والتعبير بالعجز اصطلاح كلامي- وأنّ النصّ لا يكون وحده في السنّة الإلهية، بل مع المعجزة والآية. وعندما نطالع تاريخ الشيعة مع أئمّتهم نلحظ أنّهم كانوا يتحرّون عن المعجز العلمي والعملي كشي ء إضافي للنصّ.

«سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ..»، في الروايات: ريح من الجنّة لها وجه كوجه الإنسان، أو روح مخلوق من اللَّه يتكلّم، كانوا إذا اختلفوا في شي ء كلّمهم وأخبرهم.

«وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَي وَآلُ هَارُونَ»، يدلّ علي أنّ الإمام وارث من سبقه، والتركة وإن كانت مادّية إلّاأنّ لها سنخ ارتباط بالغيب، كعصي موسي وخاتم سليمان وقميص إبراهيم ويوسف، كما أنّ الآية تشير إلي أنّ الوراثة في بيوت الأنبياء، وأنّها ليست وراثة كسروية ترابية بل وراثة اصطفائية كما في قوله تعالي:

«ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ..». «تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ»، الحفظ الغيبي يدلّ علي خطورة وعظم هذا المقام وعظم وخطورة مواريث الأنبياء، والتي هي الآن جميعها عند أهل بيت النبوّة عند خاتمهم المهديّ (عج).

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 510

«إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ..»، فلا إلجاء جبري تكويني، من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.

«فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ»، فارق طالوت وجنوده المكان.

«إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ»، يكشف عن علمه اللدني وإبلاغه إرادات اللَّه التفصيلية لا بتوسّط النبيّ، فيدلّ علي إمامته وأنّ الإمام يحيط علماً بالمشيئة والإرادة الإلهية التفصيلية، لا سيما وأنّ الإرادة منسوبة إلي الباري صرفاً، كما يكشف عن أنّ التدبير يُباشر من قبل اللَّه تعالي، فالحاكم الأوّل هو تعالي، بل في جملة من مواقع حكومة الرسول صلي الله عليه و آله يسند إليه تعالي الحكم التفصيلي ولا يسند إلي الرسول، أي وإن كان بتوسّط الرسول صلي الله عليه و آله، كما

ألفتنا إلي ذلك مراراً-.

«فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي»، ظاهر في أنّ الغاية من هذا الامتحان هو التولّي وعدمه، واستعراض القرآن له للإلفات إلي أنّ التولّي لصيق بالاعتقاد بالإمامة، بل هو في درجاته الأُولي، والوجه الآخر للإذعان والإيمان بالإمامة كما أوضحناه في الفصل الثالث من الجزء الأوّل.

فالأُمّة الواحدة وحدتها علي أساس التولّي وعدمه، فالملأ كانوا علي شريعة موسي، إلّاأنه لم يكف ذلك حتّي صُنّفوا إلي صنفين، من اتّبع الإمامة، ومن لم يتّبعها.

ولا يخفي أنّنا لحدّ الآن لاحظنا جملة من مقوّمات الإمامة وأبرز معالمها، وليكن تجميعها وضبطها بالشكل التالي:

أ- إنّ الإمامة بالنصب والبعثة الإلهية: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ».

ب- إنّها اصطفاء: «اصْطَفَاهُ».

ج- ذو علم متميز لدني: «بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ».

د- التكامل الجسدي والقدرة اللدنيان: «وَالْجِسْمِ».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 511

ه- من شأنه المعجزة: «آيَةَ مُلْكِهِ».

و- وارث من سبقه: «وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ».

ز- التولّي هو الوظيفة المطلوبة من الأُمّة بالنسبة لإمامها: «فَإِنَّهُ مِنِّي».

«فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا»، هو المتولّي، وبقانون لتركبنّ طبقاً عن طبق تعرف النتيجة في عالمنا الإسلامي، كذا ذكر القرآن الذي هو معجزة الإسلام، قرينة علي أنّ ما حصل آنذاك سيحصل بعد.

«فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ»، عرف المتولّي لطالوت بالذين آمنوا، وهذا هو الذي يدّعيه الشيعة من أنّ قضية الإمامة من أُصول الدين الإيمانية.

خاصّة مع الإلفات إلي أنّ الشرائع متطابقة فيما بينها علي مستوي المعارف، بل هذا ليس محلّ للنسخ؛ لأنّه من أجزاء الدين الواحد للأنبياء لا من الشريعة التي يعرضها النسخ، نعم تتفاوت بينها بالإجمال والتفصيل.

«وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ»، المقام الذي كان لطالوت أُعطي لداود، ولم تبين هذه الآية نبوّته، وإنّما اقتصرت علي: «آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ»، ويظهر من الآية أن شجاعة وبأس داود

في اللَّه أهّلته لهذا المنصب، فإنّ ذكر الأوصاف قبل المنصب يدلّ علي الأقلّ علي التناسب بين الأمرين.

«وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ»، سنّة إلهية أن يُدفع غيّ البعض بالبعض، وله مراتب أقصاها القتل، وقد طبّقت لدفع طالوت وجنوده لجالوت، وهو يعني أنّ صلاح الأرض يتحقّق بالإمامة، وبعبارة أدقّ: إنّ بالإمامة التي هي خلافة اللَّه تعالي في الأرض- صلاح الأرض وتطهيرها من الغي والشرّ.

ثمّ يلحظ من مجموع الآيات المرتبطة بطالوت أنّ الإمامة لم تُعرَف إلّابالملك، (ملك التصرّف في الأُمور العامّة) كذا في آية: «فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 512

وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا» «1»

.وعندما نراجع الروايات نراها تلفت إلي أنّ إبراهيم أحد الأربعة الذين بُعثوا بالسيف، إلّاأنّه لم يعهد منه الإمارة، كذا بعض من جاء ذكرهم في الآية، ومن ثمّ كان التعبير: «وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا» مورداً للتساؤل، وجوابه: أنّ الملك باصطلاح القرآن ذو جنبتين:

الأوّلي: تكوينية كالاصطفاء والعلم الخاصّ والسكينة وفصل الخطاب والمواريث، وهذه متوفّرة مكّن من الملك الظاهر في العلن أو لم يُمكّن، لكنه متمكّن من التصرّف في النظام الاجتماعي البشري بصور خفية متستّرة.

الثانية: التشريعية وهو الأخذ بزمام الأُمور، وهذا البعد قد أُلقي تنفيذه علي عاتق الأُمّة، بأن تمارس دورها بإقدار الإمام وإيصاله سدّة الحكم الظاهر في العلن.

وقد عبّر عن الملك الذي مُنح لداود في آية أُخري بالخلافة في الأرض: «إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ» «2»

.وقد جاء في آية أُخري أنّ الخلافة في الأرض سنّة إلهية ما دامت البشرية، كما نلحظ ذلك في آية من آيات سورة البقرة: «إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً»، والذي طُبّق علي آدم. وبالتالي سنخرج بنتيجة، هي أنّ الإمامة قانون تكويني إلهي وضعه اللَّه للبشرية ما دامت في هذا

العالم.

«وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ» من بعد الرسل، ممّا يدلّ علي وجود سنّة إلهية، وهي سنّة الاقتتال بين أتباع الرسول بعضهم مع البعض الآخر، ومن ثمّ استشهد أمير المؤمنين عليه السلام في حرب الجمل بهذه الآية.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 513

«فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ» «1»

، تبين سرّ الاقتتال وخلفيته، وهو أيضاً «مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ»، ومن هنا نعرف أنّ الاختلاف الحادث لا ينسجم مع اجتهاد كلّ من الفريقين وإصابته؛ وإلّا لا معني لتصنيف أحدهما فريق الإيمان والآخر فريق الكفر.

وبالإضافة إلي أنّه اختلاف مع البينة، فلا معني للتأويل والاجتهاد.

النموذج القرآني الخامس: قصّة مريم … ص: 513

آل عمران من آية 41 إلي 47.

«إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَي آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ»، وفي بعض القراءات كما في الروايات: وآل محمّد.

«ذُرِّيَّة»، والتوارث في الاصطفاء من باب التوارث الروحي المعنوي لا المادّي، والمعبّر عنه: بالخيرة بعد الخيرة، والنجباء بعد النجباء.

«إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ»، عرض لقصّة ومصداق للذرّية المصطفاة.

«إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي»، كان في شريعة بني إسرائيل أنّ للأب مُلكية ابنه المطلقة، ومن ثمّ كان يستطيع إيقافه علي المسجد.

«وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَي»، إمّا نقل كلام امرأة عمران أو كلام اللَّه، وعلي الحالين يدلّ علي عدم المساواة بين الجنسين علي صعيد الوظائف والقانون في الدنيا، وإن أمكن للمرأة الترقّي في مجال التكوين والمعني إلي حدّ الاصطفاء، وهذا عموم فوقاني من نوع الجعل الدستوري، وإن صحّ التعبير عنه فهو أصل قانوني من أُسس التشريع ومقصد من مقاصد الشريعة، وبالتالي فالتشريعات التي نحتمل

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 514

أنّها وظيفة خاصّة بأحدهما لمناسبة متميزة في أحد الجنسين لا يمكن التمسّك بعمومها.

«وَإِنِّي أُعِيذُهَا..»، كما يظهر من الروايات أنّه دعاء بالعصمة، ومع قرينة الاصطفاء وما يأتي من أنّه

تعالي تقبّلها بقبول حسن، دليل العصمة واستجابة الدعاء.

«وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا»، النبت يعني النمو، والآية ظاهرة في أنّ التنشئة المادّية للمصطفي تختلف عن غيره، من قبيل تهيئة اللقمة الحلال..

«زَكَرِيَّا»، زوج خالتها..

«أَنَّي لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ»، نوع من التكريم والحبوة الإلهية والاعتناء الخاصّ مع أنّها ليست نبيّاً ولا إماماً، وهذه الآية تكشف عن نوع ارتباط غيبي بين مريم وبين اللَّه تعالي، والروايات دلّت علي أنّ ملكاً كان يأتي لها بالطعام.

«هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا..»، بعد أن شاهد مريم وكرامتها..

«إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ..»، تصريح بارتباطها بالغيب، والاصطفاء الأوّل كما في الروايات هو الاختيار، والاصطفاء علي النساء هو الحجّية عليهنّ.

وقد ظهر لحدّ الآن:

أ- ارتباط مريم بالغيب ونوع من الاتصال من دون وساطة نبيّ كما سيأتي في عين تبعيتها لشرائع الأنبياء.

وهذا ليس غلوّاً في مريم، وبعدما عرفت أنّها لم توصف بالنبوّة، ومعه لا نستغرب إذا كان لفاطمة عليها السلام مصحف فيه تأويل الكتاب.

ب- اختصاص وليّ حجّة بخطاب إلهي خاصّ، وقد يُكلّف بتكاليف خاصّة كما سيأتي لا يعدو مقام التطبيق، لا أنّه خارج عن عموم شريعة موسي كما في

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 515

المثال.

والظاهر من بعض الروايات وإن كان أنّ مريم محلّ للحجّية والمعجزة والآية، إلّا أنّها ليست محلّاً ساذجاً كتكلّم الشجرة وشقّ القمر، وإنّما هي متمّمة للإعجاز ودخيلة فيه، حيث بينت الحجّة والمعجزة في إشارتها إليه، وإحضارها للمعجز في وسط بني إسرائيل كما سيأتي مفصّلًا، فهي شريكة عيسي في تبيان معجزته، ومن ثمّ جاء في القرآن: «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً» «1»

.«يُبَشِّرُكَ …»، نوع من الإنباء بالغيب المستقبلي، حيث كانت البشارة بنبيّ وباسمه المجعول من قبله تعالي ووجاهته الدنيوية ومكانته الغيبية (قرباً منه تعالي) ومعجزته..

وهذا مجانس لما تعتقده الشيعة في مصحف

فاطمة، فإنّه مجموعة إنباءات غيبية مستقبلية «ما كان وما يكون إلي يوم القيامة»، وهو تأويل للكتاب المبين الذي يستطرّ فيه كلّ غائبة في السماء والأرض.

«قَالَتْ رَبِّ..»، كانت تخاطبها الملائكة إلّاأنّها خاطبت ربّها مباشرة، والظاهر أنّ الجواب «قَالَ» ليس بواسطة الملائكة، وإن كان قد يستفاد أنّه بواسطة جبرئيل بقرينة الآيات الواردة حول مريم في سورة مريم، حيث تمثّل لها جبرئيل بشراً سوياً، وأخبرها أنّ اللَّه أمره أن يهب لها غلاماً، فقالت له: أنّي يكون لي غلام؟ فأجابها جبرئيل..

ولكن ما ذكر لا يصلح قرينة بعد الالتفات إلي أنّ الحوار مع جبرئيل حوار آخر حصل بعد مدّة من الحوار الأوّل المذكور في سورة آل عمران عندما انتبذت مكاناً قصياً، وقرينة ما ذكرنا إجابة جبرئيل الظاهرة في أنّ اللَّه تعالي قد أجابك من قبل

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 516

عن هذا التساؤل والاستغراب: «قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا» «1»

.وحيث إنّ الخطاب مع مريم لم يكن بواسطة رسول، فهو إمّا من قسم الوحي المباشر، أو من وراء الحجاب بموجب الحصر المذكور في الآية: «وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ» «2»

.والترتيب المذكور في الآية معنوي علاوة علي كونه ترتيباً ذكرياً كما في الروايات، ومن ثمّ كان التكليم من وراء حجاب فضلًا عن الوحي أرفع ممّا كان بواسطة الرسول، ممّا يعبّر عن سموّ مكانة مريم.

وعندما نرجع إلي النماذج التي سبق الحديث عنها لا نلحظ هذا الارتباط المباشر مع اللَّه فيها، وعلي الأقلّ لا صراحة في ذلك، علي العكس من مريم فإنّ الآية صريحة في الخطاب المباشر.

«وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ

وَأُمَّهُ آيَةً..» «3»

، سبق أن ألفتنا إلي دلالة الآية علي شراكة مريم في الإعجاز والحجّية، وهو تقرير لعقيدة النصاري في مريم أنّها من أركان العقيدة ولكن لا بما هي محرّفة من التأليه.

كما أنّ مدلول الآية أعمّ من اصطفائها علي نساء العالمين المدلول لآية أُخري.

بالإضافة إلي أنّ الآية ليست لخصوص أبناء الشريعة المسيحية، وإنّما لكلّ البشر بما في ذلك أبناء الشريعة المحمّدية، بعد أن كانت واحدة من عقائدنا الإيمان بآيات اللَّه، ومن ثمّ كان علينا بعد إخبار القرآن الإيمان بمقام السيدة مريم،

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 517

كما كان من الضروري الإيمان بنبوّة عيسي.

ويظهر أيضاً أنّه ليس بدعاً في شرائع السماء أن تأخذ امرأة هذا المقام وأن يكون الإيمان بها جزءاً من أُصول الدين.

بالإضافة إلي أنّها ضربت مثلًا كما في سورة التحريم. وإلي القاعدة القرآنية أنّ القرآن لا يذكر إلّاما فيه العبرة في حياة المسلمين، والروايات الكثيرة الدالّة علي أنّه يجري في حياة المسلمين ما جري علي الأُمم السابقة حذو القذّة بالقذّة.

من هنا أصبحت الفرصة مواتية للحديث عن الزهراء عليها السلام شيئاً ما، حيث يمكن لنا أن نفهم ما قيل في حقّها أو علي تقدير كونه رواية، من قبيل: «نحن حجج اللَّه وفاطمة حجّة علينا»، و «وأنّها برزخ بين النبوّة والإمامة»، و «أنّها رفع عنها حجاب النبوّة»، وكثير غيرها، ممّا يمكن أن يستشهد له بطوائف أُخري متواترة معنوياً، من قبيل روايات ترتّب خلقة أنوارهم عليهم السلام، ومن قبيل روايات أنّ أحد مصادر علوم الأئمّة مصحف فاطمة عليها السلام، ومن قبيل أنّها أوّل مصاديق القُربي الذين لهم ولاية الفي ء والأنفال، وأنّها الشاهد شهادة لدنية بصدق النبوّة في آية المباهلة لمشاهدتها عياناً حقيقة النبوّة … وغير ذلك من الآيات والروايات

مفادها أنّ الزهراء وإن لم تكن نبيّاً وإماماً إلّاأنّها حجّة وواسطة علمية للأئمّة عليهم السلام من ذريتها، أي أنّها مصدر من مصادر علومهم.

بالإضافة إلي أنّ إدانتها موقف السقيفة لا يقلّ دلالة في الحجّية عن قول الرسول صلي الله عليه و آله في يوم الغدير، ويشهد لذلك قبول السنّة ذلك كبروياً، ومن ثمّ ركّزوا إنكارهم للصغري أي وقوع الإدانة منها للسقيفة.

فهي كمريم في أنها شريكة النبيّ صلي الله عليه و آله في الآيتية علي مذهب الحقّ والإمامية، حيث لم يكن بعد النبيّ صلي الله عليه و آله مصدر حجّة يرجع إليه بعد جحودهم لدلالة الكتاب علي الإمامة وجحودهم حجّة عليّ عليه السلام، لم يكن إلّاالزهراء، ومن ثمّ يفهم ما ورد

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 518

في وصية النبيّ صلي الله عليه و آله: «يا عليّ انفذ لما أمرتك به فاطمة، فقد أمرتها بأشياء أمر بها جبرئيل عليه السلام» «1»

، وكذا يفهم من احتجاج الأمير بالزهراء.

وآية التطهير تدلّ علي الاصطفاء والحجّية للزهراء بإرادة إلهية مشتركة في الخمسة أصحاب الكساء.

وسورة الدهر تثبت مقاماً أرفع من مقام الأبرار لأهل البيت عليهم السلام، وبضميمة سورة المطفّفين فإنّهم المقرّبون الذين يشهدون كتاب الأبرار.

كلّ هذا وأمثاله من الآيات والروايات «2» يملي الاعتقاد بمقام الصدّيقة الزهراء.

فإنّها وجود تنزيلي للنبيّ صلي الله عليه و آله، فهي لها الحجّية علي المسلمين في إثبات الإمامة، والبعد التقديسي لها من اللَّه ورسوله معلول مقامها السامي.

«فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا..»، جبرئيل الذي عبّر عنه في آية أُخري بالروح الأمين، وليُلتفت إلي أنّه لم يصرّح في آيات آل عمران بنوع الملائكة الذين حدّثوها، بينما صرّح به في آيات سورة مريم، ممّا يكشف عن أن التكليم بواسطة الرسول ذو درجات ومراتب..

وفي

الروايات أنّ التمثّل الذي حصل لمريم أحد أنماط نزول الوحي عليه صلي الله عليه و آله، ونمط آخر أن يسمع من دون رؤية، وثالثة أن يراه ومن معه..

«فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا..»، خاصّية الوارد الرحماني- الهاتف والمكاشفة- التي بها يختلف عن الأنواع الأُخري كالشيطاني- أنّه ذو هيبة وسكينة ووقار ويدعو إلي الخير بأتمّ أشكاله..

«قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلَامًا..»، في الوقت الذي كان الوارد

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 519

رحمانياً، إلّاأنّ مضمون الرسالة كان شديداً غايته علي مريم، وتفرّ منه لارتباطه بعرضها وناموسها، ومن ثمّ اعترضت مرّة أُخري حين قالت:

«أَنَّي يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا»، ويلحظ في المحادثة السابقة في سورة آل عمران أنّه لم تعتر مريم حالة الاستيحاش كما ظهر هنا، وربما لأنّها كانت تسمعهم هناك من دون أن تراهم.

«قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ»، تذكير مريم بما دار من حوار وحياني سابق.

قد يقال: كيف ينسجم هذا الاعتراض من مريم مع ما لها من مقام سامٍ، ثمّ هل نست الوحي السابق كي تعيد الاعتراض ثانية؟

والجواب: لم تنس مريم، ولكن صعوبة الموقف حيث إنّ القضية مرتبطة بالعرض «وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا»، وبه يفسّر قولها: «يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا».

وفي الروايات: أنّ الأنبياء والرسل يتحمّلون البلاء إلّاما يرتبط بالعرض.

«وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا»، وفي آل عمران: «إِذَا قَضَي أَمْرًا»، الظاهر في التعليق، ومن ثمّ يصلح قرينة إضافية علي أنّ ما جري في السورتين حواران اثنان وحيانيان.

«فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا»، لها دور رعاية وكفالة لصاحب الشريعة وباختيارها، وهو يوافق ما يظهر من ثنايا زيارة فاطمة بنت أسد من أنّ رعايتها للرسول صلي الله عليه و آله كسبها مقام صفة بأنّها صدّيقة.. فإنّ لها إسهاماً في

التمهيد لظهور النبيّ والمعجز.

ودور مريم وإن كان يحتوي علي مخاطر لارتباطه بالعرض فهو سنّة قرآنية للجهاد بالعرض، إلّاأنّه كان لكشف دجل وزيف علماء اليهود المقيمين علي تحريف الديانة، ولم يتغلّب علي فضحهم النبيّ زكريا ولا يحيي، وهو نظير ما

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 520

ورد في حرم وعيالات سيد الشهداء عليه السلام: «شاء اللَّه أن يراهنّ سبايا».

ونظير تصدّي السيدة الزهراء حتّي عصرت بين الحائط والباب- لكشف الزيف والدجل المتلوّن بالدين والديانة، ونظير نقل إبراهيم هاجر إلي البرية تمهيداً لظهور حكمة اللَّه ومعجزته.

«فَنَادَاهَا..»، استمرار التواصل الغيبي مع مريم ورعايتها وتسديدها.

ووجود أوامر كُلّفت بها مريم مباشرة من دون وساطة نبيّ، مع خطورة بعض هذه الأوامر كارتباطها بصرح الشريعة المسيحية وأصل نبوّة عيسي ونسخ الشريعة الموسوية، بحيث لو أخلت مريم عصياناً لما تحقّقت المعجزة.

«مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ..»، عرّضوا بها بأبشع تهمة، وقد كانت هذه الظاهرة المثيرة سبباً في الانشداد إلي المعجز والالتفات إليه وكشف قناع الزيف عن علماء اليهود، كما حصل ذلك من السيدة الزهراء حيث عرّت نفاق السقيفة علي المكشوف والسيدة زينب حيث كانت سبباً في الانتباه إلي افتضاح مسار السقيفة وأنّه هو مسار الأحزاب وبني أُمية.

«فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ»، نقلتهم من التركيز علي شي ء دني ء للغاية إلي خطير للغاية.

وبهذا ينتهي الحديث عن آيات مريم في سورة مريم.

وهناك ما رود في سورة التحريم، حيث أُشير فيها إلي أنّ مريم مثل يضربه تعالي، والمثل ليس لخصوص قوم دون قوم وإنّما لسائر البشرية ولهذه الأُمّة الإسلامية.

كما أشير إلي أنّها صدّيقة: «وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ»، فقابل بين الكلمات والكتب، وأنّها «كَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ»، وتشريفها ب: «فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا..»..

والخلاصة: إنّه بالتدبّر في مجمل الآيات الواردة في مريم، ينبثق هذا السؤال،

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص:

521

وهو: كيف ارتبطت بالتكليم الإلهي، وكيف وثقت أنّه من عند اللَّه مع أنّها ليست نبيّاً ولا وصيّ نبيّ، كما لم يتمّ ذلك بتوسّط نبي زمانها، بل تمّ ذلك من دون وساطة رسول أصلًا، وكيف صدّقت بنبوّة نبيّ آت وبشريعته المقبلة، وكيف قامت ببدايات أعباء الرسالة قبل عيسي حتّي جعلها القرآن في درجة عيسي، كما يظهر من قوله تعالي: «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ»، و «يَا عِيسَي ابْنَ مَرْيَمَ أأنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ»، و «كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ»، و «كَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَي مَرْيَمَ..» «1»

، الدالّة جميعاً علي أنّ مريم كانت في مصاف الرسالة ومن أصول الدين، خاصّة مع الالتفات إلي أنّ المخاطب به مثل زكريا- علي فرض حياته- ويحيي وأنبياء زمانها؟ لا جواب علي هذا السؤال سوي أنّها معصومة مصطفاة، وأنّ لها مقاماً لا يقلّ عن مقام النبوّة.

ومع كلّ هذا، لا عجب أن تكون فاطمة عليها السلام (شافعة للأنبياء)، كما في الرواية المنقولة، كيف لا وهي من أهل آية التطهير الذين شهد القرآن أنّهم يمسّون الكتاب المكنون كلّه، ولديهم العلم بالكتاب المبين العلويّ كلّه، بينما لم ينعت القرآن الأنبياء أولي العزم فضلًا عن غيرهم بأنّهم يعلمون الكتاب كلّه، بل قال في حقّ موسي عليه السلام مثلًا: «وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ» «2»

، فما اوحي لموسي هو (من كلّ شي ء)، وفي حقّ عيسي عليه السلام: «قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ» «3»

، فكان ما جاء به بعض العلم، بينما وصف القرآن أنّه مهيمن علي ما بين يديه من الكتب التي بعث بها الأنبياء السابقين، وأنّه تبياناً لكلّ شي ء.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 522

أو: «علي معرفتها دارت القرون الأولي»، بل

يمكن أن نسجّل جملة امتيازات قرآنية للسيدة الزهراء علي مريم عليهما السلام.

الامتياز الأوّل: افتراق في نوعية التطهير بين فاطمة الزهراء عليها السلام وبين مريم، حيث إنّ الذي ورد في مريم التعبير بصيغة الفعل الماضي، وهو دالّ علي وقوع التطهير فيما سبق وإلي حدّ درجة من العصمة، بينما الذي ورد في فاطمة عليها السلام هو إذهاب الرجس عنها، أي توقيتها عن أن يقترب إليها وإلي أصحاب الكساء الرجس، وعبّر عن التطهير بالفعل المضارع الدالّ علي الاستمرار وأكّد بالفعل المطلق (تطهيراً)، مضافاً إلي أنّ هذا التطهير الخاصّ المستمرّ هو من نمط خاصّ بسيد الأنبياء وأهل بيته أصحاب الكساء، فأين ذاك من ذا؟

الامتياز الثاني: إنّ لفاطمة علم الكتاب دون مريم عليها السلام؛ لأنّ فاطمة عليها السلام من المطهّرين في أُمّة النبيّ الخاتم صلي الله عليه و آله، وقد وصف المطهّرون من هذه الأُمّة بقوله تعالي: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ» «1»

، وهو وصف للقرآن، ثمّ أردف ب:

«لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» «2»

، فشهود حقيقة القرآن والكتاب كلّه بتلك الدرجة من الكرامة في كنانة الكتاب وهو ذو المجد القرآن المجيد في حفظ اللوح المحفوظ، ولفاطمة عليها السلام حيث إنّها من المطهّرين في آية التطهير علم الكتاب الموصوف في القرآن بأوصاف متعدّدة: «وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «3»

، و «يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» «4»

، وغيرها من الأوصاف.

وهذا العلم شهودي لدني، بينما لم يكن للمطهّرين في الشرائع السابقة حتّي الأنبياء هذا المقام؛ إذ إنّهم لم يشهدوا إلّاما تنزّل عليهم، بينما مريم سلام اللَّه عليها

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 523

وصفت بأنّها صدّقت بالكتب وهو غيب بالنسبة إليها، وبهذه الآيات يتبين أحد دلالات القرآن بأفضلية خاتم الأنبياء وأهل

بيته علي سائر الأنبياء.

الامتياز الثالث: وهو وليد للامتياز السابق وهو شهادة الأعمال لارتباطه بالكتاب المكنون، وقد حفل ملف آيات الإشهاد في القرآن الكريم علي جميع الناس من الأوّلين والآخرين أنّ هؤلاء الأشهاد من هذه الأُمّة وأنّ سيد الأنبياء هو الشاهد علي الأشهاد وأنّ هؤلاء الأشهاد هم من ذرّية إبراهيم وإسماعيل كما أشارت إليه آخر سورة الحج، ودعاء إسماعيل وإبراهيم في سورة البقرة، وكذا في سورة الدهر حيث بينت أنّ عباد اللَّه الذين يطعمون الطعام للمسكين واليتيم والأسير هم الذين يسقون الأبرار من عين الكافور، فلهم الإشراف علي الأبرار وأعمالهم كما في سورة المطفّفين أيضاً، وهذا المقام لم تُنعت به مريم عليها السلام في القرآن الكريم.

الامتياز الرابع: آية المباهلة.. لا بتقريبها السطحي وهو أنّه صلي الله عليه و آله لم يباهل إلّا بأعزّ ما لديه، وإنّما بما يستبطنه هذا التقريب من معني دقيق وهو: أنّ المباهلة نوع من الدعاء والملاعنة والقسم والحلف لإثبات الحقّ وتوثيقه، فالآية تدلّ علي أنّ الدين في بعده الغيبي مرتبط بهؤلاء الخمسة، بعد الالتفات إلي أنّ الذي كان يستهدفه الرهبان من هذه العملية إطفاء برهان النبيّ صلي الله عليه و آله الذي يمثّل رمز الدعوة وحربتها، فضمّ النبيّ تلك الصفوة معه في هذه العملية للتدليل علي رمزيتهم وأنّهم أصحاب الدعوة أيضاً وشركاؤه، فمن قبله فبها، ومن ثمّ قال تعالي:

«فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَي الْكَاذِبِينَ» «1»

، في مقابل الصادقين، فكان التعبير بالجمع لا بالمفرد (علي من كان كاذباً)، فهي شهادة بالشركة علي أنّ نبوّته خاتمة وهي دين

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 524

الإسلام، ونبوّته خاتمة النبوّات وأنّ المسيح عبداللَّه ورسوله، خاصّة مع وجود قرابة آخرين له ولفيف من الصحابة وبعضهم يُزْعَم له شأن في الإسلام، إلّا

أنّه صلي الله عليه و آله لم يشركهم في العملية.

أضف إلي ذلك أنّ تعيين هؤلاء كان من اللَّه سبحانه وتعالي وليس من النبيّ، ممّا يؤكّد أنّ القضية ليست بحكم المعزّة والقرابة.

ولو أبيت عن قبول دلالة القصّة علي فكرة كونهم أصحاب الدعوي شراكة بنحو الطولية والتبعية، وأنّها لا تعني إلّاالتوثيق وقد حصل بهؤلاء، فنقول: إنّ التوثيق عادة يكون بالثقل، وإنّ هؤلاء عليهم السلام أثقل المسلمين، ومن ثمّ تمّ اختيار اللَّه لهم للوقوف إلي جانب النبيّ صلي الله عليه و آله في هذه العملية، فهم وثيقة للدين كما هو صلي الله عليه و آله، وعندما نستذكر زيارة الرضا عليه السلام نلحظ فيها أنّ كلّ إمام في عصره آية حقّانية للنبيّ ومعجزة صدقه.

النموذج القرآني السادس: قصّة أُمّ موسي … ص: 524

سورة القصص من آية 1 إلي 13.

في المقدّمة نشير إلي مدلول آية «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ..»، فإنّ الواضح منها الاستمرار وبيان السنّة الإلهية وقاعدة القضاء والقدر، وإلّا لو كانت خاصّة بالأُمم السابقة لجاء التعبير (وأردنا) بصيغة الماضي لا بصيغة المضارع الدالّ علي الاستمرار.

«وَأَوْحَيْنَا إِلَي أُمِّ مُوسَي»:

أ- يلحظ الشبه الكبير بين خفاء ولادة موسي وخفاء شخصه وظفره، وبين خفاء ولادة صاحب الزمان (عج) وخفاء شخصه وظفره.

ب- لم ينصّ في الآية علي أنّ الوحي كان بتوسّط نبيّ أو رسول أو وصيّ، بل

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 525

في الروايات أنّها نوديت وأنّه مباشرة، في الوقت ذاته لا دلالة في الآية علي أنّه من أيّ قسم من الأقسام الثلاثة للوحي.

«أَنْ أَرْضِعِيهِ..»، سلسلة من الأوامر في كيفية التعاطي مع الوليد الجديد بشكل يحفظه مع إخبار الغيب المستقبلي: «إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ»..

مثل هذه الأوامر التفصيلية من اللَّه تعالي هي لخواصّ من هو حجّة، مصطفاة من القسم الرابع الذي يتجسّد فيه إعمال

الحقّ تعالي ولايته مباشرة، ومن دون توسيط نبيّ تلك الأُمّة.. ولكن من دون خروج عن الشريعة الظاهرة آنذاك بالشكل الذي بيّناه في قصّة الخضر، ولهذه الأوامر دلالة علي أنّ الوحي في الآية ليس هو الوحي الفطري كما قد يتصوّر أنّه من قبيل «وَأَوْحَي رَبُّكَ إِلَي النَّحْلِ..» «1»

بعد الالتفات إلي أنّ متعلّقات الأوامر المذكورة ليست ممّا تدركه الفطرة، يضاف إلي ذلك الإخبارات بالغيب التي رافقت الأوامر، واطمينان أُمّ موسي بالوحي المذكور دليل مقامها وسموّ مكانتها، وإلّا لتلكّأت لاحتمال أن يكون نفث الجنّ أو مكاشفة وإلقاءات شيطانية. وبتعبير آخر: أنّ الوحي المباشر، وقبولها له لا يعقل إلّامع كون القناة معصومة، وإلّا لم تكن تستوثق منه.

هذه القصّة وسابقاتها تدفع الإنكار علي مقولة الشيعة بأنّ الإمام كيف يرتبط بالوحي بعد وضوح معتقدهم أنّه ليس وحي نبوّة، علماً أنّ القرآن لم يحدّثنا عن حجّية أُمّ موسي بدائرة أوسع من حجّيتها علي نفسها في ما يرتبط بطبيعة التعامل مع الوليد.

«وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ»، فقد آمنت أُمّ موسي برسالته قبل أن يُرسل، كما

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 526

آمن الأنبياء السابقون بنبوّة محمّد صلي الله عليه و آله قبل أن يولد، وكما نصّت الزهراء البتول بإمامة الأئمّة حيث دوّنوا في اللوح الأخضر الذي نزل من السماء.

«إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ»، توضّح عن رابطة الأُمّ بطفلها، وأنّها امتحنت بأصعب شي ء كما امتحنت السيدة مريم بكرامتها وعرضها وعفّتها وهي سيدة العفّة في زمانها.

لولا أن جاء التسديد الإلهي لمثل هؤلاء البشر الذين اختاروا تنفيذ الإرادة ولو علي حساب أعزّ ما لديهم: «لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَي قَلْبِهَا».

النموذج القرآني السابع: قصة لقمان … ص: 526

وهذا النموذج وإن لم يكن نموذج للإمامة ولا للحجّية المصطفاة، إلّاأنّه نموذج علي الهبة اللدنية الإلهية، وهي ليست مقام نبوّة أيضاً. نعم الحجّية في

الحكمة هو في ذاتها ومقالاتها حيث إنّها منطوية علي الدليل والبرهان، وهاهنا نقاط يُلفت إليها:

1- تشير الروايات إلي أنّ لقمان لم يصل إلي مقام الحكمة إلّابعد أن واظب علي جملة من السنن، منها أنّه لم يكن يتكلّم إلّاعند الحاجة.

2- وتشير أيضاً إلي أنّه قبل أن يُمنح هذا المقام خيّر بين النبوّة والحكمة فاختار الحكمة، علي العكس من داود.

3- وتشير أيضاً إلي أنّ سلمان المحمدي أعظم حكمة من لقمان، وفي زيارته والروايات الواردة في شأنه إشارة إلي مقامات خاصّة، من قبيل أنّه (باب علم الوحي) و (أدرك علم الأوّلين والآخرين).. بل في الروايات يستشهد الصادق عليه السلام بكلمات سلمان وهو دليل حكمة سلمان.

4- وفي الروايات: مَن أخلص للَّه أربعين صباحاً جرت ينابيع الحكمة علي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 527

لسانه.

5- يظهر من سورة لقمان وممّا ورد في سلمان أنّ هذا المقام والمنزلة مفتوح لكلّ مَن يجاهد نفسه، ومثل مقامات أُخري كالصدّيقين. وفي رواية في كفاية الأثر للخزّاز وغيره يشرح الصادق عليه السلام هذه المقامات ويذكر الطريق إليها.

6- يظهر أنّه مقام لدني كالنبوّة بحكم التخيير.

«وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ..»، وقد وردت الحكمة في آل إبراهيم وآيات أُخر منها: «مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا» «1»

، ويظهر من الآية أنّها علم إلهي خاصّ يغاير النبوّة والمقامات الأُخر في الجملة، وهذا العلم لدني ويمنح وليس فطرياً؛ بقرينة: «وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ»، فإنّ تعلّم الكتاب ليس فطرياً.

وقد عُرّفت الحكمة بتعريفات متعدّدة أشرنا إليها في كتاب العقل العملي، والحقّ أنّها العلم الذي يتلقّاه العقل العملي فيتمّ الإذعان به والتصديق، فهي ليست صفة عملية بحتة ولا علمية بحتة.

«أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ..»، الظاهر من (أن) أنّها تفسيرية، وبالتالي الظاهر من الآية تفسير الحكمة بالشكر، ممّا يعبّر عن أنّ

رأس الحكمة شكر اللَّه.

وقد أخذ قبال الشكر في القرآن الكفر: «إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا»، كما قابلت الروايات بين الجهل والعقل، ممّا يعني كلّ ذلك أنّ هذه الصفات ليست إدراكية محضة، وإنّما عملية، من ثمّ كان الشغل الشاغل للأنبياء هو العقل العملي الذي هو تحت اختيار الإنسان، وأمّا الإدراك والعلم فالفطري منه موجود من دون اختيار.

ثمّ لا ريب أنّ العلم الذي مُنح للقمان والذين نُعتوا بالحكمة وإن لم يندرج تحت واحد من الأقسام الحجج، إلّاأنّ علم الحكم حجّيته منطوية فيه لانطواء

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 528

البرهان والدليل في أقضيتها.

ويستفاد من هذه نتيجتان مفصليتان بعد الالتفات إلي النقاط التالية:

1- إنّ لقمان ليس نبيّاً باتّفاق الجميع.

2- إنّ المستعرض لحكمة لقمان في القرآن هو اللَّه تعالي، أي لم تُعرض حكمته في القرآن علي لسان نبيّ وإنّما علي لسان الحقّ تعالي.

3- إنّ استعراض الحقّ تعالي لحكمته كاستعراضه لكلام الأنبياء.

4- بل استعراضه يمتاز عن سنن بعض الأنبياء من جهة أنّ شرائعهم منسوخة ولا يفهم أبديتها إلّابالقرينة «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا» «1»

، بينما الظاهر من حكمة لقمان أبديتها، بنكتة كونها كلّيات فوقانية، فهي البنية التحتية للشرائع، أو لأنّها حكمة، أو لأنّها فطرية عقلية مستوسعة، والكلّ واحد تقريباً. نعم، تمتاز سنن الأنبياء عن الحكمة بأنّها تنزل الهداية للتفاصيل ولدائرة أوسع بكثير من الحكمة، بينما الحكمة هي في دائرة الكلّيات.

5- لم يذكر حجّية حكمة لقمان من جهة عرضه علي نبيّ أو من جهة إقرار القرآن لها، وإنّما حجّيتها من جهة تضمّنها للدليل والبرهان.

6- إنّ حجّية الحكمة هي من حجّية العقل، وحجّية العقل تلازم حكم الشرع؛ لأنّه كلّ ما حكم به العقل البديهي أو النظري المبدّه حكم به الشرع، فهو لا يختلف روحاً عن التشريع

الظاهر، وإن كان تشريعاً باطناً كما يسمّي العقل بالرسول الباطن.

من ثمّ وبعد أن عرفنا أنّ طبيعة الحكمة ليست إلّاعلماً خاصّاً أُودع من قبل اللَّه تعالي في فطرة لقمان بنحو البسط، فهي لا تختلف عن العلوم الفطرية التي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 529

يمتلكها البشر جميعاً من هذه الزاوية، إلّافي أنّها أوسع نطاقاً من الآخرين، فحينئذٍ أمكن أن نفهم:

أوّلًا: ما ورد في الروايات أنّ العقل رسول باطن وحجّة باطنة ومنزّل منزلة قناة الوحي، الظاهر في أنّ كلّ إنسان مرتبط بعلم اللَّه تعالي وإرادته في دائرة البديهيات أو النظريات المبدّهة.

وبهذا يكون ردّاً علي الأشاعرة والسلفيين والظاهريين قبلهم أصحاب السفسطة حيث أنكروا العقل أو حجّيته.

حيث عرفت أنّ هذا النمط من العلم موجود ويوجب اليقين والجزم، وأنّه قد استوسع للقمان، وفي الروايات إشارة إلي أنّ مصدراً من مصادر علومهم عليهم السلام هذا النمط من العلم وهو الحكمة، لكن بدائرة تفوق كلّ من أوتي الحكمة.

ثانياً: النقض علي أهل سنّة الخلافة وجماعة السلطان؛ حيث أنكروا وجود مصدر للحجّية والارتباط بالسماء غير النبوّة، مع أنّا لاحظنا وجود قنوات أُخري لها، وجود ضامر في كلّ إنسان وأنّها قد توسّع للبعض لا بتوسّط نبيّ، فالحال في الإمام الذي هو خليفة اللَّه تعالي في أرضه المعلّم علم الأسماء كلّها أوضح.

بل إنّ أهل سنّة الجماعة إذا ارتضوا العقل كالمعتزلة، متجاوزين المسلك الأشعري ولو في مساحة محدودة فلا بدع في سنّة اللَّه في الإمامة بعد أن كان العقل قناة إلي جنب قناة النبوّة، فيمكن للَّه تعالي أن يفتح قناة ثالثة أو يوسّع من قناة العقل والفطرة، وتكون ملزمة وحجّة.

والملفت أنّ القرآن لم يذكر جملة من الأنبياء، أو ذكر جملة أُخري منهم ولم يذكر لهم قولًا، في الوقت الذي تعرّض فيه

لجملة من المؤمنين مع عرض كلماتهم، كمؤمن آل فرعون ومؤمن آل ياسين وزوجة فرعون، بالإضافة إلي النماذج التي سبقت الإشارة إليها بمَن فيهم لقمان.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 530

وليس ذكر مثل هؤلاء إلّاللعبرة، وليس ذكر كلماتهم إلّاللاحتجاج في أنّ الحجّية الذاتية لا تنحصر بالنبوّة، إذ قد تكون من خلال علم فطري تفتّق، أو علم لدني خاصّ مُنح من قبل اللَّه تعالي، إلّاأنّ حجّية النبوّة والإمامة دائرتها أوسع بلا مقايسة مع دائرة حجّية العقل الفطري البديهي.

«أَنِ اشْكُرْ..»، وجوب الشكر في الحكمة العملية يوازي في الحكمة النظرية وجوب وجوده تعالي.

«فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ»، بدليل: «إِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ»، وحميد فيها إشعار إلي أنّه يشكر مَن شكره: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ»، أو يعني جامع الكمالات.

«إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ»، في هذه الآية وعموم الآيات القرآنية يلاحظ الترابط بين البعد النظري والعملي، فالشرك أعظم غلطة وكذباً وجهلًا علي مستوي الإدراك، والظلم العظيم أعظم قبحاً في العقل العملي.

«يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ..»، المداقّة في الحساب- وكما ورد في سورة الزلزلة- ممّا لا يدركه العقل لوحده، كذا باطن الفعل في الملكوت بمقتضي الآية المبين فيها، حيث إنّ إتيان اللَّه به يوم الحساب دليل بقائه وثباته.

«فِي السَّمَوَاتِ»، إمّا كناية عن الإحاطة الإلهية، أو إشارة إلي وجود جزاء لأهل السماء مجهول الكيفية لنا، كما يبدو من آيات وروايات متعدّدة، مثل:

«سُبْحَانَكَ لَاعِلْمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا»، وقول أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة حول الملائكة: «إنّهم يزدادون بعبادتهم لربّهم علماً»، و.. الكاشف عن وجود ظاهرة العمل والجزاء في الملائكة.

«يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاة»، بعد أن فرغ من توحيد اللَّه ومعاده ودخل في استعراض كلّيات الشريعة، وفيه دلالة علي أنّ الصلاة ثابت في كلّ شريعة، حيث كانت

فطرية، وأنّ الأمر بالمعروف فطري، وهو وإن كان في الفقه الاصطلاحي يقابل

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 531

الجهاد والقصاص والديات والقضاء، إلّاأنّه بالمعني الأعمّ شامل لها، بل شامل لكلّ معروف بعد أن كان الإتيان به يستبطن الدعوة لإقامته.

والصبر يكشف عن أنّ الأُمور العملية فيها عناء ولا يتمّ إلّابالصبر.

«وَلَا تُصَعِّرْ»، فعل جارحي ناتج عن الكبر.

«مَرَحًا» الزهو، وهو الترف والفرح للمادّيات المذموم في القرآن.

«إِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ»، إنباء لقمان عن المحبّة الإلهية، والتي علي أساسها أمكنه العلم بالمحبوبات، وعلي أساس ذلك أمكنه النسبة.

ويعرّف أيضاً: أنّ الحكمة ليست علماً صرفاً، وإنّما هي التي تستوجب العمل.

وبه يمكن الردّ علي من يقول إنّ حكم العقل منجّز فقط، حيث ظهر أنّه يلازم حكم الشرع بل يمكن نسبته إليه تعالي.

«إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ»، فيه دلالة علي إلمامه الواسع بالخليقة، وإن كان قد ورد أنّ المراد بذلك صوت بعض أصحاب التابوت في قعر جهنّم.

النموذج القرآني الثامن: قصّة آصف بن برخيا صاحب سليمان: … ص: 531

وتبدأ من آية 35 إلي آية 41 من سورة النحل.

«قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ..»، إنّما كان سليمان حريصاً علي السرعة الخاطفة في إحضار عرش بلقيس لإظهار مقام آصف وأنّه وصيّه والإمام من بعده، كذا جاء في الروايات عنهم عليهم السلام، ويعاضده سياق الآيات.

والإتيان بالوصف «عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ» مشعر بالعلّية، وأنّ الوصف هذا هو الذي أهّله للقيام بهذا العمل.

وآصف ليس نبيّاً بالاتّفاق، فتدلّ الآية علي توفّر غير الأنبياء أيضاً علي علم لدني وهو خاصّ، وصنّف هذا العلم بعلم الكتاب وهو علم مرتبط بالأديان،

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 532

وبالدقّة: علم السنن الإلهية الكونية والشريعة بحسب التكوين.

وقد جاءت أوصاف العلوم اللدنية في الروايات متنوّعة: علم الكتاب، فصل الخطاب، علم الوصايا، علم الأصلاب، علم شهادة الأعمال، علم المنايا والبلايا، علم التأويل، علم تأويل

الأحاديث، منطق الطير، وغيرها..

كما ألفت القرآن إلي علم الكتاب في مواضع متعدّدة:

أ- «وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَي بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا..» «1»

، وقد نزلت الآية في كفّار قريش الذين طالبوا الرسول صلي الله عليه و آله بأن يقوم بتسيير الجبال المحيطة بالبيت الحرام بعيداً، ويقطّع الهضاب في مكّة كي تصير الأرض سهلة زراعية كأرض الشام وتذهب حزونتها، ويحيي لهم موتاهم ممّن مضي، إلّاأن القرآن ذكر أنّ المطلوبات ثلاثة لو أُنجزت بالقرآن لا بالمصحف الشريف المقدّس لما آمنوا، فهذه الآية دالّة علي أنّ هذه الأُمور ممّا يمكن تحقّقها بحقيقة القرآن إلّاأنّه تعالي لم يأذن لنبيّه صلي الله عليه و آله بتحقيقها وإيجادها بتوسّط ما لديه من حقيقة القرآن؛ لأنّ مشركي قريش لا يفون بشرطهم باستجابتهم للإيمان، ممّا يكشف عن أنّ هذه الأُمور تحصل بالقرآن، سوي أنّه لم يحصل لأنّه لا يؤدّي إلي وفائهم وإيمانهم.

ب- «لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَي جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» «2»

، فالخشية ههنا عظيمة، ومن ثمّ جاء: «إِنَّمَا يَخْشَي اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»، ومن الواضح أنّ نفس المصحف الشريف لو وضع علي جبل لا يوجب تصدّعه، فمن الواضح أنّ المراد هو نزول حقيقة القرآن علي الذات الحقيقية الخفية للجبل، حيث يثبت القرآن الكريم للأشياء الجامدة ذاتاً خفية وراء أجسامها، كقوله تعالي:

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 533

«أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ» «1»

، و «وَإِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» «2»

، ممّا يثبت أنّ لذوات الأشياء إدراك وشعور.

ج- وفي آيات أُخري: «آتَانِيَ الْكِتَابَ» «3»

وما أشبه، دالّة علي مؤهّلات النبيّ الظاهرة في أنّ إيتاء الكتاب غير جعل النبوّة، وإنّما هو

مقام غيبي آخر وعلم لدني قد يقترن بالنبوّة.

د- قوله تعالي: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَايَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «4»

، وقوله تعالي: «مَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «5»

، الدالّ علي أنّ كلّ شي ء مستطرّ في الكتاب والكتاب المبين، فالذي لديه علمه يحيط بذلك أو لديه بعضه فيحيط بقدر منه.

والقرآن هو الكتاب كما ورد في الواقعة وهي قوله تعالي: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ» «6»

، وكذا في سورة الدخان وهي قوله تعالي: «حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ..» «7»

، وغيرها من السور الدالّة.

وقد منح شطر من العلم المزبور لآصف بن برخيا.

ونرجع دفّة الكلام إلي أصل القصّة وبدايتها من قوله تعالي: «قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ* قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ* قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَأَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 534

أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ» «1»

.والمفاد الأوّلي لهذه الآية: أنّ جليس سليمان لم يصفه القرآن بأنّه نبيّ ولا مرسل، بل لديه علم من الكتاب، في حين يثبت له القرآن الكريم علم غير كسبي.

ثمّ يستفاد من الآية أُمور:

أوّلًا: إنّ جليس سليمان الذي هو آصف بن برخيا- والذي عليه الفريقان- لم يكن نبيّاً ولا مرسلًا مع ذلك زوّد بعلم لدني غير كسبي، ممّا

يعني أن هذا العلم لا يختصّ بنبيّ ولا رسول، بل تعلّق بغيرهما، ولكونه حجّة من الحجج الإلهية.

ثانياً: إنّ علمه لدني غير كسبي، ودليل ذلك:

1- وصفه القرآن الكريم بأنّه علم من الكتاب توطئة لبيان القدرة علي المجي ء بعرش بلقيس، والوصف دخيل في العلّية، حيث وصف علمه بعلم الكتاب، فالعلّة والسبب لهذا الفعل هو العلم غير الكسبي بل اللدني كما يقال في علم البلاغة والبيان الوصف مشعر بالعلّية.

2- إنّ آصف بن برخيا مؤهّل لهذه المهمّة الإلهية التي تُعدّ إحدي المقامات العالية التي لا ينالها إلّاأهلها، ممّا يعني أنّ آصف بن برخيا في درجة من الطاعة والعبودية يستحقّ عندها الاصطفاء لهذه الحبوة الكريمة.

علي أنّ الكتاب المشار إليه في الآية لم يكن هو الكتاب الخطّي المنقوش، بل هو الكتاب الحقيقي الملكوتي الذي يهيمن علي النشآت الأُخري، لذا ورد لفظ الكتاب في القرآن الكريم في عدّة موارد مشيراً إلي هذه الحقيقة، كما في قوله تعالي: «وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «2»

، وقد أشارت إلي ذلك سورة الواقعة في قوله تعالي: «فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لَايَمَسُّهُ إِلَّا

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 535

الْمُطَهَّرُونَ» «1»

، وفي سورة الرعد وصف لهذا الكتاب: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَي بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا..» «2»

، وكما في سورة الحشر قوله تعالي: «لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَي جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» «3»

، فالإنزال المشار إليه هو إنزال ملكوتي حقيقي، وليس هذا المصحف المنقوش بل بوجوده اللدني الملكوتي. ومن آثار هذا العلم اللدني إمكانية حامله بإتيان عرش بلقيس قبل أن يرتدّ الطرف، وهي قدرة خارقة عجيبة حاز عليها آصف بن برخيا بتحمّله هذا العلم

الإلهي الذي هو بعض ذلك العلم، لتنكير كلمة (علم) الواردة في الآية ولفظة (من) ممّا يشير إلي أنّ آصف حُبي ببعضه فقط.

كما يجب التنويه إلي أنّ وجود علم الكتاب عند غير الأنبياء دليل تشريك في المسؤولية والحجّية بينهم وبين مَن عنده علم الكتاب وهم الحجج.

وبانتظام ومطابقة بين علم الكتاب في سورة الرعد وعلم الكتاب في سورة الواقعة يُتنبه إلي حقائق:

الأُولي: إنّ سوراً عديدة تفسّر الكتاب المبين بالقرآن، كما هو عليه سورة الدخان في قوله تعالي: «حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ» «4»

، والتنزيل إشارة إلي أنّ المنزّل هو ذلك القرآن الذي وصفته الآية بالكتاب المبين، وكما في سورة الواقعة عند قوله تعالي: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ» «5»

، وقوله تعالي في سورة النمل: «وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» «6»

، ممّا يعني أنّ الكتاب المشار هو القرآن الكريم.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 536

الثانية: إنّ الكتاب تارةً يُطلق علي جنس الكتاب، وتارةً يُطلق علي الكتاب العهدي للّام العهدية، والمقصود من الكتاب هنا هو القرآن الكريم لورود اللام العهدية في تعريفه، وأنّ للقرآن مواقع ومنازل كونية ملكوتية، وأنّ المصحف الشريف هو أنزل تلك المواقع والمنازل، ومن ثمّ وصف في الآيات بأنّه تنزيل الكتاب، أي الدرجة والموقع النازل من الكتاب لا المواقع المكنونة الغيبية القدسية ذات المجد والكرامة.

الثالثة: إنّ القرآن الكريم وصفه اللَّه تعالي بأنّه مهيمن علي الكتاب، وهذه الصفة تعني الإحاطة، فما نزل علي الأنبياء من الحقائق العلمية والتي أودعت في كتب مثل التوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وموسي فهي مودعة مثلها في القرآن الكريم.

والخلاصة:

إنّ ما كان عند آصف بن برخيا هو بعض علم الكتاب أي بعض من القرآن؛

إذ الكتاب هو القرآن الشامل لكلّ الكتب التي أسلفنا.

وتبين عند ذلك أنّ الكتاب له وحدة واحدة وهو القرآن، أي: أنّ المعارف السماوية وحقائقها كلّها أودعت في القرآن الكريم، وإذا كان آصف بن برخيا قد علِم بعض حقائق القرآن فكيف بمَن أُحيط بعلمه كلّه ظاهراً وباطناً وهو رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وأوصيائه الحجج المعصومين من أهل بيته الطاهرين (صلوات اللَّه عليهم أجمعين)؟

النموذج القرآني التاسع: قصّة عزير … ص: 536

قوله تعالي: «أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَي قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَي عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّي يُحْيِي هَذِهِ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 537

اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ» «1»

، علي اختلاف الروايات عند الفريقين فإنّ الذي مرّ علي قرية هل هو إرميا النبيّ أم هو عزير الذي هو أحد الحجج الإلهية؟

وعلي كلا الوجهين فإنّ الذي يهمّنا هو أنّ الكلام الإلهي المقصود في الآية كونه إسناداً مباشراً إلي اللَّه تعالي فهذا الوحي والخطاب الإلهي خوطب به الذي مرّ علي القرية.

وعلي فرض أنّ المقصود هو عزير- وهو المشهور بين الفريقين- فإنّ عزير لم يكن نبيّاً، بل هو حجّة من حجج اللَّه تعالي، ومع ذلك فقد حصل علي مقام التكليم مع اللَّه تعالي مباشرة، ممّا يعني أنّ التكليم الإلهي ليس من مختصّات مقام النبوّة فقط، بل يشترك معها مقام الحجج الإلهية كذلك.

ولسائل أن يقول: إذا كان نبيّ اللَّه إبراهيم قد سأل اللَّه تعالي بنفسه ما سأل عزير حين قال حكاية عن إبراهيم: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَي قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَي وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» «2»

، فكان ذكره في مقام مدح وثناء، بينما كان تساؤل عزير في

مقام ذمّ واستياء كما يفيد ظاهر الآيتين وسياقهما.

وقد ذهب المفسّرون أنّ إبراهيم كان في تساؤله طلباً واستفهاماً وغايته الاطمئنان القلبي، في حين كان تساؤل عزير استنكاراً لقدرة اللَّه تعالي، وأنّ إبراهيم إستعمل أدباً خاصّاً في طرحه لهذا التساؤل الاستفهامي، لذا فإنّ الإحياء الذي وقع لإبراهيم كان فيه كرامة في حين كان الإحياء لدي عزير واقعاً في نفسه حيث كان محلّاً لقدرة اللَّه تعالي.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 538

إضاءة حول الرجعة: … ص: 538

وفي قوله تعالي: «كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ».

فالمحاورة التي جرت بين اللَّه تعالي وبين عزير كانت علي مستوي الروح وليس علي مستوي البدن؛ لأنّ بدن عزير لم يتمّ إنشاء إعادته أثناء المحاورة، فلا سمع بدني عندئذٍ ولا لسان ولا جوارح أُخري تُقدِره علي ذلك.

كما أنّ طبيعة النفس الإنسانية إذا وجدت في نشأة بعد نشأة أُخري فإنّها تكون في حالة غيبوبة، ولدي النفس إقبال علي النشأة الجديدة وذهول عن النشأة السابقة كما في قوله تعالي: «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الُمجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا* يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا* نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا» «1»

، وهذا ممّا يؤيّد ما تذهب إليه الإمامية في الرجعة، وذلك أنّه لو أُشكل بأنّ القول بالرجعة ينافي كون الدنيا دار امتحان وذلك بسبب إبطال الامتحان فيما سبق من النشآت، ممّا يعني أنّ أهل جهنّم عندما يرجعون إلي دار الدنيا قبل يوم القيامة بسبب ما ذاقوه من عذاب البرزخ سوف يتوبون وأنّ أهل الحقّ سوف يزدادون في أعمال الخير وهذا خلاف حكمة الامتحان في دار الدنيا.

والجواب: إنّ النفس عندما تقبل علي نشأة أُخري جديدة فإنّها تنسي النشأة السابقة وتعيش في نشأة جديدة.

ونفس الجواب يُجاب به

لمن أشكل من فلاسفة المسلمين من الخاصّة حيث يستشكلون في عالم الذرّ من أنّ فرض وجود روح والمخاطبة في عالم لو كان كذلك لما نُسي عالم الذرّ في عالم النشأة اللاحقة، وكما أشكل ملّا صدرا إضافة إلي ما سبق- بقوله: ولكنّا معطّلين الوجود في عالم الذرّ أي لو كانت النفس غير

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 539

حادثة بحدوث البدن، بأن كانت أسبق منه في الخلق، واستدلّ بأنّا لا نتذكّر أنّا كنّا في حركة وتأثير وفعّالية، ومن ثمّ اختار وأسّس نظريته أنّ النفس جسمانية الحدوث وروحانية البقاء، ورفض كون النفس روحانية الحدوث وروحانية البقاء. والجواب عن كلّ ذلك هو أنّ انبعاث النفس إلي نشأة جديدة وانشدادها إليها ينسيها مشاهد النشأة السابقة والنشآت السابقات، كما يقصّه لنا القرآن الكريم حول نسيان النفوس نشأة البرزخ.

علماً أنّ السؤال الفطري في عالم الذرّ لا ينافي النسيان في النشأة اللاحقة.

وقوله تعالي: «فَانْظُرْ إِلَي طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَي حِمَارِكَ».

إنّ بدن عزير في الظاهر قد بُلي، أمّا الطعام والشراب لم يبلَ، وهو نوع إعجاز، والقدرة الإعجازية هنا تعلّقت بالطعام والشراب الذي لابدّ من فساده ولم يفسد وإحياء ما قد بُلي وهو عزير.

وهذا شاهد قرآني علي طول عمر الإمام الحجّة (عج)؛ فإذا أمكن إبقاء قابلية الطعام والشراب علي البقاء ففي قدرته تعالي علي إبقاء الإمام الحجّة (عج) أولي.

وقوله تعالي: «وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ»، أي: معجزة للناس، ولم يكن عزير نبيّاً ولا رسولًا.

إنّ كون الشي ء آية لعموم النوع والجنس مثل خلق الإنسان، فلا تكون الحجّية لكلّ واحد من الناس بخصوصه في خلقته، في حين لو كان الإعجاز لشخص معين من حيث هو فعل اللَّه تعالي لشخص من باب التكريم والرحمة، فإنّ هذه الكرامة هي قدرة اللَّه

تعالي تظهر في الشخص الذي هو في مقام الحجّة الإلهية.

علي أنّ الذي يُحبي بالمعجزة الإلهية لا يمكن أن يكون غير حجّة؛ لأنّ ذلك سيكون تغريراً بالمكلّفين، نعم، فيما إذا كانت المعجزة لا من باب التكريم بل من باب النقمة، فإنّ الذي تقع عليه المعجزة عندئذٍ ليس بحجّة، كما حدث لفرعون

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 540

وأمثاله من الظالمين.

كما أنّ أغلب موارد غير الحجّة لا يُعبّر عنها بالجعل، بل يُعبّر عنها بغير ذلك، نحو: (ليكون آية)، «فَالْيَوْمَ نُنَجّيِكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً» «1»

، في حين موارد الحجّية أغلبها عبّر عنها القرآن الكريم «بالجعل»، كما في قوله تعالي:

«وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً» «2»

، وقوله تعالي: «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً» «3»

، وهذا ما يؤيّد حجّية عزير، فقوله تعالي: «وَانْظُرْ إِلَي حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ» «4»

، والآية هنا آية تكوينية.

قوله تعالي: «قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَي كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ».

وهذا أحد مؤيّدات حجّية عزير؛ لأنّ العلم هنا إشارة إلي العلم اللدني لا الاكتسابي، ومن القرائن المؤيّدة أنّ عزير له مقام الحجّة، ذكر في دعاء أُمّ داود في النصف من رجب، حيث ورد ذكره في سياق الحجج كلقمان وخالد بن حنظلة وغيرهما.

قوله تعالي: «قَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ»، إنّ اليهود ادّعوا أنّ العزير ابن اللَّه لا علي سبيل البنوّة، بل تشريفاً، كقوله تعالي: «قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا» «5»

، أي: اتّخاذ تشريفي لا حقيقي علي سبيل البنوّة. لذا فإنّ النبيّ صلي الله عليه و آله حين حاجج اليهود- كما في رواية الطبرسي في الاحتجاج- وسألهم عن سبب اتّخاذهم هذه الدعوي، وكون عزير هو ابن اللَّه، فقالوا: لأنّه أحيي التوراة فأقرّهم النبيّ صلي الله عليه و آله علي أنّه أحيي التوراة ولكن لم يؤيّدهم

علي دعواهم الفاسدة أنّه ابن اللَّه.

وهذه بنفسها قرينة علي أنّ الإحياء للتوراة لا يكون إلّامن قبل وصي.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 541

وفي رواية ابن عبّاس أنّ اللَّه تعالي ألقي التوراة في قلب عزير، فهو إلهام لدني، ولكنّ بعض المفسّرين قالوا: إنّ الإحياء هو جمع أوراق التوراة وليس هو إلقائها، إلّا أنّ الروايات متّجهة إلي الرأي الأوّل وهو إلقاء التوراة من قبل عزير.

وفي رواياتنا أنّ أمير المؤمنين عليه السلام استنسخ التوراة وتوارثها أهل البيت عليهم السلام، وهو ما يسمّي بالجفر الذي يشمل التوراة وصحف موسي وغيرها، ففيها ما هو كائن.

والقرآن الكريم لم يُخطّئ اليهود في تعظيم عزير ومقام الحجّية لديه، بل يخطّئهم في دعواهم أنّ العزير ولد اللَّه، سبحانه عما يصفون.

كما يُلاحظ في قصّة عزير نكتة هامّة وهي أنّ إحياؤه للتوراة وحفظه للرسالة دليل علي أنّ عزير نفسه مؤهّل أن يُفاض عليه ما أفاض اللَّه تعالي علي النبيّ موسي عليه السلام، وهذا دليل علي كونه حجّة من حجج اللَّه تعالي.

النموذج القرآني العاشر: الحواريون … ص: 541

قوله تعالي: «وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَي الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ» «1»

، وظاهر الآية هو وحي وإحياء اللَّه لهم مباشرة لا بتوسّط النبيّ عيسي، كما ورد في الرواية عن أبي جعفر الباقر عليه السلام في تفسير العياشي أنّهم:

أُلهموا، وقولهم استجابة لهذا الوحي تخاطباً مع اللَّه عزّوجلّ، أي اشهد يا اللَّه.

وقد ورد عن الإمام الرضا عليه السلام: «أنّ عدّتهم اثنا عشر، وأنّهم سمّيوا بالحواريين لأنّهم مخلصين في أنفسهم ومخلّصين لغيرهم من أوساخ الذنوب» «2»

، وكذلك عن

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 542

الإمام الرضا عليه السلام: «إنّ عدّتهم اثنا عشر وكان أفضلهم الوقا» «1»

، وفي احتجاج الرضا عليه السلام علي جاثليق النصاري في مجلس المأمون، قال عليه

السلام: «أنا مقرّ بنبوّة عيسي وكتابه وما بشّر به أُمّته وأقرّت به الحواريون» «2»

. أي بشارته لأُمّته بسيد الأنبياء وهو الذي أقرّت به الحواريون، فيظهر من كلامه عليه السلام أنّ الحواريين هم من الحجج المنصوبين، حيث احتجّ بإقرارهم. وفي رواية عن أبي جعفر عليه السلام: «ثمّ إنّ اللَّه أرسل عيسي بن مريم إلي بني إسرائيل خاصّة، فكانت نبوّته في بيت المقدس، وكان من بعده الحواريون اثني عشر، فلم يزل الإيمان يستسر في بقية أهله منذ رفع اللَّه عيسي عليه السلام، وأرسل اللَّه تعالي محمّداً صلي الله عليه و آله إلي الجنّ والإنس عامّة، وكان خاتم الأنبياء وكان من بعده الاثنا عشر الأوصياء عليهم السلام» «3».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 543

القائمة الثانيةمن النماذج القرآنية … ص: 543
اشارة

وهو ما حبي اللَّه تعالي به من الأنبياء والرسل كما في القرآن الكريم من مقامات ومناصب إلهية، لا ترتبط وحيثية النبوّة، إلّاأنّ أهل سنّة الجماعة فسّروا هذه المقامات بأنّها من باب الإعجاز، إلّاأنّ القرآن الكريم وصفها بأنّها مناصب إلهية وليس هي لغرض الإعجاز فقط.

وجواب آخر لهذا التوهّم وهو أنّ المعجزة يكفي فيها وقوعها بنحو دفعي فقط فيما كانت من الأفعال، أما استمرارها فلا حاجة إليه، فالمعجزة كالبارقة الغيبية لإثبات الإعجاز، والحال أنّ هذه المقامات الموهوبة لهم مستمرّة طيلة أعمارهم الشريفة.

وجواب ثالث: إنّ هذه القدرات والمناصب لا ترتبط بحيثيات النبوّة، والشاهد علي ذلك أنّ عصمة الأنبياء لو كانت في دائرة التبليغ فقط دون مقام حكومتهم لاستلزم التدافع عقلًا بين عدم العصمة في حكومتهم والقول بأنّ نصبهم من اللَّه تعالي؛ وذلك لأنّ أمر اللَّه تعالي بطاعتهم المطلقة يتناقض مع فرض إمكان خطئهم.

فيتبين من ذلك أنّ منصب الحاكمية والحكومة والإمامة الثابت لسيد الرسل ولمن قبله في جملة من الرسل

هو مقام لهم لدني زائد علي مقام النبوّة، وهذا ممّا يدلّل علي أنّ المقامات الإلهية لا تختصّ بالنبوّة والرسالة فقط، بل تشمل الحاكمية وهي الإمامة وغيرها، كما في مقام الحجّية في دائرة محدودة كما في

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 544

مريم وأُمّ موسي، ومن ثمّ فإنّ أهل سنّة الجماعة يذعنون للنبيّ صلي الله عليه و آله بالعصمة في حكومته ولكن يتحاشون من التصريح بذلك؛ خوفاً من لوازمها، ويشهد لإذعانهم الخفي بذلك أنّهم يقرّون بلزوم التوفّر علي الفضائل في من يخلف النبيّ صلي الله عليه و آله ولابدّ أن يكون صاحب فضائل يفوق غيره.

وهذه الفضائل والمناقب التي يذعنون بلزومها فيمن يخلف النبيّ إذا أمعن النظر في معانيها وحقيقتها يتّضح أنّها هي حقيقة العصمة، وأنّهم اضطرّوا إلي دعوي أنّ الخلفاء الثلاثة هم أفضل الخلق لأجل ذلك، فهذا إقرار خفي منهم بأنّ المفضول لا يقدّم علي الفاضل، وبذلك أذعنوا إلي حقيقة مهمّة وهي أنّ من يتولّي منصب الإمامة والخلافة لابدّ من عصمته، إلّاأنّهم يحاولون الاجتناب عن التصريح بذلك.

إذن فهناك حبوات ملكوتية تُعطي للأنبياء ليس علي سبيل الإعجاز فقط، بل هي عناوين ومناصب إلهية أُخري غير النبوّة.

ومعني ذلك أنّ هذه المقامات لدي الأنبياء لا بما هم أنبياء، بل بما هم أولياء، فهذه الجهات مجعولة من قبل اللَّه تعالي بما هم حجج أولياء؛ لغرض الهداية الإيصالية، فالقرآن نبّه علي هذه المقامات بما هم حكام أولياء لا بما هم رسل أنبياء.

النموذج الأول لهذه القائمة: آدم عليه السلام … ص: 544

قوله تعالي: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 545

تَعْلَمُونَ» «1»

، والآية مطلقة في الجعل الكلّي للخلافة والإمامة، والخلافة

هي ولاية مطلقة، والنيابة هي ولاية متوسّطة، والوكالة هي ولاية ضعيفة.

والقرآن الكريم لا يستعرض بصراحة نبوّة آدم بل صرّح بخلافته، لذا أنكر بعض المنحرفين نبوّة آدم لعدم التصريح بذلك في الآيات.

قوله تعالي: «أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ»، فاعتراضهم من جهة ولاية آدم وليس في تبليغه كنبيّ.

قوله تعالي: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَي الْمَلَائِكَةِ»، وتعليم الأسماء ليس فيه بعثٌ لآدم في مقام النبوّة، فهي ليست شريعة ولا منهاجاً، بل حقائق مقامات تكوينية مرتبطة بأصل الديانة والولاية الإلهية.

والآية بينت أنّ ولاية آدم ليست مختصّة في الأرض، بل هي شاملة علي الملائكة والإنس والجنّ، فالكلّ تُفترض عليه طاعة آدم.

وفي قوله تعالي: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَي آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَي الْعَالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» «2»

، والاصطفاء لا يختصّ بالنبوّة، بل يعمّ سائر المقامات والفضائل والكمالات اللدنية الوهبية، هذا الاصطفاء كالجنس العامّ للمقامات الغيبية؛ وذلك لدخول مريم عليها السلام في آل عمران مع كونها غير نبيّ بل كونها حجّة، فالاصطفاء إذن هو اجتباء للطهارة والعصمة وللمقام من المقامات الغيبية.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 546

النموذج الثاني: إبراهيم عليه السلام … ص: 546

قوله تعالي: «وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَايَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» «1»

، إنّ أصل الإمامة ليس هو مجرّد منصب اعتباري، بل هو منصب تكويني غيبي، وجعل إبراهيم إماماً إحدي درجاته النازلة هو الإدارة الظاهرة المعلنة أو الخفية لشؤون البشر، وتزويده بالعلم اللدني وجعله إماماً هو مقام غيبي يغاير مقام النبوّة.

وإذا كانت الهداية الإراءية أي بقاء الشرائع والتي هي من مهام الأنبياء غير منقطعة في أي حقبة من حقبات البشر، فإنّ الهداية الإيصالية التي هي من مهام الإمامة غير

منقطعة كذلك، ومعني ذلك أنّ الإمامة لا يمكن أن تنقطع أبداً، فمنصب الإمامة يؤكّده القرآن كسنّة إلهية، وليس هو بدعاً في العقيدة بل عقيدة قرآنية راسخة.

قوله تعالي: «تِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَي قَوْمِهِ» «2»

، ومعني الإيتاء هنا هو الإيتاء بالعلوم اللدنية والمقامات الإلهية التي ليست زائدة علي شؤون النبوّة وحيثياتها.

قوله تعالي: «وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ» «3»

، فإيتاء الكتاب والحكمة يغاير النبوّة، بشهادة سياق التعداد لبيان تنوّع النعم والمنن علي بني إسرائيل، فكيف يُدّعي أنّ إيتاء الكتاب والحكمة هي النبوّة؟ ويعلم من الآية الكريمة أنّ الذي عنده علم الكتاب ليس بالضرورة أن يكون نبيّاً كما هو الحال في آصف بن برخيا صاحب سليمان كما تقدّم. بل القرآن فيه موارد متعدّدة تدلّل علي أنّ الإيتاء غير النبوّة.

قوله تعالي: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَي مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 547

الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا» «1»

، فالكتاب والحكمة وإيتاء الملك العظيم ليس يتعلّق بحيثيات النبوّة، والملك سنخ ملكوتي لدني وليس سنخ اعتباري، ومن هنا يُفسّر الملك العظيم كما في الروايات بأنّه الإمامة.

لأنّ الملك مصحوب بالقدرة نظير عنوان الخلافة، كما في آدم زوّد بالأسماء ثمّ سجدت له الملائكة، فقدرته نابعة من الأسماء التي علّمها اللَّه تعالي إيّاه.

ودُعّم هذا المعني بنفس الآية في قوله تعالي: «فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ»، وهذا هو الملك العظيم الذي هو القدرة وطاعة وخضوع جميع الملائكة في السموات والأرضين وائتمارهم للخليفة فضلًا عمّن هو تحت سيطرة الملائكة.

قوله تعالي: «وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» «2»

، يُعبّر عن الإمامة بتعابير مختلفة، فمرّة يُعبّر عنها بالملك، وأُخري يُعبّر عنها بالخليفة والإمامة، ورابعاً يُعبّر عنها بالكلمة، وإلي غير ذلك.

وذهب بعض

أهل سنّة الخلافة بأنّ الكلمة هي كلمة التوحيد، أي مجرّد قول لا إله إلّااللَّه علي اللسان، وهذا غير موافق لظاهر الآية؛ لأنّ إطلاق الكلمة قرآنياً لا يقتصر علي الكلمة لفظياً، فقد أطلق علي عيسي بكلمة اللَّه، فالحجج الإلهية هم كلمات اللَّه تعالي، والكتاب التكويني هو الذي تجمع فيه الكلمات جميعاً، أمّا هذا الكتاب الذي بين أيدينا فهو كتاب اعتباري جُمعت فيه الكلمات الاعتبارية.

وقوله تعالي: «يُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ» «3»

أي يقيم الحقّ بكلماته، بيان للقائمين بالهداية الإرائية والإيصالية، والكلمات هم الحجج الذين يتولّون مهام

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 548

الهداية الإرائية، ومن ثمّ مهام الهداية الإيصالية كذلك.

وفي قوله تعالي: «وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ» «1»

وإراءة الملكوت مقام زائد علي مقام النبوّة، ومن ثمّ امتاز به إبراهيم علي جملة من بقية الأنبياء، والملكوت هو الجانب الأمري والسلطة علي كلّ مخلوق والذي هو بيده تعالي.

النموذج الثالث: إسحاق ويعقوب عليهما السلام … ص: 548

قوله تعالي: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ» «2»

، فالجعل هنا كالتعريف لبيان حدود المعني للإمامة، إذ هناك منصب آخر غير النبوّة وهو منصب الإمامة كما ورد في القرآن الكريم، والهداية المعبّر عنها بقوله تعالي:

«يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا» هي هداية أمرية وهي هداية ملكوتية في مقابل الهداية الملكية، وقد تقدّم شطر من بيان معني الأمر من الكلام في الفصل السابق في مباحث ليلة القدر والفصول السابقة أيضاً، وأنّ الأمر هو الروح الأمري وهو روح القدس الذي يتنزّل ليلة القدر وينزل الملائكة معه.

وقوله تعالي: «وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ..»، ممّا يدلّ علي أنّ الإمامة هي وحي تسديدي وليس من الوحي النبوي.

وقوله تعالي: «وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ»، ولم يكن التعبير: (وأوحينا إليهم أن افعلوا الخيرات) والفرق بين التعبيرين أنّ في التعبير الأوّل متعلّق الوحي ذات فعل الخير

تكوينياً، وأمّا في التعبير الثاني متعلّق الوحي ليس هو ذات الفعل وإنّما هو الأمر التشريعي والطلب الإنشائي للفعل، وهو دليل علي أنّ الأئمّة عليهم السلام لديهم

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 549

العصمة الفعلية، كما أنّ منصب الإمام ليس هو مجرّد منصب تشريعي اعتباري، بل منصب تكويني لدني.

فهناك عصمة علمية وعصمة عملية لقوله تعالي: «وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ»، ممّا يدلّ علي أنّ أفعالهم حجّة إلهية، فضلًا عن أقوالهم صلوات اللَّه عليهم أجمعين.

وقوله تعالي: «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَي الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ» «1»

، والآية تدلّ علي وجود الهداية الإيصالية في الإمامة لقوله تعالي: «وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ»، أي هناك حيثية إيصالية في هدايتهم لبيان الغاية والعاقبة.

وقوله تعالي: «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ» «2»

، وهنا تبين أنّ الإمامة سنخ غيبي غير سنخ النبوّة، فالأمر الإلهي في القرآن هو جانب الملكوت. والإيقان هو التسليم والمعرفة التامّة، فالإمام لديه اليقين التامّ، أي أنّ الملكوت أمامه دائماً، والروح الأمري وهو غيب عن عالم السماوات وعن عالم الملائكة، لذا فهو يهدي بالهداية الإيصالية.

وقوله تعالي: «أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَاتَعْلَمُونَ» «3»

، إنّ التعبير «إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَاتَعْلَمُونَ» دليل علي أنّ العلم هذا ليس علماً كسبياً، بل هو علم لدني أوتي به يعقوب غير مرتبط بالنبوّة، هو من غير قناة النبوّة، بل هو من باب الولاية الاصطفائية.

قوله تعالي: «وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 550

شَيْ ءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» «1»

، وهذا هو العلم الذي عُلّم به يعقوب، غير مرتبط بالنبوّة، بل

مرتبط بتدبير الأُمور علي نحو التفصيل في الشؤون المعاشية المرتبط بالولاية، والتعبير لما علّمناه هو تأكيد آخر علي كونه علماً لدنياً غير كسبي.

النموذج الرابع: يوسف عليه السلام … ص: 550

قوله تعالي: «وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَي أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ» «2»

، إيتاء علم تأويل الأحاديث ليوسف ليس كسبياً بل هو لدني، وليس هو من شؤون النبوّة؛ إذ ليس مرتبطاً بالتشريع أو المسائل الاعتقادية. فما المقصود بتأويل الأحاديث؟

إنّ تأويل الأحاديث ليس هو تأويل الرؤيا وحده، بل هو أحد مهامه إذ تأويل الأحاديث أعمّ من ذلك، حيث إنّ كلّ نشأة تأويل للنشأة السابقة، فعالم الأصلاب هو تأويل لعالم الذرّ وعالم الأرحام تأويل لعالم الأصلاب وهكذا، إذ التأويل من الأوْل أي الرجوع، فكلّ نشأة راجعة إلي النشأة السابقة، فالتأويل هو منتهي الشي ء والمآل له.

ونبيّ اللَّه يوسف عليه السلام ليس لديه تأويل الرؤيا فحسب، بل لديه علم معرفة مآلات أحداث الدنيا أي عواقب تلك الأحداث الدنيوية.

هذا علي مستوي نطاق نبوّة يوسف عليه السلام، فكيف بنبيّ اللَّه الخاتم صلي الله عليه و آله وأوصيائه المعصومين؟ فقد حُبوا أكثر وأعظم مما حُبي به يوسف عليه السلام، وذلك لقوله تعالي:

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 551

«وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» «1»

، والضمير في تأويله عائد إلي كلّ الكتاب، وتأويل كلّ الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ولا رطب ولا يابس ولا غائبة في السماء والأرض إلّاأحصاها، ومعلوم أنّ الراسخين في العلم في هذه الأُمّة هم صلوات اللَّه عليهم أجمعين؛ وذلك بشهادة آية التطهير، وأنّ أهل البيت هم المطهّرون في هذه الأُمّة، وقد قال تعالي: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ» «2»

.وأما

قوله تعالي: «هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا» «3»

، فالظاهر أنّ ذلك إشارة إلي ما أنعم اللَّه عليه من معرفة تأويل الأحاديث، ومنه تفسير الرؤيا الذي عرف به مآل مستقبل أهله وإخوته.

وهذا نوع من أنواع العلم اللدني الذي حُبي به يوسف عليه السلام، ولا ربط له بالرسالة بل بعلوم الولاية. وتأويل الأحاديث أعمّ من تعبير الرؤيا إلّاأنّه أخصّ من تأويل القرآن؛ لأنّ تأويل القرآن تأويل لكلّ النشأت السابقة واللاحقة للنشآت الأُخروية، فالذي يحيط بعلم تأويل القرآن هو أعلم ومهيمن علي علم من يحيط بتأويل الأحاديث، ومن هذا القبيل قوله تعالي: «وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَي الرَّسُولِ وَإِلَي أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا» «4»

، إشارة إلي أنّ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 552

الاستنباط بالمعني القرآني لا بمعني الاجتهاد الظنّي؛ إذ هو لا يورث العلم ولا يوقي عن اتّباع الشيطان في تدبير النظام الاجتماعي السياسي؛ إذ يتوقّف ذلك علاوة علي العلم المحيط بالتشريعات الإلهية، علي العلم اللدني المحيط بالموضوعات في الشؤون المختلفة وعلم الأحداث الذي يزوّد به وليّ الأمر في ليلة القدر، حيث يتنزّل عليه تفاصيل كلّ الأحداث المستقبلية صغيرها وكبيرها وقد تقدّم شطر وافر من الكلام في الفصل السابع من مباحث ليلة القدر، وقرينة علي إرادة هذا المفاد من الآية هو التعبير ب (لَعَلِمَه) الظاهر في حقيقة العلم لا الظنّ، لا سيما قد وصف هذا العلم بأنّه يوقي بنحو دائم بات عن اتّباع الشيطان، وهو أشرف من علم تأويل الأحاديث.

قوله تعالي: «وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَي أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ

لَايَعْلَمُونَ* وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُمحْسِنِينَ» «1»

، إنّ الآية تبيّن أنّ التمكين بيد اللَّه تعالي فزمام الأُمور الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وكلّ دقائق الحياة- كما سيأتي بيانه مفصّلًا- موكول أمره إلي اللَّه تعالي.

وتمكين يوسف في الأرض مقاماً غير النبوّة، بل هو مقام حاكمية من قبل اللَّه تعالي، وهي إحدي الحبوات التي حُبي بها يوسف عليه السلام.

وإنّ ما عمله أُخوة يوسف عليه السلام هو بنفسه يصبّ في الغرض الإلهي وإن كان معصية من قبلهم، وهذه سنّة لا تتخلّف من أنّ كلّ ما يعمله الظالمون والمفسدون فإنّه غير غالب لتدبير اللَّه تعالي، بل اللَّه تعالي غالب علي أمره قد جعل اللَّه لكلّ شي ء قدراً «وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ» «2»

فإنّه أخيراً سيصبّ في الغرض الإلهي، ولا يعني هذا حسن عمل السوء، فالقبيح يبقي قبيحاً، وعمل السوء يحيق بصاحبه: «وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّي ءُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» «3»

، ولا يضرّ اللَّه شيئاً

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 553

وهو ما تؤكّده الآية التالية- نظير عمل إبليس، فإنّ دخول الشرور في منظومة الخلقة الإلهية لا يخرج الأمر عن تدبيره تعالي، ولا يعيق قيد شعرة الخطّة الإدارية التكوينية عن الوصول إلي الغايات الكمالية.

قوله تعالي: «وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَي أَمْرِهِ» وهذا تأكيد علي أنّ كلّ مجريات العالم بدقائقه وكلّياته مرتبطة بإرادته تعالي، وهذا خلاف ما ادّعته اليهود بأنّ يد اللَّه مغلولة فأجابهم اللَّه تعالي بقوله: «بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ»، فالإرادات التكوينية للمخلوقين لا يمكن أن تتخطّي إرادة اللَّه تعالي، لا بمعني إلجائهم بنحو يفقدهم الاختيار إلي الجبر، بل بمعني إنّ ما يفعلوه من أفعال الشرّ يستثمره الباري تعالي بلطيف قضاءه وقدره ومكنون حكمته في تحقيق الغايات الكمالية الإلهية، ففعلهم شرّ، إلّاأنّ فعله تعالي في

تدبير القضاء والقدر لاستثمار ذلك خير تامّ بالغ، فكيف نتصوّر بعد ذلك أنّ اللَّه تعالي قد رفع اليد عن الأُمور الاجتماعية وأهمّها قيادة المجتمع الذي يمثّله تعيين الإمام الخليفة بعد النبيّ صلي الله عليه و آله.

قوله تعالي: «وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ»، أي: لا يعلمون أنّ كلّ حدث يجري ويصبّ هو في الإرادة الإلهية.

وبالتدبّر في سيرة حكومة النبيّ صلي الله عليه و آله في القرآن، وتصرّف وإرادات اللَّه تعالي في حكومة النبيّ صلي الله عليه و آله المستعرضة في القرآن واضحة جلية، فهل يعقل انقطاع تصرّف الإرادات الإلهية في تدبير النظام البشري بعد وفاة النبيّ صلي الله عليه و آله لعدم تعيين الخليفة الذي تتنزّل عليه المشيئة الإلهية والإمام من قبل اللَّه تعالي؟

فالقول بعدم تعيين الإمام من قبل اللَّه تعالي تعطيل محض لإرادات اللَّه تعالي وحكمه وحاكميته في تدبير النظام البشري.

قوله تعالي: «وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُمحْسِنِينَ»، فإيتاء العلم والحكمة جزاء لمن وصل إلي مقام الإحسان؛ لقوله تعالي: «وَكَذَلِكَ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 554

نَجْزِي الُمحْسِنِينَ»، ولا علاقة لهذا الإيتاء بالنبوّة.

فالعلم اللدني هنا لمقام المحسنين وليس للنبوّة، وهو ما يتوفّر لدي الأئمّة عليهم السلام الذين آتاهم اللَّه تعالي علماً لدنياً بسبب مقامات عدّة ليس لها علاقة بمقام الرسالة، بل لكونهم حججاً مصطفين.

قوله تعالي: «كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الُمخْلَصِينَ»، فصرف السوء والفحشاء ليس لكونه نبيّاً فقط، بل لكونه من عباده المخلَصين، وقد عبّر تعالي بقوله: «لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ»، أي نمنع عنه السوء والفحشاء، ولم يقل ونصرفه عن السوء والفحشاء، أي نبعد السوء عن أن يقترب إليه، وليس إبعاد يوسف عن أن يقترب إلي السوء والفحشاء؛ إذ لم يكن من قبل

النبيّ يوسف إقبال علي الفحشاء والسوء كي يُبعد عنه، بل الفحشاء في فعل زليخا حيث أرادت أن تقبل علي يوسف فصُرفت عنه، فهذه دلالة علي عصمة يوسف ذاتاً بل وعصمته عن أن يُخترق حريم عصمته من البيئة المعاشة.

وبذلك يظهر دلالة قوله تعالي الذي هو بنفس التعبير والتركيب: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً» «1»

علي عصمتهم الذاتية وعلي عصمتهم عن أن يخترق الرجس حريم عصمتهم، كما يشير إلي ذلك أيضاً ما في زيارة سيد الشهداء عليه السلام: «ولم تنجّسك الجاهلية بأنجاسها، ولم تلبسك من مدلهمّات ثيابها»، وهذا دليل علي أنّ يوسف عليه السلام لم يهمّ بها بل هي همّت به.

لذا فإنّ لدي المعصوم شعاع من العصمة يمنع السوء عن المعصوم فضلًا عن عصمته الذاتية. وفي سورة الدهر أكّدت أنّ أهل البيت عليهم السلام من عباد اللَّه المخلصين حيث أخلصوا مع اللَّه تعالي فانتجبهم واجتباهم، وحيث جعلوا فوق مقام الأبرار

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 555

فهم يسقون الأبرار من عين الكافور فيمزجون شرابهم منه.

قوله تعالي: «وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ* قَالَ اجْعَلْنِي عَلَي خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ* وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الُمحْسِنِينَ» «1»

.وهذه المرتبة حيثية أُخري غير النبوّة يمكن أن تجعل النبيّ حاكماً في الأرض، والشرائط الشرعية في كونه حاكماً أن يكون حفيظاً عليماً، وهي بعينها شرائط الإمامة، وهي كونه تتوفّر لديه العصمة العلمية (عليم)، فضلًا عن العملية (حفيظ)، بخلاف من قال بتقديم المفضول علي الفاضل كما ذهبت إليه المعتزلة.

وفي الآية مفهوم من أقوي المفاهيم، وهو مفهوم التعليل حيث علّلت العلم علّة لمنصب

الحاكمية والجاهل ليس له ذلك، وهذا ما تلتزم به الإمامية من كون الإمام والخليفة لابدّ أن تتوفّر لديه العصمة العلمية فضلًا عن العملية، فيكون عليماً بنظم التدبير في النظام الحاكم في مجالاته المختلفة، ولا يجهل أوفق البرامج الموصلة إلي المثل العليا في الكمال في الأنظمة الاجتماعية في الميادين المختلفة، ويكون حافظ لهذه الأمانة في الحاكمية فلا يميل به الهوي ولا تستولي عليه العصبية ولا يغلبه التجبّر ولا يقعده الجبن، إلي غير ذلك من الصفاة المانعة من حفظ الأمانة.

قوله تعالي: «كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ» «2»

وهي إشارة إلي أنّ الأُمور لدي الأنبياء فضلًا عمّن دونهم كلّياتها وجزئياتها تجري وفق التدبير الإلهي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 556

وضمن مسارات الإرادة الإلهية، فأخذ يوسف أخاه في دين الملك لم يكن بتدبير يوسف منعزلًا عن الإرادة الإلهية والمشيئة الربّانية.

قوله تعالي: «إِذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَي وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ» «1»

، فخاصّية قميص يوسف أنّه إذا أُلقي علي أبيه يرتدّ بصيراً، فكيف ببدن يوسف عليه السلام، لذا فإنّ اللَّه تعالي يكرّم أولياءه بخاصّيات تكوينية.

قوله تعالي: «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» «2»

وهذا أيضاً تأكيد علي أنّ ما أُوتي من مقامات لا ترتبط بمقام النبوّة والرسالة بل بمقام الولاية.

النموذج الخامس: موسي عليه السلام … ص: 556

قوله تعالي: «وَإِذْ قَالَ مُوسَي لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَاْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ* قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّافَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ

عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ* قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النّاظِرِينَ* قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ* قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَاذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَاشِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ* وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَاتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ* فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَي وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» «3»

.الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 557

إنّ البقرة هنا لها خاصّية إحياء الموتي علي يد موسي عليه السلام فكيف بالنبيّ أو الوصيّ عليهما السلام، وليس في ذلك غلوّ أو خلاف الحقّ، بل القرآن ينصّ علي خصائص تكوينية لأجسام الأنبياء والأوصياء.

ثمّ إنّ الآية وهي في منازعة قضائية جنائية تؤكّد أمراً مهمّاً وهو متابعة اللَّه تعالي للمجتمع الإسرائيلي الذي أسّسه موسي عليه السلام في كلّ صغيرة وكبيرة، وهذا يعني أنّ اللَّه تعالي يباشر حكومة هذا المجتمع عن طريق موسي في السياسات الكلّية والجزئية ممّا يؤكّد أنّ اللَّه تعالي يمارس الحاكمية بشكل تفصيلي بكلّ دقائق الأُمور وكلّياتها.

إنّ التوجّه السائد لدي أهل سنّة الجماعة والخلافة- وللأسف- أنّهم يُبعدون الذات المقدّسة عن ساحة الأحداث، وهو لازم قولهم إنّ خلافة النبيّ صلي الله عليه و آله أمر دنيوي لا دخل للحاكمية والولاية الإلهية التفصيلية فيه، أي تعطيل الدور الإلهي وإزوائه، والإرادة الإلهية التفصيلية والمشيئة التنفيذية لا تتنزّل علي أحد إلّاعلي نبيّ أو وصي معصوم، وهو ما دفع أهل سنّة الجماعة- علي ما يبدو- إلي عدم الالتزام بهذه الحقيقة القرآنية العظيمة وهي حاكمية اللَّه وسلطته التنفيذية في تفاصيل تدبير النظام

البشري السياسي والاجتماعي.

قوله تعالي: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًي وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ» «1»

، والآية صريحة في عقيدة الإمامية من كون الحكم بالشريعة في النظام الاجتماعي السياسي هو للأنبياء، وهو منصب يختصّون به، والمرتبة الثانية أنّ الحكم للربّانيين وهم الأولياء المصطفون، والرتبة الثالثة الحكم للأحبار أي

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 558

العلماء وهذه الطولية في جعل الحكم هي لمغايرة الربّانيين للأحبار.

والربّاني هو المنسوب إلي الربّ وهي صيغة مبالغة وهذه الصيغة تدلّ علي شدّة القرب للَّه تعالي فهو لابدّ أن يكون معصوماً، والربانية هي مرتبة اصطفائية وهم الأئمّة عليهم السلام وقرينة أُخري علي المراد بهم الأوصياء بقوله تعالي: «بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ»، فالذي يكون شهيداً علي الكتاب كلّه لابدّ أن تكون إحاطته بالكتاب لدنية أي نظير تعبير بمن عنده علم الكتاب، كما تدلّ هذه القرينة علي أنّ الربّاني لا تخلو منه الأرض، لأنّه الحافظ لإقامة كتاب اللَّه في النظام البشري فقد استحفظ وكان علي ذلك شهيداً، فلا يستقلّ الأحبار في الحكم النيابي عن الربّاني وعن هيمنة وإشراف الوصي المعصوم في كلّ الأزمان.

قوله تعالي: «إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا» «1»

، وجعل الملك في بني إسرائيل من قبل اللَّه تعالي دليل علي كونه جعلًا إلهياً وعهداً منه، وأنّ سنخ جعل الملك كما هو في جعل النبوّة، كما في قصّة طالوت حيث جعله اللَّه ملكاً بغضّ النظر عن اختيار الناس له، والملك هنا ملك تصرّف فهو لا يقتصر علي الاعتبار التشريعي، بل الملك هنا أعمّ كما في قوله تعالي في آل إبراهيم: «وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا» «2»

، فهو منصب إلهي غير منصب النبوّة؛ إذ

إنّ موسي عليه السلام جعل الملك نعمة وحبوة، وهي غير مختصّة ببني إسرائيل فتعمّ كلّ الأمم، والأُمّة الإسلامية هي أولي في جعل الملك لديها وهي الإمامة، ففي آيات عدّة عُرّف حدّ الإمامة بالملك وولاية التصرّف.

وقوله تعالي: «وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا» «3»

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 559

فمع كون النقباء غير أنبياء إلّاأنّ التعبير ورد (وبعثنا)، فبعث النقباء كبعث الأنبياء عهد إلهي ملكوتي تكويني، وقد ورد التعبير بعينه إيضاً في طالوت حيث قال تعالي علي لسان نبيّ بني إسرائيل: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا» «1»

كذلك.

والنقابة هي معرفة أحوال القوم وخفاياهم، فالنقيب من نقّب عن أحوال قومه، ولذا فقد ورد في صفاة الإمام معرفته لأحوال وأسرار أُمّته، حيث ورد في الروايات إنّ عليه السلام له عمود نور يري بواسطته أعمال الناس، وهو مفاد قوله تعالي: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» «2»

، فالمؤمنون ههنا خصوص الأئمةّ الشهداء علي أعمال البشر يرون الأعمال حين صدورها من الإنسان، وهو معني الشهادة والرؤية لها في سياق رؤية اللَّه تعالي ومن بعده رسوله صلي الله عليه و آله ومن بعده المؤمنون المعني بهم ما ذكرهم تعالي في آخر سورة الحجّ: «هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَي النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاة وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَي وَنِعْمَ النَّصِيرُ» «3»

، فهم من نسل إبراهيم الخليل من قريش، فالإمام نقيب بما فيه من التأهيل لمعرفة أحوال البشر.

كما أنّ العدد اثني عشر له دلالة علي الإمامة الاثني عشر، فالعدد هذا ليس اعتباطي بل سنّة إلهية

في الأُمم؛ إذ ورد أنّ أوصياء كلّ نبيّ اثنا عشر، كما ورد أنّه يجري في هذه الأُمّة ما جري في بني إسرائيل، وورد في الحديث النبويّ «4» المتواتر: «أنّ خلفائي اثني عشر كلّهم من قريش من هذا البطن من بني هاشم».

قوله تعالي: «وَوَاعَدْنَا مُوسَي ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 560

لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَي لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ» «1»

، تدلّل الآية علي أنّ الشريعة الموسوية فيها حاكمية وإمامة إلهية؛ لأنّ موسي عليه السلام استخلف هارون عليه السلام في قومه حاكماً فترة غيابه والتي وهي أربعون ليلة، فكيف لا يستخلف النبيّ عليه السلام إماماً وخليفة بعد وفاته؟ مع أنّ أهل سنّة الجماعة أقرّوا أنّ النبيّ صلي الله عليه و آله استخلف في حياته علي المدينة المنوّرة عند خروجه في الغزوات.

قوله تعالي: «وَمِنْ قَوْمِ مُوسَي أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ» «2»

، والأُمّة هي المجموعة ذات الهدف الواحد، و (من) تبعيضية أي بعض قوم موسي يقومون بالهداية ويقيمون العدل بالحقّ، ودوام الصفة وإطلاقها يدلّ علي العصمة العلمية والعملية؛ إذ الصفة أوتي بها بصيغة جملتين من الفعل المضارع للدلالة علي الاستمرار والشمولية، والتعبير في الجملة الأُولي يدلّ علي دوام الفيض العلمي اللدني لديهم، والتعبير في الجملة الثانية يدلّ علي دوام البسط والتمكين الإلهي لهم لأسباب إقامة العدل، وهم أئمّة وذلك بهديهم وإمامتهم للناس، فكيف في أُمّة محمّد صلي الله عليه و آله، إذن لا يكون هناك أُمّة منهم أئمّة هدي؟

قوله تعالي: «وَاخْتَارَ مُوسَي قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا» «3»

، فاختيار موسي للميقات هو اختياره لهم إلي مقام تشريفي، إلّاأنّ اللَّه تعالي لم يرتضِ أهلية هؤلاء؛ لأنّ فيهم السفهاء وهم جهلاء ظالمون،

فلا يكونوا مؤهّلين لسماع الوحي والتكليم الإلهي، لقوله تعالي لإبراهيم في إمامة ذرّيته: «لَايَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ»، وكما أنّ النبيّ صلي الله عليه و آله كلّف أبا بكر تبليغ سورة براءة، إلّاأنّ الوحي استدرك وأمره أن لا يبلّغ إلّا

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 561

أنت أو رجل منك، وهذه سنّة إلهية ثابتة.

فالاختيار والاصطفاء إذن من اللَّه تعالي، فلو كان مع موسي غير سفهاء لكانوا مؤهّلين لسماع الوحي مع أنّهم غير أنبياء، فما تعتقده الإمامية من أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام إستمع الوحي ورآه لقوله صلي الله عليه و آله: «يا عليّ، إنّك تسمع ما أسمع وتري ما أري» «1»

، سنّة قرآنية أصيلة، ومن ثمّ أمر اللَّه نبيّه في آية المباهلة انتداب عليّ لشهوده الوحي ومسؤوليته لهذه الشهادة هو وزوجه البتول وشبليه سيدا شباب أهل الجنّة، حيث كانوا أصحاب الكساء يشاهدون الوحي عياناً، فحمّلهم اللَّه تعالي مسؤولية الشهادة في المباهلة كشركاء تابعين للنبيّ صلي الله عليه و آله في الحجّة الإلهية كما في قوله تعالي: «أَفَمَنْ كَانَ عَلَي بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ» وهو الوحي النازل، «وَيَتْلُوهُ» أي يتبعه وتابع له، «شَاهِدٌ» أي يشهد الوحي عياناً ويشهد البينة من الربّ، «مِنْهُ» أي من أهله وبمنزلة نفسه كما في «أَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ».

وقد يُعترض بأنّ كلّ مؤمن يشهد بوحدانية اللَّه وبرسالة النبيّ صلي الله عليه و آله، فلماذا خصوص الأمر الإلهي في آية المباهلة بأهل البيت عليهم السلام بأن يشهدوا للنبيّ والرسالة دون غيرهم؟ أليس قد شهد خزيمة بن ثابت للنبيّ صلي الله عليه و آله بما لم يره عندما نازع الأعرابي النبيّ صلي الله عليه و آله في عين مال فأمضي النبيّ شهادته عن بينة بمنزلة شهادة رجلين؟ وذلك ليقين خزيمة

بصدق النبيّ صلي الله عليه و آله.

وللإجابة عن هذا الاستفسار: أنّ شهادة المؤمن حيث كانت تستند إلي إدراك المعجزة الإلهية علي نبوّة النبيّ صلي الله عليه و آله فهي إخبار قطعي لا ظنّي، بل هي إخبار عن عيان؛ لأنّ المعجزة كما هو الصحيح عندنا عيان للقدرة للغيبة يتكشّف شي ء من ستار الغيب، فإدراك المعجزة عيان لبروز القدرة الغيبية الإلهية.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 562

لا كما عرفها المتكلّمون من أنّها برهان فكري في الاستنتاج الذهني ومن نمط العلم الحصولي، بل هي علم حضوري في الأساس، وإن كانت معجزة علمية أو تكوينية تستند إلي الحسّ في مقدّماتها وإلي المعاني الذهنية، إلّاأنّ أبصار الإعجاز المترتّب عليها هو عيان وجداني للقدرة الخارقة الغيبية، ومن ثمّ تكون مسؤولية المؤمن الإقرار والشهادة والإخبار القطعي بما أدركه عياناً، إلّاأنّ هذا الإدراك لمّا كان محدوداً وبنحو إجمالي كانت المسؤولية الملقاة علي كاهل المؤمن هي متناسبة بقدر ذلك من افتراض الإيمان عليه والتسليم والطاعة، بل والقيام في الواجبات في الشريعة.

وهذا بخلاف من يحمل أن يكون قوله وشهادته سنداً بنفسه يقينياً قطعياً لحجّية نفس الرسالة والنبوّة ليضاهي قوله وشهادته المعجزة في إثبات الرسالة، فإنّ مثل ذلك الشخص والأشخاص لا ريب ولابدّ أنّهم يتمتّعون بعيان حضوري لكلّ تفاصيل الوحي، ويشاكلون ويشاركون النبيّ صلي الله عليه و آله مع تبعيتهم له في العلم والعيان لما ينزل علي النبيّ صلي الله عليه و آله، ومن ثمّ خُصّوا بهذه المسؤولية دون غيرهم، وكانت لهم أهلية ذلك دون بقية كبار الصحابة ودون زوجات النبيّ، كما تقدّم في اختصاص عليّ بتبليغ سورة براءة دون أبي بكر؛ بأمر اللَّه النازل: لا يبلّغ عنك إلّا أنت أو رجل منك، فكانوا علي درجة من الصفات

توجب اليقين من شهادتهم علي حذو اليقين الحاصل من المعجزة.

قوله تعالي: «وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَي الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا» «1»

، فالوزارة للنبوّة جعل إلهي، لذا فقوله صلي الله عليه و آله: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسي»، بمعني الخلافة والوزارة والإمامة، وكون هارون وزيراً غير كونه نبيّاً.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 563

النموذج السادس: سليمان وداود عليهما السلام … ص: 563

قوله تعالي: «وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ* أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ* وَلِسُلَيَمانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ» «1»

، فهذه المقامات المذكورة والنعم الموصوفة هي غير مقامات النبوّة، بل هي مقامات إمامة وولاية.

وقوله تعالي: «وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيَمانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَي كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ» «2»

، وهي كسابقتها من الآيات إذ الأعطيات التي استوجبت الحمد من قبل داود وسليمان لمكان الحبوة التي حُظيا بها من اللَّه تعالي، لا لمقام النبوّة منهما، بل لحجّيتهما وإمامتهما.

قوله تعالي: «وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ» «3»

، فقد وصف اللَّه تعالي داود أنّه عبد في هذه الآية والمقام ولم يذكر وصف النبوّة، ممّا يدلّل- بمقتضي أنّ الوصف مشعر بالعلّية- علي أنّ هذه الحبوات إنّما أُعطيت له بمقتضي درجة العبودية التي وصل إليها، والتي هي معني الولاية كما في الخضر حيث قال تعالي «فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا» «4».

فبيّنت الآية أنّ العلم اللدني والرحمة الخاصّة التي هي من مقامات الولاية وأُعطيت للخضر استحقّها بالعبودية بدرجة خاصّة، فهذه المقامات أُعطيت لداود بسبب

مقاماته في العبودية، وهي الولاية؛ لأنّ العبودية هي الجانب الذي يلي من العبد تجاه مولاه، لا بما لداود من مقام النبوّة.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 564

فالآيات المتقدّمة تشير إلي حقيقة مهمّة وهي أنّ الحبوات التي حصل عليها الأنبياء لا لمجرّد كونهم أنبياء بل لكونهم حججاً أولياء وأئمّة، فالنبوّة وإن كانت تحتاج إلي المعجزة، إلّاأنّ المعجزة لا ضرورة لدوامها واستمرارها بنحو ممتدّ، بل يكفي وقوعها وحدوثها لإيجابها واستلزامها الثبات علي نحو الدوام، أي أنّ وجودها وإن كان دفعياً إلّاأنّ حجّيتها ووصف الحجّية لها مستمرّ؛ إذ هي في حدود تصديق نبوّة النبيّ.

فإذا تمّ الغرض انتفت الضرورة لاستمرار وجودها، وإن كان بعض المعاجز كالقرآن الكريم- معاجز مستمرّة الوجود، بينما هذه الحبوات والمقامات ثابتة لحجج اللَّه تعالي وأوليائه، وهو ما حدث وما يحدث لأئمّة آل البيت عليهم السلام من الحظوة بالمقامات الإلهية التي حازوا عليها وأكرمهم اللَّه تعالي بحبواته، فلا مجال إذن لإنكار هذه الحقيقة المعرفية القرآنية تحت ذريعة وغطاء التفويض والغلوّ كما توهّم البعض.

فإيتاء الملك لداود هي الإمامة. ولولا دفع اللَّه الناس بعضهم ببعض، إشارة إلي التدبير الاجتماعي الذي يديره داود في بني إسرائيل، فإيتاء الملك يختلف عن إيتاء النبوّة، فهو منصب خاصّ من قبل اللَّه تعالي، فالإمامة أهلية خاصّة غير أهلية النبوّة.

قوله تعالي: «أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ» «1»

، فتوريث الأرض للعباد الصالحين لا لكونهم أنبياء، بل لكونهم عباداً صالحين، وهذا وعد إلهي.

إنّ أحد حدود الإمامة هي العبودية بدرجة فائقة للَّه تعالي وهي ولاية ولي اللَّه الإمام وتولّيه لربّه تعالي، وقد روي هارون بن الفضل، قال: «رأيت أبا الحسن عليّ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 565

بن محمّد في اليوم الذي توفّي فيه أبو جعفر عليه السلام فقال: إنّا للَّه وإنا إليه راجعون،

مضي أبو جعفر عليه السلام. فقيل له: وكيف عرفت؟ قال: لأنّه تداخلني ذلّة للَّه لم أكن أعرفها» «1».

وفي رواية أُخري أنّه عليه السلام سُئل عن كيفية علمه بوفاة أبيه قال: «قد دخلني من إجلال اللَّه ما لم أكن أعرفه قبل ذلك، فعلمت أنّه قد مضي» «2».

فالإمامة ولاية ملكوتية غيبية وليست ولاية ملك مادّي فقط، بل ولاية عبودية للَّه تعالي. والولاية أعلي رتبة من النبوّة، وذلك أنّ الولاية هي جهة القرب والارتباط باللَّه تعالي، فولاية كلّ نبيّ هي أعلي وأشرف من نبوّته؛ لأنّها جهة عبودية النبيّ للربّ تعالي، فلذلك الولاية أعظم من النبوّة، أي ولاية ولي اللَّه الإمام وتولّيه لربّه.

قوله تعالي: «قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الُمخْلَصِينَ» «3»

، إنّ غواية إبليس وإضلاله لا تشمل المخلَصين- بالفتح- فهم معصومون عن غواية إبليس علي صعيد العمل وعلي صعيد العلم.

وإنّ سورة الصافات في أربع مواضع ذكرت (عباد اللَّه المخلَصين).

1- قوله تعالي: «وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ* إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الُمخْلَصِينَ» «4».

2- قوله تعالي: «فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ* إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الُمخْلَصِينَ» «5».

3- قوله تعالي: «فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لُمحْضَرُونَ* إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الُمخْلَصِينَ» «6».

2- قوله تعالي: «سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ* إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الُمخْلَصِينَ» «7».

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 566

فوصف اللَّه تعالي هؤلاء العباد بأنّهم مخلَصين لا تقع منهم معصية ولا يراودهم شكّ أو شبهة، فهم مخلِصين للَّه في عبادتهم، ومخلَصين من أي ذنب أو قبيح.

لذا فإن قوله تعالي: «سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ* إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الُمخْلَصِينَ»، حيث نزّه اللَّه تعالي عن كلّ وصف إلّاتوصيف عباد اللَّه المخلَصين، وهي أعلي مقامات المخلَصين التي تعني المعرفة الحقّة له تعالي.

فالصلاح الذاتي وما يترتّب عليه من صفات لم يكن كسبياً، بل هو منصب

إلهي اصطفائي جعلي؛ وذلك لقوله تعالي: «وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ» «1»

.ومثله الرشد الذاتي اللدني حيث لم يكن عادياً كسبياً، بل هو إلهي جعلي يمنّ علي خاصّة عباده؛ لقوله تعالي: «وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ» «2».

المشاركة في الحجية: … ص: 566

قوله تعالي: «وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَي وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ» «3»

، فهذه مشاركة بين موسي وهارون في الحجّية، فنزول الفرقان لم يختصّ به موسي، بل شاركه هارون كذلك. وهذا مفاد حديث المنزلة، إذ كونه عليه السلام من النبيّ الخاتم صلي الله عليه و آله بمنزلة هارون من موسي، يشير إلي جنبة مشاركة ما ينزل علي النبيّ صلي الله عليه و آله، شركة تابع له كما في قوله تعالي: «أَفَمَنْ كَانَ عَلَي بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ» «4»

.أي يتلو النبيّ صلي الله عليه و آله ويشهد الوحي عياناً وهو البينة من الربّ وهو رجل من النبيّ من نفسه.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 567

فقد ورد عنه صلي الله عليه و آله: «أنا مدينة العلم وعليّ بابها» «1»

، وغيرها من الموارد التي تشير إلي المشاركة، كآية المباهلة وآية التطهير.

النموذج السابع: عيسي عليه السلام: … ص: 567

قوله تعالي: «إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَي ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَي وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإْنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِي ءُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَي بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» «2»

.فهذه المناصب بعضها لا ربط لها بالنبوّة بما هي نبوّة، وكونه رسولًا هو أحد مناصبه صلي الله عليه و آله، وقوله «أَخْلُقُ لَكُمْ..» بمعني الخلقة والتكوين وليس هو تشكيل الطين علي هيئة الطير فقط.

إنّ شبهة كون الخلقة التي يتولّاها عيسي عليه السلام هو تشكيل فقط دخلت علي العامّة، محتجّين بها علي كون الخلق لا يمكن أن يقوم به غير اللَّه تعالي، في حين

نقول إنّ الخلقة بأمر اللَّه تعالي ولا مانع من أن يقوم بها أحد عباده المصطفين الذين اصطفاهم اللَّه لهذه المهمّة.

وإنّ تشكيل المادّة لا يقال لها خلقة، بل الخلقة هي حالة إيجاد وتكوين بأقدار اللَّه تعالي وإرادته، مع إمكان تفويض ذلك إلي خاصّة عباده كما هو الحال في عيسي عليه السلام، تفويضاً غير عزلي أي من دون أن يكون الباري تعالي معزولًا ولا النبيّ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 568

عيسي عليه السلام ونحوه من الأولياء مستقلّاً في فعله كما هو الحال في غير ذلك من الأفعال، لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين. ويُستدلّ علي ذلك بقوله تعالي:

«فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا» «1»

، فالنفخ هنا خلق كما في نفخ الصور، فالنفخ هنا ليس تشكيل، إذ الخلق للطير متفرّع علي نفخ عيسي عليه السلام.

ثمّ إحياء الموتي ليس هو كخلق الطير، بل إحياء الموتي هو تزويج الروح بالبدن.

وقوله تعالي: «وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَي بِإِذْنِ اللَّهِ»، فالإبراء وإن كان إحياء وخلق لكن خلق حال وليس إعادة لحياة الذات، وهذا ما يمكن تصوّره في أولياء اللَّه المصطفين كالأئمّة عليهم السلام؛ إذ إمكان إعطائهم هذه الحبوة كما أُعطيت لعيسي ليس تفويضاً عزلياً باطلًا تعزل فيه قدرة اللَّه تعالي وهيمنته وقاهريته وقيوميته، كما هو الحال في أفعال الإنسان لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين، ولا فرق في تمكين وإقدار الباري للمخلوق علي الفعل بين فعل النملة وفعل عزرائيل وميكائيل وأعاظم الملائكة والأرواح؛ فإنّه بقانون واحد لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين، ومن لا يميز بين التفويض العزلي الباطل وبين التفويض بمعني الإقدار والتمكين في حين قدرته تعالي من انحسار لقدرته فيما أقدرهم عليه، يحصل لديه الخلط بينهما، كما أشار

إليه أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة.

قوله تعالي: «إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَي إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا» «2»

، إنّ أُصول الدين لا تُنسخ، بل النسخ يكون في الفروع، كما أنّ أركان الفروع غير منسوخة، فأُصول المحرّمات هي واحدة في كلّ الشرائع كحرمة الزنا

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 569

والكذب والغشّ وغيرها، وكذلك أُصول الواجبات.

فالنسخ لا يكون في المعارف ولا إلغاءً لها، بل الحال فيها حالات تكامل وتوسّع وتعمّق، وكذلك الكتب الإلهية في نسخها الأصلية غير المحرّفة والتي هي عند الإمام المهدي (عج) لكونه وارث الأنبياء والمرسلين كذلك، وشرائعها السابقة لها قدسيتها في القرآن الكريم وفي كلام أهل البيت عليهم السلام.

فمع أنّ عيسي عليه السلام قد نسخت شريعته، فهو مع ذلك سيكون له دور مهمّ في شريعة الإسلام، إذ سيؤدّي دوره المقدّر من قبل اللَّه تعالي حيث نزوله من السماء والتحاقه بالإمام المهدي المنتظر (عج).

علي أنّه تجدر الإشارة إلي أنّ غيبة الإمام (عج) لا تعني أكثر من خفاء هوية وليس تغييباً لوجوده ولا إبعاده عن مسرح الأحداث ولا مزايلة عن تدبير الأوضاع البشرية، ولذلك الاعتقاد أدلّة قائمة قد مرّ الإشارة إليها. وظهور الإمام (عج) يعني ظهور هويته المغيبة أي المخفية المستترة، وليس بداية لحضور وجوده الشريف، بل وجوده حاضر بيننا نعيشه بوجداننا وأعماقنا.

وكلمة (متوفّيك)، أي قابضك، فهو قبض له حتّي يبعثه اللَّه إلي حيث يوجّهه لمناصرة وليه الإمام المهدي (عج) ومؤازرته.

قوله تعالي: «وَآتَيْنَا عِيسَي ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» «1»

، فروح القدس حبوة إلهية لعيسي عليه السلام، وهي ليست من خصائص النبوّة كما أنّ روح القدس قد تقدّم الحديث عنه مبسوطاً في الفصل السابع في مباحث ليلة القدر، وهو نور كما فُسّر

بلحاظ الهيمنة العلمية، فهو مع الأئمّة عليهم السلام، وهو بلحاظ المناصب الأُخري غير النبوّة.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 570

قوله تعالي: «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَي مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ» «1»

، ومضافاً إلي كون عيسي عليه السلام رسول اللَّه فقد وُصِف أيضاً بأنّه كلمته وأنّه روح اللَّه. والكلمة هي الشي ء التكويني الدالّ علي معني بدلالة تكوينية لا فرض اعتباري أدبي، وهذا المعني هو الأصل في معني ومصداق الكلمة حقيقة، وأمّا الكلمة التي تتداول في الكلام المحاوري فهي اعتبارية يعتبرها ويفترضها المتكلّم والمخاطب فيما بينهم، فعيسي هو كلمة اللَّه وهو اسمه أيضاً؛ لأنّ الاسم في اللغة يعني السمة والعلامة، وهو نفس معني كلمته وهو آية من آيات ربوبيته كما قال تعالي: «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً» «2»

، وقال تعالي: «وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا» «3»

، والآية في اللغة العلامة والسمة أيضاً، وعليه تكون الآية والكلمة والاسم بمعني واحد، أو مشتركة في أصل معناها.

وكونه روح اللَّه يعني بوجوده وولادته وحالاته الملكوتية خروجه من الغيب مقاماً، فأضيفت إلي الذات الإلهية تشريفاً لمقامها.

وقد قام الدليل علي أنّ الأئمّة كلمات اللَّه كما في قوله تعالي: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَامُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ» «4»

، ولعلّ الإشارة في كلمات الصدق وتمامية الكلمات صدقاً هو للمرسلين، وتمامية الكلمة عدلًا هو لجعل اللَّه تعالي للأئمّة الهادين بأمره الذين يوحي إليهم فعل الخيرات وإقامة العدل، ولا ريب أنّ من كلمات اللَّه في عموم هذه الآية هو النبيّ عيسي عليه السلام، فالمراد من الكلمات هم الحجج المصطفين.

وقد ورد من طريق الفريقين في قوله تعالي: «فَتَلَقَّي ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 571

عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» «1»

، فقد روي

الحاكم في مستدركه: «أنّ آدم لمّا اقترف الخطيئة قال: يا ربّي أسألك بحقّ محمّد لما غفرت لي. فقال: يا آدم كيف عرفت؟ قال: لأنّك لمّا خلقتني نظرت إلي العرش فوجدتُ مكتوباً فيه: لا إله إلّااللَّه محمّد رسول اللَّه فرأيت اسمه مقروناً مع اسمك فعرفته أحبّ الخلق إليك» «2».

وقد تقدّمت الإشارة في قوله تعالي حول مريم: «وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ» «3»

، أنّ مقتضي المقابلة بين الكلمات والكتب قرينة علي إرادت الحجج المصطفين الذين منهم النبيّ عيسي عليه السلام، كما ورد عين هذا التعبير في قوله تعالي لزكريا «أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَي مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ» «4»

، أي مصدّقاً بالنبيّ عيسي، نظير التعبير بمريم: وصدّقت بكلمات ربّها، فكلمات اللَّه وكلمة الربّ تطلق علي كلّ من اصطفاه اللَّه من أولياءه الحجج، سواء جعله نبيّاً رسولًا أو جعله إماماً للناس خليفة له في أرضه، فلا مجال للإنكار ولا للتنكّر عن هذه المعارف القرآنية؛ إذ عيسي حُبي بهذه الحبوة وهو كونه كلمة، وهذه الحبوة ليست من مناصب خصوص النبوّة ولا من حالاتها، وإنّما هي من شؤون عموم الاصطفاء والجعل الإلهي.

قوله تعالي: «إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَي ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ* قَالَ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» «5»

، طلب عيسي من اللَّه سبحانه أن يُنزّل مائدةً من السماء اطمئناناً

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 572

لقلوب الحواريين وقد استجاب اللَّه لسؤاله وأكرمه بنزول المائدة، فكانت تلك المائدة كرامةً لعيسي بن

مريم عليه السلام، علماً أنّ هذه الكرامة ليس لخصوص منصب كونه نبيّاً ورسول اللَّه، بل لكونه حجّة إلهية، وبذلك فقد ألقي اللَّه حجّته علي الحواريين بحجّية عيسي بن مريم، علي أنّ الحجّية كلّما اشتدّت كلّما اشتدّت العقوبة واشتدّ تنجيزها.

قوله تعالي: «وَلَمَّا جَاءَ عِيسَي بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» «1»

، قد تفسّر البينات بالمعجزة، إلّاأنّ المعجزة مشتركة مع جميع الأنبياء، فلا يبعد أن تكون البينات منزلة إلهية غير أصل معجزة النبوّة، والقرينة علي ذلك هو مجيئه بالحكمة، فهو إشارة إلي خصوصية اختصّ بها عيسي إضافة لنبوّته.

والعامّة لا يثبّتون للنبيّ من وراء نبوّته مقاماً آخر، وهذه مشكلة تُضاف إلي الأذهان لتتبلّد عن معرفة النبوّة ومقاماتها الإلهية وكراماتها من اللَّه تعالي.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 573

القائمة الثالثة معجزات الأنبياء … ص: 573

إنّ الهدف من المعجزات هو التصديق والإذعان والإخبات لنبوّة النبيّ الذي يأتي بالمعجزة.

فإتيان موسي عليه السلام بتسع آيات أي معجزات فكلّما أتي بمعجزة ورأوا العذاب قد حلّ بساحتهم، سألوا موسي أن يرفع اللَّه عنهم ما أصابهم حتّي يؤمنوا لمّا شاهدوا من الحقّ، فإذا رُفع عنهم العذاب رجعوا إلي ما هم عليه من التكذيب والبهتان. وهكذا تستمر المعجزة باستمرار الحاجة في التصديق وإلقاء الحجّة علي القوم الذين يأتيهم إنذار من اللَّه تعالي. والمعجزة من سنخ الهداية الإيصالية لا الإرائية المحضة.

وهكذا في جميع الأنبياء تُلاحظ حالات الإعجاز المتواترة المستمرّة. كما أنّ المعجزة ليست إلّاما عجزت جميع البشرية عن إتيان مثلها، فتحدّي صالح عليه السلام قومه بإتيان ناقة من الجبل لا يعني تحدّ لقوم صالح وحدهم، بل إنّ التحدّي هذا مستمرّ علي مدي استمرار البشرية قاطبة وإلي أبد الآبدين.

فالخطاب والتحدّي عام شامل، فالمعجزة هو التحدّي لإقرار ادّعاء

منصب إلهي.

كما أنّ المعجزة شرطها مقام التحدّي فضلًا عن كونها حبوة، إلّاأنّ الإعجاز استمراره قائم إلي اليوم، وسرّ ذلك أنّ آيات اللَّه باقية حتّي اليوم والكلام في المقام

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 574

هو كون البينات والآيات المتولّدة من المعجزة سواء كانت علمية أو تكوينية استمرارها وقابلية تحدّيها إلي اليوم.

وخصائص القرآن الإعجازية أنّه علمي، أي أنّ المعجزة القرآنية في عين أنّه علم فهو قدرة إعجازية غيبية.

ثمّ هل أنّ التصديق من سنخ الهداية الإيصالية أم الهداية الإراءية؟

والهداية الإراءية معرفة المطلب وتشخيصه والتنجيز وإقامة الحجّة، أما الإيصالية فهي الإيصال إلي الهدف. والإمامة هي هداية إيصالية، والذي يدلّل علي أنّ الأنبياء المرسلين كلّهم اشتملوا علي مقام آخر وهو كونهم أئمّة هداة:

«وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا» «1»

، هو إتيان الأنبياء للمعاجز، إذ هو دالّ علي أنّ هناك غرض إلهي وهو الهداية الإيصالية، فالهداية الإيصالية هي محطّ غرض إلهي وهي الإمامة، وحينئذٍ فإنّ هذه المعاجز هي في صدد الهداية الإيصالية، وبمعني آخر: فإنّ المعاجز لا يقتصر غرضها علي الإرادة والهداية الإراءية وإقامة الحجّة فقط كما اشتهر عند المتكلّمين.

بل إنّ غرضها هو الهداية الإيصالية، كذلك هي الإمامة، وممّا يعزّز ذلك ما أشرنا إليه في مواضع متعدّدة من أنّ المعجزة ليست مجرّد برهان من العلم الحصولي كما اشتهر عند المتكلّمين، بل هي برهان عياني من العلم الحضوري؛ إذ في المعجزة يدرك ويلمس من يُحتجّ عليه بها لمعان الغيب ويشهد رفع الستار عن وجه من القدرة الغيبية، ومن ثمّ صحّ ممّن احتجّ عليه بالمعجزة أن يشهد ويتشهّد بمؤدّي المعجزة، أي بالأمر الذي أُريد إثباته بالمعجزة، كما يتشهّد المؤمن بالشهادتين وبالشهادة الثالثة، حيث إنّ ذلك التشهّد ليس استعمالًا مجازياً

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 575

ولا إقراراً لسانياً كلقلقة محظة،

بل هو إخبار قطعي وإنباء عمّا أدركه شهوداً.

ولا سبيل للمؤمن لشهود التوحيد والنبوّة والإمامة والمعاد إلّابعيان الأدلّة الإعجازية سواء العلمية أو الآيات الخارجية: «لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان» «1»

. ومن ثمّ أجاز النبيّ صلي الله عليه و آله شهادة خزيمة بن ثابت فسُميّ بذي الشهادتين.

وعلي ضوء ذلك فإنّ من شأن المعجزة الجذب والهداية الموصلة إلي المطلوب من دون إلجاء، فدور النبوّة هو الاحتجاج بتوسّط التعريف بالغرض والغاية، في حين أنّ الإمامة هي إيصال للغرض، كما في قوله تعالي: «إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ» «2»

، فالمنذر هو معرّف للغرض، والهادي هو الموصل بالهداية الإيصالية إلي الغرض. ومعني ذلك أنّ الإراءة والبيان من صنع اللَّه تعالي، أمّا الإيمان- أي التصديق- فهو من فعل البشر، فالنبيّ الباطن هو العقل النظري، إلّا أنّ العامّة تري أنّ النبوّة هي مجرّد إراءة وبيان وليس أكثر من ذلك.

فالمعاجز دالّة علي أنّ أصحابها لهم مقام الإمامة والتي هي هداية إيصالية دائمة متواجدة، وكونها أحد الأغراض الإلهية الهامّة في بعثة الأنبياء.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 577

القائمة الرابعة مؤدّي السنّة الإلهية في معاجلة العذاب للأمم … ص: 577

وهو مسلسل العذاب والعقوبات التي تطال الأُمم في دار الدنيا، وهذا المسلسل يطالعنا فيه القرآن الكريم في موارد عدّة، مثل قوم لوط وعاد وقوم ثمود وصالح وموسي.

ومسلسل هذا العذاب في صوره العديدة التي يحكيها القرآن الكريم قد رُفِع عن أُمّة محمّد صلي الله عليه و آله سواء كان المسخ أو غيره، إلّاأنّ بعض صوره الأُخري تراودها وتعاقب بها، من قبيل الأمراض والفتن وغيرها، فضلًا عن الكوارث الطبيعية كالفيضانات والزلازل وغيرها.

وإنّ الإرادة التشريعية الإلهية للأُمم لم يكتفِ اللَّه تعالي بتنظيرها اعتباراً، بل أراد تحقّقها في النشأة الدنيوية، واللَّه تعالي يعالج بعضهم بالعذاب والغرض منه

إنجاز الهداية الإيصالية، والقرآن يصرّح في سورة الفجر بهذه الحقيقة بقوله تعالي:

«أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ* إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ* الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ* وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ* وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ* الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ* فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ* إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ» «1»

، أي أنّ استمرار المراقبة والرقابة الإلهية المستمرّة لمنع الفساد والطغيان في الأرض.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 578

وكذا في سورة الحشر في إجلاء أهل الكتاب: «وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ* ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» «1»

، فعلّل معاجلة العذاب لهم في الدنيا بمشاققتهم للَّه ولرسوله، وأنّ هذا سنّة إلهية، وهذا نظير اعتراض الملائكة علي اللَّه تعالي عند خلق الإنسان بأنّه يريد هلاك الحرث والنسل وسفك الدماء، ولكن الباري عزّوجلّ أنبأهم بالواقع وبخلاف ما ظنّوه وهو خلاف ما اعتقدوه؛ إذ من هذا البشر سيكون أولياء وأنبياء وصلحاء، يهدون إلي الخير والوصول إلي الهداية الإيصالية فضلًا عن الهداية التشريعية.

وإنّ الهداية الإيصالية هي من غايات الهداية التشريعية وأن يكون المجتمع البشري مجتمعاً فاضلًا تكاملياً وإصلاحياً لجميع البشر، والوصول إلي الحقيقة وهي العبودية الخالصة للَّه عزّوجلّ والوصول إلي الأهداف والأغراض المطلوبة، هذا مضافاً إلي أنّ فريضة الإيمان بالمعاد الغرض منها هو التحرّك والحركة إلي الهداية الإيصالية فإنّ الإيمان بالمعاد هو لغرض الوصول إلي الغاية الحقيقية وهو الهداية الإيصالية، فكون المعاد ضرورة، بمعني أنّ الأُمور ليست من دون علّة غائية وغرض نهائي.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 579

القائمة الخامسة مسلسل سيرة حكومة النبيّ صلي الله عليه و آله في القرآن … ص: 579

إنّ هذا المسلسل في سيرته صلي الله عليه و آله- خصوصاً في السور المدنية حيث نلاحظ سلوكياته وتصرّفاته السياسية والاجتماعية وغيرها- هي

من نمط الهداية الإيصالية التي هي من نمط الإمامة.

فجانب منها في القضاء، كما في قوله تعالي: «وَإِذَا دُعُواْ إِلَي اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ» «1»

، وقوله تعالي: «إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَي اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «2»

.وجانب آخر في تدبيره للأموال العامّة، كقوله تعالي: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» «3»

وقوله تعالي: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَي» «4»

.أمّا الجانب السياسي والتنظيم الحربي فلقوله تعالي: «وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَي سَوَاءٍ» «5»

، وقوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً» «6»

، وقوله تعالي: «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 580

لَهَا» «1»

، وقوله تعالي: «مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَي حَتَّي يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ» «2».

وقوله تعالي: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَي إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا اخِذَ مِنْكُمْ» «3»

، وقوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ» «4»

، وقوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ» «5»

، وقوله تعالي: «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّي يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ» «6».

أمّا الجانب الاجتماعي والتقنين الأُسري فلقوله تعالي: «فَلَمَّا قَضَي زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَايَكُونَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ» «7».

وفي الجانب الأمني قوله تعالي: «لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَي التَّقْوَي مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ» «8».

فضلًا عن الآيات التي تحدّثت عن إقامة أحكام الحدود مثل الزنا

والسرقة وغيرها.

كما أنّ الولاية العامّة وغيرها ليست مرتبطة بالنبوّة، بل بإمامته وولايته صلي الله عليه و آله؛ لقوله تعالي: «النَّبِيُّ أَوْلَي بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» «9»

، بيان صلاحيته صلي الله عليه و آله في إقامة المعاهدات مع أهل الكتاب أو قتالهم وحقوق المسلمين وما يتعلّق بشؤونهم.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 581

إذن فالموارد التي مارسها النبيّ صلي الله عليه و آله وأقام في حكومته بإجراءاتها وتنفيذ الإرادة الإلهية فيها، أشار إليها القرآن بذكر بعض تفاصيلها فضلًا عن الإشارة إلي أحكامها.

وإنّ أوامر اللَّه تعالي للنبيّ صلي الله عليه و آله التي وردت في القرآن الكريم كانت بمستوي التنفيذ والتنجيز لا التنظير الكلّي فقط، وهي تشريعات لإقامة الدولة، حتّي أنّ المسلم ليشعر أنّ الإسلام له دخل في كلّ تفاصيل حياته اليومية فضلًا عن كلّيات أحكامها، والنبيّ صلي الله عليه و آله كان أوّل مصداق في تطبيق هذه العلاقة القرآنية.

وبعبارة أُخري: أنّ أسباب النزول في التشريعات القرآنية في دولة الرسول وحكومته ليس مفاد سبب النزول وثمرته التي هي بيان المعني الكلّي للتشريع وتوضيحه فقط، بل هناك بعد هام بالغ الخطورة أيضاً في معني سبب النزول لتلك التشريعات القرآنية: هو أنّ تلك الموارد لأسباب النزول تصدّي من اللَّه تعالي لتدبير الحكم السياسي في المجالات المختلفة بإرادة إلهية لا بإرادة نبويّة.

فمن ثمّ التصرّف الحكومي والحاكمي يسند إليه تعالي، فالحاكم الأوّل في حكومة الرسول صلي الله عليه و آله لم يكن النبيّ صلي الله عليه و آله، بل هو اللَّه تعالي يتصدّي في المنعطفات الخطيرة السياسية والعسكرية والاقتصادية والأمنية وغيرها في دولة وحكومة الرسول صلي الله عليه و آله، والحاكم الثاني هو الرسول صلي الله عليه و آله، وكذلك الحال في حكومة أمير المؤمنين

عليه السلام فإنّ الحاكم الأوّل في المنعطفات الخطيرة هو الباري تعالي ثمّ الرسول صلي الله عليه و آله، عبر ارتباط أمير المؤمنين بالغيب بالعلم اللدني، والحاكم الثالث هو أمير المؤمنين كما في الأمر بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين في برنامج حكومته عليه السلام، وكذلك في حكومة الحسنين عليهما السلام علي العراق، وكذلك في حكومة الإمام المهدي (عج)، وحكومة سائر الأئمّة، فيستشهد بسيرة دولة الرسول في آيات القرآن علي أنّ الحاكمية السياسية في التفاصيل الخطيرة كانت بعهدة الباري تعالي.

وذلك أنّ ممارسة القضاء وإدارة السياسات المالية والاجتماعية وغيرها هي من قبل اللَّه تعالي وثانياً النبيّ صلي الله عليه و آله؛ إذ ولاية الرسول صلي الله عليه و آله التي من خلالها يمارس صلاحياته في الحكم والقضاء هي فرع ولاية اللَّه تعالي، فالحكم الجزئي التنفيذي الإجرائي فضلًا عن الكلّي هو من قبل اللَّه تعالي.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 582

ففي دولة الرسول الحاكم المباشر لا بمعني التجسيم والتشبيه، بل بمعني أنّ إرادته تعالي تتنزّل علي رسوله صلي الله عليه و آله فينفّذها من دون أن يكون التصرّف الحكومي منبعثاً من إرادة الرسول صلي الله عليه و آله، فإرادة اللَّه تعالي متنزّلة في القرارات الجزئية التفصيلية من معاهدات وحروب وعلاقات كذلك.

والإمامية تستشهد بذلك علي الإمامة، وهل أنّ اللَّه تعالي يعمل حاكميته السياسية في فترة معينة دون غيرها من الفترات بغضّ النظر عن ولايته تعالي التكوينية؟

فإذا كان المصدر الرئيسي للأحكام الجزئية التنفيذية التفصيلية في المنعطفات الخطيرة وممارستها من قبل اللَّه تعالي، فهل هذه الممارسة هي لفترة محدودة تقتصر علي الحقبة النبويّة المباركة- أي من خلال وجوده الشريف فقط- دون فترة ما بعد رحيله الشريف، ثمّ تنقطع بعد ذلك ولاية اللَّه تعالي في الإشراف

السياسي وتلغي؟ أم لابدّ لولاية اللَّه تعالي من الاستمرار والدوام والبقاء؟

فإن قلنا بالأوّل- وهو انقطاع ولايته تعالي عند وفاته صلي الله عليه و آله- ألزمنا أنفسنا بالتعطيل وانحسار إرادته تعالي، ومن ثمّ عجزه- والعياذ باللَّه- عن الأمر، وبالتالي عزل إرادته عن الحاكمية علي خلقه، تعالي اللَّه عن ذلك علوّاً كبيراً، وقد قال تعالي: «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» «1»

، وأنكر علي اليهود قولهم: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ» «2»

، فيد تصرّفه تعالي مبسوطة لا مغلولة.

وإذا أخذنا بالقول الثاني وهو استمرار ولايته وبقاؤها فعن أي طريق تمرّ وتتنزّل إرادته وولايته تعالي، ومن أي قناة ستكون؟ إذ هو تعالي لا يُحسّ ولا يُجسّ ولا يُجبه.

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 583

فالقول بولايته تعالي في الحاكمية السياسية في النظام البشري إذن يلزم منه القول بوجود المعصوم في كلّ وقت وفي كلّ زمان، وهو معني قوله تعالي بنحو دائم كلّي عام: «إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» «1»

، وقول أمير المؤمنين عليه السلام: «إنّ الأرض لا تخلو من حجّة»، فالحجّة هنا هي القناة المعصومة التي من خلالها إمرار ولايته تعالي وإنفاذها علي الخلق، وهو ما يدعو إلي القول بوجود الإمام المعصوم في كلّ آن من آنات الخلق، فهو سفير اللَّه في خلقه.

ولذلك يطالعنا القرآن الكريم بسيرته صلي الله عليه و آله، ويضيف إلي ذلك سيرة الأنبياء الباقين في تأسيس الدولة، كما في سيرة موسي وسليمان وداود وطالوت وذي القرنين، فقد أقاموا دولهم وشكّلوها بأمر إلهي صرف استعرض بعض جوانبها القرآن الكريم.

فمباشرة اللَّه تعالي للتفاصيل السياسية في حاكمية التدبير لجزئيات الأُمور نصّ عليها القرآن الكريم، كما في قوله تعالي: «إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ»، إذ هذا الاختبار لأصحاب

طالوت ليس باختياره، بل هو بأمر اللَّه تعالي كما في غيرها من موارد أحكام الأنبياء، إلّاأنّ سيرة النبيّ صلي الله عليه و آله تلاحظ بشكل أكثف وأكبر تركيزاً علي مستوي آيات القرآن الكريم.

وهنا تنبيه يجدر الإشارة إليه: وهو أنّ بعض المفسّرين لم يبلوروا ويميزوا بين التشريع والتنزيل، وبين مورد النزول ومورد التنزيل، إذ جعلوا مورد النزول والتنزيل مجرّد شاهد ومبيّن لمعني التنزيل الكلّي أي التشريع العام لا أكثر من ذلك، وهذا بخس في حقيقة التنزيل.

فالمفسّرون فهموا أنّ التنزيل دوره تفسيري إيضاحي للآية دون أن يكون له

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 584

دور آخر، في حين أنّ التنزيل هو نوع ممارسة فعلية لحاكمية اللَّه تعالي السياسية في الجزئيات التفصيلية وسلطته السياسية، وهذا مفاده غير مفاد التشريع، وقد ذهب أهل سنّة الجماعة إلي هذه الشبهة التي تؤول إلي ما اعتقده اليهود من أنّ اللَّه تعالي شرّع فقط ولم يمارس الحاكمية والسلطة السياسية التفصيلية في تدبير النظام السياسي الاجتماعي والحكم التنفيذي، وهو قوله تعالي: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ» «1»

، فالتعطيل الذي تصوّرته اليهود في حقّه تعالي، قد انجرّ إلي بعضهم حتّي عطّلوا إرادته؛ إيهاماً منهم بأنّ اللَّه تعالي لم يمارس ولايته إلّافي حدود التشريع فقط، أي في السلطة التشريعية دون السلطة السياسية التنفيذية والقضائية.

في حين أنّ متابعة سريعة لآيات القرآن الكريم يجد من خلالها الباحث أنّ وقائع قرآنية سواء التشريعية أو المالية أو السياسية أو القضائية وغيرها لم تنفرد فيها إرادة النبيّ صلي الله عليه و آله دون إرادة اللَّه تعالي.

فالتنزيل إذن ليس هو تنزيل لألفاظ التشريع الكلّي فقط لا غير، بل هو أحد جهاته، والتنزيل حقيقة هو

إعمال ولايته تعالي السياسية المباشرة علي جميع الدقائق والجزئيات التفصيلية الخطيرة في منعطفات الحياة الاجتماعية السياسية.

كما أنّ التنزيل هو تطبيق التشريع الكلّي علي مصاديقه، أي استمرار حاكمية اللَّه تعالي السياسية التفصيلية في كلّ الموارد.

ثم إنّ التنزيل والتأويل كلّ منهما انطباق الحكم الكلّي علي مصاديقه، إلّاأنّ الفرق بينهما أنّ التنزيل هو بدء نزول الأحكام، والتأويل هو استمرار نزول الأحكام.

فحاكمية اللَّه تعالي هو تنزيل إرادته في تفاصيل الجزئيات الخطيرة، إذ لا تستند

الامامة الالهية(5)، ج 3، ص: 585

إلي النبيّ أو الوصيّ عليهما السلام، وهذه موجودة في كلّ دول الأنبياء كما في دول موسي وسليمان وداود، إذ هم محطات، وطالوت، وهذه الإرادة الإلهية تمارس من قبل المعصوم عليه السلام، وحيث ورد أنّهم أوعية لمشيئات اللَّه تعالي، ممّا يعني أنّ الإرادة الكلّية تتوزّع وتتفصّل علي كلّ الإرادات الجزئية، وهذا هو التأويل أي أوْل الإرادات الجزئية إلي الإرادة الإلهية الكليّة، أي رجوع كلّ الإرادات إلي الإرادة الإلهية وطريقها المعصوم عليه السلام الذي تمرّ من خلاله إرادات اللَّه تعالي.

هذا هو تفسير نظرية الإمامة حيث تظهر من خلالها أهمّ مظاهر التوحيد وهو التوحيد في الولاية، فالاعتقاد بالنبوّة والرسالة توحيد في التشريع والاعتقاد بالإمامة توحيد في الولاية، فأصول الدين كلّها أبواب للتوحيد حتّي الإيمان بالمعاد توحيد في الغاية «إنا للَّه وإنا إليه راجعون»، فالإمامة توحيد في السلطة والحاكمية في النظام السياسي الاجتماعي، وذلك من خلال إرجاع كلّ الجزئيات التفصيلية الخطيرة في تدبير النظام البشري لإرادة واحدة تمثّل وحدة المرجع الربوبي عن طريق قناة معصومة يمثّلها الإمام، ممّا يعني أنّ هناك منصب غير منصب النبوّة يتمّ من خلاله تدبير الشؤون الكلّية والجزئية، وهي نوع إعمال للإرادة الإلهية القاهرة.

كان النبيّ صلي الله عليه و آله له ذلك المنصب

وهو الإمامة، ولابدّ من استمراره من بعده إلي يومنا هذا، بل إلي يوم القيامة؛ لضرورة استمرار ولاية اللَّه تعالي في الحاكمية والسلطة السياسية علي البشر، وفي زماننا هذا هو الإمام المهدي (عج)، حيث يدبّر ويدير النظام البشري عبر خفاء الغيبة وسريتها إلي أن يئنّ آن الإعلان والظهور.

إلي هنا تم الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع بإذن اللَّه تعالي وهو المستعان وله المنّة والفضل والحمد للَّه أوّلًا وآخراً.

الجزء (4)

تقديم … ص: 5

بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ أحد أبواب عبادة اللَّه تعالي نظير الصلاة والصوم والدعاء والذكر ونحوها من أنواع وأجناس وأصناف العبادات وهو التوسّل إليه تعالي بأصفيائه وبالذين أخلصهم بقرباه.

فإن التوسّل إليه بهم، نحو زلفي وقربي إليه تعالي، فإن المتوسل يعطف بزمام قلبه إلي وجه اللَّه تعالي، وإن كان «سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ* وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَي النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَي عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَي الَّذِينَ هَدَي اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ* قَدْ نَرَي تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ* وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ* الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ

الْحَقَّ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 6

وَهُمْ يَعْلَمُونَ* الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ* وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَي كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ» «1».

فإن القبلة ليست إلّاوسيلة للتوجه بها إليه تعالي، «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَي الْمَالَ عَلَي حُبِّهِ» «2».

«وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَاْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَي وَاْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا» «3».

فالقبلة ليست هي المعبود وإنما هي وجهة يتوجّه بها إليه تعالي، ومن ذلك صار آدم صفيّ اللَّه قبلة للملائكة وسجودهم للَّه تعالي في قوله تعالي: «وَإِذ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِادَمَ» «4»

ومن ذلك صارت بيوت موسي كليم اللَّه تعالي قبلة لبني إسرائيل في صلاتهم للَّه تعالي «وَأَوْحَيْنَا إِلَي مُوسَي وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاة وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» «5»

ومن ذلك قوله تعالي: «إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ» «6»

، «فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَي يُوسُفَ آوَي إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 7

ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ* وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَي الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا» «1».

«لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَي وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» «2».

وقد روي النسائي والترمذي في حديث الأعرابي أن النبي صلي الله عليه و آله علّمه قول:

«يا محمّد إني توجّهت بك إلي اللَّه» «3».

وروي الترمذي وابن ماجة حديث عثمان بن حُنيف، إن رجلًا ضرير البصر أتي النبي صلي الله عليه

و آله فقال: ادع اللَّه أن يعافيني، فقال النبي صلي الله عليه و آله:

«إن شئت صبرت فهو خير لك، وإن شئت دعوت»، قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ ويدعو بهذا الدعاء: «اللهمّ إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلي ربي في حاجتي ليقضيها، اللهمّ شفّعه فيّ». ورواه النسائي وصححه البيهقي، وزاد: فقام وقد أبصر «4».

ومن ذلك يتبين أن التوجّه بالنبي صلي الله عليه و آله والاستشفاع به والاستعانة به إليه تعالي وتقديمه بين يدي الحاجة إليه تعالي، وتوسيطه هي عناوين موازية للتوسل به صلي الله عليه و آله إلي اللَّه تعالي، وقد قال تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 8

الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) «1»

، وقال تعالي: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا» «2».

فأمر بابتغاء الوسيلة إليه تعالي، وقد عيّن تلك الوسيلة وهي التوجّه في الاستغفار والتوبة والأوبة بالرسول صلي الله عليه و آله وأن استغفار النبي صلي الله عليه و آله وتشفعه دخيل في توبة اللَّه تعالي عليهم ورحمته لهم.

وقال تعالي: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكّيِهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» «3»

فجعل دعاء النبي صلي الله عليه و آله لهم دخيل في حصول السكينة والإيمان والطهارة لهم، وقوله تعالي: «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ» «4»

، وهذا نظير ما قاله تعالي في قصّة اخوة يوسف عليه السلام «قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ* قَالَ لَاتَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» «5»

وقوله تعالي: «قَالُوا

يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ* قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» «6»

، وقوله تعالي في شأن قوم موسي عليه السلام: «فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ» «7»

، وقوله تعالي في شأن قوم فرعون مع النبيّ موسي عليه السلام: «وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَي ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 9

عِنْدَكَ» «1»

، وقوله تعالي في شأن النبيّ عيسي عليه السلام: «اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ وَجيِهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ» «2»

، وقوله تعالي في شأن النبيّ موسي عليه السلام:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَي فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا» «3».

والوجيه في اللغة والمعني هو ذو الحظوة والقرب مما يتوجّه به إلي اللَّه تعالي ويتوسّل به إليه.

وقال اللَّه تعالي: «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَي» «4»

، المفسَّر بمقام الوسيلة والشفاعة، كما في الدعاء المأثور «اللهمّ ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمداً صلي الله عليه و آله الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته وارزقني شفاعته يوم القيامة».

ومن ذلك ينجلي أن الإيمان بمقام الشفاعة له صلي الله عليه و آله يلازم الايمان بالتوسل، لأن التوسّل به صلي الله عليه و آله ينطوي علي تشفّعه بقضاء الحاجة لديه تعالي، فالاعتقاد بالشفاعة دليل رجحان التوسّل «لَايَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَي» «5»

، «لَايَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا» «6»

، فإذنه تعالي في الشفاعة متطابق مع أمره تعالي، «وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ» «7»

، أي بالتوسل إليه تعالي بالوسائل الشافعة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 10

لديه، فالتوسل والاستشفاع به صلي الله عليه و آله إلي اللَّه هو دعاؤه تعالي، والوسائل التي أذن تعالي أن يدعي بها هي أبواب لدعوته

جلّ وعلا، لا دعوة من دونه.

وروي الحاكم في مستدركه أن آدم لما اقترف الخطيئة قال: يا ربي أسألك بحق محمّد صلي الله عليه و آله لمّا غفرت لي، فقال: يا آدم كيف عرفت؟ قال: لأنك لما خلقتني نظرت إلي العرش فوجدت مكتوباً فيه: لا إله إلّااللَّه محمّد رسول اللَّه، فرأيت اسمه مقروناً مع اسمك، فعرفته أحبّ الخلق إليك «1».

وروي البخاري، عن أنس أن عمر بن الخطاب كان إذا أقحط الناس استسقي بالعباس فقال: اللهم إنا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعمّ نبيك، ونستشفع إليك بشيبته، فسُقوا. «2»

وروي أحمد بن حنبل أن عائشة قال لها مسروق: سألتك بصاحب هذا القبر ما الذي سمعت من رسول اللَّه؟ يعني في حق الخوارج قالت: سمعته يقول: إنهم شرّ الخلق والخليقة، يقتلهم خير الخلق والخليقة، وأقربهم عند اللَّه وسيلة. «3»

وروي في كنز العمال عن عليّ عليه السلام أن يهودياً جاء إلي النبيّ صلي الله عليه و آله فقام بين يديه وجعل يحدّ النظر إليه، فقال: يا يهودي ما حاجتك؟ فقال: أنت أفضل أم موسي؟

فقال: له: إنه يكره للعبد أن يزكي نفسه، ولكن قال اللَّه تعالي: «وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ» «4»

، إن آدم لما أصابته خطيئته التي تاب منها كانت توبته: «اللهمّ اني

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 11

أسألك بمحمد وآل محمد لمّا غفرت لي»، فغفر له. «1» ويشير صلي الله عليه و آله إلي قوله تعالي: «فَتَلَقَّي ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» «2».

وقد أطلق القرآن الكلمة علي المقربين عنده تعالي، كما في قوله تعالي: «إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ» «3»

، وقال تعالي: «أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَي مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ»

«4».

وكيف لا يكون آل محمد عليه السلام وسائل الدعاء إلي اللَّه تعالي وقد حباهم اللَّه تعالي بالزلفي، واجتباهم وحظاهم بأنعمه الخاصة، وجعلهم السبيل إليه تعالي، فقال: «قُلْ لَاأَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي) «5»، وقال: (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ» «6»

، وقال: «قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَي رَبِّهِ سَبِيلًا» «7».

فمودّتهم سبيل إليه، وهم الوسيله للتوجه إليه تعالي، وقد أبان قربهم إليه من بين الأمة ومزيد عنايته بهم، حيث قال: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً» «8».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 12

ثم لا يخفي أن التوسّل والاستشفاع بالمقربين إلي الباري تعالي، هو من آداب الدعاء والتوجّه إلي الحضرة الإلهية، فإننا كما نتوجه بجسمنا في الصلاة إلي المسجد الحرام والكعبة بقصد التوجّه الحقيقي بقلوبنا إلي اللَّه تعالي، فليست الكعبة إلّاوسيلة للتوجه إليه تعالي، ومن شرائط عبادته تعالي، فهذا يفصح عن دور الوسيلة والوسائل في التوجّه والدعاء، مع أن الشأن أينما تولّوا فثمّ وجه اللَّه، لكن ذلك لا ينفي خصيصة المسجد الحرام والكعبة المشرّفة، ألا تري أن الباري تعالي جعل آدم صلي الله عليه و آله قبلة لسجود الملائكة مع كون السجود هو للَّه تعالي، ولم يقبل من إبليس اللعين السجود للَّه تعالي من دون أن يتّخذ آدم قبلة يتّجه بها إليه تعالي، وكرّر تعالي هذه الواقعة في سبع سور قرآنية، كل ذلك لأجل أن يبين تعالي أن من آداب عبادته تعالي ودعائه التوجّه إليه بأوليائه المقربين، وأن هذا الأدب اللازم هو نمط من التعظيم للَّه تعالي، كما هو الشأن في الكعبة المشرّفة والبيت الحرام، فقد جعل تعالي لهما حرمة وتقديس، وجعل حرمتهما وتعظيمهما من حرمته وتعظيمه،

وقال تعالي: «وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَي الْقُلُوبِ» «1».

ولا يخفي علي الفطن اللبيب أن مقتضي قوله تعالي: «قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ* وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَي النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَي عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَي الَّذِينَ هَدَي اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ* قَدْ نَرَي تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 13

وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ* وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ* الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ* الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ* وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا» «1».

وقوله تعالي: «وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» «2».

إن فعله تعالي وخلقته وجهاً وآية له تعالي، فإن مخلوقية ما في الشرق وما في الغرب، أي ما في الكون أجمع آيات تتجه بالمتدبّر فيها إلي اللَّه تعالي، فهي وجه له تعالي، والقبلة ما يقابل عند الاتجاه، وتولية الوجه جهة القبلة المقابلة بما هي رمز لوجهه تعالي، فكأنا نستقبل بتولية وجوهنا تجاه القبلة وجهه تعالي، إذ الاستقبال والمقابلة إنما تحصل بتوجه المستقبِل بالكسر بوجهه تجاه وجه المستقبَل بالفتح- فآياته الكبري سبحانه وجه له

تعالي، وكذلك كلماته التامات هي آياته، وهي وجهة له تعالي يتجه بها إليه، كما مرّ أن النبيّ عيسي عليه السلام كلمته وآيته «إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ وَجيِهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» «3»

، كما وصف بذلك النبيّ موسي عليه السلام «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَي فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 14

وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا» «1»

. فوجهه تعالي ليس ما يذهب إليه المجسمة الزائغة عن التوحيد من اثبات الجسم والأعضاء، تعالي اللَّه عن ما يقوله الظالمون علواً كبيراً، بل هو آيات خلقته التامة الدالة علي عظمته وكماله.

وإن التوجّه إلي أشرف مخلوقاته هو تولية لشطر الوجه نحو وجهه الكريم، وفي رواية الصدوق في أماليه في قصّة الشاب النبّاش للقبور، حيث كان يبكي علي شبابه بكاء الثكلي علي ولدها واقفاً علي باب رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، فأُدخل فسلّم فردّ صلي الله عليه و آله، ثم قال: ما يبكيك يا شاب؟ قال: كيف لا أبكي وقد ركبت ذنوباً إن أخذني اللَّه عزّ وجلّ ببعضها أدخلني نار جهنم ولا أراني إلّاسيأخذني بها، ولا يغفر لي أبداً، فأخذ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يسائله عن نوع معصيته، هل هي الشرك أو قتل النفس أو غيرها، إلي أن أقرّ الشاب بجنايته، فتنفّر نبي الرحمة من فظاعة جرمه، فذهب الشاب إلي جبال المدينة وتعبّد فيها، ولبس المسوخ، وغلّ يديه جميعاً إلي عنقه ونادي: يا ربّ، هذا عبدك بهلول بين يديك مغلول، يا رب، أنت الذي تعرفني، وزلّ مني ما تعلم يا سيدي، يا رب، إني أصبحت من النادمين، وأتيت نبيّك تائباً فطردني

وزادني خوفاً، فأسألك باسمك وجلالك وعظمة سلطانك أن لا تخيب رجائي سيدي، ولا تبطل دعائي، ولا تقنطني من رحمتك، فلم يزل يقول ذلك أربعون يوماً وليلة، وتبكي له السباع والوحوش، فأنزل اللَّه تبارك وتعالي علي نبيه صلي الله عليه و آله آية في توبته «الَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ» «2»

،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 15

ويقول عزّ وجلّ: أتاك عبدي يا محمد تائباً فطردته فأين يذهب وإلي من يقصد، ومن يسأل أن يغفر له ذنباً غيري، ثم قال عزّ وجلّ: «وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَي مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ* أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ» «1».

فجعل الباري الإتيان إلي نبيه وقصده إتيان إلي بابه تعالي وقصد إليه، ومن ثم قال تعالي في آية أخري: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا» «2».

اللهمّ إنا نسألك ونتوجّه إليك بنبيك نبي الرحمة، وإمام الهدي، وآله المطهّرين الذين أذهبت عنهم الرجس، وافترضت علينا مودتهم في كتابك، صلواتك عليه وآله، يا رسول اللَّه، يا رسول اللَّه، إنّا توجّهنا واستشفعنا بكم إلي اللَّه، فاشفعوا لنا عند اللَّه، فإنكم وسيلتنا إلي اللَّه، وبحبّكم نرجو النجاة، فكونوا عند اللَّه رجانا. عشّ آل محمّد عليهم السلام/ 1426 ه

محمّد سند

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 17

المقدمة: … ص: 17

الحمد للَّه ربّ العالمين والصلاة والسلام علي النبي الأكرم صلي الله عليه و آله و سلم وأهل بيته الطيبين الطاهرين.

إن هذا الكتاب يعدّ محاولة جادّة لدراسة عقيدة التوسّل ونظرية التوسيط، التي كانت ولا زالت مثار جدل ديني وبشري دائر بين ثنائية القبول والجحود.

والذي يطالع المسيرة التاريخية لهذه المسألة

جيّداً يجد أن الفكر البشري- الذي خاض صراعاً مريراً بين قوي الشرّ المتمثلة بالطغاة والجبابرة المستكبرين وبين قوي الخير التي قاد مسيرتها الأنبياء والأوصياء المصلحين آمن واعتقد بكافة أطيافه ومكوناته بضرورة التوسّل، وهكذا اتخذت البشرية لنفسها وسائط تربطها بربّها العلي العظيم، الذي لا يمكن الارتباط به ارتباطاً جسمانياً حسّياً ولا مواجهته مواجهة نفسية أو عقلية لعلوّه وعظمته تبارك وتعالي ولكن وللأسف نري أن القرآن الكريم بعد أن أرّخ تلك الملحمة صرّح بأن البشرية حادت عن طريق الصواب عندما حكّمت إرادتها علي الإرادة الإلهية والسلطان الإلهي، فأخطأت الأفراد والمصاديق الحقيقية لمتعلّق تلك العقيدة الفطرية، حيث آمنت تحكيماً لسلطانها بوسائل ووسائط موهومة اقترحتها من لدن ذاتها، محكّمة في ذلك هواها علي سلطان الربّ وإرادته.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 18

قال تعالي: «إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَي الْأَنْفُسُ» النجم: 23.

وفي الوقت ذاته نجد أن الآيات القرآنية كما سيتضح في فصول الكتاب- أكّدت ودعت وألزمت الخلق باتخاذ الوسائط الإلهية والآيات البينات والعلامات الشارعات والحجج الباسقات التي نصبها اللَّه عزّوجلّ لمخلوقاته وأمرهم بالتمسّك والتوسّل والتوجّه بها واللواذ واللجوء إليها والارتماء في أحضانها وحضرتها المشرّفة، من أجل التوصّل إلي بصيص عظمة اللَّه تعالي ونيل القرب منه وقبول وتحقّق العقيدة الصحيحة وارتفاعها بالعمل وتفتّح أبواب السماء لها بالآيات والحجج.

ولكن مع ذلك كلّه يُلاحظ أن كلاماً من هنا وهناك قد يطلقه بعض مَن لم يدرك حقيقة الأمر تقنيعاً لجحوده وتشويهاً لعقيدة التوسّل، حيث نجد أن أفراداً عندما جحدوا تلك العقيدة حاولوا أن يلصقوا تهمة الشرك وعبادة غير اللَّه تعالي بالمسلمين الذين آمنوا بعقيدة التوسّل وتعاطوا الوسائط وتوجّهوا إلي اللَّه تعالي بآياته

وحججه الكبري في عقيدتهم ودعائهم وعباداتهم.

ثمّ تفاقم الأمر حتي بلغ الحال ببعضهم أن حكم بكفر طوائف من المسلمين واستحلّ دماءهم لتوسّلهم وتوجّههم واستجارتهم بأنبياء اللَّه ورسله وخلفائه في الأرض.

واستمرت مسيرة الانحرف المقنّعة بشعارات التكفير حتي اتخذت لنفسها أثواباً جديدة تتناسب ومتطلبات العصر، حيث وصفوا عقيدة التوسّل بالتسوّل والاستجداء، وقالوا إن التوسّل بالأنبياء والرسل والأوصياء صنمية

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 19

وغلوّ في الأشخاص، وقد تناسوا أن هذه مقالة إبليس عندما أبي واستكبر بنفسه عن السجود إلي خليفة اللَّه وجعْله واسطة في نيل رضا الربّ عزّوجلّ، وأصبح بذلك مذموماً مدحوراً مطروداً عن ساحة الرحمة الإلهية.

خطّة البحث: … ص: 19

لا يخفي علي القارئ الكريم أن هذا الكتاب هو مجموع الأبحاث التي ألقاها علي جمع من طلبة العلم سماحة الاستاذ المحقّق آية اللَّه الشيخ محمّد السند، حيث قام بتسليط الضوء علي عقيدة التوسّل وبيان مساحتها ودائرتها ومنزلتها ودورها في منظومة العقيدة الإسلامية علي ضوء البيانات القرآنية المعتضدة بالعقل والسنّة النبويّة ومنهاج أهل البيت عليهم السلام.

وقد وفّقني اللَّه تعالي لتقرير هذه الأبحاث القيّمة فجاءت علي أربعة فصول وخاتمة.

أما الفصل الأول: فقد تركّز البحث فيه علي بيان حقيقة التوسّل في اللغة والاصطلاح، ثم إعطاء التصورات الصحيحة حول عقيدة التوسّل ودور الوسائط والوسائل والتوجّه إليها والتوسّل بها في العقيدة التوحيدية، وبعد ذلك تمّ التعرّض للأدلّة العقلية والتحليلية والتاريخية التي تنصّ علي ضرورة التوسّل بحسب الدائرة الكونية والأدبيات الدينية وتأريخ الأديان وأعراف العقلاء وشرعياتهم.

وأما الفصل الثاني: فقد تمحور البحث فيه علي الأدلّة والآيات القرآنية التي نصّت علي التشريع الإلهي لعقيدة التوسّل، حيث ميّزت الآيات القرآنية الوسائط والوسائل المستنكرة عن غيرها، وإن الشرك بالتوجّه إلي الوسيلة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 20

المقترحة والمخترعة من سلطان العبد ذاته، وأن التوحيد التامّ

بالتوسّل والتوجّه إلي آيات اللَّه وحججه التي أمر العباد باتخاذها وسيلة، والإعراض عن هذه الوسائط والاستكبار والصدّ عنها غلق لأبواب السماء وحبط للأعمال وطرد وإبعاد عن رحمة اللَّه تعالي.

وأما الفصل الثالث: فقد تمّ التعرّض فيه إلي ضرورة وشرطية ولا بدّية التوسّل في صحة العقيدة وسائر العبادات وكذا شرط في نيل المقامات الإلهية والمنح الربّانية، واستدللنا علي ذلك بالآيات الصريحة التي تنصّ علي أن التوسّل والتوجّه بالحجج الإلهية ليس أمراً راجحاً بيد العبد فعله أو تركه، بل هو أمر حتمي وضروري لابدّ منه، ومن دونه تكون أبواب السماء مقفلة بوجه العقيدة والعبادة ونيل المقامات ودرجات القرب.

وفي الفصل الرابع: تم التعرّض لأهم الشبهات التي ذُكرت حول التوسّل مع الإجابة عنها.

وأما في الخاتمة: فقد ذكرنا بعض الروايات التي وردت في مجامع أهل سنة الجماعة، التي تنصّ علي مشروعية التوسّل وضرورته، وكذا ذكرنا بعض كلمات أعلام السنّة حول التوسّل.

وختاماً أتوجّه إلي اللَّه عزّوجلّ بنبيه الأكرم صلي الله عليه و آله و سلم وأهل بيته الطاهرين أن يحفظ شيخنا الاستاذ وأن يتقبّل منه ومنّا هذه البضاعة إنه نعم المولي ونعم النصير.

الشيخ قيصر التميمي

25/ ذي القعدة/ 1426 ه

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 21

الفصل الأوّل … ص: 21

اشارة

1- تمهيد 2- التوسّل في اللغة والاصطلاح 3- التوسّل عبادة توحيدية 4- الأدلّة العقلية والتاريخية 5- الأدلّة التحليلية

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 23

تمهيد … ص: 23

إنّ مبدأ التوسّل والدعاء وطلب الشفاعة والاستغاثة بالنبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام من المبادئ الأصيلة والأساسية في الدين التي دلّ علي مشروعيتها وضرورتها صريح العقل والقرآن الكريم وروايات المعصومين عليهم السلام.

ولقد آمن بهذه العقيدة في الإسلام عموم المسلمين بكافّة فرقهم وطوائفهم، حيث أن سيرتهم جارية علي اللجوء إلي ساحة النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام.

ولكن حاول البعض تبعاً لمنهج الجحود والجاحدين بذريعة وغطاء وقناع التكفير والمكفّرين- أن يُلصق تهمة الشرك والكفر بهذه العقيدة الإسلامية، حيث تحايل لجحوده بأن ادّعي أن التوسّل من أصناف الشرك في العبادة، وزعم أن الآيات والروايات دالّة علي ذلك.

ونحن قبل الشروع في ذكر ما استعرضوه من أدلّة وشبهات والإجابة عنها، لابدّ من بيان ما هو الحقّ في المسألة، وذلك عن طريق إعطاء التصوّرات

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 24

الصحيحة والبراهين القاطعة الدالّة علي مشروعية بل ضرورة التوسّل بأصفياء اللَّه تعالي، لأجل نيل القرب منه عزّ وجلّ وقبول الطاعات والعبادات وفتح أبواب السماء لاستجابة الدعاء وقضاء الحاجات، وأن المنكرين والجاحدين للتوسّل بأولياء اللَّه يجعلون التوسّل بهم من التوجّه إلي غير اللَّه تعالي ليفرّقوا بين اللَّه ورسله قال تعالي: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا* أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا» «1».

وذلك كلّه استناداً إلي الأدلّة العقلية والتحليلية والتاريخية والقرآنية والروائية الناصّة علي ذلك.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 25

***

التوسّل في اللغة والاصطلاح … ص: 25

1- التوسّل لغة: … ص: 25

قال الفراهيدي في كتابه اللغوي «العين»:

وسل: وسّلت إلي ربّي وسيلة، أي عملت عملًا أتقرّب به إليه، وتوسّلت إلي فلان بكتاب أو قرابة، أي تقرّبت إليه «1».

وقال الجوهري في الصحاح:

الوسيلة: ما يتقرّب به

إلي الغير، والجمع الوسيل والوسائل، والتوسيل والتوسّل واحد، يقال: وسّل فلان إلي ربّه وسيلة وتوسّل إليه بوسيلة، أي تقرّب إليه بعمل «2».

ومثله ما في النهاية في غريب الحديث لابن الأثير «3».

وقال ابن منظور في لسان العرب:

الوسيلة: المنزلة عند الملك، والوسيلة: الدرجة، والوسيلة القربة، ووسّل فلان إلي اللَّه وسيلة إذا عمل عملًا تقرّب به إليه، والواسل الراغب إلي اللَّه.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 26

وتوسّل إليه بوسيلة إذا تقرّب إليه بعمل.

والوسيلة الوصلة والقربي، وجمعها الوسائل «1».

والذي يتحصّل من كلمات اللغويين أن التوسّل والوسيلة:

هي ما يجعله العبد من الواسطة بينه وبين ربّه لأجل التوصّل بها إلي تحصيل المقصود وهو القرب منه عزّ وجلّ، أو مطلق ما يوسّطه الشخص للتقرّب به إلي الغير من عمل أو كتاب أو قرابة أو غيرها.

2- التوسّل اصطلاحا: … ص: 26

التوسّل في الاصطلاح قريب جدّاً من المعني اللغوي، بل هو عينه والاختلاف في تحديد المصاديق التي نصبها اللَّه تعالي للتوسّل والتقرّب بها إليه عزّ وجلّ.

وسيأتي مزيد إيضاح لبيان حقيقة التوسّل اصطلاحاً عند استعراض الأدلّة القرآنية حول التوسّل في الفصل اللّاحق.

***

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 27

التوسّل عبادة توحيدية … ص: 27

دور الوسائط الإلهيّة وضرورة التوسّل بها: … ص: 27

إنّ الحقيقة التي نريد أن ندّعيها تحت هذا العنوان، هي: إن نفي الوسائل والوسائط الإلهيّة والإعراض عنها في حال توجّه العبد إلي اللَّه هو الشرك بعينه.

وإنّ توسّل العبد بالآيات الإلهيّة وتوجّهه وتشفّعه بالوسائط، التي نصبها اللَّه عزّ وجلّ من أجل قضاء حوائجه أو قبول توبته وأوبته وعبادته ونيله للحظوة والقرب من اللَّه تعالي، هو التوحيد الحقيقي والتام المرضي عند اللَّه عزّ وجلّ.

توضيح المدّعي: … ص: 27

من أجل إعطاء تصوّرات صحيحة حول ما ادّعيناه آنفاً نقول: إن الوسائل والوسائط إذا كانت مجعولة ومنصوبة من قبل اللَّه عزّ وجلّ، فإن التوسّل والتوجّه بها واللجوء إليها والاستغاثة والاستجارة بها إلي اللَّه تعالي هو التوحيد التام، وفي الوقت ذاته يكون الإعراض عنها والاستكبار عليها والتوجّه إلي اللَّه تعالي بالمباشرة شركاً واستكباراً علي اللَّه عزّ وجلّ ومبارزة له في سلطانه.

وأما إذا لم تكن تلك الوسائط مجعولة ولا منصوبة من قبل اللَّه تعالي، فإن

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 28

التوسّل بها والتزلّف إلي اللَّه عن طريقها يكون شركاً وصنمية ووثنية وعبادة لغير اللَّه تعالي، سواء كان صنماً قرشياً في الجاهلية أو وثناً عصرياً.

بيان الأدلّة: … ص: 28

ولهذه الدعوي التي ذكرناها أدلّتها المتنوعة، ونحاول أن نشير في هذا الفصل إلي الأدلّة العقلية والتاريخية والتحليلية، وأما الأدلّة القرآنية فسيأتي ذكرها في الفصل اللّاحق.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 29

الأدلّة العقلية والتاريخية … ص: 28

1- الدليل العقلي: … ص: 29
اشارة

هنالك بيانات متعدّدة للدليل العقلي الدالّ علي مشروعيّة وضرورة التوسّل، نستعرض فيما يلي بعض تلك البيانات العقلية:

البيان الأول: (التوسّل بالوسائط الإلهيّة تحكيم لسلطان اللَّه علي سلطان العبد) … ص: 29

إنّ نصب الوسائط والأبواب من قبل المخلوقين والعبيد باقتراحهم واختراعهم يُعدّ تصرّفاً في سلطان اللَّه عزّ وجلّ، ونوع من تحكيم إرادة العبد وهواه علي إرادة ربّه، ويكون هذا الفعل من العبد شركاً ونديّة ووثنية جاهليّة.

فالعبد هو الذي ينادد ربّه في جعله الوسائط واختراعها، سواء من ناحية العمل كاتّخاذ الأحجار والأصنام وجعلها واسطة بين العبيد وبين ربّهم، أم كان من ناحية الفكر والمعتقد وذلك كاتّخاذ العقل الذاتي البشري ربّاً وزعم عدم محدوديته وأنّه يتّسع في الحكم والبتّ في الحقائق بلغ ما بلغ، فإن هكذا توسيط من قبل البشر وباقتراحهم يُعدّ مغالاة وشركاً في سلطان اللَّه؛ لأنّها تكون مناددة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 30

للَّه تعالي وصنميّة للعقل، بدعوي (إن الحكم إلّاللعقل).

فمن يجعل لنفسه وسيطاً لم ينصبه اللَّه عزّ وجلّ ولم يأذن به فهذه هي الصنمية، والتزلّف والتقرّب بتلك الوسائط غير المأذون بها هو الشرك الناقض للإيمان، لأنّه منازعة للَّه تعالي في سلطانه، سواء كانت أصنام العرب أم غيرها من الجهالات والجاهليات الحديثة.

وأما التوسّل والتوجّه بالوسائط التي جعلها اللَّه عزّ وجلّ ونصبها لخلقه فهو التوحيد التامّ، والإعراض عن تلك الحجج والأبواب الإلهيّة التي نصبها اللَّه عزّ وجلّ وترك التوجّه إليها هو الشرك الناقض للإيمان أيضاً؛ لأنّه استكبار علي إرادة اللَّه تعالي وسلطانه.

فالتوحيد التامّ إنما يكون بالانصياع والخضوع أمام الأبواب والوسائط التي جعلها اللَّه عزّ وجلّ، وذلك بالتوسّل بها وتوسيطها بين العبد وربّه.

والسرّ في شرك المشركين والإنكار الإلهي لعقيدتهم الصنمية ليس لأصل شعورهم بالحاجة إلي الوسائل والوسائط والشفعاء، بل كان شركهم في اقتراحهم الوسائط والتدخّل في سلطان اللَّه تعالي وتحكيم إرادتهم وسلطانهم، من دون

الانصياع والطوعانية لإرادة اللَّه عزّ وجلّ.

فمصبّ إنكار الباري تعالي عليهم ليس هو إنكار نظرية ضرورة الوسائط، بل في كون الوسائط مقترحة من قبلهم.

والقرآن الكريم أيضاً كما سيأتي- لا يستنكر علي المشركين نظرية ومقالة الأبواب والوسائط، بل علي العكس؛ إذ القرآن يقرّها ويثبتها، وإنما تخطئته للمشركين بالصنميّة في اقتراحهم الوسائط والوسائل من قبل أنفسهم، ويحتّم

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 31

علي المشركين أن تكون الوسائط بسلطان الربّ وإرادته.

والقرآن الكريم كما سيأتي أيضاً- يقرّر نظرية الوسائط بأنها أمر فطري وضروري لابدّ منه.

وبعبارة اخري: لا يكفي في نفي الشرك وتحقّق التوحيد التام من العبد نفيه الوسائط المخترعة والمقترحة من قبل البشر، بل عليه أن يتوسّل بالوسائل والحجج التي نصبها اللَّه عزّ وجلّ؛ وذلك لأن من يقف عند إنكار الوسائط المقترحة فقط كمن قال: (لا إله) وسكت من دون أن يذكر المستثني، حيث أنه يوجب الكفر لا التوحيد.

خصوصاً وأن كلمة (لا إله إلّااللَّه) ليست كلمة للتوحيد في الذات والصفات والأفعال فحسب، وإنما هي توحيد أيضاً في مقام العبادة والخضوع والتوجّه والدعاء، فلا عبادة ولا خضوع ولا توجّه إلّاللَّه تعالي، ومعني ذلك نفي الوسائط والشفعاء الذين لم يأذن بهم الباري تعالي، فلا إله ولا وله ولا تشفّع ولا تقرّب إلّابما أثبته اللَّه تعالي، ولا يكفي نفي ونبذ الوسائط المقترحة، بل لابدّ من إثبات الوسائط التي جعلها ونصبها اللَّه عزّ وجلّ.

والنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله والمعصومون عليهم السلام وسائط وأبواب منصوبة من قبل اللَّه تعالي.

والحاصل: إن الشريعة الإسلامية جاءت لنبذ الصنمية القديمة منها والحديثة والمغالاة في الأشخاص الذين لم ينصبهم اللَّه تعالي والتوجّه إليهم.

وأما من نصبهم اللَّه عزّ وجلّ وجعلهم وسائط وأبواب، فلابدّ من التوجّه إليهم والتوسّل بهم والانشداد إليهم؛ لأن التوجّه

والانشداد إلي الآيات

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 32

والعلامات إنشداد وتوجّه إلي من له الآيات، وكلّما تنمّر الشخص في الانشداد إليهم وأخلص في الولاء لهم كلما ازداد توحيده وازداد ولاؤه وانشداده إلي اللَّه تعالي، والعكس بالعكس، نظراً لشدّة قربهم إلي الباري، فالاقتراب منهم اقتراب منه والابتعاد عنهم ابتعاد عنه تعالي، فإن الآية والعلامة كلّما كانت كبيرة وعظيمة في حكاية ذي الآية فهي نظير المرآة الشديدة زيادة في المعرفة لهوية الحقيقة التي تحكيها المرآة؛ لأنّ طبيعة المرآة والآية عبورية واستطراقية توصّل إلي الحقيقة، والإيصال صفة ذاتية لها لا تنفكّ عنها، وهذه خاصية الآيات والوسائل المنصوبة من قبله تعالي.

البيان الثاني: الاختلاف في المراتب الوجودية … ص: 32

وهو بيان عقلي فطري استند إليه آدم عليه السلام في توسّله إلي اللَّه عزّ وجلّ بالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله؛ لكونه أحبّ الخلق إلي اللَّه تعالي، وكذلك استند إليه إبراهيم عليه السلام في استغفاره لعمّه آزر، وهو الحفاوة والحظوة والزلفي عند اللَّه تعالي.

بيان ذلك: هناك ضرورة عقليّة ذكرها الفلاسفة، وهي أن اللَّه تعالي وإن كان هو الخالق لكلّ شي ء ولا خالق سواه، ولكن إيجاد المخلوقات من قبله تعالي ليس علي رتبة واحدة، بل هي ذات مراتب متعدّدة مشكّكة، وهذه ضرورة لابدّ منها، وليس ذلك لعجز في قدرة الباري، تعالي عن ذلك علواً كبيراً؛ إذ هو علي كلّ شي ء قدير، وإنما النقص والعجز في طرف القابل والمخلوق؛ وذلك لأنّ شيئيّة الأشياء لا تتقرّر ولا يمكن أن تفرض متحقّقة إلّابعد إمكانها، فمع عدم إمكانها لا شيئيّة لها، والموجودات والمخلوقات النازلة في الرتبة الوجودية،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 33

كالموجودات المادّية مثلًا أو البرزخية، لابدّ لها من سلسلة إعدادات ومخلوقات سابقة، تكون مجاري فيض اللَّه عزّ وجلّ، والمخلوق السابق في الرتبة الوجودية يكون

سبباً لتقرّر إمكان المخلوق اللّاحق، وليس ذلك إلّالعجز القابل والمخلوق النازل في الرتبة عن التلقّي من اللَّه تعالي بالمباشرة، فلابدّ له من واسطة ومجريً في الفيض الإلهي لأصل ذاته وكمال صفاته؛ ولذا الانسان ببدنه المادّي مثلًا لا يتقرّر له إمكان إلّابعد خلق المعدّات له وتسخير الأرض والسماء والماء والهواء والمخلوقات الحيّة وغيرها، ففي الخلقة المادية توجد إعدادات كثيرة أعدّها اللَّه تعالي وسخّرها للانسان، لكي يعيش حياة ممكنة في هذا الكون، قال تعالي: «وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ» «1».

ومن هنا ورد من طرق الفريقين أن أوّل ما خلق اللَّه تعالي العقل، أو أوّل ما خلق اللَّه تعالي نور النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله «2»، ولا تنافي بينهما.

وورد أيضاً أن اللَّه تعالي أبي أن يُجري الأمور إلّابأسبابها «3»، فسنّة الخلقة في هذا العالم الإمكاني عن طريق الأسباب والمسبّبات، بجعل المخلوق السابق سبباً لأن يخلق اللَّه تعالي المخلوق اللّاحق بنحو التقدّم والتأخّر الرتبي.

ولا شك أن التقدّم في الرتبة الوجودية بين المخلوقات معناه أن المخلوق الأسبق رتبة أشرف وأكرم وأقرب إلي اللَّه تعالي من المخلوق اللّاحق، وهو مجري سيب الباري عزّ وجلّ إليه، وسبب لتفتّح أبواب السماء لتلقّي الفيض.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 34

إذن أصل فكرة الوساطة والسببية والوسيلة سنّة إلهية تكوينية سنّها اللَّه عزّ وجلّ في خلقة الممكنات، وحينئذٍ نقول: إنه مما اتفقت عليه طوائف المسلمين وفرقها أن السنّة التشريعية لا تخالف السنّة التكوينية، فالشريعة تتناسب وتتلاءم مع الخلقة والفطرة التكوينية، كما قال تعالي: «فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَاتَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ» «1».

وهذا بيان عقلي واضح دالّ علي ضرورة التوجّه والتوسّل بالمقرّبين وبالمخلوقات الكريمة علي اللَّه تعالي، وهذه هي الحفاوة التي استند

إليها آدم وإبراهيم عليهما السلام في استغفارهما إلي اللَّه تعالي.

وبعبارة أخري: إن من المعاني والحقائق الذاتية للقرب والمقرَّب أن الاقتراب إلي المقرَّب (بالفتح) يُقرِّب؛ لأنّه مقتضي قربه، كما أن الابتعاد عنه ابتعاد عمّن هو قريب إليه بمقتضي قربه أيضاً، وهذه القاعدة غير مختصّة بالقرب والبعد المكاني، بل هي مطّردة في كلّ أنماط القرب والبعد علي الصعيد المعنوي، من كمالات الوجود من العلم والقدرة والحياة والنور، وعلي ضوء ذلك يكون بيان الشرع لكون شي ء مقرّب هو بنفسه تحضيضاً وتشريعاً للتوسّل به والتقرّب إلي اللَّه بالتوجّه إليه، وهذه الدلالة بديهية فطرية يدركها عامّة البشر بفطرتهم، فإن إعطاء المالك وذو القدرة والعظمة والعزّة لشي ء القرب واتخاذه مقرّباً يلازم إعطاءه مقام الشفاعة، فيلازم الإذن بالاستشفاع والتوسّل به، كما أن إنكار الإذن بالتوسّل والاستشفاع به إنكاراً لكونه مقرّباً، وبالتالي يستلزم الإنكار تكذيب المالك والاعتراض عليه في اتخاذه ذلك الشي ء مقرّباً، وكذلك الحال

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 35

فيما إذا أخبر من له السلطان والقدرة بأن شخصاً وجيهاً عنده، أي ذو حظوة وزلفي لديه وحبيباً له، فإنه إذن وإعطاء المقام الشفاعة له، ويلازم الإذن بالاستشفاع والتوسّل به، فجحود التوسّل به جحود لوجاهته وزلفاه.

البيان الثالث: وجوب الاحترام والتعظيم … ص: 35

وهو أيضاً شرح وبيان للحفاوة والأقربية ومعتمد علي أصول فطرية جبلّية، وذلك أن الأسلوب الجاري والمتّبَع في شرعيّات البشر وأعرافهم وآدابهم العقلائية والاجتماعية عند بعضهم البعض، هو أن طريقة الوفود علي شخص يجب أن تكون بالاستئذان من الباب والحُجّاب والشفعاء والوسائل التي تؤدّي إليه، وأن يكون ذلك بمنتهي الأدب والاحترام.

وبعبارة اخري: إن الشخص عندما يتوسّل بشخص آخر للدخول علي عظيم يُعدّ نوعاً من أنواع الاحترام والتعظيم والتأدّب، وزيادة في إبداء الحرمة والاحترام، فأنت مثلًا عندما تتّخذ المقدّمات والاجراءات اللّازمة وتأتي

عن طريق الحُجب والأبواب صيانة لحرمة مَنْ تفد عليه، فإن في ذلك مزيد الأدب والاحترام وإن لم يكن ذلك الطرف محجوباً في نفسه، ولو لم تُراع تلك الاجراءات فكأنك تكون قد هتكت حريمه.

وقد ذمّ اللَّه عزّ وجلّ الذين ينادون النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله من وراء الحجرات، وأمر بإتيان البيوت من أبوابها، وأن لا يدخلوا بيوتاً غير بيوتهم حتي يستأذنوا فيُؤذَن لهم.

قال تعالي: «وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَاْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَي وَاْتُوا

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 36

الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» «1».

وقال أيضاً عزّ وجلّ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّي تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَي أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» «2».

وقال تبارك وتعالي: «إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ» «3».

وجاء في الحديث عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «أنا مدينة العلم وأنت يا عليّ بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها» «4».

ونجد أن هذا الأدب الإلهي قد قرّره الشارع المقدّس في الوفود علي بيت اللَّه الحرام، فجعل الإحرام مقدّمة للتهيّؤ وباباً للتعظيم.

لا يقال: أن الجاري في هذه الأعراف أمور متواضع عليها ولا ربط لها بالحقائق.

فإنه يقال: إن من المقرّر في محلّه أن الاعتبارات العقلائية ليست أموراً جزافية، بل لها مناشئ حقيقية ورابطة تكوينية، وقد أمضي اللَّه تعالي تلك الاعتبارات.

ثم إن اللَّه عزّ وجلّ نصب أبواباً ووجهاء مقرّبين يتوجّه بهم إليه من باب التأدّب مع اللَّه تعالي، ولذا عندما يريد الشخص المسلم أن يطلب حاجته من اللَّه تعالي في الدعاء وفي غيره، لابدّ من تقديم الثناء علي اللَّه عزّ وجلّ وشكره

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 37

وحمده، ثم يطلب حاجته بعد ذلك، كما هو

مذكور في كتب الفريقين «1».

وكما جاء ذلك في سورة الحمد، التي يقرؤها الفرد المسلم في اليوم والليلة عشر مرات علي الأقلّ، حيث قُدّم فيها المدح والثناء والشكر والحمد للَّه تعالي، ثم بعد ذلك يطلب المصلّي والقارئ للحمد حاجته من الهداية وعدم الغواية والضلال.

إذن التوسّل بمن يكون وجيهاً عند اللَّه من التأدّب والتعظيم للَّه عزّ وجلّ، والوفود علي اللَّه مباشرة من قبل الأفراد العاديين الذين لا يحرز كون وجوههم مقبولة عند اللَّه تعالي، بل قد يكون مطروداً من ساحة العظمة بسبب ما يقترفه من الذنوب- يعدّ من الكبرياء والجفاء والجفوة مع اللَّه تبارك وتعالي والعتو عليه، وهذا علي خلاف الفطرة التوحيدية، بل إن اللَّه عزّ وجلّ ذمّ الذين يصدّون عن الوسائط ويطلبون الارتباط المباشر بالسماء، بما بيّناه في هذا الوجه، قال تعالي: «وَقَالَ الَّذِينَ لَايَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَي رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا» «2».

فنحن المذنبون المقصّرون القاصرون عن نيل المقامات الرفيعة يجب أن لا نطلب الحاجة إلي اللَّه تعالي إلّابعد تقديم المقدّمات، والتوسّل بالمقربين والوجهاء المرضيين عند اللَّه عزّ وجلّ، وهذا هو معني قوله تعالي: «وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ».

والحاصل: إن التوسّل من مبادئ الأصول الفطرية والأخلاقية، وهو مقتضي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 38

التواضع والخضوع في التوجّه والوفود علي اللَّه تعالي، وفيه زيادة ورفعة في التوحيد؛ لأنّ التواضع حالة توحيدية خالصة، ورفض التوسّل استكبار ورعونة لا تناسب الأدب التوحيدي، ويستنكره العقل ويشجبه العقلاء في تعاملهم.

ولابدّ من التنبيه علي أن الآيات القرآنية كما تقدّم ويأتي في الفصل اللّاحق لا تثبت أن الوفود علي اللَّه تعالي من دون التوسّل بالآيات الإلهية مخلّاً بالأدب مع الحضرة الربّانية فحسب، بل هي تصرّح بامتناع الوفود عليه عزّ وجلّ من

دون آياته وحججه، وامتناع التوصّل إلي ذاته المقدّسة؛ لقصور في القوابل والاستعدادات.

2- الدليل التاريخي (السيرة): … ص: 38

لا ريب أن هناك ضرورة إسلامية وقرآنية تؤكّد علي أن فصل الشهادة الثانية وهي شهادة أن محمّداً رسول اللَّه- عن الشهادة الأولي وهي شهادة لا إله إلّا اللَّه- وإنكارها يُعدّ شركاً، وخروجاً عن دائرة التوحيد التام، الذي جاءت به الشريعة الإسلامية الخاتمة.

وعندما نرجع إلي القرآن الكريم نجده يحكم بالشرك والوثنية علي الطقوس والمناسك العبادية التي يأتي بها أهل الكتاب، وإن كانوا يدّعون أنهم علي دين موسي أو عيسي عليهما السلام.

وفي الوقت ذاته اعتبر القرآن الكريم عبادة قريش وحجّهم ومناسكهم وصلاتهم تجاه الكعبة من الشرك والجاهلية وعبادة الأوثان.

فالطقوس العبادية القرشية التي يزعمون أنها علي ملّة إبراهيم عليه السلام، كالصلاة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 39

إلي الكعبة وحجّ بيت اللَّه الحرام والاتيان بمناسكه كالطواف والسعي والوقوف بعرفات والمزدلفة وسَوق الهدي، كلّها حكم عليها القرآن الكريم بالوثنية والشرك والعبادة لغير اللَّه تعالي، وليس ذلك إلّالعدم الرجوع إلي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وقطع الصلة به والابتعاد عنه والتخلّي عن ولايته، وعدم الخضوع والطاعة له، وعزل الشهادة الثانية وفصلها وبترها عن الشهادة الأولي.

فإنّ ذلك كلّه يجعل العبادات والمناسك بأجمعها شركاً ووثناً وجاهليّة، كالطواف حول الكعبة مثلًا يعتبر شركاً وطاعة وعبادة لغير اللَّه عزّ وجلّ فيما إذا افتقد الشهادة الثانية والتولّي لنبيّ الإسلام صلي الله عليه و آله.

والفرق بين حجّ المشركين وحجّ المسلمين، هو أن المشركين يأتون بالمناسك من دون الخضوع والتسليم والتولّي لخليفة اللَّه تعالي، وأما المسلمون فهم يأتون بمناسك الحجّ مع خضوعهم لولاية النبيّ صلي الله عليه و آله وإقرارهم بالشهادة الثانية، ولذا كان حجّهم طاعة وعبادة خالصة للَّه عزّ وجلّ.

وقريش إنما خرجت من مغبّة الشرك والوثنية

ودخلت الإسلام بإقرارها بالشهادة الثانية وتولّيها للنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله والأخذ عنه والخضوع لطاعته وأوامره.

فليس التوحيد بالاتجاه مباشرة إلي اللَّه تعالي والانقطاع عن الوسائط، ولا الشرك بجعل الواسطة بين العبد وربّه، بل الوثنية والشرك في منطق القرآن الكريم رفض التسليم لولاية خاتم الأنبياء صلي الله عليه و آله؛ وذلك لأن الوثن والوثنية طاعة غير اللَّه عزّ وجلّ، والعبد إذا أنكر الواسطة التي نصبها اللَّه تعالي بينه وبين عبيده، لا يبقي له مجال وطريق لاستعلام أوامر اللَّه ونواهيه وإراداته وشريعته الحقّة، التي يريد من عبده السير علي خطاها.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 40

وحينئذٍ لا يكون لذلك العبد المنكر للوسائط إلّاإرادته وهواه وميول نفسه وسلطان ذاته، وهذه هي الوثنية؛ إذ يكون وثنه هواه، كما قال تعالي: «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًي مِنَ اللَّهِ» «1».

فالهوي وسلطان النفس وثن من الأوثان وإله من الآلهة وإن لم يكن من الأحجار؛ إذ لا يشترط في الوثن والصنم أن يكون من الحجارة، فإن المسلمين يتوجّهون في عبادتهم إلي أحجار الكعبة ومع ذلك هم موحّدون ومطيعون للَّه تعالي؛ لكون ذلك عن أمره وإرادته وسلطانه.

والحاصل: إن أي عبادة من العبادات إذا إنقطعت عن الخضوع لولاية سيّد الرسل وفقدت تواصلها مع الشهادة الثانية تدخل حيز الشرك والوثنية الجاهليّة، كما جاء ذلك في قوله تعالي:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا» «2»

، حيث حكم اللَّه تعالي في هذه الآية المباركة بشرك ونجاسة ما يأتي به غير المسلمين من العبادات والمناسك في المسجد الحرام.

ثمّ إن من يجحد ولاية أهل البيت عليهم السلام بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يكون حاله كحال من جحد ولاية

النبيّ صلي الله عليه و آله، إذ من بعده صلي الله عليه و آله كيف يستعلم العبد إرادة ربّه وأوامره؟!

ومن ثمّ يقول الإمام الباقر عليه السلام في حجّ من لا يؤمن بمودّة وولاية أهل البيت عليهم السلام: فعال كفعال الجاهلية، حيث ورد عنه عليه السلام أنه نظر إلي الناس يطوفون

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 41

حول الكعبة، فقال: «هكذا كانوا يطوفون في الجاهليّة، إنما أُمروا أن يطوفوا بها ثم ينفروا إلينا فيعلمونا ولايتهم ومودّتهم، ويعرضوا علينا نصرتهم، ثم قرأ هذه الآية «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِم»» «1».

وهذا برهان تاريخي وأدياني يؤكّد ضرورة الواسطة في صحّة العبادة وقبولها.

والواسطة هي الطاعة لوليّ اللَّه تعالي، بكلّ ما للطاعة من معني وتداعيات ومعطيات ومقتضيات تقتضيها تلك الطاعة وعلي جميع مستوياتها، فكما أن بدء التوحيد متوقّف علي الشهادتين كذلك بقاؤه في كلّ الأبواب الاعتقادية والعبادية، متوقّف علي بقاء الشهادتين إلي آخر المطاف.

***

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 43

الأدلّة التحليلية … ص: 43

اشارة

نرمي في استعراض هذه الأدلّة تحليل بعض المفاهيم الدينية والاعتقادية ويكون ذلك بدوره دالّاً علي مشروعية التوسّل وضرورته.

1- مفهوم العبادة: (مفهوم العبادة ينفي الوسائط المقترحة) … ص: 43

يمكننا عن طريق تحديد المفهوم الاصطلاحي للعبادة وبيان العبادة الخالصة للَّه تعالي والعبادة غير الخالصة استكشاف مشروعية نظرية الوسائط، وأن المستنكر منها هي الوسائط المقترحة فحسب، وذلك بالبيان التالي:

ذُكر للعبادة في اللغة معانٍ متعدّدة، أهمّها: أنها بمعني الطاعة والخضوع.

والقرآن الكريم أيضاً استعمل مفهوم العبادة في عدّة معان، منها ما يلي:

1- مملوكية المنفعة.

كقوله تعالي: «عَبْدًا مَمْلُوكًا لَايَقْدِرُ عَلَي شَيْ ءٍ» «1».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 44

وقوله تعالي: «وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ» «1».

2- سيادة الطاعة، وإن لم تكن أصالة للمطاع.

كقوله تعالي: «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَاتَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» «2».

3- الطاعة والخضوع والانقياد للمعبود علي وجه التعظيم والتقديس، وأنه الغني بالذات ومصدر جميع الخيرات والنعم والكمالات مبدءاً وإصالة.

كقوله تعالي: «قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ» «3».

وقوله تعالي: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإْنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» «4».

وكقوله تعالي لموسي عليه السلام: «إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاة لِذِكْرِي» «5».

وقوله تعالي: «وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» «6».

إلي غير ذلك من الآيات القرآنية المباركة، الدالّة علي إرادة الانقياد إلي المعبود علي وجه التعظيم وأنه الغني بالذات من مفهوم ومعني العبادة.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 45

وهذا هو المعني الاصطلاحي لمفهوم العبادة.

وإذا كان هذا هو المعني الاصطلاحي للعبادة، فكيف كان توجّه المشركين إلي الوسائط شركاً، مع أنهم لا يتوجّهون إليها بما هي مصدر الخيرات أصالة بل بما هي شفيعة ووسيطة؟ وكيف تتحقّق العبادة لغير اللَّه تعالي؟ وكيف تتحقّق العبادة للَّه عزّ

وجلّ؟

والجواب هو ما تقدم، من أن الانكار ليس إنكاراً للوسيلة بما هي وسيلة، بل بما هي مقترحة ومخترعة من قبل العبيد، وأما إذا كانت الواسطة بجعل من اللَّه تعالي وإرادته وتحكيماً لسلطانه، فلا محالة يكون التوسّل والخضوع لتلك الوسيلة طاعة للباري تعالي، لأنه يكون انقياداً له تعالي علي وجه الرغبة والخضوع وأنه مصدر الخيرات مبدءاً وأصالة، فأي فعل يكون منطلقه من أمر اللَّه عزّ وجلّ لا يكون شركاً، وإن كان ذلك الفعل بالتوجّه والتوسّل بالوسائط، ومن ثمّ يكون سجود الملائكة لآدم كما سيأتي- عبادة للَّه لا لآدم؛ لأنه خضوع للَّه تعالي وامتثالًا لأمره بما أنه مصدر الخيرات.

إذن المدار في تحقّق العبادة وعدمه ليس علي ارتباط الطقوس العبادية بغير اللَّه وعدم الارتباط بغيره، بل المدار في العبادة الخالصة وقوام التوحيد في العبادة علي وجود الأمر الإلهي والإرادة الإلهية، وقوام الشرك في العبادة ليس علي تعلّق الفعل العبادي بغير اللَّه، بل الشرك في العبادة يتقوّم بعدم وجود الأمر والإرادة الإلهية، وإنما باقتراح من العبد نفسه.

ومن ثمّ لا يكون التوجّه بالكعبة إلي اللَّه عزّ وجلّ في الصلاة شركاً، بل هو شعار التوحيد.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 46

فنحن في صلاتنا نتوجّه إلي الكعبة الشريفة، مع أنها حجر ومع ذلك تكون عبادة للَّه تعالي، وفي صلاة الطواف نتوجّه إلي مقام إبراهيم عليه السلام، وكذا في الطواف نتوجّه إلي الكعبة ونتبرّك بالحجر الأسود ونتمسّح به، مع أن ذلك كلّه لم يجعل من الكعبة صنماً ولا من الحجر الأسود وثناً يُعبد من دون اللَّه، كلّ ذلك لوجود الأمر الإلهي بالصلاة والطواف حول الكعبة والتمسّح بالحجر الأسود، فيكون الامتثال تحكيماً لسلطان اللَّه تعالي علي إرادة العبيد، وذلك بخلاف أصنام الوثنيين.

وهذا ممّا اتفق عليه علماء الأصول، حيث

قرّروا أن العبادة لا تتحقّق إلّا بقصد امتثال الأمر وكون العبد ماثلًا طيّعاً أمام مولاه.

فإن وُجد الأمر تحقّق التوحيد في العبادة ولو مع الواسطة، وإن فقد الأمر كان الاتيان بالفعل شركاً ولو مع نفي الواسطة.

2- القول بالتجسيم من أسباب جحود التوسّل: … ص: 46

إنّ انكار التوسّل ورفض الوسائط ناتج إما من القول بالتجسيم أو القول بالنبوءة والتنبّي.

وأما من لا يدّعي النبوءة لنفسه وينكر الجسمية في الباري عزّ وجلّ، فلا محالة له من قبول الوسائط والوسائل في كلّ العوالم والنشئآت.

وقبل البرهنة علي هذا المدعي لابدّ من بيان بعض الأمور:

الأول: ليس المقصود من دعوانا أن انكار التوسّل ناتج من التجسيم أو دعوي النبوءة هو أن يكون القائل بذلك قد قال بأحدهما عنواناً وقولًا، بل قد يكون في

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 47

واقعه متبنّياً لحقيقة التنبّي أو التجسيم من دون أن يُسمّيه تنبّياً أو تجسيماً؛ وذلك لأنهما لا يدوران مدار العنوان والشعار، فالحقائق أو الأمور العدمية الباطلة تدور مدار واقعها، سواء واقعها العدمي في الأمور الباطلة أو واقعها الوجودي في الأمور الوجودية، فمن ينفي الوسائط فهو لا محالة إما يبني علي التجسيم أو يدّعي التنبّي كما سيتّضح، وهذا نظير ما ذكره الفقهاء في بحوث المعاملات، من أن الشخص ربّما يقصد ماهية معاملية معيّنة ويسمّيها باسم تلك الماهية المقصودة، ولكنها في واقعها قرض ربويّ أو بالعكس.

الثاني: إن هناك دعاءاً يؤكّد مضمون ما نريد الخوض فيه، وهو من الأدعية المأثورة لتعجيل الفرج، وهو: «اللّهمّ عرّفني نفسك فإنك إن لم تعرّفني نفسك لم أعرف رسولك، اللّهمّ عرّفني رسولك فإنك إن لم تعرّفني رسولك لم أعرف حجّتك، اللّهمّ عرّفني حجّتك فإنك إن لم تعرّفني حجّتك ضللت عن ديني» «1».

ومفاد هذا الدعاء هو أن منظومة المعارف إنما تصحّ وتكون صائبة مع صوابية

وحقّانية معرفة الانسان بربّه، وأن الخلل الناشئ في معرفة الأنبياء والرسل منبعه الخلل في معرفة اللَّه تعالي الصحيحة والتامة، كما أن الخلل في معرفة الحجج والأوصياء والأئمّة منشأه الخلل في معرفة الرسول، وبالتالي يكون ناشئاً من الخلل والنقصان في المعرفة المتعلّقة باللَّه تعالي، كما تشير إلي هذه الحقيقة مجموعة من الآيات القرآنية، منها:

قوله تعالي: «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَي بَشَرٍ مِنْ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 48

شَيْ ءٍ» «1»

، فإنكار الرسل وعدم الإيمان بهم ناشئ من جهلهم بقدر الباري وقدرته وعظيم حكمته وتدبيره، ومن خلل المعرفة في أفعال اللَّه عزّ وجلّ.

ومن ثمّ هذا يؤكّد أن الذي ينفي الوسائط والوسائل والرسل والحجج، منشأ نفيه نقصان معرفته باللَّه تعالي، إما بالقول بالتجسيم أو القول بالتنبّي.

والغريب من أصحاب هذه المقالة، قولهم بأن التجسيم باطل في النشأة الدنياوية فقط، وأما في الآخرة فنلاقيه والعياذ باللَّه بصورة شابّ أمرد، ويستدلّون علي ذلك، بقوله تعالي: «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ» «2»

و «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ* إِلَي رَبِّهَا نَاظِرَةٌ» «3»

و «الرَّحْمَنُ عَلَي الْعَرْشِ اسْتَوَي» «4»

، فيصوّرون الفوقية علي العرش فوقية مكانية، لا فوقية قدرة وهيمنة.

فهم يفترضون إن اللَّه عزّ وجلّ في الآخرة جسم، وهذا ناتج ضعفهم وقصورهم في المسائل العقلية والاعتقادية؛ إذ لم يلتفتوا إلي أن قولهم هذا يلزم منه كون اللَّه تعالي مادّياً، وكلّ أمر مادّي قابل للانقسام، فله أجزاء متولّدة من جسمه، وهو منافٍ لما نصّت عليه سورة التوحيد التي نفت التولّد والانقسام والتجسيم والمادّية.

ثم إن الجسم محدود، وهو تعالي خالق الجسم ومهيمن عليه لا يحدّه حدّ.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 49

وأهل البيت عليهم السلام يثبتون الرؤية القلبية للَّه عزّ وجلّ، وهو ما أكّدته الآيات القرآنية، كقوله تعالي: «مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ

مَا رَأَي» «1»

، وهم عليه السلام ينفون الرؤية البصرية، التي يشترط فيها المحاذاة والمقابلة الجسمانية، واللَّه عزّ وجلّ منزّه عن الجسم والجسمية في جميع النشآت.

لقاء اللَّه يوم الحساب بآياته وحججه: … ص: 49

وحيث أن حشر الخلائق بأجسامهم، فإن ملاقاة العباد لربّهم تكون بالوسائط والوسائل والآيات، وإلّا للزم أن تكون المقابلة والملاقاة جسمية، أي أن الباري والعياذ باللَّه يلاقي أجسام الخلائق بجسمه وهو باطل بالضرورة.

فإياب الخلائق وحسابهم لابدّ أن يكون عبر الوسائل والوسائط والآيات، وإلّا فإن اللَّه عزّ وجلّ معنا أينما كنّا.

وذلك ديدن قرآني في الإسناد، كإسناد الإماتة إلي اللَّه عزّ وجلّ وإلي ملك الموت وإلي الرسل التي يديرها ملك الموت، فإياب الخلق وحسابهم علي اللَّه عزّ وجلّ، ولكن عبر آياته ووسائطه، قال تعالي: «وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَي» «2»

وقال تعالي: «وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ» «3».

فإذا ثبت أن اللَّه عزّ وجلّ ليس بجسم، ونحن أجسام في شطر من ذواتنا وشطر من إدراكاتنا، التي تتحقق عبر الارتباط بالأجسام، سواء في الدنيا أو

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 50

البرزخ أو الآخرة، فلا يمكن الارتباط مباشرة بربّ العزّة والجلال، وحيث أن الارتباط باللَّه عزّ وجلّ في الدنيا أو البرزخ أو في الآخرة ليس منقطعاً تماماً، لأن معناه التعطيل في قدره الباري تعالي، وحيث ثبت بطلان التعطيل، وأنه لا تعطيل لمعرفة ذاته تعالي ولا لصفاته ولا لأفعاله ولا لعبادته ولا للقائه عزّ وجلّ، فلابدّ من القول إما بالوسائط أو النبوءة.

والمجسّمة قالوا بالتجسيم؛ لأنهم أنكروا الوسائط وخافوا من الوقوع في التعطيل أو دعوي النبوءة، فلا محيص لهم عن القول بالتجسيم، هذا كلّه علي المستوي التحليلي لما ادّعيناه أولًا.

وأما الدليل القرآني علي ذلك، فهو قوله تعالي: «وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ

مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ» «1».

فقوله تعالي: «لِبَشَرٍ» للإشارة إلي الجسم والخصوصيات الجسمانية.

وقوله تعالي: «إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ» بمثابة البرهان والاستدلال علي مضمون الآية المباركة.

وقوله تعالي: «مَا كَانَ» لنفي الشأنية والامكان، لا لبيان عدم الوقوع فقط، وإلّا لكان حقّ التعبير أن يقال: إن اللَّه لا يكلّم أحداً إلّابالطرق الثلاثة المذكورة في الآية.

ومعني الآية الكريمة أنه لا توجد أي مجابهة جسمانية بين اللَّه عزّ وجلّ وبين البشر، المحكومين بأحكام المادّة والجسمية، فتكليمه عزّ وجلّ للبشر إما وحياً، أي عن طريق جانب الروح في البشر، أو من وراء حجاب، أي عن طريق خلق الصوت وإيجاده في الأمور المادّية، كما في تكليم اللَّه عزّ وجلّ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 51

لموسي عليه السلام، أو يرسل رسولًا أي إرسال الملائكة أو الأنبياء والحجج، بل وكذا الملائكة التكلّم معهم عن طريق الوحي، كما في قوله تعالي: «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَي الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا» «1»

، إذن لا وجه للمواجهة الجسمانية مطلقاً، سواء في الدنيا أو البرزخ أو في الآخرة.

ثم قال تعالي: «إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ» أي متعال أن يكون جسماً محاطاً ومحدوداً، فإن العلو يستلزم نفي الجسمية، وهو عزّ وجلّ حكيم، أي غير معطّل، فمن حكمته أن يرسل رسلًا ويقيم أئمة ويوسّط وسائط، فلا تجسيم ولا تعطيل.

وهذه الآية ليست دلالتها مقصورة علي دار الدنيا فقط، بل هي بلحاظ كلّ النشآت الوجودية والتكونيية، فهو تعالي عليّ متعال علي الجسمية ومقابلة الأجسام، وحكيم غير معطّل بينه وبين خلقه عن طريق الوسائط والرسل، فهو عزّ وجلّ يُعرف برسله وأدلّته وحُججه.

وبعضهم حيث أنكر التجسيم وفرّ من مغبّة التعطيل ورفض الوسائط، بدعوي أنها صنمية منافية لروح التحرّر، وقع في

القول بالتنبّي، ولجأ إلي الإيمان بقدسية العقل وسعة مدياته وحدوده وأنه يصيب كلّ صغيرة وكبيرة، كما هي مقالة بعض المتعلمنين من الإسلاميين.

وحيث أن التنبّي والإيحاء إلي الجميع باطل بنصّ القرآن الكريم، وثبت أن التشبيه والتجسيم وكذا التعطيل باطل، فلابدّ من الإيمان بالوسائط والوسائل، ويكون إنكار وليّ اللَّه وحجته تجسيماً أو تعطيلًا أو استكباراً وإكباراً للنفس وصنميّة للعقل، وهي النبوءة المرفوضة في الكتاب والسنّة.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 52

إذن الوسيلة والواسطة أمر برهاني وضروري في كلّ النشئات، ولذا ورد في الروايات أن الذي بُعث في عالم الذرّ بين اللَّه تعالي وبين باقي الأنبياء هو النبيّ محمّد صلي الله عليه و آله.

وهذا هو ما قلناه من أن الشهادة الأولي كما أنها مطلوبة في جميع النشئات، كذلك الشهادة الثانية وأن محمّداً رسول اللَّه صلي الله عليه و آله باقية في كلّ النشئات أبديّة وأزلية، فوصف النبيّ صلي الله عليه و آله بالرسالة ليس خاصاً بالدنيا فقط، وإنما النبيّ صلي الله عليه و آله رسول في إنزال القرآن، وآياته غير مختصّة بالدنيا، بل تحكي كلّ النشئات وعالم الربوبية والصفات وعالم الذات، بما لم يُنبّئ به نبيّ من الأنبياء، وهذا معني واسطته صلي الله عليه و آله في كلّ العوالم والنشئات.

والحاصل: إن لم يكن في البين تشبيه ولا تعطيل، فلابدّ من النبوءة أو قبول الوسائط والحجج، وحيث أن التنبّئ للكلّ باطل، فلابدّ من الإيمان والاقرار بالوسائط بين اللَّه تعالي وبين مخلوقاته في كلّ العوالم، فاللَّه عزّ وجلّ لا يُتوجّه إليه باتجاه جسماني، بل يُتوجّه إليه بالمعاني والآيات والحجج.

ومن ذلك كلّه يعلم عظم مكانة الآية والحجّة الإلهية، وأن إنكارها في الحقيقة بمنزلة إنكار الباري عزّ وجلّ، كما ورد ذلك في قوله تعالي:

«فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» «1»

، فإنكار خلافة خليفة اللَّه في الأرض ليس ينصبّ علي الوسيلة بما هي هي، بل يرجع إلي الكفر باللَّه تعالي «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَي بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ» «2»

وذلك لأن

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 53

الذات المقدّسة إذا لم يكن بينها وبين المخلوقات أي ارتباط معناه التعطيل، وهو بمنزلة الإنكار للَّه عزّ وجلّ لأنه إنكار لقدره تعالي وقدرته وتدبيره.

فعظمة الوسائط والحجج والآيات بعظمة ذي الآية، التي اضيفت إليه، ويكون الاستخفاف بها استخفافاً باللَّه عزّ وجلّ، فلابدّ من تعظيمها وإجلالها.

ووظيفة الخليفة هي الواسطة والوساطة في تدبير شؤون العباد، وهذا النظر والاعتقاد الحقّ مما امتاز به مذهب أهل البيت عليهم السلام، وهو أن العوالم بجميع نشآتها لا تخلو عن حجّة وخليفة وواسطة.

والنقطة الأخري التي ينبغي الإشارة إليها في المقام، هي أن التوسّل والشفاعة والتوسّط والوسيلة تحمل في داخلها عدم المحورية الذاتية للشفيع والوسيط، أي ليس للوسيط والشفيع والوسيلة أي استقلالية عن اللَّه عزّ وجلّ، وذلك لأن الواسطة معناه أن النظرة إليها آلية وحرفية، ليس لها من ذاتها إلّاالفقر والحاجة إلي سلطان اللَّه وإرادته.

ولذا نجد أن الوسائط التي اتخذت من دون اللَّه عزّ وجلّ أخفقت في وساطتها ووجاهتها وكانت شركاً باللَّه عزّ وجلّ؛ لأنها استقلّت عن سلطانه وإرادته وإذنه.

والغريب في هذا المجال هو أن أصحاب هذه المقالة والجاحدين للتوسل آمنوا بأن الشفاعة والتشفّع بالنبيّ صلي الله عليه و آله في الآخرة ليس شركاً وكذا التشفّع بالنبيّ صلي الله عليه و آله حال حياته، وأما التشفّع به صلي الله عليه و آله حال موته فزعموا أنه من الشرك الأكبر.

ويرد عليهم السؤال التالي: إن دائرة الشرك من أين نتجت؟

هل من حدّ معني الشفاعة والواسطة، أو من حدّها التعبّدي، أو من خلال المعني العقلي؟

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 54

فاذا كان المعني عقلياً فالغيرية إذا أوجبت الشرك، فإنها توجبه في كلّ نشأة، سواء نشأة الدنيا أو الآخرة، وإذا لم توجب الغيرية الشرك لجهة الوساطة، فما هو الفرق بين أنواع التشفّع في الدنيا والآخرة، أو حال الموت وحال الحياة؟!

لا سيما وأن الشرك الأكبر «1» معنيً عقلي يدركه العقل، ونفيه وإثباته في متناول الأحكام العقلية، وهي لا تقبل التخصيص والاستثناء، لا سيما وأنها من الأحكام التي تقرب من البداهة.

وبعبارة أخري: إن الوسيلة والوساطة تعني تقوّم الواسطة والوسيلة باللَّه، وكونها مظهر فعله وظهوره، وهذا عين التوحيد في الأفعال والصفات، فكيف يُجحد تحت قناع أنه الشرك الأكبر، وتسمية ذلك الجحود بأنه توحيد؟!

فإن ذلك من التلبيس لأحد العنوانين مكان الآخر، خصوصاً وأنه قد مرّ أن إنكار الوسيلة والتوسّل بل يؤول إلي إنكار الشهادة الثانية؛ لأنه يؤول إلي إنكار ركنية ودخالة رسالة ومقام خاتم الأنبياء في التوحيد.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 55

الفصل الثاني: الأدلّة القرآنية … ص: 55

اشارة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 56

1- حقيقة التوسّل في أربع طوائف قرآنية

2- قصة آدم مع إبليس

3- الآيات البيّنات في المسجد الحرام

4- التوجه إلي القبلة طاعة للنبي صلي الله عليه و آله

5- المودة لذرية إبراهيم عليه السلام من شرائط الحجّ وغاياته

6- الولاية من شرائط المغفرة

7- الوفود علي ولي اللَّه من شرائط الحجّ

8- الأنبياء مصدر البركة

9- البقعة المباركة

10- وجوب تعظيم الأنوار الإلهية

11- بناء المساجد علي قبور الأولياء

12- حبط الأعمال وقبولها

13- آيات القسم بشخص النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله

14- الآيات الآمرة بالتوسل بالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله

15- آيات التوسّل بمخلوقات كريمة أُضيفت إلي الأنبياء والأولياء عليهم السلام

خاتمة في:

أ- الروايات الواردة في

مشروعية التوسّل.

ب- آراء أعلام السنّة في التوسّل

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 57

الأدلّة القرآنية … ص: 57

1- (حقيقية التوسّل في أربع طوائف قرآنية): … ص: 57
اشارة

إنّ الآيات القرآنية المباركة الدالّة علي أنّ الإنكار علي المشركين مُنصبّ علي الوسائط المقترحة دون الوسائط الإلهيّة علي طوائف متعدّدة:

الطائفة الأولي: وهي ما كانت بلسان استنكار الأسماء المقترحة من قبل العبيد ومن سلطانهم وهوي أنفسهم.

1- قوله تعالي: «أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ» «1».

وهذا الكلام يسجّله اللَّه عزّ وجلّ في قرآنه الكريم علي لسان نبيّه هود عليه السلام، حيث يحاجج عاداً قومه وينكر عليهم الوسائط المقترحة من عند أنفسهم والتي لم ينزل اللَّه عزّ وجلّ بها سلطاناً.

وقد تقرّر في علم أصول الفقه أن النهي أو النفي إذا ورد علي طبيعة مقيّدة بقيد، فإنما يقع ذلك النفي أو النهي علي القيد لا علي ذات المقيّد، كقولك: لا رجل طويل في الدار، فإنّ النفي في هذا المثال متوجّه إلي القيد وهو الطول،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 58

وليس المراد نفي أصل وجود الرجل في الدار، وبالنتيجة يكون المنفي الصنف والقيد وهو الرجل الطويل، لا ذات الطبيعة المقيّدة وهو عموم الرجل.

كذلك في المقام، فالآية في قوله تعالي: «مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ» تنفي صنفاً خاصّاً من الوسائط والوسائل، وهي الوسائط التي لم ينزّل بها اللَّه تعالي سلطاناً، والأسماء المقترحة والمجعولة من قبل أنفسهم وآبائهم.

فمصبّ الإنكار والتقريع والتخطئة هو كون تلك الأسماء والوسائط مقترحة من غير إذنٍ وسلطان إلهي.

ولم تنفِ الآية المباركة أصل وجود الوسائط والوسائل، وإلّا فلو كان أصل الوساطة والتوسيط أمراً مستنكراً فلا معني لذكر القيد، بل يكون ذكره لغواً ومخلّاً بالغرض والمراد.

مع أن الآية ركّزت علي ذكر القيد، وأكّدت علي أنّ الأسماء المستنكرة هي التي «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ

سُلْطَانٍ» لا مطلق طبيعة الأسماء والوسائط.

فليس الاشكال في أصل الاسم والوساطة، بل الاشكال في كونها مقترحة منهم ومسندة إليهم، من دون أن يُسمّها اللَّه عزّ وجلّ أو يجعلها واسطة بينه وبين خلقه.

وفي الآية المباركة إشارة لطيفة، حيث لم يطلق فيها الاسم علي ذات الباري عزّ وجلّ، بل أطلق علي ذات الواسطة بينه تعالي وبين عبيده، أي واسطة في النداء ووسيلة في التوجّه، فالإسم الذي يُدعي به هو الوسيلة أو الواسطة التي يتوسّل بها إليه.

2- قوله تعالي: «إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 59

سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَي الْأَنْفُسُ» «1».

وتقريب الاستدلال بهذه الآية الكريمة بنفس ما تقدّم في الآية السابقة، حيث أنها تجعل مركز التخطئة والاستنكار هو التصرّف الاقتراحي من العبيد في سلطان اللَّه تعالي، وليست التخطئة لأصل مقالة الحاجة والضرورة إلي الوسائط.

الطائفة الثانية: وهي ما كانت بلسان حصول الشرك بغير اللَّه عزّ وجلّ، بسبب الوسائط التي لم تكن بسلطان اللَّه وحكمه وإرادته.

1- قوله تعالي: «سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَي الظَّالِمِينَ» «2».

2- قوله تعالي: «وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا» «3».

3- قوله تعالي: «قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإْثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَي اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ» «4».

فسبب الشرك الذي وقعوا فيه هو تحكيم سلطانهم ورغبتهم وهواهم وإرادتهم علي إرادة اللَّه تعالي وسلطانه، لا أن أصل الوساطة هو المرفوض في منطق القرآن الكريم.

الطائفة الثالثة: وهي ما كانت بلسان

العبادة من دون اللَّه تعالي، وأن التوسّل

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 60

بالوسائط والشفعاء بغير سلطان وإذن من اللَّه عزّ وجلّ يوجب عبادة مَنْ هو دونه، وهي الوسائط المقترحة.

1- قوله تعالي: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ» «1».

2- قوله تعالي: «مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» «2».

لا يقال: إذا كانت العبادة المرفوضة هي عبادة المعبود الذي لم ينزّل اللَّه به سلطاناً، فهل هذا يعني أن العبادة لغير اللَّه تعالي تكون جائزة فيما إذا نزّل به اللَّه عزّ وجلّ سلطاناً؟!

لأننا نقول: العبادة لغير اللَّه تعالي ممنوعة مطلقاً، والباري تبارك وتعالي لا يأمر بعبادة غيره، ومضمون هذه الطائفة من الآيات عين المضمون الذي تقدّم في الطوائف السابقة من الآيات، وهو أن العبادة من دون اللَّه تعالي تتحقّق فيما إذا كانت الوسيلة بإرادة العبيد واقتراحهم، وأما إذا لم تكن كذلك فلا تكون عبادة من دون اللَّه، بل هي عبادة للَّه عزّ وجلّ، كما جاء ذلك في سجود الملائكة لآدم، فهو سجود وطاعة للَّه تعالي، وامتثالٌ لأمره، لا أن السجود لآدم بنحو الاستقلال، لكي يكون عبادة وخضوعاً له من دون اللَّه عزّ وجلّ.

فهذه الطائفة من الآيات تبيّن أن العبادة من دون اللَّه تعالي إنما تتحقّق فيما إذا كان التوجّه إلي الوسائط المقترحة من قبل العبيد، من دون أن ينزّل بها اللَّه

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 61

سلطاناً، وأما إذا كانت الوسائط منصوبة من قبل اللَّه عزّ وجلّ وبسلطان منه والتوجّه إليها بإرادته وأمره، فحينئذٍ يكون التوجّه إلي الوسائط انقياداً وامتثالًا للأمر الإلهي وعبادة للَّه تبارك وتعالي؛ لأنّه تحكيم لسلطانه وانصياع لأوامره.

فالذي يأتمر بأوامر اللَّه تعالي

بالانقياد مطلقاً بالوسائط أو بغيرها هو الموحّد التامّ في مقام العبودية والطاعة، وفي غير ذلك يكون قد تجرّأ واستكبر علي الباري تعالي وكفر بربوبيّته، كما فعل إبليس عندما استكبر وكان من الكافرين.

الطائفة الرابعة: ومضمونها هو أن أخذ التشريع من غيره تعالي يُعدّ شركاً في التشريع إذا كان من دون إذن اللَّه عزّ وجلّ.

1- قوله تعالي: «أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ» «1».

2- قوله تعالي: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ ءآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَي اللَّهِ تَفْتَرُونَ» «2».

نتيجة الطوائف الأربع: … ص: 61

إنّ الإنكار علي الوثنية والمشركين ليس في فكرة الوسائط، بل باقتراحهم من الوسائط ما لم ينزّل اللَّه بها سلطاناً، فشركهم بمنازعة سلطانهم لسلطان اللَّه تعالي.

إذن فمشركو الجاهلية مع أنهم توسّلوا وتشفّعوا بالأصنام والأوثان بُغية الزلفي والتقرّب إلي اللَّه تعالي، وهم يعلمون أن الأصنام ليست غنية بالذات،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 62

وإنما هي وسائط وشفعاء إلي اللَّه عزّ وجلّ، مع ذلك كلّه اعتبرهم اللَّه تعالي من المشركين، وليس ذلك إلّالكون محطّ الإنكار عليهم ليس في نظرية وعقيدة الحاجة إلي الوسائط، بل لكون الوسائط والشفعاء التي تشفّعوا بها لم يأذن بها اللَّه تعالي، ولم تكن بإرادته وسلطانه، وإنما هي من تحكيم سلطانهم علي سلطان اللَّه تعالي.

وهذه الطوائف من الآيات مفسّرة لكلّ آيات الإنكار علي المشركين والوثنيين عبدة الأصنام وغيرهم، وأين هذا من المعني الذي يتوخّاه المنكرين لأصل التوسيط والوساطة، إذ جهة الزيغ والانحراف ليس في أصل فكرة الوسائط والوسائل والاحتياج إليها، بل من جهة كونها بإرادة العبيد وتحكيمها علي إرادة الربّ وسلطانه.

2- قصة آدم مع إبليس … ص: 62
اشارة

إنّ هذه الملحمة تعدّ من أوضح الأدلّة علي ضرورة التوجّه إلي الوسائط والحجج الإلهيّة، لطلب الزلفي والقرب من اللَّه عزّ وجلّ.

وهذه الواقعة تضفي بلونها علي جميع أصول الدين، إذ هي جاءت لتعيين مصير ومعالم مسار البشرية في مبدأ وفاتحة الخليقة، وذلك واضح لمن تتبّع الآيات التي استعرضت هذه الواقعة.

ونحن هنا نتعرّض إلي ما له صلة بالمقام:

وفيما يلي نذكر بعض السور والآيات التي استعرضت القصة:

1- قوله تعالي: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 63

وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ» «1».

2- قوله تعالي: «إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ* فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ

أَجْمَعُونَ* إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ* قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ* قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ* قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ* وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَي يَوْمِ الدِّينِ» «2».

3- قوله تعالي: «وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ* قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ* قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ» «3».

4- قوله تعالي: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ* فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ* إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَي أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ* قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ* قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ* قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ* وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَي يَوْمِ الدِّينِ» «4».

5- قوله تعالي: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 64

الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ» «1».

هذه بعض الآيات التي تعرّضت للواقعة التي هي محلّ البحث.

وقد احتوت هذه القصّة علي دلالات متعدّدة تنصّ علي أسس المعارف الاعتقادية، وأحد تلك الجوانب المهمّة في القصّة هي أمر اللَّه تعالي الملائكة بالسجود لآدم، وذلك ضمن عدّة تعابير تبيّن شدّة الأمر بالانقياد والخضوع لآدم عليه السلام، كقوله تعالي: «فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ» «2»

، حيث احتشدت فيها الدوالّ التأكيدية ك (هم) و (أجمع) و (كلّ) و (الملائكة) وغيرها، وكقوله تعالي: «فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ» فهو أمر بالوقوع للسجود

مباشرة بلا فصل، ولا يخفي ما في التعبير بالوقوع من شدّة الخضوع والطوعانية وانقياد الملائكة لآدم عليه السلام.

وعلي ضوء مقالة أصحاب الشبهات المتقدّمة الجاحدين للتوسّل يكون امتناع إبليس من السجود عين التوحيد، فحيث أن إبليس أبي جعل الواسطة يكون أكبر موحّد؛ لكونه متقيّداً ومتشدّداً في العقيدة التوحيديّة وأول رائد لدعوة التوحيد ونفي العقيدة الشركيّة التي تورّط بها الملائكة بحسب زعم الجاحدين للتوسّل، ويكون إبليس علي هذا صاحب تحرّر وانفتاح وشفّافية في العبادة لرفضه الواسطة.

ويكون انقياد الملائكة وخضوعهم للواسطة هو الشرك الأكبر، ويكونون

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 65

بذلك مغالين في آدم، قد خلقوا منه صنماً والعياذ باللَّه لتقديسه وتعظيمه، بينما القرآن الكريم يقرّر الحقيقة علي خلاف ذلك، حيث يعتبر الملائكة موحّدون مطيعون، وأصبحوا بسجودهم في غاية القرب للَّه تعالي؛ لامتثالهم وطوعانيتهم للأوامر الإلهيّة، وفي الوقت ذاته حكم علي إبليس بالكفر، حيث عبّر عنه بأنّه كافر مستكبر مدحور ملعون مطرود عن ساحة الرحمة الإلهيّة.

ولا يستقيم معني كفر إبليس وتوحيد الملائكة في القرآن الكريم، إلّاعلي الضابطة التي ذكرناها، وهي أنّ المدار في الطاعة والعبادة وتوحيد اللَّه تعالي علي وجود الأمر الإلهي، فمع مخالفة الأمر الإلهي يتحقّق الكفر والشرك، وإن كان مضمون المخالفة هو رفض الوسائط، وذلك ما صنعه إبليس فأصبح مذؤوماً مدحوراً، وأما الملائكة الذين انقادوا وخضعوا للأمر الإلهي، فهم الموحّدون المطيعون، ولو كان ذلك عن طريق الواسطة والسجود لآدم عليه السلام، سواء فُسّر السجود بمعني جعل آدم قبلة لهم، أو بمعني الاحترام والتعظيم والانقياد لآدم والخضوع له.

إذن أصبح إبليس في غاية البعد من اللَّه عزّ وجلّ واستحقّ الطرد من رحمة اللَّه تعالي؛ لاستكباره علي طاعة الأمر الإلهي؛ ولأنّه أراد أن يُحكّم إرادته وسلطانه علي إرادة الباري تعالي وسلطانه، كما

جاء ذلك في الحديث القدسي، قال إبليس: (ربّ اعفني من السجود لآدم وأنا أعبدك عبادة لم يعبدكها ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل، فقال جلَّ جلاله: لا حاجة لي في عبادتك، إنما عبادتي من حيث أريد لا من حيث تريد) «1»، وليس ذلك إلّالكون عبادته التي يزعمها مع رفضه السجود لوليّ اللَّه وواسطته- تكبّراً وتجبّراً علي اللَّه عزّ وجلّ وتحكيماً لسلطانه

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 66

علي سلطان اللَّه تعالي، وهذا ينافي مضمون حقيقة العبادة، التي هي الخضوع والطوعانية للأوامر الإلهية؛ إذ ليس مدار العبادة علي وجود الواسطة وعدمها كما سبق.

فإبليس في حقيقة الأمر كان عابداً لهواه، والعابد أصبح هو المعبود لنفسه؛ إذ لم تكن عبادته خاضعة للأوامر الإلهية.

ثم إن مقام السجود والخضوع والانقياد لآدم عليه السلام لم يكن من مختصّاته، بل إن ذلك مقام الخلافة الإلهيّة، فكلّ من يتحلّي بهذا المقام ويتسنّم منصب الخلافة يكون مسجوداً للملائكة والجنّ وغيرهم ممّا خلق اللَّه عزّ وجلّ.

إذن فالخطاب والأمر بالسجود شامل لكلّ خلفاء اللَّه تعالي، خصوصاً وأن بعض الخلفاء الإلهيّين أعلي وأشرف منزلة من آدم عليه السلام في مقام الخلافة.

وعلي ذلك صحّ أن يقال: أن الآيات والأمر الإلهي بالسجود شامل وعام، أي اسجدوا لمحمّد ونوح وإبراهيم وموسي وعيسي وهارون وداود وأوصياء الأنبياء عليهم السلام، الذين هم خلفاء اللَّه في الأرض بنحو أشدّ وأكثر خضوعاً ممّا كان لآدم عليه السلام.

ومعني ذلك أن اللَّه عزّ وجلّ يُطوع جميع مخلوقاته ويأمرهم بالخضوع إلي خليفته ويأمرهم بالسجود له، أي يفترض عليهم ولايته وطاعته، بمعني أن يتوجّهوا في عباداتهم إلي اللَّه تعالي بالخليفة الذي جعله واسطة بينه وبينهم.

وهذا هو معني جعل وليّ اللَّه قبلة يتوجّه به إلي اللَّه تعالي.

وقد ورد التعميم في حكم السجود والخضوع

لمطلق الخليفة في قوله تعالي: «إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 67

مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ» «1»

، فالبشر الذي خلقه اللَّه تعالي من طين وشرّفه بروح منه وهو روح القدس، لابدّ من السجود والخضوع والانقياد له في التلقّي عن اللَّه تعالي.

ملحمة إباء إبليس وسجود الملائكة لا زالت راهنة مستمرّة في هذا العصر … ص: 67

وإذا عرفت هذا وتمعّنت فيه يتّضح لك أن الملائكة وسائر الموجودات المخلوقة لا زالت ساجدة خاضعة منقادة لوليّ اللَّه وخليفته في أرضه، ولا زال إبليس وأعوانه وأتباعه وأشياعه من الجنّ والإنس يستكبرون علي خليفة اللَّه، وينكرون وساطته ويرفضون الخضوع له والتوجّه إليه والتوسّل به إلي اللَّه تبارك وتعالي.

وهذا الذي ذكرناه كما ينطبق علي النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله كذلك يصدق علي الأوصياء الأصفياء والأئمّة والخلفاء من بعده من أهل بيته عليهم السلام.

وهذا أيضاً نداء قرآني للمسلمين وكافّة البشر بالانقياد لمحمّد صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام بمعني الخضوع لهم والتوجّه بهم إلي اللَّه عزّ وجلّ في مقام العبادة، وهذا هو النمط الثاني لفرض ولايتهم وطاعتهم عليهم السلام، مضافاً إلي النمط الأول وهو معرفتهم والإيمان بهم.

والحاصل: أن ما اقترحه إبليس علي اللَّه عزّ وجلّ من السجود المباشر من دون توسيط وليّ اللَّه تعالي وهو آدم عليه السلام عين الشرك والكفر؛ لأنّه تكبّر وتجبّر

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 68

وتمرّد علي اللَّه عزّ وجلّ، وهو ينافي العبادة والعبودية التي مدارها علي الطوعانية والانصياع.

والملائكة في سجودهم لآدم موحّدون في العبادة؛ لكونهم خاضعين منقادين لأمر اللَّه عزّ وجلّ، وهو معني العبادة والاستسلام لإرادة الباري عزّ وجلّ.

وكان سجودهم وخضوعهم وانقيادهم لآدم عبادة للَّه تعالي وطاعة له؛ لكونها ناشئة عن أمره عزّ وجلّ، ولذا ورد في الحديث عن

أمير المؤمنين عليه السلام، قال في سجود الملائكة: «لم يكن سجودهم عبادة له، وإنما كان سجودهم طاعة لأمر اللَّه عزّ وجلّ» «1».

وهذا هو الفارق الأساس الذي يفصل بين التوجّه لأحجار الكعبة الشريفة وبين التوجّه للأصنام، مع أن كلّ منهما حجر، فهذا شرك وذاك توحيد، ومداره وجود الأمر الإلهي وعدمه.

ثمّ إنّ السجود لآدم والسجود تجاه الكعبة والتبرّك بالحجر الأسود وغير ذلك ليس عبادة لها، بل هي عبادة لصاحب الأمر، وهو اللَّه عزّ وجلّ، فهو الذي أمر بذلك، والعباد منقادون مطيعون لأمره تبارك وتعالي.

الإمامة ركن التوحيد: … ص: 68

ومن المعالم المهمّة أيضاً، والتي استعرضتها الآيات القرآنية في قصّة آدم هي الولاية والخلافة، فالتوحيد في العبادة لا يكون إلّابالانصياع والتذلّل لخليفة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 69

اللَّه تعالي المنصوب من قبله عزّ وجلّ، فإبليس الذي استكبر علي الخلافة والإمامة في الأرض كافر بنصّ القرآن الكريم، والملائكة الذين خضعوا وسجدوا لخليفة اللَّه تعالي موحّدون في العبادة.

فالإمامة معلم من معالم توحيد اللَّه تعالي في الطاعة، والمطيع والخاضع لوليّ اللَّه ووسيلته، هو الموحّد الحقيقي، وبذلك يكون الكون بأجمعه مأموراً بالطاعة والانقياد لمقام الخلافة والإمامة في الأرض، بما فيهم كبار الملائكة المقرّبين، حيث أخذ اللَّه عزّ وجلّ الولاية للإمام والخليفة علي جميع الملائكة، فمن يأبي ذلك يندرج تحت قوله تعالي: «أَبَي وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ».

ولا شكّ أن الإيمان بهذه العقيدة من مختصّات المذهب الإمامي، الذي آمن بأن السبب المتّصل بين الأرض والسماء لم ينقطع بعد وفاة النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله، وأن الولاية الفعلية للَّه تعالي والحاكمية السياسية والقضائية والتنفيذية والتشريعية، لا زالت قائمة بعد النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله، فولاية اللَّه تعالي في تدبير النظام الاجتماعي بشكل مطلق غير معطّلة.

وبذلك كلّه نخلص إلي: أنّ

إنكار الواسطة المنصوبة من اللَّه عزّ وجلّ هو ما قام به إبليس، حيث يدّعي التوحيد في العبادة، لكن باطن دعواه الشرك، فلابدّ أن يُلتفت إلي أن العبادة في جوهرها وروحها ليست بهيئة السجود أو الركوع أو تحريك اللسان أو بالقصد إلي بيت اللَّه الحرام فيما إذا كان المكلّف يحمل في طيّات نفسه الإباء والاستكبار علي ربّه، فإن هذا هو محطّ الكفر والصنمية والفرعنة.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 70

ضابطة العبادة: … ص: 70

ومن هنا قد ينبثق إشكال أشرنا إليه سابقاً وأجبنا عنه إجمالًا نحاول أن نجيب عنه بشي ء من التفصيل.

وحاصل الاشكال: هو أن البحث انتهي بنا إلي أن المدار في العبادة علي قصد الأمر وعدمه، فلو كان كذلك فهل يعقل أن الباري يأمر بعبادة غيره؟!

فإذا كان ذلك غير معقول فلا يكون المدار علي وجود الأمر وعدمه، بل المدار علي تخصيص العبادة باللَّه تعالي وعدم تخصيصها به.

وبعبارة أخري: لو كان المدار علي وجود الأمر وعدم الأمر لكان من المعقول أن اللَّه تعالي يأمر بعبادة غيره، والحال أن القرآن الكريم في آيات عديدة ينهي عن الكفر والشرك وعبادة غير اللَّه تعالي.

وحينئذٍ يكون المدار علي ذات الفعل وذات الخضوع، فإن كان لغير اللَّه فلا يعقل أن يؤمر به من قبل اللَّه عزّ وجلّ، وإن كان للَّه عزّ وجلّ فهو العبادة التوحيدية، فالخضوع والفعل العبادي لا يقبل التوسيط، بل لابدَّ من توجيهه وتخصيصه وإضافته إلي اللَّه عزّ وجلّ، ولا يعقل أن يتوجّه إلي غير اللَّه عزّ وجلّ في الفعل.

فالضابطة ليس علي وجود الأمر فقط، بل علي اسناد الفعل أيضاً، فإذا تمحّض الفعل في الإضافة إلي اللَّه عزّ وجلّ يكون توحيداً في العبادة، وإذا امتزج الفعل في الإضافة إلي غير اللَّه تعالي يكون شركاً، فالمدار علي

إثبات الواسطة ونفيها.

والجواب: هو أن المدار علي وجود الأمر لا غيره، والذي يُحقّق كون العبادة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 71

والخضوع مضافتين إلي اللَّه عزّ وجلّ دون غيره هو نفس وجود الأمر وامتثاله.

وذلك كما ذكرنا في الفارق بين التوجّه إلي الكعبة وهي أحجار وبين التوجّه إلي الأصنام من قبل الوثنية، وهو وجود الأمر وعدمه.

وبعبارة أخري: مع وجود الأمر الإلهي لا يكون الخضوع والعبادة للواسطة، بل لأمر اللَّه محضاً، ومع عدم وجود الأمر لا يكون الخضوع للَّه وإن نفيت الواسطة، بل يكون خضوعاً لهوي النفس واستكبارها.

فإن العبادة بتسالم علماء الإسلام ليس تحقّقها بالهيئة فقط، وإنما جوهر العبادة وروحها بالخضوع والطوعانية والسلم والاستسلام.

ومن الواضح أن الهيئات والأفعال البدنية، من السجود والركوع وألفاظ الدعاء، من درجات العبادة النازلة في القوي الإنسانية، وأما درجات ذات الانسان العالية كقوة عقله وقلبه فإن عبادته بالتسليم والانقياد والإذعان، وهي المعرفة الإيمانية، ومن ثم ورد أن «الأعمال بالنيّات» أي أن قيمة العبادة بلحاظ النيّة، والنيّة هي التوجّه القلبي المتولّد من الإيمان.

وعليه فما اشتهر من تقسيم التوحيد إلي توحيد الذات والصفات والأفعال وتوحيد العبادة لا يخلو من مسامحة، لأن التوحيد في مقام المعرفة هو توحيد عبادة أيضاً، حيث أن إذعان القلب والعقل والروح وتسليمها بتوحيد الذات والصفات والأفعال خضوع للباري تعالي، وإخبات وتسليم، فهي عبادة للَّه من العقل والقلب والروح، ولا يمكن أن يكون للبدن والنفس عبادة للَّه ولا يكون للعقل والقلب والروح عبادة للَّه بالإيمان والإذعان والتسليم والإخبات وعدم الجموح والتمرّد علي اللَّه تعالي، إذ أن جوهر العبادة هو التسليم والإنقياد

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 72

والطاعة والطوعانية وكون العبد طيعاً مطاوعاً.

فإذا أمر الباري تعالي بهيئة معينة في العبادة فطاعة ذلك الأمر هو العبادة التوحيدية، وإن كان لهيئة العبادة المأمور بها

علاقة وإضافة إلي وسيلة وواسطة معيّنة، فقوله تعالي: «فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» «1».

إنما هو جعل إلهي للواسطة والوسيلة وهي الكعبة، وهذا لا يعني أن اللَّه تعالي يأمر بعبادة الكعبة والسجود والخضوع لها، بل إنما السجود والخضوع له تبارك وتعالي، وباب التوجّه إليه عزّ وجلّ هي الكعبة، فهي وجه اللَّه عزّ وجلّ، حيث أطلق الباري علي الكعبة والمسجد الحرام بأنه وجه اللَّه؛ لأنه تعالي قال:

«وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» والوجوه إنما يقابلها وجه يكون واسطة بين العبد والمعبود، ثم بعد ذلك يُعقّب اللَّه عزّ وجلّ بأنني عندما أقول توجّهوا إلي الكعبة واجعلوها قبلة ووجهاً لا يعني انحصار الوجه الإلهي بالكعبة، بل «وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» «2»

، وإنما الوجه الأساس الذي جعل في التوجّه إلي اللَّه عزّ وجلّ في الصلاة هو الكعبة الشريفة.

فإذا كانت الكعبة تستحقّ أن تكون وجهاً للَّه تعالي، فكيف لا يكون سيّد الرسل صلي الله عليه و آله وجهاً من وجوه اللَّه عزّ وجلّ، بل أعظم الوجوه للَّه تعالي؟!

مع أن الكعبة المشرّفة عبارة عن أحجار.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 73

نعم المجسّمة يقولون إن وجه اللَّه تعالي هو العضو الجسماني منه، وهو قول باطل بالضرورة؛ إذ لا وجه ولا يد ولا رجل للَّه عزّ وجلّ بمعني أنه عين ذاته، نعم يده من مخلوقاته بمعني القدرة والتصرّف، ووجهه بمعني التوجّه إليه تعالي بآياته، التي هي علامات ودلالات مخلوقة للَّه تعالي لابدّ من الاستدلال بها علي ذي الآية.

وحينئذٍ فالمدار علي وجود الأمر، وهو الذي يخصّص الخضوع بكونه للَّه تعالي لا لغيره وإن أضيف إلي الواسطة، إذ ليست هي إضافة خضوع وعبادة، بل إضافة

وسيلة وتوجّه بحسب ما هو الأمر الإلهي، والأمر هو مقام الآمرية والمولوية للَّه عزّ وجلّ، وإعمال سلطنة علي العبد، وانقهار العبد واستسلامه لإرادة مولاه يُعدّ عبادة لمولاه لا لغيره، فمع وجود الأمر لا يعقل أن تكون العبادة لغير اللَّه، لأن العبادة التي هي الطاعة لغير اللَّه لا يتحقّق معناها مع وجود الأمر من اللَّه تعالي، ومع عدم وجود الأمر لا يكون الإتيان بالفعل طاعة وعبادة للَّه وإن حذفت الوسائط، بل يكون شركاً وطاعة لهوي النفس وتكبّراً واستكبار علي آيات اللَّه تعالي وحججه.

والحاصل: إن المدار في العبادة ليس علي هيئة الأفعال والطقوس فحسب، كما تسالم علي ذلك علماء المسلمين من فقهاء ومحدثين ومتكلّمين ومفسّرين، فإن اللّاعب الرياضي قد يتخذ هيئة خاصة كالسجود والركوع وغيرهما، ولكن قصده الرياضة من شدّ عضلات الظهر أو الركبتين أو غيرها، وكذا دفع الخمس أو الزكاة بقصد الرشوة أو السمعة والرياء، فإن ذلك كلّه ليس من العبادة، وإن كانت هيئته هيئة عبادية، وليس ذلك إلّالكونه خارجاً عن إطار

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 74

الأوامر الإلهية.

ولذا كان امتثال الأمر الإلهي بالسجود أو الركوع إلي الكعبة والاعتكاف في المسجد والوقوف بعرفة والسعي بين الصفا والمروة والازدلاف إلي مني والطواف حول البيت الحرام ليس عبادة للكعبة أو المسجد أو عرفة أو غيرها، وإنما إضافة تلك الهيئات العبادية إليها إضافة امتثال وطاعة وتوسّل وتوجّه إلي اللَّه تعالي انقياداً لأمره، ولا يعني ذلك صنمية أو عبادة لتلك البقاع الطاهرة؛ إذ مع وجود الأمر الإلهي يكون الامتثال انقهاراً واستسلاماً من العبد لربّه، ولا يمكن أن تكون عبادته عبادة لغير اللَّه تعالي، بل قد تكون أفعال ونسك الحج والصلاة إلي الكعبة شركاً، كما كان في عهد الجاهلية قبل الإسلام، وتكون توحيداً إذا كانت

بولاية ولي اللَّه وهو الرسول كما في أفعال الحج بعد الإسلام، فالسجود والخضوع لمن أمر اللَّه عزّ وجلّ بالخضوع له طاعة للَّه بالأصالة، وليس المسجود له إلّاواسطة في العبادة، وآية في المعرفة والانقياد.

3- الآيات البينات في المسجد الحرام: … ص: 74
اشارة

قال تعالي: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًي لِلْعَالَمِينَ* فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَي النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ» «1»

، فالآية تتحدّث عن بناء البيت الحرام وأنه أوّل بيت وأشرف بيت وضع للناس لأجل عبادة اللَّه تعالي، فهو إمام المساجد وأوّلها، ومنه تتشعّب بقيّة بيوت اللَّه تعالي، التي وضعت للعبادة، ففي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 75

الآية الكريمة مزج بين حقيقتين:

الأولي: أن البيت الحرام هو أوّل بيت وضع للعبادة وللحجّ.

الثانية: ما يحويه هذا البيت المبارك من آيات بيّنات، وهي مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً.

فعندما أراد اللَّه تعالي أن يبيّن حقيقة بيته المبارك وأنه وضع للعبادة والتوحيد والتطهير من الشرك والهداية للعالمين، ذكر سبب ذلك، وهو أنه فيه آيات بيّنات.

إذن الركن الركين في ماهية البيت الإلهي وفي كونه هداية للعالمين ومحلّاً للعبادة والتوحيد ونفي الشرك هو كونه فيه آيات بيّنات، فالذي يُعضّم شأنه ويجعل العبادة فيه عبادة توحيدية توفّره علي تلك الآيات البيّنات، والعطف في الآية المباركة عطف بيان، فالآيات المقصودة في الآية المباركة هي مقام إبراهيم عليه السلام أوّلًا، ومن دخله كان آمناً ثانياً، وهاتان الآيتان في البيت الحرام ذُكرا علي سبيل التمثيل لا الحصر؛ ولذا جاء التعبير في الآية بلفظ الجمع وهو (آيات بيّنات).

فالبيت الذي وضع للناس من أجل العبادة والهدي ونفي الشرك ميزته التي جعلته كذلك هي أنه فيه آيات بيّنات، والحجّ الذي هو

شرعاً القصد إلي بيت اللَّه الحرام للوفود علي اللَّه تعالي جُعل مقروناً بالآيات، وهي مقامات الأنبياء وقبورهم ومناسكهم؛ ليكون دليلًا وشاهداً علي أن التوجّه والسير إلي اللَّه عزّ وجلّ لا يتمّ إلّابالتوجّه بأنبيائه وأصفيائه والتوسّل بهم إلي اللَّه تعالي.

فلا ينفكّ توحيد اللَّه وعبادته عن التمسّك بالآيات البيّنات، كما مرّ ذلك في

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 76

سورة الأعراف، وهو قوله تعالي: «إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَاتُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّي يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُمجْرِمِينَ» «1»

، حيث ربطت بين التمسّك بالآيات وبين استجابة الدعاء والتقرّب وقبول الأعمال والنجاة من النار.

وفيما يلي نحاول استعراض بعض هذه الآيات البيّنات الموجودة في البيت الحرام، وهي:

1- مقام إبراهيم عليه السلام.

2- الأمن والأمان بالنسبة إلي داخليه من الحجّاج والمعتمرين وغيرهم.

3- المستجار أو الملتزم.

4- حجر إسماعيل وقبره وقبر امه وقبر سبعين نبيّ.

5- الصفا والمروة.

6- الحجر الأسود.

7- مشاعر الحجّ ومناسكه، كالمزدلفة ومني والجمرات وعرفة.

مقام إبراهيم: … ص: 76

هذه الآية الإلهية من أبرز معالم وآيات المسجد الحرام، وقد نصّت علي ذلك الآية التي هي محلّ البحث، وقد ورد في سورة البقرة أيضاً قوله تعالي:

«وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّي وَعَهِدْنَا إِلَي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 77

إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» «1»

، والتعبير ب (مقام) في كلا الآيتين للدلالة علي التفخيم والتعظيم لذلك المكان وهو حجر من الأحجار كما في قوله تعالي: «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ» «2»

وقوله تعالي:

«عَسَي أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا» «3»

، وليس ذلك إلّالكونه لامس بدن إبراهيم عليه السلام، حيث كان يقف عليه عند بنائه للبيت الشريف.

فهذا الحجر عظّمه اللَّه تعالي وفخّمه وسمّاه مقاماً، وأمرنا أن نتّخذه مصلّي، أي

نتّخذه قبلة بالاتجاه إليه وإلي الكعبة أثناء صلاة الطواف وغيرها في شعيرة الحجّ والعمرة، التي هي القصد والتوجّه إلي اللَّه عزّ وجلّ، فالحاج عندما يريد أن يقصد ويتوجّه إلي ربّه بعمرة أو حجّ في الطواف وفي بيت التوحيد ومعقله، لابدّ له من التوجّه بالحجج والوسائط والآيات إلي اللَّه تعالي، وهو مقام إبراهيم والكعبة المشرّفة، وليس ذلك كلّه إلّالتبرّك الحجر بملامسة بدن إبراهيم عليه السلام، فيتوجّه به إلي اللَّه في الصلاة، فلا يستطيع المسلم أن يتجنّب أو يستبعد آيات اللَّه وحججه في أبرز معالم التوحيد وهو الحجّ.

وإذا كان الحجر بملامسته بدن إبراهيم عليه السلام هذه حاله، فكيف بك بنفس النبيّ إبراهيم؟ ألا يتوجّه به إلي اللَّه عزّ وجلّ بالأولوية، فيقال: يا وجيهاً عند اللَّه اشفع

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 78

لنا عند اللَّه؟!

وقد جاء في دعاء الندبة ما يقرب من هذه المضامين.

والحاصل: إن هناك رمزاً آخر بالاضافة إلي رمزية الكعبة، لابدّ من التوجّه إليه واستقباله في الصلاة، ومن لم يصلِّ صلاة الطواف إلي المقام والكعبة معاً فصلاته باطلة، وبالتالي يكون نُسكه باطلًا وقصده إلي الباري تعالي لم يتحقّق، لعدم إتيان البيوت من أبوابها.

بيان آخر للآية الكريمة: … ص: 78

ثبت في علم الأصول أن الحكم معلول لموضوع نفسه ولا يمكن أن يكون علّة له، ففرض الموضوع سابق ومتقدّم علي فرض الحكم، والحكم في قوله تعالي، «وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّي» هو وجوب اتخاذ المقام مصلّي، والموضوع هو مقام إبراهيم عليه السلام، ومتعلّق الحكم هو استقبال مقام إبراهيم عليه السلام في الصلاة.

وحيث أن الموضوع سابق علي الحكم سبق العلّة علي معلولها، فلابدّ من فرض المفروغية عن جعل سابق لتحقّق الموضوع في نفسه، وهو كون مقام إبراهيم عليه السلام محلّ للقربات والتعبّد والبركة والقداسة، وحينئذٍ وبعد الفرغ

عن ذلك يأتي المحمول، وهو وجوب اتخاذه مصلّي باستقباله في الصلاة إلي جهة الكعبة.

فالحكم دالّ علي أن للموضوع أسبقية في القداسة وكونه معلماً من معالم الدين، وليس المقام المذكور إلّاصخرة لامست قدمي إبراهيم عليه السلام فتقدّست بذلك وأصبحت ذات حرمة يتولّد منها وجوب اتخاذه مصلّي، بأن يجعل قبلة مع الكعبة، فيستقبل في صلاة الحجّ والطواف في بيت اللَّه الحرام، ويتقرّب بالاتجاه به إلي اللَّه تعالي.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 79

فالمثابة إلي بيت اللَّه الحرام من دون اتخاذ مقام إبراهيم مصلّي يكون وثناً وشركاً كعمل المشركين ومناسكهم.

ومن ذلك يتّضح أن البيت الحرام إنما يجب أن يقصد بشرط، وهو أن تُقرن العبادة التوحيدية للحجّ بوليّ اللَّه إبراهيم عليه السلام، والمقامات المقدّسة والمشاهد المشرّفة، التي حلّ فيها أو لامست بدنه المبارك، فالمسلم يقصد في حجّه إلي اللَّه عزّ وجلّ الوصول إلي آثار الأنبياء ومقاماتهم؛ لكونها مواطن شعّرها اللَّه عزّ وجلّ وجعلها أسباباً ووسائط لنيل القربي والزلفي إليه تعالي.

وإذا كانت صخرة لامست قدمي إبراهيم عليه السلام لها تلك القداسة والعظمة والبركة، فكيف بك بمشاهد النبيّ الأعظم صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام، الذين هم أفضل وأعظم من إبراهيم وجميع الأنبياء عليهم السلام، حيث نصّ القرآن علي كون علي عليه السلام بمنزلة نفس النبي صلي الله عليه و آله، وهذا مقام لم يحظَ به أحد من الأنبياء والمرسلين، وكذلك قرنهم اللَّه تعالي بنبيّه في مواطن عديدة كما سيأتي بيانه، إختصهم بذلك دون بقية الأنبياء والمرسلين، كما نعتهم بأنهم أوتوا علم الكتاب كلّه في قوله: «لَايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» «1»

وهم أهل آية التطهير، وكذا ما في قوله تعالي:

«قُلْ كَفَي بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ» «2»

بينما لم يثبت

اللَّه تعالي علم الكتاب كلّه لأحد من الأنبياء، ففي النبي عيسي عليه السلام قال تعالي علي لسانه: «وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ» «3»

وفي شأن النبي موسي عليه السلام:

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 80

«وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً» «1»

فلم يكن من مقامهما عليهما السلام أن يبيّنا كلّ ما يختلف فيه بني إسرائيل ولم يكتب في ألواح موسي عليه السلام كلّ شي ء، بل من كل شي ء؟! وعلي هذا كلّه ألا تكون مشاهدهم والأماكن التي حلّوا فيها محلّاً للبركة والقداسة وموجبة للزلفي إلي اللَّه عزّ وجلّ؟!

إذن هذه الآية المباركة تفيد عموم التبرّك بمواضع الأنبياء والأولياء وأنه من صميم التوحيد ونبذه من صميم الوثنية والجاهلية.

وليس ذلك إلّالكونها من شعائر اللَّه، فيجب تعظيمها تعظيماً للَّه تعالي، فهذه الآية الكريمة دالّة بالنصّ علي تشعير مواطن الأنبياء والمصطفين للقربي والعبادة.

ثم إنه لا يخفي ما في التعبير ب (المقام) في الآية المباركة من الدلالة علي ما تقدّم؛ لأن التعبير ب (مقام) له دلالة شرعية أديانية بكون ذلك المكان محلّاً يتبرّك به.

وهكذا إضافة المقام إلي إبراهيم مُشعر بالعليّة، فليس ذلك الحكم حكماً لكلّ حجر، بل الحجر المنتسب إلي إبراهيم عليه السلام.

بل قد حكي القرطبي في تفسيره عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء أن مقام إبراهيم الحج كلّه، وعن عطاء أنه عرفة ومزدلفة والجمار وقاله الشعبي، النخعي: الحرم كلّه مقام إبراهيم، وقاله مجاهد «2»، فعلي هذه الأقوال في تفسير

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 81

مقام إبراهيم يتّضح جليّاً أن الحج والحرم كلّه قد مُلأ ببصمات وإضافات منتسبة إلي النبي إبراهيم عليه السلام وأنه لأجل ذلك استأهلت تلك الأماكن أن تكون مواطن لعبادة اللَّه، وأن الحج جعل عبادة توحيدية عظيمة بوسيلة التوجّه بأنبياء اللَّه في الأعمال

والنسك التي يؤتي بها، حيث أضيفت إليهم عليهم السلام، وسيأتي مزيد من الإيضاح لذلك في بقية مقامات الحج.

ولأجل ذلك كلّه ورد الحثّ عن أهل البيت عليهم السلام لأصحابهم بالتواجد في الأماكن التي شهدها النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وتشرّفت بحلوله صلي الله عليه و آله فيها.

من ذلك ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام، حيث قال لعبد الأعلي: «إذا مررت بوادي محسّر فاسعَ فيه، فإن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله سعي فيه» «1».

وعن عقبة بن خالد قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام إنا نأتي المساجد التي حول المدينة فبأيها أبدأ؟ فقال: «ابدأ بقبا فصلِّ فيه وأكثر، فإنه أوّل مسجد صلّي فيه رسول اللَّه صلي الله عليه و آله في هذه العرصة، ثم إئت مشربة أم إبراهيم فصلِّ فيها، فإنها مسكن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ومصلّاه» «2».

كذلك عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال لمعاوية بن عمّار: «لا تدع إتيان المشاهد كلّها، مسجد قبا فإنه المسجد الذي أسّس علي التقوي من أوّل يوم، ومشربة أمّ إبراهيم، ومسجد فضيخ، وقبور الشهداء ومسجد الأحزاب وهو مسجد الفتح» «3».

والروايات في هذا المجال كثيرة جدّاً نكتفي منها بهذا المقدار.

هذه هي الآية الأولي من الآيات البيّنات في المسجد الحرام.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 82

حجر إسماعيل: … ص: 82

لقد ورد في الروايات أن حجر إسماعيل يضمّ قبره وقبر أمه هاجر وقبر سبعين نبيّاً أو تسعة وتسعين.

ففي الكافي عن معاوية بن عمّار قال: «سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن الحجر أمن البيت هو أو فيه شي ء من البيت؟ فقال: لا ولا قُلامة ظفر، ولكن إسماعيل دفن أمه فيه فكره أن توطأ، فحجّر عليه حجراً، وفيه قبور أنبياء» «1».

وقال

السيوطي في الدرّ المنثور: (وتوفّي إسماعيل بعد أبيه فدفن داخل الحجر مما يلي الكعبة مع امه هاجر) «2».

وأخرج القرطبي في تفسيره، عن عبد اللَّه بن ضمرة السلولي: (ما بين الركن والمقام إلي زمزم قبور تسعة وتسعين نبيّاً) «3».

وفي الطبقات لابن سعد، عن أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: (لما بلغ إسماعيل عشرين سنة توفيت أمه هاجر وهي ابنة تسعين سنة فدفنها إسماعيل في الحجر) «4».

وأخرج أيضاً عن أبي جهم بن حذيفة بن غانم قال: (أوحي اللَّه علي إبراهيم عليه السلام أن يبني البيت وهو يومئذٍ ابن مائة سنة وإسماعيل يومئذٍ ابن ثلاثين سنة فبناه معه، وتوفّي إسماعيل بعد أبيه فدفن داخل الحجر مما يلي الكعبة مع

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 83

أمه هاجر) «1».

وفي كتاب فضائل مكّة للحسن البصري، عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قال: «إن حول الكعبة قبر ثلثمائة نبيّ، وما بين الركن اليماني والركن الأسود قبر سبعين نبيّاً» «2».

ثم إن من طاف حول الكعبة بإخراج حجر أسماعيل فطوافه باطل، وقد نصّ علي ذلك الفقهاء من الفريقين، أما فقهاء مدرسة أهل البيت عليهم السلام فهو واضح، وقد صرّحت بذلك روايات أهل البيت عليهم السلام، وأما فقهاء أهل سنّة الجماعة، فقد صرّحوا بهذه الحقيقة أيضاً، ففي مواهب الجليل للرعيني، قال: (وقال ابن مسدي في منسكه: وأما قولنا ويطوف من وراء حجر إسماعيل فهو الاجماع، ثم اختلفوا، فقال أصحاب الرأي: يطوف من وراء الحجر استحباباً، وقال جمهور العلماء بالوجوب إلي أن قال- ثم اتفقوا علي أن من طاف ببناء البيت الظاهر ولم يُدخل الحجر في طوافه أنه يعيد الطواف ما دام بمكّة، ثم اختلفوا، فقال أبو حنيفة ومن تبعه: يعيد استحباباً، وقال جمهور

العلماء: يعيد وجوباً؛ لأنه كمن لم يطف، فإن لم يذكر حتي انصرف إلي بلاده، فقال ابن عباس: هو كمن لم يطف، وإليه ذهب مالك والشافعي وأبو ثور وأحمد بن حنبل وإسحاق وداود وغيرهم من أهل العلم، وقالوا: عليه أن يرجع من حيث كان، يطوف من وراء الحجر) «3».

وقال الشافعي: (وإكمال الطواف بالبيت من وراء الحجر ووراء شاذروان

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 84

الكعبة، فإن طاف بالبيت وجعل طريقه من بطن الحجر أعاد) «1».

وعن ابن عباس: (من طاف بالبيت فليطف من وراء الحجر) «2».

وليس ذلك إلّالكون الحجر من تلك الآيات التي عرّف اللَّه عزّ وجلّ بيته المبارك بها، والطواف فيه نوع من المدارية والمحورية للكعبة الشريفة، فحينما يتمحور الحاج ويدور ويطوف حول الكعبة التي تشرّفت بحجج اللَّه وآياته، فإن ذلك معناه أن تلك الآيات هي الأبواب إلي اللَّه عزّ وجلّ وبها يعبد ويقصد ويتوجّه إليه.

فإسماعيل وهو نبيّ من الأنبياء علي ملّة أبيه إبراهيم حنيفاً مسلماً، ويعلم أن الكعبة أوّل بيت وضع للناس كافّة ولجميع الأجيال مناراً للعبادة والطهارة والتوحيد، مع ذلك قام ببناء قبر لأمّه، وهي وليّة من الأولياء، مع سبعين نبياً من الأنبياء، وجعل الطواف كما هو طواف بالكعبة طواف بقبر أمه وكذا قبره وقبر سبعين أو أكثر من الأنبياء.

والقرآن يأتي بعد ذلك ويقرّ هذه الحقيقة ويجعلها من الأمور التربوية للمسلمين، فيقول إن هذا البيت معرفته وشرفه أنه فيه آيات بيّنات، هي قبور الأنبياء والأولياء.

ففي تشريع الملّة الحنيفية أن قبور الأنبياء تقصد ويتوجّه إليها ويطاف بها، وهذا من التوحيد التام، لا سيما وأن اللَّه عزّ وجلّ أمر إبراهيم وإسماعيل بتطهير

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 85

البيت من الشرك والمشركين، قال تعالي: «وَعَهِدْنَا إِلَي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ

وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» «1»

ومن تشريعات الملّة الحنيفية، التي توجب الطهارة من الشرك والتشرف بمعالم التوحيد ويكون ذلك البيت أعظم وأطهر مسجد في الأرض يُعبد فيه اللَّه تعالي، هي الآيات البيّنات، قبر إسماعيل وهاجر وعدد كبير من الأنبياء، ويكون الطواف كما هو طواف بالكعبة طواف بالقبور والآيات، التي بها كان البيت طاهراً من الشرك ومباركاً وهدي للعالمين.

إذن الطواف الذي هو صلاة لابدّ أن يتوجّه فيه إلي القبور، ولابدّ من الدخول إلي البيت من أبوابه وإلّا كان الطواف باطلًا، ولم يكن البيت هدي للعالمين، هذه هي الملّة الحنيفية.

المستجار أو الملتزم: … ص: 85

هذه هي الآية الثالثة من آيات المسجد الحرام، وهذه الآية الإلهية في نفس جدار الكعبة مما يقرب من الركن اليماني ويقابل من جهته الأخري باب الكعبة، الذي يقرب من الحجر الأسود، وفي نصوص الفريقين يستحب التزام الكعبة وأن يستجير الداعي باللَّه تعالي في ذلك المكان.

أما الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام فهي كثيرة جدّاً:

فعن معاوية بن عمّار قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: «إذا فرغت من طوافك وبلغت مؤخّر الكعبة وهو بحذاء المستجار دون الركن اليماني بقليل فابسط يديك وألصق بدنك وخدّك البيت، وقل: اللّهمّ البيت بيتك والعبد عبدك وهذا مكان

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 86

العائذ بك من النار، ثم أقرّ لربّك بما عملت، فإنه ليس من عبد مؤمن يقرّ لربّه بذنوبه في هذا المكان إلّاغفر اللَّه له إن شاء اللَّه» «1».

كذلك عنه عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «لما طاف آدم بالبيت وانتهي إلي الملتزم، قال له جبرئيل: يا آدم أقرّ لربّك بذنوبك في هذا المكان- إلي أن قال- فأوحي اللَّه إليه يا آدم قد غفرت لك ذنبك، قال: يا ربّ ولولدي أو لذريتي، فأوحي اللَّه

عزّ وجلّ إليه: يا آدم من جاء من ذريتك إلي هذا المكان وأقرّ بذنوبه وتاب كما تبت ثم استغفر غفرت له» «2».

وغيرها من الروايات في هذا المجال.

وقال الشربيني في مغني المحتاج: (الدعاء يستحبّ في خمسة عشر موضعاً بمكة: في الطواف، والملتزم، وتحت الميزاب، وفي البيت، وعند زمزم، وعلي الصفا والمروة، وفي السعي، وخلف المقام، وفي عرفات، ومزدلفة، ومني، وعند الجمرات الثلاث) «3».

وفي حواشي الشرواني، أخرج ذلك عن الحسن البصري «4».

والمضمون ذاته جاء في مواهب الجليل للحطّاب الرعيني «5».

وقال الشافعي: (وأُحبّ له إذا ودّع البيت أن يقف في الملتزم، وهو بين الركن والباب، فيقول: اللّهمّ إن البيت بيتك والعبد عبدك وابن عبدك وابن أمتك،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 87

حملتني علي ما سخّرت لي من خلقك، حتي سيّرتني في بلادك وبلّغتني بنعمتك، حتي أعنتني علي قضاء مناسكك، فإن كنت رضيت عنّي فازدد عنّي رضاً، وإلّا فمن الآن قبل أن تنأي عن بيتك داري) «1»، وقال النووي بعد ذكره لهذا الدعاء: (واتفق الأصحاب علي استحبابه) «2».

وقال النووي أيضاً عندما ذكر الملتزم: (سمّي بذلك لأن الناس يلزمونه عند الدعاء) «3».

وقال أيضاً: (قال القاضي أبو الطيّب في تعليقه: قال الشافعي في مختصر كتاب الحجّ: إذا طاف للوداع استحبّ أن يأتي الملتزم فيلصق بطنه وصدره بحائط البيت ويبسط يديه علي الجدار، فيجعل اليمني مما يلي الباب واليسري مما يلي الحجر الأسود، ويدعو بما أحب من أمر الدنيا والآخرة إلي أن قال وعن ابن عباس: أنه كان يلتزم ما بين الركن والباب، وكان يقول ما بين الركن والباب يُدعي الملتزم، لا يلزم ما بينهما أحد يسأل اللَّه عزّ وجلّ شيئاً إلّاأعطاه إيّاه) «4».

وأخرج البيهقي في سننه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن

جدّه: (رأيت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يُلزق وجهه وصدره بالملتزم) «5».

وكذا أخرج الطبراني عن ابن عباس عن النبيّ صلي الله عليه و آله قال: «ما بين الركن والمقام

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 88

ملتزم ما يدعو به صاحب عاهة إلّابرأ» «1».

فالمستجار والملتزم معلم من معالم الطواف والكعبة، وهو الموضع الذي انشقّ الجدار منه لفاطمة بنت أسد رضوان اللَّه عليها، عندما أخذها الطلق بسيّد الأوصياء عليه السلام، حيث استجارت بالكعبة الشريفة من ذلك الموضع، فانشقّ لها الجدار ودخلت الكعبة وولدت أمير المؤمنين عليه السلام فيها، كما نصّت علي هذه الملحمة التأريخية كتب الحديث والسير والتواريخ من الفريقين:

أخرج الصدوق في علل الشرائع بسنده عن سعيد بن جبير قال: (قال يزيد بن قعنب كنت جالساً مع العباس بن عبد المطلب وفريق من عبد العزّي بإزاء البيت الحرام، إذ أقبلت فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين عليه السلام وكانت حاملة به تسعة أشهر، وقد أخذها الطّلق، فقالت: ربّ إني مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإني مصدّقة بكلام جدّي إبراهيم الخليل عليه السلام وإنه بني البيت العتيق، فبحقّ الذي بني هذا البيت وبحقّ المولود الذي في بطني لما يسّرت عليّ ولادتي، قال يزيد بن قعنب فرأينا البيت وقد انفتح عن ظهره، ودخلت فاطمة وغابت عن أبصارنا والتزق الحائط، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا أن ذلك أمر من اللَّه تعالي، ثم خرجت بعد الرابع وبيدها أمير المؤمنين عليه السلام إلي آخر القصة-) «2».

وقال الحاكم النيسايوري في مستدركه: (تواترت الأخبار أن فاطمة بنت أسد

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 89

ولدت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرم اللَّه وجهه في جوف الكعبة) «1».

وقال ابن الصباغ

المالكي: (ولد عليّ عليه السلام بمكة المشرّفة بداخل البيت الحرام إلي أن قال: ولم يولد في البيت الحرام قبله أحد سواه، وهي فضيلة خصّه اللَّه تعالي بها إجلالًا له وإعلاءً لمرتبته وإظهاراً لتكرمته) «2».

وهذه آية آخري وشعيرة أخري من شعائر البيت الحرام، حيث يتأسّي الطائف ويتوسل ويتبرّك بموضع له صلة بأمير المؤمنين وأمه فاطمة بنت أسد، من أجل قبول الدعاء وغفران الذنوب.

السعي بين الصفا والمروة: … ص: 89

قال اللَّه عزّ وجلّ: «إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا» «3»

، والصفا والمروة محلّ هبوط آدم وحوّاء ولبركة هبوطهما جُعلا من شعائر اللَّه وآياته، وسمّيا بهذين الاسمين، لهبوط آدم وحوّاء عليهما، حيث ورد في الروايات أن آدم لما نزل علي الصفا وهو صفيّ اللَّه تعالي سُمّي الصفا، ولما نزلت حوّاء علي المروة سُمّيت مروة؛ لأنها مرأة فاشتقّ منها مروة.

وأما في تشريع السعي بين الصفا والمروة فورد أن هاجر سعت بين الصفا والمروة لاستطلاع وجود الماء سبع مرات فشرّع كذلك.

وإليك بعض تلك الروايات:

عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام قال: «إن آدم عليه السلام لما هبط إلي الأرض أُهبط علي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 90

الصفا ولذلك سُمّي الصفا؛ لأن المصطفي هبط عليه، فقطع للجبل اسم من اسم آدم، يقول اللَّه عزّ وجلّ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَي آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَي الْعَالَمِينَ» «1»

، وأُهبطت حوّاء علي المروة، وإنما سُمّيت المروة لأن المرأة هبطت عليها، فقطع للجبل اسم من اسم المرأة، وهما جبلان عن يمين الكعبة وشمالها» «2».

كذلك عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «إن إبراهيم عليه السلام لما خلّف إسماعيل بمكّة عطش الصبي، وكان فيما بين الصفا والمروة شجر، فخرجت امه حتي

قامت علي الصفا، فقالت: هل بالوادي من أنيس؟ فلم يجبها أحد، فمضت حتي انتهت إلي المروة، فقالت: هل بالوادي من أنيس؟ فلم يجبها أحد، ثم رجعت إلي الصفا، فقالت كذلك حتي صنعت ذلك سبعاً فأجري اللَّه ذلك سنّة» «3».

وعن ابن عباس في حديثه عن هاجر أم اسماعيل قال: (ثم جاء بها إبراهيم عليه السلام وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتي وضعهما عند البيت وليس بمكّة يومئذٍ أحد وليس بها ماء، فوضعهما هنالك ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفي إبراهيم منطلقاً إلي أن قال:

فجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتي إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجاع، وجعلت تنظر إليه يتلوّي أو قال: يتلبّط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل تري أحداً، فهبطت من الصفا حتي إذا

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 91

بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الانسان المجهود، حتي جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل تري أحداً فلم ترَ أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات، قال النبيّ صلي الله عليه و آله: فلذلك سعي الناس بينهما) «1».

إذاً بسبب الأنبياء والأصفياء والأولياء، كآدم وإسماعيل وحوّاء وهاجر جعل منسك السعي بين الصفا والمروة من مناسك الحجّ والتوحيد.

والباري تعالي عبّر عن هذه الآية بأنها من شعائر اللَّه، وهو ذات التعبير بكونها آيات بيّنات، أي محلّ هداية للعالمين وآية وعلامة وشعيرة بيّنة من معالم التوحيد.

فالمسجد الحرام والبيت الشريف بورك به وكانت له تلك المنزلة الرفيعة؛ لما حلّ فيه من الوسائل والوسائط والآيات والشعائر الهادية إلي التوحيد، وهم الأنبياء والأصفياء ومقاماتهم، التي أصبحت أقرب الوسائل إلي

اللَّه عزّ وجلّ ببركتهم؛ لكونهم كلمات اللَّه وأسمائه التي يتوجّه بها إليه عزّ وجلّ.

بئر زمزم: … ص: 91

من الأمور التي سنّها اللَّه عزّ وجلّ بعد طواف الحجّ الشرب من ماء زمزم، الذي نبع ببركة هاجر وإسماعيل عليه السلام، فأصبح من أعمال الحجّ الندبية.

فهو من توابع البيت الحرام وآية من آياته؛ لما له من الصلة بهاجر وإسماعيل.

أخرج البخاري عن ابن عباس في معرض حديثه عن هاجر أمّ إسماعيل:

(فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه أو قال بجناحه- حتي ظهر

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 92

الماء فجعلت تحوضه، وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها عيناً معنياً، قال: فشربت وأرضعت ولدها) «1».

وأما من طرقنا فقد أخرج القمي في تفسيره، أن هاجر لما سعت سبعة أشواط: (فلمّا كان في الشوط السابع وهي علي المروة نظرت إلي إسماعيل وقد ظهر الماء من تحت رجله، فعادت حتي جمعت حوله رملًا، فإنه كان سائلًا فزمّته بما جعلته حوله؛ فلذلك سُمّيت «زمزم») «2».

أعمال الحجّ ومناسكه: … ص: 92

لا ريب أن من لاحظ روايات الفريقين يجدها متّفقة علي أن أعمال الحجّ كلّها لها صلة وثيقة في تشريعها بأنبياء اللَّه ورسله، فسُمّيت عرفة بهذا الإسم لاعتراف النبيّ آدم وإبراهيم عليه السلام بذنوبهما «3»، وما يأتي به الحجّاج في يوم عرفة تأسّياً بما جاء به الأنبياء، كآدم وإبراهيم عليه السلام، وكذا سمّيت المزدلفة بذلك؛ لأن آدم وإبراهيم ازدلفا من عرفات ليقترّبا إلي البيت الحرام ويكون ذلك قُرباً حسّياً كناية عن القرب المعنوي، ومني أيضاً سُمّيت بهذا الاسم، إما لدعاء آدم وإبراهيم عليهما السلام وطلبهما لما يأملان، أو لأجل طلبهما التطهّر من الأماني الباطلة،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 93

كذلك الجمرات جعلت منسكاً لرمي آدم وإبراهيم عليهما السلام الشيطان في تلك المواضع.

إذن الحجّ بكلّ أجزائه ومناسكه ومواطنه متعلّق ومتلوّن بأفعال الأنبياء والأولياء وأسمائهم، فهم أبواب بيت اللَّه وآياته

البيّنات وشعائره الباسقات، فإذا أراد الحاج والموحّد أن يسلك السبيل إلي اللَّه عزّوجلّ لابدّ أن يسلك ما سلكه أنبياء اللَّه ورسله ويحاذي في فعله سيرهم وسلوكهم، ويتوسل إلي اللَّه عزّ وجلّ في تلك المواضع التي سُمّيت بأسماءالأنبياء وأفعالهم، تذكيراًبهم وإحياءاً لأمرهم وتأكيداً علي أن القصد والتوجّه إلي اللَّه عزّ وجلّ لا يُسلك إلّا بحجج اللَّه ورسله.

والحاصل: أن الحجّ بمجموعه آية بيّنة علي أن العبد لا يمكنه أن يفد علي اللَّه تعالي إلّابالتوسل بذوات الأنبياء وأفعالهم وما يتصل بهم؛ لكونهم شعائر اللَّه وأبوابه، التي لا سبيل للقصد إلي اللَّه عزّ وجلّ إلّابها.

فائدة: … ص: 93

مما ذكرنا سابقاً من ضرورة التمسّك بالآيات والحجج، لحصول البركة والطهارة والهداية والوفود علي اللَّه تعالي، يظهر المعني المراد من الروايات، التي نصّت علي أن زيارة النبيّ صلي الله عليه و آله وزيارة المعصوم والإقرار بالولاية له بعد إتمام مناسك الحجّ هي الطهارة العظمي، وأن قضاء التفث له معني تأويلي غير المعني التنزيلي هو لقاء الإمام المفروض الطاعة والإقرار له بالولاية، وذلك لأنه باب اللَّه الذي منه يؤتي والآية البيّنة التي لا يقبل عمل إلّابالتوسل بها.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 94

أخرج الصدوق بسنده عن عبد اللَّه بن سنان عن ذريح المحاربي، قال: «قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: إن اللَّه أمرني في كتابه بأمر فأحبّ أن أعلمه، قال عليه السلام: وما ذاك؟ قلت: قول اللَّه عزّ وجلّ: «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ» «1»

قال: «لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ» لقاء الإمام «وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ» تلك المناسك» «2».

قال عبد اللَّه بن سنان: «فأتيت أبا عبد اللَّه عليه السلام فقلت: جعلت فداك قول اللَّه عزّ وجلّ: «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ»؟ قال عليه السلام: أخذ الشارب وقص الأظفار وما أشبه ذلك، قال:

قلت: جعلت فداك فإن ذريحاً المحاربي حدّثني عنك أنك قلت له: «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ» لقاء الإمام «وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ» تلك المناسك؟ فقال: صدق ذريح، وصدقت، إن للقرآن ظاهراً وباطناً، ومن يحتمل ما يحتمل ذريح؟» «3».

فلابدّ من الورود علي الإمام المعصوم المفروض الطاعة، للطهارة من الشرك والهداية إلي التوحيد.

4- التوجّه إلي القبلة طاعة للنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله: … ص: 94

قال تعالي: «وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَي عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَي الَّذِينَ هَدَي اللَّهُ» «4».

فإن هذه الآية المباركة صريحة في أن استقبال الكعبة المكرمة أو بيت

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 95

المقدس، لم يكن الغرض منه نفس بيت المقدس أو الكعبة بما هي، بل من أجل استعلام الطوعانية والانصياع إلي سيّد الرسل صلي الله عليه و آله، وهي بدورها تؤدّي إلي طاعة اللَّه تعالي.

إذن لابدّ من توسيط ولاية النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وطاعته في قبول العبادة، والاستكبار عليه وعدم الانصياع إلي أوامره بالاعتراض علي القبلة التي يأمر بالتوجهّ إليها في العبادة اعتبرته الآية المباركة كفراً وارتداداً وانقلاباً علي الأعقاب، كما فعلت ذلك قريش عندما اعترضت علي النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله بجعله بيت المقدس قبلة يتوجّه إليها في العبادة، واتهمته بأنه هوّد فتيان قريش.

5- المودّة لذريّة إبراهيم 7 من شرائط الحجّ وغاياته: … ص: 95
اشارة

قال تعالي: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ* رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الُمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاة فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الَّثمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» «1».

هذه الآية المباركة من آيات الحجّ، التي تتعرّض لبيان ركن هامّ من أركان مناسك الحجّ أو العمرة.

بيان ذلك:

إن هذه الآيات القرآنية المباركة نصّت علي أن إبراهيم عليه السلام جاء بذريّته

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 96

وأسكنها البيت الحرام بكلّ ما أحاط بذلك الإسكان من ملابسات وعناء ومشقّة ووحشة وغربة وجوع وعطش بلا أنيس أو كفيل لتلك الذريّة الطاهرة سوي اللَّه تعالي امتثالًا لأمر

اللَّه عزّ وجلّ؛ لغايتين إلهيتين شريفتين، اقتضتهما الحكمة الإلهية من ذلك الإسكان، إحداهما غاية متوسّطة والأخري غاية قصوي ونهائية تترتب علي إسكان الذريّة إلي جنب المسجد الحرام:

الغاية الأولي: قول إبراهيم عليه السلام: «رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاة»، والمراد من ذلك عمارة المسجد الحرام وتشييد معالم الدين وأركان التوحيد، وذلك بإقامة الصلاة والطواف والسعي وبقيّة مناسك الحجّ وكافّة العبادات وجميع الشعائر الإلهية، والصلاة إنما ذكرت في الآية المباركة مثالًا لهذه الغاية.

وحاصل هذه الغاية هو جعل المركزية للكعبة المشرّفة في التوجّه إلي اللَّه تعالي لإقامة الدين ومناسك العبادة.

ولكن هذه الغاية غير كافية ولا مقبولة عند اللَّه عزّ وجلّ ما لم تتحقّق الغاية النهائية، التي أراد اللَّه تعالي تحقّقها من ذلك الإسكان.

الغاية الثانية: قول إبراهيم عليه السلام: «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» «1»

فإن الفاء في قوله عليه السلام «فَاجْعَلْ» للتفريع، وذلك لبيان أن لعمارة المسجد الحرام وإقامة الصلاة والحجّ وشعائر الدين غاية أخري لابدّ من تحقّقها، وهي أن تهوي القلوب تلك الذريّة الطاهرة، التي أسكنها عند المسجد الحرام.

إذن لابدّ أن يكون التوجّه إلي اللَّه تعالي في العبادات والشعائر الدينية بالكعبة المشرّفة، التي جعل إبراهيم عليه السلام لها المركزية والمحورية، بإسكان ذريّته فيها

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 97

لإقام الصلاة، وكذا بالذريّة الطاهرة عن طريق هويّ القلب ومحبّتهم ومودّتهم والرجوع إليهم.

فالناس إذا توجّهوا إلي بيت اللَّه الحرام وجعلوه قبلة ومركزاً ومحوراً في مناسكهم العبادية، لابدّ أن يتوجّهوا أيضاً إلي الذريّة ويستعرضوا لهم المودّة والنصرة والطاعة والموالاة.

ومن ذلك يتضح أن هذه الآية المباركة من آيات المودّة في القربي، ولا يمكن فصل هذه الآية الكريمة عن الآيات التي ترسم ماهية الحجّ، فغاية الحجّ ومركزية مكّة لمعالم الدين محبّة تلك الذريّة وولايتهم، والمحبّة والولاية من

شرائط الحجّ الغائية وكذا من شرائط استقبال الكعبة وقبول العبادات، فالولاية ركن من معالم الدين.

وإن عزل الحج عن مبدأ الولاية والمودّة في القربي يكون وثناً من الأوثان وشركاً من فعال الجاهلية.

والحاصل: إن الغاية من إسكان الذريّة المباركة في البيت المحرم جعل المحورية والمركزية إلي مكّة المكرمة والذريّة الطاهرة، فلا صلاة ولا حجّ من دون التوجّه إلي الكعبة، ولا قيمة للتوجّه إلي الكعبة ما لم يعقبة الإزدلاف إلي الذريّة والمودّة في القربي.

من هم الذريّة الذين تهواهم أفئدة الحجاج والطائفين والركّع السجود؟ … ص: 97

بعد أن تبين من الآية المذكورة أن مودّة وولاية الذريّة التي أسكنها إبراهيم عند المسجد الحرام ركن من أركان الدين وشرط في قبول العبادات، لابدّ من

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 98

التعرّف علي تلك الذريّة لكي يحرز الشخص دينه وعبادته بالتوجّه إليها ومودّتها.

وفي هذا المجال نقول:

إن هذه الذريّة من نسل إسماعيل، وهي الأمة المسلمة، التي جعلها اللَّه عزّ وجلّ كلمة باقية في عقب إبراهيم وإسماعيل عليه السلام لا تشرك باللَّه عزّ وجلّ طرفة عين في كلّ زمان.

قال تعالي: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» «1»

، ولا شك أن هذه دعوة مستجابة من إبراهيم وإسماعيل عليه السلام تكشف عن وجود بعض من ذريتهما وهي الأمة المسلمة بدرجة من الإسلام والتسليم التي نالها إبراهيم وإسماعيل، وهي ذرية باقية في عقبهما لا تشرك باللَّه تعالي أبداً، معصومة لها الولاية والإمامة علي الناس؛ لأنها هي الذريّة الإبراهيمية التي طلب إبراهيم عليه السلام لها الإمامة، كما في قوله تعالي: «وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَايَنَالُ عَهْدِي

الظَّالِمِينَ» «2».

وهذه الأمة المسلمة هي التي يُبعث فيها خاتم النبيين، الذي هو دعوة إبراهيم وإسماعيل، حيث قالا: «رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» «3».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 99

أخرج ابن المغازلي في كتابه المناقب، بإسناده إلي عبد اللَّه بن مسعود، قال:

قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «أنا دعوة أبي إبراهيم»، قلت: يا رسول اللَّه وكيف صرت دعوة إبراهيم أبيك؟ قال: أوحي اللَّه عزّ وجلّ إلي إبراهيم «إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا» فاستخفّ إبراهيم الفرح، فقال: يا ربّ ومن ذريتي أئمة مثلي؟ فأوحي اللَّه عزّ وجلّ إليه: أن يا إبراهيم إني لا أُعطيك عهداً لا أفي لك به، قال: يا ربّ ما العهد الذي لا تفي لي به؟ قال: لا أعطيك عهداً لظالم من ذريتك، قال: يا ربّ ومن الظالم من ولدي الذي لا ينال عهدك؟ قال: من سجد لصنم من دوني لا أجعله إماماً أبداً ولا يصلح أن يكون إماماً، قال إبراهيم: «وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ* رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ» «1»

قال النبيّ صلي الله عليه و آله: فانتهت الدعوة إليّ وإلي أخي عليّ لم يسجد أحدنا لصنم قطّ، فاتخذني اللَّه نبيّاً واتخذ عليّاً وصيّاً» «2».

وأخرج العياشي في تفسيره عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام، قال: «قلت له: أخبرني عن أمة محمّد عليه الصلاة والسلام مَن هم؟

قال: أمة محمّد بنو هاشم خاصّة، قلت: فما الحجّة في أمّة محمّد أنهم أهل بيته الذين ذكرت دون غيرهم؟

قال: قول اللَّه: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً

مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» «3»

، فلما أجاب اللَّه إبراهيم

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 100

وإسماعيل وجعل من ذريّتهم أمة مسلمة وبعث فيها رسولًا منها، يعني من تلك الأمة، يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة، ردف إبراهيم عليه السلام دعوته الأولي بدعوته الأخري، فسأل لهم تطهيراً من الشرك ومن عبادة الأصنام ليصح أمره فيهم ولا يتبعوا غيرهم، فقال: «وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ* رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» «1»

، ففي هذه دلالة علي أنه لا تكون الأئمة والأمة المسلمة التي بعث فيها محمّداً صلي الله عليه و آله إلّامن ذرية إبراهيم لقوله: «اجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ»» «2».

ولذا قال الإمام الباقر عليه السلام في قوله تعالي: «إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الُمحَرَّمِ»: «نحن منهم، ونحن بقية تلك الذريّة» «3».

ويشير إلي الذرية أيضاً قوله تعالي: «هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَي النَّاسِ» «4»

فهذه الأمة التي هي بعض من ذرية إبراهيم وإسماعيل التي بعث فيها خاتم النبيين وهم علي صلة منه وقد سمّاهم النبي إبراهيم وإسماعيل قبل ولادتهم بالمسلمين.

والحاصل: إن الآيات والروايات تصرّح بأن ذريّة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام طائفة خاصّة طهّرها اللَّه عزّ وجلّ وأذهب عنها الرجس وجعل فيها الإمامة، وطلب إبراهيم عليه السلام لهذه الذريّة المودّة والمحبّة وهويّ الإفئدة إليها، وهذه

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 101

الذريّة هم الرسول الأكرم صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام، فبهم يتقرّب ويتوسل إلي اللَّه عزّ وجلّ، وبمودّتهم وولايتهم

تقبل الطاعات، ومحبّتهم ركن ركين في الدين، لا يعرض عنه إلّاكافر أو مشرك، ومن هنا جعل النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله عدل الرسالة وأجرها المودّة في القربي كما في قوله تعالي: «قُلْ لَاأَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي» «1».

ومن ذلك كلّه يتضح أن من تمام الحجّ وسائر العبادات لقاء الإمام وإظهار المودّة والنصرة والتولّي له، وإلّا فلا حجّ ولا طواف ولا صلاة مقبولة عند اللَّه تعالي، فالتوحيد في العبادة هو الإقرار بولاية أهل البيت عليهم السلام.

ومن هنا أيضاً يتضح المراد من قول الإمام الباقر عليه السلام: «تمام الحجّ لقاء الإمام» «2».

وكذا قول الإمام الصادق عليه السلام: «ابدؤوا بمكّة واختموا بنا» «3».

وقول الإمام الباقر عليه السلام: «إنما أمروا أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها، ثم يأتونا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرتهم» «4».

وكذا قال عندما رأي الناس يحجّون بمكّة: «فعال كفعال الجاهلية، أما واللَّه ما أمروا بهذا، وما أمروا إلّاأن يقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم فيمرّوا بنا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرتهم» «5».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 102

6- الولاية من شرائط المغفرة: … ص: 102
اشارة

قال تعالي: «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَي» «1»

، فلا تحصل المغفرة ولا التوبة ولا الإيمان ولا يقبل العمل الصالح إلّابشرط الهداية، والمراد من الهداية في هذه الآية المباركة مقام الإمامة؛ لأنها تعني الإيصال إلي المطلوب، وهي مرحلة بعد مقام النبوّة الذي هو إراءة الطريق فقط.

فإن مجرّد إراءة الطريق شأن النبيّ والرسول، قال تعالي: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ» «2».

وأما مقام الإمامة فنجد أن القرآن الكريم كلّما تعرّض إليه تعرض معه لذكر الهداية بياناً وتفسيراً، قال تعالي: «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا

صَالِحِينَ* وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ» «3»

، وقال أيضاً عزّ وجلّ: «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ» «4»

، فوصف اللَّه عزّ وجلّ الإمامة بالهداية وصف بيان وتعريف وتفسير، هذا في إمامة الحقّ.

كذلك في إمامة الباطل والكفر، فإن فرعون الذي هو من أئمة الكفر، قال تعالي في حقّه: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَي النَّارِ» «5»

، فإمامة الكفر أيضاً فيها

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 103

هداية وإيصال، ولكن إلي الضلال وخلاف المقصود من الكمال الإنساني؛ ولذا قال تعالي: «وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَي» «1».

فإمامة الحقّ هي الهداية والإيصال إلي المطلوب وولاية علي الناس في أعمالهم بأمر ملكوتي من اللَّه عزّ وجلّ، كما يستفاد من قوله تعالي: «يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا».

وإمامة الباطل أيضاً هداية وإيصال، ولكن إلي الضلال وخلاف المقصود.

والحاصل: أن مقام الهداية الإلهية الحقّة بقول مطلق يساوق مقام الإمامة والخلافة الربّانية.

وهذا يعني أن هناك مقاماً ثالثاً غير الشهادة الأولي والشهادة الثانية لابدّ أن يعتقد به المسلم، لكي يكون مهتدياً مؤمناً، فقوله تعالي: «آمَنَ» إشارة إلي الشهادة الأولي والثانية، وقوله «وَعَمِلَ صَالِحًا» إشارة إلي الإيمان والعمل بالشريعة الذي هو مقام النبوّة، وقوله: «ثُمَّ اهْتَدَي» إشارة إلي ذلك المقام الثالث والشهادة الثالثة، وهي الولاية والإمامة.

سورة الحمد وإمامة أهل البيت عليهم السلام: … ص: 103

وإذا لم يعتقد بها الشخص ولم يجعلها واسطة بينه وبين ربّه لا يتحقّق منه الإيمان ولا العمل الصالح، فولاية وإمامة أهل البيت عليهم السلام واسطة ووسيلة يتوسل بها العبد إلي اللَّه عزّ وجلّ لقبول عقيدته وعبادته، وهذا ما صرّحت به سورة الحمد، التي يقرؤها المسلم في اليوم والليلة عشر مرّات علي أقل تقدير.

فإن سورة الحمد تعرّضت للشهادة الأولي والشهادة الثانية والشهادة الثالثة،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 104

فقوله تعالي: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* الرَّحْمَنِ

الرَّحِيمِ» «1»

إشارة إلي الشهادة الأولي، وهي كلمة (لا إله إلّااللَّه)، وقوله تعالي: «مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» «2»

إشارة إلي أصل المعاد، الذي هو من أصول الدين، وقوله تعالي: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» «3»

إشارة إلي مقام التشريع والنبوّة؛ لأن العبادة لا تتحقّق إلّابالسير علي خطي النبوّة والرسالة.

وقوله تعالي: «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ» «4»

، إشارة إلي مقام الإمامة في الأمة، فهناك مجموعة في الأمة الاسلامية ندعو اللَّه عزّ وجلّ في اليوم والليلة أن يهدينا صراطهم المستقيم، المنزّه عن الغضب في العمل وعن الضلال في العلم، أي صراط المعصومين علماً وعملًا، وهؤلاء الهداة الهادون إلي الصراط المستقيم وصفهم اللَّه تعالي بثلاثة نعوت:

الأول: أنهم منعم عليهم بنعمة خاصّة دون بقية الأمة وسائر البشر، نظير ما أنعم اللَّه علي النبيين.

الثاني: أنهم لا يغضب اللَّه عليهم قطّ، وإلّا لما كانت لهم صلاحية الهداية لجميع الأمة.

الثالث: أنهم لا يضلّون قط، وإلّا لم يكونوا هداة هادين لكل الأمة.

ولم يحدّثنا القرآن عن ثلّة عن هذه الأمة قد خصصوا بنعمة وحظوة وحبوة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 105

إلهية خاصة دون بقية الأمة إلّاأهل البيت عليهم السلام كما في ولاية الفي ء في قوله تعالي:

«مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَي رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَي فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَي» «1»

وكما في ولاية الخمس في قوله تعالي: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَي» «2»

، وكذا التطهير في قوله تعالي: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً» «3»

والمودّة والولاية في قوله تعالي: «قُلْ لَاأَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي» «4»

وقوله تعالي: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ» «5»

وعلم الكتاب في قوله تعالي:

«إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» «6»

وغيرها من الآيات المخصصة لهم عليهم السلام بمقامات دون سائر الأمة إلي يوم القيامة، فلا توجد مجموعة في الأمة الإسلامية معصومة عن الغضب والضلال سوي أهل البيت عليه السلام، الذين أنعم اللَّه عزّ وجلّ عليهم بالطهارة من الرجس والغواية في العلم والعمل، كما قال تعالي: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً» «7».

ويتحصّل من ذلك: أن سورة الحمد اشتملت علي أصول الدين من التوحيد والمعاد والنبوّة والإمامة، وقارئ الحمد يطلب من اللَّه تعالي الهداية إلي الصراط

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 106

المستقيم وأن يجعل له هداة وأئمة يهتدي بهم، وهذا يعني أن ضمّ الشهادة الثالثة بالإمامة إلي الشهادة الثانية بالرسالة والنبوّة للنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله يوجب الخروج عن الشرك وقبول الإيمان والعبادة.

ومن ذلك كلّه يتضح المراد من قول الإمام الباقر عليه السلام لسدير وهو مستقبل البيت: «يا سدير إنما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها ثم يأتونا فيعلمونا ولايتهم لنا، وهو قول اللَّه: «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَي» «1»

ثم أومأ إلي صدره إلي ولايتنا» «2».

إذن تمام الحجّ وسائر العبادات بالهداية إلي ولاية أهل البيت عليهم السلام والتوسّل والتوجّه بهم إلي اللَّه عزّ وجلّ.

7- الوفود علي ولي اللَّه من شرائط الحجّ: … ص: 106

قال تعالي: «وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَاتُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود* وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَي كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» «3».

فهذه الآية المباركة تنصّ علي أن اللَّه عزّ وجلّ جعل مكان البيت مبوّءاً وسكناً لإبراهيم عليه السلام، وأن إبراهيم عليه السلام هو المتكلّم الأوّل والناطق الرسمي عن اللَّه تعالي في الندبة

إلي الحجّ، فهو يأمر الناس بحجّ بيت اللَّه الحرام كما نصّت علي ذلك روايات الفريقين.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 107

ثم إن التعبير الآخر في الآية المباركة بعد الأذان في الناس بالحجّ «يَأْتُوكَ رِجَالًا» فالمجي ء ليس إلي البيت ولا إلي اللَّه عزّ وجلّ مباشرة، بل المجي ء أوّلًا إلي إبراهيم عليه السلام.

فالإتيان إلي الحجّ تلبية وإجابة للنداء الإلهي إنما يتمّ بالوفادة علي وليّ اللَّه، ويكون الحجّ الذي هو القصد إلي اللَّه عزّ وجلّ بواسطة الإتيان إلي إبراهيم عليه السلام، الذي هو وجيه عند اللَّه تعالي، يتوجّه إليه ويقصد لإقامة الصلاة والطواف وسائر مناسك الحجّ العبادية، فلابدّ من الوفود علي إبراهيم عليه السلام ومحبّته وهويّ الأفئدة إليه.

وهذه الآية المباركة تتوافق في المضمون مع ما تقدّم من قوله تعالي:

«رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الُمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاة فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» «1»

، فإبراهيم عليه السلام وذرّيته أسكنهم اللَّه عزّ وجلّ البيت الحرام وبوّأهم فيه لإقامة الصلاة وتشييد الدين وتطهير البيت للطائفين والقائمين والرّكع السجود، والإيذان في الناس بالحجّ، ولكن لا قيمة للحجّ ولا مقبولية عند اللَّه عزّ وجلّ إلّابالمجي ء إلي إبراهيم عليه السلام وذريّته من ولد إسماعيل عليه السلام، وهويّ القلوب والأفئدة إليهم ومحبّتهم ومودّتهم وتولّيهم وإبراز الطاعة لهم وجعلهم واسطة في القصد إلي اللَّه تعالي.

فتبوي اللَّه عزّ وجلّ لإبراهيم البيت، وإسكان إبراهيم ذريته فيه من أجل الوفود عليهم ومودّتهم، هو الذي جعل من البيت الحرام مكاناً ومقصداً لإقامة العبادة فيه، والأحجار بما هي أحجار لولا ذلك تكون وثناً يعبد من دون اللَّه

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 108

عزّ وجلّ، كما كان الحجّ في الجاهلية.

ولذا ورد أن من المستحبّات عند الدخول إلي البيت الحرام

إلقاء التحيّة والسلام علي سيّد الأنبياء محمّد صلي الله عليه و آله ثم السلام علي النبيّ إبراهيم عليه السلام «1».

فعن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «فإذا انتهيت إلي باب المسجد فقم وقل: السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، بسم اللَّه وباللَّه ومن اللَّه وما شاء اللَّه، والسلام علي أنبياء اللَّه ورسله والسلام علي رسول اللَّه، والسلام علي إبراهيم والحمد للَّه رب العالمين» «2».

فالمجي ء إلي النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله ثم إلي إبراهيم عليه السلام مجي ء وإتيان وقصد إلي اللَّه عزّ وجلّ، وكذا أهل البيت عليهم السلام؛ لأنهم الذريّة والأمة المسلمة الذين دعا إبراهيم والنبيّ الأكرم إلي مودّتهم ومحبّتهم.

إذن الأنبياء والأوصياء هم أبواب اللَّه التي يتّجه إلي اللَّه تعالي بها، ولولا ذلك لا يكون الحجّ حجّاً إبراهيمياً بل حجّ الجاهلية.

8- الأنبياء مصدر البركة: … ص: 108

قال تعالي حكاية عن قول عيسي عليه السلام: «وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاة وَالزَّكَوةِ مَا دُمْتُ حَيًّا» «3».

وهذا يعني أن عيسي عليه السلام جعله اللَّه عزّ وجلّ مصدر البركة والتبرّك أين ما حلّ؛ ولذا كان ببركته يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتي بإذن اللَّه تعالي، فهو

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 109

وجيه وواسطة في قضاء الحوائج في كلّ مكان حلّ فيه، فما بالك بخاتم الأنبياء عليه السلام وأهل بيته الأطهار ومن يصلّي عيسي خلفه عند نزوله ويكون وزيراً له؟!

وكذا ورد في الآيات المباركة أن الماء مصدر البركة والخيرات كما في قوله تعالي: «وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ» «1»

، فإذا كان اللَّه تعالي ببركة الماء المنزل من السماء ينبت الجنان ويحيي الأرض بعد موتها، فكيف بك بأنبياء اللَّه ورسله وخلفائه الأوصياء؟!

9- البقعة المباركة: … ص: 109

وهي الطائفة من الروايات التي تعرّضت لذكر البقعة المقدّسة والمباركة التي كلّم اللَّه عزّ وجلّ فيها موسي عليه السلام:

كقوله تعالي: «وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَي* إِذْ رَأَ نَارًا فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَي النَّارِ هُدًي* فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَي* إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًي» «2».

وقوله تعالي: «هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَي* إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًي» «3»

. وكذا قوله تعالي: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَي إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا* وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا» «4».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 110

وقوله عزّ وجلّ: «فَلَمَّا قَضَي مُوسَي الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ* فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِي ءِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي

الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَي إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ» «1».

وقد أقسم اللَّه عزّ وجلّ بهذه البقعة المباركة، لعظمتها بالإضافة إلي بقع ثلاث أخري، وذلك في قوله تعالي، «وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِينِينَ* وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ» «2»

، وهذا قسم من اللَّه عزّ وجلّ ببلد التين وهو المدينة، وبلد الزيتون وهو بيت المقدس، وطور سينين الكوفة، والبلد الأمين وهو مكّة، كما ورد ذلك عن الإمام الكاظم عليه السلام، حيث قال: «واختار من البلدان أربعة فقال عزّ وجلّ: «وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِينِينَ* وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ» «3»

فالتين المدينة والزيتون بيت المقدس وطور سنين الكوفة وهذا البلد الأمين مكّة» «4».

هذا من طرقنا.

وكذلك من طرق السنّة، ولكن بتفسير التين بالبيت الحرام، وتفسير الطور بأنه الجبل الذي كلّم اللَّه عزّ وجلّ فيه موسي عليه السلام «5»، ولا تنافي في ذلك إذ لعلّ ذلك هو الوادي المقدّس بين جبل طور والكوفة، كما ذكر ذلك بعض

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 111

المفسّرين.

وقد ورد في الحديث أن محلّ قبر أمير المؤمنين عليه السلام أوّل طور سيناء، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: «كان في وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام: أن أخرجوني إلي الظهر [أي ظهر الكوفة] فإذا تصوّبتْ أقدامكم واستقبلتكم ريح فادفنوني، وهو أوّل طور سيناء، ففعلوا ذلك» «1».

والحاصل: إن القرآن يؤكّد أن هناك بقعة مقدّسة مباركة، فيها هبطت الملائكة بالوحي علي موسي عليه السلام، ولابدّ أن تقدّس وتُعظّم ويُتقرّب فيها إلي اللَّه عزّ وجلّ ويكلّم اللَّه تعالي فيها الأنبياء.

قال القرطبي في تفسيره: (قوله تعالي: «إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًي» «2».

المقدّس: المطهّر، والقدس: الطهارة، والأرض المقدّسة أي المطهّرة إلي أن قال: وقد جعل اللَّه تعالي لبعض الأماكن زيادة فضل علي بعض، كما قد جعل لبعض

الأزمان زيادة فضل علي بعض) «3».

وهذا يعني أن هناك أماكن مقدّسة فيها ينزل الوحي وتفتح أبواب السماء، وفيها يزداد الأجر ويقبل الدعاء ويتوجّه إلي اللَّه عزّ وجلّ.

10- وجوب تعظيم الأنوار الإلهيّة: خلقة الأنوار الخمسة لأصحاب الكساء في سورة النور … ص: 111
اشارة

قال تعالي: «اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 112

شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِي ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَي نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ* فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* رِجَالٌ لَاتُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ» «1».

إن هذه الآية المباركة تنصّ علي وجود بيوت خاصّة أذن اللَّه أن ترفع وتعظّم ويذكر فيها اسمه، وفي تلك البيوت يسبّح للَّه عزّ وجلّ وتقبل العبادة ويسمع الذكر، وتحت قبّتها يرفع الدعاء وتفتّح أبواب السماء وتحصل القربة إلي اللَّه تعالي، فهي بيوت مباركة ومقدّسة جعلها اللَّه تبارك وتعالي وسيلة وواسطة ومحلّاً لقبول العبادة والذكر والتسبيح آناء الليل وأطراف النهار.

ومن الجدير بالذكر أن تلك البيوت بيوتاً خاصّة وهي مهبط الوحي والقداسة والطهارة.

والشاهد علي ذلك أن الجار والمجرور في قوله تعالي: «فِي بُيُوتٍ» متعلّق بذلك النور الذي ضربه اللَّه عزّ وجلّ مثلًا للناس، فالنور في بيوت أذن اللَّه أن ترفع، وقد ذكرت الآية المباركة أن هذا النور نور السماوات والأرض، أي محيط بهما ومهيمن عليهما وأشرف منهما في الخلقة والرتبة الوجودية.

ثمّ إن ذلك النور مخلوق من مخلوقات اللَّه تعالي، أُضيف إليه عزّ وجلّ في الآية إضافة الفعل إلي فاعله، وهو عبارة عن أنوار خمسة شامخة، ضرب

اللَّه تعالي لكلّ واحد منها مثلًا حسّياً لتقريب الفكرة وتنزيل الحقيقة إلي رقيقة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 113

يفهمها البشر، وليس هذا النور عين الذات الإلهية، لأنها أحدية المعني لا تعدّد ولا تكثّر فيها، والنور المذكور في الآية المباركة متعدّد منشعب إلي خمسة أنوار، مستقل بعضها عن البعض الآخر.

والأنوار الخمسة التي ضُربت مثلًا هي:

أولًا: المشكاة.

ثانياً: المصباح.

ثالثاً: الزجاجة.

رابعاً: الكوكب الدريّ.

خامساً: الشجرة المباركة.

ثم تقول الآية الكريمة بعد ذلك: «نُورٌ عَلَي نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ».

وفي اللغة العربية يقول علماء البلاغة كل تشبيه جملة مستقلة برأسها، وتفيد معنيً ومغزيً مستقلًا، فالآية بصدد التعرض إلي خلقة النور، وأن أحد مراحل الخلقة الإلهية هي المخلوقات النورية، وهي أنوار خمسة، تعظم في الخلقة الملائكة والروح والجنّ والإنس ومطلق الموجودات الأخري، وهي أنوار مشتقّ بعضها من بعض، ومرتبط بعضها بالبعض الآخر كما هو ظاهر الآية المباركة.

وهذه الأنوار المباركة المحيطة بالسماوات والأرض، هي الأسماء والكلمات التي لم تعلم بها الملائكة، مع أن الملائكة ملأت أركان السماوات والأرض؛ لأنها هي التي تدبّرها وتدير شؤونها، وهو المشار إليه في تعليم آدم الأسماء وعرض اللَّه تعالي لها علي الملائكة، فلم يعلموا بها، فأنبأهم آدم بها،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 114

ووصفها اللَّه بأنها غيب السماوات والأرض «1»، وكما ورد هذا المعني في روايات الفريقين «2».

ولو كانت تلك الأسماء من عالم السماء والأرض لعلمت بها الملائكة، ومن ذلك يعلم أن الأسماء التي علّمها اللَّه عزّ وجلّ آدم وجهلتها الملائكة، كانت مخلوقات محيطة بعالم السماوات والأرض.

وهذا نوع من أنواع التشاهد بين الآيات القرآنية، فالأنوار الخمسة المذكورة في سورة النور هي الأسماء التي خفيت عن الملائكة وعلّمها اللَّه تعالي آدم، وهي كما سيأتي موجودات حيّة عاقلة شاعرة من عالم النور، كما عبّر

عنها في سورة البقرة بضمير (هم) واسم الاشارة (هؤلاء) وهما لفظتان لا تستعملان في الذوات الجامدة، بل في الذوات الحيّة الشاعرة العاقلة.

ويتحصّل من ذلك وجود مخلوقات خمسة نورية محيطة بالسماوات والأرض، أفضل من الملائكة ولا تحيط الملائكة بها علماً، بل إن اللَّه تعالي شرّف آدم علي جميع مخلوقاته، بما فيهم المقرّبين من كبار الملائكة، كجبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل بفضل تلك الأنوار، وبفضلها أيضاً استحقّ مقام الخلافة الإلهية، وسجد له الملائكة كلّهم أجمعون.

ومن ذلك يتضح أن هذه الأنوار الخمسة هي باطن (غيب) وملكوت السماوات والأرض؛ لأن نور كلّ شي ء بمنزلة الروح له، ومن دونه يكون ظلمانياً، والنور في المقام ليس هو النور الحسّي الذي يظهر الصفات العارضة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 115

علي الشي ء، بل هو نور الخلقة الذي يوجد الشي ء ويكوّنه ويظهره من كتم العدم إلي الوجود، فنور السماوات والأرض أي ملكوتهما وباطنهما ومظهرهما من ظلمة العدم إلي نور الوجود، وهو اسم اللَّه الأعظم الذي هو غير المسمّي، يفوق في القدرة والعظمة كافّة المخلوقات في السماوات والأرض.

وسيأتي أن تلك الأنوار الخمسة المباركة- وهي الأسماء التي علّمها اللَّه تعالي آدم وتاب بفضلها عليه من خطيئته، وابتلي بها إبراهيم لنيل مقام الإمامة- هم خمسة أصحاب الكساء وأهل آية المباهلة، محمّد صلي الله عليه و آله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، فهم أهل البيت، وهم النور الإلهي الذي حلّ في بيوت أذن اللَّه أن ترفع، لتكون محلّاً للذكر والتسبيح والعبادة والتوجّه إلي اللَّه عزّ وجلّ وتشييد معالم الدين.

ولذا أخرج السيوطي في الدرّ المنثور عن ابن مردويه عن أنس ابن مالك وبريدة، قال: «قرأ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله هذه الآية «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ» فقام

إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول اللَّه؟ قال: بيوت الأنبياء، فقام إليه أبو بكر، فقال: يا رسول اللَّه هذا البيت منها؟ وأشار إلي بيت عليّ وفاطمة عليهم السلام، قال:

نعم من أفاضلها» «1».

وعن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن قول اللَّه عزّ وجلّ: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ» قال: «هي بيوت النبيّ صلي الله عليه و آله» «2».

كذلك عن جابر عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، في قوله: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 116

تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ» قال: «هي بيوت الأنبياء، وبيت علي منها» «1».

وقد تقدّم رواية الحاكم في المستدرك أن من الكلمات التي تاب اللَّه بها علي آدم، وهي الأسماء التي شُرّف آدم بها علي الملائكة كخليفة، لأن الكلمات أعظم مقاماً من آدم؛ إذ بها تاب اللَّه عليه، أن من أعظم تلك الكلمات والأسماء هو خاتم النبيين صلي الله عليه و آله، وقد ورد في المستدرك أنه لولاه لما خلق آدم ولا الجنة ولا النار «2» ويتشاهد هذان الحديثان النبويان علي أن أوّل الأنوار الخمسة والأسماء التي تعلّمها آدم وتوسّل بها هو خاتم النبيين صلي الله عليه و آله.

هذا بالنسبة إلي الأنوار الخمسة المباركة.

الأئمة التسعة من ولد الحسين عليه السلام في آية النور: … ص: 116

وأما قوله تعالي: «نُورٌ عَلَي نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ» فهو إشارة إلي استمرار وديمومة قانون الإمامة والخلافة الإلهية بعد تلك الأنوار الخمسة إلي يوم القيامة، نور علي نور يهدي اللَّه لنوره من يشاء و (علي) أي علي إثر وعقب لغة في أحد المعاني المستعملة في لفظ (علي) بالتضمين لمعني الإثر.

والشاهد علي ذلك ما تقدّم من أن الهداية هي الإيصال إلي المطلوب، وقد جاء ذكر الهداية تفسيراً وبياناً لمقام الإمامة

والولاية، كما في قوله تعالي:

«وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا»، فالتعبير بالهداية في الآية المباركة يراد منه الإمامة وهو مقتضي معني النور أيضاً؛ إذ هو الهادي إلي صراط اللَّه تعالي.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 117

ولذا ورد عن الإمام محمّد بن علي بن الحسين عليه السلام في قوله تعالي: «نُورٌ عَلَي نُورٍ» قال: «يعني إماماً مؤيّداً بنور العلم والحكمة في إثر إمام من آل محمّد صلي الله عليه و آله، وذلك من لدن آدم إلي يوم القيامة» «1».

وعن الفضيل بن يسار عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام، قال: (قلت: «نُورٌ عَلَي نُورٍ»؟ قال: «الإمام في أثر الإمام» «2».

وورد أيضاً عن الإمام علي بن موسي الرضا عليه السلام في قوله تعالي: «يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ» قال: «يهدي لولايتنا من أحبّ» «3».

بيان آخر للآية المباركة … ص: 117

هناك بيان آخر للآية الكريمة التي نحن بصدد الاستدلال بها، أدقّ وأعمق وأدلّ علي المطلوب من البيان الأول، وهو:

بعد أن تبيّن أن قوله تعالي: «فِي بُيُوتٍ» متعلّق بالنور، وأن النور في بيوت أذن اللَّه أن ترفع، نقول:

إن الآية الثالثة التي ذكرناها في المقام، وهو قوله تعالي: «رِجَالٌ لَاتُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ» هذه الجملة من المبتدأ والخبر كلّها بدل من قوله تعالي ذكره «فِي بُيُوتٍ»، أي أنها في محلّ جرّ بدل من البيوت.

ويكون المعني علي ذلك! أن البيوت رجال لا تلهيهم تجارة، وليست هي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 118

بيوت حجارة ولا طين.

والشواهد علي ذلك من نفس الآيات المباركة كثيرة نشير إلي بعضها:

أ- قوله تعالي: «رِجَالٌ لَاتُلْهِيهِمْ» ليس فاعلًا لقوله عزّ وجلّ «يُسَبِّحُ» وذلك طبقاً لقراءة أهل البيت عليه السلام، حيث أن قراءتهم لكلمة (يسبَّح) بفتح الباء مبني

للمجهول، وبناءً علي هذا لا تكون كلمة «رِجَالٌ» فاعلًا ل (يسبَّح) وإنما تكون مبتدءاً والجملة التي بعدها خبر، والجملة بتمامها عطف بدل علي بيوت، فالبيوت هي رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع، وإلي ذلك يشير قول الإمام محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام إلي قتادة البصري فقيه أهل البصرة عندما سأله قائلًا:

(أصلحك اللَّه، واللَّه لقد جلست بين يدي الفقهاء، وقدّام ابن عباس، فما اضطرب قلبي قدّام واحدٍ منهم ما اضطرب قدّامك؟

فقال أبو جعفر عليه السلام: «ويحك أتدري أين أنت؟ أنت بين يدي «بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* رِجَالٌ لَاتُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ» فانت ثَمَّ، ونحن أولئك»، فقال له قتادة: صدقت واللَّه جعلني اللَّه فداك، واللَّه ما هي بيوت حجارة ولا طين» «1».

وكذلك ما ورد عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام، حيث قال: «إنّه من أتي البيوت من أبوابها اهتدي ومن أخذ في غيرها سلك طريق الردي، وصل اللَّه طاعة وليّ أمره بطاعة رسوله صلي الله عليه و آله وطاعة رسوله بطاعته، فمن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع اللَّه ولا رسوله، وهو الإقرار بما نزل من عند اللَّه «خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» والتمسوا البيوت التي أذن اللَّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فإنه

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 119

أخبركم أنهم «رِجَالٌ لَاتُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ»» «1».

ثم إن تلك القراءة بفتح الباء في (يسبَّح) قرأ بها أيضاً ابن عامر وأبو بكر وابن شاهي عن حفص «2».

إذن يتحصّل أن النور في بيوت هي رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع.

أهل البيت عليهم السلام معصومون بأعالي درجات العصمة: … ص: 119

ب- قوله عزّ وجلّ: «لَاتُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ» فإن هذا المقطع من الآية المباركة يشير إلي أن هؤلاء الرجال معصومون بأعلي درجات العصمة، وهي عصمة السرّ التي هي فوق عصمة الجوارح، إذ لا يلهون برهة من حياتهم عن ذكر اللَّه، فهم في ذكر دائم، وهذا يعني أن أولئك الرجال ثلّة خاصة في الأمة الإسلامية يتميّزون عن بقيّة المسلمين وأصحاب النبيّ صلي الله عليه و آله، الذين انفضّ أكثرهم من حوله وتركوه قائماً عندما سمعوا بالتجارة، كما نصّت علي هذه الحادثة سورة الجمعة، وذلك في قوله تعالي: «وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» «3».

ففي الروايات لم يبقَ مع النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله إلّاإثني عشر أو ثمانية رجال،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 120

وانفضّ الباقون إلي اللّهو والتجارة «1».

وفي بعض الروايات لم يبقَ إلّاعلي عليه السلام «2».

ولا شك أنه لا يوجد ثلّة معصومة في هذه الأمة غير أهل آية التطهير، الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، فنالوا بذلك أعلي درجات العصمة والطهارة.

وهذا يعني أن تلك الأنوار الخمسة المباركة في بيوت وأبدان طاهرة، وهم رجال معصومون من الغفلة عن ذكر اللَّه عزّ وجلّ، يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة.

وتلك البيوت والرجال أذن اللَّه أن يرفع ذكرهم، كما قال اللَّه تعالي لنبيّه:

«وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ»، ولا شك أن معني ذلك هو وجوب التعظيم والطاعة لهم والإنقياد لولايتهم والتوجّه بهم إلي اللَّه تعالي في العبادة، كما أمر اللَّه عزّ وجلّ الملائكة بالخضوع والسجود لآدم، وجعل الخضوع واسطة للإنقياد إلي الأوامر الإلهية.

إذن لا يقبل اللَّه عزّ وجلّ من العباد الطاعة،

إلّابرفع تلك البيوت وتعظيم أولئك الرجال، والإتيان بالطاعات امتثالًا لأمر اللَّه وأمر رسوله وأمر اولي الأمر من هذه الأمة.

قال تعالي: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 121

التَّوْرَاةِ وَالإْنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «1».

وعن الأصبغ بن نباتة، قال: كنت جالساً عند أمير المؤمنين عليه السلام فجاء ابن الكوّا، فقال: ياأمير المؤمنين مَنْ البيوت في قول اللَّه عزّ وجلّ: «وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَاْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَي وَاْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا» «2»

؟

قال عليّ عليه السلام: «نحن البيوت التي أمر اللَّه بها أن تؤتي من أبوابها، نحن باب اللَّه وبيوته التي يؤتي منه، فمن تابعنا وأقرّ بولايتنا فقد أتي البيوت من أبوابها ومن خالفنا وفضّل علينا غيرنا فقد أتي البيوت من ظهورها» «3».

ج- قوله تعالي: «يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ».

وقد بيّن القرآن الكريم في آيات أخري الذين يخافون من ربّهم، كما في سورة الدهر، قال تعالي: «يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا* وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَي حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيًما وَأَسِيرًا* إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَانُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا* إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا* فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا» «4».

فقد روي الفريقان أن هذه الآيات نزلت في أهل البيت عليهم السلام، وقصة هذه الآيات المباركة مفصّلة تعرّضت لها كتب التفاسير «5».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 122

وهذا يكشف عن حقيقة أولئك الرجال الذين اختصّهم اللَّه عزّ وجلّ بنوره، وهم أهل بيت العصمة والطهارة، والبيوت التي أذن اللَّه

أن ترفع وتعظّم ويتوسل بها إلي اللَّه عزّ وجلّ، ويذكر في حضرتها اسمه، ويسبّح له بالغدو والآصال.

لا يتبادر إلي الذهن أن من أهل البيت فاطمة عليها السلام، فكيف تكون من الرجال المقصودين في الآية المباركة؟

فإن الجواب عن ذلك واضح؛ لأن كلمة الرجل والرجال في الآية المباركة بمعونة القرائن والشواهد التي احتفّت بها يراد منها الشخصية العظيمة، الثابتة الأقدام في المقامات الشامخة، فيراد من الرجال في الآية المباركة تلك الشخصيات التي تسنّمت بأرجل القدرة المقامات العالية والدرجات الرفيعة في مجال العصمة والتقوي، وقد جاء التعبير القرآني بالرجل عن الأعم من الذكر في آيات عديدة، كقوله تعالي لإبراهيم عليه السلام: «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَي كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» «1»

، فالمراد في هذه الآية الكريمة الإقدام بأرجل الإيمان إلي دعوة إبراهيم عليه السلام للحجّ أعم من كون القادم ذكراً أو أنثي، ونظير ذلك أيضاً قوله تعالي: «رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَي نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا» «2»

فوصفهم بالرجولية هنا للثبات والاستقامة والصدق.

ولا شك أن هذا كلّه مع القرينة لا مطلقاً، والقرائن الدالّة علي إرادة الأعمّ من

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 123

الذكر والأنثي في الآية التي هي محلّ بحثنا كثيرة جدّاً، منها ما ذكرناه سابقاً من القرائن الدالّة علي أن المقصود بالرجال في الآية هم أهل البيت عليهم السلام ومنهم فاطمة الزهراء عليها السلام.

خلقة أهل البيت عليهم السلام النورية: … ص: 123

ونختم الحديث في هذه النقطة بذكر بعض الشواهد الدالّة علي أن اللَّه تعالي خلق أهل البيت أنواراً مضافاً إلي ما تقدّم في آية النور:

الأول: قوله تعالي لرسوله الأكرم صلي الله عليه و آله: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ

وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» «1»

، فهذه الآية المباركة صريحة في أن اللَّه عزّ وجلّ أوحي إلي نبيّه الأكرم صلي الله عليه و آله نوراً وهو الروح من أمره، ولا شك أن الإيحاء الخفيّ إنما هو إلي ذات وحقيقة النبيّ الأكرم المباركة، فيتّحد ذلك النور بشخص النبيّ صلي الله عليه و آله؛ ولذا قالت الآية المباركة أن من آثار ذلك النور «نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا» ثم جعلت ذلك الأثر بعينه لخاتم الأنبياء صلي الله عليه و آله، حيث قالت:

«وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» وهذا صريح في اتحاد الذات النبويّة الطاهرة مع ذلك النور في الحقيقة والأثر.

وإذا كانت ذات النبيّ الأكرم نوراً يهدي إلي صراط مستقيم، فكذلك أهل بيته عليهم السلام الذين هم نفس النبيّ صلي الله عليه و آله بنصّ آية المباهلة وآية التطهير، بل وبنص نفس هذه الآية المباركة في المقام، حيث ذكر فيها أن هذا الروح الأمري الذي أوحي إلي النبي صلي الله عليه و آله يهدي به اللَّه ويوحيه إلي من يشاء ويجتبيه من عباده، فلم

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 124

يخصص ذلك بالأنبياء أو بكونهم أنبياء أو رسل، ونظير ذلك قوله تعالي: «يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ» «1»

فذكر لفظ العباد ولم يخصص بلفظ الأنبياء أو الرسل ويدلّ علي أن الذين يشائُهم اللَّه وتتعلّق مشيئته بهم ويجتبيهم لذلك غير منحصر بالأنبياء والرسل، بل يعم من يصطفيهم للعصمة والطهارة والوصاية، وهكذا الأحاديث المتواترة في كون فاطمة عليها السلام بضعة منه صلي الله عليه و آله «2»، وكون الحسن والحسين عليهما السلام من النبيّ صلي الله عليه و

آله وهو منهم «3»، وكذا قوله صلي الله عليه و آله: «عليّ مني وأنا منه» «4».

الثاني: قول النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله: «كنت أنا وعلي بن أبي طالب نوراً بين يدي اللَّه قبل أن يخلق آدم بأربعة آلاف عام، فلما خلق اللَّه آدم قسم ذلك النور جزئين، فجزء أنا وجزء عليّ بن أبي طالب» «5».

الثالث: الروايات المتضافرة التي دلّت علي أن النبيّ صلي الله عليه و آله كان نوراً يتنقل من الأصلاب الشامخة إلي الأرحام المطهّرة، وقد أضاء منه صلي الله عليه و آله نوراً عند ولادته مل ء الخافقين، كما نقلت ذلك آمنة بنت وهب (سلام اللَّه عليها) أم النبيّ صلي الله عليه و آله حين ولادته، قالت: (إنّي رأيت حين ولدته أنه خرج مني نور أضاءت منه قصور بصري من أرض الشام) «6».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 125

إلي غير ذلك من الشواهد الدالّة علي الخلقة النورية للنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام.

11- بناء المساجد علي قبور الأولياء معالم الدين: … ص: 125

كما في قوله تعالي في قصّة أصحاب الكهف: «وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَارَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَي أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا» «1».

ذكر المفسرون: أن أصحاب الكهف لما بعثوا بأحدهم إلي المدينة بورقهم لجلب الطعام عثر عليهم أهل المدينة وعلموا بأمرهم جاءوا إلي الكهف، فلما دخل الذي هو من أصحاب الكهف دعا اللَّه تعالي مع أصحابه أن يميتهم لئلا يكونوا فتنة للناس، فأماتهم اللَّه تعالي، وخفي علي أهل المدينة مدخل الكهف، فلم يهتدوا إليه، فقال المشركون: نبني عليهم بنياناً ونحوطهم بجدار نجعلهم وراءه، وقال المسلمون: بل نحن أحقّ بهم،

هم منّا، نبني عليهم مسجداً نصلّي فيه ونعبد اللَّه فيه «2».

وقال المفسّرون أيضاً: إن قوله تعالي: «قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَي أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا» دلّ علي أن الغلبة كانت للمؤمنين بقرينة ذكر اتخاذ المسجد «3».

ثم إن القرآن الكريم في استعراضه لهذه الواقعة أقرّ المؤمنين علي رأيهم، ولم يفنّد اتخاذهم المسجد علي قبور أصحاب الكهف من أجل التبرّك والعبادة،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 126

خصوصاً وأن القرآن الكريم إنما عرض لنا قصّة أصحاب الكهف، لأجل تعميق مبدأ الإيمان والتوحيد، والقرآن يذكر القصّة في ضمن بيان مآثر ومعالم أهل الكهف المشيدة والخالدة، وأنهم بُني علي قبورهم مسجداً لإظهار معجزتهم، وليبقي ذكرهم خالداً في أذهان البشر ويكون ذلك موعظة للمؤمنين، فلو كان بناء المسجد علي قبورهم والتبرّك بهم والتعبّد عندهم شركاً ووثناً من الأوثان، لكان ذلك علي خلاف المطلوب، ومنافياً للحكمة التي أرادها اللَّه عزّ وجلّ من سرد القصّة.

إذن قبور الأولياء وبناء المساجد عليها والتبرّك بها وجعلها واسطة في التوجّه إلي اللَّه عزّ وجلّ في العبادة من المبادئ القرآنية الصريحة والشعائر الإلهية، التي يوجب تخليد ذكرها تخليد الدين ومعالم التوحيد، التي شيّدوها بسيرتهم المباركة ونهجهم التوحيدي، وهذا عين الأمر الإلهي باتخاذ مقام إبراهيم مصلّي، فإن تشعير مقام إبراهيم وتخليد ذكره بذلك، يكون سبباً لخلود التوحيد وباعثاً للناس علي التمسّك بهديه.

ومن ذلك أيضاً قول النبيّ صلي الله عليه و آله: «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة» «1»

فإن ذلك تشعيراً لقبره صلي الله عليه و آله وجعله محلّاً للعبادة ونيل القربان والمقامات عند اللَّه تعالي.

وذلك كلّه يعني أن مقامات الأنبياء والأولياء والحجج من الحريّ بها أن تعمّر وتشعّر محلّاً للعبادة والتقرّب إلي اللَّه تعالي.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 127

ولا شك أن

الآيات والوسائط علامات علي عظمة الصفات الإلهية، ففعل الذات العظيمة عظيم أيضاً، فلابدّ أن يعظّم، وتعظيمه تعظيماً للَّه عزّ وجلّ، والذي يحقّر آيات اللَّه ويهينها بكلّ نوع من أنواع الإهانات يكون قد هتك الحرمة والحريم الإلهي، ولذا قال اللَّه عزّ وجلّ: «ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَي الْقُلُوبِ» «1».

والحاصل: أن ترك تعظيم وليّ اللَّه والإعراض عن التوسّل والتوجّه به إلي اللَّه تعالي إخفاق في عقيدة التوحيد.

12- حبط الأعمال وقبولها: … ص: 127

قال تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَاتَشْعُرُونَ* إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَي لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ» «2».

هذه الآية المباركة صريحة أيضاً في أن الخضوع للنبيّ الأكرم والإقبال عليه والتوجّه إليه وتوقيره وتعظيمه وحفظ الأدب في حضرته سبب وواسطة في قبول الأعمال، وموجب لتحقّق التقوي والمغفرة والقرب من اللَّه تعالي ونيل الأجر العظيم؛ وذلك لأن الخضوع للنبيّ صلي الله عليه و آله تعظيم له بما هو آية كبري من آيات اللَّه عزّ وجلّ وشعيرة من شعائره ومعلماً من أعلام دينه، وقد سبق قوله تعالي:

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 128

«ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَي الْقُلُوبِ».

وأما الذين لا يخضعون للنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله ولا يحافظون علي التزام الآداب في ساحة الحضرة النبويّة، برفعهم الأصوات فوق صوته، والتعامل معه كأحدهم، فقد توعّدهم اللَّه تعالي بحبط أعمالهم؛ لأن ذلك يوجب الإعراض عن الآيات الإلهية والوسائط الربانية التي نصبها لعباده والاستكبار عنها، فلا يكون لأعمالهم حينئذٍ وزن عند اللَّه تعالي، بما في ذلك العقيدة، التي هي عمل من الأعمال الجوانحية.

13- آيات القسم الإلهي بشخص النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله: … ص: 128

لقد وردت آيات عديدة يُقسم فيها اللَّه تعالي بالنبيّ صلي الله عليه و آله نذكر بعضاً منها:

1- قوله تعالي: «لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ» «1»

، والقسم بعمر النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله من قبل اللَّه تعالي يدلّل علي تعظيمه وتشريفه، خصوصاً وأن المفسّرين ذكروا أن الباري تعالي لم يقسم بعمر أحد في القرآن الكريم، سوي القسم بعمر خاتم الأنبياء وسيّد المرسلين صلي الله عليه و آله.

2- قوله تعالي: «لَاأُقْسِمُ بِهَذَا

الْبَلَدِ* وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ* وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ» «2»

، قال بعض المفسّرين أن (لا) في قوله تعالي: «لَاأُقْسِمُ» أصلية نافية، والمعني هو أن اللَّه تعالي لا يقسم بمكّة والنبيّ حلّ وحالّ فيها وذلك تعظيماً له صلي الله عليه و آله، وأنه مع وجوده في مكّة هو الأحري أن يقسم به دون غيره، ذكر

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 129

ذلك أبو البقاء العكبري في إملائه، حيث قال:

(وقيل: لا أقسم به وأنت حلّ فيه، بل أقسم بك) «1».

وفي فتح القدير للشوكاني قال: (وقيل: المعني لا أقسم بهذا البلد وأنت حالّ به ومقيم فيه وهو محلّك، فعلي القول بأن «لا» نافية غير زائدة يكون المعني لا أقسم به وأنت حالّ به، فأنت أحقّ بالإقسام بك) «2».

والبعض الآخر من المفسّرين قال إن (لا) أصلية أيضاً، ولكن المعني هو: لا أقسم بهذا البلد وأنت لا حرمة لك في هذا البلد، يستحلّون دمك وقتالك، وفي ذلك دلالة واضحة علي عظمة الرسول الأكرم صلي الله عليه و آله؛ وذلك لأن القسم لأجل عظمة المقسوم به والنبيّ صلي الله عليه و آله له عظمة فوق ذلك، فهو صلي الله عليه و آله موضع قسم أيضاً؛ إذ لو كان ما هو دونه من موارد القسم ولا يقسم به لعظمة النبيّ صلي الله عليه و آله، فكيف بك بذات النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله، الذي هو أعظم من الكعبة؟ وعلي هذا يكون في هذه الآية مديح له صلي الله عليه و آله بأنه أكرم الخلق علي اللَّه تعالي.

ذكر هذا المعني عدد وافر من المفسّرين:

منهم: علي بن إبراهيم القمّي، حيث قال في تفسيره: («وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ» كانت قريش لا يستحلّون أن يظلموا أحداً في هذا

البلد، ويستحلّون ظلمك فيه) «3».

ومنهم: الطبرسي في مجمع البيان، قال: (وقيل: معناه لا أقسم بهذا البلد وأنت حلّ فيه، منتهك الحرمة، مستباح العرض، لا تحترم، فلم يبن للبلد حرمة،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 130

حيث هتكت حرمتك، عن أبي مسلم، وهو المروي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال:

كانت قريش تعظّم البلد، وتستحلّ محمّداً صلي الله عليه و آله فيه، فقال: لا أقسم بهذا البلد، وأنت حلّ بهذا البلد، يريد أنهم استحلّوك فيه، فكذّبوك وشتموك … فاستحلّوا من رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ما لم يستحلّوه من غيره، فعاب اللَّه ذلك عليهم) «1».

ومنهم: ابن الجوزي في زاد المسير، حيث ذكر لقوله تعالي: «لَاأُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ» ثلاث معانٍ، قال: (والثالث: أنت حلّ عند المشركين بهذا البلد يستحلّون إخراجك وقتلك ويحرّمون قتل الصيد، حكاه الثعلبي) «2».

وبعض ثالث قال إن (لا) زائدة، ولكن مع ذلك هي دالّة علي أفضلية النبيّ صلي الله عليه و آله علي الكعبة، وأن شرفها لحلول النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله فيها، والقسم بها لأجل ذلك، فإذا كان القسم بها لأجل حلول النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله فيها يكون القسم بذات النبيّ صلي الله عليه و آله أولي وأدلّ.

وقد ذكر هذا المعني أيضاً كثير من المفسّرين:

منهم: الشيخ الطوسي، حيث قال بعد تصريحه بأن (لا) زائدة: (وقيل: معناه أنت حلّ بهذا البلد أي أنت فيه مقيم وهو محلّل، والمعني بذلك التنبيه علي شرف البلد بشرف من حلّ فيه من الرسول الداعي إلي تعظيم اللَّه وإخلاص عبادته المبشِّر بالثواب والمنذر بالعقاب) «3».

ومنهم: الشوكاني في فتح القدير، قال: (وعلي القول بأنها زائدة، يكون المعني: أقسم بهذا البلد الذي أنت مقيم به تشريفاً وتعظيماً

لقدرك؛ لأنه قد صار

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 131

بإقامتك فيه عظيماً شريفاً وزاد علي ما كان فيه من الشرف والعظم) «1».

كذلك ذكر بعض المفسّرين أن قوله تعالي: «وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ» المقصود منه إبراهيم والولد هو النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله، قال ابن الجوزي: (والثاني: أن الوالد إبراهيم وما ولد محمّد، قاله الحسن أبو عمران الجوني) «2».

وهذا قسم آخر بالنبيّ صلي الله عليه و آله، كما نصّ علي ذلك القاضي عياض «3».

ثمّ إن هذه الآية المباركة دالّة علي أن إنكار ولاية الرسول الأكرم صلي الله عليه و آله وكونه واسطة ووسيلة بينهم وبين اللَّه تعالي مع تعظيم الكعبة من عمل المشركين، وأن تعظيم البيت الحرام بضمّ تعظيم النبيّ الأكرم وببركة وجوده فيه.

3- قوله تعالي: «ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ» «4».

4- قوله تعالي: «ق وَالْقُرْآنِ الَمجِيدِ» «5».

5- قوله تعالي: «يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ» «6».

6- قوله تعالي: «الرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ» «7».

7- قوله تعالي: «طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ» «8».

وقد ورد عن الإمام السجّاد عليه السلام في الصحيفة السجّادية بأن كلّ قسم في

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 132

القرآن الكريم بالقرآن والكتاب يسبقه اسم فهو من أسماء النبيّ صلي الله عليه و آله، قال عليه السلام في دعائه: «وقلت جلّ قولك له حين اختصصته بما سمّيته من الأسماء «طه* مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَي» وقلت عزّ قولك: «يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ» وقلت تقدّست أسماؤك: «ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ» وقلت عظمت آلاؤك: «ق وَالْقُرْآنِ الَمجِيدِ» فخصصته أن جعلته قسمك حين أسميته وقرنت القرآن به، فما في كتابك من شاهد قسم والقرآن مردف به إلّاوهو اسمه، وذلك شرف شرّفته به، وفضل بعثته إليه، تعجز الألسن والأفهام عن وصف مرادك به» «1».

وعن

الإمام الصادق عليه السلام قال: «يس اسم رسول اللَّه صلي الله عليه و آله» «2».

ذكر بعض المفسّرين أن صاد وقاف وغيرهما من أسماء النبيّ صلي الله عليه و آله.

وقال ابن الجوزي: (والثالث: أن معناها جيس ج يامحمّد، قاله ابن الحنفيّة والضحّاك) «3».

كانت هذه هي بعض الموارد التي أقسم اللَّه عزّ وجلّ بنبيّه الأكرم صلي الله عليه و آله تعظيماً له، وتبياناً لعلوّ مقامه ومكانته عند اللَّه عزّ وجلّ، وأنه أكرم مخلوقاته.

والقسم بالشي ء نحو توسيط له؛ وذلك لأن القسم نوع من الذمّة والتوثيق، وهو نحو من أنحاء الشفاعة، لأن أحد أشكال القسم هو قسم المناشدة كما في المقام، وفي المناشدة يُذكر القسم لأجل التشفّع وجعل الشفيع والوسيط، فإذا صحّ القسم بذات النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله، فيقسم علي اللَّه تعالي به في قضاء الحوائج في الدنيا والآخرة، إذاً القسم كما يستخدم للاستيثاق من الخبر، يستخدم أيضاً

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 133

في الاستيثاق من التشفّع والتوسّل كما لو كان القسم علي إنشاء، كقولك: (واللَّه لتفعلنّ كذا)، وإذا صحّ التشفّع به صلي الله عليه و آله بالقسم صحّ التوسّل به والتشفّع مطلقاً، وهذا نوع من الاستدلال بالدلالة الالتزامية البيّنة.

14- الآيات الآمرة بالتوسل بالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وسائر الأنبياء والأوصياء: … ص: 133

الآيات القرآنية الواردة في هذا المجال عديدة نشير إلي بعضها:

1- قوله تعالي «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا» «1».

فإن هذه الآية المباركة ناصّة وصريحة في أن التوجّه إلي اللَّه عزّ وجلّ والإقبال عليه بالاستغفار والتوبة والأوبة لابدّ أن يكون عن طريق التوجّه والمجي ء إلي الباب الذي نصبه اللَّه تعالي لذلك، وهو النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله، حيث قال تعالي: «جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ» أي يأتونك ويتوجّهون إلي اللَّه بك،

فالمجي ء إلي النبيّ صلي الله عليه و آله مجي ء إلي اللَّه تعالي.

إذن استغفارهم لأنفسهم عند اللَّه تعالي لا يغنيهم عن التوجّه بالنبيّ صلي الله عليه و آله، ومعني ذلك أن للمجي ء عند النبيّ ثم الاستغفار موضوعية في حصول المغفرة.

ولا شك أن الاستغفار وطلب المغفرة عبادة من العبادات ونوع خاص من أنواع الدعاء وحالة من الارتباط بين العبد وربّه، وللكون عند النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله والمجي ء عنده دخالة في قبول تلك العبادة وتوثيق الدعاء والارتباط بين العبد

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 134

وربّه والإقبال علي اللَّه تعالي.

وهذا هو معني أن للَّه عزّ وجلّ مواضع ومواطن مشرّفة يُقبل الدعاء بالكون فيها والمثول تحت قبّتها، كما في الكون في عرفة وتحت الميزاب وعند الملتزم والمستجار وغيرها، وكما ورد من أن الصلاة في البيت الحرام تعدل كذا ألف ركعة، وهذا يعني أن للكون في البيت الحرام دخالة في توثيق الارتباط بين العبد وبين اللَّه تبارك وتعالي.

والحاصل: إن اللَّه عزّ وجلّ يخاطب المذنبين الظالمين لأنفسهم أن تكون عبادتهم في طلب المغفرة بالقصد إلي النبيّ صلي الله عليه و آله والمجي ء عنده، لأن ذلك من مواطن استجابه الدعاء وتفتّح أبواب السماء وقبول التوبة وتحقّق المغفرة، وهذا نوع من أنواع التوسّل والتشفّع به صلي الله عليه و آله إلي اللَّه عزّ وجلّ، فمجيئهم عند النبيّ والاستغفار في حضرته نوع من أنواع التوسّل، واستغفار النبيّ صلي الله عليه و آله بعد توسلهم به نوع من أنواع الشفاعة؛ ولذا قال عزّ وجلّ: «وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ»، وبعد التوسّل والشفاعة قال تعالي: «لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا».

2- قوله تعالي: «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ» «1».

وهذا أمر من اللَّه عزّ وجلّ لنبيّه الأكرم صلي الله عليه و آله بأن

يتشفّع للمؤمنين ويكون وسيلة وواسطة لهم في المغفرة.

3- قوله تعالي: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ» «2».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 135

إن في هذه الآية المباركة أمر إلهي لعصاة هذه الأمة، بأن يأتوا إلي النبيّ صلي الله عليه و آله ويتوسلون به ليستغفر لهم اللَّه عزّ وجلّ.

والباري تعالي يقول إن الإباء عن المجي ء عند النبيّ صلي الله عليه و آله صدود واستكبار علي اللَّه تعالي، وهو نفس الجرم الذي وقع به إبليس عندما أبي عن السجود لوليّ اللَّه وخليفته آدم، حيث قال تعالي: «أَبَي وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ»، كذلك الفسق وصَفَ به اللَّه عزّ وجلّ المنافقين كما وصف به إبليس، وليس ذلك إلّا لأنهم لوّوا رؤوسهم وأبوا زيارة النبيّ صلي الله عليه و آله وتوسيطه والتوجّه به إلي اللَّه تعالي في الاستغفار، وذلك سواء قبل وفاة النبيّ صلي الله عليه و آله أو بعدها؛ لأن الرسول الأكرم حيّ بالآيات وبروايات الفريقين، تُعرض عليه الأعمال ويسمع السلام ويردّه وهو شهيد علي جميع الأمم.

4- قوله تعالي: «وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» «1».

وفي هذه الآية المباركة والآيات التي سبقتها تأكيد علي أن هذه الأمة لا ترحم إلّا بنبيّها صلي الله عليه و آله، وهو شفيع هذه الأمة ووسيلتها، وإن اللَّه عزّ وجلّ أمره بذلك وأمر الأمة بالرجوع إليه لنيل الرحمة والمغفرة.

5- قوله تعالي حكاية لكلام إبراهيم عليه السلام مع عمّه آزر: «قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا» «2».

وهذه الآية المباركة صريحة فيما نحن بصدد اثباته؛ إذ أن النبيّ إبراهيم عليه السلام يعلّل شفاعته ووساطته في الاستغفار بأن اللَّه كان به حفيّاً، فالحفاوة والحظوة

الامامة الالهية(5)، ج 4،

ص: 136

والحبوة والوجيه والوجاهة التي يوليها اللَّه عزّ وجلّ لإبراهيم عليه السلام وسيلة وباباً ووجهاً يتوجّه به إلي اللَّه عزّ وجلّ، كما تقدم ذلك في الآيات التي صرّحت بأن موسي وعيسي عليهما السلام وجيهان عند اللَّه تعالي ومن المقرّبين، فكلّ مقرّب ووجيه وحبيب لدي اللَّه ومن له كرامة وعزّة عنده عزّوجلّ يتوجّه ويتوسّل به إلي اللَّه ويجعل شفيعاً في قول القائل: «إنّا توسّلنا وتوجّهنا واستشفعنا بك إلي اللَّه يا وجيهاً عند اللَّه اشفع لنا عند اللَّه».

والتعليل المذكور في هذه الآية الكريمة عامّ، وقد أقرّ اللَّه تعالي إبراهيم عليه، فيكون هذا التعليل دليلًا عامّاً علي أن كلّ من كان له حفاوة وقرباً عند اللَّه عزّ وجلّ يتوسل به ويتشفّع به عند اللَّه تعالي.

وهذه هي الملّة الإبراهميية الحنيفية التي نحن عليها، «وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ» «1».

6- قوله تعالي حكاية لقول موسي عليه السلام: «قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» «2».

فالنبيّ موسي عليه السلام في هذه الآية المباركة يستغفر لنفسه ويتوسّط في طلب الاستغفار لأخيه هارون عليه السلام، وهذا معناه أن الوسيلة والشفاعة قد تكون أيضاً من الوليّ الذي هو أقرب وأكثر حظوة عند اللَّه تعالي للوليّ الذي هو دونه في القرب، كما ورد ذلك في شفاعة النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله لبقيّة الأنبياء بل ولخصوص الأئمة الاثني عشر من أهل بيته عليهم السلام في الكينونة معه في مقامه.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 137

وإذا كان النبيّ موسي عليه السلام واسطة ووسيلة رحمة وغفران بين هارون النبي وبين اللَّه تعالي وهو نبيّ من الأنبياء فكيف ظنّك بسائر البشر؟!

7- قوله تعالي حكاية عن قول يعقوب عليه السلام وولده: «قَالُوا يَا

أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ* قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» «1».

وهذا توسّل من أبناء يعقوب بأبيهم عليه السلام، ونفس فعلهم هذا هو توبة وندامة وأوبة وإنابة إلي اللَّه عزّ وجلّ، ففي التوبة التي هي من العبادة للَّه تعالي توجّهوا إلي أبيهم؛ لحفاوته عند اللَّه تعالي، والنبيّ يعقوب عليه السلام أقرّهم علي فعلهم هذا، وقال لهم: «سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي» فقوله هذا شفاعة منه عليه السلام لأبنائه عند اللَّه تعالي، وقولهم وتوجّههم إليه توسّل منهم بأبيهم وتوسيط له بينهم وبين اللَّه عزّ وجلّ؛ وذلك بحسب ما تقدّم ويأتي أيضاً من الرابطة الوثيقة بين التوسّل والشفاعة، وجاء في ذيل سورة يوسف قوله تعالي: «لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ» «2»

أي أن ما ذكر في الآيات عبرة لمن يقرأ القرآن ليتخذها سنّة ينتهجها.

8- قوله تعالي: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ» «3».

وهذه الآية المباركة تبيّن وساطة حملة العرش في غفران الذنوب، وقد روي الفريقان أن حملة العرش يوم القيامة ثمانية، أربعة من الأولين وأربعة من

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 138

الآخرين، أما الأولون فهم الأنبياء أولو العزم، نوح وإبراهيم وموسي وعيسي عليهم السلام وأما الآخرون فهم النبيّ صلي الله عليه و آله وثلاثة من هذه الأمة، وهم الامام عليّ عليه السلام والحسن والحسين عليهما السلام، أخرج الكليني في الكافي عن يحيي بن سليمان المازني عن أبي الحسن موسي بن جعفر عليه السلام قال: «إذا كان يوم القيامة كان علي عرش الرحمن أربعة من الأولين وأربعة من الآخرين، فأما الأربعة الذين هم من الأولين

فنوح وإبراهيم وموسي وعيسي عليهم السلام، وأما الأربعة من الآخرين فمحمّد وعليّ والحسن والحسين صلوات اللَّه عليهم» «1».

وسواء كان حملة العرش من الملائكة أم من الأنبياء والأوصياء، فإنهم شفعاء ووسيلة يستغفرون للذين آمنوا.

9- قوله تعالي علي لسان بني إسرائيل: «وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَي لَن نَّصْبِرَ عَلَي طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَي بِالَّذِي هُوَ خَيْرُ» «2».

فإن سؤال بني إسرائيل في هذه الآية المباركة لم يكن بالخطاب في الدعاء مباشرة للَّه تعالي، وإنما سألوا اللَّه تعالي وتوجّهوا إليه بنبيّه، وموسي عليه السلام أجابهم علي ما سألوا بقوله: «فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ» ولم ينكر عليهم توسيطه في قضاء الحاجة وطلب ونيل المقصود، وكذلك اللَّه عزّ وجلّ لم ينكر عليهم ذلك في القرآن الكريم، وإنما أنكر عليهم استبدال الذي هو أدني بالذي هو خير.

10- قوله تعالي علي لسان نبيّه سليمان عليه السلام: «قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 139

بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ* قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ* قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَأَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ» «1»

، حيث توسّل النبيّ سليمان عليه السلام للإتيان بعرش بلقيس بمن عنده علم من الكتاب، وهو وصيّه آصف بن برخيا.

والحاصل: إن هذا الوجه القرآني الذي ذكرناه بطوائفه المتعدّدة من الآيات، حصيلته أن هناك أمراً إلهياً للنبيّ صلي الله عليه و آله بأن يكون وسيلة

وشفيعاً لهذه الأمة، وأمر الناس بأن يأتوه ويقصدوه ويزوروه طلباً للشفاعة وقضاءً للحوائج، وأن مجرّد الندامة والتوبة لا تكفي، بل لابدّ من التوجّه إلي الواسطة، كما فعل أولاد يعقوب، الذين كان في قصصهم عبرة لهذه الأمة، وهذه كلّها أوامر تعظّم مبدأ التوسّل وتحثّ عليه وتهدّد من يستكبر عليه، وأن مصيره يكون كمصير إبليس.

15- آيات التوسّل بمخلوقات كريمة أضيفت إلي الأنبياء والأولياء: … ص: 139
اشارة

هناك آيات عديدة تنصّ علي مشروعية التوسّل بغير الأنبياء والرسل من المخلوقات الكريمة علي اللَّه تعالي، والتي أُضيفت إلي الأنبياء والأولياء، فهي توجب تحقيق المقصود وإنجاح بعض الحوائج، نشير إلي بعضها:

1- ما هو مذكور في قصة يوسف عليهما السلام، حيث أمر إخوته أن يُلقوا قميصه علي وجه أبيه ليرتدّ بصيراً ببركة ذلك القميص، وذلك في قوله تعالي: «إِذْهَبُوا

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 140

بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَي وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ* وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ* قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ* فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَي وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَاتَعْلَمُونَ» «1»

، فالمشافي في هذه الآيات المباركة نبيّ كبير من الأنبياء، وهو يعقوب عليه السلام، والشفاء حصل بتوسّط قميص لامس بدن يوسف عليه السلام، وهذا نوع من التوسّل والتوسيط في إفاضة الشفاء من اللَّه عزّ وجلّ، فإن الشفاء حقيقة من اللَّه تعالي والفيض كلّه منه تعالي؛ لأنه الخالق الحقيقي لكلّ الممكنات بما فيها الشفاء والاستشفاء، كما في قول إبراهيم عليه السلام: «وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ» «2»

إلّاأن ذلك لا يمانع جعل الوسائط وأن يتوسل الشخص بوسيلة منصوبة من اللَّه عزّ وجلّ ومجعولة لإفاضة الشفاء منه تعالي، كالأشياء المضافة إلي الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، والسرّ في

ذلك أن اللَّه عزّ وجلّ جعل عالم الخلقة محكوماً بقانون الأسباب والمسببات، لتكون مواطن ومجاري فيضه إلي المراتب النازلة من الوجود.

إذن إذا كان نبيّ من الأنبياء يتوسل بجاه نبيّ آخر من الأنبياء، وهو ابنه يوسف عليه السلام، وذلك ببركة قميصه بجعله واسطة فيض في الشفاء، فكيف بنا نحن؟

ثم إنه ليس في المورد وهو القميص خصوصية، بل ذلك شامل لكلّ ما له نسبة وإضافة إلي نبيّ من الأنبياء أو وصيّ من الأوصياء بما يوجب حصول

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 141

البركة فيه، وذلك لأن الفعل يحمل في طيّاته الطبيعة العامة والسنّة الإلهية الشاملة؛ ولذا قال اللَّه عزّ وجلّ في نفس سورة يوسف: «لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ» «1»

، وقال تعالي أيضاً في السورة ذاتها: «لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَي» «2».

إذن آية الاستشفاء ومشروعيته عامّة والمورد لا يخصّص الوارد.

هل الآية دليل علي مشروعية الاستشفاء فقط؟ … ص: 141

لابدّ من التنبيه هنا علي أن الاستشفاع والتوسّل والاستغاثة والتبرّك والاستشفاء كلّها من باب واحد، وتندرج تحت طبيعة واحدة وإن تعدّدت عناوينها، فهي أصناف لطبيعة واحدة عامّة، وهي توسيط الواسطة لنجح المسؤول ونيل المطلوب.

فالتبرك مثلًا هو طلب البركة، أي طلب الحاجة بواسطة ما جعله اللَّه عزّ وجلّ من الحظوة والبركة في ذوات الأنبياء والأولياء المقدّسة أو ما يتعلّق بهم وينتسب إليهم.

وكذا الاستغاثة طلب قضاء الحاجة بواسطة المستغاث به في حالة خاصة، وهكذا بقيّة العناوين الأخري كما ستأتي الإشارة إلي بعضها عند ذكر الفرق بين التوسّل والاستشفاع والشفاعة في الفصل الرابع.

وبناء علي هذا يكون الاستشفاء بقميص يوسف عليه السلام المذكور في الآية

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 142

المباركة توسيط وتبرّك وتوسّل بالقميص إلي اللَّه عزّ وجلّ.

وتكون هذه الآية الكريمة دالّة علي مشروعية مطلق التوسيط بكلّ

أصنافه، وليست الآية خاصة بالاستشفاء فقط، وهذا من الاستدلال علي مشروعية النوع أو الجنس بمشروعية الصنف أو النوع.

هذا تمام الكلام في هذه الآية.

2- قصة البقرة، الواردة في قوله تعالي: «وَإِذْ قَالَ مُوسَي لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ» «1»

، فإن هذه القصة تتحدّث عن إحياء شخص من بني إسرائيل، قتل ظلماً واختلفوا في قاتله فأمرهم اللَّه تعالي للكشف عن قاتله أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها، لتعود إليه الحياة ويتكلّم بذكر قاتله، قال عزّ وجلّ: «وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَاتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ* فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَي وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» «2»

، فهنا الباري تعالي مع كون الإحياء من فعله وليس هو بالأمر الهين، بل هو من الأمور العظيمة والكمالات الأولية لا الثانوية، مع ذلك جعل الوسيلة إليه الضرب بلحم بقرة مذكّاة، فكيف بك بالأنبياء والأوصياء، ألا يستدرّ بهم رحمة اللَّه عزّ وجلّ؟!

ويجدر الاشارة إلي أن البقرة لم تكن بقرة عادية، بل كانت محلّ العناية الإلهية، وقد ذُكرت لها أوصافاً خاصّة في الآيات المباركة، وإن كان الاستقرار عليها بعناد من بني إسرائيل.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 143

والفرق بين ما هو مذكور في هذه الآيات المباركة وبين تقديس البقر وعبادتها، هو وجود الأمر الإلهي وعدمه، وقد جعل اللَّه عزّ وجلّ البقرة سبباً من الأسباب الإلهية وموضعاً من مواضع قدره وإبرام قضائه في القصة المذكورة.

ويشهد علي ما ذكرنا قوله تعالي في ذيل الآية الكريمة: «وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ».

ومعني ذلك أن اللَّه عزّ وجلّ جعل البقرة آية وواسطة لاحياء الموتي بإذنه ومشيئته.

3- قصة التابوت، التي وردت في قوله تعالي: «وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ

قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّي يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ* وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَي وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» «1».

فالتابوت الذي فيه سكينة وبقيّة مما ترك آل موسي وآل هارون جُعل آية معجزة لمُلك طالوت وإمامته، فتلك التركة بسبب علقتها بآل موسي وآل هارون واكتسابها البركة لإضافتها إليهم تصل إلي درجة الاعجاز والآية البيّنة لاثبات مطالب حقّة، وهي إمامة طالوت وتوجب بروز ظواهر خارقة للعادة للتابوت تكوّن منه معجزة، كما ورد في روايات الفريقين.

فهذه الواسطة تجاوزت حدّ الكرامة والبركة لتصل إلي درجة الحجّية

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 144

والإعجاز؛ ولذا قال اللَّه عزّ وجلّ في ذيل الآية الكريمة: «إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» وذلك لبيان أن التابوت آية وعلامة وواسطة يتوسّط ويتوسل بها لإثبات مُلك طالوت وإمامته.

4- قصة السامري صاحب العجل، التي وردت في قوله تعالي في بني إسرائيل عندما ذهب موسي عليه السلام إلي ربّه: «قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَي السَّامِرِيُّ* فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَي فَنَسِيَ» «1»

إلي أن قال اللَّه عزّ وجلّ حكاية عن لسان موسي عليه السلام: «قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ* قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي» «2»

، والرسول في الآية الكريمة كما في بعض الروايات

هو جبرئيل عليه السلام، عندما هبط وتمثّل علي حصان ليستنقذ موسي عليه السلام وبني إسرائيل من فرعون وجنوده ويرشدهم إلي الطريق، من أجل العبور من مصر إلي الطرف الآخر، فكان علي حصان نوريّ تمثّلي، وكان السامري من خواصّ النبيّ موسي عليه السلام، فلاحظ أن حافر حصان جبرئيل عليه السلام عندما كان يخطو الحصان ينبت الزرع دفعة واحدة من تحته، فقبض قبضة من أثر حصان الرسول فنبذها في العجل فإذا هو له خوار.

وقد وردت هذه القصة في روايات الفريقين:

ففي تفسير القمي عن أبي جعفر عليه السلام قال: (وكان السامري علي مقدّمة موسي يوم أغرق اللَّه فرعون وأصحابه، فنظر إلي جبرئيل وكان علي حيوان في صور

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 145

رمكة «1» فكانت كلّما وضعت حافرها علي موضع من الأرض تحرك ذلك الموضع، فنظر إليه السامري وكان من خيار أصحاب موسي، فأخذ التراب من تحت حافر رمكة جبرئيل وكان يتحرك، فصرّه في صرّة، وكان عنده يفتخر به علي بني إسرائيل، فلما جاءهم إبليس واتخذوا العجل قال للسامري هات التراب الذي معك، فجاء به السامري فألقاه إبليس في جوف العجل، فلما وقع التراب في جوفه تحرك وخار) «2».

وفي جامع البيان للطبري قال: (وقوله: فقبضت قبضة من أثر الرسول، يقول:

قبضت قبضة من أثر حافر فرس جبرئيل) ثم أخرج عن ابن عباس قوله: (لما قذفت بنو إسرائيل ما كان معهم من زينة آل فرعون في النار وتكسّرت، ورأي السامري أثر فرس جبرئيل عليه السلام فأخذ تراباً من أثر حافره، ثم أقبل إلي النار فقذفه فيها، وقال: كن عجلًا جسداً له خوار، فكان للبلاء والفتنة) وفي حديث آخر عنه أيضاً: (فألقي القبضة علي حُليّهم فصار عجلًا جسداً له خوار).

وأخرج أيضاً عن مجاهد في

قول اللَّه تعالي: «فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا» قال: (من تحت حافر فرس جبرئيل، نبذه السامري علي حلية بني إسرائيل فانسبك عجلًا جسداً له خوار) «3».

فإذا كان أثر التراب الذي لامس حافر فرس جبرئيل عليه السلام له ذلك التأثير مع أن السامري استخدمه في طريق الضلالة والغواية فما بالك بمن هو أشرف من جبرئيل عليه السلام؟! ألا تكون المواضع التي وقف فيها الرسول الأكرم صلي الله عليه و آله وقبره

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 146

والمواطن التي لامست بدنه الشريف ذات بركة وتأثير خارق لما هو المعتاد، لا سيما إذا كان في طريق الهداية والانصياع للأوامر الإلهية؟!

5- عصا موسي عليه السلام، حيث كانت وسيلة وواسطة للعديد من المعاجز الإلهية كانقلابها أفعي، وضرب البحر بها فكان كلّ فرق كالطود العظيم، وضرب الحجر بها فانفجرت إثنتا عشرة عيناً، كلّ ذلك لكونها مضافة إلي موسي عليه السلام، فهي مباركة ببركة موسي عليه السلام وواسطة للكثير من المعاجز، فكيف بك بنفس موسي ومن هو أفضل من موسي، ألا يكون واسطة ووسيلة لقضاء الحوائج التي هي لا تصل في العظمة والخطورة إلي حدّ المعجزة؟!

6- البيت الحرام حيث جعله اللَّه عزّ وجلّ مباركاً تُطلب فيه البركة ويدعي فيه لقضاء الحوائج، وهو نوع توسيط لأجل طلب البركة، وذلك ما جاء في قوله تعالي: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًي لِلْعَالَمِينَ» «1».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 147

الفصل الثالث/ شرطية التوسّل وضرورته في مقامات ثلاث: … ص: 147

اشارة

/ قبول التوبة/ وقبول العبادات/ ونيل المقامات الإلهيّة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 148

الدليل الأول: معطيات الشهادة الثانية

الدليل الثاني: التوسّل ضرورة عقلية

الدليل الثالث: عموم وجوب طاعة اللَّه ورسوله وأولي الأمر.

الدليل الرابع: اقتران اسم النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام بأعظم العبادات.

الدليل الخامس: ابتغاء الوسيلة

ضرورة قرآنية.

الدليل السادس: شرطية الاستجارة بالنبيّ صلي الله عليه و آله في طلب المغفرة.

الدليل السابع: التوسّل بالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام ميثاق مأخوذ علي الأنبياء.

الدليل الثامن: «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِم».

الدليل التاسع: الاستكبار والصدّ عن آيات اللَّه تعالي موجب لحبط الأعمال.

الدليل العاشر: خضوع الملائكة لوليّ اللَّه وخليفته.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 149

شرطية التوسّل وضرورته في مقامات ثلاث … ص: 149

اشارة

نريد أن نبيّن تحت هذا العنوان دور التوسّل وشرطيته في مقامات ثلاث، وهي كالتالي:

المقام الأول: إن من شرائط التوبة وقبولها التوسّل بالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام.

المقام الثاني: إن من شرائط قبول وصحة الإيمان (العقيدة) والعبادات مطلقاً التوسّل والتوجّه بالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام.

المقام الثالث: إن أي توجّه إلي الحضرة الربوبية في صدد نيل مقام من المقامات الإلهية أو حظوة عند اللَّه تعالي لابدّ فيه من التوجّه بالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام والتوسّل بهم.

فإن فقهاء الإمامية وغيرهم أيضاً ذكروا أن ولاية أهل البيت عليهم السلام شرط في تلك المقامات الثلاث، بمعني معرفتهم والإيمان بإمامتهم.

وليس هذا ما نريد إثباته هنا؛ إذ هو مع وضوحه خارج عن محلّ البحث.

إذن ما نريد بيانه هنا هو شرطية التوسّل بالنبيّ الأعظم صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام في تلك المقامات الثلاث.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 150

ولأجل اشتراك ما ادّعيناه في المقامات الثلاث في طبيعة الأدلّة نستعرضها ببيان واحد، يكون صالحاً لإثبات المدّعيات الثلاثة في المقامات المذكورة.

وإليك فيما يلي استعراض الأدلّة:

الدليل الأول: معطيات الشهادة الثانية … ص: 150

إن المعرفة والعقيدة والإيمان الذي هو من العبادات، بل أعظم الفرائض الإلهية؛ لأنه إذعان وإخبات وتسليم وخضوع وانقياد للَّه تعالي، وهذه المعرفة الإيمانية للعقل والقلب هي عبادتهما وطوعانيتهما للَّه نوع توجّه ولقاء للَّه تعالي ووفود علي الحضرة الربوبية وزلفي وقرب بتوسّط الإيمان القلبي، وهذه العبادة القلبية العظيمة ممتنعة بلا واسطة، وذلك لعظمة اللَّه عزّ وجلّ، فلا اكتناه ولا إحاظة ولا مماسّة ولا ملامسة ولا مواجهة جسمية أو عقلية أو نفسية؛ إذ لا يُجابه الجسم إلّاما يماثله في الجسمية، ولا يُجابه النفس أو العقل إلّاما

يماثلهما، واللَّه تعالي منزّه عن كونه جسماً أو نفساً أو عقلًا؛ لكونها من الممكنات المحدودة بحدود الماهية والفقر والحاجة.

إذن لابدّ من الوسيلة والواسطة في الإيمان، الذي هو أعظم العبادات وأعظم أنواع التوجّه إلي اللَّه تعالي، والواسطة هي الإيمان بالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله والإقرار بالشهادة الثانية في مقام الإدلاء بالشهادة التوحيدية المقبولة عند اللَّه تعالي، والموجبة للخروج من حظيرة الشرك إلي التوحيد الإسلامي الخالص؛ لأنه أعظم آية للحقّ سبحانه.

وإذا كان للوسيلة هذا الدور الخطير في المعرفة وأن التوجّه إليها في المعرفة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 151

توجّهاً إلي اللَّه تعالي، والمعرفة أعظم شأناً من سائر العبادات، فكيف لا يكون التوجّه في عبادة البدن والنفس إلي اللَّه تعالي بالوسيلة؟! وكيف لا يسوغ التوجّه في الخطاب الكلامي بألفاظ الدعاء إلي الوسيلة، ويكون دعاؤها دعاء بها إلي اللَّه تعالي؟!

ففي حاقّ وعمق عبادة الإيمان والتوجّه القلبي لابدّ من التوجّه بالنبيّ صلي الله عليه و آله للوفود علي اللَّه عزّ وجلّ، فلا يتحقّق التوحيد ولا يكون المرء مؤمناً، إلّاإذا توجّه بقلبه إلي اللَّه تعالي بالشهادة الأولي والشهادة الثانية، ومن ينفي أي إسم أو واسطة مع اللَّه تعالي عند التوجّه إليه فهو واقع في مغبّة الشرك والوثنية من حيث يشعر أو لا يشعر، نظير وثنية قريش، حيث كانوا لا يدينون اللَّه تعالي بطاعة وولاية نبيّه الأكرم صلي الله عليه و آله.

وإذا كان الإيمان والمعرفة كذلك فكيف بباقي العبادات التي هي أقلّ شأناً وخطورة؟!

والحاصل: أن المعرفة والإيمان والتوحيد الذي يتضمّن الدين بأجمعه لا يحصل إلّابالتوسل بآيات اللَّه الكبري، ومزاوجة الشهادة الثانية بالشهادة الأولي، وهذا يعني أن أي شأن من الشؤون الدينية كالتوبة أو العبادة أو نيل مقام من المقامات الإلهية لا يمكن

أن يتحقّق إلّابالمحافظة علي الشهادة الثانية، والإقرار بها وبمعطياتها وتداعياتها ومقتضياتها في كافّة أصول وفروع المعارف التوحيدية، ولا شك أن الإيمان بالشهادة الثانية توجّه قلبي بالنبيّ الأكرم للَّه عزّ وجلّ، إذ الإيمان كما أسلفنا طلب للقرب والزلفي ولقاء اللَّه تعالي، وهذا القرب إنما يتحقّق بتوسيط الشهادة الثانية، وهي شهادة أن محمّداً رسول

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 152

اللَّه ووليّه وخليفته في أرضه.

فالإسلام يدعو إلي التوجّه بالنبيّ صلي الله عليه و آله في الإيمان والاعتقاد وهو أفضل عبادة، فضلًا عن بقيّة العبادات الأخري، والإباء عن التوجّه في العبادة بخاتم الأنبياء إنكار للشهادة الثانية، ودعوة إلي الشرك باسم التوحيد، وهذا ما أخفق فيه السلفيون، حين جحدوا التوسّل بالنبي صلي الله عليه و آله، فلا تراهم يقرنون لون الشهادة الثانية ومؤداها ومعطياتها بلون الشهادة الأولي في رسم بناء التوحيد في أدبيات كتبهم، فيقتصرون علي تفسير الشهادة الأولي في التوحيد، من دون أن يهتدوا إلي كيفية ركنية مؤدّي الشهادة الثانية في أركان التوحيد، وكيفية ضرورة الربط والارتباط بين مؤدّي كل من الشهادتين في رسم أصل التوحيد، ومنه يظهر أن التوسّل والتوجّه بالنبي صلي الله عليه و آله ضرورة وليس مجرد خيار مشروعية.

الدليل الثاني: التوسّل ضرورة عقلية … ص: 152
اشارة

علي الرغم من أن هناك من أعلام السنّة من أكّد علي رجحان التوسّل ومشروعيّته، كالقاضي عياض في كتابه الشفا بتعريف حقوق المصطفي والسُبكي في شفاء السقام والسيف الصقيل والسمهودي في وفاء الوفا وتقي الدين الحصني الشافعي في كتابه دفع الشبه عن الرسول والرسالة وغيرهم.

إلّا أن ما نرمي إليه في هذه الأبحاث أبعد من ذلك؛ إذ أن الرجحان والمشروعية لا يثبتان سوي التخيير وكون التوسّل أمراً مرغوباً فيه يجوز للمكلف تعاطيه وله تركه أيضاً، وما نريد التأكيد عليه هنا هو أن

مبدأ التوسّل أمر ضروري يحكم العقل بلابدّيته وعدم إمكان المحيص عنه، وذلك لأن نفي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 153

الواسطة والوسيلة بين العبد وبين ربّه في مقام التوجّه إليه تعالي لا يخرج عن أحد فروض ثلاثة كلّها باطلة:

الأول: فرض المجابهة والمواجهة المباشرة للَّه تعالي حين التوجّه إليه في الدعاء والعبادة، وبطلان هذا الفرض واضح، إذ يلزم منه التشبيه للذات الإلهية، وقد ثبت بطلانه في الأبحاث العقائدية؛ لتنافيه مع الصفات الكمالية اللّامتناهية لواجب الوجود.

بيان الملازمة: … ص: 153

إن مجابهة ومواجهة البشر العاديين المباشرة للذات الإلهية المقدّسة إما أن تكون حسّية جسمانية أو نفسانية روحية أو عقلية، وهذه الأقسام الثلاثة من المجابهة المباشرة هي التشبيه الباطل بعينه، وذلك لأن الارتباط المواجهة الجسمية إنما تفرض مع ما هو جسم، لقانون التضايف بين المتجابهين، وهكذا التوجّه المواجهة الروحية والقلبية لما هو روح والمواجهة العقلية لما هو عقل أيضاً، فكلّ هذه الأقسام المفروضة للمواجهة المباشرة للَّه تعالي لم تخرج عن دائرة التشبيه للذات المقدّسة بكونها جسماً أو روحاً أو عقلًا، وهو الشرك بعينه، لكونه موجباً لسلب واجب الوجود عن واجبيّته وكماله المطلق اللّامتناهي، ووصفه بصفات المخلوق المحدود بحدود الإمكان والماهية والفقدان والاحتياج والافتقار.

وحاصل هذا الفرض هو مواجهة البشر العاديين المباشرة للَّه تعالي، وهو فرض التشبيه الباطل بكلّ مراتبه.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 154

الثاني: القول بالتعطيل وعدم السبيل إلي اللَّه تعالي ومعرفته والتوجّه إليه، وهو باطل، لأن معرفة اللَّه تعالي واجبة والتي هي نوع لقاء للَّه عزّ وجلّ وتوجّه إليه وزلفي.

الثالث: دعوي أن الناس بأجمعهم لهم ارتباط مباشر مع اللَّه تعالي فوق الجسم والروح والقلب والعقل بما لا يستلزم التشبيه، وهذا باطل بالوجدان، وقد رفض القرآن الكريم أيضاً الإيحاء والوحي إلي جميع البشر واستنكر ذلك علي المشركين، كما في قوله تعالي:

«بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِيٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَي صُحُفًا مُنَشَّرَةً» «1».

وردّ اللَّه عزّ وجلّ في آيات أخري علي هذه المقالة الباطلة، حيث قال: «وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّي نُؤْتَي مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ» «2».

ومع بطلان هذه الفروض الثلاثة تكون النتيجة ضرورة الإيمان بالوسائل والوسائط والآيات، والرجال المؤهّلين للإرتباط باللَّه تعالي، وهم الأنبياء والأولياء والمصطفين، الذين اصطفاهم اللَّه عزّ وجلّ وجعلهم وسائط بينه وبين خلقه في كلّ ما يحتاج الخلق إليه وفي كلّ توجّه وطلب ودعاء وزلفي إلي اللَّه تعالي، سواء كان علي مستوي التوبة أو سائر العبادات أو نيل مقام من المقامات الإلهية، وليس ضرورة التوسيط إلّالعظمة اللَّه عزّ وجلّ وعلوه عن التجسيم

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 155

والتشبيه والتعطيل.

ثم إن آيات اللَّه الكبري وأسمائه العظمي التي جعلها واسطة في التوجّه إليه هي أيضاً لا تتوجّه إلي اللَّه عزّ وجلّ بالمباشرة ولا تجابهه إلّابذواتها، فتوجّه الوسائط أيضاً إلي اللَّه تعالي إنما يكون بذواتها التي هي آية لمعرفة اللَّه عزّ وجلّ، ولا توجد أي مجابهة بالمباشرة لأيّ مخلوق من المخلوقات.

التوسّل في كل النشآت ولأصناف المخلوقات: … ص: 155

والحاصل: أن اللَّه تعالي لعظمته وعظيم صفاته لا يجابه ولا يواجه إلّا بالوسائل والآيات، ولا يستثني من ذلك القانون وتلك السنّة الإلهية التكوينية أي مخلوق من المخلوقات في كلّ شأن من شؤونه المعرفية والعبادية في هذه النشأة وفي جميع النشآت، ولذا قالت الصدّيقة فاطمة الزهراء عليها السلام في مستهل خطبتها المعروفة في هذا المجال: «فاحمدوا اللَّه الذي بعظمته ونوره ابتغي من في السماوات ومن في الأرض إليه الوسيلة، فنحن وسيلته في خلقه، ونحن آل رسوله، ونحن حجّة غيبه وورثة أنبيائه»

«1».

وكذا قال أمير المؤمنين عليه السلام: «وبعظمته ونوره ابتغي من في السماوات والأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة» «2».

إذن قانون ومبدأ التوسّل ضرورة يدركها العقل ويُقرّ بها، لعظمة اللَّه تعالي، وليس التوسّل أمراً تخييرياً ولا مشروعاً فحسب.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 156

الدليل الثالث: عموم طاعة اللَّه ورسوله وأولي الأمر … ص: 156
اشارة

إن ضرورة المسلمين قائمة علي أن جميع العبادات فيها ما هو فرائض قرآنية إلهية ومنها ما هو سنن نبويّة، كما في الصلاة والصيام والحجّ والزكاة والجهاد وغيرها، إذ هي فرائض إلهية في أصل وجوبها في الدين، وأما تفاصيلها وأجزائها وشرائطها وأقسامها فهي سنن نبويّة وصلتنا عن طريق أمر النبيّ صلي الله عليه و آله لكلّ المسلمين بتلك التفاصيل والتشريعات الخاصة، ومن أمثلة ذلك ما ورد في روايات الفريقين من أن الصلوات كان فرضها من اللَّه تعالي ركعتين لكلّ صلاة وما زاد عليها في كلّ صلاة كان من سنّة النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وأمره وفرضه «1» وهكذا بقيّة التفصيلات والتشريعات القانونية النبويّة ضمن الفرائض الإلهية، وكتب الحديث مليئة بالأوامر النبويّة في مجمل الأبواب الفقهية وغيرها.

إذن فيكون الإتيان بالصلاة والزكاة والحجّ وغيرها طاعة لأمر اللَّه وأمر رسوله صلي الله عليه و آله، ولا تُستعلم طاعة اللَّه عزّ وجلّ من دون طاعة الرسول الأكرم في أوامره ونواهيه، فهو صلي الله عليه و آله باب طاعته تعالي؛ لأنه هو الدالّ والمبيّن والناطق الرسمي عن أوامر اللَّه عزّ وجلّ ونواهيه.

وهذا ما كنّا نُعبّر عنه بتداعيات ومقتضيات الشهادة الثانية؛ إذ هي تستدعي الإتيان والالتزام بجملة الدين طاعة للَّه ورسوله.

وهذا ما تكاثرت ودلّت عليه جملة من الآيات القرآنية، كما في قوله تعالي:

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 157

«قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ» «1».

وقوله تعالي: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» «2».

ثم إن اللَّه

عزّ وجلّ حذّر المسلمين من المخالفة لأوامر الرسول الأكرم، وبيّن في آيات عديدة العواقب الوخيمة التي تترتب علي مخالفة النبيّ صلي الله عليه و آله في أوامره:

كما في قوله تعالي: «لَاتَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» «3».

وكذا قوله تعالي: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا» «4».

وقوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ» «5».

وقوله عزّ وجلّ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ» «6».

إلي غير ذلك من الآيات القرآنية التي جاءت في ضمن السلك العام والسنّة الإلهية الشاملة لطاعة الرسل كافّة، كما في قوله تعالي: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ» «7»

، ومن الجدير بالإلتفات أن تتمة هذه الآية المباركة هو قوله

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 158

عزّ وجلّ: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا» «1»

والتي سيأتي الاستدلال بها علي شرطية التوسّل في المقامات الثلاث المتقدّمة.

والحاصل: أن أوامر النبيّ صلي الله عليه و آله اقترنت بأوامر اللَّه وفرائضه في مجمل أحكام الدين الإسلامي، وقد أكّدت الآيات القرآنية علي وجوب اقتران طاعة اللَّه تعالي بطاعة رسوله صلي الله عليه و آله، وهذه طاعة عامّة كطاعة اللَّه عزّ وجلّ في كلّ أبواب الدين برمّته بلا استثناء لأي جانب من جوانب الشريعة الإسلامية والدين الإسلامي، ومعني ذلك أن نيّة القربة إلي اللَّه تعالي وطاعته في جميع العبادات إنما تتحقّق بتوجّه العبد إلي ربّه بطاعة نبيّه، ففي كلّ عبادة إنما يتوجّه العبد إلي اللَّه تعالي للتقرّب إليه بطاعته وطاعة رسوله.

فذلكة صناعية لأخذ التوسّل في نية القربة: … ص: 158

ولا شك

أن حقيقة العبادات بالنيّة القربيّة، والنيّة القربيّة إنما تحصل بالسبب المؤدّي إلي القربة، والقربي غاية مسبّبة سببها الطاعة لأوامر للَّه تعالي، وطاعة اللَّه عزّ وجلّ لا تتحقّق إلّاإذا كانت مقترنة بطاعة رسوله صلي الله عليه و آله، إذ أن النيّة التي هي روح العبادة إنما تحصل بوسيلة وواسطة طاعة النبيّ، ومن لم ينوِ القربة بهذا النحو في العبادة تكون عبادته شركاً باللَّه تعالي، لعدم التوجّه إلي اللَّه عزّ وجلّ بأبوابه التي أمر بتوسيطها وطاعتها وامتثال العبادات انقياداً لأوامرها.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 159

ومن يريد أن يفصل في صلاته وحجّه وصومه طاعة اللَّه عن طاعة الرسول يكون علي الوثنية الجاهلية التي يشنؤها اللَّه عزّ وجلّ وعبّر عنها في قرآنه الكريم بالشرك والنجس، وطاعة كلّ من لم يأمر اللَّه بطاعته وثن من الأوثان، بل حتي صلاته تصبح وثناً إذا كانت صادرة عن طاعة غير من أمر اللَّه بطاعته، وإن كان ذلك المطاع هو الهوي وتحكيم سلطان الذات علي سلطان اللَّه عزّ وجلّ، كما في الوثنية القرشية التي ذمّها القرآن الكريم.

ومن ذلك يتّضح أن أي عبادة من العبادات أو قربة من القربات أو نيل مقام من المقامات القربية أو الفوز بحظوة عند اللَّه تعالي لا يمكن أن تتحقّق من دون توسيط طاعة النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله في تلك العبادة أو ذلك المقام.

ففي مقام التقرّب والنيّة والقصد جُعلت القبلة المعنوية طاعة النبيّ صلي الله عليه و آله والتدين بولايته والخضوع له، الذي هو خضوع للَّه عزّ وجلّ، كخضوع الملائكة لآدم لأنه باب اللَّه تعالي.

هذا كلّه في مقتضيات الشهادة الثانية وضرورة اقترانها بالشهادة الأولي.

كذلك أكّدت الآيات القرآنية علي ضرورة الشهادة الثالثة واقترانها بالشهادة الثانية تبعاً للشهادة الأولي.

والشهادة الثالثة عبارة عن

طاعة أولي الأمر، الذين أمر اللَّه بطاعتهم في قوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأوِيلًا» «1»

، حيث قرن طاعتهم بطاعته وطاعة رسوله صلي الله عليه و آله.

وقد بيّن اللَّه تبارك وتعالي في قرآنه الكريم المراد من أولي الأمر الذين تجب

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 160

طاعتهم، بعد أن بيّن تعالي المقصود من الأمر الذي هم أولياؤه، وأنه أمر ملكوتي من عالم كن فيكون، كما في قوله تعالي: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» «1»

، وقوله تعالي: «وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» «2»

، وكذا قوله عزّ وجلّ: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا» «3»

، وقوله تعالي: «أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ» «4»

، ثم أفصحت الآيات القرآنية عن كون الأمر عبارة عن تدبير السماوات والأرض، قال تعالي: «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَي الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» «5».

إذن أولو الأمر هم الذين يتنزّل عليهم الأمر في ليلة القدر وفيها يفرق كلّ أمر حكيم، قال تعالي: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ* سَلَامٌ هِيَ حَتَّي مَطْلَعِ الْفَجْرِ» «6»

، وقال عزّ وجلّ في وصف ليلة القدر: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ* رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» «7»

، ثم بيّن اللَّه عزّ وجلّ أن شريعة النبيّ الأكرم من ذلك الأمر الحكيم الذي يفرق في ليلة القدر، حيث قال

عزّ وجلّ مخاطباً نبيّه الأكرم صلي الله عليه و آله: «ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَي شَرِيعَةٍ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 161

مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ» «1».

وقد صرّحت آيات أخري بأن الأمر الملكوتي يتنزّل علي عباد اللَّه من دون أن تخصّص من لهم الأمر بالأنبياء والرسل، قال عزّ وجلّ: «يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ» «2».

وحاصل ما ذكرناه من الآيات: أن الأمر من عالم الملكوت والغيب، وأنه مرتبط بتدبير السماوات والأرض وغير مختصّ بالشؤون الدنيوية المادّية، وأن الشرائع وهداية الناس وإنذارهم مرتبطة به، وأنه شامل لأولياء اللَّه الأصفياء المجتبين وليس خاصّاً بمقام النبوّة والرسالة، وذلك لارتباطه المباشر بمقام الهداية والإيصال إلي المطلوب وهو مقام الخلافة والإمامة كما تقدم؛ ولذا قال تعالي: «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ» «3»

، والصبر واليقين للأئمة من أولي الأمر في هذه الآية المباركة إشارة إلي العصمة في مقام العلم والعمل.

ولا يوجد أولو أمر في هذه الأمة بعد رسول اللَّه تجب طاعتهم غير أهل بيته صلي الله عليه و آله، الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

ولا يمكن اقتصار الأمر الإلهي علي السياسة والأمور الاجتماعية، بل هو أمر ملكوتي من عالم الغيب لهداية الأمة وتدبير السماوات والأرض يتنزّل في ليلة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 162

القدر علي أولياء اللَّه وأصفيائه، وهؤلاء هم أوصياء رسول اللَّه صلي الله عليه و آله والأئمة من بعده الدالّون علي أوامره والذين أوكل لهم البيان الشرعي والقانوني للأوامر الإلهية والنبويّة، فكما أن الدالّ علي أوامر اللَّه ونواهيه هو النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله بأمره ونهيه، كذلك الدالّ علي أوامر الرسول الأكرم ونواهيه أولو

الأمر من بعده بأمرهم ونهيهم، فالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله أمر ونهي في ضمن إطار الفرائض الإلهية، وأولو الأمر أيضاً يأمرون وينهون في ضمن دائرة السنن النبويّة المباركة، بما يشبه الحالة التراتبية في التنزّل القانوني الوضعي في الأدوار والصلاحيات، فهم الدالّون علي طاعة الرسول صلي الله عليه و آله كما كان هو دالّا علي طاعة ربّه.

وبعبارة أخري: إن أصول تشريع اللَّه تعالي وفرائضه يتبعها تشريعات النبيّ صلي الله عليه و آله تفصيلًا وبياناً، ويتبعها تشريع أولي الأمر علي نحو التنزّل القانوني، الذي هو الفتق بعد الرتق، والتفصيل بعد الإجمال، والبسط بعد القبض للتشريعات، وهذه لغة قانونية جعلها اللَّه تعالي جسراً لإيصال أحكامه علي ما جري عليه البشر، كالتشريع للفقه الدستوري ثم النيابي ثم الوزاري، علي نحو التبعية بلا منافاة، وهذا برهان قانوني علي التشريعات التي لابدّ من طاعتها، فالرتق يُفسَّر ويفتق فتقاً قانونياً تابعاً له.

ويتجلّي ذلك المعني أكثر إذا علمنا أن معظم بيان تشريع الشرائط والموانع وتفاصيل الأجزاء هي من تشريعات أئمة أهل البيت عليهم السلام، فلا تستعلم تلك الأمور مع تركهم والإعراض عنهم وعدم الطاعة لأوامرهم.

إذن الطاعة في الدين بطاعة اللَّه، وطاعة اللَّه بطاعة النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وأولي الأمر، فالوليّ بعد اللَّه تعالي رسوله صلي الله عليه و آله وبعد الرسول أولي الأمر، الذين لهم حقّ استنباط الدين وبيانه وتفصيله، قال تعالي: «وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 163

أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَي الرَّسُولِ وَإِلَي أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» «1».

والذي يتّضح مما ذكرناه أن طاعة أولي الأمر علي حدّ طاعة رسول اللَّه مقترنة بها وشاملة للدين كلّه، كما أن ولاية اللَّه

تعالي وطاعته كذلك غير مختصّة ببعض الشؤون السياسية أو الاجتماعية.

فالإتيان بجميع العبادات والطقوس الدينية طاعة لأمر اللَّه وأمر رسوله وأولي الأمر من بعده وهم أهل بيته عليهم السلام، فالعبد ينقاد ويفد علي اللَّه تعالي ويتقرّب ويتوجّه إليه بطاعة الرسول وطاعة أولي الأمر، وهذا يعني أن الشهادة الثانية والثالثة مأخوذتان واسطتين في حاقّ عبادة اللَّه تعالي بما فيها عبادة المعرفة، التي هي أعظم العبادات.

ومن ثمّ كان الدين عبارة عن ولاية اللَّه وولاية الرسول وولاية أولي الأمر والطاعة لهم، قال اللَّه تعالي: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ* وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ» «2».

والولاية والطاعة أصالة للَّه وبالتبع للنبيّ وأولي الأمر بإذن وأمر من اللَّه تعالي، كما أخضع اللَّه عزّ وجلّ ملائكته ومن خلق من الجنّ وغيرهم لوليّ اللَّه وخليفته آدم، بما هو النموذج والمصداق لخليفة اللَّه في الأرض، فكلّ من يتسنّم مقام الخلافة الإلهية لابدّ من الإنقياد والخضوع والطاعة له.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 164

وحيث أن التوجّه والقربة والزلفي لا تحصل إلّابالطاعة للَّه وللرسول، كذلك لا تحصل إلّابطاعة أولي الأمر مقترنة مع طاعة اللَّه ورسوله، فلا يمكن قصد القربة في العبادة ولا يحصل القرب إلي اللَّه تعالي في العبادات إلّابالخضوع والطاعة لوليّ الأمر والإتيان بالعبادة امتثالًا لأمره، تبعاً لأمر اللَّه والرسول صلي الله عليه و آله، حيث يستعلم أمرهما بأمره.

واتّضح من ذلك البيان أيضاً أن جميع العبادات فرائض من اللَّه تعالي وسنّة من نبيّه ومنهاج وهدي من أهل بيته عليهم السلام وعلي جميع المستويات الاعتقادية والعبادية.

كذلك تبيّن أن من يعبد اللَّه من دون التوجّه بحجّة اللَّه ووليّه، بطاعته وامتثال أمره عمله هباء؛ إذ لا تتحقّق منه

القربة لعدم الطاعة في مقاماتها الثلاث وعدم ضمّ الشهادات الثلاث إلي بعضها البعض، فلا يُصار إلي التوجّه إلي اللَّه تعالي إلّا عن طريق آياته وبيّناته، وهم الوسيلة إليه في المقامات الثلاث التي ذكرناها في صدر البحث، بل في الدين كلّه.

ولو كان إقحام اسم النبيّ صلي الله عليه و آله وذكره والتوجّه القلبي إليه وإلي أولي الأمر موجباً للشرك لَما قرن اللَّه تعالي طاعته بطاعتهم، فليس إنكار التوسّل والواسطة إلّا دعوة إلي التفريق بين اللَّه ورسوله وأولي الأمر، وفصل الشهادات الثلاث وبتر بعضها عن البعض الآخر، وهذه هي عبادة الشرك التي آمن بها إبليس، الذي أراد أن يفرّق بين طاعة اللَّه وطاعة خليفته، بخلاف الملائكة أهل عبادة التوحيد الذين خضعوا للَّه ولوليّه آدم عليه السلام.

ثم إن مورد هذه الآية وهي آية «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 165

مِنْكُمْ» «1»

التي حكمت بوجوب الطاعة هو الدين كلّه، فكما أن طاعة اللَّه عزّ وجلّ في الدين كلّه، كذلك ما اقترن بها من طاعة الرسول الأكرم صلي الله عليه و آله وأولي الأمر من أهل بيته عليهم السلام.

وما ورد من قوله تعالي: «إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» لبيان أن محلّ بدن الخليفة هو الأرض، ولكن خلافته ليست خاصّة بالأرض، ومن ثمّ أطوع له جميع الملائكة في جميع النشآت، والشاهد علي ذلك أيضاً تقديم الجار والمجرور (في الأرض) علي الخليفة، فالدين الذي هو معرفة اللَّه تعالي عامّ لا يستثني منه أحد في جميع النشآت، ومن ثمّ تكون جميع المخلوفات مكلّفة بالطاعة لأولي الأمر؛ ولذا أمر اللَّه تعالي الملائكة بالسجود بما فيهم إبليس وهو من الجنّ، فخلافة وطاعة أولي الأمر وولايتهم لا تحدّ بالجنّ والإنس ولا بأمر سياسي أو اجتماعي،

والكلّ يبتغي إلي اللَّه الوسيلة ويخضع لولي اللَّه في توجّهه إلي خالقه، والتوجّه إلي اللَّه من دون التوجّه إليه بطاعة نبيّه ووليّه نجس وشرك ووثنيّة قرشية.

ونيّة القربة إذا لم تكن علي هذا المنوال في العبادة لا تقبل؛ لعدم تفتّح الأبواب بالآيات.

وبذلك كلّه يتمّ ما ذكرناه من شرطية التوسّل والتوجّه في المقامات الثلاثة المتقدّمة، استناداً إلي وجوب الطاعة في مراتبها الثلاث.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 166

الدليل الرابع: إقتران اسم النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته: بأعظم العبادات: … ص: 166

لقد رفع اللَّه عزّ وجلّ ذكر النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وقرنه باسمه في مجمل العبادات، التي تقع في مصافّ أسس الدين وأركان الإيمان، من حيث محوريتها في المنظومة الدينية، ونشير فيما يلي إلي بعض تلك الشواهد في هذا المجال:

الشاهد الأول: الإتيان باسم النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله في تشهّد الصلاة، حيث إن الصلاة علي النبيّ وأهل بيته راجحة بإجماع المسلمين «1»، وهي شرط واجب في الصلاة عند بعض المذاهب الإسلامية، كمذهب أهل البيت عليهم السلام «2» وبعض فقهاء المذاهب الأخري «3»، تمسّكاً بما روته عائشة من الوجوب، حيث روت عن النبيّ صلي الله عليه و آله أنه قال: «لا يقبل اللَّه صلاة إلّابطهور والصلاة عليّ» «4».

وقد بيّن النبيّ الأكرم الصلاة عليه عندما سُئل عن كيفيّتها، فقال: «قولوا: اللّهمّ صلِّ علي محمّد وعلي آل محمّد» «5»

، كذلك يستحبّ الصلاة علي النبيّ محمّد صلي الله عليه و آله وآله بعد القنوت في الصلاة، جزم بذلك النووي تبعاً للغزالي في المُهذّب ونسبه إلي الجمهور «6».

ولا شك أن ذكر الصلاة علي النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام نوع دعاء لهم وتحيّة وسلام، ونوع توجّه لهم بالمحيي والدعاء.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 167

وهذا يعني أن المصلّي في صلاته

التي هي الركن الركين في العبادات، والموجبة للعروج والقربان من اللَّه تعالي، إن قبلت قبل ما سواها وإن رُدّت رُدّ ما سواها علي النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام يتوجّه بالدعاء وإلقاء التحيّة والسلام، لكي تقبل صلاته وتوجب مزيداً من القرب إلي اللَّه تعالي، فالصلاة التي هي من دعائم الدين مقرونة بالوسائط والأبواب الإلهية، لكي تكون صحيحة مقبولة عند اللَّه تعالي أو موجبة لمزيد القرب منه، وإذا كانت الصلاة كذلك فكيف بباقي العبادات الأخري؟!

ولو كان إقحام اسم النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام في الصلاة والتوجّه إليهم بالقلب موجباً للشرك لما كان الأمر فيها علي هذه الحال، فالفرق بين صلاة المشركين وصلاة الموحّدين في أن صلاة المشركين تفتقد لذكر النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله فيها، بخلاف صلاة المسلمين، حيث يقرن فيها إسم النبيّ الأكرم إلي جانب ذكر اللَّه تعالي.

وقد قرن وجوب أو استحباب بعض العبادات الأخري غير الصلاة باستحباب الصلاة علي النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله، كاستحباب الصلاة علي النبيّ صلي الله عليه و آله إذا فرغ الحاج من التلبية في الحجّ «1»، واستحباب الصلاة علي النبيّ صلي الله عليه و آله عند ذبح الهدي أو الأضحية «2»، وقد جعلت الصلاة علي النبيّ صلي الله عليه و آله أحد أركان الخطبة في صلاة الجمعة «3».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 168

كذلك من أركان صلاة الميّت الصلاة علي النبيّ صلي الله عليه و آله وآله عليهم السلام «1»، ويستحبّ أيضاً الصلاة علي النبيّ وآله قبل الأذان والإقامة وبعدهما، كما نصّ علي ذلك عبد العزيز الهندي نقلًا عن النووي في شرح الوسيط- في كتابه الفقهي فتح المعين «2»،

إلي غير ذلك من الموارد التي لا تحصي في الفقه، والتي قرنت فيها جملة وافرة من العبادات باسم النبيّ المبارك صلي الله عليه و آله وأهل بيته الطاهرين، وليس ذلك إلّاتوجّه وتوسّل بهم عليهم السلام لقبول العبادة وحصول القرب من اللَّه تعالي، ولفتح أبواب السماء لصعود العمل.

وهذا ما ورد النصّ عليه في روايات عديدة ومتضافرة من طرقنا وطرق السنّة، حيث نصّت علي أن الدعاء محجوب عن السماء ما لم يصلَّ علي النبيّ وآله:

منها: ما ورد عن الإمام علي عليه السلام قال: «الدعاء محجوب عن السماء حتي يُتبع بالصلاة علي محمّد وآله» «3».

ومنها: ما ورد عن أبي ذرّ عن النبيّ صلي الله عليه و آله قال: «لا يزال الدعاء محجوباً حتي يصلّي عليّ وعلي أهل بيتي» «4».

ومنها: ما جاء عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام قال: «قال رسول

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 169

اللَّه صلي الله عليه و آله: صلاتكم عليّ إجابة لدعائكم وزكاة لأعمالكم» «1».

ومنها: ما ورد أيضاً عن الإمام الصادق عليه السلام، حيث قال: «إن رجلًا أتي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله فقال: يارسول اللَّه، إني جعلت ثلث صلاتي لك، فقال له خيراً، فقال له:

يارسول اللَّه إني جعلت نصف صلاتي لك، فقال له: ذاك أفضل، فقال: إني جعلت كلّ صلاتي لك، فقال: إذن يكفيك اللَّه عزّ وجلّ ما أهمّك من أمر دنياك وآخرتك، فقال له رجل: أصلحك اللَّه كيف يجعل صلاته له؟ فقال أبو عبداللَّه عليه السلام: لا يسأل اللَّه عزّ وجلّ إلّابدأ بالصلاة علي محمّد وآله» «2».

ومنها: ما رواه فضالة بن عبيد، حيث قال: (سمع رسول اللَّه صلي الله عليه و آله رجلًا يدعو في صلاته لم يمجّد اللَّه تعالي ولم

يصلِّ علي النبيّ صلي الله عليه و آله، فقال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله:

«عجّل هذا»، ثم دعاه فقال له أو لغيره: «إذا صلّي أحدكم فليبدأ بتحميد ربّه عزّ وجلّ والثناء عليه، ثم يصلّي علي النبيّ، ثم يدعو بعد بما شاء» «3».

وعن ابن مسعود قال: (إذا أراد أحدكم أن يسأل فليبدأ بالمدحة والثناء علي اللَّه بما هو أهله، ثم ليصلِّ علي النبيّ صلي الله عليه و آله، ثم ليسأل فإنه أجدر أن ينجح) «4»، قال الهيثمي في زوائده: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح «5».

ومنها: ما عن جابر بن عبداللَّه قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «لا تجعلوني كقدح

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 170

الراكب، فإن الراكب إذا أراد أن ينطلق علّق معالقه، وملأ قدح ماء، فإن كانت له حاجة في أن يتوضّأ توضّأ، وأن يشرب شرب، وإلّا أهراق، فاجعلوني في وسط الدعاء وفي أوّله وفي آخره» «1».

ومنها: ما أخرجه القاضي عياض عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قال: «كلّ دعاء محجوب دون السماء، فإذا جاءت الصلاة عليّ صعد الدعاء» «2».

ومن الروايات التي من طرقنا أيضاً ما في موثقة السكوني عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «من دعا ولم يذكر النبيّ صلي الله عليه و آله رفرف الدعاء علي رأسه، فإذا ذكر النبيّ صلي الله عليه و آله رفع الدعاء» «3».

وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «إذا كانت لك إلي اللَّه حاجة فابدأ بمسألة الصلاة علي النبيّ صلي الله عليه و آله ثم سل حاجتك، فإن اللَّه أكرم من أن يُسأل حاجتين فيقضي إحداهما ويمنع الأخري» «4».

كذلك عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إذا دعا أحدكم فليبدأ بالصلاة علي النبيّ، فإن الصلاة

علي النبيّ مقبولة، ولم يكن اللَّه ليقبل بعض الدعاء ويردّ بعضاً» «5».

وعن الإمام الحسن بن علي العسكري عن آبائه عليهم السلام عن النبيّ صلي الله عليه و آله قال: «إن اللَّه سبحانه يقول: عبادي من كانت له إليكم حاجة فسألكم بمن تحبّون أجبتم

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 171

دعاءه، ألا فاعلموا أن أحبّ عبادي إليّ وأكرمهم لديّ محمّد وعليّ حبيبي وولييّ، فمن كانت له حاجة إليّ فليتوسل إليّ بهما، فإني لا أردّ سؤال سائل يسألني بهما وبالطيبين من عترتهما، فمن سألني بهم فإني لا أردّ دعاءه، وكيف أردّ دعاء من سألني بحبيبي وصفوتي وولييّ وحجّتي وروحي ونوري وآيتي وبابي ورحمتي ووجهي ونعمتي؟ ألا وإني خلقتهم من نور عظمتي، وجعلتهم أهل كرامتي وولايتي، فمن سألني بهم عارفاً بحقّهم ومقامهم أوجبت له منّي الاجابة، وكان ذلك حقّاً عليّ» «1».

وهذه الروايات بمجموعها والأحكام التي سبقت للصلاة علي النبيّ وآله في الصلاة وغيرها من العبادة كاشفة عن اقتران اسم النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته الطاهرين بأعظم العبادات بل معظمها، وهذا يعني أن اللَّه عزّ وجلّ جعل تلك الأسماء المباركة واسطة لفيضه وشرطاً حقيقياً للتوسل إليه في التوبة وسائر العبادات القربية والمقامات الإلهية، وأن أبواب السماء مغلقة إلّاعن سبيلهم عليهم السلام وطريقهم، الذي نصبه اللَّه تعالي مناراً لعباده ومحجّة واضحة لخلقه.

هذا كلّه في الشاهد الأوّل وهو اقتران الصلاة علي النبيّ وأهل بيته بالصلاة وغيرها من العبادات.

الشاهد الثاني: وهو كذلك اقتران اسم النبيّ صلي الله عليه و آله المبارك بالصلاة، وذلك بالإتيان به في جزء التسليم من الصلاة، وهو قول المصلّي: السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، فإن التسليم الذي هو جزء من أجزاء الصلاة ولا تتمّ الصلاة إلّابإتمامه

والفراغ منه جُعل شطر منه التسليم علي النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 172

فقبل إتمام الصلاة وفي حاقّها يستحبّ للمصلّي أن يسلّم علي نبيّ الإسلام باتفاق فرق المسلمين.

ولا شك أن هذا التسليم بالكيفية المذكورة نوع زيارة للنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وخطاب ونداء عن قرب ب (أيها) وتوسّل واستغاثة وتوجّه إليه وبه إلي اللَّه عزّ وجلّ؛ وذلك لأن اللَّه تعالي عندما شرّع التسليم والتحيّة للنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله في الصلاة، التي شُرّعت لذكره عزّ وجلّ والتقرّب منه والعروج إليه، فإن ذلك يعني أن ذكر النبيّ ذكر للَّه تعالي ونداءه نداء للباري عزّ وجلّ، وليس ذلك إلّالكون النبيّ صلي الله عليه و آله الآية العظمي والوسيلة المحمودة بين اللَّه وبين خلقه في الصلاة، التي هي من عظيم العبادات والقربات عند اللَّه تعالي.

إذن طبيعة الزيارة والنداء والندبة والاستغاثة والتوجّه بالنبيّ لنيل مقامات القرب في الصلاة التي هي قربان كلّ تقي موجودة في نفس الصلاة التي هي أكبر العبادات التوحيدية ويمارسها الفرد المسلم في يومه عدّة مرّات.

والحاصل: إذا كانت الصلاة التي هي من دعائم الدين مقرونة بذكر النبيّ صلي الله عليه و آله لنيل مقامات القرب عند اللَّه تعالي فكيف هو الحال بباقي العبادات والقربات الأخري في الدين؟!

وعلي هذا كيف يقال: إن ذكر غير اللَّه تعالي في التوجّه إليه عزّ وجلّ شرك؟!

وهل هذا إلّاطمس لمعالم الشهادة الثانية؟!

الشاهد الثالث: اقتران اسم النبيّ صلي الله عليه و آله باسم اللَّه عزّ وجلّ في الأذان، الذي هو عبادة من العبادات، ويُعدّ بوابة للصلاة التي إن قبلت قبل ما سواها وإن ردّت ردّ ما سواها، كذلك في الإقامة، حيث أن الفرد المسلم كما يشهد أن

لا إله إلّااللَّه

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 173

كذلك يشهد أن محمّداً رسول اللَّه، وليس ذلك إلّالكون إسم النبيّ صلي الله عليه و آله باب اللَّه الأعظم، وأن الصلاة التي هي الركن الركين في العبادات ومعراج المؤمن إلي ربّه مفتاحها وباب الولوج إليها إسم النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله مقروناً باسم اللَّه تعالي.

ولو كان اسم النبيّ صلي الله عليه و آله وذكره والتوجّه القلبي إليه أثناء العبادة موجباً للشرك لما أمكن تشريع الأمر علي هذا الحال، ولما أمر اللَّه عزّ وجلّ بالتوجّه إليه بنبيّه.

الشاهد الرابع: الهجرة التي هي من العبادات العظيمة عند اللَّه تعالي، وأكّدت عليها الآيات القرآنية في مواطن عديدة، لا يمكن أن تحصل إلّابالهجرة إلي اللَّه ورسوله، فلكي تصحّ عبادة الهجرة لابدّ أن يتوجّه فيها إلي اللَّه وإلي رسوله صلي الله عليه و آله.

قال اللَّه عزّ وجلّ: «وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَي اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَي اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا» «1».

والذي يتحصّل من هذه الشواهد وغيرها أن إسم النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وكذا أهل بيته عليهم السلام إقترن باسم اللَّه تعالي في أعظم العبادات كالصلاة والحجّ وغيرهما، هذا فضلًا عمّا دونها من العبادات، وهو اقتران واجب في بعض موارده كما تقدّم في الصلاة، ومعني ذلك شرطية التوسّل والواسطة في العبادات كما ادّعيناه في بداية البحث.

وقد أحصي بعضهم في هذا المجال جملة من المواطن العبادية التي تقرن باسم النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله والصلاة عليه وعلي آله.

منها: في التشهّد الأول والثاني في الصلاة وآخر قنوت الصلاة وفي صلاة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 174

الجنائز وخطبة العيدين والجمعة والاستسقاء وبعد إجابة المؤذن وعند الإقامة وعند

الدعاء وعند دخول المسجد وعند الخروج منه، وعلي الصفا والمروة وعند الفراغ من التلبية وعند استلام الحجر وعند الوقوف علي قبره الشريف، وعقيب ختم القرآن الكريم، وعند الهمّ والشدائد وطلب المغفرة وعند تبليغ العلم، وعقب الذنب إذا أراد أن يكفّر عنه وبعد الفراغ من الوضوء وفي كلّ موطن يُجتمع فيه لذكر اللَّه، وعند طلب قضاء الحاجة وعقيب الصلوات في سائر أجزاء الصلاة غير التشهّد، إلي غير ذلك من المواطن.

وقد ذكر أيضاً للصلاة علي النبيّ صلي الله عليه و آله، فوائد كثيرة جدّاً، منها:

1- أنها سبب لغفران الذنوب.

2- أنها تُصاعد الدعاء إلي عند رب العالمين.

3- أنها سبب لشفاعته صلي الله عليه و آله.

4- أنها سبب كفاية العبد ما أهمّه.

5- أنها سبب لقرب العبد منه يوم القيامة.

6- أنها سبب لقضاء الحوائج.

7- أنها سبب لتبشير العبد قبل موته بالجنّة.

8- أنها سبب للنجاة من أهوال يوم القيامة.

9- أنها سبب لتذكّر العبد ما نسيه.

10- أنها سبب لطيب المجلس.

11- أنها سبب لنفي الفقر.

12- أنها سبب لنفي البخل.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 175

13- أنها ترمي صاحبها علي طريق الجنّة وتخطي بتاركها عن طريقها.

14- أنها تُنجي من نتن المجلس.

15- أنها سبب لوفور نور العبد علي الصراط.

16- أنه يخرج بها العبد من الجفاء.

17- أنها سبب لابقاء اللَّه سبحانه الثناء الحسن للمصلّي عليه بين أهل السماء والأرض.

18- أنها سبب للبركة في ذات المصلّي وعمله وعمره وأسباب مصالحه.

19- أنها سبب لنيل رحمة اللَّه له.

20- أنها سبب لدوام محبته للرسول وزيادتها وتضاعفها.

21- أنها سبب لمحبّته صلي الله عليه و آله للعبد.

22- أنها سبب لهداية العبد وحياة قلبه.

23- أنها سبب لعرض اسم المصلّي وذكره عنده، إلي غير ذلك من الفوائد والثمرات.

الدليل الخامس: ابتغاء الوسيلة ضرورة قرآنية … ص: 175
اشارة

إن حقيقة هذا الدليل الخامس عبارة عن مزيد

إيضاح وتعميق ونظرة أدقّ لما تقدم من قوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» «1».

وفي المقدّمة لابدّ من التنبيه علي أن التدبر في الآية الكريمة يفيد أن الابتغاء

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 176

المأمور به جعل متعلّقاً لكلّ من الوسيلة وذي الوسيلة وهو اللَّه عزّ وجلّ.

فجعل الابتغاء والقصد والتوجّه إلي كلّ من الوسيلة والذات الإلهية المقدّسة، فكلّ منهما أُمرنا بقصده والتوجّه إليه، إلّاأن القصد والتوجّه إلي الوسيلة ابتداءً هو الذي يؤدّي وينتهي بنا إلي قصد اللَّه تعالي، فالغاية القصوي هو اللَّه عزّ وجلّ، إلّاأن الذي يقصد ابتداءً هو الوسيلة بداعي القصد إلي منتهي الغاية والأمل وهو اللَّه تبارك وتعالي.

بل لعلّ التدبّر الأعمق والنظر الأدقّ في الآية المباركة يكشف عن أن لفظ «وابتغوا» أُسند إلي الوسيلة فقط، وأن لفظ «إليه» مرتبط بالوسيلة، لا ب «ابتغوا»، أي أن الوسيلة هي إليه، فالابتغاء متوجّه إلي الوسيلة فقط، وصفة الوسيلة أنها إليه.

وبعبارة أخري:

إن فعل «وابتغوا» عمل في لفظ «الوسيلة» كمفعول به، وأما لفظ «إليه» فليس متعلّقاً ب «ابتغوا» وإنما الذي يعمل في الجار والمجرور هو لفظ «الوسيلة»؛ إذ فيها معني المصدر والحدث، وأن التوسّل والوسيلة هو إلي اللَّه تعالي، فالابتغاء من جهة التركيب الإعرابي يعمل في الوسيلة فقط ويتعلّق بها، والوسيلة تتعلّق بلفظ إليه وتعمل فيه، وعليه فيكون الابتغاء والتوجّه والقصد بحسب ظاهر الدلالة متعلّقاً بالوسيلة، فهي التي يتوجّه إليها النداء والرجاء والخطاب، وحيث أن صفتها الذاتية أنها تؤدّي إلي اللَّه تعالي فيكون التوجّه إليها توجّهاً إلي اللَّه عزّ وجلّ ونداؤها نداءً بها إليه تعالي، وقصدها قصد بها إليه جلّ ثناؤه، كما في التوجّه إلي الكعبة واستقبالها، فإنه توجّه بها إلي اللَّه تعالي.

الامامة

الالهية(5)، ج 4، ص: 177

ومن ذلك يظهر أن مقتضي مفاد الآية هو أن الإلتجاء وتوجيه الخطاب إنما يكون إلي الوسيلة، كقول الداعي والمتوسل: يامحمّد يانبيّ الرحمة إني أتوجّه بك إلي اللَّه ربي وربك لقضاء حاجتي، فيوجّه الخطاب والنداء إلي النبيّ صلي الله عليه و آله ويكون ذلك منه ابتغاءً للنبيّ صلي الله عليه و آله كوسيلة إلي اللَّه عزّ وجلّ، وإلّا فإن جعل الخطاب للَّه تعالي فقط من دون التوجّه إلي النبي صلي الله عليه و آله في الخطاب كوسيلة، لا يكون ابتغاءً وطلباً وتوجهاً إلي الوسيلة، بل ابتغاء مباشري للَّه تعالي من دون ابتغاء الوسيلة.

وعلي كلا البيانين لدلالة الآية الشريفة تكون الآية نصّ في الدلالة علي الأمر بالتوجّه والنداء ودعاء الوسيلة وأنه دعاء للَّه تعالي.

ثم إن صيغة الأمر في الآية الكريمة يفيد ضرورة التوسّل بالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله.

حيث أن هذه الآية المباركة ليست في مقام بيان مشروعية التوسّل فحسب، بل الآية المباركة ترمي إلي بيان حتمية ولابدّية التوسّل، وأنه أمر تعيينيّ عينيّ، وذلك لأن المقصود من ابتغوا الوسيلة أي اقصدوها وتوجّهوا إليها في مقام توجّهكم إلي اللَّه عزّ وجلّ، ومعنيّ (ابتغوا) أيضاً في الآية المباركة أن هناك بُعداً بين العبد والباري تعالي وأن هناك مسافة لابدّ أن تطوي بابتغاء الوسيلة والحضور عندها، ولو كان هناك قُرباً تلقائياً من طرف العبد إلي ربّه فلا حاجة إلي الوسيلة حينئذٍ للإقتراب من اللَّه تعالي؛ لكونه تحصيلًا للحاصل ولا يكون معني للوسيلة وابتغائها ولو بنحو التخيير أيضاً.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 178

قرب اللَّه وقرب العبد: … ص: 178

فالأمر بابتغاء الوسيلة وقصدها معناه أن هناك بُعداً بين العبد وبين اللَّه تعالي، وهو بُعد من جهة العبد فقط لا من طرف الباري عزّ وجلّ، لأن اللَّه تعالي

قريب أقرب إلي العباد من حبل الوريد، كما قال تعالي ذكره: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإْنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» «1»

، لكن العبد من طرفه يحتاج إلي الوسيلة لبُعده؛ لأن قرب اللَّه تعالي إلي العبد ليس قرباً جسمانياً جغرافياً، لكي يكون هناك تلازم تضايفي بين العبد وربه في القرب والبُعد، وكذا ليس من نوع القرب العقلي أو الروحيّ ليحصل التجانس أو التماثل في القرب؛ وذلك لما تقدّم من كون اللَّه تعالي منزّه عن التضايف والتقابل الجسماني أو العقلي أو الروحي، لأنه تشبيه باطل مناف لعظمة ذات الباري تعالي.

إذن القرب الإلهي تجاه العبد قرب القدرة والسلطنة والهيمنة والإحاطة، فالمقتدر والمهيمن والمحيط كلّما كانت قدرته، وهيمنته وإحاطته أشدّ كلّما كان أقرب من المحاط به، وعلي العكس يكون الطرف المقابل الضعيف، فهو يزداد ضعفاً كلّما كان طرفه المقابل أشدّ قوة واقتداراً، كذلك كلّما ازداد المهيمن إحاطة ازداد الطرف الآخر مُحاطيّة وبُعداً عن أن يحيط بالمحيط، فالقويّ قريب محيط والضعيف بعيد محاط، ويبعد كلّما ازداد القويّ قوّة وهيمنة؛ لأن الضعيف حينئذٍ بعيد من حيث افتقاده للصفات والكمالات اللّامتناهية شدّة وعدّة، التي للقويّ المحيط.

والحاصل: إن هناك نمطاً من التعاكس في القرب والبُعد، فطرف يكون قريباً

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 179

والآخر بعيداً، كلّما ازداد الباري قرباً وإحاطة من حيث الصفات كلّما ازداد المخلوق بعداً من طرفه بالنسبة إلي اللَّه تعالي، وذلك من حيث التعاكس في الصفات.

ومن ثمّ لابدّ من ابتغاء الوسيلة التي هي أشدّ كمالًا وأقرب إلي الباري تعالي، لكي يطوي المخلوق شيئاً من ذلك البُعد وينال درجة من درجات القرب برقيّه في مدارج الكمال عن طريق الواسطة والوسيلة.

والوسيلة هي الأقرب إلي اللَّه تعالي من حيث الكمالات،

إذ كلّما تكامل المخلوق في الصفات ازداد قربه من الحضرة الربوبية، وكلّما عظم المخلوق صفة وكمالًا كلّما كان أقرب من الخالق لازدياد علمه ومعرفته بصفاته تعالي والعلم درجة من درجات القرب والوصول، إذ طالما تجلّت في المخلوق صفات الخالق أكثر عرف ذلك المخلوق بتلك الكمالات والصفات، صفات الخالق عزّ وجلّ؛ ولذا يكون أكمل المخلوقات أعرفهم بربّه وأقربهم منه وأكثر دلالة عليه وأشدّهم آية وعلامة ترشد إليه وتقرّب منه؛ لأن ما يتجلّي فيه من بديع الكمالات آيات لكمال الباري عزّ وجلّ، علي العكس من ذلك ما لو قلّت في المخلوق الكمالات، فإنه تقلّ فيه الآيات الدالّة علي عظمة اللَّه تعالي وقلّت بالطبع معرفته.

ومن هنا كان المخلوق الذي يتّسم بالضعف والفقر والحاجة والبعد عن اللَّه تعالي بحاجة إلي الوسيلة، التي هي أقرب صفة وكمالًا من اللَّه عزّ وجلّ، كي تكون سبباً يقرّبه إلي ربّه.

فالوسيلة والوسائط هي أعاظم المخلوقات، وهي آيات اللَّه وأسمائه

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 180

وعلاماته الدالّة عليه، والتي يستدلّ الخلق بعظمتها علي عظمة الباري، فتزداد المعرفة ويحصل القرب بنيل الكمالات.

ولا شك أن الخطاب الوارد في الآية المباركة الكاشف عن ضرورة الوسيلة بالبيان المتقدم عامّ وشامل للتوبة ومطلق العبادات وللمعرفة والإيمان أو التوجّه إلي الحضرة الإلهية لنيل مقام أو حظوة عند اللَّه تعالي.

الوسيلة معني الشفاعة: … ص: 180

فللعلاقة بين العبد وربّه ولقطع مسافة البُعد لابدّ من الوسيلة، سواء في المعرفة والإيمان أو في قبول التوبة أو العبادات أو نيل المقامات، وقد أُطلق عن مثل هذا المقام في لسان الشارع بالشفاعة؛ لأن الشفع في الأصل بمعني الزوج والاقتران، وهو في المقام اقتران الذات الربوبية بالآيات والأسماء الإلهية.

ثم إنه سبق أن الآيات العظمي والكلمات التامّات هم النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله

وأهل بيته عليهم السلام، وقد وصف اللَّه تعالي رسوله الكريم صلي الله عليه و آله بالعظمة، وذلك في قوله تعالي: «وَإِنَّكَ لَعَلَي خُلُقٍ عَظِيمٍ» «1»

، فهم عليهم السلام الأسماء الحسني التي أمر اللَّه أن يُدعي بها وتاب بها علي آدم وامتحن بها إبراهيم عليه السلام لنيل مقام الخلافة والإمامة، وهذا البيان الذي ذكرناه، من ضرورة الواسطة والوسيلة لعظمة اللَّه تعالي هدي إليه أمير المؤمنين عليه السلام عند بيانه لقوله تعالي: «أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَي رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 181

مَحْذُورًا» «1».

حيث بيّن أمير المؤمنين عليه السلام ضرورة الوسيلة، وأن اشتباه وخطأ المشركين إنما هو في اتخاذهم وسيلة اقتراحية غير مأذون بها، حيث طبّقوا الوسيلة الأعظم كمالًا علي غير المصداق والفرد الحقيقي لها، فذمّهم اللَّه عزّ وجلّ علي ذلك.

قال أمير المؤمنين عليه السلام في هذا المجال: «فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون، وبعظمته ونوره ابتغي من في السماوات والأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة، بالأعمال المختلفة والأديان المشتبهة، فكلّ محمول يحمله اللَّه بنوره وعظمته وقدرته لا يستطيع لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً» «2»

.فإن الأعمال المختلفة والأديان المشتبهة ناتج اتخاذ الخلق الوسيلة إلي اللَّه تعالي، بسبب عظمته ونوره وتعاليه عزّوجلّ.

ومن ذلك كلّه يتّضح أن من ينكر التوسّل أسوء حالًا من قريش، التي آمنت بالوسيلة وأخطأت المصداق، حيث جعلوا وسائط باقتراحهم من غير سلطان أتاهم؛ لشعورهم بالفطرة التي خلقهم اللَّه عليها بعظمته تعالي عن أن ينال أو يدرك بلا واسطة.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 182

ترامي الوسائل وتعاقبها: … ص: 182

ثم إن الآيات الكبري تتفاوت فيما بينها، فأهل البيت عليهم السلام شفيعهم ووسيطهم إلي اللَّه

تعالي النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله في نيل المقامات، وبالنسبة للنبيّ ذاته فهو بذاته آية وعلامة عظمي علي صفات اللَّه تعالي، فتكون نفسه من حيث هي مخلوقة وفعل للَّه تعالي وسيلة لنفسه، نظير ما ورد في الروايات: (خلق اللَّه المشيّة بنفسها ثم خلق الأشياء بالمشيّة) «1».

فالنبيّ صلي الله عليه و آله مرآة الكمالات والصفات الإلهية له ولغيره في جميع جهات الإرتباط باللَّه تعالي كقبول التوبة أو بقيّة العبادات أو مطلق نيل مقامات القرب من اللَّه عزّ وجلّ فهو صلي الله عليه و آله أمينه علي وحيه وعزائم أمره.

الدليل السادس: شرطية الاستجارة بالنبيّ صلي الله عليه و آله في طلب المغفرة … ص: 182

هنا أيضاً نريد التعرّض لبيان أدقّ وأعمق ودالّ علي المطلوب في المقام لقوله تعالي: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا» «2».

لقد نصّت هذه الآية المباركة علي ثلاثة شروط لقبول التوبة والاستغفار من هذه الأمة، وهي:

1- المجي ء إلي النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله.

2- ابراز الاستغفار من اللَّه عزّ وجلّ.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 183

3- امضاء النبيّ صلي الله عليه و آله لذلك الاستغفار، واستغفاره للتائبين.

فهذه الآية من ضمن مجموع الآيات التي تعرّضت لذكر شرائط التوبة، وأوّل شرط لقبول توبة المذنب والظالم لنفسه ليس إظهار الندامة من العبد أمام اللَّه تعالي مباشرة، بل الشرط الأوّل هو المجي ء إلي الحضرة النبويّة والالتجاء إليه، واللّواذ والاستعاذة والاستجارة به صلي الله عليه و آله، فأولًا لابدّ أن يأتي العبد إلي النبيّ صلي الله عليه و آله ويلوذ به، ثم بعد ذلك يُظهر الندامة والاستغفار؛ إذ الترتيب للشروط في الآية المباركة ترتيب رتبي ترتيبي، حيث أخذت المراتب بعين الاعتبار، لا أنه ذكري فقط بقرينة العطف بالفاء.

والمجي ء إلي النبيّ الأكرم صلي الله عليه

و آله هو عين التوجّه إليه والتوسّل به في قبول التوبة.

وهذه الآية كشفت النقاب عن شرطية التوسّل بالنبيّ صلي الله عليه و آله في أكبر خطر مصيريّ يُحدق بالإنسان وهو الذنب والمعصية، التي قد تؤدّي بالعبد إلي الهلاك والسقوط في الهاوية، في مثل هذا الأمر الخطير جعل اللَّه تعالي الملاذ والملجأ هو النبيّ صلي الله عليه و آله، فلابدّ من الكينونة في الحضرة النبوية ثم إظهار عبادة الاستغفار، لأنه صلي الله عليه و آله باب اللَّه تعالي الذي منه يؤتي، فيكون اللّواذ باللَّه عزّ وجلّ باللّواذ بنبيّه الأكرم صلي الله عليه و آله؛ ولذا بعد الاستجارة بالنبيّ صلي الله عليه و آله قال تعالي: «لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا».

إذن الاستعاذة والاستجارة واللجوء إلي اللَّه بنبيّه أُخذ شرطاً في أخطر موقف للعبد مع ربّه وهو التوبة وغفران الذنوب.

ومن الواضح أيضاً أن الظلم المذكور في الآية المباركة ليس مختصّاً بالذنوب

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 184

الفردية التي بين العبد وربّه، وإنما هو شامل للظلم الاجتماعي السياسي أو النظام الاقتصادي المعاشي أو التعدّي علي المنظومة الحقوقية والأخلاقيّة، ومعني ذلك أن استعلام ومعرفة تلك الأمور الفردية والاجتماعية لا يمكن أن يتحقّق إلّاعن طريق الإلتجاء واللّواذ بالنبيّ صلي الله عليه و آله، فكلّ حيف أو زيغ يحصل من الفرد أو المجتمع في تلك الأمور لابدّ من الرجوع فيها إلي الرسول الأكرم صلي الله عليه و آله، وفي مقابل تعدّد أنواع الظلم يتعدّد أنواع اللجوء والتولّي والتوجّه للنبي صلي الله عليه و آله.

ثم إن ذكر التوبة والاستغفار في الآية المباركة لا لخصوصية فيها، وإنما ذكرت بما هي عبادة من العبادات، لكونها أوبة ورجوع إلي اللَّه تعالي واقتراب منه وقصد وتوجّه إليه، فليست الآية في

ذكرها لشرطية التوسّل بالنبيّ صلي الله عليه و آله خاصّة بالتوبة، بل هي شاملة في ذلك لكلّ العبادات.

خصوصاً وأن التوبة هي الأوبة، من آب يؤوب، والأوبة الرجوع إلي اللَّه تعالي، أي الاقتراب والزلفي منه عزّوجلّ، ولا شك أن العبادات بمجموعها طلب الأوبة والقرب والزلفي إلي اللَّه تعالي، فهي نوع من أنواع التوبة، وبناءً علي ذلك لا تكون التوبة عملًا منحازاً ومنفصلًا عن سائر العبادات كالصلاة والحجّ وغيرهما، بل هي عمل عام وشامل لكافّة العبادات.

كذلك التوبة نوع من أنواع الدعاء، لأنها طلب المغفرة من اللَّه تعالي ودعاء بالغفران، فمضمون هذه الآية المباركة مشترك مع ما تقدم من الروايات الدالّة علي أن الدعاء وطلب العبد القرب من اللَّه تعالي لا يرتفع إلي السماء ولا تُفتّح له الأبواب ما لم يقترن بذكر النبيّ صلي الله عليه و آله بالصلاة علي محمّد وآل محمّد، وإذا كان كذلك فإن الدعاء وطلب القرب من اللَّه عزّ وجلّ شامل للمقامات الثلاث التي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 185

ذُكرت في صدر البحث، وهو قبول التوبة والعبادة ونيل مقامات القرب، وهو لا يقبل إلّاباللّواذ بالنبيّ صلي الله عليه و آله والتوجّه إليه والاستعاذة والاستجارة والتوسّل به، بالمجي ء في حضرته المباركة.

وهذه الآية الكريمة الدالّة علي شرطية التوجّه التوسّل وضرورته في جميع المقامات ليست خاصّة بحياة النبيّ صلي الله عليه و آله؛ إذ ليس المراد من المجي ء الحضور الفيزيائي لبدن المذنب عند النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله فقط، بل المجي ء الفيزيائي والبدني المكاني أحد المصاديق المقصودة في الآية المباركة، والتعبير بالمجي ء كنائي، يراد به مطلق الاستغاثة والتوسّل والتوجّه القلبي إلي النبيّ صلي الله عليه و آله، والشواهد علي ذلك عديدة، منها:

1- إن هذه الآية المباركة جاءت

لبيان ماهية التوبة وشرائطها العامة، التي يشترك فيها كافّة المسلمين وفي جميع الأزمنة، فلا يمكن أن تكون مختصّة بالفترة التي عاشها النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله أو بمن زامن وعايش تلك الفترة، فالمراد من المجي مطلق الارتباط بالنبيّ صلي الله عليه و آله، بالتوجّه إليه والكينونة في حضرته المباركة، ثم الاتيان بعبادة الاستغفار، وهذا المضمون متطابق مع مفاد قوله تعالي: «وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّي»، إذ معني ذلك أن حضرة الأنبياء ومحضرهم مشاعر شعّرها اللَّه تعالي ليتقرّب بها إليه.

ويتّضح هذا الشاهد أكثر إذا علمنا أن النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله بُعث رحمة للعالمين، وهذه من الرحمات العامة للنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله علي هذه الأمة، وغير مختصّة بمن حضر الحضور الفيزيائي البدني عند النبيّ صلي الله عليه و آله.

2- إن نفس التعبير بقوله تعالي «جَاءُوكَ» يتضمّن معني اللّواذ واللجوء

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 186

والاستغاثة والتوسّل والتوجّه القلبي، وليس فيه دلالة علي الاختصاص بالحضور الجسماني.

3- استغفار آدم عليه السلام وتوبته أيضاً كما مرّ- كانت بالمجي ء للنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله، ولكن كان مجيئه إليه في أفق القلب والقصد، فقد ورد في روايات الفريقين أن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قال: «لما اقترف آدم الخطيئة، قال: ياربّ أسألك بحقّ محمّد لما غفرت لي، فقال: ياآدم وكيف عرفت محمّداً ولم أخلقه؟ قال: ياربّ لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت فيّ من روحك رفعت رأسي فرأيت علي قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلّااللَّه محمّد رسول اللَّه، فعلمت أنك لم تُضف إلي اسمك إلّاأحبّ الخلق إليك، فقال: صدقت ياآدم إنه لأحبّ الخلق إليّ، ادعني بحقّه فقد غفرت لك، ولولا محمّد ما خلقتك»

«1»

وغيرها من الروايات الدالّة علي أن مجي ء آدم إلي النبيّ صلي الله عليه و آله ولواذه به كان بالتوجّه القلبي به إلي اللَّه تعالي.

وفي هذه الرواية الأخيرة التي نقلناها إشارة أخري إلي اقتران اسم النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله باسم اللَّه عزّ وجلّ في أعظم عبادة وأشرف كلمة في الإسلام، وهي كلمة التوحيد.

4- إن المسلمين في سيرتهم منذ الصدر الأول فهموا من هذه الرواية الشمول والعموم وعدم الاختصاص بالفترة الزمنية التي عاشها النبيّ صلي الله عليه و آله، وهذا دليل علي عموم المعني المستعمل في ارتكاز أبناء اللغة، ولذا كانوا يتوجّهون إلي النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله في طلب المغفرة ويأمرون الآخرين بذلك حتي بعد وفاة النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله، والشواهد الروائية والتاريخية علي ذلك كثيرة جدّاً:

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 187

منها: ما أخرجه النووي عن العتبي قال: «كنت جالساً عند قبر النبيّ صلي الله عليه و آله فجاء أعرابي، فقال: السلام عليك يارسول اللَّه، سمعت اللَّه تعالي يقول: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا» «1»

وقد جئتك مستغفراً من ذنبي مستشفعاً بك إلي ربّي، ثم أنشأ يقول:

ياخير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم

قال: ثم انصرف، فحملتني عيناي فرأيت النبيّ صلي الله عليه و آله في النوم، فقال لي:

ياعتبي، إلحق الأعرابي فبشّره بأن اللَّه تعالي قد غفر له» «2».

ومنها: ما أخرجه السيوطي عن أبي حرب الهلاليّ قال: (حجّ أعرابي، فلما جاء إلي باب مسجد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أناخ راحلته فعقلها، ثم دخل المسجد حتي دخل

القبر ووقف بحذاء وجه رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، فقال: بأبي أنت وأمي يارسول اللَّه، جئتك مثقلًا بالذنوب والخطايا مستشفعاً بك علي ربّك، لأنه قال في محكم كتابه: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا» «3»

وقد جئتك بأبي أنت وأمي مثقلًا بالذنوب والخطايا استشفع بك علي اللَّه ربّك أن يغفر لي ذنوبي وأن يشفع فيّ) «4».

ومنها: ما روي عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: «قدم علينا أعرابي بعد ما دفنّا رسول اللَّه صلي الله عليه و آله بثلاثة أيام فرمي بنفسه علي قبر النبيّ صلي الله عليه و آله

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 188

وحثا من ترابه علي رأسه، وقال: يارسول اللَّه قلت فسمعنا قولك ووعيت عن اللَّه فوعينا عنك، وكان فيما أنزل اللَّه عليك: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا» «1»

وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي، فنودي من القبر أنه غفر لك» «2»

، إلي غير ذلك من الشواهد.

5- إن القرآن الكريم قد دلّ علي حياة النبي صلي الله عليه و آله عند ربّه، كما قال تعالي:

«وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَي عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» «3»

بل وكذا قوله تعالي: «يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَي هَؤُلَاءِ» «4»

وغيرها من عشرات الآيات الدالّة علي أن النبي صلي الله عليه و آله يري ويشهد علي جميع أعمال العباد إلي يوما لقيامة، فهو حيّ عند ربّه، كيف لا وقد دلّ القرآن علي حياة الشهداء في قوله تعالي: «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ

اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» «5»

، وقد اتّفقت روايات الفريقين المتواترة أيضاً الدالّة علي حياة النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله، منها ما ورد عن الإمام الحسن عليه السلام قال: «إن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قال:

حيثما كنتم فصلّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني» «6».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 189

وعن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «الأنبياء أحياء في قبورهم يصلّون» قال الهيثمي: رواه أبو يعلي والبزاز ورجال أبي يعلي ثقات «1».

وقد نقل السقّاف في كتابه الاغاثة جملة من الروايات وكلمات علماء السنّة التي ادّعي فيها الاجماع والتواتر والعلم القطعي بحياة النبيّ الأكرم فراجع «2».

وإذا ثبت ذلك ثبت عموم الآية المباركة بالرجوع إلي النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله والاستغاثة به.

6- آيات وروايات عرض الأعمال علي الرسول صلي الله عليه و آله، كما في قوله تعالي:

«قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَي عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» «3»

وهذه الآية متطابقة ومتشاهدة مع آية «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ …»، وأما الروايات في هذا المجال فهي كثيرة جدّاً:

منها: ما عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام قال: «تعرض الأعمال علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله كلّ صباح أبرارها وفجّارها فاحذروها» «4».

ومنها: ما عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: «إن الأعمال تعرض علي نبيكم كلّ عشية خميس، فليستحي أحدكم أن يعرض علي نبيه العمل القبيح» «5».

منها: ما ورد عن عبداللَّه بن مسعود قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «حياتي خير لكم

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 190

تحدّثون وتحدّث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض عليّ أعمالكم، فما رأيت من

خير حمدت اللَّه عليه، وما رأيت من شرّ استغفرت لكم»، قال الهيثمي: رواه البزاز ورجاله رجال الصحيح «1».

وهذه الرواية وغيرها منسجمة المضمون مع الشرط الثالث في الآية التي هي محلّ البحث، حيث جاء فيها «وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ»، فالتائب والمستغفر يتوجّه إلي النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله ويعرض استغفاره عنده لكي يستغفر له الرسول صلي الله عليه و آله ويشفع له عند اللَّه تعالي في قبول توبته، فعبادات الأمة لابدّ أن يشفع النبيّ صلي الله عليه و آله عند ربّه في قبولها، وهو المضمون والغرض والحكمة من عرض الأعمال وأن قبولها مشروط بإمضاء النبيّ صلي الله عليه و آله وشفاعته، فكما أن آيات وروايات عرض الأعمال ذكرت أن سبب العرض هو أن يستغفر النبيّ صلي الله عليه و آله لأمته، كذلك في الآية المباركة إنما يعرض العبد استغفاره في الحضرة النبويّة لكي يستغفر له، وإذا كانت آيات وروايات العرض عامة لحال الحياة وبعد الممات فكذلك الآية المباركة.

وهذا الذي ذكرناه أخيراً هو الشرط الثالث في الآية المباركة وهو استغفار النبيّ صلي الله عليه و آله للمذنب الظالم لنفسه.

7- أن الأحكام في الآيات التي أخذ فيها الحكم مرتبطاً بالرسول صلي الله عليه و آله في الآيات الكثيرة كلّها لا تختص بحياة الرسول صلي الله عليه و آله كما في قوله تعالي: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» «2»

وقوله تعالي: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 191

الرَّسُولَ» «1»

وقوله تعالي: «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» «2»

وقوله تعالي: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» «3»

وغيرها من الآيات، فإنه لو توهم اختصاصها بحياته صلي الله عليه و آله الدنيوية لعُطّل العمل بهذه الآيات، وتقوّضت أركان الدين.

والذي

يتحصّل من الآية: أن المجي ء إلي النبيّ صلي الله عليه و آله والتوجّه إليه شرط في قبول التوبة، بل كافّة العبادات ومطلق المقامات القربية عند اللَّه تعالي.

كما يستفاد من الآية المباركة أيضاً أن التوسّل والتوجّه أمر تعييني ضروري لابدّ منه، وليس هو أمراً تخييرياً بيد العبد فعله أو تركه.

واتضح أن التوجّه للنبيّ صلي الله عليه و آله في تلك المقامات ليس خاصّاً بالتوجّه الفيزيائي البدني، بل شامل للتوجّه القلبي أيضاً.

ثم إن المجي ء إلي النبيّ والتوسّل به بمعني الارتباط به والإنتماء إليه بكلّ أنحاء الانتماء، كانتماء المواطنة والانتماء الأُسري والوظيفي والتنظيمي، وغيرها من أنحاء الانتماء إلي الرسالة الخاتمة والحاكمية الإلهية المتمثّلة بالنبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام.

كذلك لابدّ أن يعلم أن الآية الخاصّة في المقام غير مختصّة بالرسول الأعظم صلي الله عليه و آله، بل هي سنّة إلهيّة جارية في النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام فالآية عامة؛ ولذا نصّت علي هذا العموم آية عرض الأعمال، حيث شملت الذين آمنوا وهم أولوا الأمر من أهل بيت النبيّ صلي الله عليه و آله، كما نصّ علي ذلك قوله تعالي: «هُوَ اجْتَبَاكُمْ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 192

وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَي النَّاسِ» «1»

إذ هم الأمة المسلمة من ذرية إبراهيم وإسماعيل المجتباة الذين بعث فيهم النبي صلي الله عليه و آله وجعلهم اللَّه شهداء علي الناس وأعمالهم وعقائدهم، ويدلّ علي العموم أيضاً الآيات المتقدّمة التي نصّت علي وجوب المجي ء إلي إبراهيم في الحجّ ووجوب الصلاة عند مصلّاه وهويّ القلوب إلي ذرّيته، وسيأتي من

الآيات ما يدلّ علي العموم أيضاً.

إذن التوجّه إلي النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام في التوبة والعبادة ونيل المقامات شرط ومشارطة إلهية لابدّ من توفّرها لنيل ما يبتغيه العبد.

الدليل السابع: التوسّل بالرسول صلي الله عليه و آله ميثاق الأنبياء … ص: 192
اشارة

قال تعالي: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَي ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» «2»

، فالميثاق المذكور في هذه الآية المباركة معناه أن هناك تعاقداً بين اللَّه تعالي والأنبياء عليهم السلام، والطرفان اللذان وقع عليهم الميثاق والتعاقد هما النبوّة والمقامات الغيبة التي أعطاها اللَّه تعالي للأنبياء في مقابل أمر مهمّ وخطير لابدّ أن يؤمنوا به، وهو قوله تعالي: «ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ» فالمقامات الإلهية والمنح

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 193

الربّانية إنما تعطي للأنبياء بشرط الإيمان بخاتمهم ونصرته، ولا شك أن الذي يكون ناصراً إنما هو تابع للمنصور والمنصور قائد له، فالأنبياء كلّهم مأمومون والرسول الأكرم إمامهم، والأنبياء سبقوا الناس بالإصطفاء الإلهي الخاصّ وحُبوا بالنبوّة والرسالة والمقامات الغيبيّة بتوسّط إيمانهم بولاية النبيّ صلي الله عليه و آله وتعهّدهم بنصرته ومؤازرته، وهم أسبق الناس شيعة وإسلاماً لخاتم الأنبياء صلي الله عليه و آله.

الأنبياء علي دين النبي الأكرم صلي الله عليه و آله: … ص: 193

ومن ثمّ فإن هذه الآية المباركة تدلّل علي أن دين الأنبياء بعد الايمان باللَّه عزّ وجلّ هو الإيمان بخاتم الأنبياء ومشايعته ومؤازرته، فالأنبياء كانوا علي دين النبيّ محمّد صلي الله عليه و آله وهو الإسلام، بيان ذلك:

إن قوله تعالي في الآية المباركة «مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ» معناه أن النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله ليس تابعاً للأنبياء، بل تابع للوحي الإلهي جملة، الذي هو فعل اللَّه تعالي؛ ولذا لم يأمر اللَّه عزّ وجلّ نبيّه الأكرم صلي الله عليه و آله بالاقتداء بالأنبياء وإنما بالهدي الذي هم عليه، قال اللَّه تعالي: «أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَي اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ» «1».

فالنبيّ الأكرم صلي

الله عليه و آله ليس علي هدي نبيّ من الأنبياء وليس هو تابعاً لأحد من الرسل، بل هو علي هدي اللَّه عزّ وجلّ، وهو أوّل المسلمين، والفاتح الأول للهدي الإلهي والدين الاسلامي الواحد هو خاتم الأنبياء، ولم يُعبَّر عن نبيّ من الأنبياء في القرآن الكريم بأنه أوّل المسليمن علي الاطلاق سوي النبيّ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 194

محمّد صلي الله عليه و آله، وذلك في قوله تعالي: «قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ» «1»

وقوله تعالي: «قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لَاشَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ» «2»

وقوله تعالي: «قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ* وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ» «3»

، وأما سائر الأنبياء فقد عُبّر عنهم في القرآن الكريم بأنهم من المسلمين، بما فيهم أنبياء أولي العزم، فقد حكي اللَّه عزّ وجلّ علي لسان نوح قوله:

«فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَي اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» «4»

ولم يُعبَّر عنه بأنه أوّل المسلمين، ولا شك أن الدين عند اللَّه عزّ وجلّ واحد، قال تعالي: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإْسْلَامُ» «5»

، ولا يتقبّل من مخلوق من المخلوقات غير الاسلام، قال تعالي: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإْسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» «6»

، فالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله أوّل المسلمين وأوّل من نطق بميثاق التوحيد والتسليم للَّه عزّ وجلّ، فكان هو أفضل الأنبياء وهو الإمام المتبوع وهم المأمومون التابعون له في الدين الاسلامي، فضلًا عن غيرهم من المخلوقين، ولذا ورد في الحديث عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: «أن بعض قريش قال لرسول اللَّه

صلي الله عليه و آله:

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 195

بأي شي ء سبقت الأنبياء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟ قال: إني كنت أوّل من آمن بربّي وأوّل من أجاب حين أخذ اللَّه ميثاق النبيين «وأشهدهم علي أنفسهم ألست بربكم قالوا بلي» فكنت أنا أوّل نبيّ قال بلي، فسبقتهم بالإقرار باللَّه» «1».

وفي الحديث أيضاً عن النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله في حديثه لأصحابه قال: «فأخذ لي العهد والميثاق علي جميع النبيين، وهو قوله الذي أكرمني به جلّ من قائل: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ لَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَي ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» «2»

وقد علمتهم أن الميثاق أخذ لي علي جميع النبيّين، وأنا الرسول الذي ختم اللَّه بي الرسل، وهو قوله تعالي: «رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ» «3»

فكنت واللَّه قبلهم وبعثت بعدهم وأعطيت ما أعطوا وزادني ربّي من فضله ما لم يعطه لأحد من خلقه غيري، فمن ذلك إنه أخذ لي الميثاق علي سائر النبيّين ولم يأخذ ميثاقي لأحد، ومن ذلك ما نَبَّأ نبيّاً ولا أرسل رسولًا إلّاأمره بالإقرار بي وأن يبشّر أمته بمبعثي ورسالتي» «4».

اذن فالدين دين محمّد صلي الله عليه و آله وهو فاتح ذلك الصرح العظيم، وإن كانت الفطرة والملّة ملّة إبراهيم عليه السلام وهي غير الدين، وكذلك للأنبياء شرائع ومناهج مختلفة وهي غير الدين أيضاً، وإنما هي تفصيلات وتنزّلات كلّيات ذلك الدين الحنيف وهو الإسلام، ولذا جاء في دعاء التوجّه في الصلاة:

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 196

«وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً علي ملّة إبراهيم ودين محمّد صلي الله عليه و آله وهدي علي أمير

المؤمنين عليه السلام وما أنا من المشركين» «1».

إذن الإسلام دين النبيّ والأنبياء علي دينه ومن شيعته، ولذا فُسّر قوله تعالي:

«وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ» «2»

بالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وأن إبراهيم من شيعته وعلي دينه الحنيف، حيث ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «قوله عزّ وجلّ: «وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ» أي إن إبراهيم عليه السلام من شيعة النبيّ صلي الله عليه و آله» «3»

وقد اختار هذا القول الكلبي وابن السائب والفرّاء «4».

فالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله ليس تابعاً للأنبياء بل علي العكس، فهو علي الهدي الذي هو هدي اللَّه تعالي، ومصدّق لما مع الأنبياء، أي شاهد علي ما هم عليه من دينه الحنيف وبإمضائه يُصدّق ما هم عليه، أما الأنبياء فهم يؤمنون بخاتم الأنبياء «لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ» لا أنهم يؤمنون بما معه، فإيمانهم بذات النبيّ صلي الله عليه و آله، فهو صلي الله عليه و آله شاهد مطّلع مصدّق علي ما عندهم، وأما هم فيؤمنون به، وهذا يعني أنه لا يوجد في مقامات الأنبياء ودرجاتهم عند اللَّه تعالي ما هو غيب عن النبيّ صلي الله عليه و آله، وأما الذي يؤمن بذات النبيّ صلي الله عليه و آله وهم سائر الأنبياء عليهم السلام فهو يؤمن بأمر غيبيّ، فمقام النبيّ صلي الله عليه و آله بالنسبة إلي باقي الأنبياء غيب الغيوب، وأما مقامات سائر الأنبياء فالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله مطّلع عليها ويعلمها ويشهد لهم علي صدقها، والأنبياء في أصل نيلهم لمقام النبوّة إنما استأهلوه بعد أن آمنوا بخاتم الأنبياء قبل سائر

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 197

الأرواح في عالم الأرواح وشرطوا علي أنفسهم نصرته، ولذا فإن النبيّ صلي الله عليه و

آله شفيع الكلّ، والأنبياء لم ينالوا ما نالوا إلّابالديانة لخاتم الأنبياء، فهو الشفيع لقبول الأعمال، وهو باب رحمة اللَّه العامّة «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» «1».

ومن ذلك كلّه يتّضح أن هذه الآية المباركة نصّ في المقام الثالث، وأن التوجّه إلي اللَّه لنيل أي مقام أو قربي أو زلفي لا يتمّ إلّابالتوسل بالنبيّ صلي الله عليه و آله والتشفّع به، وبالتشفّع به يعطي للعبد أعظم الأرزاق وهو النبوّة والكتاب والحكمة، فكيف بك بسائر الأرزاق الأخري، التي لا تقاس بمقامات الأنبياء.

ثم إن الآية الكريمة رسمت خطورة الأمر في ضمن تأكيدات مغلّظة، حيث جاء فيها قوله تعالي: «أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَي ذَلِكُمْ إِصْرِي» وبعد أن تم الإقرار والمعاهدة والمعاقدة المشدّدة أشهدهم اللَّه تعالي علي ذلك، حيث قال:

«فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» «2»

، وهذا يعني أن للتوسل والتوجّه دوراً مهمّاً ومحورية رئيسية في رسم معالم الدين.

وإنكار التوسّل في المسائل الدنيوية غير الخطيرة ليس إلّاتعظيماً لصغائر الأمور وتصغيراً لما عظّمه اللَّه عزّ وجلّ، فإن الإيمان بكون الأنبياء لم يستحقّوا ما استحقّوه إلّابتوسلهم بالإيمان بالنبيّ صلي الله عليه و آله، وإنكار التوسّل في بعض الأمور الدنيويّة والحاجات المعاشية ليس له معني إلّاالاستهانة بتلك المقامات الشامخة وتعظيم وتهويل ما ليس حقّه ذلك.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 198

أهل البيت عليهم السلام شركاء النبيّ صلي الله عليه و آله في الميثاق: … ص: 198

ثمّ إن أهل البيت عليهم السلام يشتركون مع النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله في دائرة الميثاق والدين الحنيف، الذي أخذ علي الأنبياء الإيمان به ونصرته والدعوة إليه، وإن كان أهل البيت عليهم السلام تابعين للنبيّ صلي الله عليه و آله وهم يتوجّهون به إلي اللَّه تعالي، وبشفاعته يكونون معه صلي الله عليه و آله في مقامه، وهو مقام الشفاعة الكبري والوسيلة العظمي.

ويدلّ علي اشتراك أهل

البيت عليهم السلام مع النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله في دائرة الميثاق الذي أخذ علي الأنبياء وجوه عديدة، وإليك بعضها:

1- إن نصرة الأنبياء للرسول صلي الله عليه و آله لم تتحقّق إلي يومنا الحاضر، وهي إنما تتحقّق بالنصرة لأهل بيته عند ظهور المهدي من آل محمّد، وعند رجعة الأئمة عليهم السلام، كما نصّت علي ذلك الروايات المتضافرة، حيث جاء فيها أن عيسي عليه السلام وإدريس وغيرهما من الأنبياء سوف يقاتلون بين يدي الإمام المهدي عليه السلام عند قيامه بدولة الحقّ والعدل، هذا من طرق الفريقين، وأما من طرقنا فقد دلّت الروايات المتضافرة أيضاً علي أن جميع الأنبياء والمرسلين سوف يقاتلون مع الأئمة عليهم السلام عند رجوعهم وكرّتهم في دولتهم العالمية المباركة.

بل إن بعض الأنبياء كإلياس والخضر عليهما السلام علي القول بنبوّة الخضر عليه السلام الآن هم وزراء في حكومة الإمام المهدي عليه السلام الخفيّة، وهي حكومة خليفة اللَّه في أرضه، التي لا يمكن أن تفتقدها البشرية في لحظة من اللحظات، وإلّا لساخت الأرض بأهلها.

ونشير فيما يلي إلي بعض تلك الروايات التي وردت في هذا المجال:

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 199

منها: طوائف الروايات التي دلّت علي أن المسيح عيسي بن مريم عليه السلام ينزل لنصرة المهدي عليه السلام، وإليك فيما يلي هذه الرواية، ننقلها بطولها لارتباطها بالبحث الذي نحن فيه، قال أبو عبداللَّه الصادق عليه السلام: «أتي يهودي النبيّ صلي الله عليه و آله، فقام بين يديه يحدّ النظر إليه، فقال: يايهودي ما حاجتك؟ قال: أنت أفضل أم موسي بن عمران النبيّ الذي كلّمه اللَّه، وأنزل عليه التوراة والعصا وفلق له البحر وأظلّه بالغمام؟

فقال له النبيّ صلي الله عليه و آله: إنه يكره للعبد أن

يزكّي نفسه، ولكنّي أقول: إن آدم عليه السلام لما أصاب الخطيئة كانت توبته أن قال: اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد لما غفرت لي فغفرها اللَّه له، وإن نوحاً عليه السلام لما ركب في السفينة وخاف الغرق، قال: اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد لما نجّيتني من الغرق، فنجّاه اللَّه منه، وإن إبراهيم عليه السلام: لما ألقي في النار قال: اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد لما نجّيتني منها، فجعلها اللَّه عليه برداً وسلاماً، وإن موسي عليه السلام لما ألقي عصاه أوجس في نفسه خيفة، قال اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد لما آمنتني منها، فقال اللَّه جلّ جلاله: «لَاتَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَي» «1»

يايهودي: إن موسي لو أدركني ثم لم يؤمن بي وبنبوّتي ما نفعه إيمانه شيئاً ولا نفعته نبوّته.

يايهودي ومن ذريتي المهدي إذا خرج نزل عيسي بن مريم لنصرته، فقدّمه وصلّي خلفه» «2».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 200

وفي حديث آخر: «فيلتفت المهدي فينظر عيسي عليه السلام فيقول لعيسي: ياابن البتول صلّ بالناس، فيقول: لك أقيمت الصلاة، فيتقدّم المهدي فيصلّي بالناس ويصلّي عيسي خلفه ويبايعه» «1».

ولا شك أن المبايعة لأجل نصرته عليه السلام لإقامة دولة الحقّ، بقرينة تتمّة الرواية حيث ورد فيها أن المسيح عيسي بن مريم عليه السلام بعد المبايعة يكون من وزراء المهدي عليه السلام ويخرج لقتال الدجال.

ومنها: الروايات التي دلّت علي أن نصرة الأنبياء للرسول الأكرم صلي الله عليه و آله إنما تحصل بالنصرة لوصيّه أمير المؤمنين عليّ عليه السلام والقتال بين يديه عند الكرّة والرجعة في دولة الحقّ، وذلك نظير ما أخرجه سعد بن عبداللَّه القمي عن فيض بن أبي شيبة، قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول،

وتلا هذه الآية: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ»: «لتؤمننّ برسول اللَّه صلي الله عليه و آله ولتنصرنّ علياً أمير المؤمنين عليه السلام.

قال: نعم واللَّه من لدن آدم وهلمّ جراً، فلم يبعث اللَّه نبيّاً ولا رسولًا إلّاردّ جميعهم إلي الدنيا حتّي يقاتلوا بين يدي عليّ بن أبي طالب عليه السلام» «2».

ومن الواضح أن نصرة أمير المؤمنين عليه السلام نصرة لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله وللدين الذي جاء به.

وحاصل هذه النقطة: هو اشتراك أهل البيت عليهم السلام مع النبيّ صلي الله عليه و آله في الميثاق الذي أخذ علي الأنبياء، إذ أن إيفاءهم بالعهد إنما يكون بنصرتهم لأهل بيت النبيّ صلي الله عليه و آله.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 201

2- مرّ بنا أن الدين عند اللَّه الإسلام وهو واحد لا تعدّد فيه، وأن جميع المخلوقات بما فيهم سائر الأنبياء عجزوا عن تحمّل الدين والسبق في فتح سبله وبلوغ مقاماته الرفيعة، سوي الذات النبويّة المباركة التي لها الأهلية والاستعداد لتلقّي ذلك عن اللَّه عزّ وجلّ، فكان للنبيّ صلي الله عليه و آله الأسبقية في الإسلام والتسليم للَّه تعالي؛ ولذا كان الدين دين محمّد صلي الله عليه و آله، إذن دين الإسلام الواحد عبارة عن تلك المقامات السامية والنور الأعظم الذي لم يتحمّله مخلوق عن اللَّه تعالي سوي خاتم الرسل صلي الله عليه و آله، فأسكن اللَّه عزّ وجلّ ذلك النور في بيوت أذن اللَّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وكان بدن النبيّ الأكرم مسكناً لذلك النور، لأنه أوّل من قال بلي عندما قال اللَّه تعالي للبشر: «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ».

ومن هنا يتّضح أن الميثاق والعهد الذي أخذه اللَّه علي أنبيائه هو الإيمان بذات الرسول صلي الله عليه و آله، والإيمان

بمقامه صلي الله عليه و آله هو الدين الذي بعث به جميع الأنبياء، وهو بدرجاته العالية غيب اللَّه وسره المكنون الذي أمر الأنبياء بالإيمان به والتسليم له، وكان نيل مقامات النبوّة علي قدر درجة التسليم لذلك الدين، وقد مدح اللَّه تعالي أنبياءه لكونهم مسلمين، قال عزّ وجلّ: «مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» «1»

، وقد أمر اللَّه تعالي أنبياءه باتخاذ الاسلام ديناً، كما في قوله لإبراهيم: «إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ» «2».

إذن الدين الواحد هو الميثاق الذي أخذ علي جميع الأنبياء التسليم له

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 202

والإيمان به ونصرته، وهو دين النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله المتمثّل برسالته ووساطته بين اللَّه وخلقه، فهو دين اللَّه الناطق.

وإذا كان الأمر كذلك فكلّ ما هو داخل في دائرة الدين يكون من الميثاق الذي أخذ علي الأنبياء الإيمان به ونصرته والتسليم له، ومن الدين ولاية أهل البيت عليهم السلام بنصّ القرآن الكريم، وذلك في قوله تعالي: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإْسْلَامَ دِينًا» «1»

حيث نصّت روايات الفريقين علي أن هذا المقطع من الآية المباركة نزل عند تنصيب اللَّه عزّ وجلّ أمير المؤمنين عليه السلام لمقام الخلافة والإمامة بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وذلك في واقعة الغدير «2».

إذن الولاية والخلافة بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله من الدين الذي بعث به جميع الأنبياء، وقد أُكمل بتنصيب أمير المؤمنين عليه السلام بعد حجّة الوداع مضافاً إلي أن جملة الآيات والأدلّة القائمة علي إمامة أهل البيت عليهم السلام دالّة علي أن

إمامتهم وولايتهم من أصول الدين تتلو أصل النبوّة، سيما وأن الأنبياء مخاطبون بآيات الولاية والقربي والمودّة عند رجوعهم للنصرة، فهم مأمورون بطاعة أولي الأمر والمودّة للقربي والتوجّه بهم إلي اللَّه تعالي.

والحاصل: إنه لم يبعث نبيّ من الأنبياء إلّابعد أن آمن وسلّم بالدين الذي هو ولاية النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته، فالولاية دين اللَّه الذي بتسليمه استحقّ الأنبياء مقام النبوّة كلّ بحسب ما بلغه من درجة التسليم، فإن للولاية والتسليم درجات

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 203

وبحسب درجة التسليم لكلّ نبيّ يعطي ذلك النبيّ مقام الحظوة عند اللَّه تعالي ويستحقّ مقام النبوّة، وإذا ازدادت درجة التسليم كان ذلك النبيّ من أولي العزم، فتفضيل الأنبياء الوارد في قوله تعالي: «وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَي بَعْضٍ» «1»

، كذلك تفضيل الرسل، كما في قوله تعالي: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَي بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ» «2»

، كلّ ذلك التفضيل بحسب درجة التسليم والتولّي لدين اللَّه عزّ وجلّ، وذلك بالولاية للنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وأهل بيته، فالتسليم للنبيّ وأهل بيته والإيمان بولايتهم نوع توجّه قلبي إلي اللَّه عزّ وجلّ بهم، وهو شرط لنيل المقامات العظيمة عند اللَّه تعالي كالنبوّة والرسالة، فضلًا عن غيرها من العبادات وقبول التوبة واستدرار الأرزاق الإلهيّة.

3- لقد بيّن اللَّه عزّ وجلّ حقيقة الميثاق الذي أخذه علي الأنبياء وكيفية إقرارهم وإيمانهم به وثباتهم عليه، كما في قصة آدم عليه السلام، حيث جاء فيها أن الأمانة والميثاق الذي أقرّ به آدم وتحمّله لنيل منصب الخلافة الإلهية عبارة عن الأسماء الحيّة العاقلة الشاعرة، التي علّمها اللَّه عزّ وجلّ آدم وليست هي من السماوات والأرض، بل هي ملكوتها وباطنها ومحيطة بها ومهيمنة عليها،

والأسماء هم الرسول صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام، كما تقدّم في الأبحاث السابقة كما نصّت عليه روايات الفريقين، وعليه فيكون الميثاق الذي تحمّله آدم وآمن به ونال بواسطته مقام الخلافة هو الولاية للنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وأهل البيت عليهم السلام.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 204

كذلك الحال في الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم عليه السلام، فلما أتمّهن نال مقام الإمامة، فهذه الكلمات هي ميثاق إبراهيم عليه السلام لما أتمّها وآمن بها وأسلم بواسطتها للَّه ربّ العالمين استحقّ مقام الإمامة الإلهية، وسبق أيضاً أن تلك الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم وكان إتمامها سبباً لنيل المقامات العالية هم محمّد صلي الله عليه و آله وآله الطاهرين عليهم السلام.

إذن الميثاق عبارة عن أمتحان وابتلاء لنيل المقامات الرفيعة كالنبوّة والإمامة، والميثاق هو ولاية أهل البيت الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

نعم النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله أعلي مقاماً من أهل بيته عليهم السلام وهم يتوجّهون بالنبيّ صلي الله عليه و آله إلي اللَّه عزّ وجلّ وبشفاعته ينالون درجة مقامه عند اللَّه.

4- إن ولاية أمير المؤمنين عليه السلام وأهل البيت عليهم السلام ذكرت تلو ولاية النبيّ الأكرم في جملة من آيات الطاعة والولاية، التي تقدم ذكرها، مما يدلّل علي أن ولاية المعصومين عليهم السلام من الدين الذي بعث به الأنبياء، إذ الدين دائرته موحّدة بين الأنبياء، والذي هو عبارة عن أصول العقائد وأصول الواجبات والمحرّمات، التي هي أركان الفروع كأصل وجوب الصلاة والحجّ والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذه كلّها من دائرة الدين لا الشريعة المختلفة من نبيّ إلي آخر، وولاية أمير المؤمنين عليه السلام من الدين الذي بعث به جميع الأنبياء

والرسل.

كذلك من الآيات التي قرنت الرسول الأكرم بأهل بيته عليهم السلام آيات الفي ء والخمس، كما في قوله تعالي: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَي وَالْيَتَامَي وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» «1»

فإن الآية المباركة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 205

تبيّن أن أولياء الخمس الذين لهم الولاية علي اقتصاد الدولة الإسلامية هم اللَّه تعالي ورسوله وذوي القربي، بقرينة الاشتراك ب (اللام) الدالّة علي ملكية التصرف في أموال الدولة الإسلامية، وأما اليتامي والمساكين وابن السبيل فهم موارد مصرف الخمس؛ ولذا تغيّر التعبير فيهم بحذف اللام.

كذلك بنفس البيان ما ورد في قوله تعالي: «مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَي رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَي فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَي وَالْيَتَامَي وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَايَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ» «1»

، فلإقامة العدالة المالية والاقتصادية علي الأرض لابدّ أن تدار الأموال العامة التي ترجع إلي بلاد الإسلام بولاية اللَّه ورسوله وذوي القربي، وهم قربي الرسول الأكرم الذين جعلت مودّتهم أجراً وعدلًا لما جاء به النبيّ الأكرم من الدين الحنيف، وذلك في قوله تعالي: «قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي» «2».

وهذا يكشف عن أهميّة تولّي ذوي القربي وأن ولايتهم مفتاح لسائر أبواب الدين ومن دون التوسّل بها يخطأ الشخص ويضلّ طريق التوحيد، فيقع في مثل الجبر أو التفويض أو غير ذلك، فلابدّ من الولوج إلي الدين عن الطريق والباب الذي نصبه اللَّه عزّ وجلّ لخلقه، ولا يمكن الوقوف علي حقيقة الدين إلّا بالإمامة.

فمودّة ذوي القربي أمر عظيم إذا سَلِم سَلِمت بقيّة أصول الدين، ولا يوجد قربي للنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله بهذا الشأن الخطير سوي المعصومين من أهل بيته،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 206

فولايتهم عاصمة عن الضلال وهي ركن ركين

في الدين الذي بعث به الأنبياء كافّة.

ولا شك أن الدين عام- كما ستأتي الإشارة إلي ذلك- لا يستثني منه أحد في جميع النشآت بنحو الأبد وعدم الانقطاع، ومن ثمّ يكون وجوب الطاعة والولاية مكلَّف به جميع المخلوقات بنحو من التأبيد والخلود، فخلافة وولاية أولي الأمر ووجوب طاعتهم لا تختصّ بالجنّ أو الإنس ولا بالأمور السياسية الدنيوية وليس لأمدها حدّ ولا انقطاع.

وهناك أيضاً آيات أخري ستأتي لاحقاً قرنت بين النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وأهل بيته، مما يكشف عن أن مقامات الأنبياء ونيل الحظوة الإلهية لا يتم إلّابالتوسل والتوجّه بهم إلي اللَّه تعالي، وأن تولّيهم واسطة للفيض الإلهي، ولولاهم لما بعث الأنبياء والمرسلون، فهم الوسيلة إلي اللَّه تعالي في عظائم الأمور، فكيف بالقضايا الأخري التي هي أقلّ شأناً مما يرتبط بالأمور الحياتية والمعيشية للناس؟!

وهذا كلّه يصلح بياناً بذاته لتبعية الأنبياء جميعاً لخاتم الأنبياء وأهل بيته عليهم السلام مع سبقهم الزمني عليهم.

بيان آخر لتوسل الأنبياء بالرسول الأكرم وأهل بيته في نيل المقامات: النبي وأهل بيته قدوة للأنبياء: … ص: 206

مما يشير إلي كون النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام قدوة لجميع الأنبياء والمرسلين حتّي أولي العزم منهم، وبالتالي اتّباعهم للنبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام وسيلة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 207

لبلوغهم إلي المقامات العالية من النبوّة والرسالة والخلّة والإمامة وغيرها، مع أن النبيّ وأهل بيته متأخرين عنهم من حيث الزمان في النشأة الأرضية، هو ما دلّت عليه جملة من الآيات والروايات من أن اللَّه تعالي أنبأ آدم ونوح وإبراهيم وموسي وعيسي وغيرهم من الأنبياء والرسل بالأحوال والحوادث التي تجري علي خاتم الأنبياء صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام، من المحن والمصائب والابتلاءات والامتحانات والشدائد وكيفية ثباتهم عليهم السلام فيها وصبرهم ورضاهم وتسليمهم

بقضاء اللَّه وقدره وتنمّرهم في ذات اللَّه، وأطلعهم علي الكمالات والمقامات الرفيعة التي يكونون عليها، مع عظيم ابتلائهم بتلك الشدائد.

وهذا ما يوجب تربية روحية عالية لهم ليتحلّوا بالكمالات عند مواجهتهم للشدائد والفتن والمحن وبالتالي نيل المقامات التي حظوا بها عند اللَّه تعالي.

وكان فيما أوحي اللَّه عزّ وجلّ لهم عن أحوال النبيّ وأهل بيته بأنماط متعدّدة من الوحي، أي من الوحي الصوري نظير الرؤيا أو الوحي بالإلهام والمعني وغيرها من أنماط الوحي.

فكانت سيرة النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام تمثالًا منصوباً وشعاراً مرفوعاً لهم يحتذون ويقتدون به، ماثل أمام أعينهم طيلة مسيرة أيام نبوّتهم ورسالتهم.

وهذا أحد معاني اقتداء الأنبياء والمرسلين بالنبيّ وأهل بيته.

أما الآيات التي تشير إلي هذا المعني فهي عديدة نشير إلي جانب منها:

1- ما تقدّم من قوله تعالي: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ» «1»

فإنها دالّة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 208

علي أن اللَّه عزّ وجلّ أخبرهم عن خاتم الأنبياء ومقاماته وأن الدين دينه وهو فاتح حصونه، ثم بعد ذلك أمرهم بالتسليم له والإيمان به ونصرته.

2- قوله تعالي علي لسان عيسي عليه السلام: «وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» «1».

3- قوله تعالي في يهود المدينة، قُبيل ولادة النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله: «وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَي الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَي الْكَافِرِينَ» «2»

، فقد نقل المفسّرون في ذيل هذه الآية المباركة أن اليهود من أهل المدينة وخيبر كانوا إذا قاتلوا من يليهم من مشركي العرب من الأوس والخزرج يستنصرون بالنبيّ

صلي الله عليه و آله عليهم ويستفتحون به، لما يجدون من ذكره وصفاته وشمائله ومحلّ ولادته في التوراة، وكانوا يدعون ويتوسلون بحقّه للنصرة عليهم، حيث يقولون: (اللّهم إنّا نستنصرك بحقّ النبيّ الأميّ إلّانصرتنا عليهم).

وعن ابن عباس قال: (كانت يهود خيبر تقاتل غطفان فكلّما التقوا هزمت يهود خيبر، فعاذت اليهود بهذا الدعاء: اللّهم إنا نسألك بحقّ محمّد النبيّ الأميّ الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلّانصرتنا عليهم، قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان، فلما بُعث النبيّ صلي الله عليه و آله كفروا به، فأنزل اللَّه وقد كانوا يستفتحون بك يامحمّد علي الكافرين) «3».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 209

4- قوله تعالي في اليهود والنصاري الذين آمنوا بالنبيّ صلي الله عليه و آله: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإْنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «1». 5- قوله تعالي في معرفة أهل الكتاب بصفات وشمائل النبيّ صلي الله عليه و آله: «الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» «2».

إن هذه الأربع آيات الأخيرة صريحة في إخبار الأنبياء عليهم السلام أممهم بأحوال خاتم الأنبياء صلي الله عليه و آله وسيرته، وهذا يكشف عن أن اللَّه تعالي أطلع أنبياءه علي سيرة النبيّ الأعظم وما يجري عليه من المحن والشدائد.

6- قوله تعالي علي لسان إبراهيم في دعائه لذريّته:

«فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» «3»

فهي دالّة علي أن إبراهيم كان مطّلعاً علي سيرة ذرّيته الطاهرة، ودعا اللَّه عزّ وجلّ بمودّة

الناس لهم وهويّ القلوب إليهم.

هذا بالنسبة إلي الآيات المباركة، وهي دالّة علي أن الأنبياء عليهم السلام كانوا علي اطّلاع بالنبيّ الأكرم وأهل بيته الطاهرين وما يجري عليهم من البلايا.

أما الروايات في هذا المجال فهي كثيرة جدّاً نشير إلي شطر منها علي سبيل الاختصار:

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 210

1- ما أخرجه القندوزي الحنفي في الينابيع، عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قال: «ياعباد اللَّه إن آدم عليه السلام لما رأي النور ساطعاً من صلبه، إذ كان اللَّه تعالي نقل أشباحنا من ذروة العرش إلي ظهره، رأي النور ولم يتبيّن الأشباح، فقال: ياربّ ما هذه الأنوار؟ قال: أنوار أشباح نقلتهم من أشرف بقاع العرش إلي ظهرك، ولذلك أمرت الملائكة بالسجود لك، إذ كنت وعاءً لتلك الأشباح، فقال آدم عليه السلام: ياربّ لو بيّنتها لي.

فقال اللَّه عزّ وجلّ: انظر ياآدم إلي ذروة العرش.

فنظر آدم عليه السلام ووقع نور أشباحنا من ظهر آدم عليه السلام إلي ذروة العرش، فانطبع فيه صور أنوار أشباحنا التي في ظهره كما ينطبع وجه الانسان في المرآة الصافية، فرأي أشباحنا.

فقال: ما هذه الأشباح ياربّ؟

قال اللَّه تعالي: ياآدم هذه الأشباح أشباح أفضل خلائقي وبريّاتي، هذا محمّد وأنا المحمود في أفعالي، شققت له اسماً من اسمي، وهذا علي وأنا العليّ العظيم شققت له اسماً من اسمي، وهذه فاطمة وأنا فاطر السماوات والأرض، فاطم أعدائي من رحمتي يوم فصل القضاء، وفاطم أوليائي مما يبيرهم ويشينهم، شققت لها اسماً من اسمي، وهذا الحسن وهذا الحسين وأنا المحسن المجمل ومنّي الاحسان، شققت اسميهما من اسمي.

وهؤلاء خيار خلقي وكرائم بريّتي، بهم آخذ وبهم أعطي، وبهم أعاقب وبهم أثيب، فتوسل بهم إليّ ياآدم، وإذا دهتك داهية فاجعلهم إليّ شفعائك فإني آليت

الامامة

الالهية(5)، ج 4، ص: 211

علي نفسي قسماً حقّاً لا أُخيّب لهم آملًا ولا أردّ لهم سائلًا» «1».

فهذه الرواية صريحة في أن اللَّه تعالي أطلع خليفته ونبيّه آدم علي حقائق أهل البيت عليهم السلام، ليكونوا له قدوة يقتدي بهم وشفعاء يتوسل بهم إلي اللَّه تعالي.

2- روي: أن آدم عليه السلام لما هبط إلي الأرض لم يرَ حواء، فصار يطوف الأرض في طلبها، فمرّ بكربلاء فاغتمّ وضاق صدره من غير سبب، وعثر في الموضع الذي قُتل فيه الحسين عليه السلام حتي سال الدمّ من رجله، فرفع رأسه إلي السماء وقال:

إلهي هل حدث منّي ذنب آخر فعاقبتني به؟ فإني طفت جميع الأرض وما أصابني سوء مثل ما أصابني في هذه الأرض.

فأوحي اللَّه تعالي إليه ياآدم ما حدث منك ذنب، ولكن يقتل في هذه الأرض ولدك الحسين ظلماً، فسال دمك موافقة لدمه «2».

3- ما أخرجه المجلسي في البحار عن صاحب الدرّ الثمين في تفسير قوله تعالي: «فَتَلَقَّي ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ» «3»

: (أنه رأي ساق العرش وأسماء النبيّ والأئمة عليهم السلام، فلقّنه جبرئيل، قل: ياحميد بحقّ محمّد، ياعالي بحقّ عليّ يافاطر بحقّ فاطمة، يامحسن بحقّ الحسن والحسين ومنك الإحسان.

فلمّا ذكر الحسين سالت دموعه وانخشع قلبه، وقال: ياأخي جبرئيل في ذكر الخامس ينكسر قلبي وتسيل عبرتي؟ قال: جبرئيل: ولدك هذا يصاب بمصيبة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 212

تصغر عندها المصائب، فقال: ياأخي وما هي؟ قال: يقتل عطشاناً غريباً وحيداً فريداً ليس له ناصر ولا معين) «1».

4- ما أخرجه الصدوق عن عليّ بن موسي الرضا عليه السلام، قال: «لما أمر اللَّه تبارك وتعالي إبراهيم عليه السلام أن يذبح مكان ابنه إسماعيل الكبش الذي أنزله عليه تمنّي إبراهيم عليه السلام أن يكون يذبح ابنه إسماعيل

عليه السلام بيده، وأنه لم يؤمر بذبح الكبش مكانه؛ ليرجع إلي قلبه ما يرجع إلي قلب الوالد الذي يذبح أعزّ ولده بيده فيستحقّ بذلك أرفع درجات أهل الثواب علي المصائب، فأوحي اللَّه عزّ وجلّ إليه: ياإبراهيم من أحبّ خلقي إليك؟ فقال: ياربّ ما خلقت خلقاً هو أحبّ إليّ من حبيبك محمّد صلي الله عليه و آله، فأوحي اللَّه عزّ وجلّ إليه: ياإبراهيم أفهو أحبّ إليك أو نفسك؟

قال: بل هو أحبّ إليّ من نفسي، قال: فولده أحبّ إليك أو ولدك؟ قال: بل ولده، قال: فذبح ولده ظلماً علي أيدي أعدائه أوجع لقلبك أو ذبح ولدك بيدك في طاعتي؟ قال: ياربّ بل ذبحه علي أيدي أعدائه أوجع لقلبي، قال: ياإبراهيم فإن طائفة تزعم إنها من أمة محمّد صلي الله عليه و آله ستقتل الحسين عليه السلام إبنه من بعده ظلماً وعدواناً كما يذبح الكبش، فيستوجبون بذلك سخطي، فجزع إبراهيم عليه السلام لذلك وتوجّع قلبه وأقبل يبكي، فأوحي اللَّه عزّ وجلّ إليه: ياإبراهيم قد فديت جزعك علي إبنك إسماعيل لو ذبحته بيدك بجزعك علي الحسين عليه السلام وقتله، وأوجبت لك أرفع درجات أهل الثواب علي المصائب» «2».

5- ما أخرجه ابن قولويه في كامل الزيارات عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إن

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 213

إسماعيل الذي قال اللَّه تعالي في كتابه: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا» «1»

لم يكن إسماعيل ابن إبراهيم عليه السلام، بل كان نبيّاً من الأنبياء بعثه اللَّه إلي قومه، فأخذوه فسلخوا فروة رأسه ووجهه، فأتاه ملك عن اللَّه تبارك وتعالي فقال: إن اللَّه بعثني إليك فمرني بما شئت، فقال: لي أسوة بما يصنع بالحسين عليه السلام» «2».

وفي حديث آخر

عنه عليه السلام قال: «ذاك إسماعيل بن حزقيل النبيّ عليه السلام، بعثه اللَّه إلي قومه فكذّبوه فقتلوه وسلخوا وجهه، فغضب اللَّه له عليهم فوجّه إليه اسطاطائيل ملك العذاب، فقال له: ياإسماعيل: أنا اسطاطائيل ملك العذاب، وجّهني إليك ربّ العزّة لأعذّب قومك بأنواع العذاب إن شئت، فقال له إسماعيل:

لا حاجة لي في ذلك، فأوحي اللَّه إليه فما حاجتك ياإسماعيل؟ فقال: ياربّ إنك أخذت الميثاق لنفسك بالربوبية ولمحمّد صلي الله عليه و آله بالنبوّة ولأوصيائه بالولاية، وأخبرت خير خلقك بما تفعل أمته بالحسين بن عليّ عليه السلام من بعد نبيّها، وأنك وعدت الحسين عليه السلام أن تكرَّهُ إلي الدنيا حتي ينتقم بنفسه ممن فعل ذلك به، فحاجتي إليك ياربّي أن تكرّني إلي الدنيا حتّي أنتقم ممن فعل ذلك بي، كما تكرّ الحسين عليه السلام، فوعد اللَّه إسماعيل بن حزقيل ذلك، فهو يكرّ مع الحسين عليه السلام» «3».

6- عن سعد بن عبداللَّه القمي في سؤاله للإمام المهدي عليه السلام في محضر الإمام الحسن العسكري عليه السلام، حيث قال: فأخبرني ياابن رسول اللَّه عن تأويل «كهيعص»؟ قال عليه السلام: «هذه الحروف من أنباء الغيب، أطلع اللَّه عليها عبده زكريّا، ثم قصّها علي محمّد صلي الله عليه و آله، وذلك إن زكريا سأل ربّه أن يعلّمه أسماء

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 214

الخمسة، فأهبط عليه جبرئيل فعلّمه إياها، فكان زكريا إذا ذكر محمّداً وعلياً وفاطمة والحسن والحسين، سري عنه همّه، وانجلي كربه، وإذا ذكر الحسين خنقته العبرة، ووقعت عليه البهرة «1»، فقال ذات يوم: ياإلهي ما بالي إذا ذكرت أربعاً منهم تسلّيت بأسمائهم من همومي، وإذا ذكرت الحسين تدمع عيني وتثور زفرتي؟ فأنبأه اللَّه تعالي عن قصّته» إلي أن قال: «فلما سمع

ذلك زكريا لم يفارق مسجده ثلاثة أيام ومنع فيها الناس من الدخول عليه، وأقبل علي البكاء والنحيب، وكانت ندبته: إلهي أتفجع خير خلقك بولده؟

إلهي أتنزل بلوي هذه الرزية بفنائه؟ إلهي أتلبس علياً وفاطمة ثياب هذه المصيبة؟ إلهي أتحلّ كربة هذه الفجيعة بساحتهما؟

ثم كان يقول: أللّهم ارزقني ولداً تقرّ به عيني علي الكبر، واجعله وارثاً وصيّاً، واجعل محلّه منّي محلّ الحسين، فإذا رزقتنيه فافتنّي بحبّه ثم افجعني به كما تفجع محمّداً حبيبك بولده، فرزقه اللَّه يحيي وفجعه به» «2».

والروايات في هذا المجال كثيرة جدّاً، وهي دالّة علي ما أردنا التنبيه عليه من تبعية الأنبياء لمحمّد وأهل بيته عليهم السلام، وكونهم قدوة لهم وواسطة في بلوغ ما وصلوا إليه من المقامات، وذلك عن طريق استعراض سيرتهم والحوادث التي جرت عليهم عليهم السلام.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 215

آيات أخري في اقتران أهل البيت عليهم السلام بالنبيّ صلي الله عليه و آله في الصفات: … ص: 215

1- قوله تعالي: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً» «1»

، حيث قرنت هذه الآية المباركة بالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله أهل بيته عليهم السلام وجعلتهم شركاء له تابعون في الطهارة، وهي تعني درجة العصمة التي للرسول صلي الله عليه و آله، فهو صلي الله عليه و آله سيّد الأنبياء ويفوق الكلّ في درجة العصمة والطهارة، إلّا أن سنخ عصمته صلي الله عليه و آله متقاربة ومتقارنة مع سنخ العصمة التي لأهل البيت عليهم السلام، ففي الوقت الذي قرن اللَّه تعالي بنبيّه صلي الله عليه و آله أهل بيته في العصمة والطهارة، لم يقرن أحداً من الأنبياء في نمط التطهير والعصمة الذي له صلي الله عليه و آله.

2- قوله تعالي: «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ

وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَي الْكَاذِبِينَ» «2»

، فلم يُنزَّل أحد كنفس النبيّ صلي الله عليه و آله إلّاعليّ عليه السلام، وقرن اللَّه تعالي بالنبيّ صلي الله عليه و آله أهل بيته عليهم السلام في الحجّية، فالخمسة عليهم السلام معاً حجج علي جميع الأديان السماوية والبشرية عموماً إلي يوم القيامة، فهم عليهم السلام شركاء النبيّ صلي الله عليه و آله في الرسالة؛ لأن المباهلة نوع محالفة، وفي الحلف لابدّ أن يحلف الأصيل ولا وكالة في الحلف، وهذا يعني أنهم عليهم السلام شركاء في الرسالة أصالة، ولكنهم تابعون في ذلك للنبيّ صلي الله عليه و آله وهو سيّدهم وبشفاعته نالوا الأصالة في الحجّية.

والحاصل: إن أهل البيت عليهم السلام مقرونون بسيّد الأنبياء في المقامات تبعاً له صلي الله عليه و آله، وهذا يعني أن الإيمان بأهل البيت والتولّي لهم من الدين الذي أخذ علي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 216

الأنبياء الإيمان به ونصرته لأجل نيل المقامات العالية عند اللَّه تعالي.

هذا تمام الكلام في الدليل السابع علي عموم شرطية التوسّل بالنبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام لصحّة الإيمان وللتوبة وسائر العبادات ولنيل مقامات القرب.

الدليل الثامن: … ص: 216

«فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» «1».

تقدّم أن هذه الآية المباركة دالّة علي مبدأ التوسّل، ونشير هنا أيضاً إلي أنها دالّة عموم شرطية التوسّل في التوجّه إلي الحضرة الإلهية، فلابدّ من التوسّل بالذريّة والتوجّه بهم وصلتهم والمجي ء إليهم، وسبق كذلك أن التوجّه نوع دعاء وهو لا يرتفع ولا تفتّح له أبواب السماء إلّابالتوسل بالنبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام وهويّ القلوب إليهم.

ولذا كانت مودّة أهل البيت عليهم السلام أجر الرسالة الخاتمة، كما في قوله تعالي:

«قُلْ لَاأَسْئَلُكُمْ

عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي» «2»

، وقال تعالي: «قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ» «3»

، مما يعني أن مودّة أهل البيت عليهم السلام يعود نفعها للأمة جمعاء، وقال عزّ وجلّ: «قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَي رَبِّهِ سَبِيلًا» «4»

، ومعني ذلك أن مودّتهم عليهم السلام هي السبيل الوحيد والطريق والوسيلة المنحصرة إلي اللَّه تعالي، فهم السبيل إليه والمسلك إلي رضوانه.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 217

الدليل التاسع: الاستكبار والصدّ عن آيات اللَّه تعالي موجب لحبط الأعمال … ص: 217

نريد أن نتعرض هنا في الاستدلال علي المقام بما تقدّم من قوله عزّ وجلّ:

«إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَاتُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّي يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُمجْرِمِينَ» «1»

ونريد أن نضيف علي ما تقدم من بيان هذه الآية الكريمة بما له دلالة علي المطلوب في المقام، وذلك بالبيان التالي:

إن الآية المباركة تتعرّض لبعض الأحكام المترتّبة علي التكذيب بآيات اللَّه تعالي.

والمقصود من الآيات هي الحجج الإلهية، حيث أطلق اللَّه عزّ وجلّ لفظ الآية علي مريم وعيسي عليهما السلام «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً» «2»

، وإذا كان عيسي عليه السلام لم ينل ما ناله إلّابولايته وإقراره وإيمانه بسيّد الأنبياء فكيف بنفس النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله، فهو أعظم آية للَّه تعالي؟ وإذا كان عيسي عليه السلام من وزراء الإمام المهدي عليه السلام وتابعاً له في دولته، فكيف لا يكون أهل البيت عليهم السلام من أعظم آيات اللَّه تعالي؟ خصوصاً وأن اللَّه تعالي قرن بالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله أهل بيته عليهم السلام في الطهارة والعصمة والحجّية والولاية وغيرها من المقامات التي تقدّم التعرّض لها آنفاً، فلا شك أن النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله

وأهل بيته عليهم السلام المصداق البارز للآية التي نحن بصدد بيانها، فهم عليهم السلام أوضح وأبرز وأعظم آيات اللَّه تعالي.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 218

والذين يكذّبون بآيات اللَّه تعالي ويصدّون ويستكبرون عنها- كما فعل إبليس مع آدم عليه السلام- لا تفتّح لهم أبواب السماء، فلكي تفتّح أبواب السماء لقبول الأعمال والعبادات والعقائد وجميع المقامات، وقد قال تعالي: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» «1»

والكلم الطيب هو العقيدة، فبيّنت الآية أن الإيمان والعقيدة لابدّ له أن يصعد في مسير قبوله عند اللَّه تعالي، والصعود إلي السماء لابدّ أن تفتّح له أبواب السماء، وقد بيّنت الآية السابقة أن مفتاح أبواب السماء هو كلّ من التصديق بالآيات الإلهية والخضوع لها واللُجأ إليها وعدم الصدّ عنها، ومن أجل الرقي والعروج إلي السماء لابدّ من التوجّه إلي آيات اللَّه تعالي واللجوء إليها والتصديق بها وعدم الصدّ عنها، فالآية صريحة في أن التوبة والعبادة وأيّ قربي أو زلفي إلي اللَّه عزّ وجلّ تفتقر إلي تفتّح أبواب السماء وأنها لا تفتّح أبداً مع الاستكبار علي الآيات الإلهية، فليس الإيمان بآيات اللَّه فحسب كافٍ في قبول العبادات ورقي المقامات، بل لابدّ من المودّة والصلة والإقبال والتوجّه إلي الآيات والتوسّل بها إلي اللَّه، وعدم الصدّ والإعراض والإستكبار عنها، لأن الآية جعلت شرطين لفتح أبواب السماء ولدخول الجنّة:

الأول: عدم التكذيب، أي التصديق والإيمان والمعرفة بآيات اللَّه الحجج.

والثاني: عدم الاستكبار عنها، وهذا الأمر يتضمّن شيئين:

أحدهما: عدم الاستكبار أي الخضوع والتواضع، وثانيتهما: عدم الصدّ الذي قد ضُمّن في فعل الاستكبار بقرنية عن، نظير ما ذكرته الآيات في مسبب كفر إبليس (أبي واستكبر) فالإباء هو الجحود مقابل التصديق، والاستكبار مقابل

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 219

الخضوع والاتباع.

ونظير ذلك ما ورد

في سورة المنافقين في قوله تعالي: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ» «1»

وهذه الآية الكريمة صريحة في أن الاستغفار وقبول التوبة متوقّف علي المجي ء إلي النبيّ صلي الله عليه و آله، وأن صفة المنافق الصدّ عن الآيات الإلهية والاستكبار عليها والابتعاد عنها وعدم اللجوء واللواذ إليها، وهذا نوع من التشاهد بين الآيات القرآنية، فالآية تدلّ علي أن الأوبة إلي اللَّه تعالي والقرب إليه لابدّ فيه من التوجّه أوّلًا إلي الحضرة النبوّية والتوسّل والاستشفاع بالنبي صلي الله عليه و آله ثم شفاعته.

فالتوسّل خيار حصري لابدّي شرطي منحصر بالمجي ء واللجوء إلي الحضرة النبويّة واللّواذ بها والاستغاثة به صلي الله عليه و آله، ثم إبداء التوبة والاستغفار وإمضاء النبيّ صلي الله عليه و آله له باستغفاره وشفاعته لهم من أجل تحقّق التوبة ومقام المغفرة وقبول العبادة التي منها عبادة التوبة.

ونظير هذه الآيات أيضاً قوله تعالي: «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» «2».

ومن الشواهد أيضاً علي أن المراد من الآيات هنا هم الأنبياء والخلفاء الأوصياء الحجج هو التعبير ب (كذّبوا) فإنه مقابل التصديق فيما يزعمون من مناصب وفيما لهم من دعوي، وأما الآية الكونية فليس فيها تكذيب أو تصديق، بل إنما يقع الغفلة والإعراض عنها؛ إذ لا يوجد فيها زعم أو دعوي معيّنة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 220

كي يصدق في حقّها التصديق أو التكذيب، فالتصديق أو التكذيب إنما يكون للحجج الإلهية التي تدّعي مقاماً إلهياً وكذا فيما تبلّغه عن اللَّه تعالي، فالمراد بالآية والآيات في المقام الحجج الإلهية من الأنبياء والرسل والأصفياء والأوصياء، الذين أُسندت إليهم المقامات الإلهية.

والحاصل: إن هذه الآيات المباركة تبيّن أن مفتاح أبواب سماء

الحضرة الربوبية الإقرار بالحجج والآيات والتوجّه إليها والتوسّل والتشبّث بها والإنقطاع إليها لا عنها، وأبرز وأعظم تلك الآيات النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام، فهم مفاتيح أبواب السماء في قبول وصعود التوبة والعبادة والمعرفة والإيمان والعقيدة ونيل المقامات، فلا ترتفع أي عبادة ولا ينال مقام ولا تتحقّق التوبة مع عدم التصديق بالآيات وصلتها ومودّتها والتوجّه إليها والتوسّل بها، والإعراض عنها يوجب حبط الأعمال وامتناع دخولهم الجنّة في الآخرة «ولا يدخلون الجنة حتي يلج الجمل في سمّ الخياط» «أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون»، فشرط النجاة يوم القيامة الارتباط بالآيات الإلهيّة والإنتماء إليها والتوسّل بها، لكونها قنوات غيبيّة توجب القرب إلي اللَّه تعالي.

فالتوسل شرط في تفتّح الأبواب لقبول وصحّة الإيمان والتوبة وقبول الأعمال وسائر المقامات.

الدليل العاشر: خضوع الملائكة لآدم عليه السلام كلّ خليفة اللَّه الباب الأعظم لملائكته … ص: 220
اشارة

لقد سبق ذكر الآيات التي تعرّضت لقصة آدم عليه السلام وأمر الملائكة كلّهم

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 221

أجمعين بالسجود له، وقلنا إن الأمر بسجود الملائكة وخضوعهم وانقيادهم ليس خاصّاً بآدم عليه السلام، لأنها معادلة دائمة في عالم الخلقة لكلّ من يتحلّي بمقام الخلافة الإلهية، فمن يتحلّي بهذا المقام يطوع اللَّه عزّ وجلّ له الملائكة ويدينون بأجمعهم للَّه تعالي بطاعته بما فيهم كبار الملائكة المقرّبين، وهم في كلّ ما يقومون به من أدوار عظيمة في عالم الإمكان والكون خاضعون لوليّ اللَّه، وهو خضوع حقيقي قائم علي أساس العلوّ الرتبيّ التكويني لخليفة اللَّه تعالي، وحينئذٍ يكون الأمر بالسجود والخضوع للخليفة شامل للأنبياء، وخصوصاً أولي العزم منهم كنوح وإبراهيم وموسي وعيسي والرسول الأكرم وأوصيائه عليهم السلام، فالملائكة المقرّبين وغيرهم بابهم إلي اللَّه تعالي خليفة اللَّه الذي يُنبئهم بالأسماء والمقامات.

ثمّ إن الآيات والروايات ذكرت أن الملائكة عندما اعترضت علي جعل خليفة اللَّه في

الأرض وهو من ترك الأولي الناشئ من ضيق الأفق وعدم سعة العلم- آبت وتابت إلي اللَّه عزّ وجلّ بالسجود لآدم عليه السلام.

إذن سنّة اللَّه للملائكة كدين هو الإقبال علي وليّ اللَّه، وهو شرط أوبتهم وقبول عبادتهم وحظوتهم بالمقامات العالية.

ففي عالم الغيب الذي هو خال عن نشأة التشريع الأرضي، وليس خالٍ عن الدين الإلهي، كما قال تعالي: «وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ» «1»

، افتقرت الملائكة إلي أن يكون بينهم وبين اللَّه تعالي واسطة في الخضوع والإنباء والمعرفة والعبادة والتقرّب إلي اللَّه تعالي، فما بالك بالنشآت الأخري؟!

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 222

وإذا كان آدم أبو البشر نبيّ الملائكة وقناة الإنباء والفيوضات العلمية وغيرها عليهم من اللَّه تعالي، وهو وليّهم وهم طائعون له لا يتمرّدون عليه ولا ينبغي لهم ذلك، فكيف بسيّد البشر؟! ألا تكون الملائكة منقادة وطائعة له؟!

ومن هنا تكون الملائكة مشمولة بقوله تعالي: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» «1»

من غير اختصاص بالنشأة الأرضيّة، وهذا لوحدة الدين وشموله لجميع المخلوقات كما سيأتي لاحقاً بيانه.

فالخليفة نبيّ الملائكة وله مقام إنبائهم وتعليمهم؛ لأنه مزوّد بالعلم اللّدني الأسمائي، فهو نبيّ المعارف وإن لم يكن نبيّ شريعة للناس في الأرض.

والحاصل: إن المقامات التكوينيّة العالية للملائكة لا يمكن أن تنال إلّابطاعة وليّ اللَّه والإقبال عليه والتوجّه إليه وبه إلي اللَّه تعالي.

أخذ ميثاق ولاية أهل البيت عليهم السلام معرفة وتوسّلًا في جميع النشآت علي أصناف المخلوقات: … ص: 222

الدين الذي هو عند اللَّه الإسلام لا يختصّ بنشأة من النشآت، بل الكلّ مكلّف بالطاعة للَّه والإسلام له في أصول معالم دينه، قال تعالي: «أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» «2»

، ولذا كان الأمر بالسجود لآدم غير خاصّ بالملائكة، بل شامل لكل النشآت ومن هنا عمّ الأمر إبليس، لأن دين اللَّه عزّ

وجلّ وهو التسليم دين جميع المخلوقات،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 223

فالملائكة أيضاً مأمورة بالتوحيد للَّه تعالي وطاعة وليّ اللَّه بالسجود له، وعلي هذا فكلّ ما يبيّن في النصوص القرآنية بأنه من أركان الدين فقد أخذ علي جميع الملائكة الإيمان به، ومن تلك الأركان تولّي خليفة اللَّه والطاعة له.

وإذا عرفت ذلك يتّضح لك ما ورد في الروايات من أن ولاية النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام أُخذت من جميع الملائكة وسائر الكائنات، وذلك لكونها من الدين غير الخاص بنشأة من النشآت.

إذن فنبوّة خاتم الأنبياء وولاية سيّد الأوصياء لا تختصّ بالموجودات الأرضية، وهذا يعني أن الشهادة الثانية والثالثة لم تؤخذ علي أهل هذه الدنيا فحسب، لأن الإنباء ونيل الفيوضات عموماً يحتاج إلي وجود خليفة اللَّه ولابدّ من التوجّه إليه لنيل المقامات وقبول الطاعات في جميع النشآت؛ لأنه واسطة اللَّه وسفيره بينه وبين خلقه في كلّ المقامات العلمية والتكوينية.

تأبيد رسالة الرسول صلي الله عليه و آله ووساطته في الوحي الإلهي لجميع النشآت: … ص: 223

فمفاد الشهادةالثانية والثالثة إقرار بالواسطة الأبدية غيرالخاصة بالنشأة الأرضية، وهذه هي تداعيات ومقتضيات الشهادة الثانية والثالثة، التي لا يتمّ التوحيد بدونها، ومن دونها لا يتحقّق قرب المخلوق إلي ربّه، ذلك المخلوق البعيد عن مقامات الربوبية وعظمة الصفات الإلهية.

جحود التوسّل سنّة إبليس في الاستكبار: … ص: 223

ومن يأبي ذلك يحصل له العتوّ والاستكبار في نفسه والتعظيم لها، مع أن

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 224

نفسه صغيرة فقيرة بعيدة عن ساحة عظمة الصفات الإلهية، فهي أي النفس- محتاجة إلي الواسطة والسفارة التي يتوجّه بها إلي اللَّه تعالي، كما في قوله تعالي:

«قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ* قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ* قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ* وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَي يَوْمِ الدِّينِ» «1».

ويتّضح أيضاً أن معطيات الشهادة الثانية والثالثة ومؤداهما مرتبطة بالمعارف الدينيّة الأبديّة الشاملة للملائكة والجنّ والإنس والبرزخ والجنّة والنار والآخرة، فضلًا عن النشأة الأرضية، كذلك الوساطة والشهادة الثانية والثالثة شاملة لعالم العقول والأرواح، ولذا نجد أن مجري الفيض في تكامل عقول علماء هذه الأمة ومستوياتها العلميّة في الدين هو النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام، حيث تمّ بجهودهم المباركة تشييد المعارف الصحيحة ورفض الجبر والتفويض والتجسيم والتشبيه والتعطيل وغيرها من العقائد الفاسدة، فهم عليهم السلام وسائط الفيض وسفراء الأرواح والعقول.

وهذا بيان عقلي لمعطيات الشهادة الثانية والشهادة الثالثة يُضاف إلي البيانات السابقة المعتمدة علي الآيات القرآنية المباركة.

والحاصل: إن شرطية التوسّل في المقامات الثلاث المذكورة تعمّ جميع الأنبياء والرسل وكلّ المخلوقات من الملائكة وغيرها.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 226

الفصل الرابع/ شبهات وردود … ص: 226

اشارة

الشبهة الأولي: التوسّل عبادة لغير اللَّه تعالي.

الشبهة الثانية: التوسّل مناف لكلمة التوحيد.

الشبهة الثالثة: التوسّل مناف للآيات القرآنية

الشبهة الرابعة: الأعمال الصالحة هي الوسيلة.

الشبهة الخامسة: التوحيد الإبراهيمي يأبي التوسّل بغير اللَّه.

الشبهة السادسة: التوسّل يعني التفويض وعجز اللَّه تعالي.

الشبهة السابعة: إيجاد المخلوقات الامكانية كلّه ابداعيّ بلا واسطة.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 227

شبهات وردود … ص: 227

قبل الدخول في بيان الشبهات والأجوبة التفصيلية عنها لابدّ من التنبيه علي نقطة جديرة بالإلتفات، وهي إننا لا نخطّئ قول أصحاب الشبهة في تأثير التوسّل ومدخليته المباشرة في العقيدة التوحيدية، وذلك لأن فروع الدين الاعتقادية، بل كلّ فروع الدين ترجع في لبّها وجذرها إلي أصول الدين، فإن معني كونها من فروع الدين أنها تنحدر وتنشعب وتتنزّل من الشجرة المباركة الطيّبة لأصول الدين.

إذن فعبادة التوسّل توحيدية، بمعني أن لها عمقاً توحيدياً وجذراً تنشعب منه يربطها بأصول الدين الكلّية.

وهذا هو معني أن التوحيد لا يتمّ بكلمة (لا إله إلّااللَّه)، بل لابدّ من أدبيات ومعطيات الشهادة الثانية لكي يتمّ التوحيد.

والحاصل: إن المسألة ليست مرتبطة بصورة الفعل الذي يأتي به العبد، بل الأمر يعود إلي لبّ ذلك الفعل وجذره وهو التوحيد، ولكن بعد أن أثبتنا ضرورة التوسّل فضلًا عن مشروعيته، بل شرطيته في صحّة العقيدة والأعمال، يكون الأمر علي عكس ما ذكروه من أن التوسّل بغير اللَّه تعالي يوجب الكفر والخروج

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 228

عن العقيدة التوحيدية، بل نقول: إن ترك التوسّل والتوجّه يوجب الجحود والاستكبار والكفر والخروج عن عقيدة التوحيد.

كذلك من الجدير بالإلتفات أن ثبوت ضرورة التوسّل بآيات اللَّه وكلماته من الأنبياء والأولياء والأوصياء معناه ضرورة الإرتباط بكائن حيّ بشري يربطنا مع الحيّ القيوم، فلابدّ من استشعار ضرورة وجود نموذج بشري نرتبط به وله القدرة علي أن يكون حلقة الوصل

بين اللَّه عزّ وجلّ وبين عبيده، وليس ذلك إلّا لعظمة اللَّه تعالي وتنزّهه عن التشبيه والتجسيم والتعطيل.

وفي غير هذه الصورة تكون جميع المناسك العبادية كمناسك الحجّ عبارة عن جمادات لا حيوية فيها، وهذا يعطي استشعاراً بأننا نعظّم أحجاراً جامدة لا حيوية فيها ولا تماسّ لها باللَّه الذي لا إله إلّاهو الحيّ القيوم.

بعد هذا البيان الموجز نقول:

إن المنكرين لمشروعية التوسّل استدلّوا علي دعواهم ببعض الأدلّة، وهي بعد بيان ما هو الحقّ في المسألة وأن التوسّل ضرورة لابدّ منها تكون شبهات وتلبيسات لابدّ من الإجابة عنها، وهذه عمدتها:

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 229

شبهات المنكرين لجواز التوسّل … ص: 229

الشبهة الأولي: التوسّل عبادة لغير اللَّه تعالي … ص: 229
اشارة

إن الدعاء عبارة عن النداء وطلب الحاجة، ولا شك أن الدعاء عبادة للمدعو؛ لأن الدعاء فيه نوع من التوجّه والقصد والنيّة، وهذه الأمور هي روح العبادة وقوامها، ولذا ورد في الحديث «أن الدعاء مخ العبادة وجوهرها».

وبالتالي يكون دعاء غير اللَّه تعالي وندبته وطلب الحاجة منه عبادة له، وهو من أوضح أنواع الشرك في العبادة.

ويعبّر عنه بالشرك الصريح أو الشرك الأكبر، الذي يوجب الرّدة والارتداد عن الدين والمنافاة لأوليّات الدين الاسلامي، والخروج عن المواثيق والعهود التي التزم بها الشخص بالتزامه وتشهّده الشهادتين.

مع العلم أن جميع طقوس العبادة لا تبلغ درجة الدعاء الذي هو قوام حقيقة العبودية، وهو نوع افتقار إلي الباري تعالي.

والحاصل: إن الدعاء والنداء وطلب الحوائج من غير اللَّه تعالي من أغلظ أنواع العبادة والتأليه للشخص المدعو، وهو عبارة عن الشرك الصريح أو الأكبر.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 230

الجواب عن الشبهة الأولي: … ص: 230

كان خلاصة الشبهة هو أن الدعاء والنداء وطلب الحاجة عبادة لا تجوز لغير اللَّه تعالي.

والجواب عن هذه الشبهة اتضح ضمناً سابقاً في بيان ما هو الحقّ في المسألة، وأن الدعاء بمعني النداء، والطلب إنما يكون عبادة للمدعو إذا اعتقد الداعي أن المدعو مستقل بالقدرة غني بالذات، وأما إذا اعتقد الداعي أن المدعو لا يستقل بالقدرة، بل يستمد القدرة من الباري تعالي وأن الحول والقدرة التي لديه هي من الباري تعالي وأن المدعو إنما حصل عليها لمكان حظوته وقربه عند الباري وأن الداعي إنما يدعوه نظراً لقربه ووجاهته من الباري وأن تكريم اللَّه له بالقرب والوجاهة حفاوة منه تعالي وإذن منه للاستشفاع والتوسّل والتوجّه به إليه عزّوجلّ، فإن دعاء ذلك الغير يعدّ حينئذٍ توجّهاً وقصداً إلي الحضرة الإلهية، لأن قصد القريب من الحضرة الإلهية قصد للحضرة، كما أن

الصدّ والإعراض عن القريب ابتعاد عن الحضرة الإلهية، فدعاء ذلك الغير هو دعاء للَّه بآياته العظيمة ودعاء له بأسمائه الحسني التي يظهر بها.

وينقض أيضاً علي هذه الشبهة بطلب الحيّ الحاجة من الحيّ، مثل طلب العلاج من الطبيب، وطلب البناء من البنّاء، واصلاح الزراعة من الزرّاع، فإنه لا ريب في عدم توقّف أحد من المسلمين، بل ولا من البشر عموماً في ذلك.

ولم يقل أحد أن ذلك يوجب كفراً أو زندقة أو شركاً، والحال إنه علي مقتضي كلامهم لابدّ أن يكون ذلك كفراً وشركاً؛ لأن الحدّ الذي ذكروه لبيان معني الشرك ينطبق علي نداء الحيّ للحيّ وطلب الحيّ الحاجة من الحيّ واستغاثته به، كما

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 231

في قوله تعالي: «فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ» «1»

وكذا في التوسّل والتشفّع وتوسيط الحيّ للحيّ، فإنه لم يدّع أحد أن ذلك من الشرك والكفر، مع أن حدّ الشرك الذي زعموه ينطبق عليه تماماً.

لا سيما وأن هذه المباحث من المباحث العقلية التكوينية وهي لا تقبل التخصيص، بخلاف المباحث الاعتبارية الجعلية التي قد لا تكون مطّردة في جميع المصاديق.

ثم إن أصحاب هذه المقالة حاولوا أن يجيبوا عن هذا النقض بجوابين:

الأول: إن سؤال الحيّ الحاضر بما يقدر عليه والاستعانة به في الأمور الحسّية التي يقدر عليها ليس ذلك من الشرك، بل من الأمور العادية الحياتية الجائزة بين المسلمين.

الثاني: إن الأمور العادية والأسباب الحسّية التي يقدر عليها المخلوق الحيّ الحاضر ليست من العبادة، بل تجوز بالنصّ والاجماع، بأن يستعين الإنسان بالإنسان الحيّ القادر في الأمور العادية، التي يقدر عليها كأن يستعين به أو يستغيث به في دفع شرٍ ولده أو خادمه أو كلبه، وما أشبه ذلك، وكأن يستعين الانسان بالانسان الحيّ الحاضر القادر أو الغائب بواسطة

الأسباب الحسّية، كالمكاتبة ونحوها في بناء بيته أو إصلاح سيارته أو ما أشبه ذلك، ومن ذلك الاستغاثة التي جرت لأحد بني إسرائيل عندما استغاث بموسي عليه السلام في قوله تعالي: «فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَي الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ» «2»

، وكذا استغاثه

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 232

الانسان بأصحابه في الجهاد أو الحرب أو نحو ذلك، وأما الاستغاثة بالأموات والجنّ والملائكة والأشجار والأحجار فذلك من الشرك الأكبر، وهو من جنس عمل المشركين الأوّلين مع آلهتهم كاللّات والعزّي وغيرهما.

دفع الجوابين: جحود التوسّل يستند إلي التفويض … ص: 232

أما الجواب الأول: فالوهن فيه واضح؛ لأنه يقول الاستعانة بالانسان الحيّ القادر علي الأمور العادية الحسّية ليس من الشرك، وكونه حيّاً أو ميّتاً لا يؤثّر في تحقّق الغيرية مع اللَّه عزّ وجلّ، والشرك- بحسب زعمهم- قائم بالغيريّة مع اللَّه تعالي، والغيريّة لغة وعقلًا لا تختلف سواء جعل مصداق الغير والغيريّة الحيّ أو الميّت، فإن أحد الأجزاء المقوّمة لحصول الشرك كما ذكروا هو ضمّ غير اللَّه تعالي إليه، وهذا لا يختلف في تحقّقه سواء كان الغير حيّاً أو ميّتاً، فالتفريق بلا فارق.

وأما ما ذكروه من التعلّق بالقادر، حيث قيّد الجواب بالقادر، فنقول فيه: إن كانت القدرة التي يعتقدها للحيّ نابعة من ذاته بلحاظ الاستقلال لا من إقدار اللَّه عزّ وجلّ وتمكينه فهو الشرك الأكبر، وقد كرّ هذا المجيب علي ما فرّ منه.

وأما إن كان يعتقد أن هذه القدرة من اللَّه تعالي ومضافة إلي المخلوق من قبل الخالق فأي فرق بين الحيّ والميت؟! فكما قد يُقدر تعالي الحيّ يُقدر روح الميّت علي ما أقدر عليه الحيّ.

ثم إنه لا معني للتفريق أيضاً بين الاستعانة بالأمور العادية وغيرها، فهل إن

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 233

قدرة اللَّه تعالي تنحسر في الأمور العادية والحسّية ويكون هناك ندّ

فيها لقدرة الربّ عزّ وجلّ وهي قدرة الحيّ الحاضر؟! فإن هذا هو القول بالثنوية، ومعناه أنه في الأمور غير العادية لابدّ من التوحيد بقدرة الربّ فيها وأما في الأمور العادية فنؤمن بالثنوية.

وحيث أن الثنوية باطلة وشرك صريح فلابدّ من التوحيد في جميع الأفعال الإلهية، وأنها كلّها تستند من دون جبر إلي الباري عزّ وجلّ، من دون أي درجة من درجات التفويض، وحينئذٍ يستوي الحال في الأمور العادية والأمور غير العادية.

جحود التوسّل يستند إلي المذاهب الحسيّة المادية: … ص: 233

ثم ما هو الفرق في التوسّل في شفاء مريض علي يد طبيب نادرة زمانة وبين التوسّل بأحد أولياء اللَّه تعالي في الشفاء؟!

فإن مورد الحاجة في هذا المثال عادي، فهل الكلام في مورد الحاجة وأنه لابدّ أن يكون من الأمور العادية أو في السبب المتوسل به؟ وما هو الفرق في السبب بين العادي وغير العادي إذا كان الأمر بيد اللَّه تعالي وهو علي كلّ شي ء قدير؟!

مع أن الأدلّة الشرعية والدراسات الحديثة العلمية أثبتت أن طاقات البدن البرزخي لا تقاس بطاقات بدننا المادّي وقدرته، وأن البدن البرزخي يحتوي علي طاقات هائلة تفوق قدرة أبداننا المادّية بكثير جدّاً، وعليه كيف نتصور أن الحيّ قادر علي قضاء الحوائج بما لا قدرة للميت عليه بروحه وبدنه البرزخي؟!

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 234

أضف إلي ذلك كلّه أن تقييد الاستعانة والتوسّل بالأمور الحسّية ناشي من الايمان بأصالة الحسّ والمادّة والتنكّر للعوالم المخلوقة الأخري التي ما وراء الحسّ والمادّة، وأن كلّ ما غاب عن الحسّ ينكر، وهذا الكلام أشبه بالفلسفات المادّية الحسّية، التي آمنت بأضعف العوالم وأدني المراتب الوجودية وتنكّرت لبقيّة العوالم العلوية.

هذا بالنسبة إلي دفع الجواب الأول.

تفصيل الجاحدين للتوسّل في الوسائط: … ص: 234

وأما الجواب الثاني: إن صاحب الشبهة بعد أن استشعر أن الجواب الأوّل غير موزون من الناحية العقلية تشبّث بالنصّ والإجماع وأن توسّل وتشفّع الحيّ بالحيّ في الأمور العادية الحسّية جائزة بالنصّ والإجماع، وأما الاستغاثة والتوسّل بالأموات فهو من جنس عمل الوثنية.

والتمسّك بالدليل النقلي في المقام، سواء في جانب الجواز أو النفي غير تام من وجوه:

الأول: إن بحث الشرك بحث عقلي لا سيما في الشرك الأكبر، فهو من أوليّات العقيدة التي للعقل فيها دور ومجال واسع، وإذا كان عقلياً يرد عليه ما ورد في الدفع الأول، من

أن حكم العقل وانطباق حدّ الشرك علي الحيّ الحاضر والميّت سواء.

الثاني: الاستدلال علي التحريم بأن الطلب من الأموات من جنس عمل الوثنيين، تمسّكاً بعموم دليل التحريم، مع أن موضوعه ومصبّه ما لم يأذن به اللَّه

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 235

عزّ وجلّ، إذ سبق أن محطّ ومصبّ انكار العقيدة الوثنية في القرآن الكريم هو التوجّه إلي ما لم يأذن به اللَّه تعالي ولم ينزل به سلطاناً، وكونه تحكيماً لسلطان العبيد وإرادتهم علي سلطان اللَّه وإرادته، ولم يكن المحذور في أصل الوساطة، وسبق أيضاً أن اللَّه عليّ حكيم، متعال عن الجسمية والتجسيم وحكيم غير معطّل، فلابدّ من الوسائط والحجج، والعبادة إنما تتحقّق بالطوعانية للَّه تعالي وإن كان التوجّه بالفعل إلي الحجر كالتوجّه إلي الكعبة الشريفة، والشرك إنما يتحقّق بالاستكبار علي اللَّه تعالي حتّي مع نفي الواسطة كما في إبليس.

الثالث: إذا كان توسيط غير اللَّه تعالي شركاً، فكيف يعقل تجويزه بالنصّ؟! فإن اللَّه عزّ وجلّ لا يأمر بالشرك.

وهذا يعني أن توسيط الغير بحدّ ذاته ليس شركاً، فإذا جازت الاستغاثة بالحيّ لقيام النص والاجماع، أي الإذن الشرعي، فلا فرق إذن في الاستغاثة بين الحيّ والميّت ما دام المجوّز لذلك هو الإذن، إذ يتّضح أن المدار في الشرك ليس علي الغيرية مع اللَّه تعالي كما فرضه القائل، بل علي الإذن وعدمه وعلي وجود الأمر وعدمه، وقد أذن اللَّه عزّ وجلّ بذلك في كثير من الآيات القرآنية، كما تقدّم في قصة آدم وغيرها.

الشبهة الثانية: التوسّل خلاف كلمة التوحيد … ص: 235
اشارة

إن التوجّه والقصد والدعاء والنداء لغير اللَّه عزّ وجلّ ينافي مقتضي كلمة التوحيد، وهي قول (لا إله إلّااللَّه).

بيان ذلك:

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 236

اختلف المفسّرون في بيان قول (لا إله إلّااللَّه):

فهل المراد من تلك الكلمة المباركة التوحيد في الذات أو التوحيد

في الصفات والأسماء أو التوحيد في الأفعال أو التوحيد في الخضوع والعبادة؟

وهذا الاختلاف ناشئ من الاختلاف في تفسير معني الألوهية (لا إله) وتفسير معني لفظة (اللَّه).

فهل اسم الجلالة علم للذات أو هو اسم مشتقّ من التأليه؟

فإن كان مشتقّاً من التأليه وباقٍ علي المعني الوصفيّ حينئذٍ يكون المعنيان متحدّين أو متقاربين.

وأما إذا كان لفظ الجلالة في الأصل علماً للذات فيكون علي خلاف المعني الأول وهو الألوهية والتأليه في مقطع (لا إله).

وكيفما كان؛ فإن لفظ (إله) الذي جاء في كلمة التوحيد معناه في اللغة من أله يأله إذا تحيّر، ومعني ولاه أن الخلق يولهون إليه في حوائجهم ويضرعون إليه فيما يصيبهم، ويفزعون إليه في كلّ ما ينوبهم، كما يوله كلّ طفل إلي أمه «1».

إذاً فالمعني اللغوي يتضمّن طلب الشي ء والتوجّه نحوه.

وأما الإله في الاصطلاح:

فقد اختلفوا في بيان معناه؛ فبعض قال: هو بمعني الاتجاه والقصد، وبعض آخر فسّره بالحبّ والعشق، وثالث قال: وله يأله من عبد يعبد، ورابع قال: وله يأله بمعني اتخذه ربّاً وخالقاً، وغير ذلك من المعاني التي ذكرت لمعني (إله).

ولكن اتفقوا علي أن التأليه فعل المخلوق، فأله ووله إنما يحكي شأن

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 237

المخلوق وهو التوحيد في العبادة، وأما توحيد الذات أو الصفات أو الأفعال فإنما هو مرتبط بالواقعية ونفس الأمر، وأن هناك ذات واجبة قيّومة غنية الذات لها الأسماء الحسني والكلمات التامّة وهذا كلّه غير مرتبط بفعل المخلوقات.

ولذلك يقال إن كلمة (لا إله إلا اللَّه) تختلف عن التعبير ب (يامن لا هو إلّاهو)، فإن مفاد هذه العبارة غير مرتبط بفعل العبد، بل هو إخبار عن نفي أي ذات مستقلة واجبة الوجود إلّاذات اللَّه عزّ وجلّ.

ولكن عندما نقول: (لا إله إلا اللَّه) فإن التأليه

فيه مادّة مأخوذة من فعل العبد وليس هو وصفاً أو معنيً قائم بذات واجب الوجود.

ومن ثم يقال إن النبيّ صلي الله عليه و آله بعث بكلمة (لا إله إلّااللَّه) ولم يبعث ب (يا من لا هو إلّا هو)، إذ أن هذا توحيد الذات، والبشريّة قد أقرّته واعتقدت به، وهي الآن في خطيً متقدّمة من التوحيد الأفعالي والتوحيد في العبودية.

والخلاف في زمن البعثة مع المشركين ليس في توحيد الذات، بل في توحيد العبودية وتوحيد الدعاء والطلب والتوسّل والتوجّه أو في توحيد الأفعال باسنادها إلي اللَّه عزّ وجلّ.

فالنبيّ صلي الله عليه و آله بُعث بالتوحيد في الألوهية والعبادة والخضوع والخشية والوله والتوجّه، فلابدّ من ترك الدعاء والتوسّل والعبادة لغير اللَّه تعالي، وهو ما كان عليه مشركي العرب.

والحاصل: أن معني الشرك الذي حاربه الاسلام بكلمة التوحيد هو جعل أنداد للَّه تعالي يستغاث ويتوسل بهم، فالتوسل جاهلية جديدة استُبدلت بالجاهلية القديمة.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 238

الجواب عن الشبهة الثانية: … ص: 238

كان حاصل هذه الشبهة هو أن مقتضي قول: (لا إله إلّااللَّه) هو التوحيد في العبادة، فإذا دعي غير اللَّه عزّ وجلّ كان هذا نوعاً من العبادة والتأليه لغير اللَّه عزّ وجلّ.

والجواب عن هذه الشبهة اتضح مما ذكرناه في الدليل العام وكذلك ما ذكرنا من الجواب علي الشبهة الأولي، وحاصله: أن التوسّل بالوسائط الإلهية التي أمر اللَّه عزّ وجلّ بالتوجّه إليها هي عبادة للَّه تعالي وطاعة وانصياعاً لأوامره وليس هو عبادة للوسائط، بل قلنا إن التوسّل طوعانية للأوامر الإلهية وهو عين التوحيد التام، فالتوسل مقتضي التوحيد في العبادة وجحوده وإباؤه هو الاستكبار والكفر المنافي لكلمة التوحيد، ونبذ التوسّل جاهلية إبليس الذي أبي واستكبر وكان من الكافرين، فالتوسّل بالوسيلة المنصوبة للَّه تعالي هو قصد للَّه والصدّ عن تلك الوسيلة صدّ

عن التوجّه إليه تعالي؛ لأن المفروض أن تلك الوسيلة والآية والكلمة هي علامة يُهتدي بها إليه تعالي، وتفتّح بها أبواب سماء الحضرة الإلهية، والعلامة سمة ووسم وإسم إلهي يُدعي به، بل إن قول القائل التوسّل باللَّه معني مقلوب غير صحيح، فإنّ الباري تعالي لا يجعل وسيلة إلي غيره؛ إذ ليس وراء اللَّه منتهي ولا غاية كي يجعل هو تعالي واسطة إليها، بل هو غاية الغايات، وإلي شموخ عظمته توسّط الوسائط ويتوسّل بالوسائل، وقد تقدّم أن الاعتقاد بضرورة الواسطة والوسيلة إلي اللَّه تعالي هو حاقّ حقيقة تعظيم اللَّه وتنزيهه، ولم ينكر القرآن علي المشركين هذه العقيدة، وهي ضرورة الحاجة إلي الوسيلة بين العبيد وخالقهم؛ ليقتربوا من خالقهم، لضرورة الحاجة إلي التقرّب والنجاة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 239

من البعد من جهة العبيد، وإن كان الباري تعالي قريب من كل مخلوقاته علي السواء، إلّاأن مخلوقاته ليست في القرب منه علي استواء ولا في القرب من عظمته ونوره وعلمه وقدرته علي سواسية، فضرورة الحاجة إلي الوسيلة والقيام بالتقرب ضرورة نابعة من العبودية والفقر إلي الغني المطلق، وهذا ما لم ينكره القرآن علي المشركين، كيف وهي عين التوحيد والتعظيم، بل إنما أنكر عليهم اتخاذ الوسائل والوسائط من قبل أنفسهم ومن قرائحهم ومن فرض إرادتهم في تعيين الوسيلة علي إرادة اللَّه، وهي من تكبّر المعبود علي العابد، فالإنكار عليهم نشأ من كونهم توسّلوا بوسائل وأسماء ما أنزل اللَّه بها من سلطان، ومن ذلك يكون الجاحدون لضرورة التوسّل بالوسائط المنصوبة من قبله تعالي أشدّ جاهلية من المشركين؛ لأنهم لا يرجون للَّه وقاراً ولا تعظيماً، فيجعلون الباري تعالي منالًا تحت أيديهم، لأن إنكار الحاجة إلي الوسيلة والوسائل هو إنكار لعظمة اللَّه وكبريائه وعلوّ شأنه ورفعته

وعزّته وجبروته وكينونته بالأفق الأعلي، في حين قاهريته تعالي وهيمنته علي تمام مخلوقاته وأنه خبير بصير، إلّاأن الحال من ناحية المخلوق تجاه الخالق هو بُعد المخلوق عن معرفة خالقه وبعده عن مقام الزلفي لباريه وكذا بعده عن حظوة الكرامة عند خالقه، وبعده عن استحقاق الإجابة والمنّ والتفضّل الإلهي، بعد كون المخلوق في حُجب التقصير والقصور والجهل والجهالة، مما يستحق بها الطرد لا القرب والإبعاد لا الدنو والعقوبة لا الثواب والحرمان لا الإنعام، فكل هذه الحجب المانعة عن القرب يزيلها العبد بوجاهة الوسيلة عند الربّ العظيم، لا سيّما وأن اللجوء إلي الوسيلة التي هي آية للربّ المتعال هو لُجأ إلي الجناب الإلهي،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 240

وتعظيمها تعظيم للفعل الإلهي وزيادة خضوع للربّ بالخضوع إلي ما هو بمنزلة صفاته في مقام الفعل فضلًا عن مقام ذات عزّه تعالي.

الشبهة الثالثة: التوسّل مخالف للآيات القرآنية … ص: 240
اشارة

حاول أصحاب هذه الشبه الاستناد إلي بعض الآيات القرآنية، وادّعوا أنها تدلّ علي أن التوسّل والقصد لا يكون إلّاللَّه عزّ وجلّ، وأن التوسّل بغيره شرك وإلحاد، منها الآيات التالية:

1- قوله تعالي: «وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَي فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» «1».

فقوله تعالي: «فَادْعُوهُ بِهَا» معناه أنه في مقام الدعاء والتوجّه لا يُدعي إلّا بأسماء اللَّه عزّ وجلّ، وأما غير الأسماء الإلهية فيشملها قوله تعالي: «وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ» أي ينحرفون عنها إلي أسماء المخلوقات، كقول القائل: يا محمّد ويا عليّ ويا فاطمة، فإن هذا- بحسب زعمهم- انحراف وإلحاد في أسماء الباري تعالي.

2- قوله تعالي: «وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا» «2».

3- قوله تعالي: «وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَايَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ» «3».

4- قوله تعالي: «ذَلِكَ

بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 241

اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» «1».

5- قوله تعالي: «قُلْ إِنَّمَا أَدْعُواْ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا» «2».

هذه الآيات المباركة لسانها واحد واستدلالهم بها قريب من الاستدلال بالآية الأولي، حيث أن هذه الآيات القرآنية تنهي عن أن يدعو الإنسان مع اللَّه أحداً، أي لا يعبد مع اللَّه مخلوقاً من المخلوقات، وإذا كان الدعاء روح العبادة وقوامها فسوف يكون منهيّاً عنه بمقتضي صريح هذه الآيات الكريمة؛ لكونه من الشرك الصريح.

6- قوله تعالي: «وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» «3».

7- قوله تعالي: «إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ» «4».

وهذا اللسان من الآيات القرآنية يؤكّد علي أن التوجّه إلي الغير بغية الاستنصار به شرك ومغالاة يوجب الخذلان الإلهي.

8- قوله تعالي: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَايَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ» «5».

9- قوله تعالي: «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَي اللَّهِ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 242

زُلْفَي» «1».

فهاتان الآيتان دلّتا علي وجوب نبذ مقالة المشركين الذين جعلوا أصنامهم شركاء في الدعاء والتوسّل والتقرّب والتشفّع والوساطة بينهم وبين اللَّه عزّ وجلّ، والإسلام جاء لكسر مثل هذه الأصنام وإبطال عقيدة الصنمية والوثنية والمغالاة والتشفّع والتوسّل بغير اللَّه تعالي، وهو ما ابتلي به مشركو العرب، إذ لم يكن شركهم في ذات اللَّه تعالي أو صفاته، بل كان شركهم شركاً في العبادة والدعاء والاستغاثة والتوسّل.

فيُعلم من هذه الآيات أن التوحيد في العبادة والدعاء والاستغاثة والتوسّل أساس الدين، وهدف الرسالة الإسلامية الخاتمة، وذلك لأن صحة الأعمال والنسك العبادية مشروطة بصحّة العقيدة، فمن يعمل ويعبد وكان في

معتقده الدينيّ شي ء من الغلو والصنمية للأشخاص يحبط عمله كلّه، ويستدلّون لذلك بقوله تعالي: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ» «2»

، وقوله تعالي: «وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» «3»

، فصحّة العقيدة بالتوحيد شرطاً في صحة وقبول الأعمال، ولابدّ حينئذٍ من نبذ كلّ ما يوجب الشرك وبطلان العقيدة، كالتشفّع والتوسّل بغير اللَّه تعالي.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 243

الجواب عن الشبهة الثالثة: … ص: 243
اشارة

الشبهة الثالثة عبارة عن تمسّكهم ببعض الآيات القرآنية التي زعموا أنها تنهي عن التوجّه والقصد إلي غير اللَّه عزّ وجلّ منها:

قوله تعالي: «وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَي فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ» «1»

، فلا يجوز التوسّل والدعاء بغير الأسماء الحسني التي جاءت في قوله تعالي: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُواْ فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَي» «2».

إذن لابدّ من التوحيد في الدعاء الذي هو مخّ العبادة ولا يجوز القصد والتوجّه في الدعاء إلي غير اللَّه عزّ وجلّ وأسمائه الحسني؛ لأنه شرك وإلحاد بالأسماء الإلهية.

الجواب الأول: حقيقة الأسماء الالهية مستند للتوسّل … ص: 243

في البدء لابدّ من الإجابة عن التساؤل التالي:

ما هو المراد من الأسماء الإلهية الواردة في الآيات المباركة؟

الاسم في اللغة عبارة عن السّمة والعلامة.

قال ابن منظور: (واسم الشي ء علامته).

(قال أبو العباس: الاسم وسمة توضع علي الشي ء يُعرف به، قال ابن سيدة:

والاسم اللفظ الموضوع علي الجوهر أو العرض لتفصل به بعضه عن بعض، كقولك مبتدئاً: اسم هذا كذا).

(قال أبو إسحاق: إنما جعل الاسم تنويهاً بالدلالة علي المعني) «3».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 244

إذن اسم الشي ء سمته وعلامته وصفته الدالّة عليه.

والأسماء والصفات تنقسم إلي ذاتية وفعلية، فللّه تعالي أسماء وصفات ذاتية هي عين ذاته غير زائدة عليها، وله عزّ وجلّ أسماء وصفات فعلية هي عين فعله.

فالقدرة والعلم والحياة صفات ذاتية يُشتقّ منها القادر والعالم والحيّ، وهي أسماء ذاتية غير زائدة علي الذات الإلهية المقدّسة.

والخلق والرزق والتدبير والربوبية والحكم والعدل وغيرها صفات فعلية يشتقّ منها أسماء فعلية، هي الخالق والرازق والمدبّر والربّ والحكم والعدل، ولا ريب أن الأسماء الفعلية غير الذات وليست عينها مخلوقة لها مشتقّة من أفعاله عزّ وجلّ.

ولا ريب أيضاً أن جملة وافرة من الأسماء الإلهية هي أسماء فعلية مشتقّة من أفعاله ومخلوقاته تعالي.

والمخلوق

يكون اسماً للَّه عزّ وجلّ بملاحظة صدوره من خالقه وأنه فقير له متقوّم به ليس له من نفسه شي ء، دالّ بسبب افتقاره بما فيه من كمال علي كمال خالقه وباريه، فهو سمة وعلامة علي صانعه، وما فيه من عظمة وحكمة دالّة علي عظمة وحكمة الخالق؛ إذ ليس له من ذاته إلّاالفقر والاحتياج.

الجواب الثاني: الكلمة والآية: … ص: 244

إن الكلمة والآية مع الاسم متقاربة المعني متّحدة المضمون، فهي وإن لم تكن ألفاظاً مترادفة، إلّاأن مضمونها والمراد منها في اللغة وفي القرآن الكريم واحد، وهو الدلالة علي الشي ء والعلامّية والمرآتية له.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 245

ففي لسان العرب:

(الآية العلامة) (وأيّا آية: وضع علامة).

وفيه أيضاً: (وقال ابن حمزة: الآية في القرآن كأنها العلامة التي يفضي منها إلي غيرها كأعلام الطريق المنصوبة للهداية) «1».

كذلك قال في اللسان:

(كلمات اللَّه أي كلامه وهو صفته وصفاته) «2».

أضف إلي ذلك أن الكلمة في حقيقتها دالّة علي مراد المتكلم وكاشفة عنه.

إذن الأسماء والآيات والكلمات في شطر وافر منها عبارة عن مخلوقات دالّة بوجودها علي وجود صانعها، ودالّة بعظمتها واتقانها وهادفيتها علي عظمة وقدرة وحكمة الباري عزّ وجلّ، ومن ثمّ يكون كلّ مخلوق إسماً من أسماء اللَّه تعالي وآية من آياته وكلمة من كلماته، ولكن الأسماء والآيات والكلمات علي درجات في الصغر والكبر، فكلّما كان الاسم أعظم والآية أكبر، لما أعطيت من المقامات والكرامات الإلهية كلّما كانت آيتيّة ذلك المخلوق وإسميته أعظم، لا سيما المخلوق الأول وهو نور النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام.

وقد ورد هذا الاستعمال في القرآن الكريم في موارد كثيرة جدّاً، منها:

1- قوله تعالي: «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً» «3».

2- قوله تعالي: «وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص:

246

آيَةً لِلْعَالَمِينَ» «1».

3- قوله تعالي: «إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ وَجيِهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» «2».

4- قوله تعالي: «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَي مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ» «3».

5- قوله تعالي: «هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ* فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الِمحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَي مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» «4».

فقد أطلق في هذه الآيات المباركة علي مريم عليها السلام أنها آية، وعلي عيسي عليه السلام أنه كلمة اللَّه وآيته للعالمين.

6- قوله تعالي: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَي الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» «5».

7- قوله تعالي: «فَتَلَقَّي ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» «6».

8- قوله تعالي: «وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 247

إِمَامًا» «1».

9- «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَامُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ» «2».

فإن هذه المخلوقات العظيمة عند اللَّه عزّ وجلّ أسماء وآيات وكلمات وعلامات للَّه تعالي، وحينئذٍ تكون مشمولة لإطلاق قوله تعالي: «وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَي فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ» «3»

فهذه الآية المباركة وغيرها، التي ذكروها للتدليل علي مدّعاهم لا تعني النهي عن التوجّه إلي اللَّه عزّ وجلّ بالوسائط، بل هي توجب وتعيّن التوجّه إلي اللَّه تعالي بأعاظم مخلوقاته وأسمائه الفعلية.

إذن ليست الآية المباركة غير صالحة للاستدلال بها علي مدّعاهم فحسب، بل هي تحكمهم وتدينهم بالإلحاد عن أسمائه وتنصّ علي ضرورة توسيط الأسماء الإلهية والمخلوقات الوجيهة عند اللَّه تعالي، ولابدّ من عدم الالحاد فيها والاعراض عنها في الدعاء.

لكن لابدّ

من الالتفات إلي أن النظرة إلي الوسائط لابد أن لا تكون نظرة استقلالية وموضوعية وبما هي هي، بل لابدّ أن تكون نظرة آلية حرفية آيتيّة، أي بما هي يُنظر بها إلي اللَّه تعالي، فالتوجّه بها لا إليها بما هي هي.

وبناء علي ذلك يكون التعاطي مع الأسماء والآيات والوسائط علي ثلاثة مناهج:

الأول: منهج إبليس وهو رفض وساطة الآيات والأسماء والمخلوقات

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 248

الوجيهة عند اللَّه عزّ وجلّ وإنكارها والإلحاد بها والصدّ عنها، وهذا شرّ المناهج، وهو الكفر والحجاب الأعظم؛ إذ مع الالحاد في تلك المخلوقات العظيمة والأسماء الإلهية لا يمكن التوجّه والزلفي إلي اللَّه عزّ وجلّ؛ لأنه ليس بجسم وهو حقيقة الحقائق والمقوّم لها، فلا يجابه ولا يقابل، فلابدّ من التوجّه إلي المظاهر والمجالي والآيات.

الثاني: وهو منهج المغالين الذين ينظرون إلي الأسماء الإلهية بالنظرة الاستقلالية وبما هي هي ويتوجّهون إليها لا بها، وهذا أيضاً من الشرك والحجاب الذي يمنع عن معرفة اللَّه تعالي، ولكنّه أهون من سابقه؛ إذ أصحابه علي سبيل نجاة فيما إذا شملهم اللَّه عزّ وجلّ بلطفه ورأوا ما وراء الآية من الحقائق، بخلاف من أعرض عن الآية بالمرّة.

الثالث: التوجّه بالآيات وتوسيطها في الدعاء، وهذا هو التوحيد التام الذي يوصل إلي معرفة اللَّه تبارك وتعالي.

فالنظرة في هذا المنهج إلي الأسماء الإلهية الفعلية من حيث هي مخلوقة للباري تعالي ومرتبطة به ومفتقرة إليه ودالّة عليه، وأكرم المخلوقات وأعظم الآيات هم النبيّ الأعظم صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام؛ إذ حباهم اللَّه عزّ وجلّ بالكرامات والمقامات التكوينية، التي تفضل جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة المقرّبين، فهم عليهم السلام الأسماء التي تعلّمها آدم وفُضل بها علي الملائكة كلّهم أجمعون، وذلك بنصّ سورة البقرة في

قوله تعالي: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَي الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» «1»

، حيث

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 249

جاء التعبير فيها ب (عرضهم) ولم يقل: عرضها، وكذا التعبير ب (هؤلاء) ولم يقل:

هذه، كلّ ذلك يدلّ علي أن تلك الأسماء موجودات نورية مخلوقة حيّة شاعرة عاقلة، أفضل من جميع الملائكة، ولم يعلم بها الملائكة ولا يحيطون بها وهي تحيط بهم وهي أوّل ما خلق اللَّه تعالي، فهم عباد ليس علي اللَّه أكرم منهم، أُسند إليهم ما لم يسند إلي غيرهم، ومكّنهم اللَّه عزّ وجلّ ما لم يمكّن به غيرهم بإرادته وإذنه وسلطانه.

والحاصل: إن تلك الآيات التي ذكروها لنفي التوسّل تدلّ علي ضرورة التوجّه والتشفّع والتوسّل بالآيات الكبري، والأسماء الفعلية الحسني والعظمي وهم محمّد صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام- إلي اللَّه عزّ وجلّ، والباء في قوله تعالي:

«فَادْعُوهُ بِهَا» للتوسيط وجعل الآيات والأسماء واسطة؛ ولذا ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال:

«يا هشام اللَّه مشتق من إله، وإله يقتضي مألوهاً، والاسم غير المسمّي، فمن عبد الإسم دون المعني فقد كفر ولم يعبد شيئاً، ومن عبد الاسم والمعني فقد أشرك وعبد الإثنين، ومن عبد المعني دون الإسم فذاك التوحيد، أفهمت يا هشام؟ قال: قلت: زدني، قال: للَّه تسعة وتسعون إسماً فلو كان الإسم هو المسمي لكان كل إسم منها إلهاً، ولكن اللَّه معني يُدلّ عليه بهذه الأسماء وكلّها غيره، يا هشام الخبز اسم للمأكول والماء اسم للمشروب والثوب اسم للملبوس والنار إسم للمحرق، أفهمت يا هشام فهماً تدفع به وتناضل به أعداءنا المتخذين مع اللَّه عزّ وجلّ غيره، قلت: نعم، فقال: نفعك اللَّه به وثبّتك يا هشام،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 250

قال: فواللَّه

ما قهرني أحد في التوحيد حتي قمت مقامي هذا» «1»

، فبيّن عليه السلام أن الإسم غير المسمي وهو الذات الإلهية ومغاير لها، ولو كان الاسم هو عين الذات الإلهية لكان كل اسم إلهاً ولتكثرت الآلهة، ولكن اللَّه ذات أحدية واحدة يُدلّ عليه وله علامات هي هذه الأسماء المتكثرة المتعدّدة، فالأسماء آيات وعلامات وكلمات دالّة ووسيلة إلي الذات، فظهر أن قوله تعالي: «لِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَي فَادْعُوهُ بِهَا» «2»

برهان قرآني علي ضرورة الوسيلة، وهي الكلمات والآيات الإلهية، بأن يدعي اللَّه بها، فلا يُدعي اللَّه بدونها، بل لابدّ من توسيطها في دعاء اللَّه، وذلك بالتوجّه بها إليه، فلابدّ من تعلّق التوجّه بها كي يتوجّه منها إلي اللَّه، ولابدّ من تعلّق الدعاء بها ليتحقّق دعاء اللَّه تعالي، وقد جعلت الآية الإعراض عن الأسماء والكلمات والآيات الإلهية إلحاداً ومجانبة وزيغاً عن الطريق إلي اللَّه، ومن ثمّ قد أُكّد في الآية أن الأسماء الإلهية بكثرتها الكاثرة هي برمّتها ملك للَّه تعالي مملوكة له، فالاستخفاف بها استخفاف بالعظمة الإلهية، وجحود وساطتها استكبار وتمرّد علي الشأن الإلهي، ومنه يعرف اتحاد الإسم والوجه وأن الأسماء هي وجه اللَّه التي يتوجّه بها إليه، وأن من له وجاهة ووجيه عند اللَّه هو وجه للَّه يتوجّه به إليه تعالي، فيكون إسماً وآية وكلمة للَّه تعالي.

نعم بين الأسماء والكلمات والآيات درجات وتفاضل في الدلالة عليه تعالي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 251

عظمة وكبراً.

وذلك لأن الاسم إذا كان من أسماء الأفعال يكون مخلوقاً للَّه تعالي وآية من آياته، فالعبادة ليست له، بل لباريه تعالي، ومن ثم يتوجّه إليه كمرآة وآية يُنظر بها ولا ينظر إليها؛ ولذا تكون إسماً وعلامة، وأما إذا نظر إلي الاسم بما هو هو، فيكون حينئذٍ صنماً موجباً للشرك والكفر وهو الغلو

المنهيّ عنه، ولكن هذا لا يعني رفض الأسماء والوسائط، فإن ذلك يحجب عن المسمّي أيضاً، فلا يلحد بها ولا ينظر إليها بالاستقلال بل ينظر بها، وذلك لما بيّناه سابقاً من أنه لا تعطيل ولا تشبيه، فالالحاد في الأسماء تعطيل للباري بعد عدم كونه جسماً يقابل أو يجابه أو يشابه مخلوقاته وهو نفي الجسميّة، فلا محيص عن التوجّه بالأسماء، لا سيّما الاسم الأعظم وهو أوّل ما خلق اللَّه عزّ وجلّ، نور النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام، الذين بواسطتهم وصل آدم إلي ما وصل إليه من الخلافة، عندما علّمه اللَّه عزّ وجلّ تلك الأسماء الحيّة الشاعرة العاقلة المجرّدة النوريّة، التي هي أعظم آيات الباري تعالي وأفضل من جميع الملائكة.

الكلمات التامّات:

هناك آيات عديدة تدلّ بمعونة الروايات الواردة فيها- علي أن الكلمات التامّات والآيات الكبري للَّه عزّ وجلّ هم النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام منها:

1- ما تقدّم من قوله تعالي: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَي الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» «1»

، وقد سبق تقريب الاستدلال بهذه الآية المباركة، وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «إن اللَّه تبارك وتعالي كان ولا شي ء، فخلق خمسة من نور جلاله، وجعل لكلّ واحد منهم إسماً من أسمائه المنزلة، فهو الحميد وسمّي النبيّ محمّداً صلي الله عليه و آله، وهو الأعلي وسمّي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 252

أمير المؤمنين عليه السلام عليّاً، وله الأسماء الحسني فاشتقّ منها حسناً وحسيناً، وهو فاطر فاشتقّ لفاطمة من أسمائه إسماً، فلمّا خلقهم جعلهم في الميثاق، فإنهم عن يمين العرش، وخلق الملائكة من نور، فلما نظروا إليهم عظّموا أمرهم وشأنهم ولقّنوا التسبيح

فذلك قوله: «وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ* وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ» «1»

فلمّا خلق اللَّه تعالي آدم صلوات اللَّه وسلامه عليه نظر إليهم عن يمين العرش، فقال: ياربّ مَنْ هؤلاء؟ قال: ياآدم هؤلاء صفوتي وخاصّتي، خلقتهم من نور جلالي وشققت لهم إسماً من أسمائي، قال: ياربّ فبحقّك عليهم علّمني أسماءهم، قال: ياآدم فهم عندك أمانة، سرّ من سرّي، لا يطّلع عليه غيرك إلّابإذني، قال:

نعم ياربّ، قال: ياآدم أعطني علي ذلك العهد، فأخذ عليه العهد، ثم علّمه أسماءهم ثم عرضهم علي الملائكة، ولم يكن علّمهم بأسمائهم، «فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* قَالُوا سُبْحَانَكَ لَاعِلْمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ* قَالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ» «2»

علمت الملائكة أنه مستودع وأنه مفضّل بالعلم، وأُمروا بالسجود إذ كانت سجدتهم لآدم تفضيلًا له وعبادة للَّه، إذ كان ذلك بحقّ له، وأبي إبليس الفاسق عن أمر ربّه» «3».

2- قوله تعالي: «فَتَلَقَّي ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ»، ويمكن تقريب دلالة الآية إجمالًا علي كون الكلمات هي النبي وأهل بيته بما تقدّمت الإشارة من

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 253

إطلاق الكلمة في القرآن الكريم علي النبي عيسي عليه السلام بما هو حجّة للَّه اصطفاه علي العباد، فمنه يعرف أن الكلمة في استعمال القرآن تطلق علي حجج اللَّه وأصفيائه، ويشير إلي ذلك أيضاً قوله تعالي: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا» «1»

حيث تومئ الآية إلي كون كلمة اللَّه تعرف بالصدق والعدالة وهو وصف لحجج اللَّه، وهذا الوصف أحري بالصدق علي سيد الأنبياء بعد صدقه علي النبي عيسي عليه السلام، وقد وردت بذلك الروايات من الفريقين كما سيأتي معتضداً ذلك بأن الأسماء التي تعلّمها آدم وشرّف بها علي الملائكة قد مرّ أنها عرّفت بضمير

الجمع للحي الشاعر العاقل وأُشير إليها بإسم الإشارة للجمع الحي الشاعر العاقل، مما يدلُّ علي أنها موجودات وكائنات حيّة شاعرة عاقلة، نشأتها في غيب السماوات والأرض لعدم علم ملائكة السماوات والأرض بها، كما أُشير إلي ذلك بقوله تعالي: «أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ» «2»

ولا ريب أن أشرف الكائنات بنصوصية الكثير من الآيات وروايات الفريقين هو سيد الأنبياء، كما قد تبيّن أن الكلمات التي بشرفها قُبلت توبة آدم أوّلها وأسماها هو سيد الأنبياء، وحينئذٍ تُبيّن الآيات أن تلك الأسماء والكلمات حيث عبّر عنها بلفظ الجمع يقتضي أن مع سيد الأنبياء حجج آخرين للَّه تعالي شُرّف بمعرفتهم آدم وتاب اللَّه بهم عليه، ولا نجد القرآن الكريم يُنزّل منزلة نفس النبي أحداً من الأنبياء والرسل، بل نزل علي بن أبي طالب منزلة نفس النبي صلي الله عليه و آله وهذه خصيصة اختصّ هو عليه السلام بها، كما لم يُشرك اللَّه تعالي في طهارة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 254

النبي وعصمته ونمط حجيّته وعلمه بالكتاب كلّه مع العديد من المقامات الأخري أحداً من أنبيائه ورسله، لكنه أشرك أهل بيته، وهم علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، كما في آية التطهير والمباهلة ومسّ الكتاب من المطهرين من هذه الأمة وغيرها من الآيات النازلة فيهم.

فتبيّن أن قرين سيد الأنبياء صلي الله عليه و آله في المراد من الكلمات والأسماء هم أهل بيته عليهم السلام.

وقد ورد في كتب الفريقين من السنّة والشيعة أن الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه هم النبيّ صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام، فدعا اللَّه عزّ وجلّ بواسطة الكلمات فتاب عليه.

منها: ما أخرجه الحاكم في المستدرك عن عمر قال: قال رسول اللَّه

صلي الله عليه و آله: «لما اقترف آدم الخطيئة، قال: ياربّ أسألك بحقّ محمّد لمّا غفرت لي، فقال: ياآدم وكيف عرفت محمّداً ولم أخلقه؟، قال: ياربّ لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت فيّ من روحك رفعت رأسي، فرأيت علي قوائم العرش مكتوباً لا إله إلّااللَّه محمّد رسول اللَّه، فعلمت أنك لم تُضف إلي إسمك إلّاأحبّ الخلق إليك، فقال: صدقت ياآدم إنه لأحبّ الخلق إليّ، ادعني بحقّه فقد غفرت لك ولولا محمّد ما خلقتك» «1»

، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الاسناد.

ومنها: ما أخرجه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل عن ابن عباس قال:

«سألت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله عن الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه، قال:

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 255

سأل بحقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلّاتبت علي فتاب عليه» «1».

ومنها: ما أخرجه السيوطي عن الإمام علي عليه السلام أنه ذكر أن اللَّه عزّ وجلّ علّم آدم الكلمات التي تاب بها عليه وهي: «اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد سبحانك لا إله إلّاأنت عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم.

اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد سبحانك لا إله إلّاأنت عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم، فهؤلاء الكلمات التي تلقّي آدم» «2».

3- قوله تعالي: «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ» «3».

فالكلمة اطلقت علي عيسي عليه السلام، وهذا الإطلاق غير خاص به عليه السلام، بل هو شامل لكلّ الأنبياء لا سيما أولوا العزم منهم ولا سيما خاتم النبيين، فهو أفضل الأنبياء وسيّدهم وأعظمهم، فلا محالة يكون هو الكلمة الأتمّ، وكذا من هم نفس النبيّ صلي الله عليه و آله وهم أهل بيته عليهم السلام.

4- قوله

تعالي: «وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ» «4»

فإن إبراهيم عليه السلام بلا شك كلمة وآية من آيات اللَّه تعالي؛ لأنه أفضل من عيسي عليه السلام، ومع ذلك امتحنه اللَّه عزّ وجلّ بكلمات تفوقه في المقام والمنزلة،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 256

ولمّا ثبت في الامتحان فاز بمقام الإمامة بعد الخلّة والنبوّة والرسالة، فلا محالة تكون الكلمات هم سيد الأنبياء صلي الله عليه و آله وآخرين غير النبي إبراهيم والنبي عيسي وموسي وآدم عليهم السلام.

والكلمات كما جاء في الروايات- هم خمسة أصحاب الكساء، فإبراهيم نال مقام الخلافة في الأرض والزلفي عند اللَّه عزّ وجلّ بالكلمات، كما أن آدم فضّل علي الملائكة وأصبح مسجوداً لهم لتعلّمه الأسماء الحسني والآيات العظمي، وهم أهل آية التطهير عليهم السلام.

وكذلك آدم تسنّم مقام الخلافة الإلهية بتوسّط علم الأسماء الحيّة العاقلة النوريّة، التي تحيط بجميع المخلوقات، ولا يحيط بها مخلوق من المخلوقات إلّا بما شاء اللَّه عزّ وجلّ.

عن المفضّل بن عمر عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام، قال: سألته عن قول اللَّه عزّ وجلّ: «وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ» ما هذه الكلمات؟

قال: «هي الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب اللَّه عليه، وهو أنه قال:

أسألك بحقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلّاتبت عليّ، فتاب اللَّه عليه إنه هو التواب الرحيم» «1».

5- قوله تعالي: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَامُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ» «2».

وقد كان المعصومون الأربعة عشر كلّهم عليهم السلام يقرأون هذه الآية عند ولادتهم، فهم الكلمات التامات التي تمّت صدقاً وعدلًا لا مبدّل لكلماته، وقد مرّت الإشارة إلي أن نعت الكلمة بالصدق والعدالة يشير إلي حجج اللَّه فيما

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 257

يؤدّونه عن اللَّه وما هي عليه سيرتهم من الصدق والعدل والعدالة،

هذا كلّه بالنسبة إلي الجواب الأوّل وتفصيلاته.

الجواب الثالث: الآيات القرآنية

1- وهو ما جاء في قوله تعالي: «إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَاتُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّي يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُمجْرِمِينَ» «1».

الاستكبار علي الآيات الوارد في هذه الآية المباركة نظير ما فعله إبليس، حيث أبي واستكبر أن يسجد لآدم، فكذّب بآية من آيات اللَّه تعالي، وذلك عندما قال: «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» «2»

وقد استند في تكذيبه هذا إلي القياس الباطل وهو لا يعلم حقائق دين اللَّه تعالي، ولا يعلم أن جانباً آخر في آدم نوريّ يعلو علي النار هو الذي أهّله لذلك المقام، وليس الطين إلّا وجوده النازل المادّي.

ثم إن الآية المباركة ذكرت أثراً آخر من آثار التكذيب بالآيات الإلهية والاستكبار عليها، حيث قالت: «لَاتُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ»، ومن الواضح أن أبواب السماء إنما تفتّح حين الدعاء والعبادة والتوجّه إلي اللَّه عزّ وجلّ وحين إرادة الزلفي والقرب، وكذلك لتصاعد الإيمان والعقيدة، كما يشير إليه قوله تعالي: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ» «3»

، فهذه الآية المباركة تقول إن الذين يكذّبون بآيات اللَّه تعالي وأسمائه وكلماته ويستكبرون عنها كما فعل إبليس لا

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 258

تفتّح لهم أبواب السماء، فلا يمكنهم أن يدعوا اللَّه أو يتقرّبوا إليه، ولا يستجاب لهم دعاؤهم ولا عباداتهم كالصلاة والصوم والحجّ.

والربط بين ترك الآية والاعراض عنها والاستكبار عليها وبين عدم القرب وعدم قبول الدعاء وعدم تفتّح الأبواب هو أن اللَّه عزّ وجلّ ليس بمادّي ولا بجسم، فلا يمكن أن يقابل أو يجابه فلا زلفي إلّابالآيات والإيمان بها والطاعة والخضوع لها والتوجّه بها إلي اللَّه عزّ وجلّ: «وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَي فَادْعُوهُ بِهَا»،

وقد مرّ في هذا الفصل وفي الفصل الثالث أن الآيات هم الحجج المصطفون، فلابدّ عند إرادة التوجّه إلي سماء الحضرة الإلهية بالدعاء والعبادة والازدلاف من التوجّه بهم والتوسّل بهم؛ لأن ذلك مفتاح فتح أبواب السماء، فهذه الآية تتشاهد وتتطابق مع الآية المتقدمة من قوله تعالي: «وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَي فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» «1»

وأن الأسماء التي يُدعي بها في مقام الدعاء والفوز علي اللَّه هي الآيات التي لابدّ من الإيمان بها والخضوع والإقبال عليها والتوجّه بها إلي الحضرة السماوية.

وهذا المضمون هو ما ورد في الروايات المتواترة من أن ولاية أهل البيت عليهم السلام شرط في قبول الأعمال والعقائد، فإمامتهم عليهم السلام مقام من مقامات التوحيد في الطاعة، وهي شرط التوحيد وكلمة لا إله إلّااللَّه، فمن لا ولاية ولا طاعة له لا يقبل اللَّه عزّ وجلّ له عملًا، كما هو الحال في إبليس، حيث لم يقبل اللَّه عزّ وجلّ أعماله، ولم يقم له وزناً وطُرد من جوار اللَّه وقربه.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 259

إذن من لا يذعن بالواسطة والولاية لا يقبل له عمل، لأنه لا تفتّح له الأبواب، ولا يكون ناجياً يوم القيامة «وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّي يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُمجْرِمِينَ».

2- وهو قوله تعالي: «وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ» «1»

، فهذه الآية جاءت في سياق واحد مع قوله تعالي:

«وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ* قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ* قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ

إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ» «2»

، فالسياق الواحد في هذه الآيات دالّ علي أن ما فعله إبليس كان إنكاراً وظلماً لآية من آيات اللَّه تعالي، ودالّ أيضاً علي أن ثقل الميزان والقرب وقبول الأعمال إنما يتمّ بالخضوع للآيات والإيمان بها.

وليست الأصنام إلّاالوسائل والوسائط المقترحة.

3- قوله تعالي: «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» «3»

، وتقريب الاستدلال بهذه الآية كالتقريب الذي تقدّم في الآيات التي سبقتها، ولا يخفي ما في التعبير ب (عنها) دون التعبير ب (عليها) من دلالة علي الاعراض والإنكار لوساطة الآيات الإلهية، وأنه موجب لبطلان الأعمال والخلود في النار.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 260

الشبهة الرابعة: الأعمال الصالحة هي الوسيلة التوسّل والوسيلة حقيقة العقيدة بالنبوّة والرسالة … ص: 260
اشارة

لقد قام أصحاب هذا الاتجاه المنكر لمبدأ التوسّل بتوجيه قوله تعالي:

«وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ» «1»

، حيث فسّروا الوسيلة في هذه الآية بالطاعات والقربات والأعمال الصالحة التي يتقرّب بها العبد إلي ربّه.

وقد ورد في الأحاديث بأن العبد لا يتقرّب إلي اللَّه عزّ وجلّ إلّابالطاعة والعمل الصالح، فطوعانية العبد لربّه هي وسيلته الوحيدة، وليس بين اللَّه وبين خلقه قرابة وقرب إلّابالطاعة «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» فالجنّة يدخلها المطيع ولو كان عبداً حبشياً والنار يدخلها العاصي ولو كان سيّداً قرشيّاً.

الجواب عن الشبهة الرابعة: … ص: 260

كان حصيلة الشبهة الرابعة هو تمسّكهم بقوله تعالي: «وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ» حيث فسّروا الوسيلة بالأعمال الصالحة من البرّ والتقوي والورع وسائر العبادات، وأن طوعانية العبد لربّه هي الوسيلة الوحيدة للنجاة والفوز بالجنة.

وفي المقدّمة نحن لا ننفي كون الأعمال الصالحة وسيلة من وسائل القرب إلي اللَّه عزّ وجلّ، ولكن نريد أن نقول هي أحد مصاديق الوسيلة وليست الوسيلة منحصرة بها، وذلك بمقتضي نفس زعمهم من أن الوسيلة هي الأعمال الصالحة والطاعات، حيث أن أعظم الأعمال الصالحة والطاعات هو الإيمان باللَّه ورسوله؛ إذ لا يقاس بالإيمان بقيّة الأعمال من الصلاة والصيام والحج وغيرها،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 261

بل إن بقية الأعمال لا تقبل ولا يثاب عليها الإنسان إلّابالإيمان، فإذا كان الإيمان أعظمها، والإيمان هو الإيمان باللَّه ورسوله واليوم الآخر، بل إن الإيمان بالرسول صلي الله عليه و آله هو الهادي إلي حقيقة التوحيد، فيكون الإيمان بالرسول صلي الله عليه و آله من أعظم ما يتوسّل به إلي اللَّه عند الدعاء وعند العبادة وعند التوجّه إلي الحضرة الإلهية، فهذا يقتضي كون الرسول صلي الله عليه و آله أعظم وسيلة، لأن الإيمان إنما حاز هذا الشرف العظيم ومكان الوساطة والوسيلية إلي اللَّه تعالي

ببركة تعلّق الإيمان بالنبي صلي الله عليه و آله، إذ شرف المعرفة بالمعروف الذي تعلّقت به المعرفة، كما أن شرف العلم بالمعلوم الذي تعلّق به العلم، فذات المعلوم والمعروف أشرف من العلم والمعرفة المتعلّقة بهما، ومن شرف ذات المعلوم المعروف ترشّح شرف العلم والمعرفة، فهذا يقضي بالضرورة أن أعظم الوسائل هو النبي الأكرم صلي الله عليه و آله ومن ثم نُعت في القرآن الكريم بأنه رحمة للعالمين، وهذا ما أشارت إليه الأدلّة المتضافرة من أنه صلي الله عليه و آله صاحب الوسيلة الكبري والشفاعة العظمي.

ولكي تكون الاجابة واضحة لابدّ من التأمل في مفاد الآية المباركة، وذلك ضمن النقاط التالية:

النقطة الأولي: ما هو المراد من الوسيلة؟ … ص: 261

لقد جاء التعبير في الآية الكريمة هكذا «وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ» ولم يقل اللَّه عزّ وجلّ (وابتغوه بالوسيلة)، وليس ذلك إلّاللتنبيه علي أن الذي يُبتغي ويُقصد لطلب الحوائج هو الوسيلة، التي تكون واسطة في الفيض بين العبد وربّه، ومعني الآية المباركة وابتغوا الوسيلة إليه، فالابتغاء والقصد والتوجّه بالوسيلة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 262

إلي اللَّه عزّ وجلّ، ولا تتحقّق البُغية إلي اللَّه تعالي إلّابالوسيلة؛ ولذا لابدّ من تحديد ما هو المراد من الوسيلة.

إن روايات الفريقين متّفقة علي أن الوسيلة مقام من المقامات المشهودة والسامية للنبيّ الأعظم صلي الله عليه و آله، وهي علي طوائف متعدّدة:

منها: الطائفة التي فسّرت الوسيلة بالمقام المحمود ومقام الشفاعة المختصّ بالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله، وذلك كقوله صلي الله عليه و آله: (سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنّة لا تنبغي إلّالعبد من عباد اللَّه وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلّت عليه الشفاعة) «1»، وقد فهم بعض الشرّاح من هذا الحديث أن المقصود من الوسيلة فيه هي الشفاعة ذاتها

«2».

ولا شك أن الروايات نصّت علي أن الشفاعة هي المقام المحمود، فالشفاعة التي هي المقام المحمود لا تحلّ علي الشخص إلّابسؤال ذلك الشخص مقام الوسيلة للرسول الأكرم صلي الله عليه و آله.

ومنها: الطائفة التي يظهر منها أن مقام الوسيلة والشفاعة والمقام المحمود مناصب متعدّدة للنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله، كقوله صلي الله عليه و آله: «من قال حين يسمع النداء اللّهم ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمّداً الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته إلّاحلّت له شفاعتي يوم القيامة» «3»

، وظاهر هذه الرواية تغاير المقامات الثلاثة وهي الوسيلة والمقام المحمود والشفاعة.

ومنها: الروايات التي ذكرت أن مقام الوسيلة منبر من نور ينصب للنبيّ صلي الله عليه و آله،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 263

فعن النبيّ صلي الله عليه و آله في حديث له مع أمير المؤمنين عليه السلام، قال: «إذا جمع اللَّه الأولين والآخرين يوم القيامة وضع لي منبر بين الجنة والنار من نور، لذلك المنبر مائة مرقاة وهي الدرجة الوسيلة، ثم تحفّ بالمنبر النبيّون ثم الوصيّون ثم الصالحون ثم الشهداء، ثم يجاء إليّ، فيقال لي: يامحمّد قم فارقه، قال: فأرقي حتي أصير في أعلي مرقاة من المنبر- إلي أن قال صلي الله عليه و آله ثم يقال لك: إرقَ ياعليّ، فترقي ياأبا الحسن حتّي تصير أسفل منّي بمرقاة، فأناولك يميني وأقعدك علي جنبي الأيمن، وأقول: هذا الموقف الذي وعدني ربّي أنه يعطني فيك» «1».

وعن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قال: «وفوق قبّة الرضوان منزل يقال له الوسيلة، وليس في الجنّة منزل يشبهه وهو منبر رسول اللَّه صلي الله عليه و آله» «2».

ومنها: الروايات التي ذكرت أن مقام الوسيلة مقام حظوة وحبوة للنبيّ صلي

الله عليه و آله، ويطول المقام بذكرها فلا حاجة إلي استعراضها، وبعض الروايات المتقدّمة فيها إشارة إلي ذلك.

ولا يوجد أي تنافي بين هذه الطوائف من الروايات، حيث أنها تثبت للنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله مقاماً خاصّاً لا يدركه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل، وهذا المقام في جهة من جهاته يسمّي بالمقام المحمود وفي أخري يسمّي بالوسيلة وفي ثالثة يسمّي بالشفاعة، وهذا أيضاً لا يتقاطع مع كون مقام الوسيلة منبر من نور؛ لأن التعبير بذلك للدّلالة علي حظوة النبيّ صلي الله عليه و آله وحمد مقامه عند اللَّه عزّ وجلّ في ذلك اليوم العصيب، الذي يكون فيه كلّ الأنبياء علي جانب عظيم من الوجل

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 264

والشفقة والخشية، والكلّ يستغيث وانفساه، والنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله في تلك الحال وجيه عند اللَّه عزّ وجلّ علي منبر من نور صاحب حظوة ومكانة دون باقي البشر، فالمنبر كناية عن الوجاهة والقرب والزلفي والواسطة والشفاعة وأنه يتوسّط به إلي اللَّه عزّ وجلّ ويستغاث به للنجاة من النار، فهو صاحب الشفاعة الكبري، وهو القائل: «ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من امتي» «1».

النقطة الثانية: الرابطة بين الشفاعة والتوسّل … ص: 264

قلنا في النقطة السابقة أن المقام المحمود هو الشفاعة، كما نصّت علي ذلك الروايات «2»، وأشرنا أيضاً إلي أن الاستشفاع بشفاعة الشفيع والتوسّل بالوسيلة وجهان لمقام واحد، ونريد الوقوف قليلًا عند هذه الحقيقة، فإن تفرقة المتكلمين والفقهاء بين الشفاعة والتوسّل صحيحة من جهة وخاطئة من جهة أخري، وذلك لأن التوسّل والشفاعة وجهان لحقيقة واحدة لا ينفصلان عن بعضهما البعض، فالتوسل هو فعل صاحب الحاجة عند الشفيع، والشفاعة هي فعل الشفيع بينه وبين المشفوع عنده، فإذا لاحظنا جهة العلاقة والرابطة بين طالب الشفاعة والشفيع يقال

توسّل واستشفاع، وإذا لاحظنا نفس العملية ولكن من جهة الرابطة بين الشفيع والمشفوع عنده فيقال لذات تلك العملية شفاعة، فالوسيلة تتلوها الشفاعة والشفاعة يتلوها قضاء الحوائج وغفران الذنوب.

وإذا كان المسلمون قد أجمعوا علي ثبوت المقام المحمود والشفاعة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 265

الكبري للنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله فهو يستلزم اجماعاً آخر وهو جواز التوسّل بالنبيّ صلي الله عليه و آله وإن غفل شرذمة عن هذا اللازم، فإذا جازت الشفاعة من النبيّ صلي الله عليه و آله وهو فعل يقوم به بالإضافة إلي اللَّه عزّ وجلّ في حقّ أصحاب الحاجات فبالتالي سوف يكون التوسّل راجحاً ومشروعاً لا محالة؛ لعدم تصوّر انفكاك مشروعية الشفاعة عن مشروعية التوسّل؛ لأن التوسّل متعلّقه طلب الشفاعة فإذا كانت الشفاعة مشروعه كيف يكون طلب المشروع غير مشروع؟!، بل حيث إن معتقد الشفاعة للنبي صلي الله عليه و آله دين من أسس الإيمان فلا محالة يكون التوسّل معتقد ديني من أسس الإيمان أيضاً، بل حيث كانت الضرورة قائمة علي ثبوت مقام الشفاعة للنبي صلي الله عليه و آله فلا محالة الضرورة قائمة أيضاً علي أن التوسّل من أركان العبادات.

فالذهاب إلي الوسيط وطلب توسيطه في قضاء الحاجة توسّل وعمل الوسيط شفاعة، والشفع هو الضمّ، فيضمّ الوسيط جاهه إلي حاجة المتوسل فيقضيها المشفوع عنده، فالتوسّل من مقوّمات الدعاء والتوجّه للحضرة الإلهيّة.

إذن دليل التوسّل القول بمشروعية وضرورة الشفاعة بقول مطلق.

وبناء علي ذلك يكون عقد بابين مستقلّين للتوسل والشفاعة من المماشاة للغفلة التي وقع فيها أصحاب المقالة الجاحدة لعقيدة التوسّل، وإلّا فإن باب الشفاعة لا يمكن أن ينفك عن باب التوسّل؛ لأن التوسّل هو طلب التشفّع.

النقطة الثالثة: عموم تشريع الشفاعة … ص: 265

حاول أصحاب هذه المقالة تحديد نطاق الأدلّة الدالّة علي تشريع

شفاعة النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله، حيث قالوا تارة بأن الشفاعة في دار الدنيا لا تجوز إلّاإذا كان

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 266

النبيّ الأكرم حيّاً في هذه الدنيا، وأما بعد وفاته فلا مشروعية للشفاعة إلّايوم القيامة دون الشفاعة في الدنيا أو البرزخ، وقالوا أخري بأن متعلّق الشفاعة طلب الغفران من الذنوب، وليس طلب الحاجات الدنيويّة، كشفاء المريض وغيره.

أما المزعمة الأولي: من أن الشفاعة في الآخرة فقط أو مع حياة النبيّ صلي الله عليه و آله:

فهي مبتنية علي أن الشرك بالنصّ وعدم النصّ، مع أن الشرك من مدركات العقل وأحكامه، وهي غير قابلة للتخصيص، فإذا كان التشفّع شركاً فلابدّ أن يكون كذلك في جميع النشآت وسواء كان النبيّ صلي الله عليه و آله موجوداً في دار الدنيا أو بعد وفاته.

فالتفرقة لجوء منهم إلي النصّ وأن الشرك ليس له حدّ عقلي منضبط، وهو خلاف ما عليه علماء المسلمين، من أن الشرك إما بحثه عقلي أو عقلي ونقلي وليس هو نقلياً محضاً، هذا أولًا.

وثانياً: مع فرض أن دليل مشروعية الشفاعة نقلي، فلا دليل علي الاختصاص بيوم القيامة؛ لأن الآية مطلقة، فقوله تعالي: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ» شامل لما بعد وفاة النبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله وهو صلي الله عليه و آله حيّ عند ربّه يرزق، مضافاً إلي قوله تعالي: «قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ» فالنبيّ صلي الله عليه و آله ناظر للأعمال، والآية الكريمة مطلقة والمخاطب بها كلّ الأجيال، ولو بني علي اختصاص الأحكام التي تعلّقت بالرسول صلي الله عليه و آله علي خصوص حياته في دار الدنيا ونفي شمولها لحياته عند ربّه لاستلزم ذلك تعطيل جملة

الآيات والأحكام في الدين الحنيف، ولما قامت للدين قائمة، نظير قوله تعالي: «مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 267

فَانْتَهُوا» «1»

وقوله تعالي: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا» «2»

وقوله تعالي: «فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «3»

وغيرها من الآيات والأحكام، فعلي زعمهم الواهي لابدّ أن تُخصّ هذه الآيات بخصوص حياته صلي الله عليه و آله في دار الدنيا دون حياته في عند ربّه.

وقد وردت روايات متضافرة تنصّ علي أن الأعمال تُعرض علي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله كلّ يوم أو كلّ يوم خميس أو جمعة، وأنه صلي الله عليه و آله يسمع السلام ويردّه، ويصلّي علي من يصلّي عليه.

فما ذكر من الاختصاص بيوم القيامة باطل عقلًا ونقلًا.

وأما المزعمة الثانية: وهي أن متعلّق الشفاعة طلب الغفران لا الحاجات الدنيوية:

فالجواب عنها:

أولًا: ما ذكرناه آنفاً من اطلاق الآية المباركة، فإن متعلّقها شامل للمسائل الدنيوية أيضاً ولا دليل علي التخصيص بما ذكروه.

وثانياً: إذا صحّت المقايسة التي زعموها فإن الحاجات الدنيوية أهون علي اللَّه تعالي من حاجات الآخرة، فكيف يعقل أن الشفاعة تنفذ فيما هو أكثر خطورة وهي الحياة الأبديّة، دون ما هو أقلّ خطورة وهي الحياة الدنيوية المنقطعة؟! وكيف يكون الثاني شركاً دون الأوّل؟!

ثم إن سيرة المسلمين وكذا الصدر الأول منهم تتنافي مع ما ذكره، حيث

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 268

أثبتت كتب المسلمين كما سيأتي- توسّل المسلمين بالنبيّ الأكرم بعد وفاته أيضاً، وسيرتهم إلي يومنا هذا جارية علي التوسّل في طلب حاجاتهم الدنيوية، ولا يقتصرون في ذلك علي طلب الحاجات الأخرويّة فقط.

وكذا ليس متعلّق الشفاعة غفران الذنوب والنجاة من النار فحسب، بل حتي في الرقيّ في المراتب والمقامات،

فالشخص يحتاج إلي الشفاعة لعدم الأهلية في عمله للصعود إلي مقام أعلي، كما ورد ذلك في توسّل الأنبياء بسيّد الرسل صلي الله عليه و آله، بل هو صلي الله عليه و آله يشفع أيضاً للأئمة المعصومين عليهم السلام لرفع مقامهم ودرجتهم إلي مقامه ودرجته صلي الله عليه و آله.

إذن متعلّق الشفاعة وسيع يشمل النجاة من النار وغفران الذنوب ورفع المقامات وقضاء الحاجات وغيرها، فالشفاعة بإذن اللَّه تعالي متعلّقها مطلق موارد فيض الباري عزّ وجلّ.

وثالثاً: ما ورد من وصف النبيّ موسي وعيسي عليهما السلام بأنهما وجيهان عند اللَّه عزّ وجلّ، كما في قوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَي فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا» «1»

، وكذا قوله تعالي: «إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ وَجيِهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» «2»

، وهذا البيان ليس خاصاً بموسي وعيسي عليهما السلام، بل هو شامل علي أقل تقدير لأنبياء أولي العزم، خصوصاً سيّد المرسلين وخاتمهم وأفضلهم محمّد صلي الله عليه و آله وأهل بيته الذين أورثوا علم الكتاب

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 269

كلّه، بل قد أشير إلي ذلك في تشريع القبلة، وأنها رغم كونها وجهاً للَّه تعالي يتّجه إليه المصلّي في اتجاه استقباله في الصلاة، إلّاأن الغاية منها هي الإنقياد والخضوع لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله والولاية له، وهو يؤدّي للأوبة للَّه تعالي، حيث قال تعالي: «وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» «1»

وقال تعالي أيضاً: «أَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ» «2»

وقال تعالي: «وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَي عَقِبَيْهِ» «3»

، وللتعبير بالوجيه مدلولان التزاميان عقلي ونقلي:

أما العقلي؛

فلأن اللَّه عزّ وجلّ منزّه عن الجسمية والمقابلة والمجابهة المادّية، فلابدّ من وجه يتوجّه به إليه، فالوجيه معناه هو وجه اللَّه الذي يتقرّب به إليه وآيته الدالّة عليه، التي لابدّ أن تُوسّط وتُشفّع في التوجّه.

وأما النقلي؛ فهو ما ورد من أن زكاة الوجاهة الشفاعة في الخيرات.

إذن الشفاعة والوساطة مدلول التزامي عقلي ونقلي لمفهوم الوجاهة، فالوجيه هو الشفيع والوسيلة والواسطة بين العبد وربّه.

ومقتضي إطلاق كون الأنبياء عليهم السلام وجهاء عند اللَّه عزّ وجلّ هو كونهم شفعاء في الخيرات وقضاء الحوائج الدنيوية والأخروية، ولا تختصّ وجاهتهم وشفاعتهم بغفران الذنوب فقط.

ومعني ذلك أيضاً أن الأنبياء وجهاء عند اللَّه وشفعاء في كلّ الأزمان والأدوار، من دون اختصاص بيوم القيامة أو قبل وفاة النبيّ، وذلك لإطلاق الآيات الدالّة

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 270

علي الوجاهة التي تلزمها الشفاعة عقلًا ونقلًا.

والحاصل:

إن الوسيلة في الآية التي ذكروها هو مقام الشفاعة الكبري للنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله، واتّضح أن الوسيلة والشفاعة وجهان لمقام واحد، واتّضح أيضاً أن الشفاعة والتوسّل ركن من أركان الدين قائم في الدنيا والآخرة، سواء كان النبيّ حيّاً في دار الدنيا أو عند ربّه تعالي بعد وفاته صلي الله عليه و آله، وهكذا الشفاعة منصوبة في ديانة الإسلام لطلب الحوائج الدنيوية وغيرها.

وممّا يبرهن علي عموم شفاعة النبي صلي الله عليه و آله لكلّ النشآت والعوالم ولعموم الأمور ما مرّ في قوله تعالي: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ لَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَي ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» «1»

، حيث مرّ في الفصل الثالث أن الآية تبيّن مشارطة اللَّه ومواثقته علي النبيين في إعطائهم

مقام النبوة والرسالة والمقامات الغيبية أنهم إنما يستأهلوها ويستحقّوها إذا آمنوا بخاتم النبيّين والتزموا بنصرته واتباعه وأقرّوا علي أنفسهم بذلك، فالآية تبيّن أن سيد الأنبياء صاحب الوسيلة لجميع المخلوقات، بل ولأشرف المخلوقات وهم الأنبياء والرسل، وأنهم إنما نالوا المقامات الكبري الغيبية من النبوّة والرسالة والحكمة بالتوسّل بذيل ولاية سيد الأنبياء وأهل بيته المعصومين، مع أن النبي صلي الله عليه و آله لم يُخلق بدنه حينذاك، وإنما خُلق نوره وأنوار أهل بيته قبل خلق السماوات والأرض وخلق الأنبياء، كما أشارت إلي ذلك

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 271

سورة النور والروايات من الفريقين، حسب ما تقدّم في الفصل الثالث.

فالآية ترصد أعظم ملحمة في الخلقة والخليقة لأعظم توسّل بأعظم متوسّل به لأعظم حاجة، وكفي بذلك بشارة للمؤمنين بهذا الركن العظيم في الدين، ونذارة للجاحدين.

وأخيراً نقول:

إذا كانت الأعمال كما قالوا تُزلف وتُقرّب العبد إلي اللَّه عزّ وجلّ وهي فيها ما فيها من عدم الخلوص وخلطها بالصالح والطالح، فكيف ظنك بمقام سيّد الرسل صلي الله عليه و آله؟!

فالعمل موجود مخلوق وكذا النبيّ صلي الله عليه و آله، ولكن لا قياس ولا نسبة بينهما في الوجاهة والقرب إذا توسّل بهما العبد.

الشبهة الخامسة: التوحيد الإبراهيميّ يأبي التوسّل بغير اللَّه … ص: 271
اشارة

وذلك ما ورد في الحديث أن إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار (عرض له جبرئيل وهو في الهواء، فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا وأما من اللَّه فبلي) «1»، (قال جبرئيل: فسل ربّك، فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي، فقال اللَّه عزّ وجلّ: يانار كوني برداً وسلاماً علي إبراهيم) «2» فالنبيّ إبراهيم عليه السلام في هذا الحديث يحصر التوجّه في الحاجات إلي اللَّه عزّ وجلّ ويرفض كلّ واسطة ولو كانت بمنزلة جبرئيل عليه السلام، وهذا هو النفس التوحيدي الصحيح من

مؤسّس

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 272

التوحيد ومكسّر الأصنام ومجاهد الوثنية إبراهيم عليه السلام، إذ لم يوسّط حتي جبرئيل في طلب حاجته.

إذاً لابدّ من نفي الشرك في الواسطة وطلب الحاجة؛ إذ لا حجاب بين اللَّه وبين خلقه، ولم يتّخذ اللَّه تعالي أصناماً ولا أحجاراً ولا أشخاصاً ليتوجّه بها إليه.

الجواب عن الشبهة الخامسة: … ص: 272

وهو ما يتعلّق بقصة إبراهيم عليه السلام عندما أُلقي في النار، وما جري بينه وبين جبرئيل، حيث أن جبرئيل عليه السلام تدارك إبراهيم وهو في حال الهويّ في النار، وهي حالة عصيبة جدّاً، ولكن مع ذلك عندما عرض جبرئيل عليه السلام عليه قضاء حاجته وتخليصه من محنته، قال عليه السلام: (علمه بحالي يغني عن سؤالي)، فقالوا إن نفس عدم سؤال إبراهيم عليه السلام من جبرئيل معناه أن السؤال والاستغاثة بغير اللَّه تعالي غير جائزة.

الردّ الأول: إن أي حادثة من الحوادث تتضمّن دائماً ملابسات تحتفّ بها لابدّ من معرفتها؛ لمدخليتها في استيضاح سياق تلك الحادثة، وفي المقام مسائلة جبرئيل عليه السلام للنبيّ إبراهيم عليه السلام من أجل امتحانه وابتلائه وتفقّد رسوخ إيمانه وطمأنينته ورباطة جأشه؛ ولذا قال له: (أما إليك فلا) ليبيّن له أنه ليس في مقام طلب الحاجة والخوف والهلع وإنقاذ الموقف وأنه مطمئن النفس ثابت الإيمان متوكّل علي ربّه.

ويعزّز هذه الدعوي قول إبراهيم عليه السلام لجبرئيل عليه السلام: (علمه بحالي يغني عن سؤالي) مع أن السؤال والدعاء مرغوب فيه ومحبّب عند اللَّه عزّ وجلّ، وقد حثّ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 273

القرآن الكريم في آيات عديدة علي السؤال والدعاء وطلب قضاء الحاجة من اللَّه تعالي، وقد توعّد اللَّه تعالي المستكبر علي عبادته ودعائه باللسان والقول.

إذن الدعاء من الأمور المرغوب فيها والمأمور بها، ومن الواضح المتّفق عليه أن الرواية في

المقام لا تريد أن تقول أن الدعاء باللسان أمر مرجوح ومرغوب عنه، بل إن الدعاء وطلب الحاجة بالقول واللسان من الآداب الإلهية، وقد قال اللَّه تعالي لنبيّه الأكرم صلي الله عليه و آله: «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا» «1»

وحاشا للنبيّ إبراهيم عليه السلام أن يخرج عن أعظم الآداب الإلهية ولا يتقيّد بها؛ إذ الدعاء أعظم العبادات وروحها.

فهذا شاهد بيّن دامغ علي أن كلام إبراهيم عليه السلام بحسب السياق في مقام آخر، وهو مقام الامتحان للثبات علي الإيمان والطمأنينة به.

فأراد إبراهيم عليه السلام باكتفائه بعلم اللَّه عزّ وجلّ بحاله أن يبيّن لجبرئيل عليه السلام أنه ليس علي وجل واضطراب، ويظهر له الثبات والحزم الذي هو عليه في الحقيقة والواقع.

ودعاؤه عليه السلام في خصوص ذلك الظرف والمقام قد يكون كاشفاً عن الوجل والتزلزل وعدم الطمأنينة، فهو عليه السلام لكمال ثباته وتوكّله علي اللَّه تعالي أظهر ما هو عليه من رباطة الجأش والحزم وقوّة الإيمان.

فصدر الجواب وذيله في هذا المقام الذي ذكرناه.

الردّ الثاني:

قد يقال هنا أن إبراهيم عليه السلام لم يستنجد بجبرئيل عليه السلام ولم يسأله لأنه أفضل منه، وذلك إن مقام أنبياء أولي العزم أفضل من مقام الملائكة الذين أسجدهم

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 274

وأطوعهم لآدم، وقد ورد في روايات الفريقين أن جبرئيل عليه السلام في مواطن عديدة لم يتقدّم علي آدم لكونه مسجود الملائكة، ففي هذه الحالة يكون مقام السائل أرفع شأناً من مقام المسؤول، ونحن محلّ كلامنا فيما إذا كان السائل يتقرّب بواسطة المسؤول ويتوسل به إلي اللَّه عزّ وجلّ، وإذا كان السائل أقرب مقاماً من المسؤول، فلا معني للتوسّط والتشفّع والزلفي.

الردّ الثالث: أنه ينقض عليهم بموارد: … ص: 274

منها: أن الجاحدين للتوسّل يقرّون بأن الضرورة قائمة في الدين- كما تقدّم- علي ثبوت الشفاعة الكبري

لسيد الأنبياء يوم المعاد، وأنه يستشفع به صلي الله عليه و آله للنجاة الأبدية، فإذا كان الاستشفاع شركاً- حسب زعمهم- وخلاف منهج التوحيد الذي هو ملّة إبراهيم الحنيف فكيف يسمح الباري بوقوعه يوم القيامة، ويُبشر به نبيّه، وأنه يعدّه الباري مقاماً محموداً؟!

ومنها: ما تقدّم من استشفاع آدم بسيد الأنبياء، فهل يظن بنبي اللَّه وصفوته مجانبة طريق التوحيد؟!

الشبهة السادسة: التوسّل يعني التفويض وعجز اللَّه تعالي … ص: 274
اشارة

قد يطرح هنا إشكال حول التوسّل بالوسائط، وهو دعوي أن الاعتقاد بالوسائط والتوسّل بها لاستدرار الفيض الإلهي قد يوجب اعتقاد العجز في قدرة اللَّه تعالي، ومما لاشك فيه أن الباري عزّ وجلّ واجب بالذات وغني عن العالمين، فلابدّ من رفض الوسائط في التوجّه إلي اللَّه عزّ وجلّ.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 275

وبعبارة أخري: إن السؤال والتوسّل والتوجّه إلي غير اللَّه تعالي يستبطن التفويض والغلو وبالتالي يؤدّي إلي الشرك؛ لأن التوسّل يتضمّن إسناد بعض الصلاحيات الإلهية إلي الوسائل، وهو يعني إثبات العجز إلي قدرة الباري تعالي وهو التفويض والغلو الباطل.

الجواب عن الشبهة السادسة: قصور الجاحدين للتوسّل عن معرفة التوحيد في الأفعال: … ص: 275

في مقام ردّ هذه الشبهة نجيب بعدّة أجوبة:

الجواب الأول: إن اللَّه عزّ وجلّ إذا أقدر مخلوقاً من المخلوقات علي بعض الأمور، فهو لا يعني سلب القدرة عنه تعالي في تلك الأمور، ولا يعني أيضاً عزله عن صفاته التي منها الصفات التي أعزاها إلي كلماته ووسائطه، فلا تجافي ولا عزلة في البين؛ لأن التجافي والعزلة من أحكام المادّة.

إذن الباري تعالي لا يتجافي ولا ينعزل عن القدرة التي أقدر بعض الموجودات عليها، بل هو أقدر من تلك الوسائط علي ما أقدرها عليه.

ويقول الإمام زين العابدين عليه السلام في هذا المقام: «إن اللَّه تبارك وتعالي لا يطاع باكراه ولا يعصي بغلبة ويهمل العباد في الهلكة، ولكنه المالك لما ملّكهم، والقادر لما عليه أقدرهم» «1».

وقال أمير المؤمنين عليه السلام في وصفه للَّه عزّ وجلّ: «لا تشبهه صورة ولا يحسّ بالحواس ولا يقاس بالقياس، قريب في بعده بعيد في قربه، فوق كلّ شي ء ولا

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 276

يقال: شي ء تحته، وتحت كلّ شي ء ولا يقال: شي ء فوقه، أمام كلّ شي ء ولا يقال له: أمام، داخل في الأشياء لا كشي ء في شي ء داخل، وخارج

من الأشياء لا كشي ء من شي ء خارج، فسبحان من هو هكذا، ولا هكذا غيره، ولكلّ شي ء مبتدأ» «1».

والحاصل: إن أقدار اللَّه عزّ وجلّ وكّل عطية إلهية يجود بها علي مخلوقاته ليس تمليكها تمليكاً عزلياً وبنحو التجافي، وإنما هو تمليك قيّومي إحاطي، فهو عزّ وجلّ بكلّ شي ء محيط وقيّوم علي كلّ شي ء، وهو المالك لما ملّكهم والقادر لما عليه أقدرهم، بل إن التمليك بعينه مخلوق من المخلوقات والمُعطي والعطية كلّها قائمة باللَّه تعالي حدوثاً وبقاءً، فكيف يستقل المخلوق في فعله وهو محتاج في ذاته ومفتقر إلي قيوميّة الباري تعالي؟!

وهذا يعني أن ذات المخلوق وفعله وتمكينه وتمليكه وإقداره علي بعض الأمور كلّها بحول اللَّه وقوته، ولا يخرج عن حيطة قيوميّته، فلا مجال للتفويض العزلي في عالم الخلقة والامكان، وليست الوسائط إلّامجار لفيض اللَّه عزّ وجلّ وقدرته؛ لأجل عجز بعض القوابل عن التلقّي عن اللَّه تعالي مباشرة.

الجاحدين للتوسّل بنوا جحودهم علي التفويض الأكبر: … ص: 276

الجواب الثاني: إن هذه الشبهة التي ذكروها تستبطن التفويض والغلو في المخلوق؛ لأنها مبتنية علي دعوي أن المخلوق مستقلّ عن خالقه في الوجود بقاءً، وأن اللَّه تعالي عندما ملّك وأقدر بعض الموجودات المادّية علي بعض

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 277

الأفعال الحياتية اليوميّة، كقدرة الشخص علي تحريك أعضائه مثلًا باختياره، انعزلت قدرته عن تلك الأفعال، فإنهم في شبهتهم المذكورة افترضوا أن إقدار اللَّه عزّ وجلّ وتمليكه بعض الأفعال لبعض المخلوقات وأنها استقلال للمملوك عن المالك، كاستدرار الفيض الإلهي عن طريق الوسائط تفويض وغلو في تلك المخلوقات، وحيث أنه مما لا ريب فيه أن اللَّه تعالي- كما هو المشاهد حسّاً والمعلوم وجداناً- أقدر الموجودات المادّية علي الكثير من الأفعال التي نراها يومياً، فإنه يقتضي اعتقادهم بمقالة المعتزلة التفويضية المغالية، وهي أن المخلوق محتاج إلي الخالق

حدوثاً لا بقاءً، وأن اللَّه تعالي بعد أن خلق الموجودات انعزلت قدرته عنها في البقاء والعياذ باللَّه-.

ولا فرق بين فعل وفعل من الناحية العقلية، فإذا كان التوسّل وجعل الوسيلة والشفاعة لبعض المخلوقات يوجب التفويض العزلي، فكذلك إقدارهم علي أفعالهم الحادثة اليومية لابدّ أن يكون أيضاً محكوماً بقانون التفويض العزلي، وأن اللَّه تعالي انعزل عن مخلوقاته بعد أن أوجدها وأقدرها وملّكها لأفعالها.

ولا شك أن هذا التفكير مبنيّ علي الموازين الحسّية المادّية، ودعوي الفرق بين الأفعال الدنيوية الصغيرة والأفعال التدبيرية الخطيرة، كتدبير السماوات والأرض، وإيصال فيض اللَّه تعالي إلي الموجودات المادّية الدانية في الوجود، حيث آمنوا ببطلان التفويض بجعل وسائط في الفيض، وصحّحوا مقولة التفويض في صغائر الأمور والأفعال المادية الدنيويّة غير الخطيرة.

مع أن موازين بطلان التفويض موازين عقلية لا يفرق فيها بين الأفعال الصغيرة والخطيرة؛ لأن التفويض يوجب الشرك وهو باطل علي جميع

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 278

الأحوال.

ونحن نقول: إن المخلوق لا يستقلّ بذاته وفعله عن الباري تعالي حدوثاً وبقاءً، ولا يفعل المخلوق فعلًا أيّاً كان حجمه وخطورته إلّابإقدار اللَّه وتمكينه وبحوله وقوته بدءاً واستدامة.

ولو كان أصحاب هذه الشبهة يرفضون فكرة التفويض مطلقاً ويوحّدون في الخلقة حدوثاً وبقاءً لما حصلت لهم هذه الشبهة، لأن اللَّه تعالي لا تنحسر قدرته عن المخلوق في أصل خلقته وبعد خلقته، فهو دائماً يستمدّ وجوده وبقاءه من الفيض والمدد الإلهي، وهم أرادوا أن ينكروا التوسّل، وهو فعل من الأفعال للزوم التفويض، فوقعوا فيما هو أعظم وهو التفويض في أصل وجود المخلوقات من حيث البقاء فضلًا عن أفعالها، مع أن اللَّه تعالي دائم الفيض علي البريّة، والمخلوق في كلّ آن من آنات وجوده محتاج إلي فيض باريه، لا يستقلّ عنه في وجوده ولا

ينادده في فعله؛ إذ الباري قيّوم علي وجود المخلوق وأفعاله بنحو الأمر بين الأمرين، فلا ننفي المخلوقات وأفعالها كما فعل ذلك بعض جهلة الصوفية، ولا نعزل قدرة اللَّه تعالي عن مخلوقاته كما فعل المفوّضة، بل نقول كما قال اللَّه عزّ وجلّ: «وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَي» «1».

الجواب الثالث: أن الجاحدين للتوسّل حيث كانوا عبّاد المذهب الحسّي المادي من حيث يشعرون أو من حيث تشبّع نفسياتهم وذهنهم بذلك، حيث يبنون علي أن كلّ فعل حسّي هو فعل للمخلوقات، وكلّ فعل وراء الحسّ فهو فعل لاهوتي إلهي، أو أن الأفعال الصغيرة الحجم هي فعل للمخلوقات أما

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 279

الأفعال الكبيرة فهي فعل إلهي، وعلي هذا الميزان يكون إماتة الموتي لا يصح إسنادها إلي الملك الموكّل وهو عزرائيل عليه السلام، لا سيما وأن الاماتة لا تقتصر علي بني البشر فقط، بل تشمل جميع بني الجنّ وجميع النباتات، بل وجملة الملائكة، فهذه القدرة بهذا الحجم كيف تسند وتعزي إلي الملك عزرائيل؟ مع أن قدرة اللَّه تعالي أنفذ فيما أقدر عزرائيل عليه، وكذلك ميكائيل الموكّل بتقسيم الأرزاق وتدبيرها لكلّ الكائنات الحيّة علي وجه الأرض، وكذلك جبرئيل الموكّل بالبطش والنقمة الإلهيّة ونشر العلم علي الكائنات المدركة، وإسرافيل الموكّل بالإحياء وغير ذلك من عظائم الأفعال، فإنه علي منطق هؤلاء الجاحدين تكون قدرة اللَّه معزولة عن تلك الأفعال كما توهّمه هؤلاء، وأنّ هذه الأفعال هي صلاحيات إلهيّة لا تقبل الاسناد لغير اللَّه.

فتبيّن أن الضابطة في كون الفعل إلهيّاً هو صدوره عن الفاعل بمعزل عن قدرته غيره، ومن ثمّ لا يصحّ توهّم استقلال المخلوق في الفعل ولو كان حقيراً صغيراً؛ إذ لو استقلّ لكان فاعلًا فعلًا إلهيّاً.

الشبهة السابعة: إيجاد المخلوقات الإمكانية كلّه ابداعيّ بلا واسطة … ص: 279
اشارة

الشبهة السابعة: إيجاد المخلوقات الإمكانية

كلّه ابداعيّ بلا واسطة

قالوا في المقام لِمَ لا يكون فعل اللَّه تعالي دائماً إبداعياً بكن فيكون بلا أي واسطة أو وسيلة؟ وهذا من مظاهر القدرة والهيمنة الإلهية، بخلاف القول بالأفعال غير الابداعية، فهي تستبطن القول بعجز اللَّه تعالي واحتياجه إلي الأسباب في عملية الخلق والايجاد.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 280

الجواب عن الشبهة السابعة: … ص: 280

ويُجاب عن هذه الشبهة بنفس الجواب السابق، ونضيف إليه بعض الأجوبة الأخري:

الجواب الأول: لا ريب أننا نشاهد في عالم الخلقة الامكانية أفعالًا لبعض المخلوقات بل موجودات مخلوقة غير ابداعية، كما نصّ علي ذلك القرآن الكريم في آيات عديدة كما سيأتي- وأن اللَّه تعالي كان عرشه علي الماء، ثم خلق السماوات والأرض، ثم خلق من الأرض النباتات والزرع، ثم خلق من الطين البدن الانساني، وخلق الجنّ من نار السموم، وخلق من الماء كلّ شي ء حيّ، وغير ذلك من المخلوقات غير الإبداعية، التي توجد بعملية التوليد والتوالد بين الأسباب والمسبّبات، وبناءً علي ما ذكروه من الشبهة، من أن كلّ فعل غير ابداعي، فهو مستبطن للعجز والحاجة إلي الوسيلة والأسباب ويكون اسناد تلك المخلوقات غير الابداعية إلي اللَّه تعالي إسناداً للعجز والحاجة إلي اللَّه عزّ وجلّ، وإن لم نُسند تلك المخلوقات إلي اللَّه تعالي نقع في معضلة الشرك في الخالقية وهو شرك أعظم؛ لأن شطراً وافراً من المخلوقات كالموجودات المادّية في أصل وجودها فضلًا عن أفعالها يتمّ تخليقها عن طريق الأسباب والوسائط لا بنحو الابداع، فإن اسندناها إلي الباري تعالي علي زعمهم- يلزم نسبة العجز إلي الخالق، وإن لم نسندها إليه عزّ وجلّ يلزم القول بالشرك في الخالقية وخروج تلك الموجودات عن حيطة قدرته تعالي.

فالصحيح: إن اللَّه تعالي خالق كلّ شي ء سواء كان بالابداع أو التخليق، والسببيّة لا توجب الشرك ولا

نسبة العجز إلي اللَّه تعالي؛ لأن المخلوق الذي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 281

يكون واسطة ووسيلة في تخليق بعض المخلوقات لا يخرج عن حيطة القدرة الإلهية، فهو بتمام شراشر وجوده مفتقر إلي باريه في الحدوث والبقاء وفي فعله وأصل وجوده، وإذا صار الماء مثلًا واسطة في تخليق كلّ شي ء حيّ لا يعني عجز الباري، لأن الماء بتمام وجوده مفتاق إلي خالقه ولا يستغني في فعله عنه، ففعل الماء فعل اللَّه تعالي، والماء مجري الفيض وسبب إعداديّ لخالقية اللَّه عزّ وجلّ.

ثم إن البارئ والمصوّر من أسماء اللَّه تعالي، والبَرء عملية تحويل وإيجاد وإيجاب شي ء من شي ء آخر، ثم بعد البرء تأتي عملية تشكيل الصورة، وهذه كلّها دائرة الموجودات غير الابداعية، وهي تحت هيمنة الأسماء الإلهية، كالبارئ والمصوّر ولا تخرج عن حيطة قدرته عزّ وجلّ.

سبب جحود التوسّل القصور في معرفة كنه ذوات المسبّبات والأسباب: … ص: 281

الجواب الثاني: إن الاحتياج إلي الأسباب والوسائط ليس لعجز في الباري تبارك وتعالي، بل لعجز وعدم قابلية في ذات الممكن، وذلك لأن بعض الموجودات الممكنة لا يمكن أن تفرض لها شيئية إلّابعد وجود موجودات أخري سابقة عليها، فالجسم مثلًا لا يمكن أن يخرج إلي الوجود إلّامن المادة؛ لعدم قابلية الجسم إلّاأن يكون متقوّماً بالمادّة، واللَّه عزّ وجلّ علي كلّ شي ء قدير، ولا شيئية للجسم قبل المادّة لكي تتعلّق به القدرة؛ إذ اللّاشيئية عدم وبطلان وعجز وفقدان، ولا معني لأن تتعلق القدرة الإلهية بالعجز والبطلان.

نعم إذا فُرض كونه شيئاً بواسطة السبب تتعلّق به القدرة حينئذٍ، فالأشياء التي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 282

هي ذوات أسباب ذواتها متقوّمة ذاتياً قوامياً بنيوياً وهوية بتلك الأسباب، فنفي فرض الأسباب نفي لأصل ذواتها، فيرجع إلي التناقض، لا للعجز في قدرة الباري تعالي، كمن يريد أن يفترض الجسم بلا أن يكون له أبعاد

ممتدّة، فهؤلاء تخيّلوا أن الأسباب والوسائط منحازة عن أصل ذوات الأشياء المخلوقة في الدرجات المتوسّطة والنازلة من عوالم الخلقة، فيرجع جحودهم للوسائل إلي الجهل بحقائق المخلوقات، ولو كان وجود الأسباب والوسائط يعني العجز لكانت سنّة اللَّه تعالي في تدبير الخلقة بتوسّط الملائكة عجز في الساحة الإلهية والعياذ باللَّه-، لا سيّما وأن القرآن الكريم يسند جملة أفعال الخلقة وعظائم الأفعال إلي الملائكة.

الجواب الثالث: وهو عبارة عن الشواهد والطوائف القرآنية الدالّة علي وقوع التخليق من اللَّه تعالي عبر الوسائط من ملائكة ورسل وغير ذلك، وأن نظام الخلقة علي نحوين: إبداعيّ وتخليقيّ، كما قال عزّ وجلّ: «أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» «1».

وإليك بعض تلك الطوائف:

الطائفة الأولي: آيات الإماتة وتوفّي الأنفس، وقد أسند التوفّي فيها إلي اللَّه عزّ وجلّ وإلي الملائكة وإلي ملك الموت خاصّة:

الاسناد الأول: إسناد توفّي الأنفس إلي الملائكة.

1- قوله تعالي: «إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ» «2».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 283

2- قوله تعالي: «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ» «1».

3- قوله تعالي: «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» «2».

4- قوله تعالي: «حَتَّي إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ» «3».

5- قوله تعالي: «حَتَّي إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ» «4».

6- قوله تعالي: «لَوْ تَرَي إِذْ يَتَوَفَّي الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ» «5».

7- قوله تعالي: «فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ» «6».

8- قوله تعالي: «وَلَوْ تَرَي إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَي اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ» «7».

وغير ذلك من الآيات المباركة التي نلاحظ في مجموعها أن اللَّه سبحانه وتعالي قد نسب وأسند وفاة

الأنفس إلي الملائكة من باب التوسيط، مع أن

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 284

المميت من أسماء اللَّه تعالي ولا منافاة في ذلك، ولا يلزم منه العجز؛ لأن الملك بكلّ وجوده وأفعاله قائم باللَّه تعالي ومفتقر إليه حدوثاً وبقاءً.

وفي الآيات الثلاثة الأخيرة يسند اللَّه عزّ وجلّ العذاب إلي الملائكة وفي الوقت ذاته ينسب اللَّه عزّ وجلّ العذاب والتعذيب إلي نفسه ولا منافاة في ذلك لما تقدم.

الاسناد الثاني: وهي الآيات التي يسند اللَّه عزّ وجلّ فيها التوفّي إليه مباشرة:

1- قوله تعالي: «اللَّهُ يَتَوَفَّي الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا» «1».

2- قوله تعالي: «وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ» «2».

3- قوله تعالي: «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ» «3».

4- قوله تعالي: «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» «4».

وكما أسلفنا لا تنافي بين الاسناد الأول والثاني وكذلك الثالث الآتي، وكلّ منها اسناد حقيقي، لأن الملائكة لا حول لهم ولا قوة إلّاباللَّه تعالي.

ويدلّ علي هذه الطولية في الاسناد السياق الواحد في آيتي سورة النحل المتقدّمتين، حيث أسند في أحدهما التوفّي إلي اللَّه تعالي وفي الأخري إلي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 285

الملائكة.

الاسناد الثالث: إسناد التوفّي إلي ملك الموت:

قوله تعالي: «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ» «1».

فإسناد الإماتة إلي ملك الموت والرسل في وقت واحد يعني أن بقيّة الملائكة أعوان لملك الموت، تحت هيمنته وقدرته، كما جاء ذلك في روايات الفريقين.

والحاصل: أن برنامج الإماتة لكلّ ذي روح تحت تدبير وإدارة ملك الموت، وهو يدير ذلك البرنامج التكويني عن طريق رسله وأعوانه الذين هم تحت إمرته وسلطانه وقدرته، وهو في الوقت ذاته تحت

سلطان اللَّه عزّ وجلّ وقدرته، وافتقاره، واحتياجه إلي اللَّه عزّ وجلّ حدوثاً وبقاءً أشدّ من احتياج الملائكة من أعوانه إليه بما لا يقاس.

ومن هذا البيان يتّضح أن إسناد فعل إلي الملائكة لا يعني عدم إسناده إلي الباري تعالي، وهكذا إسناد فعل إلي الملائكة لا يعني عدم إسناده إلي ذات أخري شريفة تهيمن علي الملائكة، وتكون الملائكة رسلًا وأعواناً لها وتحت سلطانها، كملك الموت الذي يدبّر الملائكة بإقدار اللَّه تعالي وتدبيره، ووراء ملك الموت مخلوقات أخري أشرف منه تدبّره وتدير شؤون عالم الإمكان بإذن اللَّه تعالي وهم خلفاء اللَّه تعالي.

الطائفة الثانية: وهي الآيات التي صرحت بإيكال بعض الأفعال والأمور التدبيريّة إلي بعض المخلوقات.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 286

1- قال تعالي: «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ» «1».

2- وقال عزّ وجلّ: «فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ» «2».

وهذا التوكيل المذكور في الآيتين الكريمتين ليس علي نسق إيكال مخلوق إلي مخلوق آخر؛ لأنه في باب الوكالات الاعتبارية والقانونية هناك نوع من الاستقلال للوكيل عن الموكّل في الفعل، وفيه نوع من أنواع التفويض العزلي وإن لم يكن تفويضاً واستقلالًا وانعزالًا تاماً؛ لإمكان عزله في كلّ آن آن، وأما في توكيل اللَّه تعالي بعض المخلوقات فليس هو توكيلًا وتفويضاً عزلياً تنحسر فيه قدرة الباري عن الفعل الموكّل فيه، لأنها وكالة افتقار وتقوّم فعل الوكيل بالموكّل، فاللَّه تعالي أقدر بعض مخلوقاته وأوكل لهم بعض الأمور بلا انعزال عمّا وكّلهم فيه، بل هو تعالي فيما أقدرهم عليه أقدر بما لا يتناهي من القدرة، لأن وجودهم فضلًا عن فعلهم متقوّم بذات الباري تعالي حدوثاً وبقاءً، وهو الحيّ القيّوم الذي به قامت السماوات والأرض.

ثم إن التوكيل الذي ورد في سورة

الأنعام توكيل لدنّي لجماعة من الانس، وهذه من التعابير القرآنية الدالّة علي وجود الارتباط اللّدني بين اللَّه تعالي ومجموعة من البشر، لم يكفروا باللَّه عزّ وجلّ طرفة عين.

الطائفة الثالثة: وهي الدالّة علي توسيط بعض المخلوقات في الخلق:

1- قوله تعالي: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 287

مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الَّثمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ» «1»

، فإخراج الثمرات ليس إبداعيّ بل توسيطيّ، فالباري تعالي يُخرج بواسطة الماء الثمرات، والخالق هو اللَّه تعالي وليس الماء إلّاوسيطاً في جريان الفيض الإلهي.

2- قوله تعالي: «وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْ ءٍ» «2».

3- قوله تعالي: «وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» «3».

4- قوله تعالي: «وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ» «4».

وقد قرّر الحكماء وجود حياة نباتية، كما أكّدت ذلك العلوم المادّية، وهذه الحياة والإحياء يحصل بواسطة الماء ولو إعداداً، فكيف يستعظم ذلك علي من هو أشرف من الماء وأعظم عند اللَّه تعالي؟!

5- قوله تعالي: «وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ» «5».

فالطهارة التي هي أمر معنوي ونوري يحصل من اللَّه تعالي بواسطة الماء؛ لأنها ليست من الأفعال الإبداعية بل التخليقية.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 288

6- قوله تعالي: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَي الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» «1».

والعرش هو القدرة الإلهية، فقدرته تعالي علي الماء، والماء واسطة في فيض القدرة، علي الاختلاف في المراد من الماء في الآية الكريمة.

فالقوابل محدودة ونشأة الماء هي الواسطة في تقبّل الفيوضات الإلهية.

7- قوله تعالي: «وَجَعَلْنَا

مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ» «2».

8- قوله تعالي: «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ» «3».

9- قوله تعالي: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا» «4».

10- قوله تعالي: «يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ» «5».

فالروح الذي هو خلق أعظم من الملائكة سبب وواسطة إلهية لنزول الملائكة وعروجها.

الطائفة الرابعة: إسناد الخلق والتخليق إلي بعض المخلوقات:

1- قوله تعالي: «أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ» «6».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 289

فأُسند الخلق إلي الأيدي الإلهية وهي القدرة، إذ لا شك أن اللَّه تعالي لا يد جسمانية له، فيده قدرته وتصرّفه المخلوق له الخارج عن الذات المقدّسة، وهذه اليد المخلوقة تعمل وتخلق الأنعام بالمباشرة.

2- قوله تعالي: «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَي* الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّي» «1».

فالتسبيح في هذه الآية الكريمة أسند إلي الإسم، و (الذي) وصف للمضاف إلي الربّ وهو الاسم، فالإسم هو الذي خلق فسوّي وقدّر فهدي، والإسم غير المسمّي قائم به ومخلوق من مخلوقاته، كما جاء ذلك في سورة الرحمن في قوله تعالي: «وَيَبْقَي وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالإْكْرَامِ» «2»

، فالجلال والإكرام وصف لوجه الربّ لا لنفس الربّ، وهو مخلوق من المخلوقات وآية يتوجّه بها إلي اللَّه عزّ وجلّ، والشاهد علي المغايرة ما جاء في آخر سورة الرحمن، حيث جعل وصف الجلال والإكرام صفة للربّ لا للوجه، حيث قال تعالي: «تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالإْكْرَامِ» «3»

، وليس المراد من الاسم والوجه في الآية المباركة جزء الذات الجسماني، كما توهّم ذلك المجسّمة والحشوية، تعالي اللَّه عن ذلك علواً كبيراً، بل المراد منه الآية الكبري الدالّة علي عظمة اللَّه عزّ وجلّ والقائمة الوجود به، وقد أطلق علي

البيت الحرام والكعبة أنهما وجه اللَّه تعالي الذي يتوجّه به إليه، كما في قوله عزّ وجلّ: «وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» وقال تعالي أيضاً: «أَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ» مما يدلّل علي أن البيت الحرام أحد الوجوه والآيات الكبري التي يتوجّه إلي اللَّه عزّ وجلّ بها، وكذلك

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 290

الأنبياء، حيث أطلق علي موسي وعيسي عليهما السلام أنهما وجيهين عند اللَّه تعالي، كما تقدّم أنهما كلمات اللَّه وأسمائه.

3- قوله تعالي: «وَرَسُولًا إِلَي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَي بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» «1».

4- قوله تعالي: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَي بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَي النَّاسَ جَمِيعًا» «2»

، فهنا أسند تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتي أي إحيائهم إلي القرآن الكريم.

الطائفة الخامسة: وهي التي عُبّر فيها بالمُلك، وأن اللَّه تعالي أملك كثيراً من الأمور لمخلوقاته الشريفة من دون أن يكون هذا التمليك عزلي تفويضي، بل كلّما تلقي المخلوق من باريه فيضاً أكثر ومرتبة أعلي وأشرف في الوجود كلّما كان أكثر فقراً إلي اللَّه عزّ وجلّ من غيره، ومن ثم كان الرسول الأكرم صلي الله عليه و آله أعبد الخلائق إلي اللَّه تعالي، لأنه أكثرهم فقراً إلي اللَّه عزّ وجلّ، كما أثر ذلك عنه صلي الله عليه و آله حيث كان يقول: (الفقر فخري)، وإليك بعض تلك الآيات في المقام:

1- قوله تعالي: «أَمْ يَحْسُدُونَ

النَّاسَ عَلَي مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا» «3».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 291

والملك العظيم الذي أعطي لآل إبراهيم هو الإمامة، ولم يُعبّر عن غير الإمامة بالملك العظيم.

2- قوله تعالي: «قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَايَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي» «1».

3- قوله تعالي: «وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا» «2».

4- «وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ» «3».

5- «وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا» «4».

6- «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَي كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ» «5».

والملك في هذه الآية ليس خاصّاً بالملك الأرضي، بل هو عامّ شامل لمطلق النشآت.

7- «وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ» «6»

، فوصف اللَّه عزّ وجلّ خازن النيران الملك الموكّل بالنار بمالك؛ لأنه ملّكه القدرة علي تدبير النيران.

8- «وَالْمَلَكُ عَلَي أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ» «7»

، والعرش هو مقام القدرة واللَّه تعالي أقدر أربعة من الأوّلين وأربعة من الآخرين

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 292

علي حمله بلا تفويض.

9- قوله تعالي: «وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ» «1».

10- قوله تعالي: «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ» «2».

11- «إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَّكْفِيَكُمْ أَن يُّمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ» «3».

12- «يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ» «4».

الطائفة السادسة: ما ذكر فيها نسبة الإهلاك إلي نفسه تعالي وإلي بعض مخلوقاته.

1- قوله تعالي: «وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَي وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» «5».

2- «فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ» «6».

3- «وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا

بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ» «7».

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 293

4- «وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَي قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ» «1».

5- «فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا» «2».

الطائفة السابعة: إسناد تدبير بعض المخلوقات عن طريق الرياح:

1- قوله تعالي: «وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ» «3».

2- «اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا» «4».

3- «وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ» «5».

4- «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ» «6».

5- «وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا» «7».

والحاصل: إنّ نظام الخلقة في السنّة الإلهيّة نظام الأسباب والمسبّبات، كما نصّ علي ذلك متواتر آيات القرآن الكريم، وما ورد من روايات الفريقين «أبي اللَّه أن يجري الأمور إلّابأسبابها»، وذلك لأن الأمور ذواتها متقوّمة بالأسباب في هويتها، فهم يجهلون نظام الخلقة والمخلوقات.

*****

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 295

خاتمة في: … ص: 295

أ- الروايات الواردة في مشروعية التوسّل والتشفّع والتبرّك: … ص: 295

الروايات في هذا المجال كثيرة جدّاً، نشير إلي بعض ما ورد منها في الكتب السنّية:

1- ما أخرجه البخاري في صحيحه عن الجعيد بن عبد الرحمن قال:

(سمعت السائب بن يزيد قال: ذهبت بي خالتي إلي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، فقالت:

يارسول اللَّه إن ابن أختي وجع، فمسح رأسي ودعا لي بالبركة وتوضّأ فشربت من وضوئه) «1».

2- كذلك روي البخاري في صحيحه عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال:

(رأيت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله في قبّة حمراء من أدم، ورأيت بلالًا أخذ وضوء رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ورأيت الناس يتبدّرون ذاك الوضوء، فمن أصاب منه شيئاً تمسّح به،

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 296

ومن لم يصب منه شيئاً أخذ من بلل يد صاحبه) «1».

3- وأخرج مسلم في صحيحه عن أنس قال: (لقد رأيت رسول

اللَّه صلي الله عليه و آله والحلّاق يحلقه وأطاف به أصحابه، فما يريدون أن تقع شعرة إلّافي يد رجل) «2».

قال النووي في شرحه لصحيح مسلم تعليقاً علي مثل هذه الروايات: (وفي هذه الأحاديث بيان بروزه صلي الله عليه و آله للناس وقربه منهم … وإجابته من سأله حاجة أو تبريكاً بمسّ يده وإدخالها في الماء كما ذكروا، وفيه التبرّك بآثار الصالحين وبيان ما كانت الصحابة عليه من التبرّك بآثاره صلي الله عليه و آله وتبرّكهم بإدخال يده الكريمة في الآية وتبرّكهم بشعره الكريم وإكرامهم إياه أن يقع شي ء منه إلّافي يد رجل سبق إليه) «3».

إذن هذه الشواهد وغيرها كاشفة عن أن سيرة المسلمين منذ الصدر الأول كانت قائمة علي التبرّك بما يتصل بالنبيّ الأكرم صلي الله عليه و آله، من دون ردع ونهي، وهذا دالّ علي مشروعية ما كان يأتي به الصحابة، وقلنا أن التبرّك يجتمع مع التوسّل والاستغاثة في ماهية واحدة وهي التوسيط، فالتبرّك طلب البركة ونوع توسّل واستشفاع بما يرتبط بالأولياء والأوصياء والحجج من أشياء.

4- وفي الجامع الصغير للسيوطي: (غبار المدينة شفاء من الجذام) «4»، وقال

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 297

المناوي في فيض القدير بعد نقل مثل هذه الروايات: (قال السمهودي: قد شاهدنا من استشفي به منه وكان قد أضرّ به فنفعه جدّاً) «1».

5- أخرج الحاكم في المستدرك عن عثمان بن حنيف أن رجلًا ضرير البصر أتي النبيّ صلي الله عليه و آله فقال: يارسول اللَّه علّمني دعاءً أدعو به يردّ اللَّه عليّ بصري، فقال له: قل: «اللّهم إني أسألك وأتوجّه إليك بنبيك نبيّ الرحمة، يامحمّد إني قد توجّهت بك إلي ربّي، اللّهم شفّعه فيّ وشفّعني في نفسي» فدعا بهذا الدعاء، فقام وقد أبصر

«2».

6- روي البيهقي في خبر صحيح إنه في أيام عمر جاء رجل إلي قبر النبيّ صلي الله عليه و آله فقال: يامحمّد استسق لأمتك، فسقوا «3».

7- أخرج النسائي عن عبداللَّه بن عمرو قال: سمعت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يقول: «إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول، وصلّوا عليّ، فإنه من صلّي عليّ صلاة صلّي اللَّه عليه عشراً، ثم سلوا اللَّه لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنّة لا تنبغي إلّا لعبد من عباد اللَّه، أرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلّت له الشفاعة» «4».

8- روي مسلم عن عائشة عن النبيّ صلي الله عليه و آله قال: «ما من ميّت تصلّي عليه أمة من المسلمين يبلغون مئة كلّهم يشفعون له إلّاشفّعوا فيه» «5».

9- روي مسلم أيضاً عن النبيّ صلي الله عليه و آله قال: «ما من رجل مسلم يموت فيقوم علي

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 298

جنازته أربعون رجلًا، لا يشركون باللَّه شيئاً إلّاشفّعهم اللَّه فيه» «1»

.10- ما أخرجه الطبراني وغيره عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «إذا خرج الرجل من بيته إلي الصلاة فقال: اللّهم إني أسألك بحقّ السائلين عليك وبحقّ ممشاي، فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياء ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلّاأنت، وكّل اللَّه عزّ وجلّ به سبعين ألف ملك يستغفرون له، وأقبل اللَّه تعالي عليه بوجهه حتي يقضي صلاته» «2».

11- كذلك ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس عن النبيّ صلي الله عليه و آله قال: «من سرّه أن يوعيه اللَّه عزّ وجلّ حفظ القرآن وحفظ

أصناف العلم، فليكتب هذا الدعاء في إناء نظيف، أو في صحفة قوارير بعسل وزعفران وماء مطر ويشربه علي الريق، وليصم ثلاثة أيام، وليكن إفطاره عليه، فإنه يحفظها إن شاء اللَّه عزّ وجلّ، ويدعو به في أدبار صلواته المكتوبة:

اللّهمّ إني أسألك بأنك مسؤول لم يُسأل مثلك ولا يُسأل، أسألك بحقّ محمّد رسولك ونبيّك وإبراهيم خليلك وصفيّك وموسي كليمك ونجيّك وعيسي كلمتك وروحك، وأسألك بصحف إبراهيم وتوراة موسي وزبور داود وإنجيل عيسي وفرقان محمّد صلي الله عليه و آله، وأسألك بكلّ وحي أوحيته وبكلّ حقّ قضيته وبكلّ سائل أعطيته، وأسألك بأسمائك التي دعاك بها أنبياؤك فاستجيب لهم، وأسألك باسمك المخزون المكنون الطهر الطاهر المطهّر المبارك المقدّس الحيّ

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 299

القيّوم ذي الجلال والاكرام، وأسألك باسمك الواحد الأحد الصمد الفرد الوتر الذي ملأ الأركان كلّها، وأسألك باسمك الذي وضعته علي السماوات فقامت، وأسألك باسمك الذي وضعته علي الأرضين فاستقرّت، وأسألك باسمك الذي وضعته علي الجبال فرست، وأسألك باسمك الذي وضعته علي الليل فأظلم، وأسألك باسمك الذي وضعته علي النهار فاستنار، وأسألك باسمك الذي يحيي به العظام وهي رميم، وأسألك بكتابك المنزل بالحقّ ونورك التام، أن ترزقني حفظ القرآن وحفظ أصناف العلم وتثبّتها في قلبي، وأن تستعمل بها بدني في ليلي ونهاري أبداً ما أبقيتني ياأرحم الراحمين) «1».

12- أخرج الهيثمي في مجمع الزوائد عن العباس عن النبيّ صلي الله عليه و آله أنه قال:

«قال داود: أسألك بحقّ آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب» «2».

13- روي جمال الدين الزرندي الحنفي عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه عن النبيّ صلي الله عليه و آله أنه قال: «إذا هالك أمر فقل: اللّهم صلِّ علي محمّد وآل محمّد اللّهم إني أسألك بحقّ

محمّد وآل محمّد أن تكفيني شرّ ما أخاف وأحذر، فإنك تكفي ذلك الأمر» «3».

14- أخرج الحاكم الحسكاني عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «لما نزلت الخطيئة بآدم وأُخرج من جوار ربّ العالمين، أتاه جبرئيل فقال: ياآدم ادع ربّك، قال: ياحبيبي جبرئيل وبما أدعوه؟ قال: قل: ياربّ أسألك بحقّ الخمسة الذين تخرجهم من صلبي آخر الزمان إلّاتبت عليّ ورحمتني، فقال:

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 300

حبيبي جبرئيل سمّهم لي، قال: محمّد النبيّ وعليّ الوصيّ وفاطمة بنت النبيّ والحسن والحسين سبطيّ النبيّ، فدعا بهم آدم فتاب اللَّه عليه، وذلك قوله: «فَتَلَقَّي ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ» وما من عبد يدعو بها إلّااستجاب اللَّه له» «1».

15- وأخرج الحاكم النيسابوري في المستدرك عن ابن عباس قال: «أوحي اللَّه إلي عيسي عليه السلام يا عيسي آمن بمحمد وأمر من أدركه من أمتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم ولولا محمد ما خلقت الجنة ولا النار، ولقد خلقت العرش علي الماء فاضطرب فكتبت عليه لا إله إلّااللَّه محمد رسول اللَّه فسكن» قال الحاكم: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه. «2»

وقد تقدّمت هذه الرواية عن السيوطي في الدرّ المنثور وغيره بألفاظ أخري فراجع، وقد جاء فيها أن سبب جعل تلك الكلمات واسطة ووسيلة هو حفاوتهم وكونهم أحبّ الخلق للَّه عزّ وجلّ، كما تقدّم في قول إبراهيم عليه السلام «إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا».

ب- آراء أعلام السنّة في التوسّل: … ص: 300

1- قول مالك للمنصور العباسي الدوانيقي عندما سأله قائلًا: أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول اللَّه صلي الله عليه و آله؟: (ولِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلي اللَّه تعالي يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به) «3».

الامامة الالهية(5)، ج 4،

ص: 301

2- قال أبو بكر تقي الدين الحصني الدمشقي الشافعي: (ومن أنكر التوسّل به والتشفّع به بعد موته وأن حرمته زالت بموته فقد أعلم الناس ونادي علي نفسه أنه أسوأ حالًا من اليهود، الذين يتوسلون به قبل بروزه إلي الوجود، وأن في قلبه نزغة هي أخبث النزغات) «1».

3- قال الحافظ تقيّ الدين السُبكي: (ولم يزل أهل العلم ينهون العوام عن البدع في كلّ شؤونهم ويرشدونهم إلي السنّة في الزيارة وغيرها إذا صدرت منهم بدعة في شي ء، ولم يعدّوهم في يوم من الأيام مشركين بسبب الزيارة أو التوسّل، كيف وقد أنقذهم اللَّه من الشرك وأدخل في قلوبهم الإيمان، وأول من رماهم بالإشراك بتلك الوسيلة هو ابن تيمية وجري خلفه من أراد استباحة أموال المسلمين ودمائهم لحاجة في النفس) «2».

4- ما نقله المناوي في فيض القدير عن السُبكي مرتضياً له، حيث قال: (قال السبكي: ويحسن التوسّل والاستعانة والتشفّع بالنبيّ صلي الله عليه و آله إلي ربّه، ولم ينكر ذلك أحد من السلف ولا من الخلف، حتي جاء ابن تيمية فأنكر ذلك وعدل عن الصراط المستقيم، وابتدع ما لم يقله عالم قبله، وصار بين أهل الإسلام مثله) «3».

وهذه العبارة عن السُبكي وسابقتها تكشف عن اجماع الطوائف السنّية علي مشروعية التوسّل، ولم ينكر ذلك إلّاابن تيمية ومن جاء بعده.

5- قال السمهودي في وفاء الوفا نقلًا عن كتاب العلل والسؤلات لعبداللَّه بن

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 302

أحمد بن حنبل: (قال عبداللَّه: سألت أبي عن الرجل يمسّ منبر رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ويتبرك بمسّه ويقبّله ويفعل بالقبر مثل ذلك رجاء ثواب اللَّه تعالي؟ قال: لا بأس به) «1».

6- كذلك عن إسماعيل بن يعقوب التيمي، قال: (كان ابن المنكدر يجلس

مع أصحابه وكان يصيبه الصمات، فكان يقوم كما هو ويضع خدّه علي قبر النبيّ صلي الله عليه و آله ثم يرجع، فعوتب في ذلك، فقال: إنه ليصيبني خطرة، فإذا وجدت ذلك استشفيت بقبر النبيّ صلي الله عليه و آله) «2».

نكتفي بهذا المقدار من الأقوال.

*****

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 303

خلاصة البحث … ص: 303

1- إنّ التوسّل والتوجّه والتشفّع والتبرّك والتشفّي وطلب قضاء الحاجات كلّها عناوين لطبيعة واحدة، وهي ضرورة الواسطة بين العبد وربّه.

2- إنّ التوسّل والتوجّه والتشفّع والتبرّك بأسماء وآيات وكلمات اللَّه وبأمر منه تعالي هو خالص التوحيد وليس شركاً ولا كفراً، بل عدم الانصياع لأمره تعالي بالتوجّه والتوسّل والتشفع بها لطلب القرب والزلفي إليه تعالي هو كفر واستكبار لأنه خروج علي أمره تعالي.

3- الذوبان وتمام الانصياع للوسائط والوسائل لطلب الزلفي إلي اللَّه تعالي هو عبادة للَّه لا للوسائط أو الوسائل لأنه ذوبان وانصياع في تفضيل أمر اللَّه تعالي وهو معني العبادة.

4- أن التوسّل شرط شرعي في قبول التوبة وسائر العبادات ونيل المقامات.

5- أن التوسّل ضرورة عقلية وتاريخية وأديانية وقرآنية وروائية.

6- أن الوسائط المرفوضة في القرآن الكريم هي الوسائط المقترحة من قبل العبيد دون الوسائط المنصوبة من اللَّه عزّ وجلّ.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 304

7- أن من الأسباب المهمّة في إنكار التوسّل القول بالتجسيم أو نبوءة العقل.

8- أن الاعراض عن الآيات الإلهية وترك التوسّل بها موجب لحبط الأعمال والخسران في الدنيا والآخرة.

9- لا فرق بين التوسّل والشفاعة إلّاباللحاظ.

10- إن التوسّل والاستغاثة والتبرّك والاستشفاء من وادٍ واحد، وهي مصاديق متعدّدة لماهية واحدة.

11- إنّ التوسّل توحيد اللَّه الأعظم، وهو أبلغ أنواع التعظيم والخضوع للَّه تعالي.

12- إنّ جعل شي ء وسيلة يتضمّن في طيّات معناه عدم التأليه وأنّه واسطة لغيره وغيره هو الغاية، وأنما المشركون أشركوا

لأنهم اقترحوا الوسيلة إلي اللَّه تعالي من مل ء إرادتهم وتحكيمها علي إرادة اللَّه، فجعلوا لأنفسهم صلاحيات الألوهية.

13- إن اللَّه تعالي غاية الغايات وليس وسيلة كي يتوسّل به مباشرة، فمن يجعل اللَّه وسيلة لغاية غيره يكون مشركاً.

14- إنّ التوسّل بالوسيلة هو حقيقة معتقد الشهادة الثانية والثالثة وحقيقة النبوّة والرسالة والولاية.

15- إنّ التوسّل من أعظم أبواب العبادات والقربات إلي اللَّه تعالي.

*****

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 305

ثبت المصادر … ص: 305

1- القرآن الكريم

2- الصحيفة السجادية

الإمام زين العابدين، مؤسسة الإمام المهدي، ط 1، 1411 ه ق.

3- فقه الرضا

علي بن بابويه القمي، مؤسسة آل البيت، ط 1- 1406 ه.

4- المحاسن

البرقي، دار الكتب الإسلامية.

5- كمال الدين وتمام النعمة

الصدوق، مؤسسة النشر الإسلامي، 1405 ه.

6- التوحيد

الشيخ الصدوق، جماعة المدرسين، 1387 ه.

7- معاني الأخبار

الصدوق، النشر الإسلامي، 1361 ه.

8- تفسير القمي

علي بن إبراهيم القمي، مؤسسة دار الكتاب، ط 3- 9- 1404 ه.

10- تفسير فرات الكوفي

وزارة الثقافة والارشاد الإسلامي، ط 1- 11- 1410 ه.

12- الهداية الكبري

الحسين بن حمدان الخصيبي، مؤسسة البلاغ بيروت، ط 4- 1411 ه.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 306

13- كتاب الغيبة

النعماني، مكتبة الصدوق- طهران.

14- علل الشرائع

الصدوق، المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف، 1386 ه.

15- الكافي

محمد بن يعقوب الكليني، دار الكتب الإسلامية، طهران، ط 3، 1388 ه.

16- التبيان في تفسير القرآن

الطوسي، دار إحياء التراث العربي، ط 1، 1409 ه.

17- مجمع البيان في تفسير القرآن

الطبرسي، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط 1، 1415 ه.

18- وسائل الشيعة

الحر العاملي، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، ط 2، 1414 ه.

19- تفسير العياشي

محمد بن مسعود بن عياش السلمي السمرقندي، المكتبة العلمية الإسلامية، طهران.

20- الوسيلة إلي نيل الفضيلة

ابن حمزة، مكتبة المرعشي النجفي، قم، الطبعة الأولي 1408 ه.

21- تأويل الآيات

السيد شرف الدين الاسترآبادي، مدرسة الامام المهدي- قم، ط 1- 1407 ه.

22- المقنع

الصدوق،

مؤسسة الإمام المهدي، قم، 1415 ه.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 307

23- الخصال

الصدوق، جماعة المدرسين، قم، 1403 ه.

24- روضة الواعظين

الفتال النيسابوري، منشورات الرضي، قم.

25- تهذيب الأحكام

الشيخ الطوسي، دار الكتب الإسلامية، ط 4، 1407 ه.

26- النهاية

الشيخ الطوسي، دار الأندلس، بيروت.

27- كفاية الأثر

الخزاز القمي الرازي، بيدار، قم، 1401 ه.

28- الأمالي

الشيخ الطوسي، دار الثقافة، قم، ط 1، 1414 ه.

29- الاحتجاج

الطبرسي، دار النعمان، النجف الأشرف، 1386 ه.

30- البرهان في تفسير القرآن

السيد هاشم البحراني، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط 1، 1419 ه.

31- الأمالي

الصدوق، مؤسسة البعثة، ط 1، 1417 ه.

32- بصائر الدرجات

محمد بن الحسن الصفار، مؤسسة الأعلمي- طهران، 1404 ه.

33- عدة الداعي

ابن فهد الحلي، مكتبة الوجداني- قم.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 308

34- كامل الزيارات

ابن قولويه، مؤسسة نشر الفقاهة، ط 1- 1417 ه.

35- مختصر بصائر الدرجات

الحسن بن سليمان الحلّي، المطبعة الحيدرية، النجف، ط 1، 1370 ه.

36- الغدير

الأميني، دار الكتاب العربي، بيروت، 1379 ه.

37- شرح احقاق الحق

السيد المرعشي، مكتبة المرعشي النجفي، قم.

38- بحار الأنوار

محمد باقر المجلسي، مؤسسة الوفاء، بيروت، ط 2، 1403 ه.

39- عيون أخبار الرضا عليه السلام

الصدوق، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط 1، 1404 ه.

40- لسان العرب

ابن منظور، دار إحياء التراث، بيروت، ط 1، 1405 ه.

41- مسند أحمد بن حنبل

دار صادر، بيروت.

42- صحيح البخاري

دار الفكر، بيروت، 1401 ه.

43- صحيح مسلم

دار الفكر، بيروت.

44- مناقب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام

محمد بن سليمان الكوفي القاضي، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، ط 1، 1412 ه.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 309

45- سنن النسائي

دار الفكر بيروت، ط 1، 1348 ه.

46- تفسير القرآن العظيم

ابن كثير، دار المعرفة، بيروت، 1412 ه.

47- البداية والنهاية

ابن كثير، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 1، 1408 ه.

48- كتاب الدعاء

الطبراني، دار الكتب العلمية بيروت، ط 1، 1413 ه.

49- المستدرك علي الصحيحين

الحاكم النيسابوري،

دار المعرفة، بيروت، 1406 ه.

50- جامع البيان

ابن جرير الطبري، دار الفكر بيروت، 1415 ه.

51- الدر المنثور

جلال الدين السيوطي، دار المعرفة، بيروت، ط 1، 1365 ه.

52- الجامع الصغير

جلال الدين السيوطي، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1401 ه.

53- فيض القدير

المناوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1415 ه.

54- شواهد التنزيل

الحاكم الحسكاني، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، ط 1، 1411 ه.

55- السيف الصقيل

الحافظ تقي الدين السبكي، مكتبة زهران.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 310

56- الشفا بتعريف حقوق المصطفي

القاضي عياض، دار الفكر، بيروت، 1409 ه.

57- وفاء الوفا

السمهودي.

58- نظم درر السمطين

الزرندي الحنفي، ط 1، 1377 ه.

59- كشف الغمة

الأربلي، دار الأضواء بيروت، ط 2 ص 1405 ه.

60- دفع الشبه عن الرسول والرسالة

تقي الدين الحصني الدمشقي الشافعي، دار إحياء الكتاب العربي، القاهرة، ط 2، 1418 ه.

61- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد

الهيثمي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408 ه.

62- زاد المسير في علم التفسير

ابن الحوزي، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1407 ه.

63- تحفة الأحوذي في شرح الترمذي

مبارك فوري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1410 ه.

64- ميزان الاعتدال

الذهبي، دار المعرفة، بيروت، ط 1، 1382 ه.

65- المعجم الكبير

الطبراني، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، الطبعة الثانية.

66- الطبقات الكبري

ابن سعد، دار صادر، بيروت.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 311

67- الجامع لأحكام القرآن

القرطبي، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، 1405 ه.

68- فضائل مكة والسكن فيها

الحسن بن يسار البصري، مكتبة الفلاح، الكويت، 1400 ه.

69- معجم البلدان

ياقوت الحموي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1399 ه.

70- الأم

الشافعي، دار الفكر، بيروت، ط 2، 1403 ه.

71- المجموع في شرح المهذب

النووي، دار الفكر، بيروت.

72- مغني المحتاج

الخطيب الشربيني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1377 ه.

73- مواهب الجليل

الحطّاب الرعيني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1416 ه.

74- حواشي الشرواني

عبدالحميد الشرواني، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

75-

السنن الكبري

البيهقي، دار الفكر، بيروت.

76- الفصول المهمة

ابن الصباغ المالكي، دار الحديث، ط 1، 1422 ه.

77- فضائل الصحابة

أحمد بن حنبل، دار الكتب العلمية، بيروت.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 312

78- إملاء ما من به الرحمن

أبو البقاء العكبري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1399 ه.

79- فتح القدير

الشوكاني، عالم الكتب.

80- سبل الهدي والرشاد

الصالحي الشامي، دار الكتب العلمية، بيروت ط 1، 1414 ه.

81- كنز العمال

المتقي الهندي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1409 ه.

82- جلاء الأفهام

ابن قيم الجوزية، تحقيق محيي الدين ديب مستو، دار الكلم الطيب، دار ابن كثير، الطبعة الثالثة.

83- مناقب أمير المؤمنين

ابن المغازلي الشافعي.

84- تاريخ مدينة دمشق

ابن عساكر، دار الفكر، 1415 ه.

85- شرح نهج البلاغة

ابن أبي الحديد، دار إحياء الكتب العربية، ط 1، 1378 ه.

86- السقيفة وفدك

أبو بكر الجوهري البغدادي، شركة الكتبي، بيروت، ط 2، 1413 ه.

87- فتح العزيز في شرح الوجيز

عبد الكريم الرافعي، دار الفكر، بيروت.

88- سنن الدارقطني

علي بن عمر الدارقطني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1417 ه.

الامامة الالهية(5)، ج 4، ص: 313

89- روضة الطالبين

محيي الدين النووي، دار الكتب العلمية، بيروت.

90- فتح المعين

المليباري الهندي، دار الفكر، ط 1، 1418.

91- لسان الميزان

ابن حجر العسقلاني، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ط 2، 1390 ه.

92- شعار أصحاب الحديث

محمد بن إسحاق الحاكم، دار الخلفاء، الكويت.

93- سنن أبي داود

السجستاني، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1410 ه.

94- كتاب المصنف

أبو بكر عبدالرزاق الصنعاني، المجلس العلمي.

95- الأذكار النووية

يحيي بن شرف النووي، دار الفكر، 1414 ه.

96- المعجم الأوسط

الطبراني، دار الحرمين، 1415 ه.

97- الإغاثة بأدلة الاستغاثة

حسن السقاف، مكتبة الإمام النووي، عمان، ط 1، 1410 ه.

98- عقد الدرر في أخبار المهدي المنتظر

عبد العزيز الشافعي المقدسي.

99- ينابيع المودة

القندوزي الحنفي، دار الأسوة، ط 1، 1416 ه.

الجزء (5)

مقدمة المقرر … ص: 5

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صلِّ علي محمدٍ وآل

محمد، عدد ما في علمك، صلاة دائمة بدوام ملكك، وأسألك اللهم أن تبصرنا معرفة وليك لنبتغي إليك به الوسيلة في نجح آمالنا وتحقيق مطالبنا، فإنه لا ينال عرفانك إلا به، ولا يقضي أمرك إلا بوصله..

ما هي الوسيلة؟

قال الراغب الأصفهاني:

الوسيلة: التوصل إلي الشي برغبة، وهي أخص من الوصيلة «1».

وقال ابن الأثير:

في الأصل: ما يتوصل به إلي الشي ويتقرب، وجمعها وسائل «2».

وعلي ضوء المعني اللغوي يتبلور المعني الاصطلاحي للفظ الوسيلة وهو:

الوصلة التي يتوصل بها إلي معرفة اللَّه وقربه وطاعته ومحبته، ولما كان الأولياء المصطفون هم الوجه الوجيه عند اللَّه تعالي والحبل الممدود بين السماء والأرض، طرف منه غيبي بيد اللَّه تعالي، وطرفه الآخر مادي عيني بيد الخلق؛ يكونوا بذلك

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 6

أقوي وأدل وأنجح وأقرب وأسمي الوسائل الدالة علي اللَّه تعالي، وأوسع الأبواب الموصلة إلي نيل عرفانه والاحتظاء بمرضاته تعالي.

ولقد دعانا القرآن الكريم وبصورة مؤكدة بينة إلي ابتغاء الوسيلة واتخاذ الوصلة إليه تعالي، مرة بلفظ الوسيلة كما في قوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» «1»

، وأخري بالحث علي التلبس بواقع التوسل كما في قوله تعالي: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ» «2»

.وقوله تعالي: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا» «3»

.وتشير الآية الأخيرة إلي ضرورة اجتماع وترافق وسائل دينية عديدة من أجل تأهل الأعمال الصادرة من العبد للصعود إلي اللَّه تعالي، وأول تلك الوسائل هي الحضور طوعانية عند الحضرة النبوية المعظمة، وثانيها الاستغفار والتوبة والرجوع الذاتي من قبل العبد، وثالثها توجه الرسول صلي الله عليه و آله بالدعاء والاستغفار والطلب

والتوسط للعبد لأجل أن ينال الحظوة عند اللَّه تعالي.

ويهدف اجتماع هذه الوسائل- عمل العبد وحضوره عند الرسول صلي الله عليه و آله وتوجه الرسول صلي الله عليه و آله إلي اللَّه- إلي فتح الطريق أمام العبد ومضاعفة خطواته وطي مسيره في الصعود إلي القرب الإلهي.

وعند هذه النقطة نشير إلي هذا السؤال:

لماذا أقر اللَّه تعالي وأوجب في القرآن الكريم التعلق بالوسائل، وأمر العبد بابتغائها

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 7

واتخاذها في التقرب والتصاعد والعروج والتكامل الروحي، وقضاء الحاجات ونيل المطالب؟

الجواب:

إن إلزام المشرع الإلهي الخلق بابتغاء الوسائل إليه تفرضه ضرورات عديدة:

الضرورة الأولي: دونية العبد … ص: 7

مما لا شك فيه إن الوجود الإنساني- علي ما فيه من مزايا تكوينية فطرية- وجود دوني سفلي لحلول تلك المزايا الروحية في تكوين الإنسان المادي الخلقي.

وقد أشار أهل المعني إلي أن الجانب المعنوي في الإنسان رهين بقيود البدن الغليظة، مما يثقل ويشق علي الروح تصاعدها إلي عالم المعني لنيل كل زلفي وحظوة إلهية، وقد شبهوا أسر الروح في قفص البدن بأسر الطائر الذي يحمل في أصل وجوده القدرة علي التحليق والطيران في القفص المادي.

وقد دلت الروايات علي هذه الدونية الخلقية التي ولَّدت موانع للإنسان في طيه للطريق المعنوي، منها: ما في البحار عن السيوطي في الدر المنثور: عن ابن عباس قال: «خلق اللَّه آدم من أديم الأرض يوم الجمعة بعد العصر، فسماه آدم، ثم عهد إليه فنسي، فسماه الإنسان.

قال ابن عباس: فباللَّه ما غابت الشمس من ذلك اليوم حتي أهبط من الجنة.

قال: وإنما سميت المرأة امرأة لأنها خلقت من المرء، وسميت حواء لأنها أم كل حي» «1»

.وأما عن أبي بصير قال: سأل طاووس اليماني أبا جعفر عليه السلام: لم سمي آدمُ آدمَ عليه السلام

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 8

قال:

«لأنه رفعت طينته من أديم الأرض السفلي» «1».

فتشير الروايات إلي العقبات التي طرأت علي الروح الإنسانية بسبب تركبها في البدن المادي، مما يضطر الإنسان إلي التعلق بالوسائل التي تقوم بوظيفة الارتقاء والتسامي به عن الهبوط، والتسافل الذي يقتضيه البدن المادي.

الضرورة الثانية: دونية العالم الدنيوي … ص: 8

وينبه علي هذه الحقيقة روايات عديدة، منها ما في جواب أمير المؤمنين عليه السلام عن سؤال اليهودي: «وإنما سميت الدنيا دنيا لأنها أدني من كل شي ء» «2»

.ومنها جواب النبي صلي الله عليه و آله عما سأله يزيد بن سلام، حيث سأل لم سميت الدنيا؟

فقال عليه السلام: «لأن الدنيا دنية خلقت من دون الآخرة، ولو خلقت مع الآخرة لم يفن أهلها كما لا يفني أهل الآخرة».

قال: فأخبرني لم سميت الآخرة آخرة؟ قال: «لأنها متأخرة، تجي من بعد الدنيا، لا توصف سنينها، ولا تحصي أيامها، ولا يموت سكانها» «3».

قال المجلسي بيان:

قوله في الخبر الأول «لأنها أدني من كل شي ء» أي أقرب بحسب المكان أو بحسب الزمان، أو أخس وأرذل علي وفق الخبر الثاني …

وبالجملة الأدني والدنيا يصرفان علي وجوه، فتارة يعبر به عن الأقل فيقابل بالأكثر والأكبر، وتارة عن الأرذل والأحقر فيقابل بالأعلي والأفضل، وتارة عن الأقرب فيقابل بالأقصي، وتارة عن الأولي فيقابل بالآخرة، وبجميع ذلك ورد

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 9

التنزيل علي بعض الوجوه.

وقال الجزري: الدنيا اسم لهذه الحياة؛ لبعد الآخرة عنها «1». انتهي

فإذا كانت الدنيا أدني وأخس وأحقر العوالم لأنها العالم الخلقي، فأني للنازل فيها والمتلبس بسفليتها أن يرتبط بالعوالم الأمرية العلية من دون أن يبتغي سلم الوسائل ومدارج الوصائل التي تقوم برفع الإنسان عن دونية المحل الواقع فيه؟! فهبوط العالم الدنيوي وسفليته ونزوله تقتضي ضرورة اتخاذ الوسائل العديدة ليتحقق الصعود والارتفاع لنشأة أسمي وأرفع.

الضرورة الثالثة: طي الطريق ومضاعفة الخطوة … ص: 9

من المقرر في علم الكلام إنه لا حد ولا أمد ولا نهاية للمسافة بين العبد وربه، بمعني أن كل نقطة قريبة يصعد إليها الإنسان لها ما هو فوقها بشكل غير متناه، فإذا ما لوحظ في مقابل هذه الحقيقةِ حقيقةٌ أخري تتعلق

بقصر أمد عمر الإنسان في هذه الدنيا، أي أن الوقت الزمني الجدي الذي يستثمره العبد ويستهلكه في علاقته المعنوية بخالقه قصير ومحدود بحيث لا يتجاوز مجموعه الإجمالي عشر سنين، في حين يستهلك العمر الباقي بين نوم ولعب ولهو وأكل ولوازم شخصية، وعلي ضوء ذلك فالسؤال ما هو السبيل لتوسعة ذلك العمر القصير ليكون طريقا لبلوغ أسمي الدرجات وأشرفها في معرفة الخالق وعبادته؟

والجواب: إنه لا طريق للتصرف في الزمن المقرر لوجود الإنسان، لكن الطريق مفتوح للتعويض عن محدودية عمر الإنسان في مضاعفة خطوات سيره إلي اللَّه، وطي المسافة الممكنة بينهما، وهذا الهدف السامي هو ما يتحقق من خلال الوسائل

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 10

العبادية والعقائدية التي تكشف ظلمات الطريق وحجب الغيب، ليتسني للعبد الارتقاء لنيل الدرجة القريبة الممكنة، ولا أنجع في هذا الطريق من ابتغاء وسيلة الحضرة النبوية وأهل بيته عليهم السلام، وهذا ما عبر عنه الشيخ الأستاذ المؤلف (حفظه اللَّه) في واحد من بحوثه المقبلة في مطاوي الكتاب من أن «النبي وأهل بيته عليهم السلام هم الأبواب والحجب والسدنة».

الضرورة الرابعة: عظمة المعبود … ص: 10

وتحتل هذه الضرورة موقع الصدارة بين كل الضرورات السابقة، وهي الإبداع الذي يتجلي للقارئ الكريم في هذا الكتاب، حيث إن الشيخ الأستاذ (دام عزه) خرج بالبحث عن طور الاستدلال علي جواز عقيدة التوسل عقلا وشرعا- كما هي عادة المتكلمين والمفسرين من الفريقين- إلي الاستدلال عقلا وشرعا علي ضرورة التوسل في نيل كل حظوة وكمال وقرب إلهي، فإذا ما هجر العبد التوسل والتقرب بالنبي وأهل بيته عليهم السلام امتنع عليه الوصول إلي نيل المعرفة باللَّه تعالي، وانسد أمامه باب عبادته وقربه، واستحال عليه إنجاز أي حاجة معنوية أو مادية، والسبب في ذلك ما بينه الشيخ الأستاذ بما لا

مزيد عليه في هذا الكتاب من أن متاركة التوسل انفراط للركن الركين من التوحيد.

ويمكن تأييد الحقيقة التي وصل إليها الشيخ الأستاذ في البحث الذي بين يديك بما يذكره أهل المعني، من أن خطاب اللَّه تعالي لأحد من خلقه بلا واسطة محال، إلا من هم في مستوي الأنبياء والأولياء عليهم السلام الذين وصلوا إلي الغاية في التكامل المعرفي والعبادي.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 11

وتقريب ذلك بأن يقال:

إن خطاب اللَّه تعالي بمعناه العام- سواء كان الخطاب المعرفي بإنزال الكتب والصحف والآيات، أو الخطاب التكويني بإنزال الفيض الإلهي المعنوي والمادي- يتوقف علي اللياقة والكفاءة في المخاطب، وليس في الوجود أحد حصل المستوي المطلوب من اللياقة سوي الأنبياء والأولياء عليهم السلام، وفي مقدمتهم سيد الأنبياء وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام، وهذا بنفسه بيان لضرورة التوسل بهم والتوجه إليهم واللواذ بحضرتهم، لكي يخاطبوا ويواجهوا من قبل اللَّه تعالي، فيتنزل الفيض بواسطتهم إلي سائر الخلق، فإذا ما سلك العبد طريق الإباء والتكبر والتعالي علي تلك الوسائل الإلهية، انسد أمامه باب اللَّه الذي منه يؤتي، وسبيله الذي منه يقصد، فلا يبقي أمام العبد أي طريق لتحقيق آماله وبلوغ مآربه.

وإلي نفس المفاد يشير العلامة المحقق الخواجوئي في كتابه مفتاح الفلاح- في ذيل قول الإمام علي عليه السلام في دعاء الصباح: «صلِّ اللهم علي الدليل إليك في الليل الأليل» - بقوله: «لما كانت النفوس في الأغلب منغمسة في العلائق البدنية الحاصلة بسبب تدبير البدن وتكميله، مكدرة بالكدورات الطبيعية الناشئة من القوة الشهوية والغضبية، وكان ذات المفيض عز اسمه في غاية التنزه عنها، ولم يكن بينهما بذلك مناسبة موجبة لفيضان كمال.

وجب عليها في استفاضة الكمالات واستنجاح المطالب والحاجات من تلك الحضرة المتنزهة التوسل إلي متوسط يكون

ذا جهتي التجرد والتعلق، ليقبل ذلك المتوسط الفيض منه بتلك الجهة الروحانية التجردية، وتقبل النفس منه بهذه الجهة الجسمانية التعلقية» «1».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 12

وفي الختام:

اسأل اللَّه عز وجل أن ينفعنا جميعا بعلم أستاذنا الكبير آية اللَّه المحقق- الجامع لعلوم دينية شتي- الشيخ محمد السند، واسأل القارئ الكريم الإغماض عن ما في هذا الكتاب من الاشتباهات الصادرة غفلة مني.

حسن العالي

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 13

مقدمة المؤلف … ص: 13

«دام ظلّه»

الحمد للَّه الذي لا يكتنه، ولا يحاط به، ولا يحده حد، ولا ينتهي إلي مدي، ولا يجانس، ولا يماثل، ولا يشاكل، وهو مع ذلك ظاهر بآياته وهي وجهه الدائم، متجل بفعله، معروف بأسمائه.

والصلاة والسلام علي السبيل الأعظم لمعرفته، والصراط الأقوم للتقرب إليه، أكبر آياته، وأقرب وسائله النبي المصطفي، وعلي آله أبوابه ومفاتيح غيبه.

وبعد:

فإنه قد قالت البضعة النبوية الطاهرة سيدة نساء أهل الجنة عليها السلام في خطبتها:

«واحمدوا اللَّه الذي لعظمته ونوره يبتغي من في السموات والأرض إليه الوسيلة، و نحن وسيلته في خلقه ونحن خاصته ومحل قدسه ونحن حجته في غيبه» «1».

وهي تشير إلي أن الطريق الحنيف إلي معرفة التوحيد بعيداً عن التشبيه، وخروجاً عن التعطيل هو منحصر بابتغاء الوسيلة، وأن الإعراض عن ابتغاء الوسيلة لا محالة يوقع إما في التشبيه أو التعطيل، وكلاهما زوال لمعرفة التوحيد، وإن زعم التمسك به شعاراً وعنوانا من دون حقيقة.

فقولها عليها السلام: «واحمدوا اللَّه» أي صفوه وانعتوه بالكمال، ووحدوه في الإلوهية

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 14

والصفات والأفعال، ثم بينت السبيل إلي ذلك وإلي معرفة التوحيد ببيان البرهان علي ضرورة ذلك السبيل وعلي الانحصار به، فذكرت عظمة الخالق وهي تنزهه عن النقص وعدم انتهائه إلي حد، وشدة نوره التي لا تقف عند منتهي، وهو بمثابة ذكر البرهان علي

استحالة معرفة الباري بالاكتناه والإحاطة والمثل والمشاكلة والحس والجس واللمس والمجابهة والمواجهة والمحاذاة؛ لأن كل ذلك يستلزم محدودية ذات الباري تعالي في الحد والنهاية.

وإذا استحالت معرفته بذلك فامتناع معرفته بقول مطلق هو التعطيل في المعرفة، وهو باطل أيضاً؛ لأن التعطيل يستلزم هو الآخر المحدودية في ذاته تعالي والانتهاء إلي حد لا يظهر تعالي فيما وراءه، وتعالي سبحانه عن أن يكون له ما وراءه شي ء غيره، فلم يبق إلا المعرفة بالآيات المخلوقة وهي الوسيلة إلي معرفته وتوحيده.

وكلما كان المخلوق أعظم خلقة كان أعظم آية في العلامية علي صفات الباري وعظمته، وبالتالي فإن أعظم المخلوقات علي الإطلاق يكون هو أعظم آية علي الإطلاق، وتكون بقية الآيات دونه، بل حكاية كل الآيات هي عبر أعظم آية، فهي الوسيلة علي الإطلاق لكل الآيات المخلوقة.

وقد ثبت بالضرورة أنه صلي الله عليه و آله أعظم خلق اللَّه تعالي، وقد سمّاه الباري تعالي برحمة للعالمين كل العالمين، وبرءوف رحيم، ومن ذلك يعلم أن أنجح الوسائل وأعظمها هو سيد الكائنات، وقد قرن اللَّه تعالي به أهل بيته في التطهير، والاحتجاج علي أهل الكتاب، وعلم الكتاب كله، والولاية، وافتراض الطاعة، ومقامات أخري اصطفاءاً لهم.

ومن ذلك يعرف خطورة التوسل بالوسيلة وأنه يتوصل به إلي معرفة التوحيد في مقام الذات والصفات فضلًا عما دونه من توحيد الأفعال والعبادات، كما أن التوسل بالوسيلة إقامة للتوحيد في الولاية؛ لأنه تولي ولي ولاية اللَّه تعالي.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 15

بل إن جملة من الآيات والروايات تقتضي شرطية التوسل والتوجه بهم في صحة أو قبول العبادة، فلا تقتصر الشرطية علي ولايتهم بمعني الإيمان بإمامتهم كما هو ظاهر كلمات كثير من الأصحاب، بل لا بد من الالتجاء إليهم والاستشفاع بهم إليه تعالي.

بل

إن هذا الشرط شرط في قبول الإيمان باللَّه تعالي ورسوله وأوصياءه كما هو مفاد جملة من الآيات، فإن مقتضاها أن الإيمان ما لم يكن مقرونا بالخضوع والإقبال والتوجه بالحجج المصطفين فإنه لا يصعد إليه تعالي، ولا تفتح له أبواب السماء كما وعظنا القرآن الكريم في سور متعددة في ملحمة آدم عليه السلام وإبليس، فإنه شدد النكير علي إبليس من كل من جهة إبائه أي عدم تصديقه، ومن جهة استكباره علي خليفة اللَّه في الأرض أي عدم خضوعه له وعدم توجهه به إلي اللَّه تعالي، وكما ندد القرآن بالمنافقين من جهة إبائهم عن اللجوء والالتجاء والاستشفاع والتوسل برسول اللَّه صلي الله عليه و آله وصدهم عنه واستكبارهم عن الخضوع له، وكما في سورة الأعراف حيث حتم سد أبواب السماء والجنة عن كل من كذب بالحجج أو استكبر عليها تدليلا علي ضرورة كل من الأمرين وهما الإيمان واللجوء والتوجه أو التوسل بحجج اللَّه تعالي علي خلقه.

وفي الحقيقة إن ما جري من البحث المحتدم من كون الولاية للَّه تعالي ولنبيه ولأهل بيته المعصومين عليهم السلام من أصول الإيمان ومن أركان صحة أو قبول العبادات والأعمال لا يقتصر علي الإيمان بل يشمل التولي بمعني التوجه بهم والاستشفاع واللواذ بهم والعكوف علي بابهم وحضرتهم.

وليتنبه أن شرطية توسيطهم والتوجه بهم في صحة الإيمان ليست علي حذو ما يعرف من زيادة الإيمان بالأعمال الصالحة والعمل بالأركان ونقصه بتركها، بل المراد بهذه الشرطية حسب ما دلت عليه الآيات والروايات هو عدم صحته من

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 16

رأس أو عدم قبوله من الأساس بدون هذا الشرط، فهو ليس شرط كمال بل شرط قوام وتقوم.

وبكلمة إن الإثارات المتشددة ضد التوسل بالنبي صلي الله عليه و آله

وأهل بيته عليهم السلام هي مبينة لأهمية وخطورة دور التوسل والاستشفاع والتوجه بهم إلي اللَّه تعالي، وكل هذا التحسس من الإقبال علي حضرة النبي صلي الله عليه و آله وحضرات أهل بيته عليهم السلام هو لحساسية هذا العمل وموقعيته كشرط لقبول الإيمان، وهذا مما لم نشاهد بلورته في الكتب والأبحاث الكلامية بجلاء بيِّن.

ولولا هذه المواجهات العنيدة لما حصل التنبه لركن التوسل في الإيمان، وإذا أراد اللَّه تعالي أن يحيي أمرا قيض له من يعاديه «وَيَأْبَي اللّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ»، ولقد أثلج صدري ما رقمه- اللوذعي الألمعي الفاحص الباحث عن دقائق المعارف الشيخ حسن العالي دام توقده في المعرفة- وقرره في أبحاثنا في ذلك، والمسير في درب الحقائق لا يقف عند منزل إلا وتتلوه منازل.

أرجو من الباري الهادي إلي سواء السبيل أن ينفع به لمن تدبره وأمعن النظر فيه روية.

25 رجب الأصب

يوم وفاة الإمام موسي بن جعفر 1426 ه

محمد السند

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 17

مقدّمة البحث وفيها نقطتان … ص: 17

اشارة

الأدلة القرآنية والأحاديث الشريفة والبراهين العقلية تطلعنا وتبصرنا علي أن معرفة توحيد الذات لا يتحقق إلا بالتوسل، فالإيمان بالواحد الأحد والفرد الصمد لا يتحقق في الحقيقة إلا بابتغاء الوسيلة.

النقطة الأولي: لا توحيد إلا بالتوسل … ص: 17

لا توحيد إلا بالتوسل، ولا يوحد الموحد ربه إلا بأن يتوسل، وربما يبحث الكثير عن التوسل وإمكانه ومشروعيته، أو يترقي البحث إلي ضرورته، لكن كل ذلك ليس وقوفا علي حقيقة ما للتوسل من دور خطير ودعامة كبري في الإيمان والتوحيد، فإن الأدلة القرآنية والأحاديث الشريفة والبراهين العقلية تطلعنا وتبصرنا علي أن معرفة توحيد الذات لا يتحقق إلا بالتوسل، فالإيمان بالواحد الأحد والفرد الصمد لا يتحقق في الحقيقة إلا بابتغاء الوسيلة، فشأن التوسل أعظم شأنا من كونه لقضاء حاجة واستجابة دعاء، بل هو يترقي علي ذلك إلي تأثيره في تحقيق وإنجاز أصل العبادة والمعرفة وتوحيد الذات، فخطورته متصاعدة إلي أصل أصول الدين وهو توحيد الذات والصفات والأفعال والأسماء، ولربما كانت هناك مقولة تفسر النبوة والإمامة «الشهادة الثانية والشهادة الثالثة» بأنها من أركان

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 18

التوحيد، وأنها أبواب أخري للتوحيد ومجال له، فهي بالتالي مراتب للتوحيد وأركان له، وهذه المقولة تعتمد في تبيان ذلك علي تقرير أن حاكمية اللَّه في التشريع توحيد في التشريع، وهي مؤدي الشهادة الثانية والاعتقاد بالنبوة، وأن حاكميته تعالي في الطاعة توحيد في الولاية، وهو مؤدي الشهادة الثالثة والاعتقاد بالإمامة، إلا أن التوسل يعمق تفسيرا آخر لذلك ويبين أن الاعتقاد بالنبوة والإمامة يقوم توحيد الذات والصفات لا مجرد أنه يقوم التوحيد في مقام التشريع ومقام الولاية والطاعة، بل إن إقامة معرفة توحيد الذات والصفات لا سبيل له إلا الوسيلة والتوسل بالآيات وأعظم المخلوقات وأكرم فعل اللَّه وخلقه، وذلك لأن التوحيد سبيل الحنيفية المائلة

عن التشبيه والتعطيل.

فإن الذات الإلهية الأزلية السرمدية بعد كونها غير متناهية ولا محدودة، لا بحد عقلي ولا بحد روحي ولا بحد نفساني فضلًا عن الحد الجسماني والمادي، فعلي ضوء ذلك فلا سبيل للمخلوق إلي إدراك الخالق؛ لأنه بذلك لا يكتنيه أي لا يدرك كنه ذاته، كما إنه لا يجبه لأنه ليس بجسم ليكون في حيز محدود محاط ومحاصر فيقابل ويجابه، بل ليس في البين مجابهة علي النمط العقلي أو النفسي فضلًا عن المادي، كما لا يجس ولا يحس ولا يمس، كيف وليس هو محاط كالجسم، وليس بمقهور كي تعمل فيه آلات الحس.

فمع كل ذلك فكيف للعقول أن تناله وأني للقلوب أن تبصره ولا يصار إلي امتناع معرفته؛ لأنه تعطيل وهو بمنزلة الإلحاد والإنكار، فمن أنكر المعرفة من رأس فقد قال بالتعطيل والإنكار، ومن أثبت المعرفة بالحس أو المس أو الجس أو بالجبه أو بالإكتناه فقد صغر الخالق وحدده ونعته بالمقهورية المحاطة، فلا سبيل إلي معرفة ذاته إلا بآياته، وهي أفعاله من عظائم مخلوقاته وكبير بدائعه ودقائق صنعه وتكوينه، فيتجلي لعارفيه بالآيات والأفعال وهي أسماؤه العظمي، إذ قد

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 19

تسمي بها لأنها أصبحت علامات عليه وسمات لصفاته.

فلا سبيل لمعرفته إلا بأسمائه، وهي آيات خلقه الكبري، وهي أبواب سماء عزه وحجب نوره، وهي الوسيلة إليه.

ومن ثم أمر عز شأنه وجل جلاله بابتغاء الوسيلة، إذ لا سبيل إلي معرفته إلا بها، وليس الأمر بابتغاء الوسيلة عبثاً حاشي وكلا، بل لضرورة قصدها وانحصار الطريق إليه تعالي بالتوجه إليها.

وبهذه الوجيزة يتبين أن الوسيلة ضرورة في صميم إقامة معرفة الذات والصفات فضلًا عن مقامات التوحيد الأخري، كيف لا ولم تتعرف العقول علي ذاته إلا بمظاهر أفعاله وآياته الكبري التي

هي وجهه الدائم الذي لا يبيد، فإن جل أدلة الحكماء والبراهين التي استرشدوها في معرفة التوحيد هي براهين إنية تنطلق في المعرفة من المعلول «المعلوم» إلي العلة «المجهول»، ومن المخلوق إلي الخالق، وإن أسموها برهان الصديقين وأدلة لمية، إلا أن نقوض ونقود بعضهم علي بعض شاهدة علي كونها معرفة مسيرها من الآية إلي ذي الآية، وقد أعظم القرآن معرفته تعالي بالآيات، فتري الكتاب المجيد يجلجل منادياً بهذا السبيل، وهو سبيل آياته وهو الوسيلة إلي معرفته.

النقطة الثانية: كل ما يرتبط بالنبي وآله عليهم السلام وزانه وزان الأصول … ص: 19

وعموما إن كل ما يرتبط بالنبي وأهل بيته عليهم السلام من قصدهم وزيارتهم، وإحياء مجالس ذكرهم، والاحتفال بمواليدهم وتعظيم ذكرياتهم، والعزاء علي مصائبهم وما شابه ذلك، ليس وزانه الاندراج في فروع الدين فحسب، بل هو مرتبط بأصول الدين أيضا، ألا تري إنهم يذكرون في أدبياتهم التي يسطرونها في كتبهم أو يتلونها في محافلهم أن التوحيد في العبادة يرتبط بأصول الدين، إذ أن العبادة إما توحيدية

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 20

أو شركية، وهذه المقولة في إطارها كشعار صحيحة، إذ الفعل وإن كان في صورته الظاهرية من فروع الدين لكن لبه وجذوره يرجع إلي أصول الدين، إذ الفروع ليست منقطعة عن الأصول، ومن ثم سميت بذلك لتفرعها عليها وانحدارها وانشعابها وتنزلها من شجرتها، فكل غصن من فروع الدين هو انشعاب من الأصول، ونهايته ترتبط بالأصول التي هي جذوره وخلفية مؤداه.

وبنفس التقرير يقال في الطقوس التي نرتبط عبرها بالنبي وأهل بيته عليهم السلام، فمن الخطأ أن يقتصر في قراءتها علي أنها فرع من فروع الدين، بل تعظيمها في الاكتراث بها والتحفظ عليها غاية التحفظ.

ومن ثم ذكر غير واحد من العلماء بما فيهم بعض علماء الشافعية والمذاهب الأخري في مؤاخذتهم علي هذه الجماعة «جماعة التكفير»

إن مؤدي جفائهم ورفضهم لأشكال الارتباط بالنبي وأهل بيته عليهم السلام من الزيارة والتوسل به والتعلق به عبر صور الآداب المختلفة يحمل في طياته وطويتهم قطيعة لسيد الأنبياء صلي الله عليه و آله وتمردا وتجرءا علي ساحته المقدسة.

فالخطب ليس في هذه المراسم من جهة أنها صورة في الفروع، بل فيما تحمله في طياتها من معان، فكما يتحسسون في العبادة بزعمهم أنها لابد أن تكون توحيدية مرتبطة بأصول الدين، كذلك هم يخاطبون ويحاجون ويدانون بأن تلك الطقوس التي لا يكترثون لها ويستهينون بها ويستصغرونها هي حاملة في أسرارها وطياتها معان ترتبط بأصول الدين، ومفادها أن سيد الرسل صلي الله عليه و آله هو رسول رب العالمين، وأنه نبي من الأنبياء، فضلا عن أن الأمم مرتبطة بضرورة معية الشهادتين في كمال التوحيد، وأنه لا يتم ب «لا اله إلا للَّه»، بل إن أي مسلم من المسلمين لو ادعي أن التوحيد يتم ب «لا اله إلا اللَّه» من دون بقية الشرائط لكفر؛ لأن دعامة التوحيد بالشهادة الثانية.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 21

وما لنا لا نري واقع الشهادة الثانية في أدبيات تلك الجماعة التي تتشدق بحمل راية التوحيد، فهل إن إغفالهم وعدم اكتراثهم بمؤديات الشهادة الثانية وتداعياتها وما تمليه من معان ولوازم وطقوس، هل إغفالهم لكل ذلك وقع غفلة وبشكل عفوي وصدفة غير مقصودة!!

بل إنهم لا يقتصرون علي الإعراض عن ذلك، بل هاهم يحاربون كل ما هو من مظاهر الشهادة الثانية وطقوسها، فأين هي معطيات الشهادة الثانية في أدبياتهم الكتبية التي تنشر وتوزع علي المسلمين في مواسم أداء العبادة؟

وهل إحياء الدين يتم بإعلان كلمة التوحيد «لا اله إلا اللَّه» من دون أن يضم إليها الشهادة الثانية، فضلا عن أنهم أخفقوا

في الشهادة الثالثة ويقومون بتأليف ونشر جملة من الكتب بعضها يحمل اسم: «حقوق النبي بين الإجلال والضلال» وكل ما في هذا الكتاب إزراء بالنبي صلي الله عليه و آله بالتشبه بالتأويلات المتشابهة من الآيات القرآنية مع التنكر للآيات الأخري والتعامي عنها.

فها نحن نري سياسة قريش التي حاربت النبي صلي الله عليه و آله منذ القدم مستمرة إلي يومنا هذا، تلك السياسة العدائية السابقة مع خاتم الأنبياء صلي الله عليه و آله التي أرادوا بها أن يخمدوا ويميتوا ركنية النبوة في التوحيد.

وهاهي السياسة الأموية التي تحاول تشطيب وتهميش دور العترة الطاهرة، والتطاول عليها لغاية النيل من نفس النبي صلي الله عليه و آله وبالتالي الرجوع بالمسلمين إلي المسار الجاهلي السابق.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 23

الفصل الأول وجوه الاستدلال علي مسألة التوسل … ص: 23

اشارة

إن الاقتراب من القريب إلي اللَّه اقتراب إلي اللَّه، والدنو ممن هو قاب إن الاقتراب من القريب إلي اللَّه اقتراب إلي اللَّه، والدنو ممن هو قاب قوسين أو أدني من الباري تعالي هو دنو من اللَّه تعالي..

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 25

وجوه الاستدلال علي مسألة التوسل … ص: 25

قد أكثر أتباع بعض المذاهب الإسلامية في تكفير المسلمين نتيجة استغاثتهم بالرسول صلي الله عليه و آله وندائهم له ب «يا رسول اللَّه» أو «يا أبا القاسم» أو «يا حبيب اللَّه»، أو الاستغاثة بعترته المطهرة بنداء «يا علي» أو «يا فاطمة يا بنت رسول اللَّه»، فيرمون غيرهم بالشرك وهم قد وقعوا فيه، وينادون بالتوحيد وهم قد ابتعدوا عنه، إذ لو صدق هذا الشعار الذي يرفعونه واستصوب لكان إبليس رائد التوحيد والملائكة أشرك المشركين، حيث قد رفض التوجه بآدم في عبادته بربه، بينما توجهت ملائكة الرب كلهم أجمعون في عبادتهم بخليفة اللَّه في أرضه وجعلوه واسطة بينهم وبين ربهم، وليس وراء هذه الإثارات إلا إنكار حجية هؤلاء الحجج الإلهيين، والإبعاد عن الارتباط بهم، وقطع الصلة الروحية بالنبي وأهل بيته عليهم السلام.

هذا مع أن الذي يتوجه ويستغيث بالنبي وعترته عليهم السلام إنما يتوجه إليهم ويستغيث بهم بصفة أنهم مقربون عند اللَّه عز وجل، ولهم مقام الشفاعة الكبري والمقام المحمود، واعتقاد المسلمين أنه صلي الله عليه و آله صاحب الوسيلة والدرجة الرفيعة، فهل تري أحدا من المسلمين يتوجه إلي الرسول صلي الله عليه و آله وعترته؟ ويتوسل بهم ويستغيث بهم إلا لقربهم من الحضرة الإلهية ولكونهم أبواب سماء الرحمة؟

فالمسلم يجد نفسه بالتوجه إلي النبي وعترته؟ هو متوجه إلي الحضرة الإلهية، وأنه حين يستغيث بهم فقد استغاث والتجأ إليها، وهذا أمر مفطور عليه البشر، ألا تري أن الذي

يلتجئ إلي وزير السلطان يقال إنه قد التجأ إلي ذلك السلطان؟

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 26

فالمتوجه إلي النبي صلي الله عليه و آله إنما يتوجه إليه بتلك الصفة، وهذا معني بين واضح ومركوز في ذهن واعتقاد كل مسلم.

فإن الاقتراب من القريب إلي اللَّه اقتراب إلي اللَّه، والدنو ممن هو قاب قوسين أو أدني من الباري تعالي هو دنو من اللَّه تعالي، كما أن الوصال والاتصال بحبيب اللَّه تحبب إلي اللَّه تعالي، كيف لا وقد وصف الباري نبيه؟ بالرحمة للعالمين؟! وأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم، فهل التوجه إلي رحمة اللَّه إلا رحمة؟ وهل الصد والبعد عن رحمة اللَّه إلا نقمة وشقاء؟ وهل التعلق بالعترة إلا ركوب في سفن النجاة؟ إذ هو المغزي من وصفه؟ عترته بسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوي، فهو حث منه من الاقتراب من العترة والانشداد إليهم.

فإن الانجذاب إليهم انصهار في هديهم وتطبع لأخلاقهم وتأثر بأنوارهم ينجر إلي إتباع صراطهم ومنهاجهم، وأما الابتعاد عنهم والنفرة من ذكرهم، والاستيحاش من أسمائهم، والاشمئزاز من الحديث عنهم، ولوي الأعناق عن الاهتمام بشأنهم، لا يورث إلا البعد عنهم، والمتاركة لنهجهم والتخلف عن ركبهم، ونبذ كلامهم وهديهم. وهذا سر تركيز القرآن الكريم علي مودتهم، فإنها وإن كانت فعلا عاطفيا وانجذابا نفسانيا وميلانا روحيا وانسيابا قلبيا، إلا أنها مفتاح المتابعة لهم والاقتداء بهم وتولية الوجه شطرهم، إذ كيف يقتدي الإنسان بشخص وهو يبغضه؟ وكيف يقتدي به وعلاقته به جافة بجلافة؟ وكيف ينتهج هديه وهو غض فض معه، ينفر من ذكره واللهج باسمه؟ فأمر اللَّه في القرآن بمودتهم ينطوي علي سر عظيم في الاهتداء بهديهم والانتهاج بصراطهم والتقيد بوصاياهم، وهل انشداد المسلمين إلي رسول اللَّه صلي الله عليه

و آله وعترته إلا لكونه رسولا من رب العالمين، وإلا لكونه داعيا إلي اللَّه بإذنه وسراجا منيرا.

واعلم أن هاهنا قاعدة شريفة هامة عظيمة الأثر في باب العبادات وآداب

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 27

التقرب إلي الحضرة الإلهية ألا وهي:

«التوجه إليه تعالي بوجهه الكريم» أي «استقبال وجه اللَّه عند التوجه إليه» أي «التوجه إليه تعالي بالوجه بالوجيه عنده».

ويوضح هذه القاعدة الشريفة ويدلل عليها عبر أمور نسوقها فيما يلي من الوجوه.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 29

الوجه الأول: التوجه بالوسائل ضرورة عقلية … ص: 29

اشارة

إذا بطل التعطيل والتشبيه فلا يبقي إمكان لمعرفته وإخراج العلاقة معه عن الحدين الباطلين إلا بتوسط آياته الخلقية وأثاره ودلائله، وهو الوجه الذي بقصده وبتوسطه يحصل التوجه إليه تعالي.

اقتضاء التوجه والاستقبال والاتجاه القصد إلي وجه الشي الذي يراد الدنو منه، وليس المراد من هذه المعاني ما يتبادر إلي الذهن في الوهلة الأولي من الاستقبال الجغرافي الجسماني كما هو الحال في استقبال المسجد الحرام حال الصلاة، بل الاستقبال المعنوي لما يتجه به ولما يكون الاتجاه إليه توجه إلي الباري تعالي، وحيث إن ما يتجه به إلي اللَّه يطلق عليه وجه اللَّه، أي إلي جهة يتجه بها إلي اللَّه لا ما يتبادر عند المجسمة والمشبهة «وَتَعَالَي عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً».

إذ الوجه والجهة هما من مادة واحدة في أصل الاشتقاق، فأطلق علي الوجه وجه؛ لأنه الجهة التي يتوجه بها ويواجه بها، وليس وجه اللَّه كما يزعمه المشبهة المجسمة أنه جزء الذات الإلهية، إذ ليست الذات الإلهية تفتقر إلي أجزاء، ولا هي محدودة بأبعاد وأعضاء، تعالي اللَّه عما يقوله الضالون علوا كبيرا، بل وجه اللَّه هو فعله وآياته التي لا تفني ولا تبيد.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 30

ومن هنا أطلق في القرآن وجه اللَّه علي آيات اللَّه المخلوقة؛ لأنها

علامات تتجه بالناظر إليها والمتدبر فيها إلي اللَّه تعالي، كما في قوله تعالي: «وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» «1»

.فأطلق وجه اللَّه علي الآيات في المشرق والمغرب كما أطلق الوجيه علي النبي عيسي والنبي موسي عليه السلام حيث قال تعالي: «اذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخرة وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» «2»

.وقال اللَّه تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَي فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا» «3».

فأطلق علي كل منهما وجيها نظرا لقربهما وجلالة شأنهما عند اللَّه تعالي، فيقال لهما وجه عند اللَّه، أي مما يتجه إليهما في نجح الحوائج عند اللَّه.

قال الخليل: «والوجه مستقبل كل شي ء، والجهة النحو، والوجهة القبلة وشبهها في كل شي ء استقبلته وأخذت فيه» «4»

. انتهي

وقال ابن منظور: «ووجه كل شي ء مستقبله» «5»

انتهي

فيقال لشخص وجاهة عند آخر ووجيه عنده بمعني أنه يقصد ويتوجه إليه ويستقبل به لنجح المسئول عند الآخر.

ومن ذلك يطلق علي باب البيت أنه وجه البيت، ومن ثم قال تعالي: «وَأْتُواْ

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 31

الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا» «1»

.فعلم من ذلك: إن القصد إلي اللَّه تعالي لا بد فيه إن يستقبل وجه اللَّه، أي ما يكون وجيها عند اللَّه يتجه به إليه، وأن المستقبل له يتجه به إلي اللَّه.

فالقصد والاتجاه والسلوك والوصول والتقرب والتوجه يتضمن فيه وينطوي معني الاستقبال إلي الوجه وهو ما يتوجه به، ولأجل ذلك فرض في الصلاة كعبادة استقبال المسجد الحرام كقبلة يتوجه إليها لتتوجه بها إلي اللَّه، كالباب الذي يؤتي منه البيت.

فإذا كانت الكعبة- شرفها اللَّه قدرا وعظمها- صلحت أن تكون قبلة يتوجه بها إلي اللَّه

فكيف لا يكون من تشرفت به الكعبة وهو سيد الأنبياء وسيد الأوصياء صلي الله عليه و آله قبلة يتوجه بها إلي اللَّه تعالي؟

وقد قال اللَّه تعالي في موسي الذي مر وصفه بالوجيه عند اللَّه: «وَأَوْحَيْنَا إِلَي مُوسَي وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» «2».

فكانت بيوت موسي وهارون قبلة لبني إسرائيل، بمعني أنها قبلة يتعبد فيها ويتجه بها للعبادة.

قصد الشي توجه لوجهه … ص: 31

ثم إن هناك ضرورة في مقام التوجه إلي اللَّه تعالي وهي أن يتوجه بشي ويستقبله كي يتوجه به إلي اللَّه تعالي، سواء كانت تلك القبلة جسمانية مادية أو

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 32

معنوية مجردة، وهذه الضرورة تنبع بسبب تنزه الباري عن الجسمية وتنزهه عن إحاطة الأذهان والأرواح البشرية بذاته الشريفة، وحيث امتنع ذلك علي الباري للزوم النقص إلا أنه لا ينسد الباب لمعرفته وقصده والتوجه إليه، وإلا لزم التعطيل، وإنما امتنع الجسمية عليه والإحاطة بذاته للزوم النقص عليه وهو بطلان التشبيه.

فإذا بطل التعطيل والتشبيه فلا يبقي إمكان لمعرفته وإخراج العلاقة معه عن الحدين الباطلين إلا بتوسط آياته الخلقية وآثاره ودلائله، وهو الوجه الذي بقصده وبتوسطه يحصل التوجه إليه تعالي.

فإقامة المعرفة بتوحيده بعد إبطال التشبيه والتعطيل إلي مقام التنزه والإثبات بآياته وكلماته وهي أسماؤه التي بها يدعي.

وتقريب ذلك ببيان أوضح وأعمق: إن ذات الباري لا محدودة، وكل من صوَّر لها صورة في عقله أو حسه أو خياله أو وهمه، فالباري منزه عنها؛ لأن هذه الصورة تبقي محدودة، وهو أجلَ من أن يحد وتنتهي ذاته إلي حد معين، وإلا لعاد ناقصا ومفتقرا إلي ما وراء ذلك الحد سواء كان ذلك الحد جسمانيا أو معنويا مجردا، وحيث إن ذاته لا محدودة فلا يمكن للمخلوق

سواء كان جسما أو روحا أو نورا أن يمس أو يحس أو يجس أو يتعلق بذاته أو يكتنيها، فإذا امتنع مثل ذلك الاتصال والارتباط فلا إمكان له إلا عبر المخلوق الذي هو من آياته وآثاره، لكن لا بذلك المخلوق من حيث هو هو، بل من الجهة التي تلي فعل الرب، أي من حيث إنه فعل وأثر للباري وله دلالة عليه، فلم يكن هناك إمكان لدلالته علي ذاته إلا بآياته وهي مخلوقة له، فمن ثم تحتم أن يكون وجه اللَّه هو آياته وآثاره التي تدل عليه وتهدي القاصد إليها التوجه إليه، فهذا يبين ضرورة الأسماء التي هي الآيات المخلوقة، وإنما استحقت أن تكون أسماء إلهية لآيتيتها أي علاميتها علي الباري تعالي، ولا يمكن الاهتداء للذات الإلهية إلا عبر الأسماء، والسمة هي العلامة وهو معني الآية،

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 33

ومن ثم فإن الذي ينكر ويجحد الآيات ويستكبر عليها فقد صدَّ عن التوجه إلي اللَّه تعالي وانصرف عن السبيل علي اللَّه، وإلي ذلك يشير قوله تعالي: «انَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّي يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ» «1».

فجعل الباري تعالي آياته أبواب السماء المنتهية إلي عرشه وبالتالي إلي حضرته القدسية.

فالباب إلي السماء هو الوجه الذي يتجه إليه للصعود إلي اللَّه علي مستوي العمل والعبادة والدعاء والاعتقاد، فكيف يتجه ويتوجه إليه تعالي بغير آياته؟

وكيف يمكن أن يكون وجهه غير آياته؟ وكيف يدعي بغيرها إذ هي الأسماء والعلامات عليه؟ وقد أشار اللَّه تعالي في قوله: «وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا» «2»

إلي هذه الحقيقة والضرورة، فكما لا يمكن أن يدعي بغير أسمائه، إذ كيف يهتدي إليه بغير اسمه؟ إذ أن

المجهول المطلق لا سبيل إليه ولازمه التعطيل، وبأسمائه عرف وقصد وتوجه إليه، وكيف يكون الاسم غير الآيات؟ إذ مر أن الذات لا يحاط بها ولا تكتنه ولا يتعلق بها مباشرة، فلم يبق إلا آثاره ودلائل فعله وهي آياته.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 35

الوجه الثاني: النبي وآله أبواب الحضرة الإلهية … ص: 35

اشارة

فلا ينفع الإقرار بالشهادة الأولي من دون الشهادة الثانية، ولا بالشهادتين من دون الإقرار بالشهادة الثالثة، وهي إمامة أمير المؤمنين والأئمة المعصومين عليهم السلام.

قال تعالي: «انَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّي يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ» «1»

.ومفاد هذه الآية الشريفة أن الوفود علي اللَّه والتوجه إليه لا يكون إلا من أبوابه، وأن الطريق إليه تعالي لا يكون إلا منها، وأن تلك الأبواب هي آياته الخلقية وأعظمها أنبياؤه ورسله كما قال اللَّه تعالي: «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَي رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ» «2».

كيف لا وقد زود الأنبياء والرسل والأئمة بالآيات التي هي المعجزات للدلالة علي مقاماتهم الاصطفائية، وكونهم سفراء ووسطاء بين اللَّه وخلقه.

مضافا إلي أن إسناد التكذيب للآية في مقابل التصديق بها يدل علي أن المراد

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 36

من الآية هي الحجج المصطفون؛ لأنهم هم الذين يصدق بهم ويتعلق الإيمان بحجتهم ومقاماتهم في مقابل تكذيبهم، بخلاف الآيات التكوينية فإنها لا يتعلق بها التصديق والتكذيب بذاتها، بل الإعراض أو النظر إليها وإلي دلالتها.

فالمراد بالآيات في هذه الآية الذين يتعلق بهم التصديق أو التكذيب وهم الحجج الإلهية.

شرطية الإيمان بالآيات في صعود الأعمال … ص: 36

وتدل الآية السابقة علي أن أي عمل للإنسان وأي عبادة، ولو كان الفعل من قبيل الإيمان والعقيدة، لا تصعد ولا تفتح لها أبواب السماء للقبول إلا بالخضوع والإيمان بآيات اللَّه، وهو شرط دخول الجنة.

فيستفاد منها أن التوجه والتوسل بالحجج شرط في صحة الإيمان فضلا عن كونه شرطا في العبادات وبقية الأعمال، وأن الاقتصار علي الإيمان باللَّه ورسوله والأئمة من دون التوجه والتشفع بهم إلي اللَّه لا يكون مقبولا ولا تفتح له أبواب السماء، بل لا بد

من اقترانه بالتوجه أو التوسل أو التشفع بهم إلي اللَّه تعالي.

ويدل علي اشتراط هذا الشرط في صحة الإيمان وقبوله ما وقع وصدر من إبليس الغوي من إباء وجحود خلافة آدم، واستكباره عن الخضوع والسجود له، فجعل سبب كفره كل من الإباء والاستكبار أي الجحود وعدم التوجه بآدم، فلم يقتصر علي الجحود، بل ظاهر الآيات في سور عديدة أن كلا من عدم الإيمان بخلافة آدم وعدم التوجه به كلا منهما سبب مستقل موجب لغواية إبليس وطرده عن باب الرحمة الإلهية.

وهذا يؤكد أن الإيمان لا بد أن يكون مقرونا بالتوجه بحجج اللَّه إلي اللَّه تعالي، والتوسل بهم واللواذ بهم وإلا لما صح الإيمان.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 37

ومن الأدلة علي هذه الشرطية ما سيأتي في قوله تعالي: «وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَي ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وأناْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ» «1»

من تقرير أنه لم يكتف بإيمانهم بسيد الأنبياء صلي الله عليه و آله، بل أخذ عليهم الانقياد له لأجل إعطائهم مقاما عقائديا يحلونه في العقيدة وهو مقام من النبوة والرسالة والتي هي بنفسها من أصول الاعتقاد.

فإذا كان الانقياد لسيد الأنبياء يورث أصلا اعتقاديا فهو مما يشير إلي خطورة موقعيته وضرورة ضميمته للإيمان.

ومن الأدلة ما سيأتي أيضا في الوجه السادس من قول اللَّه تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» «2»

حيث تدل الآية علي أن الوصول إلي اللَّه معرفة وسيرا ووفودا لا يتم إلا عبر التوسل بالوسيلة والتوجه بها إليه، وبالتالي عدم تحقق الإيمان إلا بذلك وهو المراد من صحة الإيمان.

وعلي

ضوء ذلك يتبين أنه كما حرر أن الإيمان ليس مجرد إدراك، بل تصديق وإذعان وجزم، كذلك يضاف هنا أنه ليس مجرد تصديق وإذعان وإخبات، بل تول عملي بالتوجه والانشداد لهم واللواذ بهم.

فلا ينفع الإقرار بالشهادة الأولي من دون الشهادة الثانية، ولا بالشهادتين من دون الإقرار بالشهادة الثالثة، وهي إمامة أمير المؤمنين والأئمة المعصومين عليهم السلام، حيث وصفهم القرآن الكريم بالطهارة وهو معني الاصطفاء الإلهي، كما نعت المطهرين بعلم الكتاب، ومقتضاه حجيتهم إلي غير ذلك من أوسمة القرآن لهم الدالة

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 38

علي اصطفائهم وحجيتهم.

مضافا إلي أن التعبير في الآية في المقام هو بالجمع «بآيات اللَّه» خطابا لهذه الأمة بالسنة الإلهية الدائمة، فلا ينحصر المراد بسيد المرسلين صلي الله عليه و آله، بل يعم أهل بيته الأطيبين عليهم السلام..

وإن الذي يريد أن يتوجه إلي الحضرة الإلهية من دون أن يخضع ويتولي النبي صلي الله عليه و آله والأوصياء عليهم السلام لا تفتح أبوابها حتي يلج الجمل في سم الخياط.

ولأجل استكبار إبليس عن الخضوع لآدم عليه السلام كما في قوله تعالي: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَي وَاسْتَكْبَرَ» «1»

عن آية الرحمن فلم يقبل إيمانه، ولم تزك عبادته، وردت عليه؛ لأنه لم يقصد الحضرة الإلهية ولم يتوجه إليها بآدم عليه السلام.

فعلم من هذه الآية أن آيات اللَّه هي الأبواب التي من استكبر عنها وصد فقد صد عن التوجه إلي اللَّه تعالي.

فإذا كان الباري قد جعل آياته وأولياءه المصطفين أبوابه، فكيف يؤمل من يستكبر عن التوجه بهم إلي اللَّه أن يحصل له القرب الإلهي والوصول إلي الزلفي والحضرة الإلهية!! فمفاد الآية الكريمة ضرورة التوجه إليه تعالي بأوليائه المقربين من الأنبياء والمرسلين والأوصياء المطهرين عليهم السلام

علاوة علي التصديق والإيمان بهم، فهو شرط في الإيمان فضلا عن سائر العبادات والأعمال.

وفي الكتاب المعروف لأمير المؤمنين عليه السلام الذي كتبه إلي أكابر أصحابه، والذي قد رواه الكليني بسنده في كتاب الرسائل، ورواه السيد الرضي عنه أنه قال: «قيل فمن الولي يا رسول اللَّه صلي الله عليه و آله فقال: وليكم في هذا الزمان أنا ومن بعدي وصيي ومن بعد

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 39

وصيي لكل زمان حجج اللَّه كيما لا تقولون كما قال الضُّلال من قبلكم فارقهم نبيهم «وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَي» «1»

وإنما كان تمام ضلالهم جهالتهم بالآيات وفهم الأوصياء فأجابهم اللَّه:

«قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَي» «2»

وإنما كان تربصهم أن قالوا نحن في وسعة عن معرفة الأوصياء حتي يعلن الإمام علمه، فالأوصياء قوام عليكم» «3».

واستشهاده صلي الله عليه و آله بالآية في غاية الظهور، حيث إن أهل الضلال يوم القيامة يتعذرون لعدم إتباع الآيات بعدم وجود الرسول، ولا يقبل عذرهم هذا؛ لأن اللازم عليهم الفحص والمعرفة بالآيات لكي يتبعوها، فالحجة قائمة عليهم.

وجه آخر في شرطية التوجه بهم إلي اللَّه في صحة العبادات … ص: 39

ومن الوجوه التي يمكن تقريرها بحسب صناعة الاستدلال علي ذلك ما هو مقرر في مباحث أصول الفقه ومباحث علم الفقه، من أن قوام المغايرة بين العمل التعبدي والعمل التوصلي هو بالنية والقربة، وأن من مقومات النية قصد امتثال الأمر قربة إلي اللَّه تعالي، فنية القربة والزلفي قصدها كغاية مسبب عن قصد آخر بمثابة السبب وهو قصد الأمر، بل في الحقيقة امتثال الأمر الإلهي، وهذا القالب لنية القربة ولنية سببها مقرر في جميع العبادات من الصلاة والحج والصوم والزكاة وغيرها، وقوام عبادية

العبادة بذلك حيث إن قصد امتثال الأمر المحقق للقربة والزلفي إلي الحضرة الإلهية هو في الحقيقة طوعانية وطاعة للَّه تعالي، فقوام العبادية بالطاعة،

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 40

والعبودية والطاعة من باب واحد، كما أن المعبودية والربوبية والمطاع بالذات من باب واحد، وحيث إن جميع شرائط العبادات هي لا تقتصر علي فرائض اللَّه بل تشتمل علي سنن النبي صلي الله عليه و آله بضرورة الدين عند المسلمين ويكون إتيانها في العبادات امتثالا لأمر الرسول صلي الله عليه و آله طاعة له بتبع طاعة اللَّه التي هي طاعة ذاتية لتحقيق العبادة للَّه تعالي، كان قصد القربة الذي يحقق النية العبادية هو مسبب عن قصد امتثال أمر اللَّه تعالي وأمر الرسول صلي الله عليه و آله، وكذلك الحال في سنن أوصياء النبي صلي الله عليه و آله فإن جملة من شروط العبادات وبعض موانعها قد سنها الأوصياء من عترة النبي صلي الله عليه و آله وعلي كلا التقديرين فإن إتيانها في العبادات هو امتثال لأمرهم عليهم السلام، وبالتالي فتكون نية القربة للَّه تعالي في العبادات مسببه عن نية امتثال أوامر اللَّه تعالي وهي فرائضه وأوامر النبي صلي الله عليه و آله، وهي سننه وأوامر الأوصياء وهي هديهم ومنهاجهم وطريقتهم.

وهذا التقرير لبيان عبادية العبادة من مباحث التعبدي والتوصلي في علم الفقه وأصول الفقه لم يبلور في الكلمات، ولكن القالب الصناعي لتقرير النية في التعبدي هو ذلك، وهذا مطابق لعموم قوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ» «1».

فجعل مقرونا بطاعته طاعة الرسول صلي الله عليه و آله وأولي الأمر، مع أن الطاعة هي العبودية، والعبودية خاصة لأُلوهيته تعالي، إلا أن طاعة الرسول صلي الله عليه و آله وأوصيائه

عليهم السلام بيان لباب طاعة اللَّه، وبالتالي لعبادته.

كيف لا وهذه الطاعة للَّه في الآية عامة وشاملة لعموم أبواب الدين لا يشذ عنها فصل من فصوله، كذلك طاعة الرسول صلي الله عليه و آله وأولي الأمر؟، وبالتالي فهم أولياء دين اللَّه، هذا فضلا عن عشرات الموارد التي قرن اللَّه بطاعته طاعة رسوله في السور

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 41

القرآنية.

وقد يصعب علي البعض تصور هذا المطلب فضلا عن التصديق والإذعان به، أو قد يستغربه البعض الآخر، فلنعد تقريره وبيانه بعبارة أخري، فإن جملة ما تقدم من الأدلة والآيات دال علي شرطية التوسل واللواذ بهم والتشفع بهم إلي اللَّه في العبادات، وما مر من صيغة قصد امتثال الأمر ما هو إلا صيغة صناعية كقالب لذلك.

ولك أن تقول: إن الصلاة التي يأتي بها المؤمن صلاة علي وفق منهاج ومذهب جعفر بن محمد عليهما السلام، أي أن الصلاة وغيرها من العبادات إنما يؤتي بها بالصورة المأمور بها من قبل الأئمة عليهم السلام المرتبطة بالصورة التي أمر بها اللَّه ونبيه صلي الله عليه و آله، ومن ثم تمثيل أوامر الأوصياء كامتثال أوامر النبي صلي الله عليه و آله في ضمن العبادة التي يؤتي بها امتثالا لأمر اللَّه.

فالعبادة هي للَّه وحده لا شريك له، إلا أن الباب والمفتاح لإتيان تلك العبادة الخالصة له تعالي لا يتحقق إلا بامتثال أوامر الرسول وأوصيائه عليهم السلام.

ومن ثم يتبين أن العابد في أثناء أداء العبادة إذا أراد الزلفي والقرب إلي اللَّه تعالي، لا بد له من أن يتوسل إلي ذلك بالتوجه بالنبي وأهل بيته عليهم السلام إلي اللَّه، وذلك عبر امتثال أمرهم في ذات العبادة الخالصة لرب العالمين، فامتثال أمرهم نافذ ومتخلل وناخر في الفعل العبادي الذي يأتي به

العابد في عبادته.

ولا يتوهم أن هذا تقريب نظري تنظيري لا صلة له بالواقع العملي في العبادة، فإن الداعي الارتكازي المحرك في العبادات مفروض في البين، وهو المحرك نحو خصوص الصورة الخاصة من العبادة التي هي علي طبق أوامرهم؟.

فمحركية أوامرهم في العبادة والانقياد لها في الداعي المرتكز في نية العابد في عبادته مقرر ومفروض، فليست أوامرهم طريقا محضا لا يلحظ فيه معني الطاعة والولاية، كيف وقد أكدت الآيات عنوان الطاعة لهم مقرونة بطاعة اللَّه تعالي.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 42

شرطية التولي والتبري في أصل الإيمان … ص: 42

إن التولي والتبري يعد في كلمات علماء الإمامية من أركان الفروع، وقد بينوا الفرق بينهما وبين الإيمان بولاية أهل البيت عليهم السلام التي هي من أصول الإيمان.

إن ولايتهم تارة علي صعيد المعرفة والإذعان والإخبات والتسليم القلبي فهي من أصول الديانة الإيمانية، وتارة بمعني التولي السياسي والانقياد والمتابعة في التشريع والارتباط السلوكي بهم في كافة الميادين فجعل من الفروع غاية الأمر من أركان الفروع، إلا أن الأدلة التي استعرضناها في التوسل والذي يتطابق في عمومه مع عنوان التولي؛ لأن جعلهم وسيلة يشمل عدة ميادين وأصعدة، من جعلهم وسيلة في معرفة الأحكام، وجعلهم وسيلة في الأخذ بأي منهج ومنهاج سياسي واجتماعي، وقد اتضح من الأدلة أنها تفيد شرطيته في صحة الإيمان.

فعلي ضوء ذلك يكون وقع التولي والتبري ودوره خطيرا في أصل الإيمان وقبوله لا مجرد جعله من أركان الفروع.

وإلي ذلك يشير لفظ الحديث النبوي المروي من طرق العامة والخاصة، وهو قوله صلي الله عليه و آله: «ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» «1».

فإن مفاد هذا الحديث الشريف إن التولي والولاء السياسي لهم؟ دخيل في أصل الإيمان فضلا عن معرفتهم التي وردت في طرق أخري من ألفاظ

الحديث.

والتولي والولاء السياسي هو عبارة عن التوسل بهم عليهم السلام واتخاذهم وسيلة بالتوجه إليهم في النهج السياسي، كما هو شأن الوسيلة في التوجه إليها أولًا كي يتم التوجه بها إلي اللَّه.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 43

الوجه الثالث: غواية إبليس لاستكباره عن التوجه بآدم … ص: 43

اشارة

فاستكبار إبليس عن التوجه بآدم في عبادته اعتبر كفرا بتوحيد اللَّه، وانفراطا للركن القويم للتوحيد بذلك الاستكبار والإباء.

الوجه الثالث في الاستدلال علي عقيدة التوسل ما جري من قصة آدم مع إبليس، وإليك مجموعة الآيات الحاكية عن تلك القصة:

قال اللَّه تعالي: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَي وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ» «1».

وقال تعالي: «وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِين* قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ* قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخرج انَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ* قَالَ اخرج مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأن جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ» «2»

.الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 44

وقال تعالي: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَي* فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَي» «1».

وقال تعالي: «اذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِين* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ» «2».

فبينت الآيات أن سنة اللَّه تعالي لملائكته في التوجه إليه هو أن يتوجهوا إليه في عبادتهم بصفوة أوليائه، فتوجهوا إليه في قمة عبادتهم وهي السجود باستقبالهم آدم خليفة اللَّه في أرضه وإمامه علي عباده، فكانت سنة إبليس الاستكبار عن التوجه في العبادة بخليفة اللَّه آدم، بينما سنة اللَّه الخالدة لملائكته هي أن التوحيد في العبادة قوامه بالخضوع للَّه عبر التوجه

إليه بخليفته، فالاستكبار عن هذا الباب تمرد عن الوفود إلي الحضرة الإلهية.

فاستكبار إبليس عن التوجه بآدم في عبادته اعتبر كفرا بتوحيد اللَّه وانفراطا للركن القويم للتوحيد بذلك الاستكبار والإباء «3».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 45

لا مسرح للاشتباه في التطبيق العقائدي … ص: 45

قال البعض: إن الخطأ الصغروي في العقائد لا يخل بالإيمان والهداية، وإنما هو اشتباه في التطبيق نظير الخطأ في بعض العوارض مع إصابة الجوهر، لكن الصحيح ومقتضي التحقيق خطأ هذه المقولة، فإن الخطأ الصغروي في العقائد لا يختلف عن الخطأ الكبروي إلا في شدة الجحود والجهل، وإلا لكان مطلق الخطأ في العقيدة والاعتقادات من قبيل الاشتباه في التطبيق؛ لأنه ما من نِحلة وملة إلا ويزعم أصحابها في أساس وخلفية معتقدها تبني أصلا صحيحا في نفسه، إلا أنهم يطبقوه علي مدعي باطل ويستدلون به علي نتيجة خاطئة، وهذا كما تري.

هذا مع أنه قد شدد القرآن الكريم النكير علي التكذيب بالآيات والظلم بها، مع أن دورها وشأنها دور الآيات، أي في مقام ظهور الحق في المقامات المختلفة، واعتبر إنكار تلك الآيات غيا وضلالا وكفرا، ومن ثم كان جحود ما هو الحق في أي مسألة اعتقادية هو جحود لظهور الحق في ذلك المقام، إلا أن كل مقام بحسبه وموقعيته من الخطورة والأهمية كمقام لظهور الحق.

وقد نبهنا غير مرة أن أصول الدين هي أبواب أخري للتوحيد من توحيد الذات وتوحيد الصفات والتوحيد في التشريع وهو النبوة والتوحيد في الولاية وهو الإمامة والتوحيد في الغاية وهو المعاد، غاية الأمر أن الشأن في تفاصيل الاعتقادات يختلف عن الشأن في أصول الدين، لكون ظهور الحق أجلي في الآيات الكبري ودونه في الآيات الصغري. وبذلك يظهر أن جحود شي ء من أصول الدين هو جحود لظهور الحق في المقامات العظمي،

وليس خللا مقصورا علي الصغري.

ومن ثم كان خطأ إبليس في إنكاره لخيرية آدم عليه، وزعمية خيريته علي آدم- مع إقراره بالذات الربوبية حيث نادي الباري: «قَالَ فانظِرْنِي إِلَي يَوْمِ

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 46

يُبْعَثُونَ» «1»

. ومع إقراره بالمعاد وإقراره بنبوة آدم في قوله تعالي: «قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخرتَنِ إِلَي يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلَّا قَلِيلًا» «2»

. إلا أنه جحد ولاية آدم- لم يكن ذلك الخطأ شأنه حكم مجرد الاشتباه في التطبيق، بل كان ذلك منه جحودا لأصل من أصول الدين وهو ولاية ولي اللَّه، وبالتالي جحودا للتوحيد في مقام الولاية.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 47

الوجه الرابع: لا نفي للتعطيل والتشبيه إلا بالتوسل وهو التوحيد … ص: 47

إن أكثر الذين نفوا الوسائط وقعوا في شراك التجسيم أو الصور المحسوسة أو المتخيلة أو الموهومة لذات الباري، وهذا من القول بالنقص وانتهاء أمد الذات الإلهية.

إن نفي الوسائط التي يتوجه بها إلي الباري تعالي كآيات وأسماء له يستلزم إما التعطيل وإما التجسيم والتحديد ونحوهما وهو التشبيه الباطل، وإن أكثر الذين نفوا الوسائط وقعوا في شراك التجسيم أو الصور المحسوسة أو المتخيلة أو الموهومة لذات الباري، وهذا من القول بالنقص وانتهاء أمد الذات الإلهية، وهو أشد شركا وأوغل في الكفر من عبدة الأوثان، إذ الوثنيون والمشركون ينزهون الذات الإلهية عن الجسمية، وينزهونها عن أن تكون من الأرواح أو النفوس، ويعتقدون أن هناك أرواحا كلية تتعلق بالأصنام وتقوم بدور الوساطة والشفاعة، واتخاذهم للواسطة غير المأذون فيها وبغير سلطان أتاهم من اللَّه هو الذي أوقعهم في الشرك والكفر، لأنهم يحكمون إرادتهم في اتخاذ الواسطة في الشفعاء علي إرادة اللَّه تعالي، كما تشير إلي ذلك جملة من الآيات القرآنية، من أن المحذور الذي وقعوا فيه هو أنهم ارتكبوا ذلك بغير سلطان كما

في العديد من الآيات، ومنها:

قوله تعالي: «مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 48

بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُواْ إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ»».

وقوله تعالي: «قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ» «2».

وقوله تعالي: «وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) «3».

وقوله تعالي: (قُلْ إنما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وأن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وأن تَقُولُواْ عَلَي اللّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ» «4».

وقوله تعالي: «وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ» «5».

وقوله تعالي أيضا: «انْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَي الأنفس وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَي» «6».

فتبين من مجموع الآيات أن هذه الوسائط التي اتخذوها كأسماء يدعون الرب بها، وكسمة وعلامة وآية ودلالة وواسطة في التوجه هي أسماء هم سموها لم يسمها اللَّه لهم، أي لم يجعلها وسائط وأبواب يتوجه بها إليه.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 49

وغيرها من الآيات الكريمة الدالة، علي أن المحذور ليس في ضرورة الوسيلة والواسطة والاسم والسمة والعلامة والآية التي يتوجه بها إليه تعالي، وإنما المحذور أنهم وسطوا وسائط واتخذوا أبوابا وأسماء هي ليست بأبواب ولا وسائل ولا وسائط ولا أسماء ولا علامات ولا آيات يمكنهم عند التوجه

إليها التوجه إلي اللَّه تعالي، بل يكون فعلُهم هذا إلحاداً وحياداً وميلاناً وصداً عن سبيل اللَّه.

والوثنيون مع ذلك استشعروا وأقروا بهذه الضرورة، وأدركوا أن الباري منزهٌ عن الجسم، وأنه لا تدركه الأبصار ولا تستوعبه الأوهام، فحيث أدركوا ذلك أحسوا بالعجز وبضرورة الواسطة والاسم والآية، إلا أنهم مع ذلك لم يصل بهم الحال إلي التجسيم والإيهام بصورة يختلقها الوهم، بينما هؤلاء الذين نفوا الواسطة والاسم والعلامة والوجه الوجيه الذي يتوجه به وقعوا في شراك التجسيم والتصوير الوهمي لذات الباري؛ لأنهم حيث لم يتأهلوا للوحي والنبوة فلا محالة اضطروا إلي القول بالتحديد في الذات الإلهية والجهة المكانية، كي يمكنهم بتخيلهم الوفود علي الحضرة الإلهية، وإلا فيلجئهم التنزيه مع نفي السفراء والوسائط الإلهيين والآيات إلي التعطيل.

فهم يفرون من محذور ويقعون في محذور أكبر مما وقع فيه أهل الوثنية، حيث إن الوثنية نزهوا ذات الباري إلا أنهم جعلوا ما ليس بوسيلة وسيلة، وما ليس بواسطة واسطة، بينما هؤلاء حجموا الذات الإلهية وحددوها إلي أمد مقداري «1».

ومن ذلك يتبين أن من ينزه الباري عن التحديد والتجسيم والتصوير وعن

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 50

القيود والحدود الخلقية، فلا محالة لأجل أن لا يقع في التعطيل ويحافظ علي التنزيه من دون تشبيه لا مفر له من القول بالآيات الإلهية الكبري، وأنها وجهه الكريم الذي يتوسل بها إليه، وأنها أسماؤه التي يدعي وينادي ويتوجه بها إليه، وهذا هو الذي تشير إليه الصديقة فاطمة عليها السلام في مطلع خطبتها بقولها: «واحمدوا اللَّه الذي لعظمته ونوره يبتغي من في السموات والأرض إليه الوسيلة، ونحن وسيلته في خلقه، ونحن خاصته، ومحل قدسه، ونحن محبته في غيبه، ونحن ورثة أنبيائه» «1».

فمن يعظم اللَّه لابد أن يبتغي إليه الوسيلة، وإلا

اضطر إلي تصغير الرب وتحديده وإنهائه إلي أمد وقدر.

والتعظيم يلجئه ويضطره كي لا يقع في التعطيل بعد نفيه للتصغير والتشبيه إلي القول بالوسيلة.

ومن هنا نقف علي حقيقة المقام المعرفي والأفق العلمي لأهل البيت عليهم السلام مع أنهم كانوا يعيشون في بيئة جاهلية متخلفة، بل البشرية من الحضارة الهندية والحضارة الرومية والحضارة الفارسية وإن وصلوا إلي تنزيه الرب إلا أن منهم من لم يدرك ضرورة الوسيلة كاليونانيين، ومنهم من أدرك ضرورة الوسيلة إلا أنه لم يهتد إلي ما هو في الحقيقة وسيلة، ويميزه عما هو صد وصدود عن سبيل اللَّه والوسيلة إليه.

وإلي ذلك أيضا أشار أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال: «فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون، وبعظمته ونوره ابتغي من في السماوات والأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة بالأعمال المختلفة والأديان المشتبهة» «2».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 51

ويشير عليه السلام إلي نفس ضرورة الوسيلة والواسطة والآية والعلامة والاسم والسمة اللازمة لعظمته تعالي، وأن من أدرك ذلك من الخلق منهم من أخطأ في إصابة الوسيلة الحقيقية فدان بأديان مشتبهة ظنا منه أن تلك الوسائط أسماء وآيات ودلالات ووساطات موصلة، وجهل أنها صدود عن السبيل إلي اللَّه تعالي والوسيلة إليه.

ومثله قول أبي الحسن موسي بن جعفر عليهما السلام كما عن علي بن سويد، قال: كتبت إلي أبي الحسن موسي عليهما السلام وهو في الحبس كتابا أسأله عن حاله وعن مسائل كثيرة، فاحتبس الجواب علي أشهر ثم أجابني بجواب هذه نسخته:

الحمد للَّه العلي العظيم الذي بعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون، وبعظمته ونوره ابتغي من في السماوات ومن في الأرض إليه الوسيلة، بالأعمال المختلفة والأديان المتضادة، فمصيب ومخطئ، وضال ومهتد، وسميع وأصم، وبصير وأعمي

حيران، فالحمد للَّه الذي عرف ووصف دينه محمد صلي الله عليه و آله …

إلي أن قال: فاستمسك بعروة الدين: آل محمد والعروة الوثقي: الوصي بعد الوصي والمسالمة لهم والرضا بما قالوا، ولا تلتمس دين من ليس من شيعتك، ولا تحبنَّ دينهم، فإنهم الخائنون الذين خانوا اللَّه ورسوله وخانوا أماناتهم.

وتدري ما خانوا أماناتهم؟ ائتمنوا علي كتاب اللَّه فحرفوه وبدلوه، ودلوا علي ولاة الأمر منهم فانصرفوا عنهم» «1».

وقال الإمام علي بن موسي الرضا عليهما السلام عندما سأله أبو قرة المحدث صاحب

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 52

شبرمة: «فمن أقرب إلي اللَّه الملائكة أو أهل الأرض؟ قال أبو الحسن عليه السلام: إن كنت تقول بالشبر والذراع، فإن الأشياء كلها باب واحد هي فعله لا يشتغل ببعضها عن بعض، يدبر أعلي الخلق من حيث يدبر أسفله، ويدبر أوله من حيث يدبر آخره، من غير عناء، ولا كلفة، ولا مؤنة، ولا مشاورة، ولا نصب، وإن كنت تقول من أقرب إليه في الوسيلة، فأطوعهم له، وأنتم تروون أن أقرب ما يكون العبد إلي اللَّه وهو ساجد، ورويتم أن أربعة أملاك التقوا أحدهم من أعلي الخلق، وأحدهم من أسفل الخلق، وأحدهم من شرق الخلق، وأحدهم من غرب الخلق، فسأل بعضهم بعضا، فكلهم قال: «من عند اللَّه أرسلني بكذا وكذا» ففي هذا دليل علي أن ذلك في المنزلة دون التشبيه والتمثيل» «1».

وهذا بيان واف من الإمام الرضا عليه السلام أن من ينف التجسيم عن اللَّه والاقتراب الجسماني فهو مضطر للقول بالقرب المعنوي، وأن صاحب الوسيلة الذي يستشفع بشفاعته إلي اللَّه تعالي ويتوجه به إلي اللَّه تعالي هو أقرب الخلق إلي اللَّه، وهم محمد صلي الله عليه و آله وأهل بيته الطاهرين الذين ميزهم اللَّه مع نبيه

صلي الله عليه و آله بالطهارة دون بقية الخلق.

ومنه يظهر أن التوسل بصاحب الوسيلة والقرب والتوجه به إلي اللَّه هو من صميم التوحيد القائم علي التنزيه ونفي التشبيه والتمثيل والتعطيل، وأن الذي ينفي التوسل والاستشفاع بالشفيع والتوجه بالوجيه يقع في التشبيه والتمثيل أو التعطيل.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 53

الوجه الخامس آيات الأسماء … ص: 53

اشارة

إن الأسماء الإلهية هي الآيات الدالة عليه تعالي وعلي صفاته العليا، فالمخلوقات العظيمة من جهة دلالتها علي عظمة الباري وعظمة صفاته هي آيات وعلامات، وبالتالي هي أسماء إلهية.

قال تعالي: «وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَي الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ» «1».

قال تعالي: «قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ» «2».

قال تعالي: «وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَي فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أسمائه سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ» «3».

قال تعالي: «مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُواْ إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 54

لَا يَعْلَمُونَ» «1».

قال تعالي: «قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أو ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَي وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا» «2».

قال تعالي: «اللَّهُ لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَي» «3».

قال تعالي: «انْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَي الأنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَي» «4».

قال تعالي: «هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَي يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» «5».

قال تعالي: «وَمَنْ أَظْلَمُ

مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَي فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ» «6».

قال تعالي: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ» «7».

وجاء في الرواية عن عبد الأعلي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «اسم اللَّه غير اللَّه، وكل شي ء وقع عليه اسم شي ء فهو مخلوق ما خلا اللَّه، فأما ما عبرته الألسن أو ما عملته الأيدي فهو مخلوق، واللَّه غاية من غاياه، والمغيي غير الغاية، والغاية موصوفة، وكل

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 55

موصوف مصنوع، وصانع الأشياء غير موصوف بحد مسمي» «1».

وخلاصة ما قاله المجلسي:

«بيّن عليه السلام المغايرة بأن اللفظ الذي يعبر به الألسن والخط الذي تعمله الأيدي، فظاهر أنه مخلوق» «2».

وقوله عليه السلام: «واللَّه غاية من غاياه» المراد أن الغاية تطلق علي النهاية وتطلق علي الآية والعلامة، فكل من كان له مطلب وعجز عن تحصيله بسعيه يتوسل إليه باسم اللَّه، والمغيي المتوسل إليه لتلك الغاية غير الغاية.

أو يراد بالغاية النهاية وباللَّه الذات لا الاسم، فالرب تعالي غاية آمال الخلق يدعونه عند الشدائد بأسمائه العظام، والأسماء طرق ومسالك توصل الخلق إلي اللَّه في حوائجهم، والعقل يحكم بأن الوسيلة غير المقصود بالحاجة.

أو أن الغاية العلامة فالباري هو ذو العلامة، فأسماؤه علامات عليه.

ومن زعم أنه يعرف اللَّه بحجاب الأسماء التي هي حجب بين اللَّه وخلقه، ووسائل بها يتوسلون إليه، بأن زعم أنه تعالي عين تلك الأسماء أو الأنبياء والأئمة عليهم السلام، وبأن زعم أن اللَّه تعالي اتحد بهم أو الصفات الزائدة، فإنه حجب عن الوصول إلي حقيقة الذات الأحدية.

أو زعم أنه ذو صورة كما قالت

المشبهة، أو بصورة عقلية زعم أنها كنه ذاته وصفاته تعالي، أو بمثال خيالي، أو جعل له مماثلا ومشابها من خلقه فهو مشرك، للزوم تركبه تعالي وكونه ذو أجزاء تعالي اللَّه عن ذلك.

وجاء في الرواية الصحيحة الإعلائية عن ابن رئاب وعن غير واحد، عن

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 56

أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام قال: «من عبد اللَّه بالتوهم فقد كفر، ومن عبد الاسم دون المعني فقد كفر، ومن عبد الاسم والمعني فقد أشرك، ومن عبد المعني بإيقاع الأسماء عليه بصفاته التي وصف بها نفسه، فعقد عليه قلبه ونطق به لسانه في سرائره وعلانيته، فأولئك أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام حقاً».

وفي حديث آخر: «أولئك هم المؤمنون حقاً» «1».

وجاء في الرواية عن إبراهيم بن عمر عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «إن اللَّه تبارك وتعالي خلق اسما بالحروف غير منعوت، وباللفظ غير منطق، وبالشخص غير مجسد، وبالتشبيه غير موصوف، وباللون غير مصبوغ، منفي عنه الأقطار، مبعد عنه الحدود، محجوب عنه حس كل متوهم، مستتر غير مستور، فجعله كلمة تامة علي أربعة أجزاء معا ليس منها واحد قبل الآخر، فأظهر منها ثلاثة أسماء لفاقة الخلق إليها، وحجب واحدا منها، وهو الاسم المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة التي أظهرت، فالظاهر هو اللَّه تبارك وتعالي، وسخر سبحانه لكل اسم من هذه الأسماء أربعة أركان، فذلك اثنا عشر ركنا، ثم خلق لكل ركن منها ثلاثين اسما فعلا منسوبا إليها فهو الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، الخالق البارئ، المصور، الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، العليم، الخبير، السميع، البصير، الحكيم، العزيز، الجبار، المتكبر، العلي، العظيم، المقتدر، القادر، السلام، المؤمن، المهيمن «البارئ»، المنشئ، البديع، الرفيع، الجليل، الكريم، الرازق، المحيي، المميت، الباعث، الوارث. فهذه

الأسماء وما كان من الأسماء الحسني حتي تتم ثلاث مائة وستين اسما، فهي نسبة لهذه الأسماء الثلاثة وهذه الأسماء الثلاثة أركان، وحجب الاسم الواحد المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة وذلك قوله تعالي: «قل ادعوا اللَّه أو ادعوا الرحمن

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 57

أياما تدعوا فله الأسماء الحسني» «1».

قال العلامة المجلسي بالمعني: والمراد بالاسم كل ما يدل علي ذاته وصفاته تعالي أعم من أن يكون اسما أو فعلا أو جملة، فاللَّه إشارة إلي كل الصفات لكونه موضوعا للذات المستجمعة لكل الصفات الكمالية، وتبارك إلي جميع الصفات الفعلية، وسبحان أو تعالي (علي اختلاف النسخ كما في الكافي) دال علي الصفات التنزيهية وسلب النقائص، وهذه الأسماء جعلها ليظهر بها علي الخلق، فالظاهر هو الاسم والظاهر به هو الرب سبحانه «2».

وحكي المجلسي عن أبيه المجلسي الأول في تفسير الرواية ما خلاصته: إن الاسم الأول هو الاسم الجامع الدال علي الذات والصفات، ومعرفة الذات بالكنه محجوبة عن غيره تعالي، فصار الاسم الدال علي الذات محجوبا عن الخلق وهو الاسم الأعظم، والدال علي مجموع الاسم والصفات اسم أعظم باعتبار آخر، ويشبه أن يكون الاسم الجامع هو «اللَّه» والاسم الدال علي الذات فقط هو «هو»، وتكون المحجوبية باعتبار عدم التعيين.

وقال المجلسي الثاني: أو أن الاسم كناية عن مخلوقاته تعالي، والاسم الأول الجامع كناية عن أول مخلوقاته، ثم عن تشعب المخلوقات وتعدد العوالم «3».

وقد قيل في سبب نزول قوله تعالي: «قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أو ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَي وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا» «4»

. إنه حين سمع المشركون رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يقول: يا اللَّه يا رحمن، فقالوا: إنه

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص:

58

ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إله آخر.

وقالت اليهود: إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثره اللَّه في التوراة، فنزلت الآية ردا لما توهموه من التعدد أو عدم الإتيان بذكر الرحمن.

وقوله صلي الله عليه و آله: وذلك قوله عز وجل: «قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أو ادْعُواْ الرَّحْمَنَ» استشهاد بأنه له تعالي أسماء حسني، وأنه إنما خلقها ووضعها ليدعوه الخلق بها، فقال تعالي قل ادعوه تعالي باللَّه أو بالرحمن أو بغيرهما، فالمشار إليه بالأسماء شي ء واحد وهو الرب سبحانه.

ومن الروايات في الوسيلة ما يلي:

ما رواه جابر بن عبد اللَّه الأنصاري في تفسير قوله تعالي: «كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ» «1»

. قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «أول ما خلق اللَّه نوري ابتدعه من نوره واشتقه من جلال عظمته، فأقبل يطوف بالقدرة حتي وصل إلي جلال العظمة في ثمانين ألف سنة، ثم سجد للَّه تعظيما، ففتق منه نور علي عليه السلام، فكان نوري محيطا بالعظمة، ونور علي محيطا بالقدرة، ثم خلق العرش واللوح والشمس وضوء النهار ونور الأبصار والعقل والمعرفة وأبصار العباد وأسماعهم وقلوبهم من نوري، ونوري مشتق من نوره، فنحن الأولون، ونحن الآخرون، ونحن السابقون، ونحن المسبحون، ونحن الشافعون، ونحن كلمة اللَّه، ونحن خاصة اللَّه، ونحن أحباء اللَّه، ونحن وجه اللَّه، ونحن جنب اللَّه، ونحن يمين اللَّه، ونحن أمناء اللَّه، ونحن خزنة وحي اللَّه وسدنة غيب اللَّه، ونحن معدن التنزيل ومعني التأويل، وفي أبياتنا هبط جبريل، ونحن محال قدس اللَّه، ونحن مصابيح الحكمة، ونحن مفاتيح الرحمة، ونحن ينابيع النعمة، ونحن شرف الأمة، ونحن سادة الأئمة، ونحن نواميس العصر وأحبار الدهر، ونحن سادة العباد، ونحن

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 59

ساسة البلاد، ونحن الكفاة والولاة والحماة والسقاة

والرعاة وطريق النجاة، ونحن السبيل والسلسبيل، ونحن النهج القويم والطريق المستقيم، من آمن بنا آمن باللَّه، ومن رد علينا رد علي اللَّه، ومن شك فينا شك في اللَّه، ومن عرفنا عرف اللَّه، ومن تولي عنا تولي عن اللَّه، ومن أطاعنا أطاع اللَّه، ونحن الوسيلة إلي اللَّه والوصلة إلي رضوان اللَّه، ولنا العصمة والخلافة والهداية، وفينا النبوة والولاية والإمامة، ونحن معدن الحكمة وباب الرحمة وشجرة العصمة، ونحن كلمة التقوي والمثل الأعلي والحجة العظمي والعروة الوثقي التي من تمسك بها نجا» «1».

وروي في بصائر الدرجات بسنده عن سلمان الفارسي عن أمير المؤمنين عليه السلام في قول اللَّه تبارك وتعالي: «قُلْ كَفَي بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ» فقال: «أنا هو الذي عنده علم الكتاب» وقد صدقه اللَّه وأعطاه الوسيلة في الوصية، ولا يخلي أمته صلي الله عليه و آله من وسيلته إليه وإلي اللَّه، فقال: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» «2».

وروي الصدوق بإسناده عن الإمام الرضا عليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «الأئمة من ولد الحسين، من أطاعهم فقد أطاع اللَّه، ومن عصاهم فقد عصي اللَّه، هم العروة الوثقي، وهم الوسيلة إلي اللَّه عز وجل» «3».

ف وروي الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل بسنده عن عكرمة في قوله تعالي: «أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَي رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ» قال: «هم النبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام»».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 60

تحقيق في معني الاسم في القرآن … ص: 60

الاسم في أصل وضع اللغة إما من الوسم وهو الأثر والعلامة.

والموسوم هو من عليه علامة.

ويقال قد سمت فيه الخير أي رأيت فيه أثر، أو من السمو وهو الارتفاع والعلو، يقال

سما إليه بصري أي ارتفع بصري إليه.

ويقال سما به أي أعلاه.

ويقال سما لي شخص فلان، أي ارتفع حتي استبنته وسما إليه بصري، إذا رفع لك شي ء من البعيد فاستبنته قلت سما لي شي ء.

قال ابن منظور في لسان العرب: اسم الشي وسمه «بفتح السين وكسرها وضمها» وسماه علامته.

وقال الزجاج: معني قولنا اسم، مشتق من السمو وهو الرفعة.

وقال الجواهري: والاسم مشتق من سموت، لأنه تنويه ورفعة.

وإذا نسبت إلي الاسم قلت سموي «بكسر السين وفتح الميم» وسموي «بفتح السين وسكون الميم» …

وقال أبو العباس: الاسم رسم وسمة توضع علي الشي فتعرف به.

وقال أبو إسحاق: إنما وضع الاسم تنويها بالدلالة علي المعني؛ لأن المعني تحت الاسم.

وفي التهذيب: ومن قال إن اسما مأخوذ من وسمت فهو غلط.

وقال الجوهري: سميت فلانا زيدا، وسميته بزيد بمعني، وأسميته مثله، فتسمي به.

وقال سيبويه: الأصل الباء؛ لأنه كقولك عرفته بهذه العلامة ووضحته بها.

وسُئل أبو العباس عن الاسم أهو المسمي أو غير المسمي، فقال: قال أبو عبيدة:

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 61

الاسم هو المسمي.

وقال سيبويه: الاسم غير المسمي «1». انتهي

ويتحصل من ذلك:

إن الاسم هو الشي الدال علي مسمي علامة عليه ودلالةً وتنويهاً، وأن السمو والوسم متقارب المعني من حيث الدلالة والبيان والعلامة علي الشي.

وإذا اتضح ذلك تبين أن الأسماء الإلهية هي الآيات الدالة عليه تعالي وعلي صفاته العليا.

فالمخلوقات العظيمة من جهة دلالتها علي عظمة الباري وعظمة صفاته هي آيات وعلامات، وبالتالي هي أسماء إلهية.

فكلما عظم خلقة المخلوق دل علي عظمة فعل وصفات الباري، فكان اسما أكبر وأعظم، ومن ذلك يظهر أن الكلمة الملفوظة بالصوت التي يتلفظ بها الإنسان الداعي هي مخلوقة له، إنما صح إطلاق اسم اللَّه عليها بلحاظ دلالتها علي المعني، والمعني في الذهن أيضا مخلوق

للنفس الإنسانية، وهو بدوره دال علي الصفات أو الذات الإلهية، ولكن أين دلالة الصوت الملفوظ عن المعني في الذهن من دلالة المخلوق الموجود في الخارج، فإن دلالة المخلوقات العظيمة تكوينية بينما دلالة الصوت الملفوظ اعتبارية أدبية، فصدق الأسماء الإلهية علي الآيات الخلقية صدق حقيقي، بينما صدقها علي الأصوات الملفوظة مجاز عقلي، وأين هذا من ذاك «2».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 62

ومن هنا يتبين معني الآية الكريمة: «وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَي» أي الآيات العظمي «فَادْعُوهُ بِهَا» أي فتوجهوا بها إليه تعالي، وأن معني قوله تعالي: «وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ» «1»

يتطابق مع قوله تعالي: «انَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء» «2»

وكليهما في سورة الأعراف.

ومنه يتنبه إلي الإشارة في قوله تعالي: «وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا» «3»

فإن أحد الأقوال في تفسير الأسماء هي الأسماء الإلهية، أي الأسماء الإلهية كلها، وعلي ذلك يكون قد أطلقت علي مخلوقات عظيمة أعظم من الملائكة ومن آدم عليه السلام، حيث قال تعالي: «ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَي الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ» «4»

.فاستعمل ضمير الجمع للعاقل الشاعر الحي، وكذلك اسم الإشارة للشاعر الحي العاقل «هؤلاء»، مما يدلل علي أن هذه المخلوقات العظيمة حية شاعرة عاقلة لم تكن الملائكة تحيط بها خبرا ولا علما، حيث «قَالُواْ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» «5».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 63

وإلي ذلك الإشارة في قول الإمام الصادق عليه السلام في الروايات السابقة.

فيتضح أن المخلوقات العظيمة التي لها مقام الزلفي والقرب الإلهي هي أسماؤه تعالي، أسماء وآيات دالة عليه تعالي من حيث إنها آيات وكلمات، ومن ثم أطلق علي عيسي عليه السلام كلمته، وأطلق عليه وجيها فقال تعالي: «اذْ قَالَتِ

الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخرة وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» «1».

وكذلك موسي عليه السلام. قال تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَي فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا» «2».

هذا فضلا عن سيد الأنبياء وأوصيائه الطاهرين عليهم السلام.

ولا بد أن يتنبه إلي ضرورة الأسماء الإلهية في باب المعرفة بالذات الإلهية وباب التوجه إلي الحضرة الإلهية، فإن الطلب للمجهول المطلق ممتنعٌ، وإدراك المبهم المتوغل في الإبهام من كل جهة محال، وهذا حال المخلوق مع كنه الذات الإلهية، فلا بد من علامة يهتدي بها إلي الذات الإلهية، وتلك العلامة هي الاسم والأسماء والآيات.

فلولا دلالة الأسماء علي المسمي لامتنع الطريق إليه تعالي، وللزم التعطيل في المعرفة.

ومن ذلك تبين أن الأسماء التي هي الآيات المخلوقة هي الوسيلة إلي معرفته تعالي.

ومن ثم لو أعملنا دقة التحليل في ألفاظ قوله تعالي: «وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَي

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 64

فَادْعُوهُ بِهَا» عن المدعو هو اللَّه تعالي، والأسماء هي الوسيلة للدعاء والتوجه والقصد إليه تعالي، وأن الإلحاد عن الأسماء يمنع التوجه إلي الذات الإلهية، وأن حقيقة الأسماء هي الآيات العظيمة في الخلقة الإلهية لا للأصوات الملفوظة والرسوم المنقوشة المكتوبة التي هي نماذج اعتبارية لا تكوينية للأسماء.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 65

الوجه السادس: ابتغاء الوسيلة … ص: 65

إن التوجه إلي اللَّه تعالي يجب أن يكون بشي وهو الوسيلة، ولا يتوجه إليه تعالي بدون وسيلة ووصلة، وهذا هو القاعدة التي ذكرناها.

قال اللَّه تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» «1».

وقوله تعالي: «أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَي رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أقرب وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا» «2».

ذكرنا أن معني

الوسيلة هو ما يتوسل به ويتوجه به، أو ما يجعل وصلة للوصول إلي شي ء، وذلك الشي هو بمثابة الغاية المطلوبة بالأصل، ومن الجدير بالذكر أن الآيات السابقة لا تعبر بلفظ «ابتغوه» وإنما تعبر بلفظ «وَابْتَغُواْ إِلَيهِ» مما يدلل علي أن التوجه إلي اللَّه تعالي يجب أن يكون بشي وهو الوسيلة، ولا يتوجه إليه تعالي بدون وسيلة ووصلة، وهذا هو القاعدة التي ذكرناها.

ومن ثم فإن القول بأن الأعمال الصالحة والقربية هي الوسيلة لا ينافي القول أن هذه الوسيلة تحتاج إلي وسيلة أخري من أجل أن تصعد وتتأهل للصحة والقبول

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 66

الإلهي، فإن الأعمال الصالحة لا تقبل إلا بالولاية مما يدلل علي أن لهذه الأعمال الصالحة وسيلة وهي ولاية أهل البيت عليهم السلام، فهي وسيلة في وسيلة، وسيأتي ما يتعلق بهذا الوجه.

وبيان مفاد الآية بنحو أوضح أن لفظة فعل الأمر «وَابْتَغُواْ» متعلق أولًا وبالذات بلفظة الوسيلة كمفعول به، أي أن الذي يبتغي ويقصد هو الوسيلة، ولفظة «إِلَيهِ» متعلق ثانٍ، وهو لأجل الوصول إليه تعالي.

فمفاد الآية أن القصد والابتغاء يتوجه أولًا إلي الوسيلة وبها يحصل التوجه إلي اللَّه تعالي.

هذا فضلا عما لو جعلنا الجار والمجرور متعلق بلفظ الوسيلة، فيكون الابتغاء متعلق بنحو التمحض بلفظ الوسيلة، وعلي كلا التقديرين فالقصد متوجه ابتداءً إلي الوسيلة، وعبرها يتم التوجه والوصول إلي اللَّه تعالي.

وهذه الآية نص في أن هناك مسافة وبعداً بين العباد والرب من طرف العباد اتجاه الرب تعالي، وإن كان الرب تعالي قريب من العباد من جهته هو إليهم علما وسيطرة واستيلاء؛ لأنه لو لم تكن مسافة وبعدٌ من العباد اتجاه الرب من جهتهم إليه تعالي لما كان معني لطلب الوسيلة ولوجودها بينه وبين خلقه، ولكان الأمر بطلبها

منه تعالي لغوا، وهو خارج عن الحكمة الإلهية.

ويستفاد من الآية الكريمة أن الوصول إليه تعالي ولقاءه منحصرٌ طريقه وسبيله بالوسيلة ولا يتم بدونها؛ وذلك لأن الآية تقرر وجود البعد والمسافة بين الخلق والخالق من جهة الخلق، وذلك بسبب نقصهم في الكمالات عن الكمال الإلهي، فالبعد ذاتيٌ بينهم وبين الخالق ولا يُطوي من قبل ذاتهم، بل لا بد من أمر آخر خارج عنهم وهو الوسيلة.

كما أن الآية الثانية تبين وتبرهن أن المناط في كون الشي وسيلة يدور مدار قربه إلي اللَّه تعالي، فكلما كان أقرب كان مقامه في الوسيلة أعلي وأنفذ.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 67

كما أن آية الإسراء تدلل علي أن الغاية من الوسيلة هي لأجل القرب منه تعالي، وبالتالي تقررُ وجود البعد بين الخلق واللَّه من جهة الخلق إليه تعالي، ولأجل هذا البعد فلا بد في طيه من التوسل بالوسيلة والتوجه إليها وقصدها؛ لأن دور الوسيلة الوساطة والتقريب، ومن ثم يكون أقرب الخلق إلي اللَّه هو أعظمهم وسيلة، ويكون صاحب الشفاعة الكبري، ويكون هو الرحمة الإلهية القصوي.

ولا ريب بضرورة القرآن والدين أن أقرب الخلق إلي اللَّه هو سيد الأنبياء، ومن ثمَّ خُص بالشفاعة الكبري، وكان أقربهم وسيلة إلي اللَّه، ووصفه الباري بأنه رحمة للعالمين، وخَلع عليه من خاصة أسمائه الإلهية وهو الرءوف الرحيم.

وقد قرن اللَّه تعالي بنبيه صلي الله عليه و آله في جملة من المقامات أهلَ بيته الأطهار عليهم السلام، وجعل الوسيلة إلي القرب من نبيه؟ مسايرةَ أهل بيته عليهم السلام فقال تعالي: «قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي» «1».

فجعل الوصلة إلي نبيه صلي الله عليه و آله والباب إليه مودة قرباه، وعظَّم من تلك المودة فجعلها كفوا لجميع الرسالة، تنبيهاً

علي أنهم الباب الأعظم إلي الرسول صلي الله عليه و آله والرسالة والدين والديانة، ثم قال في سورة أخري: «قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَي اللَّهِ وَهُوَ عَلَي كُلِّ شَيٍ شَهِيدٌ» «2».

فبين أن نفع مودة قربي النبي صلي الله عليه و آله عائد للخلق والعباد أنفسهم؛ لأنهم وسيلةٌ لهم إلي اللَّه ورسوله صلي الله عليه و آله، فقال في سورة أخري: «قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَي رَبِّهِ سَبِيلًا» «3».

فكانوا هم السبيل الأعظم إليه والمسلك إلي رضوانه، فنصت مجموع هذه

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 68

الآيات علي كونهم الوسيلة والسبيل إلي اللَّه ورسوله صلي الله عليه و آله، وربطت بين كونهم وسيلة وسبيلًا وبين دور ومقام النبي صلي الله عليه و آله، فجعلت مودتهم التي هي سبيل ووسيلة أجراً لجُهد النبي صلي الله عليه و آله في تبليغ الرسالة، وقد بينت الصديقة فاطمة عليها السلام جملة هذه البيانات القرآنية من بعد الخلق عن اللَّه من جهتهم إليه لا من جهته إليهم، واحتياجهم بالتالي إلي الوسيلة، ودورها في معرفة التوحيد، وأن تلك الوسيلة هم النبي وأهل بيته عليهم السلام، كل ذلك في قولها عليها السلام: «واحمدوا اللَّه الذي لعظمته ونوره يبتغي من في السموات والأرض إليه الوسيلة ونحن وسيلته في خلقه».

ويشير إلي هذا المعني من كونهم عليهم السلام الوسيلة العظمي إلي اللَّه تعالي- أي النبي وأهل بيته عليهم السلام؛ لأن مصطلح القرآن في عنوان أهل البيت كما في آية التطهير المراد به النبي وقرباه المطهرين من المعاصي- ما ورد في العديد من الزيارات كما فيما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات: «من زار الحسين عارفا بحقه كان

كمن زار اللَّه في عرشه».

كما ورد في قوله تعالي: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا» «1»

فجعل اللَّه تعالي الاستجارة بنبيه صلي الله عليه و آله وفودا عليه للتوبة ومجيئا إليه، ونظيره قوله تعالي: «وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَي» «2»

كما جعل المجي إلي المسجد زيارة إليه تعالي، فكيف بمن جعل اللَّه مودتهم سبيلا إليه، وأنها العدل الأعظم لرسالته، ومن باهل به اللَّه وجعله حجة من حججه مطهرا، وحججه هي آياته التي يصدق بها، وآياته هي أبواب سمائه ومفاتيح رحمته، كما في سورة الأعراف التي سبقت.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 69

الوجه السابع: وجه الشفاعة … ص: 69

اشارة

فوجود الأبواب بين المخلوق من جهته إلي الخالق عقيدة قرآنية أصيلة ومعتقد إسلامي أصيل، والتنكر له جحود لعقيدة ركن في نظام السنة الإلهية.

نبدأ البحث باستعراض آيات الشفاعة، وقد وردت آيات الشفاعة في القرآن علي طوائف عديدة، ومن المهم تصنيفها إلي أصناف تمهيدا لإيضاح رؤية القرآن فيها:

طوائف الآيات … ص: 69
الطائفة الأولي: آيات نفي الشفاعة … ص: 69

قال اللَّه تعالي: «فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ» «1».

وقال تعالي: «وَاتَّقُواْ يَوْماً لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ» «2».

الطائفة الثانية: آيات نفي الشفعاء … ص: 69

قال تعالي: «وانذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَي رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 70

وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» «1».

وقال: «وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وأن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَّا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ» «2»

.وقال: «فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ» «3».

«وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَي كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَي مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ» «4».

الطائفة الثالثة: آيات تحقق الشفاعة مع الإذن الإلهي … ص: 70

«انَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَي عَلَي الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ» «5».

«وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّي إذا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» «6».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 71

«يَوْمَئِذٍ لَّاتَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا» «1».

«اللّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» «2».

الطائفة الرابعة: آيات تحقق الشفاعة من قبل المرضي قولا وفعلا … ص: 71

«لَايَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا» «3».

«يَوْمَئِذٍ لَّاتَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا» «4».

«وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» «5».

الطائفة الخامسة: آيات تحقق الشفاعة في صالح من كان مرضيا … ص: 72

«يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَي وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ» «6».

والنتيجة علي ضوء الجمع بين مفاهيم الطوائف القرآنية السابقة كما يلي:

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 72

(1) استحالة الشفاعة الاستقلالية عن اللَّه من قبل أي مخلوق لآخر.

(2) بطلان توهم الشفعاء المزعومين من قبل البشر.

(3) صحة الشفاعة مع صدور الإذن الإلهي بها، والمراد به الإذن التكويني الذي يعني إقدار اللَّه لهم علي الشفاعة.

(4) احتياج الشفيع إلي شرائط روحانية وملكوتية استثنائية تؤهله للشفاعة.

(5) ضرورة توفر المشفوع له علي العقائد الصحيحة التي تجعله جديرا باستيعاب الشفاعة له.

الطائفة السادسة: آيات ضرورة تحقق الشفاعة … ص: 72

الآية الأولي: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا» «1».

الآية الثانية: «وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَي ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ»».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 73

بحوث الآية الأولي … ص: 73
اشارة

قال اللَّه تعالي: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا» «1».

القاعدة الأولي: التوسل شرط في صحة التوبة … ص: 73
اشارة

وهذه الآية من المحكمات ذات المفاد الدائم، ولاسيما وأن للتوبة أكبر علاقة ورابطة بين العبد وربه، والتوبة مأخوذة من الأوبة وهي الرجوع إلي اللَّه تعالي.

وتبين الآية الأولي أن لتوبته تعالي علي البشر شرائط وهي كسنة دائمة أبدية، وأول تلك الشرائط ومبدؤها- أي التي يراعي في البدء- هو التوجه إلي النبي صلي الله عليه و آله وقصد الحضرة النبوية، وهذا نحو توسل بالنبي صلي الله عليه و آله وتوجه به إلي اللَّه تعالي.

وثانيها استغفار المذنب وهو ندمه وتوبته ورجوعه.

وثالثها استغفار الرسول صلي الله عليه و آله، أي أن استغفار مذنبي الأمة وتوجههم بالنبي صلي الله عليه و آله وهما الشرطان الأولان ليسا كافيين في حصول توبة اللَّه ما لم يتوسط الرسول صلي الله عليه و آله ويتشفع في نجح سؤال المستغفرين.

وقد جعل توسط الرسول صلي الله عليه و آله في نهاية المطاف للتدليل علي أن ترتب الجزاء وهي التوبة الإلهية إنما يتحقق عقب الدور النبوي في الشفاعة لجميع الأمة، في جميع ما تسأل الأمة من ربها.

ويرتسم لنا من ذلك أن هذا ليس مخصوصاً بباب التوبة والاستغفار من الذنوب الذي هو أعظم حاجيات المخلوقين، بل هو شامل لكل سؤالٍ ودعاءٍ وطلب من الحضرة الربوبية، بل إن حقيقة التوبة هي من الأوب وهو الرجوع

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 74

والوفود علي الحضرة الإلهية والتوجه إليها وقصدها.

فالبحث في التوبة في الحقيقة بحث في مطلق الزلفي والتقرب والتوجه للحضرة الإلهية.

وقد أُطلق علي نوافل صلاة الظهر اسم صلاة الأوابين، لما فيها من الأوبة الخاصة.

فالتوبة في الحقيقة ليست عملا منحازا ومنفصلا عن حقيقة العبادات، إذ

كل باب من العبادات نوع من الأوبة إلي اللَّه تعالي، فكل عبادة تصب في نفس مضمار الاستغفار.

وعلي ذلك فالآية تدل علي لزوم شرطين آخرين يجب أن ينضما إلي العبادات:

الأول: هو المجي إلي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله والوفود علي الحضرة النبوية، بعد كون الآية غير مخصوصة بزمان الحياة الشريفة للنبي صلي الله عليه و آله إذ هي تتعرض لأمر أبدي ولأعظم أمر يخص العبد في العلاقة بينه وبين اللَّه، فمؤداها سنة إلهية أبدية تشترط في التوبة المجي للنبي صلي الله عليه و آله.

الثاني: استغفار الرسول صلي الله عليه و آله.

وبصراحة مرة ننبه علي أن الفقهاء أغفلوا في كتبهم الفقهية وكتبهم الكلامية الشرط الأول، وإن نبه بعضهم علي أن من شرائط التوبة الإيمان بولاية النبي وأهل بيته عليهم السلام، لكنهم أغفلوا هذا الشرط وهو اللجوء والالتجاء واللواذ بحضرة النبي صلي الله عليه و آله وأهل بيته الأطهار عليهم السلام.

وبعبارة أخري: إن الآية تضيف في شرائط التوبة- علاوة علي أصل الإيمان بالنبي وأهل بيته عليهم السلام- اشتراط التوسل بالنبي صلي الله عليه و آله، فلفظ الآية في الشرط الأول يعني اللجوء إلي الحضرة النبوية واللواذ به والاستعاذة والالتجاء، وهو عين التوسل

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 75

والتوجه بالنبي صلي الله عليه و آله.

وقد أفتي فقهاء الإمامية وعلماؤهم في صلاة الفريضة والنافلة باستحباب دعاء التوجه قبل تكبيرة الإحرام بل بعدها أيضا، وهو: «وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض، وما أنا من المشركين علي ملة إبراهيم ودين محمد وهدي علي أو منهاج علي» والدعاء الآخر: «باللَّه أستنجح وباللَّه أستفتح، وبمحمد الرسول وآله أتوجه».

مناقشة مع الفخر الرازي … ص: 75

قال الفخر الرازي في التفسير الكبير:

المسألة الثانية: لقائل أن يقول: أليس لو استغفروا اللَّه وتابوا علي

وجه صحيح لكانت توبتُهم مقبولة؟ فما الفائدة في ضم استغفار الرسول إلي استغفارهم؟

قلنا: الجواب عنه من وجوه

الأول: إن ذلك التحاكم إلي الطاغوت كان مخالفة لحكم اللَّه، وكان أيضا إساءة إلي الرسول صلي الله عليه و آله وإدخالا للغم في قلبه، ومن كان ذنبه كذلك؛ وجب عليه الاعتذار عن ذلك الذنب لغيره، فلهذا المعني وجب عليهم أن يطلبوا من الرسول أن يستغفر لهم.

الثاني: إن القوم لما لم يرضوا بحكم الرسول ظهر منهم ذلك التمرد، فإذا تابوا وجب عليهم أن يفعلوا ما يزيل عنهم ذلك التمرد، وما ذاك إلا بأن يذهبوا إلي الرسول صلي الله عليه و آله ويطلبوا منه الاستغفار.

الثالث: لعلهم إذا تابوا بالتوبة أتوا بها علي وجه الخلل، فإذا انضم إليها استغفار الرسول صارت مستحقة للقبول واللَّه أعلم «1». انتهي

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 76

أقول: وكل ما ذكره من الوجوه فيه نظر

أما الأول: وفيه مع عدم خصوصية المورد؛ لأن المورد لا يخصص الوارد بل يفسره، إن تفسيره لشرطية استغفار الرسول صلي الله عليه و آله لا ينطبق علي تجاوزهم لحق الرسول؛ لأن اللازم أن يكون التعبير حينئذ «وغفر لهم الرسول»، بخلاف التعبير الذي هو من باب الاستفعال؛ فإنه وساطة وتشفع عند اللَّه، والاستغفار هو طلب الرسول صلي الله عليه و آله من اللَّه أن يغفر لهم اللَّه عن حق له تعالي.

وأما الثاني: وفيه أن رجوعهم عن غير تمرد، إنما يكون بالطاعة والانقياد علي حسب زعمه، بينما مفاد الآية العام شرطية استغفار الرسول لهم، لا مجرد طلبهم من الرسول صلي الله عليه و آله أن يستغفر لهم، مع أن استغفار الرسول متعلق بما هو حق اللَّه، بينما تمردهم علي طاعة الرسول هو بالخضوع له لا الحصر بطلب

أن يستغفر لهم.

وأما الثالث: وفيه أن هذا اعتراف بأن توبتهم من دون شفاعة النبي صلي الله عليه و آله مخدوشة وناقصة ومختلة، وهذا هو كر علي ما فر منه وتنكر له، مما يبين صراحة الآية في الشرطية العامة للتوبة من عموم الذنوب، ولو كان الخلل في توبتهم من جهة فعل هم يقومون به، فكيف يقوم فعل من غيرهم مقام فعلهم؟ مع أن ظاهر الآية تمامية الاستغفار كفعل لهم، وإنما التأكيد علي ضرورة ضميمة شفاعة النبي صلي الله عليه و آله لذلك وضميمة الالتجاء والاستشفاع بالنبي صلي الله عليه و آله، ويقرر عموم مفاد الآية «1».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 77

القاعدة الثانية: شرطا الإيمان والعبادة … ص: 77
اشارة

قد مر في الوجه الثاني أن نبهنا أن آية سورة الأعراف الآتية وغيرها من الآيات التي مرت في الوجوه السابقة دالة علي أن التوسل أو التوجه أو التشفع بهم عليهم السلام شرط في حتمية الإيمان باللَّه ورسوله وبإمامتهم، فلا يكفي الإيمان بولاية اللَّه ورسوله وأولي الأمر من أهل بيته عليهم السلام من دون اللجوء إليهم.

فالمصلي في الصلاة إلي اللَّه يتوجه بالنبي صلي الله عليه و آله، ولا يقتصر علي الإيمان بالنبي

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 78

وأهل بيته عليهم السلام، فما بحثه فقهاء وعلماء الإمامية من أن ولاية أهل البيت عليهم السلام شرط في صحة العبادات، أو شرط في قبولها لا يفي بتمام البحث، إذ كما تلاحظ أن الآية الكريمة تضيف شرطا آخر في صحة العبادة أو قبولها وهو التوجه بهم والتوسل بهم كعمل قلبي قصدي، وهذا الشرط قد دل عليه أيضا قوله تعالي: «انَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّي يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ» «1».

حيث

لم تكتف الآية بمانعية التكذيب في صعود الأعمال والدعاء والعبادة والعقيدة، بل جعلت المانع أيضا الاستكبار علي الآيات في مقابل الالتجاء إليها والتوجه بها، نظير التعبير الذي ورد في قوله تعالي: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ» «2».

فالاستكبار علي الآيات في مقابل الالتجاء والتوجه بها.

وقد استعمل هذا التعبير أيضا في استكبار إبليس عن التوجه بآدم والتوسل به للوصول إلي اللَّه تعالي.

فجملة هذه الآيات وغيرها تشترط هذا الشرط زيادة علي أصل الإيمان والتصديق بآيات اللَّه وحججه وهم النبي وأهل بيته عليهم السلام.

ومن ثم جاء التعبير فيها كشرط أول «جاؤوك» «3»

، ولم يجعل الشرط الأول الندامة أو الاستغفار أو البكاء، كما لم يجعل الشرط مجرد الإيمان بالنبي وبولاية

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 79

أهل بيته عليهم السلام، بل جعلت أول شيٍ يفعله المذنبون هو الالتجاء العملي للحضرة النبوية.

وهذا التعبير بالمجي في الاستعمال العرفي يعني الأمر بالاستجارة بالنبي صلي الله عليه و آله والاستنجاد بحضرته وحماه الذي هو حمي رحمة اللَّه تعالي، فيفر مذنبو الأمة من غضب اللَّه إلي رحمة اللَّه تعالي، فالأمر بالمجي إليه صلي الله عليه و آله نص بحسب الاستعمال العرفي كناية عن الاستجارة، وهي نمط من الاستغاثة نظير ما في قوله تعالي: «وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ» «1».

فتشترط الآية قبل استغفارهم وندامتهم أي قبل الإتيان بالعبادة- لا خصوص التوبة- أن يلتجئوا إلي النبي وأهل بيته عليهم السلام بالترامي في حضرتهم وتعاليمهم ووصاياهم.

ولا بد أن نتعرف في زمننا هذا من هو الذي يجسد امتداد النبي صلي الله عليه و آله؟ ومن هو الذي بالالتجاء إليه يتحقق الالتجاء بالنبي صلي الله عليه و آله؟ ومن الذي يحل محله في

هذا الركن؟ وهو بقية اللَّه في الأرضيين الإمام المهدي (عج).

الانتماء الصادق لأهل البيت عليهم السلام … ص: 80

ثم إنه لا يظن إن المجي إلي الحضرة النبوية وأهل بيته عليهم السلام وللمهدي بقية اللَّه في الأرضيين هو المجي الفيزيائي بالبدن، كما ليس المراد من التوسل بهم هو التوسل بمجرد لفظ دعاء التوسل.

بل المراد من المجي إليهم هو الترامي في مسار أهل البيت عليهم السلام بكله، والانتماء إليهم مقدما علي أي انتماء سواء انتماء المواطنة، فإن المواطنة الأولي هي لأهل

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 80

البيت عليهم السلام، أو الانتماء الوظيفي فإن الانتماء الوظيفي الأول هو لهم، أو الانتماء الأسري أو العشائري، فكل ذلك لهم أيضا، أو الحزبي والتنظيمي، فإن الانتماء الأول إلي نظام طائفة أتباعهم، فلا بد من تشديد الانتماء لهم ولمناهجهم والتشبع بهديهم وتعاليمهم، وأن يكون هوانا وعوننا ونصرنا لهم، والذوبان فيهم بفكرنا وعملنا وتخطيطنا وممارساتنا، ولابد من الهجرة لهم في فكرنا، والهجرة لهم في سلوكنا، وفي منهاجنا وفي ولائنا السياسي والاجتماعي والتشريعي القانوني، ولا يكفي أن نؤمن بهم ونحن لا نلتجئ ولا نتوجه إليهم، ونحن جافون قاطعون مبتعدون عنهم، جاعلون ولاءنا ومودتنا في من يباينهم، فهم كهف يؤوي إليه في كل شي ء، وباب الرحمة، وموضع العبادة والتقرب.

وقد جُعل هذا التوجه والالتجاء إلي الحضرة النبوية ملجأ يحتمي به من الغضب الإلهي، وعن النقمة الإلهية، وعاصم يعصم من السخط الإلهي.

فالكينونة في تلك الحضرة والروضة بأبعادها المختلفة أمان عاصم وشفيع مشفع، وإلا فالندامة وحدها والاستغفار وإرادة التوجه المباشر للحضرة الإلهية لا يعصم من سطوته تعالي وعقابه بنص الآية.

فالمجي إلي النبي صلي الله عليه و آله التجاء واستعاذة ولواذ به، كما أشار اللَّه تعالي في قوله:

«وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وأنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ»

«1».

فمن عجيب الأمر أن يأمر اللَّه تعالي بذلك، بالتمسك بسيد الأنبياء وباللواذ بحضرته صلي الله عليه و آله بينما تلك الجماعة تحادد اللَّه جهارا، وتنهي عن اللواذ بنبيه وأهل بيته عليهم السلام، وتنهي عن الاستغاثة به.

فينهون عن قول «يا محمد يا علي» ويسمون هذا التوحيد الجلي في الآية

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 81

الكريمة بالشرك، فهم يحكمون بالشرك بذلك علي الملائكة بسجودهم لآدم، ويحكمون بالتوحيد علي إبليس، ويجعلون منه الرائد القدوة الذي يتبع في خطواته.

ثم إن الآية تشترط علاوة علي ذلك تشفع النبي صلي الله عليه و آله، وتدلل بذلك علي مقام عظيم لسيد الأنبياء من أن جميع عبادة العباد لا تقبل في الحضرة الإلهية إلا بتشفع النبي صلي الله عليه و آله لقبولها من قبل اللَّه تعالي.

فجميع أعمال العباد- عباداتهم وقصدهم وقرباتهم وتوجههم إلي الحضرة الإلهية- لابد لها من وساطة النبي صلي الله عليه و آله لقبولها في الحضرة الإلهية.

فلو أهلك عابد نفسه، وعمر ما عمر نوح في قومه صائما نهاره قائما ليله وصلي بين الركن والمقام لما قبلت عباداته من دون شفاعة سيد الأنبياء صلي الله عليه و آله «1».

هذا بعد توفر عبادته علي الشرط الأول وهو التوجه بالنبي وأهل بيته عليهم السلام.

ولا يخفي الصلة الوثيقة بين هذا المقام وبين ما أثبتته جملة من الآيات في النبي وأهل بيته عليهم السلام من الشهادة علي الأعمال كما في قوله تعالي: «وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَي اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» «2».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 82

وقوله تعالي مخاطباً أهل البيت عليهم السلام: «هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَي النَّاسِ» «1»

،

وغيرها من الآيات.

فإن مقام شهادتهم لأعمال العباد هو لرعايتهم لتلك الأعمال حتي يتشفعوا لقبولها في الحضرة الإلهية، فهي لا تأخذ طريق الكمال والبقاء الأبدي من الفيض الإلهي إلا بواسطة النبي وأهل بيته عليهم السلام لمجري هذا الفيض.

كيف لا والنبي وأهل بيته عليهم السلام يتشفعون للأنبياء في حصولهم علي النبوة والكتاب والحكمة وسائر المقامات الغيبية، كما يأتي في قوله تعالي: «وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَي ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وأَناْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ» «2».

نزول الفيض الإلهي متوقف علي شروط ثلاثة … ص: 82

إن الشرائط المزبورة في الآية ليست شرائط في خصوص التوبة، بل هي شرائط في عموم العبادة الإلهية بما يشمل العبادة العلمية وهي المعرفة العقلية والقلبية، فحصول الإجابة والفيض الإلهي المعرفي والكمالي مشترطة بالشروط الثلاثة المتقدمة.

وهذه الآية تبين سنة قرآنية عظيمة وشرعية في كيفية ناموس الدعاء والطلب من الحضرة الإلهية، وهي أنه ينبغي تقديم التوجه إلي الحضرة النبوية علي الدعاء

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 83

والطلب، أو قل يلزم في ماهية الدعاء تقديم التوجه إلي الحضرة النبوية عليه.

ثم لابد أن يضاف إلي الدعاء مطالبة النبي صلي الله عليه و آله وحمله لذلك الطلب والذهاب به إلي الحضرة الإلهية.

فالآية بيان واضح لسنة إلهية دائمة هي لزوم تشفع النبي صلي الله عليه و آله إلي الرب في قضاء جميع حوائج الخلق، فالتوسل به صلي الله عليه و آله مقدم علي الدعاء من الحضرة الإلهية، ثم يتعقبه الدعاء من الحضرة الإلهية، ثم ذلك يهيئ الأرضية إلي شفاعة النبي صلي الله عليه و آله وتشفعه.

فتبين من ذلك أن الشفاعة ملزومة للتوسل، وأن ما دل علي ضرورة الشفاعة دال علي

ضرورة التوسل، وضرورة اقترانهما بدءاً وختماً للدعاء من الحضرة الإلهية.

ويعاضد الآية السابقة في نفس المفاد قوله تعالي: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ» «1».

فهذه الآية متطابقة مع مفاد الآية السابقة في أطراف مفادها وعناصر مكوناته والخصائص المشار إليها، فها هي تبين أن الخطوة الأولي للمذنبين ولصراط الأوابين إليه تعالي هي أن يتوجهوا إلي الحضرة النبوية، وهذا يتطابق مع الشرط الأول في الآية السابقة مفادًا ورتبة، وهذا الشرط مفادا وتقدما لا يختص بالتوبة من الذنوب، بل هو قوام ودعامة أساسية في كل أوبة ورجوع وتوجه إلي الحضرة الإلهية، وأن طريق السلوك إليها هو بالتوجه إلي بابها وهي الحضرة النبوية.

كما أن الآية تدل علي أن شرط حصول التوبة والأوبة إلي اللَّه تعالي هو باستغفار الرسول صلي الله عليه و آله وتشفعه في ذلك، وأما استغفار المذنبين فكأنه شرط مطوي

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 84

مدلول عليه بإرادة المذنبين للأوبة إلي الحضرة الإلهية.

مضافًا إلي أن الآية تتعرض إلي بيان حقيقة وحكم المنكرين للتوسل بالنبي صلي الله عليه و آله والتوجه به إلي اللَّه تعالي والاستشفاع به، وهي أنهم مستكبرون- كحكم إبليس عندما أعرض وأبي عن التوجه بآدم عليه السلام في عبادته إلي اللَّه أنه استكبر وكان من الكافرين- وأن هؤلاء صادون عن سبيل اللَّه تعالي، وينطبق عليهم قوله تعالي:

«وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ» «1».

لأنهم أعرضوا عن باب اللَّه الأعظم، وآيته الكبري، واسمه العظيم الدال علي عظمة الذات الإلهية.

فالصادون عن حجج اللَّه تعالي المصطفين مكذبون بهذه الآيات الكبري، ومستكبرون عليها، وملحدون عنها إلي صراط الغوي.

وبالتالي فالآية الكريمة تشير إلي انحصار الطريق إليه تعالي بالتوسل بالنبي صلي الله عليه و

آله والتوجه به إلي اللَّه؛ وذلك لأنها كما تشترط طريق الأوبة والرجوع إلي اللَّه بالتوسل والتوجه بالنبي صلي الله عليه و آله وقيامه بدور الشفاعة، كذلك تبين حكم الطرف المقابل والحالة المقابلة، بأنه طريق غواية وصد عن سبيل اللَّه واستكبار علي آياته.

التوجه بهم ناموس وسنّة إلهية … ص: 84

فتأكد بذلك دلالة الحصر عن طريق التقسيم القاطع للشركة، وبيان المنطوق مع التصريح بالمفهوم، فتشير بذلك إلي مفاد الدليل العقلي السابق الدال علي حصر الطريق إلي اللَّه بآياته تعالي.

وقد ورد في الأحاديث الصحاح عن أهل البيت عليهم السلام ما يدل علي هذا الناموس

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 85

في السنن الإلهية في الدعاء ومنها:

صحيح صفوان الجمال عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «كل دعاء يدعي اللَّه عز وجل به محجوب عن السماء حتي يصلي علي محمد وآل محمد» «1».

صحيح هشام بن سالم عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «لا يزال الدعاء محجوبا حتي يصلي علي محمد وآل محمد» «2».

معتبرة السكوني عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «من دعا ولم يذكر النبي صلي الله عليه و آله رفرف الدعاء علي رأسه، فإذا ذكر النبي صلي الله عليه و آله رفع الدعاء» «3».

وغيرها من الروايات في نفس الباب.

ومضامين هذه الروايات متطابق مع الآية الكريمة في لزوم التوسل بالنبي وآله صلي الله عليه و آله لأجل حصول النيل الإلهي، وأن التوسل بهم مفتاح لأبواب السماء وتصاعد الدعاء، وأن بدونه لا تفتح أبواب السماء لا للدعاء ولا لغيره، حيث إن في الصلاة علي النبي وآله صلي الله عليه و آله ذكر له ولهم وتشفع بهم وتوجه بهم إلي اللَّه تعالي.

وإليك طائفة أخري من الروايات ذكرها صاحب الوسائل في الباب السابع والثلاثين من أبواب الدعاء وهي تؤكد

دور التوسل في الدعاء:

عن داود الرقي قال: «إني كنت أسمع أبا عبد اللَّه عليه السلام أكثر ما يلح في الدعاء علي اللَّه بحق الخمسة، يعني رسول اللَّه، وأمير المؤمنين، وفاطمة، والحسن والحسين عليهم السلام» «4».

عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: سألت النبي صلي الله عليه و آله عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه؟ قال صلي الله عليه و آله: «سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 86

والحسين إلا تبت علي، فتاب عليه» «1».

عن معمر بن راشد، عن الصادق عليه السلام- في حديث- قال، قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله:

«إنه يكره للعبد أن يزكي نفسه، ولكني أقول: إن آدم لما أصاب الخطيئة كانت توبته أن قال: اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما غفرت لي، فغفرها له، وأن نوحا لما ركب السفينة وخاف الغرق قال: اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما أنجيتني من الغرق، فأنجاه اللَّه منه، وأن إبراهيم لما ألقي في النار قال: اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما أنجيتني منها، فجعلها اللَّه عليه بردا وسلاما، وأن موسي لما ألقي عصاه وأوجس في نفسه خيفة قال: اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد لما أمنتني، فقال له اللَّه عز وجل: لا تخف، إنك أنت الأعلي» «2».

أحمد بن فهد في «عدة الداعي» عن سلمان الفارسي قال: سمعت محمداً صلي الله عليه و آله يقول: «إن اللَّه عز وجل يقول: يا عبادي، أو ليس من له إليكم حوائج كبار لا تجودون بها إلا أن يتحمل عليكم بأحب الخلق إليكم تقضونها كرامة لشفيعهم؟ ألا فاعلموا أن أكرم الخلق علي وأفضلهم لدي محمد وأخوه علي

ومن بعده الأئمة الذين هم الوسائل إلي اللَّه، فليدعني من همته حاجة يريد نفعها أو دهمته داهية يريد كشف ضرها بمحمد وآله الطيبين الطاهرين أقضها له أحسن ما يقضيها من «تستشفعون له» بأعز الخلق إليه» «3».

الحسن بن علي العسكري عليه السلام في «تفسيره» عن آبائه، عن النبي صلي الله عليه و آله قال: «إن اللَّه سبحانه يقول: عبادي، من كانت له إليكم حاجة فسألكم بمن تحبون أجبتم دعاءه، ألا فاعلموا أن أحب عبادي إلي وأكرمهم لدي محمد وعلي حبيبي ووليي، فمن كانت له حاجة إلي فليتوسل إليّ بهما، فإني لا أرد سؤال سائل يسألني بهما وبالطيبين من عترتهما، فمن

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 87

سألني بهم فإني لا أرد دعاءه، وكيف أرد دعاء من سألني بحبيبي وصفوتي ووليي وحجتي وروحي ونوري وآيتي وبابي ورحمتي ووجهي ونعمتي؟ ألا وإني خلقتهم من نور عظمتي، وجعلتهم أهل كرامتي وولايتي، فمن سألني بهم عارفا بحقهم ومقامهم أوجبت له مني الإجابة، وكان ذلك حقا علي» «1».

وفي الرواية بيان للتلازم بين قرب المحبوب ودوره في الشفاعة، وبالتالي دوره في صيرورته وسيلة وبابا ووجها إليه تعالي، وأن ما يمارس عند البشر من التوسيط للوسائط كوسائل عند من يقصد طلب الحاجة منه وأن المحبوب باب ووجه يتوجه به، أمر فطري حكيم يمارسه الناس بقضاء فطرتهم.

عن علي بن الحسن بن فضال، عن أبيه، عن الرضا عليه السلام قال: «لما أشرف نوح علي الغرق دعا اللَّه بحقنا فدفع اللَّه عنه الغرق، ولما رمي إبراهيم في النار دعا اللَّه بحقنا فجعل اللَّه عليه النار بردا وسلاما، وأن موسي لما ضرب طريقا في البحر دعا اللَّه بحقنا فجعل يبسا، وأن عيسي لما أراد اليهود قتله دعا اللَّه بحقنا فنجي

من القتل فرفعه إليه» «2».

قال الحر العاملي: أقول والأحاديث في ذلك كثيرة جدا من طريق العامة والخاصة، أو في الأدعية المأثورة دلالة علي ذلك لأنها مشحونة بالتوسل بهم عليهم السلام «3».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 88

بحوث الآية الثانية … ص: 88
اشارة

قال اللَّه تعالي: «وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَي ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ» «1».

القاعدة الثالثة: نيل كل كمال بالاستشفاع وشفاعة النبي وأهله عليهم السلام … ص: 88
اشارة

ومقتضي مفاد الآية أن آدم ونوح وإبراهيم وموسي وعيسي عليهم السلام كانوا علي دين محمد صلي الله عليه و آله قبل أن يبعث، إذ قد أخذ اللَّه عليهم بعد التوحيد الإقرار بنبوة سيد الأنبياء صلي الله عليه و آله، كما هو نص الآية الشريفة، لا كما يثيره جملة من الباحثين في علم الكلام والتأريخ والسيرة من أن الرسول صلي الله عليه و آله قبل بعثته كان رسولا علي دين إبراهيم أو علي دين غيره من الأنبياء!!

إذ مقتضي الآية في سورة الأعراف أن إبراهيم كان علي دين محمد، وكذا عيسي وموسي وآدم لا العكس.

فإذا كان جميع الأنبياء من قبل علي دين النبي محمد صلي الله عليه و آله وإن كانوا علي شرائع مختلفة إلا أن دينهم دين واحد وهو دين خاتم الأنبياء، كما هو مفاد العديد من الآيات الآتية:

قوله تعالي: «انَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلَامُ» «2».

ف وقوله تعالي: «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا» «3».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 89

وقوله تعالي: «مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» «1».

والدين عبارة عن مجموع الأصول الاعتقادية وأركان الفروع، بخلاف الشريعة التي هي عبارة عن تفاصيل الفروع.

وأما أصول المحرمات والواجبات فإنها داخلة في الدين كذلك دون الشريعة، والمقصود من أصول المحرمات والواجبات هي أسس التحريم وأسس الواجبات، مثل تحريم الفواحش والربا، والظلم والعدوان ومثل صلة الرحم، وأداء الأمانة والوفاء بالعهد.

والمقصود بأركان الفروع هي العشرة التي منها الصلاة والزكاة

والحج والصوم.

وحيث إن ولاية علي وأهل بيته عليهم السلام هي من نظام الدين لا الشريعة بنص قوله تعالي: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا» «2».

حيث جعل تبليغه صلي الله عليه و آله لولاية علي عليه السلام إكمالا للدين، لا حكما فرعيا في تفاصيل الشريعة كما هو مفاد قوله تعالي أيضا: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وأن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ»»

.فجعلت الرسالة برمتها مرهونة بإبلاغ ولاية علي عليه السلام، أي أن ولاية علي عليه السلام امتداد للتوحيد والنبوة، وهي ولاية اللَّه وولاية الرسول صلي الله عليه و آله، وكذلك مفاد قوله

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 90

تعالي: «قُل لَّاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي» «1».

حيث جعلت المودة عدلا للكون علي جملة الرسالة بما فيها من أصول الدين، مما ينبه علي كون مودة القربي وولاية أهل البيت عليهم السلام هي من الأصول الاعتقادية.

وغيرها من الآيات الواردة في أهل البيت عليهم السلام الدالة علي أن ولايتهم عليهم السلام من أصول الدين والديانة، فإذا كان جميع الأنبياء علي دين واحد وديانة واحدة وهو دين سيد الأنبياء صلي الله عليه و آله الذي تضمن ولاية علي وأهل بيته عليهم السلام كأصل من أصوله، فلا محالة فإن جميع الأنبياء قد أخذ عليهم الإقرار بولاية أهل البيت عليهم السلام أيضا، لاسيما بعد الالتفات إلي أن ولاية أهل البيت وإمامتهم عليهم السلام تأتي في ترتيب أصول الديانة بعد ولاية الرسول صلي الله عليه و آله، كما هو مقتضي جملة من الآيات كقوله تعالي: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ

وَهُمْ رَاكِعُونَ» «2»

التي نزلت في علي عليه السلام حينما تصدق بالخاتم، وقد أورد ذلك في كتب عديدة ومن الفريقين «3».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 92

وقوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ» «1».

وقوله تعالي: «مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَي رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَي فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَي وَالْيَتَامَي وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَايَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» «2».

وقوله تعالي: «هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَي النَّاسِ» «3»

وغيرها من الآيات.

وقد قرن أهل البيت عليهم السلام مع سيدهم سيد الأنبياء صلي الله عليه و آله في آية التطهير ولم يشرك معه غيرهم، كما قرنوا تابعين معه في آية المباهلة.

وعلي ضوء ذلك:

فإذا كان جميع الأنبياء إنما قد حصلوا علي مقام النبوة وتأهلوا لذلك بالإقرار بدين خاتم الأنبياء صلي الله عليه و آله المتضمن لولاية أهل بيته تلو ولاية الرسول صلي الله عليه و آله، فذلك دال

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 93

علي أنهم لم يحصلوا علي تلك المقامات إلا بالإقرار بولاية الرسول وولاية أهل بيته عليهم السلام.

وهذا مما يقضي أن جميع الأنبياء والمرسلين توسلوا وتشفعوا بالنبي وأهل بيته عليهم السلام ليحصلوا علي مقام النبوة والحكمة والكتاب، ومما يدعم ذلك قوله تعالي:

«فَتَلَقَّي آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» «1».

وسوف تأتي الرواية التي رواها الحاكم النيسابوري في تفسير الآية «2».

وقد أطلق القرآن الكريم الكلمة علي عيسي كما مر، والتعبير في الآية بالكلمات لا الكلمة، ولا ريب أن الكلمة الإلهية أصدق علي

سيد الأنبياء من عيسي عليه السلام، وقد مر اقتران أهل البيت عليهم السلام بسيد الأنبياء في مقام التطهير في سورة الأحزاب «3»، وفي مقام الحجية في سورة آل عمران في آية المباهلة «4»، وفي مقام الطاعة في سورة النساء «5»، وغير ذلك من المقامات في السور القرآنية.

فتبين من ذلك أن الكلمات التي تاب اللَّه بها علي آدم بعد توسله وتشفعه هي النبي صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام.

وكذلك في قوله تعالي: «وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 94

جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» «1».

إذ الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم عليه السلام وامتحن لنيل مقام الإمامة لا ريب أن أحدها هو ولاية سيد الأنبياء صلي الله عليه و آله، كما نصت علي ذلك آية أخذ الميثاق التي نحن بصدد الحديث عنها.

وقد مر أن مفاد الآية أخذ الإقرار بولاية أهل البيت عليهم السلام أيضا عليهم في الميثاق؛ لأنه قد أخذ عليهم الإقرار بدين خاتم الأنبياء المتضمن لكل من ولاية اللَّه ورسوله وأهل بيته عليهم السلام، ومن ثم بين القرآن الكريم تفوق علم أهل البيت عليهم السلام- بعلم الكتاب كله- علي علم جميع الأنبياء السابقين، حيث أثبتت لهم علم بعض الكتاب، فورد في شأن أهل البيت عليهم السلام في سورة الرعد قوله تعالي: «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَي بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ» «2».

والآية مكية النزول، حيث نزلت في مكة المكرمة في بدايات البعثة ناعتة لعلي بن أبي طالب عليه السلام بمن عنده علم الكتاب، والإضافة تقضي الاستغراق مع «أل» العهدية، وكذلك ورد في شأنهم قوله تعالي: «انَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيم*

فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ* لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ» «3».

فأثبتت الآية الكريمة أن المطهرين من هذه الأمة- الذين شهد لهم القرآن بالطهارة- ينالون ويحيطون بالقرآن كله، في مقام الكتاب المكنون، إذ قد أسند المس للكتاب كله.

وغيرها من الآيات الدالة علي علمه عليه السلام، بينما نعت القرآن الكريم العلم الذي

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 95

أوتيه النبي عيسي بقوله تعالي: «وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» «1».

وقال تعالي في شأن موسي عليه السلام في التوراة التي أنزلت عليه: «وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيٍ» «2».

فوصف العلم في التوراة بالتبعيض، بينما نعت القرآن الكريم بأنه: «وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» «3».

وأنه: «تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً وَبُشْرَي لِلْمُسْلِمِينَ» «4».

ثم إن قضاء الضرورة الدينية بمقام الشفاعة بالنبي وأهل بيته عليهم السلام يقضي بأن يكون الطلب مباشرة من اللَّه هو من قبل الشفيع لا المشفوع له، وأن الاستغاثة بالشفيع ترجع في حقيقتها إلي طلب الشفاعة من الشفيع، بأن يشفع ويكون الطلب منه مباشرة.

وهذا المفاد ذاتي في مكونات الشفاعة، فالتوجه بالطلب والاستغاثة بالشفيع من المقتضيات الذاتية للشفاعة التي هي سنة إلهية وقرآنية.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 96

سؤال حول قرب اللَّه وضرورة الواسطة إليه … ص: 96

وقد يعترض قائل بأنه كيف يدعي لزوم الحاجة إلي التوسل والتوجه بالنبي وأهل بيته عليهم السلام في العبادة للَّه ودعائه، مع أنه تعالي قد قال: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فإني قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» «1».

فإذا كان الباري تعالي قريب، فأي حجاب وحاجب بينه وبين خلقه؟ فهو لا يحتجب عن خلقه، وقد قال تعالي: «وَنَحْنُ أقرب الَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» «2».

الجواب:

إن هذا القائل تخيل أن قرب اللَّه تعالي

من خلقه ملازم لقرب الخلق منه تعالي، وظن أن قرب أحد الطرفين وهو اللَّه من الآخر وهو الخلق يلازم قرب الخلق منه تعالي، وهذا التوهم مبني علي حساب أن هذا القرب قرب مكاني كقرب جسم من جسم، وتشبيه بالمواد الفيزيائية، فإن في القرب الجسماني افتراض قرب أحد الطرفين يلازم قرب الطرف الآخر، ويمتنع افتراض قرب أحدهما من الآخر وافتراض بعد الآخر من الأول.

وهذا بخلاف القرب والبعد المعنوي، فإن قرب اللَّه تعالي من خلقه بمعني نفوذ قدرته فيهم وسيطرته عليهم وقيامهم بحوله وقوته، واستعلائه علي فعله وهيمنته علي مخلوقاته.

فقربه تعالي قرب قدرة واقتدار وسيطرة واستعلاء وهيمنة وقيومية ونفوذ علم، فالخلق قائم به تعالي بحوله وقوته، وبفيض مدده يكون كل كائن، فأني للمخلوق أن

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 97

يبتعد قيد شعرة عن قبضته؟! كيف وحاق كينونة ذات المخلوق بيده تعالي.

وقربه تعالي قرب القادر من العاجز، وقرب المحيط من المحاط به، وقرب الغني من الفقير، وقرب المدد من المستمد، وقرب القوي من الضعيف، وقرب القاهر من المقهور، وقرب ذي البطش النافذ من المنفوذ فيه.

فقدرته تعالي داخلة في الأشياء لا بالممازجة، وخارجة عنها لا بالمزايلة، فمن ذا يقرب من اللَّه كقربه تعالي من الأشياء، وأني للأشياء أن تقترب إليه كقربه هو منها.

بل هذا القرب منه تعالي يتلازم مع بعد الأشياء من أن تصل إلي مقامه وعلو شأنه، ومن ثم كان تعالي بعيدا في قربه وقريبا في بعده، أي أنه تعالي بعيد عن أن يضاهيه شي ء غيره، في حين أنه قريب القدرة والتصرف والنفوذ في الأشياء.

ومن ثم عمل العاملون، وعبد العابدون، وأطاع المطيعون، وتسابق المتسابقون، وتنافس المتنافسون في الاقتراب منه، كما جعلت نية الأعمال والعبادات لأجل الزلفي والقربي منه تعالي، وعلي

ضوء ذلك اختلفت درجات قرب العباد وبعدهم منه تعالي.

فهناك المقربون والسابقون الأولون وأصحاب اليمين والأبرار وأصحاب الشمال، وهناك المذحور المطرود المرجوم كإبليس الغوي الرجيم، فليس زلفي العباد علي درجة واحدة، ولأجل ذلك اختلف العطاء الإلهي والهبات منه بحسب مقامات القرب والبعد.

واختلاف المخلوقات في القرب منه تعالي والبعد لا يعني اختلاف قرب الباري منهم جميعا، بل الباري تعالي قربه من الأشياء كلها علي استواء واحد، فإن قدرته تعالي علي جميع مخلوقاته سواء العظيم منها والحقير.

فإذا تبين ذلك اتضح أن قرب الباري تعالي من العباد لا يعني استواء قربهم هم

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 98

منه تعالي، وعدم وجود الحجاب بالنسبة إليه تعالي اتجاه الخلق والمخلوقات لا يعني عدم وجود الحجاب والحاجب بالنسبة إلي المخلوقات اتجاه الباري تعالي، إذ هذا هو حال المحيط والمحاط به، فإن المحيط لا يحجبه حاجب عن إدراك المحيط به والاقتدار عليه والعلم بشؤونه، لكن ضعف المحاط به أكبر حاجب عن أن يدرك ويحيط بمن هو محيط.

وبعبارة أخري: هذا هو حال القرب والبعد الناشئ من الكمال والنقص، وهذا هو معني استواء الرب تعالي علي العرش، أي عرش القدرة والعلم. واستواؤه أي سيطرته وهيمنته ونفوذ علمه وقدرته في الأشياء علي استواء وسواسية.

فإذا كانت العلاقة من طرف الخالق إلي المخلوق تختلف عن العلاقة من طرف المخلوق اتجاه الخالق، وأن المخلوقات علي اختلاف فيما بين بعضها البعض قربا وبعدا من الباري تعالي، فلا محالة كان بعضها وسيلة للبعض الآخر؛ لأن المخلوق البعيد الضعيف ليس في قابليته أن يدرك من باريه إلا فعله وهو المخلوقات العظيمة الشأن قربا، والتي تمثل آية للصفات الربانية وعلامة ودلالة للتعرف علي شأن الذات الإلهية.

فسبيل معرفة الذات الإلهية ممتنع علي المخلوقات الضعيفة لامتناع أن

تحيط بذات الباري، بل لا يمكنها إلا نيل شعاع فعل اللَّه، وهي آياته من مخلوقاته الكريمة المقربة عنده في الفيض والعطاء والهبات الإلهية.

ومن كل ذلك يتبين الضرورة العقلية للتوسل بالنبي وأهل بيته عليهم السلام والاضطرار إلي التوجه بهم في مقام المعرفة بالذات الإلهية والإيمان بها ومقام القصد في العبادة وكل أوبة إليه تعالي، ولنيل كل فيض وعطية ومقام إلهي.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 99

الصفات الإلهية العظمي والحاجة إلي وساطة كلماته تعالي … ص: 99

إن هذا الشأن- ضرورة التوسل بالموجود المقدس للوصول إلي اللَّه تعالي- جار في سائر الصفات الإلهية لعدم تناهيها فضلا عن الذات الإلهية، فإن تعاظم تلك الصفات وعدم انتهائها إلي حد محدود يوجب امتناع استغراق الفكر فيها، ويحول دون استقصاء القلب لمعرفة كنهها، وبالتالي يستحيل إدراكها من المخلوقات إلا بتوسط علامات ودلائل في أفعاله تعالي، وهي مخلوقاته العظيمة، فتكون بمثابة العلامات والآيات والدلائل علي تلك الصفات، فتلك المخلوقات أسماؤه الحسني؛ لأنها سمات وعلامات ودلائل علي شموخ صفاته وتعاظمها.

بل إن هذا الشأن مقرر في أفعال اللَّه وفيضه العميم الدائم الذي لا يبيد كما تشير إلي ذلك عديد من الآيات:

قوله تعالي: «قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا» «1».

وقوله تعالي: «وَلَوْ إنما فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» «2».

وكذا قوله تعالي: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيٍ» «3».

فإن لفظة «شي ء» مبهمة فضلا عن إضافة لفظة «كل» التي هي من أدل ألفاظ العموم إليها.

وكذا قوله تعالي: «لَايَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 100

أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أكبر الَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ» «1».

وقوله تعالي: «وَمَا مِنْ

غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ» «2».

وغيرها من الآيات التي تصف الكتاب المبين بالإحاطة بغيب المقدرات الماضية والكائنة في المستقبل والحاصل في الحال في جميع طبقات السماء والأرض.

وكقوله تعالي في وصف نعيم الجنة: «وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ» «3».

وقوله تعالي: «مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَي الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَي الْكَافِرِينَ النَّارُ» «4».

وقوله تعالي في وصف فاكهة الجنة: «وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ* لَّامَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ» «5»

. وغيرها من الآيات الواصفة لعظمة أفعاله تعالي وأن فيضه عميم دائم لا يبيد ولا ينقطع، فهو دائم الفضل، فإذا كان هذا شأن فعله سواء في جانب الهداية أو العلم أو الحكمة أو النور، فمن ذا الذي يحيط بكتاب اللَّه ليزعم ويتزعم تلك المقولة «حسبنا كتاب اللَّه» متوهما أن في قدرته وإمكانه الإحاطة بكتاب اللَّه، ومن ثم إمكان التمسك بكله وأني له ذلك!!

فهو الكتاب الذي لا تنفذ كلماته ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء ولا في

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 101

الأرض، ولا غائبة ولا كائنة إلا أحصاها.

تعليق علي مقولة الاستغراق في الرسالة دون الرسول صلي الله عليه و آله … ص: 101

ومن الذي يحيط بشريعة اللَّه ورسالته كي يزعم ويوصي بالذوبان في الرسالة والاستغراق فيها دون الاستغراق والذوبان في الرسول والأئمة من أهل البيت عليهم السلام، ظنا منه أنه يحيط بالكتاب والرسالة منفكا عن النبي والأئمة والأوصياء عليهم السلام الذين هم علي اتصال بالغيوب يسترفدون من بحور غيب اللَّه مددا متصلا.

ومن ثم ركز القرآن الكريم وأصر علي لزوم الرجوع إلي ثلة من هذه الأمة، مرتبطة بغيب مقامات القرآن الكريم، يتنزل عليها تأويل الكتاب كل عام ليلة القدر وفي كل وقت، وأشار إليهم بالخصوص وشخصهم

بالتعيين حيث قال تعالي:

«انَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ، لَّايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» «1».

فأشار إلي أن القرآن الكريم المجيد في الكتاب المكنون واللوح المحفوظ لا يمسه ولا يناله إلا المطهرون، وهم الذين شهد القرآن لهم بالتطهير في قوله تعالي:

«إنما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا» «2».

فهم أهل بيت النبي وقرابته صلي الله عليه و آله.

وقال تعالي: «هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأخر مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ الألْبَابِ» «3».

فخص علم التأويل بالراسخين في العلم.

وقال تعالي: «بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 102

إِلَّا الظَّالِمُونَ» «1».

فخص الذين أوتوا العلم بأن القرآن كله آيات بينات في صدورهم، وليس منه آيات متشابهة عندهم، بل كله آيات بينات محكمات، مما يعزز أن «الواو» في آية سورة آل عمران للعطف.

وكيف لا وقد أثبتت سورة الواقعة نيل المطهرين من أهل البيت عليهم السلام للكتاب المكنون، والمطهر غير المتطهر بالوضوء أو الغسل، كما في قوله تعالي: «انَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ» «2».

وكما شهد القرآن أيضا لهم في قوله تعالي: «قُلْ كَفَي بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ» «3».

وهي آخر آية من سورة الرعد المكية نزولا، ولم يكن قد آمن أحد من النصاري واليهود في مكة قبل الهجرة، حيث ورد أنها نزلت في علي عليه السلام، وكيف لا وهو الذي احتج اللَّه به في آية المباهلة علي النصاري واليهود إلي يوم القيامة، وجعله بمنزلة نفس النبي

صلي الله عليه و آله، وقد أمر النبي صلي الله عليه و آله ببيان الكتاب كله كما في مجموعة هذه الآيات:

قوله تعالي: «وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًي وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» «4».

وقال تعالي: «وأنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 103

يَتَفَكَّرُونَ» «1».

وقوله تعالي: «لَاتُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ» «2».

فإن بيان القرآن الكريم كله من المسؤوليات الملقاة علي النبي صلي الله عليه و آله ومن بعده علي بن أبي طالب عليه السلام الذي هو بمنزلة نفس النبي صلي الله عليه و آله بشهادة القرآن الكريم، وأنه لقب بأنه من عنده علم الكتاب، ومن بعده أهل البيت من ذريته عليهم السلام.

وكذا قوله تعالي: «وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَي هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً وَبُشْرَي لِلْمُسْلِمِينَ» «3».

فبينت الآيات الكريمة أن بيان القرآن الكريم بجميع فصول معارفه من أدناها إلي أعلاها هي من وظيفة سيد الأنبياء صلي الله عليه و آله، أي أنه الذي يحيط علما بالكتاب وبيانه، وأن تبيان القرآن يقوم به ما دام حيا، ومن بعده يقوم به أهل بيته عليهم السلام استمرارا ومواصلة لبيان القرآن الذي لا يحد ولا ينتهي، بل يتنزل تأويله في كل عام وبالتحديد في ليلة القدر، لحاجة البشر بحسب ذلك العام، ومن ثم تتنزل الملائكة والروح في ليلة القدر بتأويل الكتاب، ومن ثم ربط بين تنزل الملائكة والروح ونزول القرآن في سورة القدر «4»، وفي سورة الدخان «5».

فالقرآن والكتاب والرسالة والدين بحر لا ينزف، وغيب لا ينقطع، ولا

الامامة

الالهية(5)، ج 5، ص: 104

يستطيع العقل بكل ما فيه إلا من له موطأ قدم في علوم الغيب، ويطلع علي الغيوب باطلاع من رب العالمين.

فمن ادعي التمسك بالكتاب من دون أن يستمسك بأصحاب القرآن، ومن ادعي الاستغراق في الرسالة والدين من دون أن يستمسك بالذين يبلغون رسالات اللَّه، فقد زيف بأراجيف قد بان عوارها «1».

علي أن تلك المقولة تستلزم الإمامة النوعية إذ لا يتقيد بالأشخاص، وبالتالي قالب الإمامة نوعي غير منحصر ومختص ولا متقيد بأشخاص، وكذلك الحال في الرسالة فيؤدي إلي النبوة النوعية، بينما شدد القرآن الكريم علي ضرورة الإيمان بالشخوص والأسماء الخاصة للأنبياء، ولم يكتف بالإيمان بالنبوة العامة من دون الإيمان بالنبوات الخاصة، وكذلك الحال في الاعتقاد بإمامة شخوص قربي

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 105

النبي صلي الله عليه و آله وعددهم وعدتهم الإثني عشر، وأنه الدين القيم.

كما أن خطورة هذه المقولة هي في هدم هذا الشرط الذي هو شرط ركني في صحة وقبول الإيمان، أي هدم التوسل والالتجاء والتوجه بهم، ومن ثم فإن هذه المقولة تتظافر مع مقولة السلفية في الصد عن النبي وأهل بيته عليهم السلام، وهذه هي غاية الجاحدين والمنكرين للشريعة ولولاية أهل البيت عليهم السلام «1».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 106

التوفيق بين قربه تعالي منا وبعدنا عنه … ص: 106

إن الباري تعالي قربه إلينا عين بعدنا عنه؛ لأنه قريب إلينا قرب قدرة واستعلاء وقاهرية، ونحن بعيدون عنه قدرة وسلطانا وقاهرية ونورا، حتي أولئك الذين يجحدون التوسل ويحاربون الواسطة بين اللَّه وخلقه، هم يقولون بالتوسل بالأعمال وسائر القربات، ومن ثم يطرح عليهم السؤال التالي:

أليس هناك مسافة من جهة العابد بينه وبين المعبود، لا من جهة المعبود للعابد؟

فمن ثم لا بد لك أن تسير علي صراط الاقتراب، بأن تهتدي إلي الصراط والطريقة والوسيلة، ومن ثم

أكدت أعظم سورة في القرآن علي لزوم الاهتداء إلي الصراط المستقيم، صراط الهداة المنعم عليهم، المعصومون من غضب اللَّه، والمعصومون من الضلال، فهم وصراطهم الوسيلة والوصلة للهداية إلي الساحة الربوبية.

فكيف يصد عنهم وقد أمر اللَّه بإتباع صراطهم والتمسك بحبلهم، فكون اللَّه قريب من جميع عباده لا يعني أن الكل مقرب، وليس الكل بدرجة إبراهيم الخليل عليه السلام، بل الأنبياء ليسوا علي درجة واحدة، إذ بعضهم أفضل من بعض، فالفاضل يتوسل بالأفضل، كما أن النبي إبراهيم يتوسل ويتبع ويستمسك بسيد الأنبياء صلي الله عليه و آله، كما مر في آية سورة آل عمران «1» من أن جميع الأنبياء والمرسلين من آدم ونوح وإبراهيم وسائر الأنبياء والمرسلين عليهم السلام نالوا وحصلوا علي النبوة بإقرارهم بولاية سيد الأنبياء وبالتوسل به صلي الله عليه و آله.

احتياج عموم الخلق لوساطة سيد الأنبياء صلي الله عليه و آله … ص: 106

ومن ثم يتساءل:

لماذا الواسطة بين اللَّه وأنبيائه فضلا عما بين اللَّه وخلقه؟ بل بين آدم ونوح

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 107

وإبراهيم وموسي وعيسي وبين اللَّه فضلا عن بقية الأنبياء عليهم السلام، مع أن اللَّه قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، فهو تعالي أقرب شي ء إلي المخلوقات، ولا تتفاوت المخلوقات إليه في قربه منها، ومع قربه تعالي لم تحتج الأنبياء عليهم السلام كأولي العزم للواسطة، والحال أنهم أنبياء اللَّه تعالي وفي أعلي مستويات المقربين، فلم يحتاجون إلي الإيمان بنبوة سيد الأنبياء صلي الله عليه و آله والتذلل له بأن يقروا علي أنفسهم أنهم تابعون ناصرون له مقرون بولايته، إذ إن الناصر تابع والمنصور متبوع، والتابع مأموم والمتبوع إمام وهو سيد الأنبياء صلي الله عليه و آله، فهو الواسطة بين اللَّه عز وجل وبين أولي العزم من أنبيائه الذين هم عظماء الأنبياء عليهم السلام؟

الجواب:

إن الحجاب بين

المخلوق والخالق من جهة المخلوق مع الخالق لا من جهة الخالق مع المخلوق لا يعني نقص قدرة وقصور في الخالق، وإنما يعني عظم الخالق وقصور المخلوق، فالحجاب والحجب الربوبية هي من جهة المخلوقين اتجاه الخالق لا من جهة الخالق اتجاه المخلوقين، ألا تري أن الرئيس والملك ذا المهابة، والسلطان ذا الحجاب والحجب، أن حاجبه هو من جهة الرعية من دون أن يكون حجابا من جهة الملك عن أن يطلع علي الرعية.

ومن ثم يقال في اللغة السيد المحجب أي المعظم، فالحجاب في الأصل هو تعظيم لصاحب الحجاب من طرف المحجوب عنه من دون أن يكون ذلك قصورا في المحجوب ونقصا، فالحجاب يحجب من طرف دون الطرف الآخر.

فكلما تكامل المخلوق كلما عرف من كمال خالقه أكثر فأكثر، فإن الكمال الذي في المخلوق هو من فعل الخالق وهو آية لصفات الخالق، وكلما نقص كمال المخلوق كلما قلت معرفته بالخالق لقلة ما يعكسه كمال ذاته من كمال الصفات الإلهية، وعلي ضوء ذلك تفاضل الأنبياء في الفضل والكمال كما قال تعالي: «تِلْكَ

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 108

الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَي بَعْضٍ» «1».

وقوله تعالي: «وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَي بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا» «2»

.فتفاوت درجاتهم وقربهم وبعدهم من اللَّه تعالي، إذ قد مر أن القرب والبعد قرب معرفة وعلم وقدرة وكمال لا قرب جغرافي وبعد جسماني، فأقربهم إلي اللَّه تعالي أكثرهم كمالا وأكثرهم معرفة، فأقرب الخلق حجاب من جهة الخلق اتجاه الرب، وهو حجاب ربوبي من جهة الخلق أيضا اتجاه الخالق.

نفي الواسطة رؤية إبليسية … ص: 108

فقرب اللَّه من خلقه قرب سيطرة وقدرة وعلو وسلطان، وكل شي ء قائم به من السماوات والأرضيين، وكل شي ء في الكون والمكان كذلك قائم باللَّه، فكيف يكون المكان محيطا باللَّه تعالي ونحن

بعيدون عن اللَّه قدرة وسلطانا وقاهرية ونورا.

فتعظيم الباري تعالي هو بأن تتوسل بواسطة قريبة، وتوسلك بتلك الواسطة إقرار علي نفسك بأنك بعيد في الصفات الحقيرة عن صفات الباري العظيمة، فالتوسل واتخاذ الواسطة والوصلة عين التعظيم لرب العزة تعالي، ورفض الواسطة كما فعل إبليس هو عين التكبر علي اللَّه تعالي، واستنقاص عظمة الباري، كقول إبليس عندما خوطب من قبل اللَّه بأن يتوجه بآدم عليه السلام في سجوده، حيث قال الباري تعالي: «قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ» «3».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 109

وقال تعالي: «قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا» «1».

فإن إبليس رأي التعاظم من ذات نفسه، ورأي أن لا حجاب بينه وبين الحضرة الربوبية، وهذه الرؤية الإبليسية في الحقيقة استنقاص لمقام الذات الإلهية؛ لأنه يري أن بكمال ذاته المحدودة يتعرف علي كل صفات الرب مع أن كمال إبليس في الخلقة ناقص ومنحدر.

فمن ثم كان التكبر من جذور الكفر، والعبودية والتواضع من جذور التوحيد، إذ في العبودية سر وهو الاعتراف بالنقص والفقر الذي هو بدوره اعتراف بتعاظم عظمة الباري.

فتبين أن التوسل من صميم جوهر التوحيد، وجحود التوسل من صميم جوهر الكفر، ومن ثم مر في آية سورة النساء «2» تقديم الباري مجي مذنبي الأمة إلي الرسول صلي الله عليه و آله علي استغفارهم وندامتهم، إذ بالمجي إلي النبي صلي الله عليه و آله إقرار منهم بالبعد من ساحة الباري، بخلاف مقولة إبليس «أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ» «3»

، بل يقرون علي أنفسهم بالنقص والاحتجاب، وهو تعظيم للباري تعالي.

النبي وأهل بيته عليهم السلام الأبواب والحجب والسدنة … ص: 109

فالإيمان بوجود الحجب الإلهية من جهة المخلوق اتجاه الخالق هو من الاعتقاد بعظمة الباري وعلوه، ألا تري إلي قوله تعالي: «انَّ

الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 110

وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّي يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ» «1».

ألا تري أن الآية تثبت بين المخلوقين من جهتهم والخالق أبوابا هي حجب مسدودة مفتاحها التصديق بحجج اللَّه المصطفين، والخضوع والتواضع لهم، لا كما فعل إبليس من التكذيب والجحود بمقام خلافة آدم عليه السلام، واستكباره عن السجود والخضوع لولاية آدم، ولا كما فعل المنافقون كما في قوله تعالي: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ» «2».

بل بالتصديق بحجج اللَّه الذين اجتباهم واصطفاهم وطهرهم، بالانقياد لولايتهم والتوجه والتوسل بهم، ليكون ذلك مفتاحا وفتحا لأبواب السماوات، فالآية لا تثبت بابا واحدا بل أبوابا، وهذه الأبواب حجب لسماوات الحضرة الإلهية؛ لأن الباب بمعني الحجاب، فإذا قصد وفتح صار وسيلة ووصلة إلي الهدف، وإذا صد واعرض عنه صار حجابا وسدا.

فوجود الأبواب بين المخلوق من جهته إلي الخالق عقيدة قرآنية أصيلة ومعتقد إسلامي أصيل، والتنكر له جحود لعقيدة ركن في نظام السنة الإلهية.

ومع الإقرار بأن لسموات الحضرة الإلهية والسدانة الربوبية أبوابا، لا بد من طلب المفتاح لتلك الأبواب، والوسيلة لفتحه والتوجه إلي تلك الأبواب، وليس لك أن تتجهم أن تواجه ربك بأن تخاطب الرب تعالي من دون أن تتوسل إليه بتلك المفاتيح.

وإذا كان عيسي بن مريم وأمه آية كما في قوله تعالي: «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 111

آيَة» «1»

.فكيف بسيد الأنبياء وأهل بيته عليهم السلام!

وقد احتج اللَّه بالنبي وأهل بيته الخمسة من أصحاب الكساء عليهم السلام حججه علي العالمين إلي قيام يوم الدين في آية المباهلة، كما اصطفاهم في آية التطهير.

وقد جعلت الآية في سورة الأعراف

المتقدمة مفتاح أبواب السموات التصديق بآيات عديدة وليست بآية واحدة، فالإيمان بحجج اللَّه والتصديق بهم والتوجه بهم إلي اللَّه مفتاح أبواب السماء، ألا تري إلي قوله تعالي في القبلة التي يتوجه إليها في الصلاة إلي اللَّه «وهي الكعبة» وقد كان المسلمون يتوجهون إلي بيت المقدس، كما في قوله تعالي: «وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَي عَقِبَيْهِ» «2».

أي ما جعلنا وفرضنا استقبال القبلة إلا لنعلم من ينقاد إلي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، فجعل القبلة غايته الانقياد إلي النبي صلي الله عليه و آله، في مقابل من ينقلب علي عقيبيه، كما في قوله تعالي: «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإن مَّاتَ أو قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَي أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَيَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ» «3».

فباب استقبال القبلة والتوجه إليها هو التوجه بالنبي صلي الله عليه و آله إلي اللَّه تعالي.

وقد كان الامتحان صعبا علي قريش إذ كانت قبلتهم التي ورثوها من ملة إبراهيم وإسماعيل هي الكعبة، فتبدلت إلي بيت المقدس في أوائل الإسلام، واختيار هذا الامتحان الصعب لقريش غايته هو معرفة انقيادهم وتبعيتهم لخاتم

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 112

الأنبياء صلي الله عليه و آله.

وقد أشار الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام في دعائه في يوم عرفة إلي ذلك حيث يقول: «ولا تردني صفرا مما ينقلب به المتعبدون لك من عبادك، وإني وإن لم أقدم ما قدموه من الصالحات فقد قدمت توحيدك، ونفي الأضداد والأنداد والأشباه عنك، وأتيتك من الأبواب التي أمرت أن تؤتي منها، وتقربت إليك بما لا يقرب به أحد منك إلا بالتقرب به، ثم اتبعت ذلك

بالإنابة إليك، والتذلل والاستكانة لك» «1».

وقد كان قد قدم في أول دعائه الحمد والثناء علي اللَّه بالتوحيد والنعت بالصفات الإلهية، ثم أردف ذلك بالإطالة في الصلاة علي النبي صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام ووصفهم بالوسيلة.

فهو يشير بذلك إتيان اللَّه من الأبواب التي أمر بها والتي لا يمكن التقرب إلا منها، كما يشير صلي الله عليه و آله أن بالتوسل والتوجه بهم تتحقق الخطوة الأولي المقدمة علي شرائط التوبة، والتي يستأهل المذنب بذلك أن يشرع في الاستغفار والندم والتوبة، وهو مطابق للآية المتقدمة وهي قوله تعالي: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا» «2».

فما في دعائه صلي الله عليه و آله يشير ويفسر الترتيب في الآية، بأن المجي إلي النبي واللواذ به والالتجاء إليه والاستعاذة به جعل بابا للوفود والأوبة إلي الحضرة الإلهية، ومن ثم بدأ به في الآية لأنه باب للاستغفار.

الشفاعة فعل تكويني … ص: 112

إن طلب الشفاعة في الحقيقة يرجع إلي نمط من الاستغاثة؛ لأن تشفع الشافع

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 113

غوث وإغاثة للمشفوع له، وهذا لا يتنافي مع كون مصدر الإنعام والفضل والشفاعة كلها بيد اللَّه تعالي، وأن كل حول وقوة منه تعالي، لكن جرت سنته تعالي علي إجراء الفضل بيد كرام خلقه عليه والمقربين لديه.

وفي الحقيقة فإن الشفاعة من الشافع إذا كانت تكوينية تكون في الحقيقة إيجاد من الشافع للشي المراد بإذن اللَّه تعالي، والشافع يكون مجري لفيض اللَّه تعالي، كما هو الحال في حقيقة المعجزة التي يجريها اللَّه علي يد صاحب المعجزة.

فكما تعددت الرؤي والنظريات في حقيقة المعجزة، هل هي مجرد سؤال من صاحب المعجزة ودعاء

منه بإنشاء الكلام؟ أم أنه مقام تمكين يوهب له من اللَّه تعالي، ويستفيض مدده من الباري تعالي؟

بل وقع هذا التحليل في تفسير مقام مستجاب الدعوة وكرامات الأولياء، هل هي بإنشاء لفظي وطلب اعتباري؟ أم أنه مقام تمكين وإقدار إلهي يوهب منه تعالي لذلك الولي؟

وهناك قول ثالث يزاوج بين القولين السابقين، فإنه يتقدم الدعاء اللفظي والتوجه القلبي إلي الحضرة الربوبية، ومن ثم يفاض منه تعالي القدرة علي نفس الولي تكوينا، فينال مقام التمكين والاقتدار علي الفعل.

بل إن تضرع الداعي والتجاءه إلي الحضرة الإلهية هو السبب في استدرار الفيض والرحمة الإلهية، أي سبب قابلي واستعدادي للجود الرباني، فإن الجود والفضل الإلهي دائم وحتميٌ إذا تمت قابلية القابل، إذ لا بخل في الحضرة الإلهية ولا عجز.

ومن ذلك يرتفع توهم أن تشفع الشافع عبارة عن مجرد مسألة وطلب لفظي منه يتوجه بها إلي الحضرة الإلهية، فإن روح وحقيقة الدعاء هو الطلب من الحضرة الإلهية وليست مجرد تمتمة لفظية، وإنما قوامه التوجه القلبي والضراعة الروحية من

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 114

الداعي حينما يولي وجه قلبه شطر وجه الرب تعالي، وهو وصول إلي حد من حدود العبودية التي تستمطر الفيض التكويني الربوبي.

فالقول الثالث قول متين يجمع ويزاوج بين خصائص القولين الأولين، فيجمع بين حال العبودية والضراعة الفطرية للمخلوق وحال الإفاضة الإقدارية الربانية، وأن حقيقة الشفاعة والمعجزة ومقام استجاب الدعوة مقامات تكوينية وهبية منه تعالي.

طلب الشفاعة تعلق بالاسم الإلهي التكويني … ص: 114

إن الشفاعة هي الوساطة وطلب الشفيع من المشفوع إليه أو المشفوع عنده لقضاء حاجة المشفوع له، فالاستشفاع هو بعينه توسل، فصاحب الشفاعة هو الوسيلة والمتوسل إليه هو الباري تعالي، وهو بعينه استغاثة إلي اللَّه تعالي بالوسيلة وبالوجيه عند اللَّه.

وقد أشار السيد العلامة الطباطبائي في الميزان إلي أن الشفاعة

ترجع حقيقتها إلي الشفع في الأسماء، أي الاقتران، وبالتالي يكون الأثر لمجموع الاسمين، أي أن الذي يتوجه بالشفيع إلي اللَّه يتوجه باسم إلهي ليقترن مع اسم آخر ليكون نجحا لحاجته بالأسماء الإلهية إلي اللَّه، أي توجه إلي اللَّه بأسمائه الحسني «1».

وقد مر أن المخلوقات العظيمة التي لها القربي والزلفي والوجاهة عند اللَّه هي الأسماء الإلهية التي يتوجه بها إلي اللَّه تعالي ويدعي بها.

ومن ثم الاستشفاع بسيد الأنبياء صلي الله عليه و آله، والذي قد وصفه الباري تعالي بأنه رحمة للعالمين وأنه بالمؤمنين رءوف رحيم، استشفاع بالرحمة الإلهية وباسمه

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 115

الرؤوف الرحيم.

استعراض بعض روايات المقام … ص: 115

وفي ما يلي نستعرض بعض روايات الشفاعة من كتب الفريقين:

عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «أعطيت خمسا لم يعطها أحد قبلي: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، ونصرت بالرعب، وأحل لي المغنم، وأعطيت جوامع الكلم، وأعطيت الشفاعة» «1».

تدل الرواية علي أن الشفاعة تكوينية؛ لأنها عطفت علي مقام جوامع الكلم، ولأن جوامع الكلم عبارة عن الكلمات التكوينية، وجوامعها عبارة عن التوفر علي كمالات وقدرات الكلمات التامات وقدرات الآيات العظمي.

ورد في الاحتجاج عنه عليه السلام: «السلام عليك أيها العلم المنصوب، والعلم المصبوب، والغوث والرحمة الواسعة» «2».

فصفة الحجة المنتظر بأنه الغوث، وهي دالة علي أنه من شؤونه ونعوته ومقاماته أنه يستغاث به ويلتجأ إليه في طلب الحاجة.

حدثنا علي بن عياش قال حدثنا شعيب بن أبي حمزة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد اللَّه أن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله قال: «من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلَّت

له شفاعتي يوم القيامة» «3».

حدثنا العباس العنبري، أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن ثابت عن أنس

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 116

قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي».

وفي الباب عن جابر هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه «1».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 117

الوجه الثامن: بحث الكلمات … ص: 117

اشارة

ويتحصل من آيات الكلمات أن الكلمات التي يتوسل بها إلي اللَّه تعالي ويتوجه بها إليه لنيل كل نائلة وللاحتظاء بالزلفي والقربي هي النبي وأهل بيته عليهم السلام.

آيات قرآنية في الكلمات الإلهية … ص: 117
اشارة

قال اللَّه تعالي: «فَتَلَقَّي آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»».

وقال تعالي: «وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» «2».

وقال تعالي: «فَتَلَقَّي آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» «3».

وقال تعالي: «وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَي مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّي أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ» «4»

.وقال تعالي: «وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 118

الْعَلِيمُ» «1».

وقال تعالي: «لَهُمُ الْبُشْرَي فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخرة لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» «2».

وقال تعالي: «وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ» «3».

وقال تعالي: «وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَامُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا» «4».

وقال تعالي: «قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا» «5».

وقال تعالي: «وَلَوْ إنما فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» «6».

وقال تعالي: «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُواْ عَلَي اللّهِ إِلَّا الْحَقِّ إنما الْمَسِيحُ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَي مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُواْ ثَلَاثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إنما اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَي بِاللّهِ وَكِيلًا»

«7».

ومن مجموع هذه الآيات يظهر أن الكلمة أطلقت علي من هو حجة مصطفي لديه تعالي، ومن ثم عبر في آيات أخري بتصديق تلك الكلمات، أي الإيمان بمن

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 119

هو حجة إلهية، كما يشير إلي ذلك قوله تعالي: «وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ» «1».

فقوبل في الآية بين الكتب والكلمات وأسند التصديق إلي الكلمات، مما يدل علي الإيمان بالحجج الإلهية المصطفين.

فتبين أن الكلمة الإلهية تطلق في الاستعمال القرآني علي الحجج الإلهية، وهذا هو الأصل في معناها الحقيقي، إذ الكلمة هي الشي الدال علي المعني أو الشي المضمر أو الغائب، وحينما تكون دلالة الشي الدال دلالة تكوينية لا بتوسط الاعتبار الأدبي تكون الدلالة حقيقية، وإطلاق الكلمة علي الدال حقيقة واقعة، بخلاف إطلاق الكلمة علي الدال بالاعتبار الأدبي، فإنه إطلاق مجازي عقلائي.

تحقيق في معني الكلمة في القرآن … ص: 119

ولا يخفي أن هناك تقارب بين معني الكلمة والاسم والآية، فإن كلًّا من الثلاث فيه معني العلامية والدلالة، فمن ثم يتطابق الاستعمال في هذه الطائفة من الآيات مع الطوائف السابقة في الأسماء والآيات.

ويتبين حينئذ أن معني حصول توبة اللَّه تعالي علي آدم عليه السلام بتوسط الكلمات، دال علي أن الكلمات وسيلة آدم عليه السلام في التوجه إلي اللَّه تعالي وأوبته ورجوعه، وأنه بتوسط تلك الكلمات عندما توجه آدم بها قبلت توبته منه تعالي.

والتدبر في هذه الكلمات التي تلقاها آدم عليه السلام يعطي تطابقها مع الأسماء التي علمها اللَّه إياه، من كون تلك الكلمات والأسماء حقيقة واحدة غيبية هي غيب السموات والأرض من عالم ملكوت السماوات والأرض، حيث إن الاسم كما مرَّ

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 120

يطابق معني الكلمة الإلهية، فإن كلًا منهما علامة وآية

علي الصفات والذات الإلهية.

حيث إنه قد وصفت تلك الأسماء وأشير إليها بضمير العاقل والشاعر كما في قوله تعالي: «وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَي الْمَلَائِكَةِ» «1».

وقوله تعالي: «فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء» «2».

وقوله تعالي: «قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ» «3».

مما يدل علي أن هذه الحقائق هي أنوار ذوات الحجج الإلهية المصطفين من النبي صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام، وهم الذين شرف آدم عليه السلام بتعليمه إياهم، وهذه الأنوار الإلهية وصفها تعالي بقوله: «قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ» «4».

وهذه الذوات النورية كما هي أسماء إلهية فإن لها بدورها أسماء تظهر بها، فمن ثم تغاير التعبير في آيات قصة آدم عليه السلام، حيث ورد التعبير الأول عنها أنها أسماء، ثم بعد عرضهم علي الملائكة عبر عنها بقوله تعالي: «فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء» «5».

حيث أضيف إلي ذوات هذه الأسماء أن لها أسماء.

ولا يخفي أن هذه الذوات الشريفة كما أطلق عليها أنها أسماء إلهية، ولها أسماء أطلق عليها أنها كلمات إلهية.

والظاهر أن التغاير حيثي بين الأسماء والكلمات، فإن تلك الذوات النورية الشريفة المخلوقة آيات إلهية، فمن حيث حكايتها عن الصفات والذات الإلهية

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 121

حكاية الاسم عن المسمي هي أسماء، وبالنظر إلي ذواتها بما هي هي، أي إذا أمعن النظر إلي ذاتها أولًا ثم أنتقل منها إلي دلالتها علي الصفات والذات الإلهية يطلق عليها حينئذ الكلمات.

أو لعلَّ هذه الذوات الشريفة ذات مراتب، ففي أوائل مراتب صدورها عن الباري- وهي أعالي ومعالي مراتبها- يطلق عليها أسماء إلهية، نظرا لجامعيتها للكمالات، وبالتالي شفافيتها في حكاية العظمة الإلهية، بخلاف مراتبها اللاحقة فإنها وإن كانت

علي جانبٍ من تمامية الكمال الخلقي؛ إلا أنها دون المراتب الأولي، وبالتالي فهي دونها في الحكاية والإراءة للشؤون الإلهية والربوبية، فمن ثم كانت تلك المراتب كلمات.

ومن ذلك يتنبه إلي أن الكلمات التي ابتُلي وامتُحن بها إبراهيم عليه السلام لكي ينال مقام الإمامة؛ هي عبارة عن امتحانه بجملة من الآيات الخلقية، وهي من الحجج التي اصطفاها اللَّه تعالي فوق مرتبة النبي إبراهيم عليه السلام.

وقد أشار قوله تعالي: «وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَي ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وأناْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ» «1»

. حيث بينت الآية أن النبي إبراهيم عليه السلام وغيره من المرسلين؛ لم يعطوا مقام النبوة والرسالة والكتاب والحكمة إلا بعد أخذ العهد منهم والالتزام بأن يؤمنوا بخاتم الأنبياء، ويلتزموا ويتعهدوا بنصرته ومتابعته والانقياد إليه وطاعته.

فلا ريب أن أول الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم عليه السلام وامتحن كي ينال مقام الإمامة هي امتحانه بقبول الإذعان والانقياد لولاية خاتم الأنبياء صلي الله عليه و آله.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 122

ولا ريب أن بقية تلك الكلمات التي امتحن بها إبراهيم عليه السلام ليتأهل للإمامة هي أهل بيت النبي صلي الله عليه و آله، وذلك لإشراك اللَّه تعالي إياهم لخاتم الأنبياء صلي الله عليه و آله في مواطن عديدة، منها مقام العصمة والتطهير في آية التطهير كما في قوله تعالي: «إنما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا» «1».

ومنها مقام الحجية كما في قوله تعالي: «فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وأنفُسَنَا وأنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَي الْكَاذِبِينَ» «2».

فأشركت الآية أهل البيت عليهم السلام بالنبي

صلي الله عليه و آله في مقام الحجية علي العالمين، كما أنها نزلت نفس علي أمير المؤمنين عليه السلام منزلة نفس النبي صلي الله عليه و آله، كما أنه في آية الفي والخمس والشهادة علي أعمال العباد قرن أهل البيت عليهم السلام بالنبي في تلك المقامات.

وكذلك في مقام العلم بالكتاب وغيرها من المقامات التي أشاد بها القرآن الكريم في النبي صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام.

كل ذلك مما يبرهن أن الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم عليه السلام وامتحن هي انقياده لولاية خاتم الأنبياء وأهل بيته عليهم السلام، فبطاعته لهم استأهل مقام الإمامة.

ويتحصل من آيات الكلمات أن الكلمات التي يتوسل بها إلي اللَّه تعالي، ويتوجه بها إليه لنيل كل نائلة، وللاحتظاء بالزلفي والقربي؛ هي النبي وأهل بيته عليهم السلام.

وقد ورد في روايات الفريقين أن اللَّه تعالي قبل توبة آدم عليه السلام عندما توجه بسيد الأنبياء صلي الله عليه و آله، فقد نُقل أن آدم عليه السلام لما اقترف الخطيئة قال: «يا ربي، أسألك بحق محمد صلي الله عليه و آله لما غفرت لي» فقال: «يا آدم، كيف عرفت؟» قال: «لأنك لما خلقتني نظرت إلي العرش فوجدت مكتوبا فيه: «لا إله إلا اللَّه، محمد رسول اللَّه» فرأيت اسمه مقرونا مع اسمك،

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 123

فعرفته أحب الخلق إليك» «1».

هذا ما ذكره الحاكم في مستدركه، وفي رسائل المرتضي:

«إن آدم رأي مكتوبا علي العرش أسماء معظمة مكرمة، فسأل عنها، فقيل له هذه أسماء أجلِّ الخلق منزلة عند اللَّه تعالي، وأمكنهم مكانة، ذلك بأعظم الثناء والتفخيم والتعظيم، أسماء محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات اللَّه عليهم، فحينئذ سأل آدم عليه السلام ربه تعالي وجعلهم الوسيلة في قبول

توبته ورفع منزلته» «2».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 125

الوجه التاسع: دلالة القصد إلي الحج وأداء المناسك علي ضرورة التوسل بحضرتهم … ص: 125

اشارة

فمركز رحي الدين مودة آل إبراهيم وآل إسماعيل وهم آل محمد صلي الله عليه و آله، وصار التوجه إلي بيت اللَّه الحرام، والتوجه إلي إقامة شعائر الدين هو توجه إليهم، فهذه هي غاية الحج وغاية الشعائر وتشييد الدين، وهي التوجه إليهم وبهم إلي اللَّه تعالي.

غاية الحج وكماله أن ينفر الناس إلي أهل البيت عليهم السلام، ويقصدوهم ويتوجهوا إليهم وبهم إلي اللَّه تعالي.

وقد أشير إلي ذلك في آيات الحج المبينة لفلسفته ولأعماله وأركانه، وجعل في جملة المشاعر والأعمال بصمات وعلامات وآيات ترشد الحاج والمعتمر والناسك إلي التوسل والتوجه بالنبي وأهل بيته عليهم السلام إلي اللَّه تعالي.

وأما الآيات، فمنها قوله تعالي علي لسان النبي إبراهيم عليه السلام: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فإنه مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فإنكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 126

إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» «1».

وللتدبر في معني الآية لا بد من التركيز علي جملة من النقاط:

الأولي: ما هي الغاية من إسكان النبي إبراهيم عليه السلام أهله في الوادي الذي هو حرم مكة عند بيت اللَّه، أي المسجد الحرام؟ وقد كان إسماعيل عليه السلام وأمه هاجر اتخذا المسجد الحرام بيتا لهما، وقد سمي حجر إسماعيل بذلك؛ لأنه كان من المرافق التي يستخدمها إسماعيل في شؤون حياته، وتجيب الآية عن الغاية علي لسان النبي إبراهيم عليه السلام في قوله تعالي: «لِيُقِيمُواْ الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ

لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» «2».

وفي قوله تعالي: «وَعَهِدْنَا إِلَي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» «3».

فجعل الغاية من إسكان أهله في حرم البيت هو إحياء بيت اللَّه الرحمن بإقامة الصلاة وسائر العبادات ومعالم الشريعة، فيحيوا شعائر التوحيد ومعالمه.

الثانية: إن الذي قام به إبراهيم من إسكان هاجر وإسماعيل الطفل الصغير- من دون وجود قرية أو قبيلة أو مأوي أو حمي أو كفيل أو ضامن في وادي غير ذي زرع، وقد كان موضعا قاحلا وواديا قفرا لا ماء ولا كلأ- امتحان صعب وفداء وتضحية عظيمة، إلا أن المهم أن يُشيد التوحيد والدين في تلك البقعة المقدسة كمركز انطلاق، وقد جعل علي عاتق ذرية إبراهيم عليه السلام.

الثالثة: ثم عطف كغاية مرتبة علي تلك الغاية: «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 127

فسواء جعلت الفاء للترتب وترتيب الغاية تلو الغاية، أو لترتيب السبب علي المسبب «1»، أي أن السبيل لتشييد الدين هو أن تهوي الأفئدة إلي تلك الذرية، إذ الضمير في «تهوي» يعود إلي الذرية التي اسكنها إبراهيم عليه السلام ذلك الوادي، أي إسماعيل ومن يتوالد منه.

وهذه الذرية قد دعا في حقها إبراهيم وإسماعيل دعوات أخري كما في قوله تعالي: «وَإِذِ ابْتَلَي إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» «2».

فدعا بأن تكون الإمامة الإلهية في نسله من إسماعيل عليه السلام إلي يوم القيامة، ثم قال تعالي بعد تلك الآية مباشرة: «وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّي وَعَهِدْنَا إِلَي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ* وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ

مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخر قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَي عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ* وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ» «3».

فوحدة سياق الآيات يقضي بأن الذرية التي دعا إبراهيم بأن تكون الإمامة فيها هي التي اسكنها عند البيت المحرم، وهي في البلد الذي دعا أن يكون آمنا،

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 128

وهي الذرية التي دعا إبراهيم وإسماعيل أن تكون فيها أمة مسلمة، أي علي درجة من التسليم في الإسلام علي حذو وصف إبراهيم وإسماعيل بالمسلمين.

فهي الذرية من نسل إسماعيل التي بقيت الإمامة في عقبه باستجابة دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في خصوص الذرية الطاهرة من نسل إسماعيل، وهم المعنيون في آخر سورة الحج: «هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَي النَّاسِ» «1».

وهم المصطفون المجتبون من قبل اللَّه تعالي للإمامة وللشهادة علي أعمال الخلق، ويكون الرسول صلي الله عليه و آله عليهم شهيدا، فهم ذو وصلة بسيد الرسل صلي الله عليه و آله، وهناك تطابق واضح بين آية دعاء إبراهيم: «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ».

وبين قوله تعالي: «قُل لَّاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي» «2».

فإن قربي النبي صلي الله عليه و آله كما فرض اللَّه علي الخلق مودتهم، بين علي لسان إبراهيم عليه السلام في دعائه للَّه تعالي بأن تهوي قلوب الخلق إليهم، وهو

معني المودة والمحبة إلي ذريته من نسل إسماعيل، الذين دعا في شأنهم بأن تكون الإمامة فيهم، وهم المجتبون المسمون بالأمة المسلمة.

فجعلت مودتهم وهوي قلوب الخلق إليهم غاية لتشييد الدين.

والإسكان كان بأمر من اللَّه تعالي، فبين إبراهيم الغاية من أمر اللَّه تعالي بالإسكان، وهي إحياء شعائر ومعالم الدين من الصلاة والحج وتعظيم بيت اللَّه الحرام.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 129

ويترتب علي ذلك ثمرة وفائدة قصوي تتمثل في قوله تعالي: «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ».

سواء جعلنا حرف «الفاء» لترتيب الغاية علي الغاية أي المسبب علي السبب، أو لترتب السبب علي المسبب.

لاسيما وأن تشييد الدين قد جعل فعلا تقوم به تلك الذرية، أي إن إشادة الدين لا يتم إلا بتوسطهم وعلي يدهم ومن المسؤوليات الملقاة علي عاتقهم، وهو بمعني إمامتهم للخلق وهدايتهم له.

فمن ثم لا بد من أن تهوي إليهم أفئدة من الناس وهم أهل الإيمان خاصة، ولا بد أن يفترض اللَّه مودتهم علي الخلق لينقادوا لهم ويتبعونهم.

فصار محور الصلاة والحج ومحور إقامة وإحياء شعائر ومعالم الدين من المسجد الحرام هو مودة قربي النبي صلي الله عليه و آله، وهوي أفئدة من الناس إليهم، أي ولايتهم.

فمركز رحي الدين مودة آل إبراهيم وآل إسماعيل وهم آل محمد عليهم السلام، وصار التوجه إلي بيت اللَّه الحرام والتوجه إلي إقامة شعائر الدين هو توجه إليهم، فهذه هي غاية الحج وغاية الشعائر وتشييد الدين، وهي التوجه إليهم وبهم إلي اللَّه تعالي.

وقد أشير في كلام الباقر عليه السلام إلي برهان تاريخي أدياني من السيرة، وهو الذي أشار إليه عليه السلام فيما رواه الكليني في الصحيح عن الفضيل عن أبي جعفر عليه السلام نظر إلي الناس يطوفون حول الكعبة، فقال: «هكذا كانوا يطوفون في

الجاهلية، إنما أمروا أن يطوفوا بها ثم ينفروا إلينا، فيعلمونا ولايتهم ومودتهم، ويعرضوا علينا نصرتهم، ثم قرأ هذه الآية: «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» «1».

وفي مصحح أبي عبيدة قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام ورأي الناس بمكة وما

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 130

يعملون، قال فقال: «كفعال الجاهلية، أما واللَّه ما أمروا بهذا، وما أمروا إلا أن يقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم، فيمروا بنا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرتهم» «1».

وفي رواية سدير عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال يا سدير: «إنما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيعرضوا فيطوفوا بها، ثم يأتونا فيعلمونا ولايتهم لنا، وهو قول اللَّه: «وإني لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَي* ثم أومأ بيده إلي صدره إلي ولايتنا»».

فيشير عليه السلام فيما مر إلي برهان من الملة الحنيفية الإبراهيمية، ويتضح هذا البرهان بالإجابة علي التساؤل عن الفرق بين حج المشركين وحج المسلمين، وكيف تحول الحج الإبراهيمي «حج إبراهيم وإسماعيل» الذي توارثته قريش، من حج إبراهيمي إلي حج شرك وإشراك، ثم تبدل وعاد إلي الحج علي الحنيفية البيضاء وهو الحج المحمدي «حج المسلمين»؟ حيث إن المشركين كانوا في حجهم يتجردون عن الثياب فيحرمون ويطوفون بالبيت، ويسعون بين الصفا والمروة، ويقفون بعرفات، ويزدلفون للمشعر الحرام، ويقربون القرابين في مني، فيأتون بكل تلك الطقوس والنسك التي تشاهد من المسلمين، فما الذي أوجد الفرق بين حج المشركين وحج المسلمين؟ وما الذي أوجد الفرق بين حج إبراهيم وحج المشركين؟

الجواب: لو فتشنا عن الفرق- بعد الالتفات إلي أن المشركين لا ينكرون أصل وجود اللَّه، وإنما يتقربون إليه بالأصنام والأوثان اقتراحا منهم علي ربهم- لا نجده إلا في نبذ المشركين ولاية إبراهيم وإسماعيل والذرية الطاهرة من إسماعيل

إلي

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 131

ولاية الأصنام والأوثان، أي أنهم تركوا ما هو الغاية من الحج الذي بينه اللَّه تعالي علي لسان إبراهيم عليه السلام في قوله تعالي: «رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» «1».

كما لا نجد الفرق من جانب حج المشركين مع حج المسلمين بعد أن خاطب اللَّه عز وجل المسلمين بقوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إنما الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وأن خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» «2».

فنهي اللَّه عز وجل عن إحرام المشركين، وعد طوافهم بالبيت وسعيهم بين الصفا والمروة ووقوفهم بالمشاعر وتقديمهم القرابين ورميهم للجمرات وصلاتهم بالبيت اتجاه الكعبة وصدقاتهم واعتكافهم من المنهي عنه، مع أنه في الصورة يشابه أفعال المسلمين، بينما شرَّع ذلك للمسلمين، وليس الفارق إلا إذعان المسلمين لولاية رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وإقرارهم بالشهادة الثانية ونبذهم لولاية الأصنام والأوثان التي لم ينزل اللَّه بها من سلطان.

أي أن المسلمين في عهد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله عملوا وأوفوا بما هو عماد وركن الحج الركين، وهو هوي أفئدتهم إلي الذرية الطاهرة التي هي محل استجابة دعوة إبراهيم بالإمامة والمودة لهم، فوفوا بما هو الغاية من الحج، ومن ثم صار حجهم علي نهج حج إبراهيم.

فهذا برهان تاريخي أدياني تقتضيه الملة الحنيفية، دال علي أن الحج وأعماله ونسكه من دون تولي وولاية الذرية المجتباة من نسل إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام،

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 132

يقضي بكون أفعال الحج والعبادات كفعال المشركين.

وهذا هو الذي أشار إليه الإمام الباقر عليه السلام كبرهان تاريخي في

الملة داعما لمفاد الآية الكريمة التي هي دليل قرآني أول.

ثم أشار عليه السلام في الروايات إلي دليل ثاني وهو قوله تعالي: «واني لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَي» «1».

أي أن المغفرة يشترط فيها أربعة شروط، والشرط الرابع هو الهداية مضافا إلي الإيمان والتوبة والعمل الصالح.

ومن الواضح أن هذه الهداية أمر وراء أصل الإيمان باللَّه تعالي وبرسوله صلي الله عليه و آله، كما تشير إلي ذلك سورة الحمد، فبعد أن استعرضت التوحيد والنبوة والمعاد أشارت في ذيلها إلي أن النجاة يشترط فيها الاهتداء إلي صراط ومنهاج ثلة قد أنعم اللَّه عليهم وعصمهم من الغضب الإلهي ومن أن يضلوا.

وفي مصحح زيد الشحام قال: دخل قتادة بن دعامة علي أبي جعفر عليه السلام فقال:

«يا قتادة أنت فقيه أهل البصرة؟ قال: هكذا يزعمون فقال أبو جعفر عليه السلام: بلغني أنك تفسر القرآن؟ فقال له قتادة: نعم، فقال له أبو جعفر؟ بعلم تفسره أم بجهل؟ قال: لا بعلم، فقال له أبو جعفر عليه السلام: فإن كنت تفسره بعلم فأنت أنت وأنا أسألك؟ قال قتادة: سل قال: أخبرني عن قول اللَّه عز وجل في سبأ: «وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ» فقال قتادة: ذلك من خرج من بيته بزاد حلال وراحلة وكراء حلال يريد هذا البيت كان آمنا حتي يرجع إلي أهله، فقال أبو جعفر عليه السلام: نشدتك اللَّه يا قتادة هل تعلم أنه قد يخرج الرجل من بيته بزاد حلال وراحلة وكراء حلال يريد هذا البيت فيقطع عليه الطريق فتذهب نفقته ويضرب مع ذلك ضربة فيها اجتياحه؟ قال قتادة: اللهم نعم، فقال أبو جعفر عليه السلام: ويحك يا

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 133

قتادة إن كنت إنما فسرت

القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت، وأن كنت قد أخذته من الرجال فقد هلكت وأهلكت، ويحك يا قتادة ذلك من خرج من بيته بزاد وراحلة وكراء حلال يروم هذا البيت عارفا بحقنا يهوانا قلبه كما قال اللَّه عز وجل: «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» فنحن واللَّه دعوة إبراهيم عليه السلام التي من هوانا قلبه قبلت حجته وإلا فلا، يا قتادة فإذا كان كذلك كان آمنا من عذاب جهنم يوم القيامة، قال قتادة: لا جرم واللَّه لا فسرتها إلا هكذا، فقال أبو جعفر عليه السلام: ويحك يا قتادة إنما يعرف القرآن من خوطب به» «1».

وفي هذه الرواية مضافا إلي الأدلة السابقة، يشير عليه السلام إلي دليل آخر وهو قوله تعالي: «وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَي الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًي ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ» «2».

وكذا قوله تعالي: «انَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًي لِّلْعَالَمِينَ* فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا» «3».

وقد أشير إلي هذا الدليل في رواية أخري عن الصادق في حواره مع أبي حنيفة كما في علل الشرائع، قال: «حدثنا أبو زهير بن شبيب بن أنس عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: كنت عند أبي عبد اللَّه عليه السلام إذ دخل عليه غلام من كندة فاستفتاه في مسألة فأفتاه فيها، فعرفت الغلام والمسألة فقدمت الكوفة، فدخلت علي أبي حنيفة فإذا ذاك الغلام بعينه يستفتيه في تلك المسألة بعينها، فأفتاه فيها بخلاف ما أفتاه أبو عبد اللَّه عليه السلام، فقمت إليه فقلت ويلك يا أبا حنيفة إني كنت العام حاجا فأتيت أبا عبد اللَّه عليه السلام مسلّماً عليه فوجدت هذا الغلام

يستفتيه في هذه المسألة بعينها فأفتاه بخلاف ما أفتيته، فقال: وما يعلم جعفر بن محمد أنا أعلم منه، أنا لقيت الرجال وسمعت من أفواههم، وجعفر بن محمد

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 134

صحفي أخذ العلم من الكتب! فقلت في نفسي واللَّه لأحجن ولو حبوا. قال فكنت في طلب حجة، فجاءتني حجة فحججت، فأتيت أبا عبد اللَّه عليه السلام فحكيت له الكلام فضحك ثم قال: أما في قوله إني رجل صحفي فقد صدق قرأت صحف آبائي إبراهيم وموسي، فقلت ومن له بمثل تلك الصحف، قال: فما لبثت أن طرق الباب طارق وكان عنده جماعة من أصحابه فقال الغلام انظر من ذا فرجع الغلام فقال أبو حنيفة، قال أدخله فدخل فسلم علي أبي عبد اللَّه عليه السلام فرد عليه، ثم قال أصلحك اللَّه أتأذن في القعود؟ فأقبل علي أصحابه يحدثهم ولم يلتفت إليه، ثم قال الثانية والثالثة فلم يلتفت إليه، فجلس أبو حنيفة من غير إذنه، فلما علم أنه قد جلس التفت إليه فقال: أين أبو حنيفة؟ فقيل هو ذا أصلحك اللَّه، فقال أنت فقيه أهل العراق؟ قال نعم، قال: بما تفتيهم؟ قال: بكتاب اللَّه وسنة نبيه صلي الله عليه و آله. قال: يا أبا حنيفة تعرف كتاب اللَّه حق معرفته وتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال نعم، قال: يا أبا حنيفة لقد ادعيت علما، ويلك ما جعل اللَّه ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم، ويلك ولا هو إلا عند الخاص من ذرية نبينا صلي الله عليه و آله ما ورثك اللَّه من كتابه حرفا فإن كنت كما تقول ولست كما تقول فاخبرني عن قول اللَّه عز وجل: «سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ» أين ذلك من الأرض؟

قال حسبه ما

بين مكة والمدينة، فالتفت أبو عبد اللَّه عليه السلام إلي أصحابه فقال: تعلمون أن الناس يقطع عليهم بين المدينة ومكة فتؤخذ أموالهم ولا يؤمنون علي أنفسهم ويقتلون؟

قالوا نعم، قال فسكت أبو حنيفة، فقال يا أبا حنيفة أخبرني عن قول اللَّه صلي الله عليه و آله: «وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا» أين ذلك من الأرض؟ قال: الكعبة، قال أفتعلم أن الحجاج بن يوسف حين وضع المنجنيق علي ابن الزبير في الكعبة فقتله كان آمنا فيها؟ قال: فسكت، ثم قال له يا أبا حنيفة، إذا ورد عليك شي ء ليس في كتاب اللَّه ولم تأت به الآثار والسنة كيف تصنع؟ فقال أصلحك اللَّه: أقيس وأعمل فيه برأيي، قال يا أبا حنيفة: إن أول من قاس إبليس الملعون قاس علي ربنا تبارك وتعالي فقال: «أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ» فسكت أبو حنيفة، فقال يا أبا حنيفة أيما أرجس البول أو الجنابة؟ فقال البول، فقال: فما بال

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 135

الناس يغتسلون من الجناية ولا يغتسلون من البول؟ فسكت، فقال يا أبا حنيفة أيما أفضل الصلاة أم الصوم؟ قال الصلاة، قال: فما بال الحائض تقضي صومها ولا تقضي صلاتها؟

فسكت، فقال يا أبا حنيفة: أخبرني عن رجل كانت له أم ولد وله منها ابنة وكانت له حرة لا تلد فزارت الصبية بنت أم الولد أباها، فقام الرجل بعد فراغه من صلاة الفجر، فواقع أهله التي لا تلد وخرج إلي الحمام فأرادت الحرة أن تكيد أم الولد وابنتها عند الرجل فقامت إليها بحرارة ذلك الماء فوقعت عليها وهي نائمة، فعالجتها كما يعالج الرجل المرأة، فعلقت، أي شي ء عندك فيها؟ قال: لا واللَّه ما عندي فيها شي ء، فقال يا أبا

حنيفة: أخبرني عن رجل كانت له جارية فزوجها من مملوك له وغاب المملوك، فولد له من أهله مولود وولد للمملوك مولود من أم ولد له فسقط البيت علي الجاريتين ومات المولي، من الوارث؟ فقال جعلت فداك: لا واللَّه ما عندي فيها شي ء، فقال أبو حنيفة: أصلحك اللَّه إن عندنا قوما بالكوفة يزعمون أنك تأمرهم بالبراءة من فلان وفلان وفلان فقال: ويلك يا أبا حنيفة لم يكن هذا، معاذ اللَّه، فقال أصلحك اللَّه: إنهم يعظمون الأمر فيهما، قال: فما تأمرني؟ قال: تكتب إليهم، قال: بماذا؟ قال: تسألهم الكف عنهما، قال: لا يطيعوني، قال: بلي أصلحك اللَّه إذا كنت أنت الكاتب وأنا الرسول أطاعوني، قال يا أبا حنيفة أبيت إلا جهلا، كم بيني وبين الكوفة من الفراسخ؟ قال أصلحك اللَّه ما لا يحصي، فقال كم بيني وبينك؟ قال لا شي ء، قال أنت دخلت علي في منزلي فاستأذنت في الجلوس ثلاث مرات فلم آذن لك، فجلست بغير إذني خلافا علي، كيف يطيعوني أولئك وهم هناك وأنا هاهنا؟ قال فقبل رأسه وخرج وهو يقول: أعلم الناس ولم نره عند عالم. فقال أبو بكر الحضرمي جعلت فداك الجواب في المسألتين فقال يا أبا بكر سيروا فيها ليالي وأياما آمنين، فقال: مع قائمنا أهل البيت، وأما قوله ومن دخله كان آمنا، فمن بايعه ودخل معه ومسح علي يده ودخل في عقد أصحابه كان آمنا» «1».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 136

فهذا يدلل علي أن المراد من الأمن هو الأمن الأخروي والنجاة من النار، وأنه لا يجازي به إلا من وفي بعهد اللَّه من إتيان الحج والعبادات وهوي فؤاده ومودته إلي الذرية من نسل إبراهيم وإسماعيل، وهم الذين فرضت مودتهم من قربي النبي وعترته

عليهم السلام.

ويشير إلي ذلك قوله تعالي في آيات سورة البقرة من تقييد الأمم بمن آمن، كما في قوله تعالي: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخر» «1».

وفي رواية للباقر عليه السلام في قول إبراهيم عليه السلام: «رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ» قال: «نحن بقية تلك العترة، وقال كانت دعوة إبراهيم لنا خاصة» «2».

وفي رواية أخري عن الباقر عليه السلام في قوله تعالي: «رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ» فقال عليه السلام: «ما قال إليه يعني البيت، ما قال إلا إليهم، أفترون اللَّه فرض عليكم إتيان الأحجار والتمسح بها، ولم يفرض عليكم إتياننا وسؤالنا وحبنا أهل البيت، واللَّه ما فرض عليكم غيره» «3».

وفي رواية أخري إشارة إلي دليل آخر وهو قوله تعالي: «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ» «4».

فالمفاد أن الطهارة والكمال المرجو من العيادة لا يتم إلا بلقاء الإمام عليه السلام.

وعن عبداللَّه بن سنان، عن ذريح المحاربي قال: قلت لأبي عبد اللَّه صلي الله عليه و آله: «إن اللَّه

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 137

أمرني في كتابه بأمر فأحب أن أعمله، قال: وما ذاك؟ قلت: قول اللَّه عز وجل: «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ» قال: ليقضوا تفثهم لقاء الإمام، وليوفوا نذورهم تلك المناسك، قال: عبداللَّه بن سنان فأتيت أبا عبد اللَّه عليه السلام فقلت: جعلت فداك قول اللَّه عز وجل: «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ» قال: أخذ الشارب وقص الأظفار وما أشبه ذلك، قال:

قلت: جعلت فداك إن ذريح المحاربي حدثني عنك بأنك قلت له: «لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ» لقاء الإمام «وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ» تلك

المناسك، فقال: صدق ذريح وصدقت إن للقرآن ظاهرا وباطنا، ومن يحتمل ما يحتمل ذريح؟!» «1».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 139

شواهد من مناسك الحج … ص: 139
تجسد التوسل واللواذ بحضرة الأولياء عليهم السلام … ص: 139
اشارة

ثم إن في الحج جملة من الشواهد الأخري:

الشاهد الأول: مقام إبراهيم عليه السلام … ص: 139

قال تعالي: «وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّي» «1».

فإن هذا الأمر باتخاذ الحجر التي ركب عليها إبراهيم عليه السلام في بناء البيت مقاما مقدسا يصلي عنده ويتوجه إليه، ويتوجه به إلي الكعبة، ينطوي علي نفس المفاد من أن العبادات قد أخذ فيها التوجه بأولياء اللَّه وأصفيائه من الأنبياء والأوصياء عليهم السلام إلي اللَّه تعالي، لاسيما وأن هذا المقام قد نصب في بيت اللَّه الحرام معلما ليدل علي أن العبادة التوحيدية للَّه لا تتم ولا تتحقق إلا بولاية أوليائه المصطفين، وأنه كما أن البيت قطب لرحي التوحيد، فبابه هم أولياؤه المصطفون آيات بينات فيه.

ولا يخفي ما في التعبير بكلمة «مقام» فإنه للتعظيم والتفخيم والتبجيل، مع أن هذا الحجر ليس هو إبراهيم الخليل عليهما السلام، وإنما أضيف إليه لملامسته جسد إبراهيم عليه السلام.

فالمكان الذي اتصل ولامس وماس جسده الشريف أمرنا في السنة الإلهية أن نتخذه محلا للعبادة ونتوجه فيه ومنه إلي اللَّه تعالي.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 140

فما أشد المطابقة بين مفاد هذه الآية وما تقدم من قوله تعالي: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا» «1».

حيث جعل الباري تعالي المجي في الحضرة النبوية موضعا يزدلف فيه إلي اللَّه تعالي ويتقرب فيه إليه ويتوجه فيه ومنه إليه.

فتلاحم التوجه إلي اللَّه بالتوجه بالنبي محمد وآله عليهم السلام وإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام إلي اللَّه تعالي، فكانوا أبواب سماء الحضرة الإلهية.

الشاهد الثاني: حجر إسماعيل عليه السلام … ص: 140

فإن هذا الحجر قد جعل بضميمة الكعبة مما يطاف به، وقد استخدمه إسماعيل لبعض مرافق معيشته، وفي جملة من روايات الفريقين أن هاجر وإسماعيل مدفونان به، وفيها أن عشرات النبيين قد دفنوا تحته «2».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 141

فجعل الحجر الذي هو ذكري لإسماعيل عليه

السلام ولموضع قبره مطافا، مما يؤكد علي أن المدار في التوجه إلي اللَّه أن يكون بالتوجه إليه عبر حججه وأصفيائه، ومن هنا جاء في القرآن قوله تعالي: «وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّي وَعَهِدْنَا إِلَي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» «1»

فالبيت المقدس وما يحويه من ذكريات الأنبياء عليهم السلام ومقاماتهم وقبورهم وسيلة للصعود إلي عالم الطهارة والحظوة عند اللَّه تعالي.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 142

الشاهد الثالث: ولادة علي عليه السلام في الكعبة … ص: 142

وهذا التخصيص لعلي عليه السلام- وصي رسول اللَّه والمنزل منزلة نفس النبي صلي الله عليه و آله في آية المباهلة، الذي هو من أهل البيت عليهم السلام في آية التطهير، والذي هو ولي المؤمنين حصرا بعد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله بنص آية التصدق في الركوع- بهذه الآية بأن تكون ولادته في جوف وبطن الكعبة وهي مركز القبلة الإلهية «1»، ومركز الطواف ومركز بيت اللَّه الحرام، إشارة إلهية واضحة في أنه كما يتوجه إلي الكعبة لأجل التوجه إلي اللَّه، فكذلك لا بد من التوجه بسيد الأوصياء الذي هو باب مدينة علم

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 143

النبي صلي الله عليه و آله لأجل التوجه به إلي اللَّه ورسوله صلي الله عليه و آله.

فالقران والاقتران بين الكعبة ومولد علي عليه السلام في التقدير والقضاء الإلهي تشعير منه تعالي لشعيرة الوسيلة، وأن النبي وأهل بيته عليهم السلام هم وجه اللَّه الذي يتوجه به إليه تعالي، لاسيما مع ما لابس ذلك الحدث من انشقاق الجدار لفاطمة بنت أسد، ومكثها ثلاثة أيام، ومحاولة أبي طالب وقريش فتح باب الكعبة فلم ينفتح، فعلموا أن ذلك بتدبير من اللَّه، وغيرها من الإرهاصات كتسمية المولود، واللوح النازل من السماء

والذي علق في الكعبة وكان فيه اسم علي عليه السلام «1».

وغير ذلك مما أبان عن كون هذا الحدث آية ربانية خص بها الباري علي ابن أبي طالب عليه السلام، للتدليل علي اصطفائه، وأنه الباب الذي منه يقصد إلي اللَّه ورسوله صلي الله عليه و آله.

ومن ثم عبر المحدث المتتبع نادرة زمانه الميرزا النوري بقوله: «لا يبعد القول بأن ولادة علي في الكعبة من ضروريات المذهب» تدليلا علي كونها أمرا عقديا وليس مجرد حدثا تاريخيا «2».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 145

الشاهد الرابع: شواهد أخري … ص: 145

ومن الشواهد علي البحث الذي نحن بصدده جملة الأعمال الأخري في الحج كالسعي بين الصفا والمروة، فإن فيه بصمة وعلامة من آدم صفي اللَّه، ومن ثم سمي الصفا، ومن حواء وهي امرأة، ومن ثم سمي مروة، حيث ورد أن آدم نزل علي الصفا عندما أهبط، وحواء نزلت علي المروة.

مضافا إلي ارتباط استحباب الشرب من زمزم بنبع الماء لإسماعيل وهاجر، وكذلك عرفات حيث سميت بذلك لاعتراف آدم عليه السلام بخطيئته إلي اللَّه تعالي بترك ما هو أولي، وكذلك المزدلفة حيث ازدلف آدم إلي ربه فيها، وكذلك ذبح الهدي كقربان في مني وكافتداء عن إسماعيل.

وبالجملة فهذه النسك مضافا إلي كونها عبادات للَّه تعالي، فإنها مقترنة بمشاهد للأنبياء والمرسلين عليهم السلام مذكرة بهم احتفاء بهم وبأسمائهم، وتقربا باحتذائهم إلي اللَّه

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 146

كسبيل وباب إليه تعالي.

ومن ثم يتفطن إلي ما في لزوم الإتباع لسنة الرسول صلي الله عليه و آله من معني التوجه به إلي اللَّه تعالي، كما في قوله تعالي: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخر وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا» «1».

فإن التأسي به توجه به إلي اللَّه، وتقديمه إماما وافدا في

السير والوفود علي اللَّه، فيكون سيره وسيرته سبيلا يتوجه به إلي اللَّه تعالي، وبابا يطرق للوفود علي الحضرة الإلهية، فلا يتوجه إلي اللَّه إلا بتقديمهم له إماما سواء في نهج المعرفة أو في سبيل العمل.

أو ليس الجائي بمعارف القرآن من عند اللَّه تعالي هو رسول اللَّه صلي الله عليه و آله فضلا عن شريعة الأعمال، فمن وحد اللَّه قبل عنهم ومن قصده توجه بهم، وهذا هو معني اتخاذهم عليهم السلام وسيلة إلي اللَّه تعالي.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 147

الوجه العاشر: قاعدة الإثبات بلا تشبيه والتنزيه بلا تعطيل … ص: 147

اشارة

فلا سبيل إلي التوحيد في الذات والصفات والأفعال بالنحو الذي ذكرناه إلا بتقرير العظمة الإلهية والكمال اللا متناهي، وهو إنما يتقرر بتقرير أن الذات الإلهية أعظم من صفات الفعل ومن أسمائها وأفعالها.

إن السنن الإلهية في الصفات والأفعال ونظام الوسائط هو نظام تنزيه بلا تعطيل وإثبات بلا تشبيه.

فإن تطبيق هذه القاعدة في إقامة التوحيد خروجاً عن حد التشبيه وحد التعطيل في مقام الأفعال، وكذلك في مقام الصفات الفعلية والأسماء الحسني، هو بتثبيت النسبتين المعبر عنه بنظام الوسائط.

وليس المراد من هذا العنوان ما قد يتخيل من أن الفعل إسناده إلي الباري من بعيد، وإسناده إلي الواسطة المخلوقة من قريب، فإن هذا نحو من التعطيل أو التشبيه بصدور الأفعال من العقول بأن يتصور نحو استغناء في الوسائط عن الباري.

كما أنه ليس المراد من قرب إسناد هذه الأفعال من الباري التشبيه بتصوير مباشرة الباري للمادة أو النفس في صدور الأفعال منه، فكم أخطأ من يتصور أن الإسناد من قرب يعني الملابسة للمادة والمباشرة كمباشرة النفس، كما أنه يخطأ من

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 148

ينزه الباري عن ملابسة المادة، وعن المباشرة كمباشرة الروح، بأن يتصور أن إسناد الفعل للباري علي ضوء ذلك هو

عن بعد، فإن البعد والقرب في إسناد الأفعال ليس بمباشرة المادة وعدمها، ولا بملابسات الروح، ولا بالبعد والقرب الجغرافي والجسماني، بل إنما هو بسيطرة القدرة ونفوذ القوة وهيمنة السلطان، فإن كل شي ء قائم به.

فهذه القاعدة لا يقتصر في مراعاتها كقاعدة أسسها أهل البيت عليهم السلام وكشفوا عنها، وتلقتها سائر المدارس الكلامية بالقبول- لسانا وشعارا لكنهم أخفقوا في تطبيقها في مجالات عديدة من مسائل العقيدة، فلربما تري بعض المدارس تراعي تلك القاعدة في تنظير معرفة التوحيد في مقام الذات لكنها تخفق في مراعاتها في تنظير التوحيد في مقام الصفات أو مقام الأفعال، بل قد وقع في ورطة الإخفاق في مراعاة القاعدة في المقامين الآخرين جملة من المدارس الإسلامية في مقام دون مقام؛ لأن أهل البيت عليهم السلام قد شددوا في مراعاتها في كل المقامات، فتري المدارس الإسلامية الأخري قد جعلت جملة من الصفات الفعلية للباري تعالي من منزلة ومقام الصفات الذاتية، فوقعت في التشبيه كما في قوله تعالي: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ» «1»

فجعلوا الأيدي هاهنا من الصفات الذاتية مع أنها من صفات الفعل.

وكذلك قوله تعالي: «وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ» «2»

وقوله تعالي: «وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَي عَيْنِي» «3»

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 149

فجعلوا الأعين والعين صفة الذات بينما هي من صفات الفعل.

وكذلك قوله تعالي: «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فان* وَيَبْقَي وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» «1»

فجعلوا الوجه صفة الذات بينما هي صفة الفعل.

وقوله تعالي: «يَا حَسْرَتَي علَي مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وإن كُنتُ لَمِنَ السَّآخرينَ» «2»

فجعلوا الجنب صفة الذات بينما هو صفة الفعل.

وقوله تعالي: «يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ» «3»

وقوله تعالي:

«وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» «4»

فجعلوا الكلام صفة الذات بينما هو صفة الفعل.

وقوله تعالي: «وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ» «5»

وقوله تعالي: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ» «6»

وقوله تعالي: «وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وإنا لَمُوسِعُونَ» «7»

وقوله تعالي: «قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 150

كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ» «1»

وغيرها من الصفات الأخري في القرآن الكريم، فجعلوها من صفات الذات فوقعوا في أعظم تشبيه للخالق بالمخلوقات كأحكام التجسيم أو التشبيه بالنفس والروح أو الفعل.

فجعلوا لعين الذات الإلهية عينا ويدا وجنبا ووجها وساقا ونحو ذلك، بينما هناك فرق بين ثبوت صفات الفعل للذات الإلهية وثبوت صفات الذات للذات الإلهية، فإن صفات الذات عين الذات، بينما صفات الفعل هي عين الفعل لا عين الذات، نعم هي قائمة ومملوكة للذات الإلهية، كمملوكية جميع المخلوقات للذات الإلهية، ومن هذا القبيل قوله تعالي: «وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَي فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ» «2»

فإن هذه الأسماء أضيفت إليه تعالي بلام الملكية والاختصاص للدلالة علي أنها مملوكة له تعالي، وهذه الأسماء هي عين صفات الفعل، كما مر بيان ذلك في رواية هشام بن الحكم عن الصادق عليه السلام.

بينما أكدت مدرسة أهل البيت عليهم السلام علي أن هذه الصفات صفات فعل وليست صفات الذات، وأن من يسند هذه الصفات إلي الذات علي نحو صفات الذات فقد وقع في التشبيه.

ومن ثم ورد عن أمير المؤمنين وعنهم عليهم السلام أنهم عين اللَّه الناظرة ولسانه الناطق وجنبه وعيبة علمه، وأنهم يده الباطشة وأذنه الواعية.

وكذلك وقع أكثرهم في التشبيه في إسناد الأفعال إليه

تعالي، فجعلوا إسناد تلك

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 151

الأفعال علي نمط إسنادها إلي غير اللَّه تعالي، وهو إثبات بتشبيه كما في العديد من الآيات:

قوله تعالي: «فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ» «1»

وقوله تعالي: «يَا حَسْرَةً عَلَي الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون» «2»

وقوله تعالي: «وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا» «3»

وقوله تعالي: «رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» «4»

وكذلك قوله تعالي: «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَي اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ» «5»

وكذا قوله تعالي: «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ» «6»

وقوله تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ» «7»

وقوله تعالي: «وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء» «8»

.الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 152

وقوله تعالي: «فَضَرَبْنَا عَلَي آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا» «1»

وقوله تعالي: «كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ» «2»

وقوله تعالي: «لَمَقْتُ اللَّهِ أكبر مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَي الإيمان فَتَكْفُرُونَ» «3».

وغيرها من سائر الأفعال التي أسندت في ظاهر الكتاب إلي الذات الإلهية، فحمل الإسناد في هذه الأفعال علي نمط الإسناد إلي المخلوقين، وهو ما يستلزم القول بطرو الأحوال الحادثة علي الذات الإلهية، وسبحان اللَّه عما يصفون.

وهو من التشبيه في الأفعال إما بالأفعال الصادرة من النفس أو الروح أو الصادرة من الجسم، بينما إسناد هذه الأفعال المفروض فيه أنه بنمط آخر، كما في إسناد أي فعل يصدر من المخلوق، فإن له نسبة إسناد إلي اللَّه لا تستلزم الجبر، فإن نسبة الأفعال إلي اللَّه هي بنمط ما منه الوجود، أي ما كان ابتداء ونشأة وإبداع وجوده منه تعالي.

ونسبة الأفعال نفسها إلي المخلوقين نسبة ما به الوجود، كما

يشير إلي ذلك قوله تعالي: «وأن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وأن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا* مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَي بِاللّهِ شَهِيدًا» «4»

.فتدل الآية علي أن تقدير الأمور كلها من عند اللَّه تعالي، كما تدل علي أن

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 153

مطلق الخير وإن صدر علي يد العبيد وأسند إليهم، إلا أن منشأه وابتداءه هو من عند اللَّه تعالي، وقد ورد في الحديث القدسي: «إن اللَّه أولي بحسنات العبد من نفسه كما إن العبد أولي بالسيئات من اللَّه» «1».

وبعبارة أخري:

إن جملة هذه الأفعال هي أفعال من يلابس المادة أو الجسم أو النفس، وصدورها عن الباري لا بالملابسة، وإن كان ذلك الفعل لا ينفك عن الملابسة لتقوم هويته بتلك الملابسة، وتقوم نسبته إلي النفس أو المادة أو الجسم، فمن ثم تكون له نسبتان:

الأولي: نسبة إلي الباري بنحو الإبداع.

الثانية: نسبة إلي المخلوق بنحو التكوين أو التوليد.

و من ثم أشير إلي هاتين النسبتين في جملة من الآيات، وأسند الفعل إلي كل من الذات الإلهية، وإلي ذات المخلوقين، كما في:

قوله تعالي: «وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» «2»

.وقوله تعالي: «وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ» «3»

.وقوله تعالي: «وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا» «4»

.فأسند تعالي التأييد إلي كل من الذات الإلهية وإلي روح القدس والجنود الغيبية، فدخل حرف «الباء» علي مجري الفيض وواسطة الإيجاد، وكذا في:

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 154

قوله تعالي: «وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ» «1»

.وكما في قوله تعالي: «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ» «2»

.وقوله تعالي: «حَتَّيَ إذا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ» «3»

.وقوله

تعالي: «قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَي رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ» «4»

.وقوله تعالي: «اللَّهُ يَتَوَفَّي الأنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا» «5»

.فأسند الموت في هذه الآيات إلي ثلاث نسب، أي إلي كل من أعوان ملك الموت من الملائكة والرسل، وإلي ملك الموت نفسه، وإلي الذات الإلهية.

معني نسبة الفعل بإسنادين لفاعلين بالطولية … ص: 154

وقد عبر عن التوفيق بين النسب السابقة بأنها علي نحو النسب الطولية، وقد يوهم هذا التعبير ما مر من إسناد الفعل إلي الذات الإلهية من بعد، وإسناد الفعل من قرب إلي المخلوقين، وهذا معني خاطئ للطولية.

بل المراد من الطولية تقوم كل من المخلوق وفعله بالذات الإلهية، فكل شي ء قائم به، وكل حول وقوة به تعالي، أي أن المراد من الطولية افتقار الفعل والفاعل من المخلوقين إليه تعالي، والتقوم والانتهاء إليه.

وإن نسبة الفعل إلي ملك الموت وأعوانه ليس بنحو يستقل عن نسبة الفعل إلي

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 155

الباري، فنسبة الفعل إليهم ليست في عرض يغاير ويباين ويستقل عن ذات النسبة التي للباري تعالي، بل النسبة إليهم متقومة بتلك النسبة التي إليه تعالي.

ويضاف أن هناك مغايرة بين النسبتين في أن النسبة التي للملائكة ولملك الموت هي بمباشرة ملك الموت وأعوانه لنحو ما للمادة، ولارتباط معين بالروح، بخلاف نسبة الإماتة للباري تعالي، فإنها ليست بتعلق ببدن الميت ولا بمحاذاة روحية، بل بنسبة إبداعية خالية من شوب نقائص الاحتياج إلي المادة أو ما يتعلق بالمادة كالنفس.

ومن ثم ورد عنهم عليهم السلام أن معني غضب اللَّه أن يغضب أولياؤه، وأن ابتهاجه تعالي هو ابتهاج أوليائه المصطفين وهكذا، وإليك بعض الروايات:

في الكافي عن الحارث بن المغيرة النصري قال: سئل أبو عبد اللَّه عليه السلام عن قول اللَّه تبارك وتعالي: «كُلُّ شَيْ ءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» فقال عليه السلام:

«ما يقولون فيه؟ قلت:

يقولون: يهلك كل شي ء إلا وجه اللَّه. فقال: سبحان اللَّه لقد قالوا قولا عظيما، إنما عني بذلك وجه اللَّه الذي يؤتي منه» «1».

وعن حمزة بن بزيع، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في قول اللَّه عز وجل: «فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ» فقال: إن اللَّه عز وجل لا يأسف كأسفنا ولكنه خلق أولياء لنفسه يأسفون ويرضون وهم مخلوقون مربوبون، فجعل رضاهم رضا نفسه وسخطهم سخط نفسه؛ لأنه جعلهم الدعاة إليه والأدلاء عليه، فلذلك صاروا كذلك، وليس أن ذلك يصل إلي خلقه، لكن هذا معني ما قال من ذلك وقد قال: «من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ودعاني إليها»، وقال: «من يطع الرسول فقد أطاع اللَّه» وقال: «إن الذين يبايعونك إنما يبايعون اللَّه، يد اللَّه فوق أيديهم»، فكل هذا وشبهه علي ما ذكرت لك،

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 156

وهكذا الرضا والغضب وغيرهما من الأشياء مما يشاكل ذلك، ولو كان يصل إلي اللَّه الأسف والضجر، وهو الذي خلقهما وأنشأهما لجاز لقائل هذا أن يقول: إن الخالق يبيد يوما ما؛ لأنه إذا دخله الغضب والضجر دخله التغيير، وإذا دخله التغيير لم يؤمن عليه الإبادة، ثم لم يعرف المكون من المكوَّن، ولا القادر من المقدور عليه، ولا الخالق من المخلوق، تعالي اللَّه عن هذا القول علوا كبيرا، بل هو الخالق للأشياء لا لحاجة، فإذا كان لا لحاجة استحال الحد والكيف فيه، فافهم إن شاء اللَّه تعالي «1» «2».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 157

وعن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن قول اللَّه عز وجل: «وَمَا ظَلَمُونَا وَلكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» قال: إن اللَّه تعالي أعظم وأعز وأجل وأمنع من أن يظلم ولكنه خلطنا بنفسه، فجعل ظلمنا

ظلمه، وولايتنا ولايته، حيث يقول: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ» يعني الأئمة منا.

ثم قال في موضع آخر: «وَمَا ظَلَمُونَا وَلكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» «1» «2».

وكذلك ما ورد من الأفعال التي هي أليق بالمخلوقين من الخالق، فإن اللَّه لا يعتريه ما يعتري النفوس والأرواح من الأحوال والعوارض، ولا يقتصر قصور العقول.

ومن ثم نخرج بقاعدة عامة أن جملة صفات الأفعال وأسمائها، والأفعال هي مخلوقات لا هي عين الخالق، ولا هي أمور تعتري ذاته، وإنما هي مخلوقات تقوم به صدوراً، وهذه المخلوقات لها نسب إلي ذوات مخلوقة، فتتحقق فيها نسبتان نسبة إلي ذات الخالق تعالي، ونسبة إلي تلك الذوات المخلوقة، إلا أن نسبتها إلي الذات الإلهية نسبة الصدور من الخالق، وما منه الوجود ينشأ ويبتدئ، ونسبتها إلي

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 158

تلك الذوات ما به الوجود، أي ما يجري به الفيض الإلهي ويظهر بصورته ويلابسه، أي يلابس الفعل الإلهي تلك الذوات المخلوقة.

ومن ذلك يتبين أن الارتباط بالذات الإلهية وعبر فعله تعالي والذي يكون اسماً وصفة ونفس تلك الأفعال هي ذوات مخلوقة شريفة، وهي آيات دالة وكاشفة عن العظمة الإلهية، وعظمة الكمال الذاتي.

وبذلك يظهر إن الوصول والزلفي والتوجه إلي الذات الإلهية لا يقدر عليه المخلوق إلا عبر التوجه بتلك الآيات والذوات الشريفة المخلوقة، فهي وسائل للمعرفة الإلهية والقربي والزلفي للحضرة الإلهية.

فلا سبيل إلي التوحيد في الذات والصفات والأفعال بالنحو الذي ذكرناه إلا بتقرير العظمة الإلهية والكمال اللامتناهي، وهو إنما يتقرر بتقرير إن الذات الإلهية أعظم من صفات الفعل ومن أسمائها وأفعالها، وما هذه الأمور إلا آيات وعلامات علي عظمة السذات الإلهية.

لأن هذه الأمور حيث اشتملت علي نسب خلقية، فلا محال أن تكون محدودة، فلا تكون عين الخالق، بل مخلوقة

دالة عليه، ووسيلة إلي معرفة عظمته، وأنه فوقها وهي دونه، ومن ثم هي متكثرة لمحدوديتها، وهو الواحد الأحد الذي ليس له حد يكثره.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 159

الفصل الثاني تحليل مفاد وأبعاد يا محمد ويا علي … ص: 159

اشارة

فهذا اللفظ الحاكي للنداء والتوجه هو بنفسه عبادة راجحة أصيلة من جذر تعاليم الدين، فهو ذكر صلاتي عظيم ومن أحكامه الفقهية الثابتة بطلان صلاة كل مسلم دان بدين الإسلام إن لم يأت به، فكيف بما هو خارج الصلاة!!

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 161

المقام الأول: مقام النداء … ص: 159

اشارة

فيكون التركيز التربوي في الصلاة علي التوجه لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله وندائه ومخاطبته، ومخاطبة عباد اللَّه الصالحين تجذير لهذه السنة الدينية الأصيلة لدوام التوجه والاتصال برسول اللَّه صلي الله عليه و آله وعدم الانقطاع عنه، وأن بالتوجه إليه يتوجه إلي اللَّه تعالي.

إن قول «يا محمد» أو «يا علي» في التركيب اللغوي يشتمل علي «يا» النداء والمناداة، ويتضمن في معناه توجه من المنادي إلي المنادي، كما أنها تشتمل علي فعل التنبيه، أي جلب التفات المنادي للمنادي، فهي في قوام معناها توجه وخطاب يوطأ لما بعده من الكلام، وهو في نفسه بهذا القدر ليس إلا توجه وخطاب ونداء ونحو زيارة لفظية ومعنوية من بعد، كما في قول المصلي المسلم في داخل الصلاة:

«السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته» فهو في لب معناه زيارة وتوجه ونداء، فإن عبارة «أيا» من أدوات النداء مثلها مثل «يا» النداء؛ لأن النداء قد يصاغ ب «يا» وقد يصاغ ب «أيا» ونحوه.

فهذا اللفظ الحاكي للنداء والتوجه هو بنفسه عبادة راجحة أصيلة من جذر تعاليم الدين، فهو ذكر صلاتي عظيم، ومن أحكامه الفقهية الثابتة بطلان صلاة كل مسلم دان بدين الإسلام إن لم يأت به فكيف بما هو خارج الصلاة!!

وكذلك من أذكار الصلاة الشريفة قول المصلي: «السلام علينا وعلي عباد اللَّه

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 162

الصالحين» فإنه توجه وخطاب إلي عباد اللَّه الصالحين، وتكرار ذلك الخطاب والذكر في الخمس الصلوات

يمثل تربية من الدين الحنيف للمسلم علي التوجه والنداء اليومي المكرر لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله ولعباد اللَّه الصالحين أي المصطفين من حجج اللَّه تعالي.

هذا فضلا عما لو أتي العابد بالنوافل المرتبة وغيرها، فإن هذا الذكر والتوجه والنداء سيتكرر عشرات المرات.

فيكون التركيز التربوي في الصلاة علي التوجه لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله وندائه ومخاطبته ومخاطبة عباد اللَّه الصالحين تجذير لهذه السنة الدينية الأصيلة لدوام التوجه والاتصال برسول اللَّه صلي الله عليه و آله وعدم الانقطاع عنه، وأن بالتوجه إليه يتوجه إلي اللَّه تعالي، كما أن بدوام التوجه إلي الكعبة وهي أحجار يحصل التوجه إلي الباري تعالي، فقد جعل اللَّه في سورة البقرة تولية الوجه شطر المسجد الحرام هو من التولية لوجه اللَّه تعالي، فإذا كان المسجد الحرام استحق اسم وجه اللَّه فكيف بخاتم الأنبياء صلي الله عليه و آله وخاتم الأوصياء عليه السلام؟!

وقد ندب القرآن الكريم إلي التوجه إليه فقال اللَّه تعالي آمرا الناس: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا» «1».

وقال تعالي في صفة المنافقين: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ» «2».

فالذي ينقطع عن التوجه برسول اللَّه صلي الله عليه و آله فقد أخذ بسنة إبليس في استكباره عن

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 163

التوجه بآدم الذي هو خليفة اللَّه في أرضه.

وليس وراء التحسس والإثارة علي هذا الذكر الشريف «يا محمد» و «يا علي» من ثمرة إلا قطع الصلة والاتصال والارتباط والتوجه للنبي صلي الله عليه و آله والوصي عليه السلام، مع أن هذا الذكر درس في الصلاة

التي هي عمود الدين أقيم لبيان أن الصلاة لا تقبل من دون نداء النبي صلي الله عليه و آله والتوجه إليه والزيارة له ولو عن بعد، فضمنت الصلاة زيارة النبي صلي الله عليه و آله لبيان أن الصلاة كما هي معراج المؤمن هي أيضا حضور وتوجه إلي النبي صلي الله عليه و آله وزيارة له، وأنها لا تصح إلا بذلك كما لم تصح عبادة إبليس عندما رفض التوجه بآدم عليه السلام في عبادته، فكان جزاؤه أن طرد عن باب رحمة اللَّه مذؤوما مدحورا رجيما، ووجبت عليه اللعنة الإلهية إلي يوم الدين، وقد قال تعالي: «انَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّي يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ» «1».

وبضم قول اللَّه تعالي: «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَي رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ» «2»

إلي الآية السابقة نفهم أن الذي لا يتوجه إلي رسل اللَّه وحججه عليهم السلام لا تفتح له أبواب السماء لصعود عبادته ودعائه، وهذا ما يفسر لنا سر تركيز الدين علي زيارة النبي صلي الله عليه و آله وندائه والتخاطب معه والتوجه إليه ولو من بعد الديار في كل صلاة، كي تقبل وتصح وترتفع وتفتح لها أبواب السماء، بل لم يقتصر علي زيارة النبي في الصلاة اليومية مفروضة ومندوبة، وإنما ضمنت زيارة بقية الحجج عليهم السلام الذين هم عباد اللَّه الصالحين، كما نص علي ذلك القرآن الكريم حيث وصف جملة من الأنبياء بمصطلح العبد الصالح.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 164

بل ذهب الصدوق في الفقيه والمقنع والهداية، والنراقي في المستند، والنوري في المستدرك، والمفيد في المقنعة، والطوسي في النهاية، والحلبي في الكافي، وسلار في المراسم، وابن

براج في المهذب، وغيرهم، إلي هذه الصورة من التسليم الصلاتي، وصورته اللفظية كما في الفقيه: «السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته، السلام علي محمد بن عبداللَّه خاتم النبيين، السلام علي الأئمة الراشدين المهديين، السلام علي جميع أنبياء اللَّه وملائكته ورسله، السلام علينا وعلي عباد اللَّه الصالحين» «1».

وأما صورة التسليم بالكيفية المتعارفة وهي: «السلام علينا وعلي عباد اللَّه الصالحين» فعليها عامة المذاهب الإسلامية بشي يسير من الاختلاف.

ونضيف هنا أن النداء للرسول والأئمة عليهم السلام ذكر عبادي متواتر في الزيارات المأثورة للنبي صلي الله عليه و آله عند الفريقين والمتواتر من زيارات أئمة أهل البيت عليهم السلام.

فأما من طرق العامة فقد جاء في كتاب المغني:

ويروي عن العتبي قال: كنت جالسا عند قبر النبي صلي الله عليه و آله فجاء أعرابي فقال:

السلام عليك يا رسول اللَّه سمعت اللَّه يقول: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرَوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَحِيماً» وقد جئتك مستغفرا لذنبي مستشفعا بك إلي ربي. ثم أنشأ يقول:

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم

اًثم انصرف الإعرابي، فحملتني عيني فنمت فرأيت النبي صلي الله عليه و آله في النوم فقال: يا عتبي إلحق الإعرابي فبشره أن اللَّه قد غفر له.

ويستحب لمن دخل المسجد أن يقدم رجله اليمني ثم يقول بسم اللَّه والصلاة علي رسول اللَّه اللهم صلي علي محمد وعلي آل محمد واغفر لي وافتح لي أبواب

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 165

رحمتك وإذا خرج قال مثل ذلك، وقال وافتح لي أبواب فضلك، لما روي عن فاطمة بنت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ورضي اللَّه عنها أن رسول

اللَّه صلي الله عليه و آله علمها أن تقول ذلك إذا دخلت المسجد.

ثم تأتي القبر فتولي ظهرك القبلة وتستقبل وسطه وتقول السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته، السلام عليك يا نبي اللَّه وخيرته من خلقه، أشهد أن لا اله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أشهد أنك قد بلغت رسالات ربك، ونصحت لأمتك، ودعوت إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وعبدت اللَّه حتي أتاك اليقين، فصلي اللَّه عليك كثيرا كما يحب ربنا ويرضي، اللهم اجز عنا نبينا أفضل ما جزيت أحدا من النبيين والمرسلين، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته يغبطه به الأولون والآخرون، اللهم صل علي محمد وعلي آل محمد كما صليت علي إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك علي محمد وعلي آل محمد كما باركت علي إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم إنك قلت وقولك الحق: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرَوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَحِيماً» وقد أتيتك مستغفرا من ذنوبي، مستشفعا بك إلي ربي، فاسلك يا رب أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته، اللهم اجعله أول الشافعين، وانجح السائلين، وأكرم الآخرين والأولين، برحمتك يا أرحم الراحمين. ثم يدعو لوالديه ولإخوانه والمسلمين أجمعين … «1».

فتري في رواياتهم يبنون علي مشروعية نداء رسول اللَّه صلي الله عليه و آله ورجحانه، وأنه نمط من الخطاب والزيارة للنبي صلي الله عليه و آله، بل يشرعونه لقادتهم ولمن يأتمون به.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 166

نداء الرسول صلي الله عليه و آله في العبادات نوع توسل … ص: 166

فيجد المتتبع في مصادر العامة تظافر الكلمات علي مشروعية النداء ب «يا رسول اللَّه» أو «يا محمد» أو «يا نبي اللَّه»، وأن النداء نحو خطاب وزيارة وتوسل

واستغاثة واستشفاع، وأنه من الأذكار الدينية الراجحة، ولا وسوسة في رجحانه وعباديته.

ثم إن مشروعية النداء ورجحانه للنبي صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام يفيد رجحان التوجه للنبي صلي الله عليه و آله وأنه وسيلة لعبادة اللَّه، لأن كل شي ء يؤتي به في الصلاة لابد أن يكون عبادة.

فهذا التوجه إلي النبي صلي الله عليه و آله أثناء الصلاة لا بد أن يكون مؤداه عبادة اللَّه، لاسيما علي المقولة القائلة بأن أجزاء الصلاة عبادتها ذاتية أي مما يمكن أن يتقرب به إلي اللَّه ويتعبد به، وكذلك التوجه إلي عباد اللَّه الصالحين.

وهذه الضرورة التي يمارسها كل مسلم من أبناء جميع المذاهب الإسلامية باستقلالها وجه مستقل برهاني، وضرورة الشريعة علي عبادية التوسل، وأنه من وجوه العبادة الكبري التي يمارسها كل مسلم

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 167

المقام الثاني: مقام الاستغاثة … ص: 167

اشارة

يظهر أن أدلة الشفاعة القرآنية للرسول وأهل بيته عليهم السلام هي بنفسها مقتضية لتسويغ بل الحث علي طلب الحوائج من النبي صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام لأن دأب المحتاجين علي سؤال حوائجهم من الشفعاء والتوجه بطلبها إليهم.

إذا أريد من «يا محمد» و «يا علي» الاستغاثة، وهو بلحاظ متبوع الذي يذكر بعد النداء والمنادي من الطلب والتوسل في قضاء الحاجات، أو بتقدير نستغيث بك «يا محمد» و «يا علي».

صور الاستغاثة بأهل البيت عليهم السلام … ص: 167

وحينئذ فللتوسل والاستغاثة بهم بهذا المعني صور عديدة منها:

الصورة الأولي: … ص: 167

أن يقول الداعي المتوسل يا رسول اللَّه أو يا ولي اللَّه ادع اللَّه أن يرزقني، أو يقضي حاجتي وهكذا.

وقد نص القرآن الكريم علي كونه سنة إلهية، كما في قوله تعالي علي لسان أبناء يعقوب: «قَالُواْ يَا أَبانا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ* قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 168

رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» «1».

وقد ذكر في ذيل السورة قوله تعالي: «لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَي وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» «2».

فمضافا إلي تقرير النبي المعصوم صلي الله عليه و آله لطلب أبنائه، كذلك قد قرر القرآن الكريم في شريعة القرآن هذا النمط.

وهذا يدل علي سنة إلهية في ناموس الدعاء، وأنه من آداب الدعاء التوجه بالطلب إلي ولي اللَّه لأن يطلب الولي بما له من وجاهة عند اللَّه حاجة الداعي، وهذا نظير مطابق لما يحدث من استغاثة بالشفيع والوسيط والوجيه لأن يطلب ويتشفع في قضاء الحاجة، فيكون الذي يتوجه بالطلب مباشرة هو الشفيع دون المشفوع له، فهذا الرسم المرسوم في كيفية الدعاء من الآداب التي أكد عليها القرآن الكريم.

ومنه يعلم أن إنكار ذلك محاددة للقرآن الكريم.

الصورة الثانية: … ص: 169

أن يقول الداعي أسألك يا اللَّه بحق رسولك ونبيك صلي الله عليه و آله، أو وليك أن ترزقني أو أن تقضي حاجتي أو أن ترفع كربتي، أو يا اللَّه أتوجه إليك بوجاهة نبيك أو وليك عليهم السلام، وقد قامت روايات الفريقين علي مشروعية ذلك، فمن طرق السنة ما ذكره في الأذكار النووية:

وروينا في كتاب الترمذي، وابن ماجه عن عثمان بن حنيف رضي اللَّه عنه، أن

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 169

رجلا ضرير البصر أتي النبي صلي الله

عليه و آله فقال: ادع اللَّه تعالي أن يعافيني، قال: «إن شئت دعوت، وأن شئت صبرت فهو خير لك» قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلي الله عليه و آله نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلي ربي في حاجتي هذه لتقضي لي، اللهم فشفعه في» «1».

وقال ابن عابدين في حاشية رد المحتار: ج 6 ص 716: نعم ذكر العلامة المناوي في حديث: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة، عن العز ابن عبد السلام: أنه ينبغي كونه مقصورا علي النبي صلي الله عليه و آله وأن لا يقسم علي اللَّه بغيره، وأن يكون من خصائصه. انتهي

وقد قامت الضرورة بأن هذا النمط نحو من التوسل والتشفع الراجح وإنما الكلام في تعيين الأرجح في الصورتين والصور الآتية.

أقول: وأودنا كلامه وأن لم نوافقه في الحصر، بل الخصيصة والحصر هي في امتياز سيد الأنبياء بالشفاعة الكبري لا في أصل الشفاعة، كيف وقد نص القرآن الكريم علي استشفاع أبناء يعقوب به واستشفاع بني إسرائيل بموسي عليه السلام في مواطن عديدة، كما في قوله تعالي: «وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَي لَن نَّصْبِرَ عَلَيَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا» «2»

.وقوله تعالي: «وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَي ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ» «3».

وغيرها من الموارد القرآنية إلا أن الغرض من ذكر كلامه هو تقريره للتوجه بالنبي صلي الله عليه و آله في الدعاء.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 170

الصورة الثالثة … ص: 171

أن يقول المستغيث يا رسول اللَّه أو يا ولي

اللَّه أسألك قضاء الحاجة الكذائية أو يا رسول ويا ولي اللَّه أغثني، بمعني أن يكون الطلب من النبي أو الولي عليه السلام لينجز الأمر علي يديه وبإرادته باعتباره محل إرادة اللَّه وموضع مشيئته، وليس المعني والاعتقاد أن النبي الأكرم صلي الله عليه و آله أو الولي المعصوم عليه السلام يملك إنجاز الفعل بنفسه علي وجه الاستقلال والاستغناء عن اقدار اللَّه تعالي.

شواهد الصورة الثالثة … ص: 170

اشارة

وقد نص القرآن الكريم علي الصورة الثالثة في العديد من الآيات منها:

الشاهد الأول … ص: 170

في شأن الرجل الذي استعان بموسي عليه السلام في قوله تعالي: «وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَي حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلان هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَي الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَي فَقَضَي عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ» «1».

وتقريب الآية من وجهين … ص: 170

الجهة الأولي: إن الآية تخبر عن وقوع حقيقة الاستغاثة بما لها من معني وحقيقة من المستغيث، وأن المستشفع به كان النبي موسي عليه السلام، فحقيقة ما وقع من الطلب هو استغاثة حقيقية من الرجل المظلوم إلي النبي موسي عليه السلام، وأن النبي موسي عليه السلام قد أجابه ولبي استغاثته، مما يفيد كون الاستغاثة بالأنبياء عليهم السلام من السنن بعد تلبية الاستغاثة من النبي المرسل من أولي العزم.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 171

الجهة الثانية: تقرير القرآن الكريم لكون ما وقع استغاثة وأنه قد تجاوب مع هذا الفعل من النبي المرسل.

الشاهد الثاني … ص: 171

قال تعالي: «قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ* قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ واني عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ* قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فإنما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فإن رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ* قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَايَهْتَدُونَ* فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ» «1».

فإن الطلب متعلق بأمر غيبي أي ما تتعلق به القدرة الغيبية، وهو المجي بالعرش قبل أن يأتي قوم سبأ وملكتهم إلي سليمان، والذي سأل ذلك الطلب هو نبي اللَّه سليمان عليه السلام، والمسؤول والمطلوب الذي وجه إليه الطلب هو الملأ الحاضرين في مجلسه، فهو سؤال متعلق بالحاجة من الغيب لكنه قد طلب من أولياء اللَّه تعالي، أي من أعطاهم اللَّه القدرة التكوينية والولاية التكوينية علي الأمور المغيبة.

وقد وصف آصف بن برخيا بأن لديه علم من

الكتاب، وبتوسطه استطاع أن يصدر هذا الفعل ذو القدرة الغيبية، والسائل هو نبي اللَّه سليمان عليه السلام، مع أنه أعلي درجة من آصف بن برخيا وصي سليمان عليه السلام والإمام بعده.

فإذا كان هذا الفعل وهو طلب الحاجة قد صدر من نبي مرسل فهو سنة يستن بها، لاسيما بأن هذه السنة قد أقيمت في مورد الطلب ممن نعت بصفة القدرة اللدنية أي الغيبية المعطاة من اللَّه تعالي.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 172

فهذا يفيد أن السنة الإلهية في طلب الأمور ولو كانت غيبية من الأولياء الذين يعطون القدرة والولاية التكوينية من اللَّه وطلب الحاجيات منهم وإن كانت ذات منشأ غيبي هو من شرعة دين اللَّه وأوليائه، فإذا كان هذا حال طلب الحاجة والأمر ممن وصف أنه عنده علم من الكتاب أي بعض من الكتاب، فكيف حال طلب الحاجة ممن وصف بأنه عنده علم الكتاب كما هو الحال في شأن علي بن أبي طالب عليه السلام حيث قال تعالي في نعته: «كَفَي بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ» «1».

حيث إن سورة الرعد مكية، ولم يكن قد أسلم في مكة من أهل الكتاب أحد، والاحتجاج لعلي عليه السلام لمقام سيد الأنبياء صلي الله عليه و آله إنما هو بلحاظ هذا الوصف اللدني الغيبي الذي آتاه اللَّه، كما وصف بهذا الوصف أهل البيت عليهم السلام أيضا، حيث قال تعالي: «انَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ* لَّايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ» «2»

. والمطهرون نعت لأهل البيت عليهم السلام كما في آية التطهير، فهم الذين يطلعون علي الكتاب كله.

الشاهد الثالث … ص: 172

وقد وصفت قدرة الكتاب العزيز في سورة الرعد التي هي نفس السورة التي وصفت عليا عليه السلام بأن له علم

الكتاب كله، ذكرت هذه السورة أن القرآن الكريم يحيي به الموتي، وتقطع به الأرض، وتسير به الجبال، كما في قوله تعالي: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أو قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أو كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَي» «3».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 173

سبب النزول … ص: 173

قال الشيخ الطوسي: هذه الآية تتضمن وصف القرآن بغاية ما يمكن من علو المنزلة وبلوغه أعلي طبقات الجلال؛ لأنه تعالي قال: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ» من مواضعها وقلعت من أماكنها لعظم محله وجلالة قدره.

والتسيير تصيير الشي بحيث يسير، تقول سار يسير سيرا، وسيره غيره تسييرا.

«أَو قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ» لمثل ذلك، والتقطيع تكثير القطع، قطعه قطعة، وقطعه تقطيعا، والقطع فصل المتصل.

«أَو كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَي» لمثل ذلك حتي يعيشوا أو يحيوا، تقول: كلمه كلاما، وتكلم تكلما، والكلام ما انتظم من حرفين فصاعدا من الحروف المعقولة إذا وقع ممن يصح منه أو من قبيله لإفادة، و «الْمَوْتَي» جمع ميت مثل صريع وصرعي، وجريج وجرحي.

ولم يجئ جواب «لَوْ» لدلالة الكلام عليه، وتقديره: لكان هذا القرآن لعظم محله في نفسه وجلالة قدره.

وكان سبب ذلك أنهم سألوا النبي صلي الله عليه و آله أن يسير عنهم جبال مكة لتتسع عليهم المواضع، فأنزل اللَّه تعالي الآية، وبين أنه لو سيرت الجبال بكلام، لسيرت بهذا القرآن لعظم مرتبته وجلالة قدره «1».

وفي الكافي عن أبي الحسن الأول عليه السلام قال: قلت له: جعلت فداك أخبرني عن النبي صلي الله عليه و آله ورث النبيين كلهم؟ قال: «نعم، قلت: من لدن آدم حتي انتهي إلي نفسه؟ قال:

«ما بعث اللَّه نبيا إلا ومحمد صلي الله عليه و آله أعلم منه» قال: قلت: إن عيسي بن مريم كان يحيي الموتي بإذن اللَّه، قال: «صدقت وسليمان

بن داود كان يفهم منطق الطير، وكان رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يقدر علي هذه المنازل، قال: فقال: إن سليمان بن داود قال للهدهد حين فقده وشك في

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 174

أمره: «فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَي الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ» حين فقده، فغضب عليه فقال: «لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ» وإنما غضب لأنه كان يدله علي الماء، فهذا وهو طائر قد أعطي ما لم يعط سليمان وقد كانت الريح والنمل والإنس والجن والشياطين والمردة له طائعين، ولم يكن يعرف الماء تحت الهواء، وكان الطير يعرفه وأن اللَّه يقول في كتابه: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أو قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أو كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَي» وقد ورثنا نحن هذا القرآن الذي فيه ما تسير به الجبال وتقطع به البلدان، وتحيي به الموتي، ونحن نعرف الماء تحت الهواء، وأن في كتاب اللَّه لآيات ما يراد بها أمر إلا أن يأذن اللَّه به مع ما قد يأذن اللَّه مما كتبه الماضون، جعله اللَّه لنا في أم الكتاب، إن اللَّه يقول: «وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ» ثم قال: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا» فنحن الذين اصطفانا اللَّه عز وجل وأورثنا هذا الذي فيه تبيان كل شي ء» «1».

فأثبتت الآية الكريمة والرواية الشريفة أن الذي يعلم بحقيقة الكتاب والقرآن يتمكن من تسيير الجبال، وتقطيع الأرض، وإحياء الموتي.

وإذا كانت هذه القدرة معطاة من اللَّه لدنيا لصاحب علم الكتاب، فسؤال الحاجة منه الحاجة المشمولة للقدرة اللدنية التي أعطيها أو وهب إياها هي من السنن في الشريعة الإلهية علي حذو فعل النبي سليمان عليه السلام.

ومن ثم لم يخطئ اللَّه

في سورة الرعد طلب الكافرين من النبي محمد صلي الله عليه و آله إحياء الموتي، وتقطيع الأرض، وتسيير الجبال لتوسعة فجاج مكة، وبسط أرضها للزراعة كأرض الشام وإحياء أسلافهم.

لم يخطئهم في طلبهم هذا من النبي صلي الله عليه و آله، بل أقر أن هذا الطلب من متناول قدرته لعلمه بحقيقة القرآن، بل أنكر عليهم عنادهم ولجاجهم، وأن سؤالهم اقتراحي لا

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 175

بداعي الجد والصدق، ولا لأجل طلب المعرفة والإيمان.

فهذه الآية ثالثة الموارد القرآنية التي يتم طلب حاجة غيبية فيها من الأنبياء والرسل والأوصياء عليهم السلام، لاسيما مثل إحياء الموتي، وفتح باب رغيف العيش وبركات الأرض.

لا سيما وأن الآية الثالثة تثبت ذلك بنحو الدوام لمن عنده علم بحقيقة الكتاب، لأنها تبين أن هذه القدرة لا لظرف مؤقت لإبراز معجزة ثم ينتهي الأمد، بل هذه القدرة ثابتة لمن عنده علم الكتاب وحقيقة القرآن بسبب هذه الصفة.

وكذلك الحال في الآية السابقة التي تثبت القدرة علي جلب العرش بطي الأرض، فقد أثبتها القرآن الكريم لآصف بن برخيا بسبب أنه عنده علم ببعض الكتاب، أي أن هذه القدرة ثابتة له بسبب الوصف الذي يتحلي به.

ولا بد من التنبيه إلي أن المراد من العلم بالكتاب وحقيقة القرآن ليس هو العلم بظاهر المصحف الشريف، بل هو العلم بحقيقة القرآن في اللوح المحفوظ والكتاب المكنون، والكتاب المبين الذي يستطر فيه كل شي ء.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 176

الشاهد الرابع … ص: 176

قال اللَّه تعالي: «وَمَا نَقَمُواْ إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ» «1».

وقال تعالي: «وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَي اللّهِ رَاغِبُونَ» «2».

ففي الآيتين إسناد إيتاء الفضل إلي كل من اللَّه تعالي ثم لرسوله

صلي الله عليه و آله، كما فيها إسناد الغني إلي اللَّه ثم إلي رسوله صلي الله عليه و آله، وذلك لأن الإفضال والإغناء من الرسول صلي الله عليه و آله هو في حقيقته إفضال وإغناء من اللَّه تعالي بجعل رسوله مجري لفيضه تعالي «3».

فحقيقة الإفضال والإغناء واحدة، وهذا مما يقضي بأن طلب الفضل والغني من الرسول صلي الله عليه و آله هو طلب للغناء والفضل من قبل اللَّه تعالي، وأن الاستغاثة بالرسول صلي الله عليه و آله هو عين طلب المدد الإلهي.

وبعبارة أخري:

إن إسناد اللَّه الإغناء للرسول صلي الله عليه و آله بعدما أسند الإغناء إلي الذات المقدسة هو بنفسه باعث ومحرك للعباد علي طلب الحوائج من الرسول صلي الله عليه و آله والتوجه إليه، كيف

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 177

لا وقد جعله بابا لرحمته وشفيعا لهم!!

ومن ذلك يظهر أن أدلة الشفاعة القرآنية للرسول وأهل بيته عليهم السلام هي بنفسها مقتضية لتسويغ بل الحث علي طلب الحوائج من النبي صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام؛ لأن دأب المحتاجين علي سؤال حوائجهم من الشفعاء والتوجه بطلبها إليهم «1».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 178

وفي الحقيقة أن هذه الجدلية والاختلاف أشبه بالخلاف الذي وقع في فصل الدين عن السياسة، وفصل الدين عن نظام الحكم السياسي، لكنه في مقام فصل الدين عن نظام التشريع، والقول المتقدم في صدر الكلام ناشئا في الحقيقة من فصل الدين عن نظام عمارة وصناعة الطبيعة وفصل النظام الكوني والطبيعي عن نظام الآخرة.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 179

الاستغاثة بهم عليهم السلام تستوعب حاجات الروح والبدن … ص: 179

اشارة

قال البعض: مشاهد الأئمة عليهم السلام هل هي مواطن علاج روحي أو مواطن علاج بدني؟

وكان جوابه: إن ذلك يعرف من الجواب علي سؤال آخر وهو: هل أن

بيوت الأئمة عليهم السلام مواطن لمراجعة مرضي الروح أو مواطن لمراجعة مرضي البدن؟

وأجاب أن بيوت الأئمة والأنبياء عليهم السلام لم يرد لها أصلا أن تكون مستشفيات لعيادة مرضي البدن، وأن بيوتهم قبل مشاهدهم كانت عيادات لطب الأرواح، فلا تقصدوا الإمام علي أنه صاحب عيادة بدنية!!

والتعليق علي ذلك في نقاط:

النقطة الأولي: أصول عمارة الأرض منبثقة من الأولياء عليهم السلام … ص: 179

إن منع وساطة الأئمة عليهم السلام لفيض اللَّه تعالي، وكذلك حصر آثار التوسل عند قبورهم بالأثر الروحي وغيرها من المسائل في هذا المجال، تنم عن قلة إحاطة بمقامات الأئمة عليهم السلام عند اللَّه تعالي، وتنبأ عن عدم اطلاع بما أودعه اللَّه فيهم من واسطة عامة دينية وتكوينية في هذا الوجود.

والذي ينبغي أن يقال هنا تأسيسا علي المعارف الإلهية:

إن أصول عمارة الأرض كلها بنصوص الأديان السماوية فضلا عن روايات المسلمين، منبثقة من الأنبياء والأولياء عليهم السلام، نعم ينبغي جعل الحوائج الأخروية

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 180

الراجعة للجانب الروحي والشق المعنوي في الإنسان أهم في نظر الداعي والمتوسل من الحاجيات الدنيوية؛ لأن كمالات الروح أعظم وأهم وأشرف من كمالات البدن، لاسيما المعرفة باللَّه تعالي والرسول والأئمة من عترته صلي الله عليه و آله، فإنها أعظم منالا وبغية تسير بالإنسان إلي السعادة الأبدية، لكن ذلك لا ينافي صحة الرجوع إليهم من أجل إصلاح شؤون البدن الدنيوي.

النقطة الثانية: ديدن سيرة الرواة علي عموم مراجعاتهم للأئمة عليهم السلام … ص: 180

أرجع المستشكل الحكم في المسألة إلي دراسة الحالة العملية لبيوت الأئمة عليهم السلام، وقال لم يرد أصلا لها أن تكون محطاً للمراجعات البدنية، وهذا غريب جدا؛ وذلك لمخالفته لارتكاز المؤمنين في مراجعاتهم للأئمة عليهم السلام، ومخالفته للنصوص الهائلة التي أثبتت في المجاميع الروائية.

فإن المرتكز في أذهان الناس هو جامعية حامل الدين لشؤون الدنيا والآخرة، ومن ثم فلدي الفريقين روايات متواترة في أسئلة الرواة من النبي صلي الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام عن طبابة البدن كما هي عن طبابة الروح.

ونحيل القارئ علي الروايات المستفيضة بل المتواترة المثبتة في كتب الفريقين ومنها:

ما في الكافي: عن علي، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد اللَّه، عن آبائه عليهم السلام قال: شكا

رجل إلي النبي صلي الله عليه و آله وجعا في صدره فقال صلي الله عليه و آله: استشف بالقرآن فإن اللَّه عز وجل يقول: «وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ» «1».

ما ورد في كتب العامة: كما في خبر أبي داود في سننه عن سلمي خادم

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 181

رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «ما كان أحد يشتكي إلي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وجعا في رأسه إلا قال: احتجم، ولا وجعا في رجليه إلا قال: خضبهما، وزاد البخاري في تاريخه بالحناء» «1».

وعن علي بن النعمان قال: قلت للرضا عليه السلام: «إن لي أبنا، وبه الثؤلول، وقد اغتممت بأمره، فقال: خذ لكل ثؤلولة سبع شعيرات، وأقرأ علي كل شعيرة سبع مرات أول سورة الواقعة، إلي قوله: «هَبَاءً مُّنبَثّاً» وقوله عز وجل: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ …» إلي قوله «وَلَا أَمْتاً» ثم خذ الشعير، شعيرة شعيرة، فامسح بها علي الثؤلول، ثم صيرها في خرقة جديدة واربط علي الخرقة حجرا وألقها في كنيف. قال: ففعلت، فنظرت واللَّه يوم السابع أو الثامن وهو مثل راحتي. قال: وينبغي أن يعالج في محاق الشهر، فانه يذهب إن شاء اللَّه تعالي» «2».

النقطة الثالثة: عموم مرجعيتهم عليهم السلام في العلوم والشؤون المختلفة … ص: 181

قصر المستشكل السعي إلي المشاهد المشرفة في قصد المداواة الروحية والمعنوية، حملا علي ما هو الحال في البيوت المشرفة، ولكن كما تبين أن بيوتهم كانت مقصدا بالنحو المطلق ولكل المهمات فإن قبورهم كذلك ينبغي أن تقصد في كل الحاجيات؛ لأنها مواطن استجابة الدعاء بالتوسل بهم في كل الشؤون الأخروية والدنيوية الروحية والبدنية، وقد ورد استحباب الدعاء والحث عليه بأن يدعو الإنسان ويطلب الحاجة من ربه صغيرة وكبيرة، وسر ذلك معنوي توحيدي كي يستشعر الإنسان الفقر والحاجة إلي اللَّه في

كل شي ء، وأن جميع النعم هي منه تعالي.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 182

وهذا المعتقد ليس مجرد فتوي عقائدية فاقدة للدليل، وإنما هناك روايات متعددة تثبت ذلك ومن خلال السيرة العملية القائمة في حياة الأئمة عليهم السلام:

الرواية الواردة في الكافي: عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أبي هاشم الجعفري قال: بعث إلي أبو الحسن عليه السلام في مرضه، وإلي محمد ابن حمزة فسبقني إليه محمد بن حمزة وأخبرني محمد ما زال يقول: ابعثوا إلي الحير، ابعثوا إلي الحير، فقلت لمحمد: ألا قلت له: أنا أذهب إلي الحير، ثم دخلت عليه وقلت له:

جعلت فداك: أنا أذهب إلي الحير؟ فقال: انظروا في ذاك … إلي أن قال فذكرت ذلك لعلي بن بلال فقال: ما كان يصنع بالحير وهو الحير فقدمت العسكر فدخلت عليه فقال لي: اجلس حين أردت القيام فلما رأيته أنس بي ذكرت له قول علي بن بلال فقال لي: ألا قلت له: إن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله كان يطوف بالبيت ويقبل الحجر وحرمة النبي والمؤمن أعظم من حرمة البيت وأمره اللَّه عز وجل أن يقف بعرفة وإنما هي مواطن يحب اللَّه أن يذكر فيها فأنا أحب أن يدعي اللَّه لي حيث يحب اللَّه أن يدعي فيها وذكر عنه أنه قال: ولم أحفظ عنه، قال: «إنما هذه مواضع يحب اللَّه أن يتعبد له فيها فأنا أحب أن يدعي لي حيث يحب اللَّه أن يعبد» «1».

في وسائل الشيعة: عن ابن أبي عمير، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في حديث، أنه سئل عن طين الحاير هل فيه شي ء من الشفاء؟ فقال:

«يستشفي ما بينه وبين القبر علي رأس أربعة أميال، وكذلك

قبر جدي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، وكذا طين قبر الحسن وعلي ومحمد فخذ منها فإنها شفاء من كل داء وسقم وجنة مما تخاف ولا يعد لها شي ء من الأشياء الذي يستشفي بها إلا الدعاء، وإنما يفسدها ما يخالطها من أوعيتها وقلة اليقين لمن يعالج بها» «2».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 183

النقطة الرابعة: فصل الدين عن نظام الطبيعة … ص: 183

في الحقيقة إن هذا البحث يمت إلي جدل مطروح في النظرة إلي الدين علي أنه مشروع هداية تشريعية وليس مشروعا لعمارة الطبيعة نظير ما أثير في قوله تعالي:

«وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَي هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً وَبُشْرَي لِلْمُسْلِمِينَ» «1».

حيث قيل في تفسير: «تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيٍ» أنه بيان للهداية التشريعية وأصول المعارف الاعتقادية، وأما علوم الطبيعة من الفيزياء والكيمياء والأحياء والطب والجغرافيا وغيرها من العلوم الرياضية والهندسية، فليست من شأن هداية السماء ولا من اختصاصات القرآن الكريم.

إذ ليس هو دخيلا في السعادة الأخروية للبشر، ولا دخيلا في إقامة العدالة الاجتماعية في النظام الاجتماعي السياسي، ومن ثم لم يهتم الأنبياء عليهم السلام بعمارة دنيا البشرية، وإنما بعمارة الآخرة.

فالأنبياء والأولياء عليهم السلام هداة لا أطباء ومهندسون وحكام وساسة ولا محترفي صنائع ولا مهرة فنون، فلا بد أن يكون معني «تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيٍ» هو تبيان لكل شي ء في صراط الهداية والصراط المستقيم.

بل إن بعضهم ذهب إلي أن تبيان كل شي ء لا يشمل تفاصيل الشريعة وإنما يختص بأصول وكليات التشريع فضلا عن علوم الطبيعة ونحوها من أنظمة العلوم وقوانين الفنون، بينما ذهب آخرون إلي عموم الآية في عامة العلوم والمعارف أسسها وتفاصيلها، غاية الأمر إن ذلك ليس في ظاهر القرآن بل فيما خفي من

دلالته وظهوره الذي لا يلتفت إلي الإحاطة به إلا المعصوم عليه السلام، وقد أشارت إلي ذلك جملة من الآيات الأخري منها:

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 184

قوله تعالي: «وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ» «1».

وقوله تعالي: «وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ* مُّبِينٍ» «2»

. وقوله تعالي: «وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ» «3».

وقوله تعالي: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَاتَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَي وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَايَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ» «4».

ف وقوله تعالي: «انَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَي وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ» «5».

حيث تشير هذه الآيات إلي إحاطة الكتاب المبين بكل الحقائق، ليس في العالم الأرضي فحسب، بل إلي عوالم الأرضين والسماوات السبع.

وفي الحقيقة أن هذه الجدلية والاختلاف أشبه بالخلاف الذي وقع في فصل الدين عن السياسة، وفصل الدين عن نظام الحكم السياسي، لكنه في مقام فصل الدين عن نظام التشريع، والقول المتقدم في صدر الكلام ناشئا في الحقيقة من فصل

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 185

الدين عن نظام عمارة وصناعة الطبيعة وفصل النظام الكوني والطبيعي عن نظام الآخرة.

وقد يكون منشأ هذا الفصل ناشئا عن الخطأ في حساب الأولويات وإلغاء الأهم لما عداه وإلغاء الأسس للاهتمام بالتفاصيل،

وقد يكون ناشئا أيضا عن عدم كفاءة المتصدين لمعارف الدين وأحكامه لدرجة كفاءة المعصوم عليه السلام في الجمع والإحاطة بالعلوم، وهذا ما ينبه علي أن ولي الدين إن لم يكن علمه محيطا لدُنياً انعكس ذلك تلقائيا وأوجد طابعا للدين بحسب موقعه وسلوكياته.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 187

الفصل الثالث ملفات التوسل … ص: 187

اشارة

وكيف يؤمل بالقلم أن يكون أميناً في ظل إرهاب السلطة، وكم من معالم في سيرة النبي صلي الله عليه و آله قد أخفيت وزويت عن أن تصل الي مسامع أجيال المسلمين في القرون اللاحقة، ومع كل ذلك «وَيَأْبَي اللّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 189

الطائفة الأولي: استغاثة المعصومين ببعضهم البعض عليهم السلام … ص: 189

اشارة

يتبين من الرواية تشكي الإمام عليه السلام حاله للرسول صلي الله عليه و آله وبثه إليه همومه، وهو نحو من الاستغاثة والاستنجاد والطلب.

استغاثة الرسول صلي الله عليه و آله بعلي عليه السلام … ص: 189

كتاب درر المطالب قال: «خرج رسول اللَّه صلي الله عليه و آله إلي غزوة تبوك وخلف علي بن أبي طالب عليه السلام علي أهله، وأمره بالإقامة فيهم، فأرجف المنافقون وقالوا: ما خلفه إلا استقلالا به، فلما سمع ذلك أخذ سلاحه وخرج إلي النبي صلي الله عليه و آله وهو نازل بالحرق، فقال: يا رسول اللَّه زعم المنافقون أنك إنما خلفتني استقلالا بي، فقال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: كذبوا، ولكني خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، ألا ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسي إلا أنه لا نبي بعدي، فرجع إلي المدينة ومضي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله لسفره.

قال: وكان من أمر الجيش أنه انكسر وانهزم الناس عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، فنزل جبرائيل وقال: يا نبي اللَّه إن اللَّه يقرئك السلام ويبشرك بالنصرة، ويخيرك إن شئت أنزلت الملائكة يقاتلون، وإن شئت علياً 7 فادعه يأتيك، فاختار النبي صلي الله عليه و آله علياً عليه السلام، فقال جبرائيل:

در وجهك نحو المدينة وناد: يا أبا الغيث أدركني، يا علي أدركني، أدركني يا علي.

قال سلمان الفارسي: وكنت مع من تخلف مع علي عليه السلام، فخرج ذات يوم يريد الحديقة فمضيت معه، فصعد النخلة ينزل كربا، فهو ينثر وأنا أجمع، إذ سمعته يقول: لبيك لبيك ها

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 190

أنا جئتك، ونزل والحزن ظاهر عليه ودمعه ينحدر، فقلت: ما شأنك يا أبا الحسن؟

قال: يا سلمان، إن جيش رسول اللَّه صلي الله عليه و آله

قد انكسر، وهو يدعوني ويستغيث بي، ثم مضي فدخل منزل فاطمة عليها السلام وأخبرها وخرج، قال: يا سلمان، ضع قدمك موضع قدمي لا تخرم منه شيئا. قال سلمان: فاتبعته حذو النعل بالنعل سبع عشرة خطوة، ثم عاينت الجيشين والجيوش والعساكر، فصرخ الإمام صرخة لهب لها الجيشان، وتفرقوا ونزل جبرائيل إلي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وسلّم، فردّ صلي الله عليه و آله واستبشر به، ثم عطف الإمام علي الشجعان، فانهزم الجمع وولوا الدبر، ورد اللَّه الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفي اللَّه المؤمنين القتال بعلي أمير المؤمنين عليه السلام وسطوته وهمته وعلاه، وأبان اللَّه عز وجل من معجزة في هذا الموطن بما عجز عنه جميع الأمة، وكشف من فضله الباهر، وإتيانه من المدينة شرفها اللَّه في سبعة عشر خطوة، وسماعه نداء النبي صلي الله عليه و آله علي بعد المسافة، وتلبيته من أعظم المعجزات، وأدل الآيات علي عدم النظير له في الأمة» «1».

توضيح إشكال … ص: 190

سؤال: قد يتوهم أن مفاد الرواية غريب وشاذ ومن جهات متعددة:

الجهة الأولي: توهم الرواية أن أمير المؤمنين عليه السلام أشجع من سيد الأنبياء صلي الله عليه و آله، ومن ثم احتاج إليه لصد عدوان الكفار.

الجهة الثانية: في الرواية غرابة أخري، وهي تسجيل وقوع حرب بين المسلمين والروم في غزوة تبوك، مع أن المصادر التاريخية لم تذكر وقوع أي حرب، وإنما تخوف الروم وارتداعهم بمجرد السماع بمجي جيش النبي صلي الله عليه و آله، كما لم تسجل المصادر التاريخية أي حضور لعلي عليه السلام.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 191

الجهة الثالثة: في مضمون الرواية غرابة ثالثة وهي نزول آية: «وَكَفَي اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ» في غزوة تبوك مع أنها نزلت في غزوة الأحزاب.

ويرد

التوهم الأول: إن هذا الانطباع عن مفاد الرواية سطحي وفاتر جدا، فإن موقعية النبي صلي الله عليه و آله في إدارة الجيش ونظم وضع المسلمين تستدعي أن لا يباشر بنفسه الشريفة كل الأدوار كما هو الحال في غزوة بدر، فإنه قذف أخاه أمير المؤمنين عليه السلام في لهوات نار الحرب في مواطن عديدة، فلا ينكفئ حتي يطأ لهبها بأخمصه كما في مبارزة عمرو بن ود في الخندق، والمبيت علي الفراش ليلة الهجرة وفتح خيبر، حيث بعث النبي صلي الله عليه و آله أبا بكر وعمر وعمرو بن العاص، كل منهم في سرية ورجعوا منكفئين ولم يحققوا النصر، حتي بعث أخاه أمير المؤمنين عليه السلام مكدودا في ذات اللَّه مجدا ناصحا، ومن ثم قال عنه النبي في الحديث المشهور:

«أنت مني بمنزلة هارون من موسي إلا أنه لا نبي بعدي» أي أن موقعية علي عليه السلام منه صلي الله عليه و آله هي كقول موسي في أخيه هارون: «وَاجْعَل لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هَارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي» «1».

ومن ثم ورد في الحديث القدسي الشريف عن ابن شهر آشوب: من طريق المخالفين من الرسالة القوامية وحلية الأولياء، واللفظ لها: بالإسناد عن سعيد ابن جبير أنه قال أبو الحمراء: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «رأيت ليلة أسري بي مثبتا علي ساق العرش: أنا غرست جنة عدن بيدي، محمد صفوتي من خلقي، أيدته بعلي نصرته بعلي» «2».

وإلا فسيد الأنبياء صلي الله عليه و آله هو الحائز علي كل الفضائل فوق سيد الأوصياء عليه السلام،

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 192

حيث قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «كنا إذا اشتدّ البأس وحمي الوطيس اتّقينا برسول اللَّه صلي الله عليه

و آله ولذنا به» «1».

وقال علي عليه السلام عندما سئل من قبل بعضهم: أفنبي أنت؟ فقال: «ويحك إنما أنا عبد من عبيد محمد» «2» «3».

ويرد التوهم الثاني: إن عدم ذكر المصادر التاريخية لوقوع حرب في غزوة تبوك لا يعني عدم وقوعها، كيف وقد أخذ القلم السقيفي والأموي، ومن بعده القلم العباسي مأخذه في إخفاء الحقائق وطمس مجريات مسرح الأحداث، إلي درجة أخذوا يزرون بشخصية سيد الأنبياء صلي الله عليه و آله فضلا عن عترته، وليس إلا لعداوة قريش لصاحب الدعوة وعترته الطاهرة عليهم السلام.

وكيف يؤمل بالقلم أن يكون أمينا في ظل إرهاب السلطة!! وكم من معالم في سيرة النبي صلي الله عليه و آله قد أخفيت وزويت عن أن تصل إلي مسامع أجيال المسلمين في القرون اللاحقة!! ومع كل ذلك «وَيَأْبَي اللّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ».

ويرد التوهم الثالث: إن نزول الآية في الخندق لا ينافي تكرر نزولها في غزوة تبوك، فإن الآية الواحدة قد يتكرر نزولها عدة مرات، وما أشتهر بين المفسرين من قاعدة سبب النزول الواحد للآية مدفوع بما في الروايات من وقوع نزول الآية عدة مرات في مواطن بمثابة تكون كلها أسباب نزولها، فليس النزول الأول يختص بالسببية كما عرف عن سورة الحمد بالسبع المثاني، حيث تكرر نزولها.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 193

استغاثة علي عليه السلام بالرسول صلي الله عليه و آله … ص: 193

ما جاء في الروايات في وصف حال أمير المؤمنين عليه السلام عند الاحتضار:

«فقال له الحسن عليه السلام يا أبه ما دعاك إلي هذا؟ فقال له: يا بني إني رأيت جدك رسول اللَّه صلي الله عليه و آله في منامي قبل هذه الكائنة بليلة، فشكوت إليه ما أنا فيه من التذلل والأذي من هذه الأمة، فقال لي: أدع عليهم، فقلت: اللهم أبدلهم

بي شرا مني وأبدلني بهم خيرا منهم» «1».

عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن الحسن بن علي عليه السلام قال: خرجت أنا وأبي عليه السلام نصلي في هذا المسجد، فقال عليه السلام لي: يا بني إني بت الليلة أوقظ أهلي لأنها ليلة الجمعة صبيحة يوم بدر لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان فملكتني عيناي، فسنح لي رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، فقلت: يا رسول اللَّه ماذا لقيت من أمتك من الأود واللدد؟ فقال لي: ادعُ عليهم. فقلت: «اللهم أبدلني بهم من هو خير لي منهم، وأبدلهم بي من هو شر لهم مني» «2».

فيتبين من الرواية تشكي الإمام عليه السلام حاله للرسول صلي الله عليه و آله وبثه إليه همومه، وهو نحو من الاستغاثة والاستنجاد والطلب.

وتبين شكايته لجحود الأمة حقه وتمردها عن الانصياع لهدايته صلي الله عليه و آله لها، وشدة الأذي الذي لاقاه، والتظلم هو نحو طلب المعونة والمدد من المشكو إليه طلبا للنصرة والإغاثة، وقد أجابه صلي الله عليه و آله وأذن له أن يدعو لتجازي الأمة بحرمانها من قيادته، وبركة وجوده، وتدبيره ورياض عدله، وحدائق القسط التي أقامها، والهدي والصلاح الذي أفشاه فيها.

قال أمير المؤمنين عليه السلام: «لقد استرجعت الوديعة، وأخذت الرهينة، واختلست

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 194

الزهراء، فما أقبح الخضراء والغبراء، يا رسول اللَّه! أما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهد، لا يبرح الحزن من قلبي، أو يختار اللَّه لي دارك التي أنت فيها مقيم، كمد مقيح، وهم مهيج، سرعان ما فرق بيننا، وإلي اللَّه أشكو، وستنبئك ابنتك بتضافر أمتك علي وعلي هضمها حقها، فاستخبرها الحال، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلي بثه سبيلا، وستقول ويحكم اللَّه وهو خير الحاكمين»

«1».

وهذه الشكاية هي الأخري طلب من النبي صلي الله عليه و آله بتضميد جراح حليلته الزهراء عليها السلام، ونحو من بث الهم والحزن لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله استظهارا واستنصارا ليكون شاهدا علي ما يجري من انحراف المسيرة، مع أنه قد وجه الشكاية إلي اللَّه تعالي أولا تدليلا علي أن التوجه بالشكاية إلي رسول اللَّه هي شكاية إلي اللَّه تعالي وتوجه بالشكاية إلي الحضرة الإلهية، وهذا هو ما مر علينا من عقيدة كل مسلم عندما يستغيث بالنبي صلي الله عليه و آله والعترة عليهم السلام أن استغاثته بصفة اصطفائهم بالقرب من اللَّه تعالي، وأن التوجه إليهم يؤدي إلي التوجه للحضرة الإلهية؛ لأنهم باب اللَّه الأعظم الذي منه يؤتي.

استغاثة فاطمة عليها السلام بالرسول صلي الله عليه و آله … ص: 194

قال سليم بن قيس: قلت لسلمان أَدَخلوا علي فاطمة عليها السلام بغير إذنها؟ قال: أي واللَّه وما عليها خمار. فنادت: يا أبتاه، لبئس ما خلفك أبو بكر وعمر، وعيناك لم تتفقأ في قبرك، تنادي بأعلي صوتها …

فقالت فاطمة عليها السلام: يا عمر، ما لنا ولك؟ فقال: افتحي الباب وإلا أحرقنا عليكم بيتكم، فقالت: «يا عمر، أما تتقي اللَّه تدخل علي بيتي»؟ فأبي أن ينصرف، ودعا عمر بالنار

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 195

فأضرمها في الباب ثم دفعه فدخل فاستقبلته فاطمة؟ وصاحت: «يا أبتاه يا رسول اللَّه» فرفع عمر السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها فصرخت: «يا أبتاه» فرفع السوط فضرب به ذراعها فنادت: «يا رسول اللَّه، لبئس ما خلفك أبو بكر وعمر» «1».

استغاثة الحسين عليه السلام بالرسول صلي الله عليه و آله … ص: 195

في الرواية أنه خرج الحسين عليه السلام من منزله ذات ليلة وأقبل إلي قبر جده صلي الله عليه و آله فقال: «السلام عليك يا رسول اللَّه أنا الحسين بن فاطمة فرخك وابن فرختك، وسبطك الذي خلفتني في أمتك، فاشهد عليهم يا نبي اللَّه أنهم قد خذلوني، وضيعوني، ولم يحفظوني، وهذه شكواي إليك حتي ألقاك، قال: ثم قام فصف قدميه فلم يزل راكعا ساجدا».

قال: فجعل الحسين عليه السلام في منامه ينظر إلي جده ويقول: «يا جداه لا حاجة لي في الرجوع إلي الدنيا فخذني إليك وأدخلني معك في قبرك، فقال له رسول اللَّه: لا بد لك من الرجوع إلي الدنيا حتي ترزق الشهادة، وما قد كتب اللَّه لك فيها من الثواب العظيم، فإنك وأباك وأخاك وعمك وعم أبيك تحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة، حتي تدخلوا الجنة» «2».

استغاثة السجاد عليه السلام في دعائه بالنبي والأئمة عليهم السلام … ص: 195

روي محمد بن يحيي العطار عن أحمد بن محمد السياري عن العباس بن مجاهد عن أبيه قال: كان علي بن الحسين عليه السلام يدعو عند كل زوال من أيام شعبان، وفي ليلة النصف منه ويصلي علي النبي صلي الله عليه و آله بهذه الصلوات يقول: «اللهم صل علي

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 196

محمد وآل محمد شجرة النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ومعدن العلم وأهل بيت الوحي، اللهم صل علي محمد وآل محمد الفلك الجارية في اللجج الغامرة يأمن من ركبها ويغرق من تركها المتقدم لهم مارق والمتأخر عنهم زاهق واللازم لهم لاحق، اللهم صل علي محمد وآل محمد الكهف الحصين وغياث المضطر المستكين وملجأ الهاربين وعصمة المعتصمين..» «1».

وقال عليه السلام: «أسألك بحق نبيك محمد صلي الله عليه و آله، وأتوسل إليك بالأئمة عليهم السلام الذين اخترتهم لسرك، وأطلعتهم علي

خفيك، واخترتهم بعلمك، وطهرتهم وأخلصتهم واصطفيتهم وأصفيتهم وجعلتهم هداة مهديين، وائتمنتهم علي وحيك، وعصمتهم عن معاصيك ورضيتهم لخلقك، وخصصتهم بعلمك، واجتبيتهم وحبوتهم وجعلتهم حججا علي خلقك، وأمرت بطاعتهم علي من برأت، وأتوسل إليك في موقفي اليوم أن تجعلني من خيار وفدك» «2».

استغاثة الإمام الكاظم عليه السلام بالزهراء عليها السلام … ص: 196

عن علي بن أبي حمزة، عن أبي إبراهيم عليه السلام قال: قال لي: «إني لموعوكٌ منذ سبعة أشهر، ولقد وعك أبني اثني عشر شهرا وهي تضاعف علينا، أشعرت أنها لا تأخذ في الجسد كله ربما أخذت في أعلي الجسد ولم تأخذ في أسفله، وربما أخذت في أسفله ولم تأخذ في أعلي الجسد كله؟ قلت: جعلت فداك إن أذنت لي حدثتك بحديث عن أبي بصير عن جدك أنه كان إذا وعك استعان بالماء البارد فيكون له ثوبان: ثوب في الماء البارد وثوب علي جسده يراوح بينهما، ثم ينادي حتي يسمع صوته علي باب الدار يا

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 197

فاطمة بنت محمد، فقال: صدقت، قلت: جعلت فداك فما وجدتم للحمي عندكم دواء؟ فقال:

ما وجدنا لها عندنا دواء إلا الدعاء والماء البارد، إني اشتكيت فأرسل إلي محمد بن إبراهيم بطبيب له فجاءني بدواء فيه قي فأبيت أن أشربه؛ لأني إذا قييت زال كل مفصل مني» «1».

استغاثة زينب عليها السلام برسول اللَّه صلي الله عليه و آله … ص: 197

وكانت زينب تقول: «وامحمداه، صلي عليك مليك السماء، هذا حسين مرمل بالدماء، صريع بكربلاء، مقطع الأعضاء، مجزوز الرأس من القفا، مسلوب العمامة والردا، بأبي من معسكره نهبا، بأبي من فسطاطه مقطع بالعرا، بأبي من لا هو غائب فيرجي، ولا مريض فيداوي، أنا الفداء للمهموم حتي مضي، أنا الفداء للعطشان حتي قضي، أنا الفداء لمن شيبته تقطر بالدماء» «2».

ومررن علي جسد الحسين عليه السلام وهو معفر بدمائه مفقود من أحبائه، فندبت عليه زينب بصوت مشج وقلب مقروح: «يا محمداه، صلي عليك مليك السماء، هذا حسين مرمل بالدماء، مقطع الأعضاء، وبناتك سبايا وإلي اللَّه المشتكي، وإلي علي المرتضي، وإلي فاطمة الزهراء، وإلي حمزة سيد الشهداء، هذا حسين بالعراء تسفي عليه الصبا، قتيل أولاد الأدعياء،

واحزناه واكرباه، اليوم مات جدي رسول اللَّه، يا أصحاب محمداه، هذه ذرية المصطفي يساقون سوق السبايا، فأذابت القلوب القاسية والجبال الراسية» «3».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 199

الطائفة الثانية: الندب إلي الاستغاثة بالمعصومين عليهم السلام … ص: 199

يا أولياء اللَّه، إن بيني وبين اللَّه عز وجل ذنوبا لا يأتي عليها إلا رضاكم، فبحق من ائتمنكم علي سره، واسترعاكم أمر خلقه، وقرن طاعتكم بطاعته لما استوهبتم ذنوبي، وكنتم شفعائي.

روي البيهقي في خبر صحيح: «إنه في أيام عمر جاء رجل إلي قبر النبي صلي الله عليه و آله فقال: يا محمد، استسق لأمتك فسقوا» «1».

روي الطبراني وابن المكري وأبو الشيخ، أنهم كانوا جياعا، فجاءوا إلي قبر النبي صلي الله عليه و آله فقالوا: «يا رسول اللَّه: الجوع، فاشبعوا» «2».

«صلاة الاستغاثة بالبتول» تصلي ركعتين، ثم تسجد وتقول: «يا فاطمة» مائة مرة، ثم تضع خدك الأيمن علي الأرض وقل مثل ذلك، وتضع خدك الأيسر علي الأرض وتقول مثله، ثم اسجد وقل ذلك مائة وعشر دفعات، وقل: «يا آمناً من كل شي ء، وكل شي ء منك خائف حذر، أسألك بأمنك من كل شي ء وخوف كل شي ء منك أن تصلي علي محمد وآل محمد وأن تعطيني أمانا لنفسي وأهلي ومالي وولدي حتي لا أخاف أحداً ولا أحذر من شي ء أبدا إنك علي كل شي ء قدير» «3».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 200

«صلاة الغياث» عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: إذا كانت لأحدكم استغاثة إلي اللَّه تعالي فليصل ركعتين ثم يسجد ويقول: «يا محمد، يا رسول اللَّه، يا علي، يا سيد المؤمنين والمؤمنات، بكما أستغيث إلي اللَّه تعالي، يا محمد يا علي، أستغيث بكما، يا غوثاه باللَّه وبمحمد وعلي وفاطمة- وتعد الأئمة- بكم أتوسل إلي اللَّه تعالي، فإنك تغاث من ساعتك إن شاء اللَّه تعالي»

«1».

ذكر الشيخ القمي في كتاب المفاتيح لهم عليهم السلام زيارة جامعة تشتمل علي الاستئذان، والظاهر أنه رحمه الله قد رواها عن بعض كتب الشيخ والسيد ابن طاووس، ونحن نوردها اعتمادا علي أمانته في النقل، قال (تغمده اللَّه برحمته) بعد أن ذكر بعض آداب الزيارة، وقل أيضا: «يا موالي، يا أبناء رسول اللَّه، عبدكم وابن أمتكم، الذليل بين أيديكم، والمضعف في علو قدركم، والمعترف بحقكم جاءكم مستجيرا بكم قاصدا إلي حرمكم، متقربا إلي مقامكم، متوسلا إلي اللَّه تعالي بكم، أأدخل يا موالي، أأدخل يا أولياء اللَّه، أأدخل يا ملائكة اللَّه المحدقين بهذا الحرم، المقيمين بهذا المشهد» «2».

حدثني محمد بن يعقوب، عمن حدثه، عن سهل بن زياد، عن محمد بن أورمة. وحدثني أبي، عن الحسين بن الحسن بن أبان، عن محمد بن أورمة، عمن حدثه، عن الصادق وأبي الحسن الثالث عليه السلام، قال: تقول عند قبر أمير المؤمنين عليه السلام:

«السلام عليك يا ولي اللَّه، أنت أول مظلوم، وأول من غصب حقه، صبرت واحتسبت حتي أتاك اليقين، وأشهد أنك لقيت اللَّه وأنت شهيد، عذب اللَّه قاتلك بأنواع العذاب، وجدد عليه العذاب، جئتك عارفا بحقك، مستبصرا بشأنك، مواليا لأوليائك، معاديا لأعدائك ومن ظلمك، ألقي علي ذلك ربي إن شاء اللَّه تعالي، يا ولي اللَّه، إن لي ذنوبا كثيرة فاشفع لي إلي

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 201

ربك» «1».

«يا أولياء اللَّه إن بيني وبين اللَّه عز وجل ذنوبا لا يأتي عليها إلا رضاكم، فبحق من ائتمنكم علي سره، واسترعاكم أمر خلقه، وقرن طاعتكم بطاعته لما استوهبتم ذنوبي، وكنتم شفعائي» «2».

محمد بن يعقوب الكليني عن عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن محمد بن أورمة عمن حدثه عن الصادق وأبي الحسن الثالث

عليه السلام قال: تقول عند قبر أمير المؤمنين عليه السلام: «السلام عليك يا ولي اللَّه أنت أول مظلوم وأول من غصب حقه صبرت واحتسبت حتي أتاك اليقين، وأشهد أنك قد لقيت اللَّه وأنت شهيد، عذب اللَّه قاتلك بأنواع العذاب وجدد عليه العذاب، جئتك عارفا بحقك مستبصرا بشأنك معاديا لأعدائك ومن ظلمك، ألقي علي ذلك ربي إن شاء اللَّه، يا ولي اللَّه إن لي ذنوبا كثيرة فاشفع لي إلي ربك؟، فإن لك عند اللَّه مقاما محمودا وأن لك عند اللَّه جاها وشفاعة وقال اللَّه تعالي: ولا يشفعون إلا لمن ارتضي» «3».

جعفر بن محمد بن قولويه في الكامل: عن محمد بن جعفر الرزاز، عن محمد بن عيسي بن عبيد، عمن ذكره، عن أبي الحسن عليه السلام قال: تقول ببغداد: «السلام عليك يا ولي اللَّه، السلام عليك يا حجة اللَّه، السلام عليك يا نور اللَّه في ظلمات الأرض، السلام عليك يا من بدا للَّه في شأنه، أتيتك عارفا بحقك، معاديا لأعدائك، فاشفع لي عند ربك يا مولاي، قال: وادع اللَّه واسأل حاجتك، قال: وسلم بهذا علي أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام» «4». «مولاي يا حجة اللَّه، يا أمين اللَّه، يا ولي اللَّه، إن بيني وبين اللَّه ذنوبا قد أثقلت ظهري

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 202

ومنعتني من الرقاد، وذكرها يقلقل أحشائي، وقد هربت منها إلي اللَّه وإليك، فبحق من ائتمنك علي سره، واسترعاك أمر خلقه، وقرن طاعتك بطاعته، وموالاتك بموالاته، كن لي إلي اللَّه شفيعا، ومن النار مجيرا، وعلي الدهر ظهيرا، ثم انكب علي القبر وقل: يا حجة اللَّه، يا ولي اللَّه، يا باب حطة اللَّه، وليك وزائرك واللائذ بقبرك، والنازل بفنائك، والمنيخ رحله في جوارك، أسألك أن تشفع

لي إلي اللَّه في قضاء حاجتي، وانجح طلبتي في الدنيا والآخرة، فإن لك عند اللَّه الجاه العظيم والشفاعة المقبولة» «1».

أخبرنا عثمان بن عمر أخبرنا شعبة عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة عن عثمان بن حنيف: أن رجلا ضرير البصر أتي النبي صلي الله عليه و آله فقال ادعُ اللَّه أن يعافيني، فقال: إن شئت أخرت ذاك فهو أعظم لأجرك، وأن شئت دعوت اللَّه، فقال: ادعه، فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلي الله عليه و آله نبي الرحمة يا محمد، إني توجهت بك إلي ربي في حاجتي هذه لتقضي، اللهم فشفعه في عثمان بن أبي العاص» «2».

وروينا في كتاب الترمذي «سنن الترمذي، كتاب الدعوات باب 119، ح 3578»، وابن ماجه «كتاب إقامة الصلاة، باب 189، ح 1385»، عن عثمان بن حنيف رضي اللَّه عنه، أن رجلا ضرير البصر أتي النبي صلي الله عليه و آله فقال: ادع اللَّه تعالي أن يعافيني، قال: «إن شئت دعوت، وأن شئت صبرت فهو خير لك» قال فادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلي الله عليه و آله نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلي ربي في حاجتي هذه لتقضي لي، اللهم فشفعه في؛ قال الترمذي: حديث حسن صحيح» «3».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 203

الطائفة الثالثة: الندب الخاص بتوجه النداء إلي المعصومين عليهم السلام … ص: 203

اشارة

قال النبي صلي الله عليه و آله: «إنه حلقة باب الجنة من ياقوتة حمراء علي صفايح الذهب، فإذا دقت الحلقة علي الباب طنت وقالت: يا علي يا علي».

الندب الخاص بتوجه النداء إليهم بلفظ النداء وبذكرهم … ص: 203

فيما يلي مجموعة من الروايات:

من كتاب المناقب قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله: «إن للَّه عمودا من نور يضي لأهل الجنة كالشمس لأهل الدنيا لا يناله إلا علي وشيعته، وأن حلقة باب الجنة من ياقوتة حمراء طولها خمسون عاما، علي صفائح من ذهب إذا نقرت طنت وقالت في طنينها: يا علي» «1».

أقول: معناها طريق الجنة وشعارها يا علي.

عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، عن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله أنه قال: «إن حلقة باب الجنة من ياقوتة حمراء علي صفائح الذهب، فإذا دقت الحلقة علي الصفحة طنت وقالت: يا علي» «2».

روي السيد المرعشي في شرح إحقاق الحق عن مصادر العامة في أن طنين

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 204

باب الجنة يا علي يا علي قال: رواه القوم: منهم العلامة المولي محمد صالح الترمذي في «المناقب المرتضوية» (ص 85 و 223، ط بمبئي): روي من طريق الخطيب في «المناقب» قال النبي صلي الله عليه و آله: «إنه حلقة باب الجنة من ياقوتة حمراء علي صفائح الذهب، فإذا دقت الحلقة علي الباب طنت وقالت: يا علي يا علي» «1».

ابن بابويه: قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا عبد اللَّه بن الحسن المؤدب، عن أحمد بن علي الاصبهاني، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد الثقفي، قال: حدثنا محمد بن داود الدينوري، قال: حدثنا منذر الشعراني، قال: حدثنا سعد بن زيد، حدثنا أبو قبيل، عن أبي الجارود رفعه إلي النبي صلي الله عليه و آله قال: «إن حلقة باب الجنة من

ياقوتة حمراء علي صفائح الذهب، فإذا دقت الحلقة علي الصفحة طنت وقالت: يا علي» «2».

خصائص النطنزي، قيس بن أبي حازم عن ابن مسعود، قال رسول اللَّه صلي الله عليه و آله:

«علي بن أبي طالب حلقة معلقة بباب الجنة من تعلق بها دخل الجنة» «3».

قال القاضي النعمان في شرح الأخبار: ج 1، ص 141: عن مسروق، قال:

دخلت علي عائشة فقالت لي: يا مسروق: إنك من أبر ولدي بي، وإني أسألك عن شي ء فأخبرني به. فقلت: سلي يا أماه عما شئت. قالت: المخدج من قتله؟ قلت:

علي بن أبي طالب عليه السلام. قالت: وأين قتله؟ قلت علي نهر يقال لأعلاه تامرا، ولأسفله النهروان بين أحافيف «أخافيق» وطرق. فقالت: لعن اللَّه فلانا، تعني عمرو بن العاص، فإنه أخبرني أنه قتله علي نيل مصر. قال مسروق: يا أماه، فإني أسألك بحق اللَّه وبحق رسوله وبحقي فإني ابنك، لما أخبرتني بما سمعت من رسول اللَّه فيهم.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 205

قالت: سمعته يقول فيهم «أهل النهروان»: «هم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة، وأقربهم إلي اللَّه وسيلة».

رواه ابن المغازلي في المناقب عن أحمد بن محمد بن عبد الوهاب بن طاوان، عن الحسين بن محمد العلوي، عن أحمد بن محمد الجواربي، عن أحمد ابن حازم، عن سهل بن عامر البجلي عن أبي خالد الأحمر، عن مجالد، عن الشعبي، عن مسروق قال: قالت عائشة: يا مسروق إنك من ولدي، وإنك من أحبهم إلي، فهل عندك علم من المخدج؟ قال: قلت: نعم، قتله علي بن أبي طالب علي نهر يقال لأعلاه تامرا ولأسفله النهروان، بين أحفاق وطرقاء قالت: إبغني علي ذلك بينة، فأتيتها بخمسين رجلا من كل خمسين بعشرة- وكان الناس إذ ذاك أخماسا-

يشهدون أن عليا عليه السلام قتله علي نهر يقال لأعلاه تأمرا ولأسفله النهروان بين أخفاق وطرقاء. فقلت: يا أماه، أسألك باللَّه وبحق رسول اللَّه وبحقي- فإني من ولدك- أي شي ء سمعت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يقول فيه؟ قالت: سمعت رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يقول: هم شر الخلق والخليفة، يقتلهم خير الخلق والخليقة، وأقربهم إلي اللَّه وسيلة. انتهي «1».

ورواه في شرح الأخبار: ج 2 ص 59.

ما رواه السيد الأجل علي بن طاووس رضي الله عنه في كشف المحجة، نقلا عن كتاب الرسائل للشيخ الأقدم محمد بن يعقوب الكليني رضي الله عنه عمن سماه قال: كتبت إلي أبي الحسن عليه السلام: إن الرجل يحب أن يفضي إلي إمامه ما يحب أن يفضي إلي ربه، قال:

فكتب عليه السلام «إن كان لك حاجة فحرك شفتيك فإن الجواب يأتيك» «2».

وفي البحار عن عدة الداعي، عن سلمان الفارسي قال: سمعت محمدا صلي الله عليه و آله

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 206

يقول: إن اللَّه عز وجل يقول: «يا عبادي أوليس من له إليكم حوائج كبار لا تجودون بها إلا أن يتحمل عليكم بأحب الخلق إليكم، تقضونها كرامة لشفيعهم، ألا فاعلموا أن أكرم الخلق علي وأفضلهم لدي محمد صلي الله عليه و آله وأخوه علي ومن بعده الأئمة الذين هم الوسائل إلي اللَّه، ألا فليدعني من أهمته حاجة يريد نفعها أو دهته داهية يريد كشف ضررها بمحمد وآله الطيبين الطاهرين أقضها له أحسن ما يقضيها من تستشفعون بأعز الخلق عليه» «1».

في البحار: ووجدت بخط الشيخ محمد بن علي الجبعي: نقلا من خط الشيخ الأجل علي بن السكون حدثنا الشيخ الأجل الفقيه سديد الدين أبو محمد عربي بن مسافر

العبادي أدام اللَّه تأييده، قراءة عليه، حدثنا الشيخ أبو عبد اللَّه الحسين بن أحمد بن محمد بن علي بن طحال المقدادي رحمه اللَّه بمشهد مولانا أمير المؤمنين صلوات اللَّه عليه في الطرز الكبير الذي عند رأس الإمام عليه السلام في العشر الأواخر من ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وخمسمائة قال: حدثنا الشيخ الأجل السيد المفيد أبو علي الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي رضي اللَّه عنه بالمشهد المذكور علي صاحبه أفضل السلام في الطرز المذكور في العشر الأواخر من ذي القعدة سنة تسع وخمسمائة، قال: حدثنا السيد السعيد الوالد أبو جعفر محمد بن الحسن، عن محمد بن إسماعيل، عن محمد بن الحسين البزاز قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن يحيي القمي قال: حدثنا أبو عبد اللَّه محمد بن علي بن زنجويه القمي قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن عبد اللَّه بن جعفر الحميري قال أبو علي الحسن بن أشناس:

وأخبرنا أبو المفضل محمد بن عبداللَّه الشيباني أن أبا جعفر محمد بن عبد اللَّه بن جعفر الحميري أخبره وأجاز له جميع ما رواه، أنه خرج إليه توقيع من الناحية المقدسة حرسها اللَّه بعد المسائل التي سألها: والصلاة والتوجه أوله:

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 207

«لا لأمر اللَّه تعقلون، ولا من أوليائه تقبلون، حكمة بالغة فما تغن الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون، والسلام علينا وعلي عباد اللَّه الصالحين، فإذا أردتم التوجه بنا إلي اللَّه تعالي وإلينا، فقولوا كما قال اللَّه تعالي: سلام علي آل ياسين، ذلك هو الفضل المبين، واللَّه ذو الفضل العظيم، من يهديه صراطه المستقيم. التوجه: قد آتاكم اللَّه يا آل ياسين خلافته، وعلم مجاري أمره فيما قضاه ودبره ورتبه وأراده في ملكوته، فكشف لكم

الغطاء، وأنتم خزنته وشهداؤه وعلماؤه وأمناؤه، ساسة العباد، وأركان البلاد، وقضاة الأحكام، وأبواب الإيمان ومن تقديره منايح العطاء، بكم إنفاذه محتوما مقرونا فما شي ء منه إلا وأنتم له السبب، وإليه السبيل، خياره لوليكم نعمة، وانتقامه من عدوكم سخطة، فلا نجاة ولا مفزع إلا أنتم، ولا مذهب عنكم، يا أعين اللَّه الناظرة، وحملة معرفته، ومساكن توحيده في أرضه وسمائه، وأنت يا حجة اللَّه وبقيته كمال نعمته، ووارث أنبيائه وخلفائه، ما بلغناه من دهرنا، وصاحب الرجعة لوعد ربنا، التي فيها دولة الحق وفرحنا ونصر اللَّه لنا وعزنا. السلام عليك أيها العلم المنصوب، والعلم المصبوب، والغوث والرحمة الواسعة، وعدا غير مكذوب. السلام عليك صاحب المرأي والمسمع، الذي بعين اللَّه مواثيقه، وبيد اللَّه عهوده، وبقدرة اللَّه سلطانه، أنت الحليم الذي لا تعجله العصبية والكريم الذي لا تبخله الحفيظة، والعالم الذي لا تجهله الحمية» «1».

حميد بن زياد، عن الحسن بن محمد بن سماعة، عن وهيب بن حفص، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللَّه صلي الله عليه و آله قال: «ما اجتمع في مجلس قوم لم يذكروا اللَّه عزّ وجلّ ولم يذكرونا إلا كان ذلك المجلس حسرة عليهم يوم القيامة، ثم قال: قال أبو جعفر 7: إن

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 208

ذكرنا من ذكر اللَّه وذكر عدونا من ذكر الشيطان» «1».

في الاستيعاب لابن عبد البر: روي ابن عباس وأنس بن مالك أن عمر ابن الخطاب كان إذا قحط أهل المدينة استسقي بالعباس، قال أبو عمر: وكان سبب ذلك أن الأرض أجدبت إجدابا شديدا علي عهد عمر سنة سبع عشرة، فقال كعب: إن بني إسرائيل كانوا إذا قحطوا وأصابهم مثل هذا استسقوا بعصبة الأنبياء، فقال عمر: هذا عم النبي صلي الله عليه

و آله وصنو أبيه وسيد بني هاشم، فمضي إليه عمر فشكي إليه ما فيه الناس ثم صعد المنبر ومعه العباس فقال: «اللهم إنا قد توجهنا إليك بعم نبينا وصنو أبيه فاسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين» «2».

عن أنس بن مالك أنهم كانوا إذا قحطوا علي عهد عمر خرج بالعباس فاستسقي به وقال اللهم إنا كنا نتوسل بنبينا إذا قحطنا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا.. وعن ابن عمر أن عمر خطب الناس وقال: «أيها الناس إن رسول اللَّه صلي الله عليه و آله كان يري للعباس ما يري الولد لوالده يعظمه ويفخمه ويبر قسمه، فاقتدوا أيها الناس برسول اللَّه صلي الله عليه و آله في عمه العباس واتخذوه وسيلة إلي اللَّه عز وجل فيما نزل بكم» «3».

حديث حسن صحيح تفرد به الزبير بن بكار، خرجه الحافظ الدمشقي.

ثم قال: «يا أبا الفضل قم فأدعو اللَّه، فقام العباس يحمد اللَّه ويثني عليه ويدعو إلي أن قال: اللهم … وقد توجه القوم بي إليك فاسقنا الغيث.

قال: فأرخت السماء غزالها، وأخصبت الأرض فقال عمر: هذي واللَّه الوسيلة إلي اللَّه، والمكان منه» «4».

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 209

الفتاوي الدينية … ص: 209

قال السيد الخوئي:

قول القائل: أدركنا يا علي لا مانع منه وهو يقصد التوسل به إلي اللَّه، وهل هناك مانع من قول الغريق أو الحريق ومن إليهما حين يستغيث بمن ينقذه فيقول: يا فلان أنقذني؟!

ملف الفتاوي الدينية

سؤال 1426: من الرسوم في هذه البلاد أن المؤمنين يستغيثون بالإمام الحجة عليه السلام بعد كل صلاة، ويقولون: يا صاحب الزمان يا ابن الحسن العسكري عجل علي ظهورك.

واستشكل عليهم بعض العلماء: بأن هذا ينافي عقيدة الشيعة، فإن الإمام لا يملك أمره، والدعاء لا بد أن يكون من

اللَّه، فهل يرد هذا الإشكال ويحرم مثل هذه الاستغاثة أم لا؟

الخوئي: الإشكال المذكور غير وارد، فإن الغرض من الجملة المذكورة الدعاء والالتماس منه عليه السلام بتعجيل ظهوره بطلبه عليه السلام من اللَّه تعالي ذلك، كما هو الحال في سائر الأدعية المشتملة علي طلب الحوائج من الأئمة الأطهار، فإن معني ذلك هو جعلهم: واسطة عند اللَّه تعالي، وقد ذكر مضمونه في ذيل دعاء العهد الوارد في

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 210

صباح أربعين يوما عن الصادق عليه السلام، واللَّه العالم. انتهي «1»

أقول: ويستقيم الطلب منهم عليهم السلام بداعي أن يمنحوا ما أقدرهم اللَّه عليه، وأذن لهم في إعطائه، وهذا معني الشفاعة التكوينية الذي مر بيانها في المطالب السابقة، وهو لا يعني استقلالهم لا ذاتا ولا فعلا فيما أقدروا عليه.

سؤال 1306: هل يجوز طلب الولد أو الرزق أو الحفظ والأمان إلي غير ذلك، من المعصومين عليهم السلام مباشرة، لا لأنهم يخلقون أو يرزقون وإنما لأنهم الوسيلة إلي اللَّه تعالي والشفعاء إليه بقضاء الحاجات، ولأنهم لا يفعلون شيئا إلا بإذنه جل شأنه فهم يسألونه فيخلق ويسألونه فيرزق، ولا ترد لهم مسألة أو دعاء لمنزلتهم منه جل شأنه ولولايتهم علينا، وقد قال تعالي: «وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ» و «يَبْتَغُونَ إِلَي رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ»؟

الخوئي: لا بأس بذلك القصد. انتهي «2»

أقول: مر عدم الحصر بذلك الذي قد مر.

سؤال 1313: المتعارف حال النهوض أو القيام أو حال أي عمل الاستنجاد بالنبي صلي الله عليه و آله أو الإمام علي عليه السلام أو أحد الأئمة عليهم السلام، فهل يجوز ذلك عن قصد، علما أن الاعتقاد هو أنهم الباب إلي اللَّه تعالي؟

الخوئي: لا بأس بتوسيطهم والاستشفاع بهم إلي اللَّه تعالي كوسيلة في قضائه هو حوائج المتوسلين؛ لأنه تعالي

رغب في التوسل بقوله تعالي: «وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ». انتهي «3»

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 211

أقول: قد مر أن الأفعال والقدرات التي وكل بها الملائكة أو الأولياء عليهم السلام ليست معزولة عن قدرة اللَّه وفعله، بل قائمة به، فتسند مآلا إليه وإن كانت لها نسبة ملابسية إلي الموكلين، وهذه النسبة قائمة بالنسبة والإسناد إليه تعالي.

سؤال 993: ما معني العبارة الواردة في دعاء رجب اليومي: «لا فرق بينك وبينها إلا أنهم عبادك»؟

الخوئي: لعلها تشير إلي أنهم مع بلوغهم في مرتبة الكمال إلي حد نفوذ التصرف منهم في الكون بإذنك، فهم مقهورون لك؛ لأنهم مربوبون لك، لا حيلة لهم دون إرادتك ومشيتك فيهم بما تشاء. واللَّه العالم. انتهي «1»

أقول: ويمكن أن يفسر بأن ظهور اللَّه تعالي في كافة شؤونه بالآيات، والآيات علامات عليه، وصور يظهر بها، فرؤيتها رؤيته، إلا أنها مخلوقة له، فما تقدم من جوابه؟ بيان للتوحيد بالتوسل في مقام الفعل، وما ذكرناه بيان للتوحيد بالتوسل في مقام الصفات والذات.

سؤال 996: ما حكم قول: أدركنا يا علي، ويا أبا الغيث أغثنا وغير ذلك؟

الخوئي: قول القائل: أدركنا يا علي لا مانع منه وهو يقصد التوسل به إلي اللَّه، وهل هناك مانع من قول الغريق أو الحريق ومن إليهما حين يستغيث بمن ينقذه فيقول: يا فلان أنقذني؟! وهناك آية في القرآن الكريم تؤيد ذلك، وهي قوله تعالي:

«وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرَوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَحِيماً». صدق اللَّه العلي العظيم.

التبريزي: يضاف إلي جوابه؟: ويزاد علي ذلك قوله تعالي: «وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ». انتهي «2»

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 212

أقول: هذا الجواب منه؟ يقرر أن التوسل قد يكون بمعني الطلب منهم فيما أقدرهم اللَّه عليه، وأذن لهم في

فعله.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 213

كلمات العلماء من الفريقين … ص: 213

قال العلامة الأميني:

هناك جماعة من الحفاظ وأعلام أهل السنة بسطوا القول في التوسل وقالوا: إن التوسل بالنبي جائز في كل حال قبل خلقه وبعده في مدة حياته في الدنيا وبعد موته..

ملف كلمات العلماء من الفريقين

قال الأصفهاني:

يمكن أن يقال إن من جملة فوائد وجود الإمام عليه السلام ووظائفه وعاداته ومناصبه علي ما يظهر من الروايات إعانة الملهوفين، وإغاثة المستغيثين، بل لا ريب في أن أحدا من الناس إذا كان من رعية رئيس قادر مطاع وبغي عليه، دله أحبته إلي التظلم لدي ذلك الرئيس، ولو ترك ذمه العقلاء بتركه عرض حاجته عليه. انتهي «1»

أقول: يشير إلي أن نصب اللَّه تعالي للنبي وأهل بيته عليهم السلام ولاة علي الأمة، بنفسه يقتضي كونهم شفعاء ووسطاء ما بين اللَّه وخلقه، ألا تري إلي قوله تعالي: «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ» «2».

الدالة علي أن حساب الأمم لا يقام إلا بمجي رسول وإمام كل أمة.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 214

وكذلك قوله تعالي: «وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَي هَؤُلاء» «1».

وقوله تعالي: «هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا» «2».

فجعل النبي وأهل بيته عليهم السلام من ذرية إبراهيم وإسماعيل عليه السلام أشهادا علي الناس، فأعمال العباد مرتهنة في العرض علي اللَّه تعالي بحججه من أنبيائه ورسله وأوصيائه.

قال الأميني:

وأما الاستغاثة والنداء والانقطاع وما أشار إليها، فلا تعدو أن تكون توسلا بهم إلي المولي سبحانه، واتخاذهم وسائل إلي نجح طلباتهم عنده جلت عظمته، لقربهم منه وزلفتهم إليه ومكانتهم عنده؛ لأنهم عباد مكرمون،

لا لأن لذواتهم القدسية دخلا في إنجاح المقاصد أولا وبالذات، لكنهم مجاري الفيض، وحلقات الوصل، ووسايط بين المولي وعبيده، كما هو الشأن في كل متقرب من عظيم يتوسل به إليه.

وهذا حكم عام للأولياء والصالحين جميعا وإن كانوا متفاوتين في مراحل القرب، كل هذا مع العقيدة الثابتة بأنه لا مؤثر في الوجود إلا اللَّه سبحانه، ولا تقع في المشاهد المقدسة كلها من وفود الزائرين إلا ما ذكرناه من التوسل، فأين هذه من مضادة التوحيد؟! انتهي «3»

أقول: قد مر أن التوسل هو الطريق الحصري للتوحيد، وليس الكلام في عدم المضادة وأصل المشروعية، بل في الضرورة واللابدية.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 215

قال الأميني:

هناك جماعة من الحفاظ وأعلام أهل السنة بسطوا القول في التوسل وقالوا: إن التوسل بالنبي جائز في كل حال، قبل خلقه وبعده في مدة حياته في الدنيا وبعد موته في مدة البرزخ وبعد البعث في عرصات القيامة والجنة وجعلوه علي ثلاثة أنواع:

(1) طلب الحاجة من اللَّه تعالي به أو بجاهه أو لبركته، فقالوا: إن التوسل بهذا المعني جائز في جميع الأحوال المذكورة.

(2) التوسل به بمعني طلب الدعاء منه، وحكموا بأن ذلك جائز في الأحوال كلها.

(3) الطلب من النبي صلي الله عليه و آله ذلك الأمر المقصود، بمعني أنه صلي الله عليه و آله قادر علي التسبب فيه بسؤاله ربه وشفاعته إليه، فيعود إلي النوع الثاني في المعني غير أن العبارة مختلفة، وعدوا منه قول القائل للنبي صلي الله عليه و آله: أسألك مرافقتك في الجنة.

وقول عثمان ابن أبي العاص: شكوت إلي النبي صلي الله عليه و آله سوء حفظي للقرآن، فقال:

ادن مني يا عثمان، ثم وضع يده علي صدري وقال: اخرج يا شيطان من صدر عثمان، فما

سمعت بعد ذلك شيئا إلا حفظت.

وقال السبكي في «شفاء السقام»: والآثار في ذلك كثيرة أيضا، إلي أن قال: فلا عليك في تسميته توسلا، أو تشفعا، أو استغاثة، أو توجها «1».

قال العلامة الطباطبائي:

ربما يظن أن ما ورد في الأدعية من الاستشفاع بالنبي وآله المعصومين صلوات اللَّه عليهم، ومسألته تعالي بحقهم، وزيارة قبورهم، وتقبيلها والتبرك

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 216

بتربتهم، وتعظيم آثارهم، من الشرك المنهي عنه وهو الشرك الوثني، محتجا بأن هذا النوع من التوجه العبادي فيه إعطاء تأثير ربوبي لغيره تعالي وهو شرك، وأصحاب الأوثان إنما أشركوا لقولهم في أوثانهم: إن هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه، وقولهم: إنما نعبدهم ليقربونا إلي اللَّه زلفي، ولا فرق في عبادة غير اللَّه سبحانه بين أن يكون ذلك الغير نبيا أو وليا أو جبارا من الجبابرة أو غيرهم، فالجميع من الشرك المنهي عنه.

وقد فاتهم أولا: أن ثبوت التأثير سواء كان ماديا أو غير مادي في غيره تعالي ضروري لا سبيل إلي إنكاره، وقد أسند تعالي في كلامه التأثير بجميع أنواعه إلي غيره، ونفي التأثير عن غيره تعالي مطلقا يستلزم إبطال قانون العلية والمعلولية العام الذي هو الركن في جميع أدلة التوحيد، وفيه هدم بنيان التوحيد، نعم المنفي من التأثير عن غيره تعالي هو الاستقلال في التأثير ولا كلام لأحد فيه، وأما نفي مطلق التأثير ففيه إنكار بديهة العقل والخروج عن الفطرة الإنسانية، ومن يستشفع بأهل الشفاعة الذين ذكرهم اللَّه في مثل قوله: «وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» «1»

وقوله: «وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَي» «2»

، أو يسأل اللَّه بجاههم ويقسمه بحقهم الذي جعله لهم عليه بمثل قوله مطلقا: «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ

الْمَنصُورُونَ* وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ» «3»

وقوله: «انَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا» «4»

، أو يعظمهم ويظهر حبهم بزيارة قبورهم وتقبيلها والتبرك بتربتهم بما أنهم آيات اللَّه وشعائره تمسكا بمثل قوله تعالي: «ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 217

مَا يُتْلَي عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» «1»

، وآية القربي وغير ذلك من كتاب وسنة، فهو في جميع ذلك يبتغي بهم إلي اللَّه الوسيلة وقد قال تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ» «2»

فشرع به ابتغاء الوسيلة، وجعلهم بما شرع من حبهم وتعزيرهم وتعظيمهم وسائل إليه، ولا معني لا يجاب حب شي ء وتعظيمه وتحريم آثار ذلك، فلا مانع من التقرب إلي اللَّه بحبهم وتعظيم أمرهم وما لذلك من الآثار، إذا كان علي وجه التوسل والاستشفاع من غير أن يعطوا استقلال التأثير والعبادة البتة.

وثانيا: أنه فاتهم الفرق بين أن يعبد غير اللَّه رجاء أن يشفع عند اللَّه أو يقرب إلي اللَّه، وبين أن يعبد اللَّه وحده مع الاستشفاع والتقرب بهم إليه، ففي الصورة الأولي إعطاء الاستقلال وإخلاص العبادة لغيره تعالي، وهو الشرك في العبودية والعبادة، وفي الصورة الثانية يتمحض الاستقلال للَّه تعالي ويختص العبادة به وحده لا شريك له، وإنما ذم تعالي المشركين لقولهم: «إنما نعبدهم ليقربونا إلي اللَّه زلفي» حيث أعطوهم الاستقلال وقصدوهم بالعبادة دون اللَّه سبحانه، ولو قالوا: إنما نعبد اللَّه وحده ونرجو مع ذلك أن يشفع لنا ملائكته أو رسله وأولياؤه بإذنه أو نتوسل إلي اللَّه بتعظيم شعائره وحب أوليائه، لما كفروا بذلك بل عادت شركاؤهم كمثل الكعبة في الإسلام هي وجهة وليست بمعبودة، وإنما يعبد بالتوجه إليها اللَّه.

وليت شعري ماذا

يقول هؤلاء في الحجر الأسود وما شرع في الإسلام من استلامه وتقبيله؟ وكذا في الكعبة؟ فهل ذلك كله من الشرك المستثني من حكم الحرمة؟ فالحكم حكم ضروري عقلي لا يقبل تخصصا ولا استثناء، أو أن ذلك من

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 218

عبادة اللَّه محضا وللحجر حكم الطريق والجهة، وحينئذ فما الفرق بينه وبين غيره إذا لم يكن تعظيمه علي وجه إعطاء الاستقلال وتمحيض العبادة، ومطلقات تعظيم شعائر اللَّه وتعزير النبي صلي الله عليه و آله وحبه ومودته وحب أهل بيته ومودتهم وغير ذلك في محلها «1».

أقول: الظاهر أن تأليه المشركين للأصنام والأوثان لم يكن بزعم استقلال تلك الذوات في الوجود عن خلق الباري، ومن الظاهر حصرهم الخلق باللَّه كما يشير إلي ذلك قوله تعالي: «وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» «2».

وإنما إشراكهم في استقلال المشركين بنصب وسائط بينهم وبين اللَّه غير مأذونين فيها، كما تشير إلي ذلك جملة من الآيات التي مرت، وبالتالي فعبودية المشركين للأصنام والأوثان منطلقة من تزلفهم وتعظيمهم لها بغير إذن وأمر من اللَّه، فأطاعوهم وقصدوهم بغير أمر من اللَّه وطاعته، فلم تكن عبودية للَّه بل طاعة وطوعانية وهي العبودية لغير اللَّه تعالي.

ومن ثم يؤكد القرآن في آيات عديدة كما أشارت إلي ذلك روايات أهل البيت أيضاً، إلي أن جملة العبادات لغير للَّه كانت في الطاعة لغير اللَّه، وطاعة غير من أمر اللَّه بطاعته، وتعظيم غير من أمر اللَّه بتعظيمه، والتوجه إلي غير من أمر اللَّه بالتوجه إليه، وهو معني اتخاذ المشركين إلي للأصنام الطينية والأوثان الحجرية، كذا هو معني اتخاذ الأصنام البشرية والأوثان من بني الإنسان، فالصنم والوثن البشري الذي قد تتخذه جماعة مناوئة للحق

هو بنصبهم من يطيعوه بغير أمر اللَّه، ومن يعظمه

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 219

بغير إذن اللَّه بتعظيمه، وبأن يتوجهوا به إلي اللَّه مع إنه يصد عن سبيل اللَّه كما يشير إلي ذلك قوله تعالي: «اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبانهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» «1».

وكما يشير إلي ذلك قول الصادق عليه السلام في ذيل هذه الآية: «واللَّه ما سجدوا لهم وما ركعوا لهم، ولكن أطاعوهم» كيف لا وحقيقة العبودية هي الطاعة والطوعانية كاستحقاق للمطاع بذاته.

وكذا قوله تعالي: «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّاتَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ» «2».

إذ الطوعانية هي الخضوع والانقياد، فالعمدة في الفارق بين التوحيد والشرك، والتوحيد والصنمية هو ما مر، وفي الحقيقة إن القول باستحقاق الطاعة لمطاع لذاته يرجع إلي القول باستقلاله في الحول والقوة، وإلي افتقار العابد المطيع له في ذلك الحول والقوة والوجود.

فالطاعة بداعي الاستحقاق للذات وهي الشرك في الولاية تؤول إلي الشرك في الذات والشرك في الحكم، فالنكير في القرآن علي المشركين والوثنيين لا لأنهم يدعون استقلال ذوات الأصنام أو الأرواح المرسلة المرتبطة بها، ولا لزعمهم ضرورة أصل الوساطة والشفاعة بين الخلق والخالق، بل لكون اتخاذها لهم هو بغير اللَّه وإذنه.

ومن ثم فالوثنية والصنمية باقية ضمن أشكال بشرية، كما ورد مستفيضاً في روايات أهل البيت عليهم السلام: «أن من أطاع وتولي من لم يأمر اللَّه بطاعته وولايته فهو وثن

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 220

يعبد من دون اللَّه» «1»

، وفي المقابل إن التوحيد يقام بطاعة وتولي المنصوبين من قبل اللَّه تعالي للطاعة، لكونهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 221

سئل آية

اللَّه التبريزي:

هل يجوز الاعتقاد بأن النبي والأئمة المعصومين عليهم السلام هم العلة الفاعلية والمادية، والصورية والغائية لجميع الخلائق؟ وهل يجوز إطلاق هذه الألفاظ عليهم؟ وما حكم من يعتقد ذلك؟.

قال في الجواب: إن خلق الدنيا ومن فيها، وكذا خلق الآخرة ومن فيها، وما فيها كله من فعل اللَّه عز وجل ومشيئته، وبما أن اللَّه سبحانه وتعالي حكيم لا يخلق شيئا عبثا، فالغرض من خلق الدنيا وما فيها هو أن يعرف الناس ربهم، ويصلوا إلي كمالاتهم، بإطاعة اللَّه سبحانه وتعالي، والتقرب إليه، وهذا يقتضي اللطف من اللَّه بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، ونصب الأوصياء والأئمة عليهم السلام ليأخذ الناس منهم سبيل الاهتداء، وبما أن الحكمة هي ما ذكر في الخلق حيث يفصح عنه قوله تعالي:

«وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» وبضميمة قوله سبحانه: «خَلَقَ لَكُم مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» يعلم أن الغاية من خلق الإنس والجن هي خلق الذين يعرفون اللَّه سبحانه ويعبدونه، ويهتدون بالهدي، والسابقون علي ذلك في علم اللَّه سبحانه الذين يعيشون في الدنيا وسيلة لكسب رضا ربهم، والتفاني في رضاه هم الأنبياء والأوصياء والأئمة «سلام اللَّه عليهم أجمعين» والسابقون في هذه المرتبة هم نبينا محمد والأئمة الأطهار «صلي اللَّه عليهم أجمعين» من بعده.

وبذلك يصح القول أنهم علة غائية لخلق العباد، لا بمعني أن الخالق يحتاج إلي الغاية، بل لأن إفاضة فيض الوجود بسبب ما سبق في علمه أنهم السابقون الكاملون في الغرض والغاية من الفيض، واللَّه العالم «1».

أقول: تقدير كونهم عليهم السلام علة غائية يستلزم كونهم علة فاعلية كما هو مقرر في علوم الحكمة، إلا أن الصحيح إنهم علة غائية في الفعل، وهي ليست علة غائية نهائية، بل العلة

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 222

الغائية النهائية هي

اللَّه تعالي فليس وراء اللَّه تعالي منتهي، كما إنه تعالي العلة الفاعلية الأولي فمنه ينشأ الوجود وإليه يعود ويتقوم، وهم وسائط فيضه والشهداء علي خلقه في المعاد.

قال القسطلاني في (المواهب اللدنية):

وينبغي للزائر له صلي الله عليه و آله أن يكثر من الدعاء والتضرع والاستغاثة والتشفع والتوسل به صلي الله عليه و آله فجدير بمن استشفع به أن يشفعه اللَّه فيه. قال: وأن الاستغاثة هي طلب الغوث فالمستغيث بطلب من المستغاث به إغاثته أن يحصل له الغوث، فلا فرق بين أن يعبر بلفظ الاستغاثة أو التوسل أو التشفع أو التوجه أو التجوه؛ لأنهما من الجاه والوجاهة ومعناهما علو القدر والمنزلة، وقد يتوسل بصاحب الجاه إلي من هو أعلي منه.

قال: ثم إن كلا من الاستغاثة والتوسل والتشفع والتوجه بالنبي صلي الله عليه و آله كما ذكره في تحقيق النصرة ومصباح الظلام واقع في كل حال قبل خلقه وبعد خلقه في مدة حياته في الدنيا وبعد موته في البرزخ وبعد البعث في عرصات القيامة.

ثم فصل ما وقع من التوسل والاستشفاع به صلي الله عليه و آله في الحالات المذكورة «1».

قال ابن عابدين في حاشية رد المحتار: ج 6 ص 716:

نعم ذكر العلامة المناوي في حديث: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة، عن العز بن عبد السلام أنه ينبغي كونه مقصورا علي النبي صلي الله عليه و آله، وأن لا يقسم علي اللَّه بغيره، وأن يكون من خصائصه «2».

أقول: القسم علي اللَّه ليس تحتيم شي ء علي إرادة اللَّه تعالي؛ لأن اللَّه تعالي لا يبرمه إلحاح الملحين، وإنما القسم علي اللَّه تعالي يرجع إلي استجارة من يقسم بالمقسم به لما

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 223

للمقسم به من حرمة عند

اللَّه تعالي، فيلوذ به بما له من حرمة وجاه عند اللَّه من نعمة اللَّه وسخطه، أو لاستنزال رزقه فهو نوع تشفع بالمقسم به وتوجهاً به علي المقسوم عليه، وعلي ذلك فيعم القسم الذي هو نوع استشفاع وتوسل كل من له جاه وحظوة عند اللَّه تعالي وإن كانت مراتب المقسوم به مختلفة في الشفاعة والوسيلة.

قال الشربيني في مغني المحتاج: ج 1 ص 184 خاتمة:

سئل الشيخ عز الدين هل يكره أن يسأل اللَّه بعظيم من خلقه كالنبي والملك والولي عليه السلام فأجاب بأنه جاء عن النبي صلي الله عليه و آله أنه علم بعض الناس: اللهم إني أقسم عليك بنبيك محمد نبي الرحمة الخ.

فإن صح فينبغي أن يكون مقصورا عليه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه سيد ولد آدم، ولا يقسم علي اللَّه بغيره من الأنبياء والملائكة؛ لأنهم ليسوا في درجته، ويكون هذا من خواصه، والمشهور أنه لا يكره شي ء من ذلك «1».

نقل ابن كثير في البداية ج 1 ص 45:

أن ابن تيمية أقر أخيرا في المجلس الذي عقده له العلماء العاملون الربانيون المجاهدون بالتوسل وأصر علي إنكار الاستغاثة، مع أنه يقول في رسالة خاصة له في الاستغاثة بجوازها بالنبي فيما يقدر عليه المخلوق.

واعتمد الإمام الحافظ النووي استحباب التوسل والاستغاثة في مصنفاته، كما في حاشية الإيضاح علي المناسك له (ص 450) و (ص 498) من طبعة أخري، وفي شرح المهذب المجموع (8، 274) وفي الأذكار (ص 307) من طبعة دار الفكر، في كتاب أذكار الحج، وص (184) من طبعة المكتبة العلمية.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 224

وهو مذهب الشافعية وغيرهم من الأئمة المرضيين المجمع علي جلالتهم «1».

أقول: قد مر مراراً أن التوسل والاستغاثة والتوجه والاستشفاع والسؤال كلها من باب واحد وحقيقة

واحدة، ذات حيثيات ووجوه متلازمة، فتسويغ أحدها ومنع الأخري، أو حسبان تباينها ناجم من عدم درك معانيها بغور وعمق ودرجات وأنواع كل منها، وأما تسويغ بن تيمية الاستغاثة بما يقدر عليه المخلوق فقد عرفت أن جملة الأشياء المخلوقة والتي تسأل للداعي هي ذات نسبة إلي الذوات المخلوقة التي هي مجري الفيض الإلهي المتقوم بتلك النسبة بالإسناد والنسبة إلي الذات الإلهية استمدادا وإيجاداً باعتبار أنه منشأ الوجود.

وقد ذكر القرآن الكريم أفعال كونية مهولة أسندها إلي الملائكة الكرام من دون أن يعني ذلك عزل القدرة الإلهية أو عدم التقوم بها بالحول والقوة والقدرة الإلهية.

قال الآلوسي في تفسيره روح المعاني بعد استعراضه أطراف بحث التوسل وآراء العلماء فيه:

وبعد هذا كله أنا لا أري بأسا في التوسل إلي اللَّه تعالي بجاه النبي صلي الله عليه و آله عند اللَّه تعالي حيا وميتا ويراد من الجاه معني يرجع إلي صفة من صفاته تعالي، مثل أن يراد به المحبة التامة المستدعية عدم رده وقبول شفاعته، فيكون معني قول القائل:

إلهي أتوسل بجاه نبيك صلي الله عليه و آله أن تقضي لي حاجتي، إلهي اجعل محبتك له وسيلة في قضاء حاجتي.

ولا فرق بين هذا وقولك: إلهي أتوسل برحمتك أن تفعل كذا إذ معناه أيضا إلهي اجعل رحمتك وسيلة في فعل كذا.

بل لا أري بأسا أيضا بالإقسام علي اللَّه تعالي بجاهه صلي الله عليه و آله بهذا المعني والكلام

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 225

في الحرمة كالكلام في الجاه..

وقال: إن التوسل بجاه غير النبي صلي الله عليه و آله لا بأس به أيضا إن كان المتوسل بجاهه مما علم أن له جاها عند اللَّه تعالي، كالمقطوع بصلاحه وولايته، وأما من لا قطع في حقه بذلك فلا

يتوسل بجاهه لما فيه من الحكم الضمني علي اللَّه تعالي بما لم يعلم تحققه منه عز شأنه وفي ذلك جرأة عظيمة علي اللَّه تعالي «1». انتهي «2»

أقول: تعليقا علي كلام بن تيمية والآلوسي:

ما ذكره بن تيمية ثلاثة أقسام:

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 226

القسم الأول: التوسل بإيمان الشخص بالنبي ومحبته له.

القسم الثاني: التوسل بدعاءِ النبي و شفاعته.

القسم الثالث: التوسل بذات النبي الشريفة.

وأضاف الآلوسي قسماً رابعاً، وهو التوسل بجاه النبي صلي الله عليه و آله عند اللَّه حياً وميتاً بما يرجع إلي صفة إلهية، أي إن محبة اللَّه ورحمته لنبيه.

وليت شعري كيف يعظم الإيمان بالنبي صلي الله عليه و آله ويجعل وسيلة دون ذات النبي، مع أن الإيمان لم يكن إيماناً إلا بتعلقه بذات النبي، فهو أصل الإيمان وقوامه، إلا أن يكون الإيمان باللَّه أعظم من الذات الإلهية، مع أن الإيمان لم يحظ بشرف إلا بلحاظ متعلقة وهو النبي صلي الله عليه و آله، فلماذا كل هذه الحساسية والنفرة من سيد الأنبياء.

وكذلك الحال في التوسل بدعاء وطلب النبي وشفاعته، وهل دعاء النبي صلي الله عليه و آله وشفاعته الذي هو عمل من الأعمال الصادرة من ذات النبي صلي الله عليه و آله أعظم من ذات النبي صلي الله عليه و آله المقدسة، كذلك يجري الكلام في كلام الآلوسي، فهل جاه النبي غير ذاته المقدسة.

ثم ما الفرق بين رحمة اللَّه ومحبة اللَّه في القسم الرابع التي هي من أفعال اللَّه تعالي وبين ذات النبي صلي الله عليه و آله التي هي أيضا من أفعال اللَّه تعالي، بل ذاته؟ هي عين فعل الرحمة الإلهية، كما أشار إلي ذلك قوله تعالي: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ» «1».

فكيف يفرق بين صفات اللَّه

الفعلية وبين ذات النبي صلي الله عليه و آله مع أن المآل واحد، وكأنما التوجه إلي ذات النبي صلي الله عليه و آله والتوسل بها مقطوعة الإضافة عندهم عن اللَّه تعالي مع أنه صلي الله عليه و آله أقرب الخلق للَّه، وهو وسيلة الوسائل.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 227

فيقدمون ويتوجهون إلي اللَّه بما هو أقل منزلة، ويجفون ما هو أكبر منزلة وأوجه مقاما عند اللَّه تعالي، أو يحسبون أن الصفات الفعلية هي غير فعله تعالي ومغايرة للذوات الشريفة المخلوقة.

قال التاج السبكي:

ويحسن التوسل والاستغاثة بالنبي صلي الله عليه و آله إلي ربه، ولم ينكر ذلك أحد من السلف والخلف حتي جاء ابن تيمية فأنكر ذلك وعدل عن الصراط المستقيم وابتدع ما لم يقله عالم، وصار بين الأنام مثلة. انتهي «1»

قال المفسر الشعراوي:

التوسل بالنبي صلي الله عليه و آله أو الأولياء مسألة لا يصح أن تكون مثار خلاف من أحد …

ونقول لمن يكفر المتوسلين بالنبي أو الولي: هذبوا هذا القول قليلا، إن حدوث مثل هذا القول هو نتيجة عدم الفهم، فالذي يتوسل إلي اللَّه بالنبي أو الولي هو يعتقد أن له منزلة عند اللَّه.

وهل يعتقد أحد أن الولي يجامله ليعطيه ما ليس له عند اللَّه صلي الله عليه و آله طبعا لا.

وهناك من قال: إن الوسيلة بالأحياء ممكنة، وأن الوسيلة بالأموات ممنوعة، ونقول له: أنت تضيق أمرا متسعا؛ لأن حياة الحي لا مدخل لها بالتوسل، فإن جاء التوسل بحضرته صلي الله عليه و آله إلي اللَّه، فإنك قد جعلت التوسل

بحبك لمن علمت أنه أقرب منك إلي اللَّه، فحبك له هو الذي يشفع، وإياك أن تظن أنه سيأتي لك بما لا تستحق «2».

أقول: قد مر أن التشفع بذات النبي

وحبه والإيمان به، إنما صار له جزاء موفوراً

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 228

وعملًا شريفاً باعتبار تعلقه بذات النبي صلي الله عليه و آله فكيف لا يحتفي بما هو أصل في الشفاعة ويتمسك بما هو فرع. انتهي

ثم يقول الشعراوي: والجماعة التي تقول: لا يصح أن نتوسل بالنبي صلي الله عليه و آله؛ لأن النبي انتقل إلي الرفيق الأعلي، نقول لهم: انتظروا قليلا وانتبهوا إلي ما قال سيدنا عمر، قال: كنا في عهد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله إذا امتنع المطر نتوسل برسول اللَّه ونستسقي به، ولما انتقل رسول اللَّه صلي الله عليه و آله توسل بعمه العباس، وقالوا: لو كان التوسل برسول اللَّه جائز بعد انتقاله لما عدل عمر بن الخطاب عن التوسل بالنبي صلي الله عليه و آله بعد انتقاله، وذهب إلي التوسل بعم النبي صلي الله عليه و آله؟

ونسأل أقال عمر: «كنا نتوسل بنبيك والآن نتوسل إليك بالعباس 7 أم قال: والآن نتوسل إليك بعم نبيك» «1»؟!

أقول: ونعم ما تفطن إليه بأن وجاهة العباس ابن عبد المطلب بإضافته إلي شرفية ذات النبي صلي الله عليه و آله المقدسة فالتوسل راجع إلي تلك الإضافة. انتهي

ثم يقول الشعراوي: ولذلك فالذين يمنعون ذلك يوسعون الشقة علي أنفسهم؛ لأن التوسل لا يكون بالنبي صلي الله عليه و آله فقط، ولكن التوسل أيضا بمن يمت بصلة إلي النبي صلي الله عليه و آله، فساعة يتوسل واحد إلي غيره يعني أنه يعتقد أن الذي توسل به لا يقدر علي شي ء، إنني أتوسل به إلي الغير لأني أعرف أنه لا يستطيع أن ينفذ إلي مطلوبي.

الامامة الالهية(5)، ج 5، ص: 229

إذن فلنبعد مسألة الشرك باللَّه عن هذا المجال، ونقول: نحن نتوسل به

إلي غيره لأننا نعلم أن المتوسل إليه هو القادر وأن المتوسل به عاجز.

وهذا هو منتهي اليقين ومنتهي الإيمان.

ولكن المتوسل به قد ينتفع وقد لا ينتفع، وعندما توسل سيدنا عمر بالعباس عم النبي كان يفعل ذلك من أجل المطر، والمطر في هذه الحالة لا ينتفع به رسول اللَّه، لذلك جاء بواحد من آل البيت وكأنه قال: «يا رب عم نبيك عطشان فمن أجله نريد المطر».

فإذن فتوسل عمر بن الخطاب بعم النبي دليل ضد الذين يمنعون التوسل بالنبي بعد الانتقال إلي لرفيق الأعلي. انتهي «1»

أقول: قد عرفت أن التوسل هو طريق التوحيد القويم الحصري، وأن الصد عنه يؤل إلي التشبيه أو التعطيل وهو الشرك بعينه. انتهي

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.